رواية ظلام الصعيد جبل وغفران للكاتبة نور الشامي هي حكاية تنبض بالمشاعر وتفيض بالصراعات الداخلية والخارجية، حيث تتقاطع الأقدار وتتشابك المصائر في قصة حب مختلفة لا تخضع للمنطق أو الزمن.في رواية ظلام الصعيد، يعيش القارئ حالة من الانجذاب العاطفي والتوتر النفسي، وسط أحداث متسارعة تكشف أسرارًا مدفونة وقرارات مصيرية تغير كل شيء. الرواية لا تقدم حبًا مثاليًا، بل واقعيًا، مليئًا بالتحديات والتضحيات.
رواية ظلام الصعيد من الفصل الاول للاخير بقلم نور الشامي
كانت الغرفة ضيقة، جدرانها المتآكلة تشهد على سنوات من القسوة، والنافذة الصغيرة محاطة بقضبان حديدية تعلن استحالة الهرب. جلست الفتاة في الركن، جسدها مثقل بالكدمات، وعيناها الحمراوان تفضحان ليالي بكاء طويلة.وأمامها، جلس رجل عريض المنكبين، يراقبها ببرود لا يليق إلا بالجلادين. ارتجف صوتها وهي تصرخ، تمزق الصمت كسكين حاد:
ـحرام عليكم… عايزين ترجعوني تاني ليه عاد دا انا ما صدجت بعدت عنه؟ دا عاجز… عاجز!"
لم يكد صدى كلماتها ينتهي حتى هوت كف ثقيلة على وجهها، ارتد رأسها للخلف بقوة، وامتلأ فمها بطعم الدم. دوى صوته الغاضب في المكان:
ـ "إزاي تقولي كده على ابن عية الجبالي؟! غصب عنك هترجعيله… وهتتجوزيه تاني، فاهمة
فتح الباب فجأة، ودخل رجال غلاظ شداد، وجوههم كالحجر، بلا ملامح من رحمة. أمسك اثنان منهم بذراعيها بقسوة، وسحبوها نحو الخارج فـ. علا صراخها المستغيث:
سيبوني… بالله عليكم سيبوني
ومع أول لحظة غفلة منهم، اندفعت بجسدها بكل ما تبقى لها من قوة، هاربة. لم تكد تخطو خطوتين حتى أحاطها أحدهم من الخلف، جذبها بعنف، ورفع مسدسه ليهوي بمقبضه على رأسها.
كانن لحظة واحدة، وانطفأ كل شيء و. سقط جسدها على الأرض، وعمّ السكون إلا من وقع أنفاسهم الثقيلة وفي مكان اخر كان يجلس هذا الشاب في عتمة الغرفة، يلفه سكون ثقيل لا يقطعه سوى خيط الدخان المتصاعد من سيجارته. كان جسده متكئا على الكرسي الخشبي العتيق وظهره مستقيم، وملامحه حادة تنحتها الظلال. وعيناه الرماديتان، واسعتان كبحر هائج في ليلة غائمة، تتوه فيهما الأرواح فلا تجد بر أمان. لم تتحركا قط، ظلت تحدقان في الفراغ أمامه، ببرود و. شعره الأسود انسدل قليلا على جبينه، ليزيد من حدة تلك النظرة، فيما كساه السواد من رأسه حتى قدميه، كأنه جزء من الظلمة التي تحيط به. حتي انفتح الباب بخطى مترددة، ودخل رجل قصير القامة، يحمل بيده بعض الأوراق. وقف متخشبا وقال بصوت خفيض:
يا بيه… خال حضرتك كان وكيلك في الجواز، ولازم تمضي على الورج ده."
اقترب بخطوات حذرة، ووضع الأوراق أمامه على الطاولة وكد الرجل القلم. لكن عينيه الرماديتين لم تتحركا لحظة واحدة نحو الأوراق، كأنها لا تعنيه. ومد يده، التقط القلم، ووقع بسرعة، ثم بصم بإصبعه، دون أن يغير من ثبات نظرته. وتناول الرجل الأوراق بسرعة، وهم بالانسحاب، لكن صوته الجهوري القاسي أوقفه:
هي فين
ارتبك الرجل، بلع ريقه قبل أن يرد:
"البيه… حابسها في الأوضة. بس خلاص، مضيت على كل حاجة. تحب… نطلعها أوضتك
اشتعلت سيجارته مجددا بين أصابعه، وحدق فيه ببرود أشد، ثم أشار بيده حركة حاسمة:
لع... خليها مكانها..... امشي
انحنى الرجل برأسه، وغادر مسرعا فنهض الشاب من مكانه ببطء وخطواته ثابتة، واتجه نحو خزانة خشبية قديمة في زاوية الغرفة.و فتحها بيده القوية، وأخرج صندوقا صغيرا مغطى بطبقة غبار رقيقة و جلس على حافة السرير وفتح الصندوق، فانكشفت داخله صورة قديمة لوجه أنثوي يحمل ملامح رقيقة، وعينين غارقتين بالحزن. فـ مرر أصابعه على ملامح الصورة بحنو غريب لا يشبه قسوته، ثم أخرج ولاعته. لهيب صغير اشتعل أمام عينيه الرماديتين، ارتجفت صورته في الزجاج، قبل أن يقرب الصورة ببطء ويترك النار تلتهمها شيئًا فشيئًا… حتى صارت رمادا في يده. وبعد فتره جلست غفران على الأرض بجانب الباب، دموعها تنهمر على وجنتيها كالمطر، ويديها ترتجفان وهي تضرب بهما على الخشب المغلق بعنف، يتردد صدى طرقاتها في أرجاء الغرفة المظلمة مردده:
ـخرجوني من اهنيه… بالله عليكم افتحولي أنا بخاف من الأوضة دي… افتحولي
ارتفع صوتها المرتعش، ولحظة، ثم دق المفتاح في القفل، وانفتح الباب قليلا لتطل منه خادمة تحمل صينية عليها بعض الطعام. وضعتها على الطاولة الصغيرة دون أن تجرؤ على النظر في عيني غفران فهرعت إليها غفران تتعلق بثوبها بلهفة:
ـخرّجيني من اهنيه . أنا بخاف… مش جادرة أتحمل. خدي كل ال عايزينه بس طلعيني
ارتبكت الخادمة، هزّت رأسها بأسى وهي تهمس:
والله يا هانم ما أجدر… دي أوامر البيه. لو عملت حاجة من ورا كلامه يجتلني. معلش… استحملي.
اغلقت الخادمه الباب خلفها، تاركة الغرفة تغرق من جديد في وحشة ثقيلة. فنظرت غفران حولها بخوف، وعينها تدوران بين الجدران العتيقة والظلام المتربص. فـ شهقت، وغطت وجهها بكفيها، لتندفع الذكريات إلى رأسها بقوه وتتذكر
فلاش باك
كانت جالسة على الأرض، عيناها دامعتان، ووجهها متورم من أثر الضرب. وأمامها وقف جمال، زوجها، وجهه متجهم، ويده الملطخة بدمها ترتجف غضبا. وصوته انفجر كالرعد:
لو جولتي كلمة عاجز دي تاني… هجتلك، فاهمة
أجهشت بالبكاء والتقطت أنفاسها بصعوبة وقالت برجاء:
خلينا نطلج يا جمال… بالله عليك سيبني. والله ما هتشوف وشي تاني، همشي من البلد كلها.
اقترب منها بخطوات بطيئة، حتى صار ظله يبتلعها. وانحنى و قبض على وجهها بين كفيه بقسوة، ةعيناه تشتعلان بجنون وهو يقول:
مستحيل أسيبك. إنتي مرتي… ولو سيبتيني هموت. هتفضلي معايا اهنيه ولو فكرتي تسيبيني… هجتلك وأجتل نفسي معاكي
ارتجفت غفران وصرخة مكتومة اختنقت في صدرها، والدموع غطت ملامحها.
فلااش باك
فزعت غفران على وقع طرق خفيف على الباب وصوت الخادمة يعود مترددا:
يلا يا ست هانم… البيه عايزك.
تجمدت غفران في مكانها، و قلبها يخفق بعنف، كأنها على وشك أن تساق إلى قدرها المحتوم. وبعد عدت دقائق دخلت غفران الغرفة بخطوات مترددة، وقلبها يخفق بعنف في صدرها، كأن كل نبضة تدق جدارا من الخوف. كان الظلام كثيفا يبتلع المكان كله، حتى الجدران بدت لها بلا ملامح ولونها الأسود يزيدها رعبا، والهواء ثقيل كأن الغرفة تختزن أنفاس الموتى فـ وقفت في المنتصف، تلفتت حولها بعينين مذعورتين، وهمست بصوت مرتجف:
في حد اهنيه
لم يجبها سوى الصمت، حتى دوى فجأة صوت غليظ عميق من أحد الأركان:
شغّلي النور.
شهقت غفران وانتفض جسدها كله، ومدت يدها المرتجفة تتحسس الحائط حتى وجدت المفتاح. ولحظة ارتباك، ثم ضغطت عليه. فـامتلأت الغرفة بالضوء، لتتجمد عيناها على المشهد أمامها. رجل ضخم الجسد، عريض الكتفين، يجلس على كرسي خشبي في وسط الغرفة. ملامحه قاسية، عيناه الرماديتان غائرتان، سكونه يرعب أكثر من أي حركة. ولكن وسامته تضغي علي المكان فصرخت بفزع:
انت مين؟!
نهض هو من مكانه ببطء، قامته كجدار شاهق، وخطواته ثابتة كأن الأرض ترتجف تحتها. واقترب منها قليلًا وقال بصوت هادئ :
انا جوزك… ولازم نثبت إني مش عاجز
ارتجفت شفتاها، وصرخت بصوت متحشرج:
انت مش جمال… انت مين؟!
ابتسم بسخرية باهتة، ومد يده وأمسك يدها بقوة لكنها هادئة، وقال:
المهم نثبت إني مش عاجز… وبعدها نشوف أنا مين.
كانت عيناها متسعتين من الذهول، فيما هو همس بمرارة، كأن كلماته تخرج من جرح قديم:
أول مرّة في حياتي أتمنى أكون شايف… عشان أشوف البنت ال دمّرت عيلتي دي شكلها اي عاد
تجمدت غفران في مكانها، وشهقت بقوة، مدّت يدها ببطء إلى وجهه، ووضعت كفها أمام عينيه…ثم صرخت فجأة:
انت كفيف
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باهتة، وقال ببرود:
مش مهم دلوجتي… بعدين نتعرف
ثم دفعها بجسده القوي وألقاها على السرير بعنف، فـ صرخت وهي تحاول مقاومته، لكن قبضته كانت كالجبل. وارتفع صوته الجهوري يخترق أرجاء الغرفة:
أنا جبل... جبل الجبالي و
↚
انقشع الصمت عن الغرفة الثقيلة حين نهض جبل من فوق السرير... عاري الصدر، يتصبب من هيبته ظلام لا يقل عن سواد الليل. كان جسده متماسكا كالجدار، والندوب الباهتة على جلده تحكي حكايات معارك قديمة. أما غفران، فقد ارتجفت وهي تلملم جسدها بالملاية تختبئ فيها كعصفور مذعور، والدموع تنهمر من عينيها الغارقتين بالرعب فصرخت بصوت مختنق، كأن الهواء يخذلها:
انت مين؟! إزاي… إزاي اتجوزتك
ابتسم جبل بسخرية باردة، وصوته خرج عميقا كأنه يقتلع روحها:
أنا جبل الجبالي… ابن عم جمال. أول مرة تشوفيني، علشان طول عمري مكنتش بظهر. بس أهه… دلوجتي اعتقد حلينا مشكلتك. هتجولي للناس إزاي إنك لسه بنت بنوت؟… وهتثبتي إزاي إن جمال كان عاجز؟
شهقت غفران، وانهارت بالبكاء، تشهق وتضرب صدرها بيديها المرتجفتين ورددت :
هجولهم… هجولهم إني اتجوزتك انت!… وإنت ال عملت اكده! هجول الحق
اقترب منها ببرود و عيناه الرماديتان لا تعرفان الرحمة، وردد بسخرية:
وأنا هجول للكل إنك مكنتيش بنت بنوت من الأول… ومحدش هيصدجك. هيصدجوني أنا، ويكدبوكي انتي.. مين دا ال هيتجرأ يكدب ابن الجبالي
ازدادت دموعها غزارة، وكأنها تغرق في بحر بلا نجاة. فـ اقترب منها أكثر، وقال بصوت جاف لا يحمل سوى السخرية:
تحبي دلوجتي أطلجك؟… وأرميكي زي الكلبة بره
نهضت غفران فجأة واقتربت منه بارتباك وانهيار وأمسكت ذراعه ترجوه بعينين دامعتين:
انت عايز مني إي؟! فين جمال وليه كل دا.. ابوس يدك سيبني في حالي
أبعدها عنه بغلظة ودفعها حتى سقطت أرضا على ركبتيها. وصرخ بصوت جهوري:
أوعي تلمسيني تاني… أنا بقرف منك. وهتتعاقبي على كل ال عملتيه
رفعت رأسها نحوه وشفتاها ترتجفان وهتفت:
أنا عملت إي؟! ده أنا ال كنت بنضرب… وبتعذب… إي ذنبي مش فاهمه.. انا اي ال عملته
اقترب منها بخطوة، وانحنى قليلا كأن كلماته سهام:
بسببك… جمال انتحر. ووالله… لهتتعاقبي على كل دا.. ابن عمي مات بسببك.. بسبب واحده زي متسواش اتنين حنيه علي بعض
تجمدت عيناها بالصدمة وانفتح فمها دون أن تخرج الكلمات، وكأن روحها انسحبت منها. أما هو، فاعتدل واقفا، وأدار ظهره متجها نحو الباب، خطواته ثابتة، يعرف كل زاوية في المكان رغم عماه... كأن الظلام نفسه ينحني له وتركها ملقاة على الأرض، قلبها ينهشها الرعب، وعقلهـا يصرخ: هل حقا مات جمال؟ وهل سيبتلعها قدر أشد سوادا مع جبل وفي صباح يوم جديد كانت صفية ام جمال جالسة على المقعد الخشبي العريض، كفاها متشابكان فوق حجرها، والقلق يطل من عينيها كشرر مكتوم. وأمامها جلست نجاة أخت زوجها الراحل، ترفع رأسها بكبرياء مصطنع فتنهدت صفية، ثم قالت بحزمٍ حاولت أن تخفي به ارتجاف صوتها:
المفروض جبل مبدخلش في حاجه زي دي يا نجاه
رفعت نجاة حاجبها بسخرية، وابتسمت ابتسامة باردة كأنها سكين تخترق القلب وهتفت :
يعني نتفضح بسبب بنت ملهاش لازمه؟ وبعدين انتي ابنك مات... ابنك انتحر يا صفيه وانتي لسن جاعده تتكلمي
ارتجف جسد صفية، وكأن كلماتها صفعتها على وجهها، لكنها تماسكت وأجابت بعينين دامعتين وصوت متحشرج:
ـأنا أكتر واحدة مقهوره على ابني يا نجاة... بس جبل كمان ابني، وأنا ال مربياه من صغره. وهو تعبان، كل يوم يأجل العملية ال ممكن تخليه يشوف تاني... علشان مشاكلنا وخلافاتنا. بدل ما يركز على حياته وأمله الوحيد، احنا ندخله في متاهات وحوارات
أشاحت نجاة بيدها بازدراء، وقالت بصرامة:
ملكيش صالح في ال بيوحصل، أنا عارفه كويس أنا بعمل إي
لكن قبل أن تكمل، ارتفع صوت سلمى ابنتها التي كانت تتابع الحديث بصمتٍ ثقيل، فكسرت حاجز صبرها وهي تقول بعينين دامعتين:
ـبتعملي إي يا ماما؟! روحتي جوزتيه عادي اكده كأني مليش لازمة؟ مليش مشاعر.. انتوا ليه كلكم بتعاملوني كاني مليش اي اهميه
استدارت نجاة نحوها بسرعة، وصوتها يرتفع كأنها تدافع عن موقفها:
مش انتي سيبتيه بعد ما بجى مش بيشوف وخسر نظره
ارتعشت سلمى، واندفعت كمن يخرج من سجن صمت طويل وهتفت:
والله أبدا يا ماما... هو ال سابني! هو ال جالي خلاص مبجاش ينفع... وأنا كنت مستعدة أعيش معاه العمر كله، كنت هشيل معاه وجعه وهمه، بس هو ال مرضاش. اشمعنا دلوجتي وافج يتجوز
ساد صمت ثقيل، حتى تقدمت صفية قليلا، وكأنها أرادت أن تمد يدها لتمسح على قلب الفتاة، وقالت بنبرة حزينة:
علشان مش بيحبها يا بنتي... جوازه بيها انتجام، بس هو كان بيحبك انتي... عشان اكده محبش حياتك تتدمر
انفجرت سلمى في بكاءٍ حارق، ثم صاحت كأنها تكشف سرا مؤلما:
هيحبها يا مرت خالي... طبيعي يحبها.. هو دا ال بيوحصل دايما. ال بنحبهم بيمشوا لغيرنا، وأنا كده كده مسافره
شهقت نجاة بدهشة، وقالت بعصبية:
مسافره فين يا بنتي؟
مسحت سلمى دموعها بكف مرتجف، ثم رددت بعزمٍ كاذب يخفي انكسارها:
هروح أعيش عند عمي في القاهرة... مش هجعد اهنيه ولا هطلع بدور الشريرة ال بتدمر حياة غيرها. أنا همشي خالص علشان مضطرش اعمل حاجه غلط وانا شايفه الشخص الوحيد ال حبيته في حياته مع واحده تانيه
القت سلمي كلماتها ووقفت فجأة، وسحبت طرحتها لتخفي دموعها، واندفعت نحو الباب بخطوات سريعة، تاركة وراءها صدى بكائها يملأ المكان أما صفية، فقد انحنت برأسها، والدموع تنساب على وجنتيها بصمتٍ موجوع، بينما جلست نجاة مذهولة للحظة، تحاول أن تبرر لنفسها ما فعلته وفي الخارج، كان جبل واقفا في الظل مستندا إلى الحائط ملامحه متجهمة، وصدره يعلو ويهبط مع كل كلمة سمعها. لم يتحرك، لم ينطق، فقط ترك قلبه يتفتت وهو يراقب سلمى تبتعد بخطواتٍ مكسورة، فيما عيناه الكفيفتان تحاولان أن تتخيل ملامحها وهي تبكي، وسمعه ينقش صوتها في أعماقه نقشا لا يمحى وقي المساء كان الليل حالك السواد لا يرى فيه سوى ألسنة النار المتطايرة من فوهات البنادق. وأصوات الطلقات النارية تملأ الأجواء، والصرخات تتعالى من هنا وهناك. حيث داهمت قوة من رجال الشرطة مخبأ أحد أخطر تجار المخدرات في قلب الجبل، وتوزع الجنود كالأشباح خلف الجدران، يطلقون النيران ويمشطون المكان بدقة. وفي المقدمة، كان يقف ضابط طويل القامة، ملامحه حادة كسيف مسلول، وعيناه المتقدتان تعكسان صرامة قائد يعرف تماما ما يفعل. اسمه أسد الرفاعي قائد العملية، رجل اعتاد أن يرى الدماء ولا يرتجف، وأن يسمع الرصاص ولا يهتز. رفع سلاحه، وصوته الجهوري دوى في المكان مرددا:
اوعوا تسمحوا لحد يهرب... اضربوا النار علي أي حد يرفع سلاح ولازم يتمسكوا باي طريجه
وبعد دقائق مشتعلة انتهت المواجهة، وألقي القبض على تجار المخدرات واحدا تلو الآخر، بينما الجنود يجرونهم كأكياس خاوية سار أسد بخطوات ثابتة نحو سيارته المصفحة يخلع سترته الثقيلة، ويزيح عن جبينه عرقا لزجا قبل أن يفتح باب السيارة. لكن هاتفه اهتز فجأة، نظر إليه بضيق وزفر قائلا:
هو أنا ناجص صداع دلوجتي؟
ثم أغلق الهاتف دون أن يرد، وألقى بنفسه على مقعد القيادة، لتنطلق السيارة نحو المديرية وحين وصل إلى هناك كان الليل قد انتصف واقترب من نهايته. والمبنى بدا كقلعة غارقة في الظلام إلا من بعض الأضواء الخافتة. صعد أسد بخطوات متثاقلة إلى مكتبه في الطابق العلوي. وما إن فتح الباب، حتى تفاجأ بفتاة تجلس على المقعد المواجه لمكتبه، ساقاها متشابكتان، وعيناها تقدحان شررا فرفعت رأسها، وقالت بحدة:
مبتردش ليه؟
تجمد أسد للحظة، ثم زمجر بصوت غاضب، والصدمة ترتسم على وجهه:
انتي؟! إي ال جابك اهنيه في وجت زي ده؟ إحنا الساعة 3 الفجر! إنتي عبيطة
اعتدلت الفتاة في جلستها، وضربت كفا بكف وهي تقول بانفعال:
صاحبك الواطي اتجوز غفران… ووالله ما أنا سيباه
ضاقت عيناه، وانتصبت قامته بغضب، وقال بصرامة:
الزمي حدودك واتكلمي عنه كويس
ابتسمت بسخرية، وردت متحدية:
هتكلم براحتى! هو أنا مرتك ولا هو؟ وبعدين أنا جاية أعمل محضر في الفاسد ده
قطب أسد حاجبيه بشدة، واقترب خطوة وهو يهتف:
محضر إي يا حبيبتي... أولا إحنا مش في القسم … وثانيا محضر في إي علشان اتجوز واحدة؟ إنتي مالك؟ متدخليش نفسك في ال ملكيش فيه
رفعت حاجبها بسخرية لاذعة، وقالت بصوت حانق:
طيب… يارب يفضل مش بيشوف اكده علشان ميرجعش يبجى ضابط تاني! ولما هو مش بيشوف وبيعمل كل ده، أمال كان بيعمل إي وهو شايف
هنا فقد أسد أعصابه، فضرب بقبضته على المكتب حتى ارتج وصاح بعنف:
حووريه... الزمي حدودك! ومتتكلميش اكده تاني جومي يلا روحي من اهنيه.. يلا علشان اوصلك
حدقت فيه بعصبية، ثم فجأة تحولت ملامحها إلى هدوء غامض. ونهضت ببطء، واقتربت منه حتى صارت أمامه مباشرة. ورفعت يدها، ولمست وجهه بخفة، عيناها تتلألأ بخبث وهي تهمس:
أنا هساعد صاحبتي… غصب عنك.
وبحركة ماكرة، سحبت من جيب سترته مفتاح السيارة بخفة يد بارعة، ثم تراجعت خطوتين. وفي لحظة خاطفة، استدارت وانطلقت نحو الباب تركض كالغزال فـ تسمر أسد مكانه لثواني مصدوما مما حدث، ثم صرخ بغضب وهو يندفع خلفها:
حوريه... يخربيتك... إرجعي اهنيه يا مجنونة انتي.. حوريه
وبهد فتره من الوقت خرجت غفران من الغرفة بعد فترة طويلة، عيناها تتنقلان في أرجاء الممر بقلق، كأنها تخشى أن يداهمها شيء مجهول. خطواتها كانت مترددة، وصوت أنفاسها يسبقها. حتي توقفت فجأة حين التقطت أذنها صوتا مكتوما من غرفة الجيم. فـ اقتربت ببطء، ووضعت كفها على الباب، وانحنت تنظر من خلال الفتحة الصغيرة فـ اتسعت عيناها دهشة وصدمتها تزداد إذ رأت جبل عاري الصدر، يتصبب العرق من جبينه... ويتدرب بعنف غير مألوف، يرفع الأثقال بصرامة، ويهوى بقبضاته القوية على الكيس الجلدي كأنه يفرغ غضبا متراكما منذ سنين. وحركاته دقيقة، متقنة، لا يقوم بها من حرم نعمة البصر. فـ ارتجفت شفتاها، وهمست في نفسها:
إزاي... إزاي مش بيشوف؟ بيتعامل عادي كأنه شايف كل حاجة و
لكن فجأة، لم تدرك كيف التفت إليها، كأنه شعر بوجودها رغم صمته و في لحظة، سحبها بقوة إلى الداخل، وانغلق الباب بعنف خلفها ووقف أمامها، جسده يتلألأ بعرق حارق، وصوته الغاضب يجلجل:
إنتي واجفة تعملي إي اهنيه
ارتبكت غفران، وهي تحاول التحرر من قبضته وهتفت:
سيبني..... انت عايز مني إي إنت كداب... إنت بتشوف بعيونك وبتضحك عليا وجمال لسه عايش... وأنا متأكدة
شدها جبل نحوه أكثر وقبضته القوية تمسك وجهها، وعينيه الجامدتين تحدقان فيها بقسوة:
أنا كل ده صابر عليكي علشان مش عايز اجتلك داوجتي ... ليه بتحاولي تستعجلي موتك هاا
انفجرت دموعها وقالت برجاء:
إنت بتكدب... حرام عليك! سيبني... أنا عارفة إنك شايف
ضحك بسخرية مرة، وقال ببرود قاتل:
انتي مين أصلاً علشان أكدب عليكي؟ هخاف منك مثلا؟ إنتي ولا حاجة علشان اتعب نغسي واكدب علي واحده زيك
ارتجفت شفتي غفران وهمست باكية:
طيب... جمال فين؟
اقترب جبل منها أكثر، وصوته يقطر غيظا :
مات... انتـ*ـحر بسببك. مش مصدجة؟ هوريكي
تركها فجأة، واتجه نحو الطاولة وامسك هاتفه، وفتحه بصوته.
قال بصرامة:
جمال
فظهر المشهد أمامها على الشاشة، لكنه بدا حيّا كأنه واقع يعرض أمامها..... كان جمال يصرخ بجنون، يركل الأثاث ويكسر كل ما تصل إليه يداه، ودموعه تبلل وجهه وفي الخارج، وقفت أمه صفية وعمته نجاة، تضربان الباب وتصرخان:
جمال! افتح يا ابني! حرام عليك... افتح هنجيبها.. حسما بالله هندور علي ففران ونجيبها والله
لكن صوتهما لم يصل إليه، فقد غطت صرخاته على كل شيء وجاء أسد مهرولا، دفعهما جانبا وصرخ وهو يضرب الباب بكتفه:
"ابعدوا... ابعدوا... جمال.. افتح يا جمال
صرخت صفيه برعب :
اكسر الباب يا أسد بسرعة.. اكسروا يا ابني يلا
وفجأة دوى صوت طلقة رصاص هز المكان فـ. تجمدت الأقدام، وتوقف الصراخ ودفع أسد الباب بقوة حتى تحطم، واقتحم الغرفة ليجد المشهد المفزع كان جمال ملقى على الأرض، ورصاصة اخترقت رأسه، والدماء تنزف حوله بغزارة فـ شهقت غفران ويديها ترتعشان، وأسقطت الهاتف من بين أصابعها وهي تصرخ:
مستحيل...لع
انحنى جبل ليلتقط الهاتف، لكنه توقف فجأة، إذ انتبه إلى صوت غريب في الخارج. فـ قبض على ذراع غفران وسحبها خلفه بسرعة، وأمسك سلاحه وهو يصرخ:
يا حراااس.... فيه حاجه بتوحصل
وفي مكان آخر، كانت حورية تجلس خلف مقود سيارة فارهة، تقودها بسرعة عبر الطريق الليلي وفجأة، أوقفتها لجنة تفتيش و اقترب ضابط ونظر إلى اللوحة المعدنية، ثم رفع حاجبه باستهجان:
"العربية دي مسروقة... وصاحبها مبلغ عنها
نظرت حورية إليه بذهول وقالت:
إزاي؟! دي عربية جوزي اي ال بتجوله دا
ابتسم الضابط بسخرية وهتف؛
سيادة المقدم بنفسه هو ال بلغ إن عربيته اتسرقت. يبقي حوزك ازاي .. احنا لازم نقبض عليكي حالا
تجمدت ملامحها وقبل أن تستوعب الصدمة وقع بصرها على السيارة السوداء المتوقفة على جانب الطريق وخرج منها أسد بخطوات ثابتة وابتسامة باردة ترتسم على شفتيه. فـ صرخت حورية بانكسار:
إنت بتبلغ عن مرتك يا أسد
ضحك بخفة قاسية وقبل أن ينطق بكلمة، رن هاتفه فنظر إلى الشاشة، ثم أجاب، ليصمت لحظة ويقول بصوت متهدج بالدهشة:
ازاي؟! ... أنا جاي حالا احموا جبل والعيلة... اوعوا حد منهم يوحصله حاجه
القي اسد كلماته وأغلق الخط، وعيناه تشتعلان بقلق، فيما تجمدت حورية مكانها، لا تفهم ما يحدث و
↚
كان الليل ساكنا قبل أن يشقه دوي الرصاص والطلقات مزقت جدار السكون، وارتج البيت بأكمله، فيما تعالت الصرخات من كل صوب وهرع الجميع في فوضى لا يدرون من أين يأتي الخطر ولا إلى أين يفرون حيث كان جبل واقفا في صدر الممر، قبضته القوية تمسك بيد غفران المرتجفة، تحتمي به وهي تصرخ بخوف:
يا ساتر يا رب... يا ساتر!.. اي ال بيوحصل... مين دول
شدد على يدها وهو يهتف بغضب:
متمشيش خليكي مكانك ... الرصاص حوالينا.. اهدي
لم تستجيب غفران أفلتت يدها من قبضته واندفعت تجري، فالتقط جبل صوت خطواتها، وصرخ بأعلى صوته:
هتموتي يا غفران.. خلبكي علي الأرض...انتي مجنونه
لم تلتفت بل ركضت ناحية سلمى التي كانت عالقة وسط إطلاق النار، وانقضت عليها لتسحبها بعنف وسقطتا معاً على الأرض والطلقات تتناثر فوق رؤوسهما حتى غشى المكان دخان كثيف وهدير نيران ثم، فجأة... سكن الرصاص. وساد صمت ثقيل بعد العاصفة واندفع أسد إلى الداخل، خطواته سريعة، وصوته يجلجل وهو ينادي:
هربوا... بس هنمسكهم.. جبل... إنت كويس
اقترب منه، لكن سرعان ما اتسعت عيناه دهشة حين لمح الدم يسيل خفيفا من يد جبل وخدش بسيط أحدثته رصاصة طائشة. ووضع يده على ذراعه قلقا وهو يهتف:
إيدك اتصابت
لكن جبل لم يعر الأمر انتباها ورفع رأسه بحدة وقال بلهفة:
حد حوصله حاجه.. الكل كويس
وفي تلك اللحظة جاءه صوت غفران مضطربا وهي تمسك بسلمى:
سلمي... انتي كويسه؟ ردي عليا
ارتجف قلب جبل فتقدّم مسرعاً، كأن قدميه تقودهما دون بصر. وركع بجوار سلمى ومد يده المرتجفة يتحسس وجهها، وصوته ينزف خوفاً:
سلمي ردي... فوجي بالله عليكي مالك.. انتي اي ال حوصلك
لكنها كانت فاقدة الوعي. حاول أن يوقظها بلمسات متوترة على وجنتيها، وكل من حوله يراقب حتيغفران شردت للحظة تلاحظ ارتجاف صوته وقلقه، أما نجاة فشهقت بخوفٍ على ابنتها، وصوت صفية ارتجف وهي تقول:
انت بخير يا ابني؟ طمني عليك الأول يا جبل... انت كويس اي ال حوصل
لكنه لم يجب، لم يسمعها أصلا... كان كل تركيزه على سلمى. وما هي إلا لحظات حتى فتحت عينيها ببطء، وعيناها تلمعان بدموع متجمعة، وحين وقعت نظرتها عليه، اندفعت إلى حضنه فجأة وهي تبكي بحرقة:
كنت هموت يا جبل
طوقها بذراعيه بحذر، وصوته يفيض قلقا وهو يسأل:
حوصلك حاجه؟ حد جرحك
هزت رأسها باكية، ثم شهقت وهي تلمح يده الدامية، فصرخت:
إيدك.... يا جبل يدك بتنزف
تدخل أسد بخطوات حاسمة وهو ينظر إلى النزيف ويقول بصرامة:
لازم نخرج فوراً... ونروح المستشفى. يلا يا جبل، أنا هسندك
مد اسظ ذراعه ليساعده، فترك جبل يد سلمى ببطء، ونهض وهو يتوكأ عليه. فيما غفران تبعتهم بنظرات حائرة، ونجاة تحبس دموعها من شدة خوفها على ابنتها، وصفية تسير خلفهم تدعو الله في سرها أن يحفظ أبناءها من كل شر وبعد فتره من الوقت كانت غفران جالسة في الغرفة، وجهها شاحب وعيناها متورمتان من كثرة البكاء، تحاول أن تلملم أنفاسها بعد ما مرّت به. الباب انفتح بقوة، ودخلت حورية، زوجة أسد، بنظرة صارمة وصوت يقطر عصبية:
غفران... يلا جوومي معايا.... أنا ههربك من اهنيه قبل ما يوحصلك حاجه من الخوف أكتر من اكده
رفعت غفران رأسها ببطء وصوتها متقطع وهي تهز رأسها بالنفي:
لع ... مش هينفع... هو هيلاجيني... وهيجيبني
زفرت حورية بضيق واقتربت منها:
هو مين ال هيلاجيكي... جومي يا بنتي معايا انقذي نفسك
ترددت غفران لحظة، ثم قالت بصوت خافت:
مين جبل دا يا حورية؟
جلست حورية على حافة السرير و نظراتها امتزج فيها شيء من الحذر والحدة، وأجابت بعد تنهيدة ثقيلة:
جبل؟ دا كان ضابط شرطة... وال اعرفه عنه إنه كان من أجرأ الضباط ال شافوها و مبيخافش من حد ولا بيرجع خطوة لورا. أتصاب في مأموريه كبيرة وبجا كفيف .. ومن يومها وهو بيتحرك في الدنيا كأنه شايفها...ال ميعرفش ان جبل كفيف مستحيل يحس..هو بيتعامل عادي جوي . ومع ذلك، محدش بيجدر يوجف جصاده وصوته بس بيخلي ال جدامه يتهز هو قوي... وعنيد... وال يعرفه يجول إن جواه نار مش بتنطفي. بس في نفس الوجت... تصرفاته مش بتعجبني، جاسي زيادة عن اللزوم، مبيفكرش غير بالانتجام والعدل بطريجته هو، كأنه شايل الدنيا كلها فوق كتافه....و جبل عمره ما كان بيظهر وسط العيلة، أغلب حياته بعيد عن اهنيه.. في المدن ومع شغله. عشان كده، لما بيرجع الصعيد، حضوره بيبقى تقيل على الكل. الناس بتحترمه وبتخاف منه في نفس الوجت... زي ما يكون جبل بجد، واجف جدامك، لا بيتزحزح ولا بيتهز
أطرقت غفران برأسها وهي تتنفس بصعوبة، ثم همست بصوت مرتجف:
يعني هو مش هيسيبني... هو عايز ينتجم مني علشان جمال... مش هيرتاح غير لما يخلص عليا زي ما حوصل مع جمال.... هو جمال فعلاً انتحر يا حوريه
أومأت حورية ببطء، وكأنها تستعيد الذكرى:
أيوه... جمال كان مهووس بيكي، ودا مكنش حب، كان جنون. هو كان عايزك بأي طريجة. وإنتي لما طلبتي الطلاج بسبب عجزه والموضوع انتشر... كرامته اتكسرت ونفسيته اتدمرت. انتحر وهو مليان غل
شهقت غفران وصرخت بحرقة:
والله يا حورية... اتحايلت عليه كتير يطلجني. إنتي كنتي شايفة بعينيكي بيعمل إي... دا مكنش بني آدم. كان بيعذبني وبيذلني... وأنا كنت بترجاه يسيبني في حالي.. كان دايما يضربني ويهيني وبيعاملني بطريجه محدش يستحملها
اقتربت منها حورية واحتضنتها وتربت على ظهرها ببطء محاولة تهدئتها:
خلاص بجا.... كفاية. اهدي ونامي شوية، اليوم كان صعب عليكي
أغلقت غفران عينيها وهي تبكي بصمت، في حين جلست حورية بجوارها، تراقبها بعينين يختلط فيهما الحذر بالشفقة وفي صباحٍ جديد، وبينما كانت غفران تحاول أن تجرّ لنفسها بقايا نومٍ سطحي حتي شعرت برعشةٍ غريبة تمر بجسدها كأن شيئا ما يدعوها لتفتح عينيها. ففتحت عينيها ببطء لتصطدم برؤيةٍ جعلت الدم يتوقف في عروقها... شخص ملثم يقف خارج الغرفه فـ. قفزت من مكانها بسرعة تحاول أن تهرب لكن ساقيها تلعثمت وسقطت على الأرض.... كانت الجدران تضيق على غفران وهي ترتجف ملقاة على الأرض، تصرخ برعب خانق. وفجأة ودخل هذا رجل مغطى الوجه بقناع أسود، خطواته ثقيلة فـ ارتعد جسدها، وزحفت إلى الخلف والدموع تنهمر وهي تصرخ:
سيبني بالله عليك… يا جبل.... يا جبل الحقني
اقترب منها أكثر و مد يده بعنف وأمسكها، ثم ألقاها فوق الفراش بقسوة، فصرخت بحرقة، وهو يرفع يده ببطء إلى القناع فهتفت بصراخ:
إبعد عني… بالله عليك سيبني.. انت ميين عاد... يا ناس حد يساعدني
وفي اللحظة التي انزلق فيها القناع وسقط أرضا، تجمدت عينا غفران و شهقت شهقة مكتومة، ووضعت يدها على فمها برعب… إذ كان الوجه المكشوف أمامها هو جبل الذي بدأ في ضحك هستيري حتي انقطع ضحك جبل فجأة، ووقف مشدودا أمامها وعيناه تلمعان بغضب مقطع للنفس و. اقترب منها بخطواتٍ سريعة، وكان صوته حين تحدث قاسياً يقربه من الهلع أكثر:
أنا هبجى عملك الأسود في الدنيا دي
انهارت غفران من البكاء، وصرخت متوسلة بدموع تغلي على خديها:
حرام عليك... إنت بتعمل فيا اكده ليه؟! جمال كان واطي وحقير... اي بتار دا ال هتاخدي مني علشان ندل زي دا و
لم تكمل كلامها، إذ امتدت يد جبل بسرعة صارمة، أمسك رقبتها بـ قبضة خانقة، ولقاها على السرير وهو ممسك بعنقها ووجهه قريب من وجهها وصوته صارحا بالتهديد:
متخلنيش أجتلك .. وأوعى تجيبي سيرة جمال على لسانك. أنتي كل تفكيرك في القرف ال بتفكري فيه دا...وانا اديتهولك علشان اكده ساكته...اما جمال روحتي فضحتيه وجولتي للمحكمة إنه عاجز
حاولت غفران أن تتنفس وتتكلم بين الاختناق والهلع فهمست :
والله أبدا... إنت متعرفش كان بيعمل إي و
لكن كلماتها تقطعت، وأنفاسها اختنقت وفي تلك اللحظات دخلت صفية مسرعة إلى الغرفة، وجهها يجمع بين القلق والصرامة. وبلمحة من الأمهات التي تعرف متى تكبح إبنها اندفعت نحو جبل ودفعت يمينه بألطف ما يمكن ولكن بحزم وهتفت:
كفاية يا ابني... سيبها! حرام عليك، هتموتها
تردد جبل لوهلة، ثم سمعته سلمى وهي تجذبه بعنف خارج الغرفة، تسحب ذراعه وتشده بعيدا عنها فتقدمت صفيه نحو غفران. نظراتها تختزن شيئا من الحزن تحت صرامتها. واقتربت منها وهمست بضيق وكأنها تحاول إصلاح ما أمكن:
انتي كويسه.. اجيبلك الحكيم
همست غفران تحاول أن تبلع دموعها وتلتقط أنفاسها و تقول بين شهقات وبكاء:
انتي عارفة كل حاجة... جولي لابنك بالله عليكي... خليه يرحمني... ابوس يدك يا حجه.. انا غلطانه انا السبب في موت ابنك... انا السبب في كل حاجه.. بس خلي جبل يرحمني. انتي مرت عمه وزي امه لو جولتيله هيسيبني امشي
نظرت صفية إليها بحزن عميق، ثم التفتت ببطء وخرجت من الغرفة، تاركة الصوت الخافت لغفران يتلاشى بين أنين البيت وبعد دقائق قليله كانت يد سلمي ما تزال متشبثة بيده، تمشي بجواره كأنها تخشى أن يفلت منها أو يبتعد، حتى وصلا إلى حديقة البيت و نسيم الصباح حمل رائحة التراب المبلل، لكن بينهما كان الجو مكهرباً بالغيظ والوجع. وفجأة توقف جبل، وسحب يده من يدها بقوة، وصوته انفجر في المكان:
كفاية يا سلمي… سيبيني بجا.. في اي عاد.. هو انا عيل صغير
ارتجف جسدها للحظة، لكنها لم تتراجع و نظرت إليه بعينين دامعتين وقالت بحرقة:
انت بتعمل اكده ليه... إي ال دخلك في كل ده من الأول؟! اعمل العملية وطلجها… بالله عليك يا جبل… خلينا ننهي الحكاية دي ونرتاح.
تصلبت ملامحه، واشتدت قبضته وهو يرد بغضب مكبوت:
وبتار ابن عمي؟! هسيبه يضيع اكده من غير ما آخد حقه وبعدين عملية إي دلوجتي..... العملية هتاخد وجت طويل… وأنا مينفعش أختفي الفترة دي كلها والله اعلم هتنجح ولا لع
شهقت سلمي وعيناها تتأججان بنيران القهر:
لحد إمتى هتفضل اكده... تفكر في غيرك وتسيب نفسك تضيع؟! فكر في نفسك شوية يا جبل
اقتربت منه ببطء، ثم رفعت يدها المرتجفة ولمست وجهه بحنان مهتز ورددت :
إنت عارف أنا بحبك قد إي… وإنت لسه بتحبني. إنت يمكن مش شايفني، بس حاسس بيا… مش اكده
أغمض جبل عينيه بشده، كأنه يحاول أن يُطفئ نارا تتأجج داخله، وان يمسك على قلبه حتى لا يضعف أمامها. لكنه ما لبث أن أمسك يدها وأبعدها عن وجهه بحزم:
خلاص يا سلمي… احنا جفلنا الموضوع ده من زمان.
شهقت باكية، ثم اقتربت خطوة أخرى وهتفت :
بس إحنا لسه بنحب بعض… إنت عارف وأنا عارفة.
مددت وجهها نحوه، تكاد تلامس أنفاسه بأنفاسها، لكنه تراجع بعنف وصرخ صرخة دوت في المكان:
سلمي... إنتِ اتجننتي ولا إي... إزاي تفكري في حاجة زي دي؟! وبعدين أنا… أنا متجوز
تجمدت للحظة، ثم حدقت في عينيه ودموعها تنساب على وجنتيها، وقالت بمرارة ممزوجة بالعصبية:
متجوز... هو إحنا هنضحك على بعض إنت متجوزها علشان تنتجم منها وبس
احمرت ملامحه من الغضب وقبض على عصاه بقوة، وكأن الأرض ترتج من تحت قدميه، وصاح:
بس متجوز برده..... انتجم… أجتلها حتى… دا موضوع تاني! لكن خيانة؟! لأ يا سلمي… أنا مش اكده. عمري ما هخون حتى لو مش بكره حد زيها في الدنيا دي كلها
ارتجفت شفتاها وهي تكاد تختنق قائله :
ـ طب وأنا؟! وأنا يا جبل
أدار وجهه عنها وصوته انكسر للحظة قبل أن يتجلد:
سافوي… وبلاش تضيعي مستجبلك ووجتك معايا.
ثم صرخ فجأة، صوته جلجل في الحديقة:
يا ولد... تعالي
اقترب الحارس مسرعا، فوضع جبل يده أمامه، فأعطاه العصا البيضاء وقبض عليها، ثم استدار دون أن ينظر إلى الوراء و خطواته ثقيلة، لكنه يمشي بثبات أما سلمي، فبقيت واقفة مكانها، أنفاسها تتلاحق، دموعها تنهمر بحرقة، ثم أطلقت صرخة من القهر والغيظ، ارتجّ لها قلب الحديقة، وانهارت على مقعد خشبي وهي تضرب كفها بكفها في يأسٍ خانق وبعد منتصف الليل
كانت غفران تحمل حقيبة صغيرة بيد مرتجفة، خطواتها خفيفة تتسلل في ظلام الممر الطويل، تتلفت حولها خشية أن يراها أحد. قلبها يخفق بقوة، وكأن جدران البيت تسمع أنفاسها وتفضح سر هروبها. واقتربت من الباب الخلفي، كادت يدها تلمس المزلاج، حين اخترق صمت الليل صوت أنين متقطع. فتجمدت في مكانها،ط و التفتت ببطء، وجاء الصوت من الغرفة الجانبية. وترددت لحظة عقلها يصرخ ويقول امشي يا غفران.. دي فرصتك، سيبيه وروحي.
لكن قدماها حملتاها رغما عنها نحو الغرفة. ودفعت الباب بخفة، وإذا بالظلام ينكشف عن صورة جبل ممددا على السرير، عاري الصدر، والعرق يغطي جسده. وصدره يعلو ويهبط ببطء، واثار التعب والرصاصة التي أصابته ما زالت تنخر فيه فـ اقتربت أكثر و يداها ترتعشان وهي تلمس جبينه فشعرت بحرارة عالية تكاد تحرق كفها وغامت عيناها بين الخوف والشفقة، وكادت تسحب يدها وتغادر، لكن ضميرها شدها لتبقى وفجأة، تحرك جبل وهو يهذي ويردد بصوت مبحوح متقطع:
كان لازم اجتله… هو خاين… كان لازم يموت… جمال و
شهقت غفران وقد جمد الدم في عروقها عند سماع الاسم. وعينها اتسعت رعبا وشفتيها ارتجفتا وهمست دون وعي:
جمال و
↚
كان الصباح قد تسلل بخيوطه الخافتة إلى الغرفة، يوقظ الجدران الثقيلة من صمتها، فيما غفران ما زالت جالسة إلى جوار السرير. لم يغمض لها جفن طوال الليل، لم تهرب كما كانت تنوي، إذ منعها مرضه وحرارته المرتفعة، وظلت تراقب أنفاسه المتقطعة، بينما جملته الغامضة عن جمال تدوي في رأسها بلا توقف حتي تحرك جسد جبل فجأة و أهداب عينيه الرمادية ارتجفت قبل أن يفتحها ببطء، فتشبث قلبها في صدرها. وحاولت أن تنهض بهدوء لتخرج قبل أن يلاحظ وجودها، لكن صوته الجهوري، الخشن من أثر التعب شق الصمت:
استني... خارجه ليه زي الحراميه؟! كنتي بتعملي إي فـ أوضتي
تجمدت مكانها ونظراتها مضطربة، قبل أن تلتفت نحوه بارتباك:
إنت... إنت عرفت إزاي إني أنا ال اهنيه
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، وأجاب ببرود:
هو كل حاجه تسألي فيها اكده... بطلي صداع بجا شويه
وفجأة، مد يده بخفة، سحبها نحوه بعنف غير محسوب، فسقطت فوق صدره على السرير، وأنفاسها تتلاحق ووجهها احمر من التوتر. فـحاولت أن تتماسك، لكن عينيها سرحت رغما عنها في عمق عينيه الرماديتين وتسمرت بلا حراك وردد:
كنتي بتعملي إي اهنيه
سألها بنبرة جافة تقطر أمراً لا سؤالاً فـارتبكت، وحاولت أن تدفع نفسها لتنهض، لكن قبضته كانت أقوى وهمست متلعثمة:
سيبني... بالله عليك سيبني
قربها أكثر حتى شعرت بحرارة أنفاسه على وجهها، وصوته يزمجر بصرامة:
جاوبي كنتي بتعملي إي
انهمرت الكلمات من فمها المرتجف وهتفت :
انت... انت كنت تعبان طول الليل. جعدت جمبك... معملتش حاجه والله ... ولا سمعت حاجه
ابتسم بسخرية لاذعة وردد :
بس أنا مجولتش إنك سمعتي حاجه
تجمدت ملامحها، والتوتر يتضاعف، بينما هو يضيف ببرود قاتل:
ومش هتفرق... حتى لو سمعتي. أي كلمه بجولها وأنا مش فـ وعيي، مش فارق معايا مين يسمعها ومين ميسمعش
همست غفران بخوف وهي تحاول الإفلات:
سيبني... مينفعش اكده... انت بتخوفني اصلا
رمقها بابتسامة ساخرة، وقال بنبرة مستفزة:
ربنا يسامحك... وبعدين اسيبك ليه؟ هو إنتي مكسوفة ولا إي... ال زيك مش بيتكسف اصلا
وفي تلك اللحظة انفتح الباب فجأة، ودخلت سلمى بخطوات مترددة، وعينيها تتسعان دهشة وهي ترى المنظر. تجمدت في مكانها، وصوتها خرج مرتجفا:
أنا... كنت جايه أطمن عليك... إنت كويس
أرخى جبل قبضته قليلا، لكنه لم يترك غفران تماماً، وأجابها بلهجة هادئة جافة:
الحمد لله كويس جوي ... ومعلش يا سلمى، علشان عايز أغير هدومي. اجفلي الباب وراكي وانتي خارجه
وقفت سلمى لثواني كأن الكلمات طعنة في صدرها، قبل أن تومئ برأسها وتغادر بخطوات مثقلة، تغلق الباب وراءها بصوتٍ خافتٍ لكنه موجع وما إن انغلق الباب، حتى أفلت جبل غفران من قبضته. فـ اندفعت واقفة بسرعة، تحاول أن تهرب من توترها، لكنه أمرها بصوت حاسم:
اوعي تخرجي دلوقتي... أنا داخل أخد دش. ولما أخرج... تكوني حضرتيلي هدومي بعد اذنك
ثم أخذ عصاه، واتجه إلى الداخل بخطوات واثقة رغم جرحه، تاركا غفران وحدها في الغرفة، قلبها يخفق بجنون ويدها ما زالت ترتجف من أثر قربه وفي مكان اخر كان الغروب يوشك أن يبتلع الأفق، والسماء تصطبغ بلون برتقالي حزين، حين توقفت سيارة سلمى على جانب طريق مهجور تحيط به الحقول. ونزلت بخطوات متعثرة، ودموعها تنهمر بغزارة، ووضعت يدها على صدرها كأنها تخشى أن ينفجر قلبها من شدة القهر، وأنفاسها تتلاحق بصعوبة حتي أطلقت صرخة مكتومة، ثم راحت تجهش بالبكاء وهي تضرب كفها بكفها، تهتف بصوتٍ متحشرج:
ليه... ليه بيوحصلي اكده؟! هو أنا عملت إي عشان أستاهل كل دا... يحبها... ويكون معاها... وأنا خلاص مبجاش ليا أي لازمة... نساني... نساني بعد كل الحب دا ... نسي كل حاجة كانت بينا
اهتز جسدها مع كل كلمة، وكأنها تفرغ ما تبقى من روحها على هذا الطريق الخالي، إلى أن قاطعها فجأة صوت رجولي هادئ لكن غامض مرددا :
وال يساعدك تنتجمي
تجمدت في مكانها وارتبكت، ومسحت دموعها بظهر يدها ثم التفتت ببطء، لتجد أمامها مشهدا غير مألوف رجل مسن يجلس على كرسي متحرك، وخلفه يقف حارسان ضخام البنية كأنهما من عالمٍ آخر، يحيطان به بصمتٍ مهيب فـاتسعت عيناها دهشة وصوتها وهتفت:
إنت... إنت مين؟ وعايز مني إي عاد
ابتسم الرجل ابتسامة باهتة تحمل بين طياتها سخرية وغموضا وردد:
أنا... انا هجولك أنا مين.. بس اسمعيني كويس جوي
وفي عمق الليل.... في بيت اسد كانت تقف حورية أمام الموقد منشغلة بإعداد الطعام، يعلو وجهها ضوء خافت يتراقص مع لهب النار. وفجأة، أحاط بها دفء غير متوقع، حين اقترب أسد من خلفها، وضمها إلى صدره بقوة، ثم طبع قبلة طويلة على عنقها جعلت أنفاسها تختل. وارتجفت قليلا وهمست وهي تبتسم بخجل:
انت جيت امتى
أجاب بصوتٍ عميق يحمل مزيجا من الشوق والدلال:
ـ دلوجتي... وحشتيني، جولت أجي أشوف مرتي الحلوة وبعدين انتي تاعبه نفسك ليه عاد.. مش جولتلك اجيبلك شغالين
التفتت نحوه ببطء، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة ساخرة، ثم شبكت ذراعيها حول عنقه، وهمست:
لع.. انا بحب اعمل كل حاجه لوحدي وبعدين....انت بتثبتني بكلمتين، فاكرني هنسى إنك كنت عايز تحبسني
ضحك أسد ضحكة قصيرة صافية وقال بمرح:
خلاص بجا... سماح
لكن اللحظة انقلبت في طرفة عين إذ مدت يدها فجأة داخل جيبه، وسحبت مسدسه ثم صوبته مباشرة إلى صدره ورددت :
لع.... مش مسامحة
ابتسم أسد رغم فوهة السلاح الموجهة نحوه، وقال بصدق عجيب:
هو أنا أطول إنك انتي ال تموتيني؟ وأخر حد أشوفه في الدنيا يبجي إنتي
مد يده بخفة خاطفة وانتزع منها السلاح دون مقاومة تذكر، ثم رفعها بين ذراعيه بسهولة، فضحكت بخجل والتفتت حول عنقه، بينما صوته يخفت بحرارة:
أنا جاي ساعتين وممكن أمشي تاني... فخليني أفضل جمبك فيهم..... جوليلي طبخالي إي بجا
أطلقت ضحكة قصيرة وهي تهمس:
طيب نزلني وأنا أجولك.
أنزلها برفق لكن ابتسامتها تلاشت فجأة، وارتسمت على وجهها علامات ألمٍ مباغت و وضعت يدها على بطنها وهي تتأوه، فاقترب منها أسد بخوف، وصوته يعلو:
مالك؟ في إي يا حوريه و
وقبل أن يكمل كلماته، اتسعت عيناه رعبا وهو يرى الدم يتسرب من جسدها، وفي لحظة سقطت أرضا فاقدة الوعي. وركع بجوارها، يمسك بيديها المرتجفتين، وصوته ينفجر بنداءٍ يائسٍ مجروح:
حورية جووومي و
وفي منزل اسد كانت غفران واقفة في فناء البيت، وجهها شاحب وعينيها متورمتان من البكاء، أمام صفية زوجهزعم جبل ونجاة عمة جبل والصياح ينساب من أفواه النساء كأنه لسانُ نارٍ ونجاة تهتف وهي تقبض على طرف العباءة:
إنتي معملتيش حاجه.. دا انتي سبب كل المصايب ال في عيلتنا
هتفت غفران بصوت مكسور تحاول أن تدافع عن نفسها:
أنا معملتش حاجة، انتوا جوزتوني جبل غصب عني .. أنا مكنتش عايزاه اصلا انتزا ال دايما بتحطوني في دماغكم
تقدمت نجاة خطوة ووجها احمر وأخذت نفسا عميقا وهتفت :
إنتي السبب في موت ابن أخوي..... جمال مات علشانك ولازم تموتي... هعذبك زي ما عذبته، وبعدها هجتلك
،القن نجاه كلماتها واشارت الي احدي الحراس فتقدم أحدهم ممسكا بسكين يلمع وقد أشعل طرفه بالنار حتى صار يتوهج بلون أحمر مخيف. ورمشت غفران بعينيها مرتعبة، وصاحت بصوت مبحوح:
إي دا... ابعدوا عني... بالله عليكوا ابعدوا عني
لكن نجاة لم ترحم توسلاتها وأمسكت السكين بيدها، وقربتها من ذراع غفران بينما الحرس أمسكوا بها ليمنعوها من الحركة. وفي لحظة واحدة قبل أن يلمس الحديد جلدها، إذا بيد قوية تمسك بمعصم نجاة بعنف. كان جبل يقف بينهم، ووجهه محتقن وصوته يعلو بغضب هادر:
انتي إزاي تعملي اكده في مرتي... انتوا اتجننتوا ولا اي عاد
القي جبل كلماته وسحب السكين بعيدا، ثم أدار جسده نحو غفران يتحسس مكانها بيديه المرتجفتين، وصوته ممتلئ بالقلق:
انتي كويسه... حوصلك حاجه
كانت غفران منهارة بالبكاء، لا تستطيع الرد سوى بالنشيج المتقطع، فاقترب منها جبل أكثر زجذبها إلى صدره واحتواها بذراعيه، وهمس بجانب أذنها:
متخافيش... أنا معاكي.. اهدي
ثم رفع رأسه نحو عمته وبقية العائلة وعينيه الكفيفتين تشعان بقوة غاضبة وصاح بصوت يهز المكان:
محدش مسموح ليه يلمس مرتي أو يقرب منها غيري! وال هيتعدى حدوده معاها تاني... أنا ال هتصرف معاه
تقدمت سلمى بخطوة وعينيها مليئتان بالدموع والغضب، وقالت بحدة:
انت بتحمي ال جتلت جمال وخدته مننا
صرخ جبل، وصوته ارتجف وهو يدوي كالرعد:
لع أنا بحمي مرتي... وحتى لو هي السبب في موت جمال، فأنا ال هحاسبها، مش إنتوا! واعتبروا دي آخر مرّة... ال هيقرب من مرتي مش هسكتله. وعلى فكره... أنا هعمل العمليه جريب حبيت اعرفكم يمكن حد فيكم يفرح مع اني اشك
ثم مد يده يبحث عن غفران. قبض على يدها المرتجفة بقوة وقبل ان يكمل حديثه قاطعه صوت اتصال هاتفب فاجاب وبعد ثواني تحدث بصدمه:
نعم؟! ماتت و
↚
كانت أروقة المستشفى تضجّ بصوت خطواتٍ متسارعة وصرير العربات الطبية، والوجوه القلقة تتناثر هنا وهناك. دخل جبل وهو يسند نفسه بعصاه، وبجانبه غفران التي تتشبّث بذراعه بخوفٍ مكتوم. وما إن لمح الاثنان هيئة أسد الجالس في زاوية الممر، حتى تجمدت أنفاس غفران..... كان منكفئ الرأس، كأن الدنيا انطفأت من حوله فـترددت غفران للحظة ثم شدت على يد جبل المرتجفة وهمست بصوتٍ حنون مرتبك:
تعال... اجعد جمبه يا جبل..... هو محتاجك دلوجتي تكون جمبه
قادته بخطوات بطيئة حتى جلس إلى جوار أسد، ثم تركت يده ودخلت الغرفة حيث ترقد حورية، بينما جلس جبل في صمت ثقيل إلى جانب صديقه فـ رفع أسد رأسه ببطء... عيناه محمرتان من البكاء، وصوته خرج مبحوحا وهو يضغط على صدره:
بنتي يا جبل. البنت ال ملحقتش تيجي الدنيا... كانوا بيجولوا في الشهر الرابع وإحنا حتى مكناش نعرف إنها حامل اصلا
ارتعشت يد جبل وهو يمدها ليمسك بذراع أسد، محاولا أن يخفف من انهياره، لكن أسد لم يحتمل أكثر، فاندفع وارتمى في حضنه، كطفل فقد كل سند زهز جسده بالبكاء، وخرج صوته متقطعا:
أنا... أنا كل ال كان يهمني حورية... كانت نفسها تبجى أم يا جبل كانت بتحلم باللحظة دي من زمان. وأنا معرفتش أفرحها، معرفتش أحافظ على حلمها
شد جبل ذراعيه حوله بقوة، وعيناه الكفيفتان تتجهان كأنهما تبصران وجع قلبه وهمس بصوت ثابت لكنه يقطر حزنا:
اهدى يا أسد... بكرة تبجى حامل تاني وربنا يرزقك بأولاد يملوا عليك البيت. المهم دلوجتي إنها تبجى بخير... وحلمها لسه مراحش يمكن يتأجل بس
ارتجف أسد أكثر وهو يرد بين شهقاته:
بس يا جبل... هي موضوع الحمل دا كان مأثر عليها جوي وأنا خايف يأثر عليها اكتر
ضغط جبل على كتفه وقال بحزم دافئ:
طول ما انت جمبها... كل حاجه هتبجي كويسه والله.. بس بلاش ال بتعمله دا... اوعي تضعف انت ظابط وراجل صعيدي لو شافتك اكده مش هتجدر تتخطي الفتره دي اهدي اكده وان شاء الله كل حاجه هتتصلح
ظل الاثنان صامتين بعدها، لا يسمعان إلا أنين القلب المكسور وأنفاس المستشفى المثقلة بالوجع، فيما كانت غفران تقف خلف الباب، تضع يدها على صدرها، وعيناها تمتلئان بالدموع وهي تستمع إلى ذلك الحوار الموجع، شاعرة أن الحزن يثقل صدر الجميع وفي مساء يوم جديد، جلست غفران في غرفتها، تستند إلى حافة السرير وعيناها شاردتان في الفراغ، لكن عقلها لم يكن يعرف سبيلا الا إلى جبل. كانت صورته تلاحقها في كل لحظة، ملامحه الصارمة، صمته الموحش، وغموضه الذي ينهش قلبها دون رحمة وفجأة، انفتح الباب ببطء، ودخل جبل. كان يرتدي قميصا مفتوح الأزرار يتدلى على جسده المرهق، وقطرات العرق تلمع على صدره، فيما شعره مبعثر كأنه خرج تواً من معركة طويلة. أدركت غفران في لحظة أنه كان في غرفة الجيم، يفرغ ما بداخله من صراع لا ينتهي فـ اقتربت بخطوات مرتجفة و التقطت الفوطة الموضوعة على الكرسي، ومدت يدها تمسح بها وجهه ببطء وحذر، بينما ارتجفت أصابعها كأنها تعترف بخوفها. ورفع جبل عينيه نحوها وقال بصوت غليظ:
إيدك بتترعش ليه؟ وليه كل ما تقربي مني بتبجي اكده
حبست غفران أنفاسها وحاولت التماسك، لكن صوتها خرج مبحوحا وهي ترد:
انت... انت هتعمل فيا إي
اقترب أكثر، ونبرته صارت كالسهم يخترق صدرها:
هخليكي تجتلي نفسك .. زي ما جمال بالظ
دمعت عيناها بغتة، وخرجت كلماتها مختنقة:
اجتلني... أهون عليا
ابتسم جبل بسخرية باردة، وهز رأسه قائلاً:
لع.. الموت رحمه. وأنا مش هرحمك. اعتبري الفتره دي... تعويض. لحد ما أخليكي تقتلي نفسك... حتى دي مش هسمحلك بيها غير بمزاجي
تراجعت خطوة، وصوتها يرتجف:
تعويض... تعويض عن إي
اندفع نحوها فجأة وقبض على وسطها بعنف وسحبها إليه، حتى كادت أنفاسها تنقطع، وهمس قرب أذنها:
عن العجز... مش كنتي بتجولي إن جمال عاجز؟ خلاص... أنا هعوضك
اقترب منها أكثر وعيناه مشتعلة بظلام غريب، ثم طبع قبلة مفاجئة على شفتيها وحاولت أن تدفعه، أن تقاومه، لكن جسدها خانها، لتجد نفسها هي من تقترب أكثر، كأنها تذوب في تلك اللحظة. وعندما انحنى إلى عنقها وبدأت قبلاته تحاصرها، استسلمت يداها وارتفعتا تحيطان بعنقه حينها فقط، ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة، ودفعها بعيدا عنه ببرود، وقال وهو يتأملها باحتقار:
مش جولتلك؟... انك رخيصه. كل ال يهمك أي راجل وخلاص.
ثم استدار وتركها واقفة كتمثال محطم، واتجه نحو خزانته يبدل ملابسه غير مبالي، قبل أن يخرج دون أن يلتفت إليها وظلت غفران في مكانها، قلبها يتفتت من الذل، ودموعها تحرق وجنتيها وشعرت أنها تسحق تحت وطأة كلماته أكثر من أي شيء آخر. لم تحتمل البقاء، فاندفعت خارج الغرفة، وهي منهارة كليا، تحمل في صدرها جرحا أعمق من الموت نفسه وبعد فتره جلست سلمى كانت تقف امان امرأة جالسة على كرسي قديم، عينها ثابتة كأنها تراقب كل نفس يمر. و اقتربت سلمى ببطء، ولاحظت أن وجه المرأة يحمل شيئا من الحدة والقسوة الممزوجة بحزن قديم. فـرفعت المرأة رأسها ونظرت إليها مباشرة، ثم قالت سلمي بحدة عامية:
إنتي عايزة مني إي بالظبط؟ وليه اكده
ابتسمت المرأه وهتفت:
انا عايزة أنتجم من العيلة كلها... بس مش منك. وانتي كمان لازم تنتجمي
تبدلت ملامح سلمى بين استغراب وغضب خافت، وسألت بصوتٍ متردد:
انتجم ليه؟ محدش أذاني.
هزت المرأة رأسها بمرارة قاتمة وقالت:
لع. غفران آذيتك. وآذيتني. وهي... هي جتلت ابني."
تراجع صدر سلمى كما لو تلقى طعنة بطيئة، فتلعثمت بلهفة واندفاع:
مين ابنك دا
تنهدت المرأه ببطئ وهتفت:
جمال... جمال ابني
صعقت سلمى ووقف الزمن في عينيها للحظة وفي عمق الليل، كان السكون يخيم على بيت أسد إلا من أنفاس متقطعة تحمل تعبا دفينا ودفع الباب برفق، ودخل إلى الغرفة حاملا صينية صغيرة عليها بعض الطعام الساخن. وجلس بجوار حورية، محاولا أن يرسم ابتسامة على وجهه رغم الحزن الذي يثقل صدره وقرب إليها الصحن قائلا وهو يمد يده إليها:
يلا يا حورية، لازم تاكلي اي حاجه
أبعدت الطعام بيد مرتجفة، وحركت رأسها نافية. فمد يده يلامس وجنتها بحنو، وصوته يتهدج بإيمان ممزوج بحب:
ـوالله يا حورية، ربنا هيعوضنا خير… وهتبجي أحلى أم في الدنيا
لكن فجاه قاطعته حوريه كلماتها التي جاءت كالسهم تخترق صدره مردده:
طلجني يا أسد
تجمدت ملامحه وارتجف قلبه وحدق فيها مذهولا:
انتي بتجولي إي
أشاحت بنظرها بعيدا، ودموعها تنحدر وهتفت :
ـمامتك عايزه حفيد وبتجول دايما انه لازم يكون فيه وريث يحافظ على فلوس العيله… وانت نفسك في ابن، وأنا مش هجدر أسعدك. يبجى الأحسن… تطلجني وتتجوز واحده تديك ال انت عايزه
شدد اسد على يدها وهتف :
أنا مش عايز ابن… أنا عايزك إنتي.. والله ما عايز حد غيرك
أجابت بصوت مبحوح، يخفي داخله انكسارا:
وانا عايزه أشوفك مبسوط… اتجوز يا اسد
اقترب منها أكثر، وعيناه تحترقان مردفا :
هتجدري تشوفيني في حضن واحده غيرك
هزت رأسها بإصرار، والدمع يلمع في عينيها:
هستحمل… علشان أشوفك مبسوط.. مستعده استحمل اي حاجه
وقبل أن يرد فتح الباب فجأة، ودخلت الخادمة بخطوات مترددة، تنحني قليلا ثم تقول:
يا بيه… أخت الست حورية وصلت علشان تاخدها معاها
تصلب جسد أسد، والتفت نحو حورية، بينما قلبه يتخبط بين الغضب والخوف والخذلان. وفي صباح يومٍ جديد، سكنت أجواء البيت على قلق خفي... تتناثر الوجوه فيه بين ترقب وحيرة.....و كانت صفية تجلس في وسط الدار، تتلفت بعصبية والقلق يأكل ملامحها ثم رفعت صوتها:
هو فين جبل؟ فين اختفى من بدر.. وانتوا واجفين تتفرجوا عليا
ارتبك الخدم وتبادلت العيون الحائرة، بينما غفران تقدمت بخطوات مترددة وقالت محاولة التخفيف:
يمكن راح الجيم… أو يكون مع أسد.
وفجأة انتفضت صفية وصوتها يعلو كالصاعقة:
اسكتي انتي.... انتي مش فاهمة حاجه. جبل حياته في خطر
ارتعش قلب غفران، وشحب وجهها وهي تهمس بقلق:
خطر؟! يعني إي و
لكن قبل أن تنطق بمزيد من الكلمات، دوى صوت سيارة إسعاف أمام باب الدار. واندفع الجميع إلى الخارج، والصدمة شلت أطرافهم حين رأوا رجال الإسعاف يفتحون الباب الخلفي… وأسد يهبط بوجه شاحب متجهم، وخلفه نقل جسد جبل على نقالة و جراح غائرة تغطي جسده وكأن حربا كاملة اندلعت على جلده ف، تجمدت غفران في مكانها وعينها متسعة، والدموع تتساقط دون وعي و
↚
ساد الصمت الممر لبرهة والعيون معلقة بجسد جبل المستلقي والقلق ينهش القلوب. وقف الجميع متوترين، حتى قطع أسد الصمت بصوتٍ حاول أن يبدو مطمئنا:
حادثه بسيطه... متخافوش... هو بخير اهه إن شاء الله
وفي تلك اللحظة تحرك جفن جبل ببطء، ثم فتح عينيه المطفأتين، فارتفعت همسات القلق إلى دعاءٍ صامت. واقتربت منه عمته جهاد وبجانبها صفية، وهما ترتعشان خوفا، ومدت صفية يدها تلامس كفه بحذر وهي تقول:
إنت كويس يا جبل؟ طمني يا ابني
ابتسم ابتسامة واهنة وقال بصوت خافت:
متخافوش.. أنا كويس الحمد لله
وفجأة اندفعت سلمى من الغرفة المجاورة تركض نحوه، والهلع باد في ملامحها، ثم انحنت بجانبه، ووضعت كفها المرتعش على وجهه، كأنها تتأكد أنه حي. فـارتجف قلب غفران لرؤيتها، وشعرت بحرارة الغيرة تلسع صدرها لكن أسد تدخل سريعا وهو يرفع يده بحزم:
كفايه... هو محتاج يرتاح دلوجتي. يلا كلنا نسيبه ينام
ترددت سلمى ثم همست برجاء:
انا هفضل معاه، مش هعمل صوت.. بس مجدرش اسيبه لوحده اكده
رفع أسد حاجبيه وقال بنبرة حادة:
مرته موجوده. يلا يا سلمى
شهقت سلمى بخيبة، وانسحبت بخطوات ثقيلة، فيما خرج الجميع خلفها، وبقيت غفران وحدها معه واقتربت بحذر وجلست إلى جواره، وعيناها تتأمله بقلق وهمست بصوتٍ مبحوح:
اي ال حوصلك.... انت كويس دلوجتي؟
أدار رأسه نحوها فجأة، وصوته خرج جافا صارما:
إنتي... إنتي ال حاولتي تجتليني صوح
شهقت غفران، وارتجفت كلماتها وهي تهتف:
اجتلك إي هو انت حد حاول يجتلك
أومأ برأسه، وقال بنبرة جازمة:
ايوه حد حاول يجتلني بس معرفش
اغرورقت عيناها بالدموع، ورفعت يدها تحلف قائلة:
والله ما أنا... مستحيل أفكر أعمل اكده فيك
حاول أن ينهض عن السرير رغم تعبه، فانحنت بسرعة تمسك بذراعه تسنده، وقالت له بصوت قلق:
استنى... إنت لسه تعبان
زفر بحدة، ثم قال وهو يبتلع أنفاسه المتقطعة:
أنا مسافر بره... عندي شغل مهم
نظرت إليه بصدمة وهمست:
ازاي يعني لوحدك؟! إنت مش شايف حالتك
أطلق ضحكة مريرة وقال:
حالتي؟ إن أنا أعمى ومش بشوف يعني ؟ متخافيش أسد هيكون معايا... وفي الفتره دي، اقنعي صاحبتك ترجع لجوزها وتبطل الدلع ال هي فيه اسد بيحبها
رفعت غفران رأسها بإصرار وهمست بحرقة:
هي مش مدلعة... هي خايفه عليه
قطب جبينه وقال بصوتٍ قاطع:
ال بيحب حد... مبيسيبهوش مهما حوصل
ثم دفع يدها عنه ببطء، وهو يردد ببرود:
ابعدي... أنا بجيت كويس. مش محتاج مساعده
تقدمت خطوة نحوه، وصوتها يخرج بلهفة لم تستطع إخفاءها:
مستحيل أسيبك... إنت لسه تعبان
ثم ارتبكت فجأة، وخفضت صوتها محاولة إصلاح كلماتها:
جصدي يعني... علشان لو احتاجت حاجه بس
وبعد فتره وقفت سلمى مقابل صفية بعينين مليئتين بالتحسر والغضب، وصوتها يخرج مقطعا:
إزاي جمال مش ابنك؟!
ارتعشت صفية، وارتسم على وجهها صدمة عميقة، فتعثرت كلماتها:
مين جال اكده؟! مين يجرؤ يجول الكلام دا؟
صرخت سلمى بصوتٍ يكاد يكسر الهدوء:
واحدة... واحدة عايزة تنتجم منكم كلكم هي ال جالتلي الكلام كله... وهي ال عاوزه تفضحكم
وفي تلك اللحظة دخلت جهاد مسرعة، وبدون تردد ضربت سلمى بقوةٍ جعلتها تتأوه وتحرك يدها عن وجهها، وقالت بغضب:
إنتي بتجولي إي ؟! اخرسي وبلاش تفتحي الموضوع دا. اسمعي الكلام واطلعي بره فورا والله هسفرك من غير تفكير ومش هتيجي اهنيه تاني. ولو شوفتي الست دي تاني والله هاخدك واسفرك علطول من غير نقاش
انسدحت سلمى على الباب تبكي، وصوت بكائها يقطع الصمت وهي تخرج متلعثمة بين الدموع. بعد خروجها، جلست صفية على الكرسي، ووجهها محمل بالخوف والحيرة، والدموع تتسلل من عينيها بينما تقول بهمس مرتعش:
هنعمل إي لو الحقيقه اتكشفت؟ كل حاجه هتضيع... كل ال تعبنا فيه هيروح
رفعت جهاد رأسها بنظرة حازمة، وصوتها صار باردا كالسيف:
مفيش حقيقه هتتكشف. هي فاكرة إن جمال ابنها ومش عارفة إن جبل هو ال ابنها. سيبيها على اكده أحسن محدش لازم يعرف حاجه، لا جبل ولا أي مخلوق في الدنيا. أما الست دي... أنا هتصرف معاها.
توقفت لحظة وكأنها تذكرت شيئا مظلما في صدرها، ثم أكملت بصوتٍ تئن منه العزيمة:
لازم اجتلها... بس لازم أعرف مكانها الأول علشان انا متاكده انها مستحيل تظهر جدامنا
انتهت كلماتها كما لو أنها لا تدرك ثقل ما نطقت به، ولم تشعر بوجود أحدٍ آخر. اما خارج الغرفة فوقفت غفران متمسكة بمقعد الممر، قدميها مكبوتتان وقلبها يطرق صدرها بعنف. كانت قد خرجت لتبتعد عن الضجيج لكنها لم تستطع، فبقيت هناك تسمع كل كلمةٍ تلقى داخل المنزل كلمات مزقت صدرها حد الصدمة. اما. عند جهاد فقفلت عينيها للحظة، ثم نظرت إلى صفية بصرامةٍ مكملة عزمها:
متتكلميش في الموضوع تاني. أنا هتابع الموضوع دا بنفسي
وغادرت الغرفة، تاركه خلفهما صفية تبكي بهدوءٍ، وغفران واقفة في الظل وقد امتلأ صدرها بعاصفة من الأسئلة والخوف وهي تعلم الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، لكن لم يجرؤ لسانها على أن ينطق وفي صباح يوم جديد استقر الصباح فوق الدار بنفحاتٍ خفيفة من نور وجلست غفران إلى جانب حورية في حجرةٍ صغيرةٍ مغمورةٍ بظل الحزن. كانت حورية ممسكة بمنديل تبكي، وتكرر بين شهقاتها كلماتٍ يملؤها الحنين:
أنا بحب أسد... ومش جادرة أعيش من غيره. بس عايز يخلف ويفرح، ده كل ال يهمني والله سعادته بس
مسحت غفران دموعها بهدوء، وجلست أقرب إليها، وأمسكت يدها بحنان محاولة أن تطمئن قلبها المهتز:
سعادته معاكي يا حوريه؟ ده واضح. هو مش عايز غيرك. فكري في ده شويه... أسد مش هيتجوز أي واحدة تانيه. هو بيحبكِ إنتي وحتى لو اطلجتوا مش هيتجوز غيرك
خف ضوء البكاء عن وجه حورية ولامع الأمل في عينيها وهي تنهض بابتسامةٍ صغيرةٍ تمسح أثر الدموع وهتفت:
سيبك من الهم دا، إن شاء الله يتحل... المهم إن جبل مكلمكيش؟
رفعت غفران بصرها، وابتلعت ريقا ثقيلا قبل أن تقول بنبرةٍ مرتعشةٍ تعلن بخفةٍ عن حقيقةٍ لم تقر بها لنفسها بعد:
لع متكلمش من ساعة ما سافر... وانا خايفة عليه والله. أنا.. مش عارفة. بس حاسة إن فيه حاجة ناجصاني لما سابني، ولما بيبجى معايا بحس إني متوترة... يمكن ده دليل إنه... يمكن إني بحبه بس لسه معترفتش لنفسي تمام.. انتي فاهماني
جلست حورية مبتسمة بحزن وغمزت بعينها كما لو تهمس لها بالحقيقة القاسية:
ايوه ده ال واضح. بس اسمعي الكلام مني هو بيبصلك بعين انتجام، مش حب دلوجتي. هو بيكرهك وعايز ينتجم. دي فرصتك.. امشي واهربي، محدش هيجدر يمنعك دلوجتي. لسه هيفضل يعرضك للخطر لحد ما يجتلك
جفت أنفاس غفران ومر صمت قصير كأنه يقيس لها خطواتها ثم رفعت رأسها بوجهٍ لا يخلو من قسوةٍ وحزمٍ غامض:
ممكن كل الكلام دا يكون صحيح... وممكن أنا فعلا بخاف. بس مش هرجع ولا ههرب دلوجتي. مش ده الوجت ال أمشي فيه.
رمقتها حورية باندهاشٍ وخوفٍ، وقالت بصوتٍ منخفضٍ:
إنتي متأكدة؟
أجابت غفران بعينين ملؤهما قرار خافت وثابت:
مش متأكدة خالص. بس جلبي مش هيسيبها اكده... لو الموت قدامي، هواجهه، بس مش ههرب
وفي صباح جديدٍ اجتمع الجميع أمام الدار، ينتظرون عودة جبل بقلوب متوترةٍ وعيون مترقبة. كانت غفران تقف في آخر الصف يديها متشابكتين بعصبية، تحاول أن تخفي ارتجافها كلما اقتربت أصوات السيارات من بعيد. وأخيرا، توقفت سيارة أمام الباب، ونزل منها جبل بخطواتٍ ثابتةٍ، رغم أن وجهه كان متعبا أكثر من ذي قبل. ما إن رآه أهل الدار حتى اندفعت نحوه عمته جهاد وزوجة عمه صفية تعانقانه بحرارةٍ ودموع في الأعين.
فـ ابتسم جبل ابتسامة واهنة وهو يقول بصوتٍ مبحوح:
أنا كويس اهه الحمد لله.. واحشتوني جوي
وفي تلك اللحظة تقدمت غفران ببطء، قلبها يخفق بعنف وهي تحدق فيه بـ شيء غريب كان يكسو ملامحه، نظراته لم تكن عادية، بل كأنها تخترقها وتفحص أعماقها. شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها وهمست لنفسها:
هو بيبصلي ليه اكده.. كانه اول مره يشوفني
اقتربت خطوة منه بتردد، كأنها تريد أن تسأله شيئا لكنه ظل يطيل النظر إليها بصمتٍ مثقل. وفجأة تجمدت في مكانها حين رأت فتاه زدخل بخطواتٍ واثقةٍ، تقترب من جبل دون تردد، ثم مدت يدها تمسك بيده أمام الجميع.
وساد الصمت وغفران ظلت واقفة في مكانها، عيناها معلقتان بالمشهد، وقلبها يطرق صدرها بعنف و
↚
دخلت غفران غرفتها بخطواتٍ متعثّرة، والدموع تملأ وجهها، فجلست على حافة السرير تحتضن صدرها المرتجف. لم تكد تغمض عينيها حتى سمعت وقع أقدامٍ خلفها، فالتفتت بسرعة، فإذا بجبل يقف عند الباب، ملامحه جامدة كالصخر. تقدّم نحوها ببطء وقال بنبرةٍ حادةٍ لا تخلو من الصرامة:
البنت دي... تبجى أخت أسد. ودكتورة. كانت بره وجات معايا علشان تشوف اسد وتحاول تحل المشاكل ال بتوحصل
رفعت غفران رأسها، والدهشة تعلو عينيها وهي تهمس بصوتٍ متقطع:
بجد؟! يعني أخت أسد؟ الحمد لله... كنت مفكرة في حاجة تانية
لكن جبل أدار وجهه عنها قليلًا وأضاف ببرود جاف:
اا مش ببررلك علشان حاجة. أنا بجولك علشان تبجي عارفة وبس
أومأت غفران برأسها، وكأنها تحاول أن تُخفي ارتجافها:
تمام... حمد لله علي سلامتك
ساد الصمت لحظة، قبل أن يرفع جبل نظره نحوها ويسأل فجأة:
انتي لابسة أسود ليه عاد
تسمرت غفران في مكانها، واتسعت عيناها بصدمة حادة، وهمست بخوف:
إي ؟! إنت عرفت إزاي... هو إنت بجيت تشوف
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة، كأنها سيف يخترق صمتها واستدار ليمضي خارج الغرفة، لكن غفران نهضت مسرعة وأمسكت يده، ثم رفعت كفها تتحسس وجهه بعفوية مرتجفة، تدور بأناملها حول عينيه كأنها تبحث عن اليقين وفجأة قبض جبل على يدها بقوة وقال بحدة مختنقة:
كفاية... دوختيني
تنفست غفران بارتجاف، ورددت بلهفة:
يعني بجد؟! إنت بجيت تشوف؟! هو إنت عملت العملية؟
زفر جبل ببطء ومال بوجهه قليلا، قبل أن يرد بسخرية مريرة:
مش هتفرق... الاتنين عندي واحد
ثم ضحك ضحكة ساخرة، وألقى كلماته كخنجر في قلبها مرددا:
انا كنت فاكرك حلوة... طلعتي أوحش مما توقعت
ترك يدها بعنف واستدار خارج الغرفة، بينما ظلت غفران واقفة مكانها. لم تبكي ولم يجرحها وصفه لها بالقبح، بل غمرها شعور غريب بالفرح العميق... لأن جبل أصبح يرى وفي قصر فخم يختبئ خلف جدرانه العتيقة جلست شوق على كرسيها المتحرك، وأمامها وقف الحارس بصرامته المعهودة وصوته خرج منخفضا :
شكله جبل هيرجع شغله تاني... أنا شوفته في المديريه الصبح وباين عليه إن نظره رجعله
ارتسمت ابتسامة باردة على شفتيها، كأنها ابتسامة ثعلب وجد ضالته وهتفت :
حلو... يبجي نخلص بجا من ال اسمها غفران دي في أسرع وجت... قبل ما هو يكشف كل حاجة.
تردد الحارس قليلا، ثم قال:
يمكن معرفتش لسه حاجه عنك
لكنها هزت رأسها، وصوتها يغلفه يقين قاطع:
لع.. عرفت
ساد صمت ثقيل لحظة، قبل أن تفتح الباب فجأة وتدخل الخادمة بخطوات مترددة وعيناها تحملان قلقا ظاهرا مردده:
يا ست هانم . في واحدة عايزاكي برره
أشارت لها شوق بيدها في فتور:
دخليها... مين دي عاد
لم تمضي لحظات حتى خطت غفران إلى الداخل، وجهها شاحب، وعيناها تتقدان بإصرار عجيب فحدقت فيها شوق بذهول لم تستطع أن تخفيه، وصاحت بحدة:
إنتي؟! إنتي اي ال جابك اهنيه ؟ وعرفتي مكاني إزاي؟
رفعت غفران رأسها بثبات، ورددت بصوت قوي رغم الارتجاف في صدرها:
عرفته من سلمى... مشيت وراها وعرفت المكان. أنا جايه علشان أجولك الحقيقة.
انكمشت ملامح شوق وارتفع حاجباها بريبة وهتفت:
حقيقة إي عاد
اقتربت غفران خطوة، وعيناها لا تفارقان وجه المرأة وقالت:
جبل... هو ابنك مش جمال
تصلبت قسمات شوق، وارتعشت أصابعها وهي تمسك بمسند الكرسي، وكأن الكلمات أصابتها في مقتل. وفي تلك اللحظة، أخرج الحارس مسدسه ووجهه مباشرة نحو غفران، لكن شوق صاحت بسرعة:
نزل السلاح
رفعت غفران يديها قليلا، وصوتها خرج صادقا رغم الخوف الذي يحيطها:
أنا معرفش إي حكايتك بالظبط... بس والله جبل هو ابنك
استدارت متجهة نحو الباب، لكنها توقفت فجأة حين وجدت الحراس قد سدوا الطريق أمامها. فـ التفتت نحو شوق بنظرة حادة، وقالت بنبرة تحمل إنذارا:
أنا لو ممشيتش دلوجتي... هيوحصل مشاكل كتير إحنا في غنى عنها.
ظلت شوق تحدق فيها لثواني طويلة ثم رفعت يدها وأشارت للحراس بالتراجع. وخرج صوتها متحشرجا، مليئا بصدمة غامرة:
شوفولي اي الكلام ال بتجوله دا ... دوروا ورا الموضوع دا بسرعة.
وبقيت نظراتها معلقة على غفران، كأنها تبحث في ملامحها عن سر ضائع منذ زمن بعيد. وفي مساء يوم جديد دخلت غفران الي غىفتها ووقعت نظرة خاطفة على الأرض فأحست أن قلبها يقف عندما رات بقعة من دماءٍ داكنةٍ تتربع في ظل المصباح الخافت. ترددت خطوة إلى الوراء، واندفع قلبها يقرع في صدرها كما لو أنه يريد الخروج. وكانت تتهيأ للخروج من الغرفة، لكنها توقفت عندما لاحظت ظلّا ممدودا على البساط كان جبل ملقيا على الأرض ودماء تبلل قميصه ونفسه يتقطع واندفعت نحوه دون تفكير، وركعت إلى جواره و يدها ترتعش عندما لمست وجهه البارد فـ شعرت فجأة بأن العالم قد انقلب؛ كل شيءٍ بدا هشا، وكل شيءٍ أصبح ذا معنىٍ جديد. وتخطت حولها الذكريات، نظراته القاسية،...... صمته الطويل.... واللحظات التي لم تفهم فيها ما يجري في قلبه فرددت ببكاء:
جبل.. جوم.. بالله عليك جوم ابوس يدك.. متعملش فيا اكده... انا بحبك.. مجدرش اعيش من غيرك والله العظيم ابوس يدك متسبنيش وفجاه احتبست أنفاسها حين بدأ صوته الخافت يصلها و فتح جبل عينيه ببطء، ونظرة ساخرة ارتسمت على محياها قبل أن تنطق شفتيه بكلماته القاسية:
أنا انتجمت بجد... زي ما علقتي جمال بيكي وانتحر بسببك، أنا علقتك بيا، وهخليكي تنتحري
تجمدت غفران في مكانها. كان الكلام كالسم، يدخل إلى صدرها ويغرز فيه لم تكن تصدق أن هذه الصراحة الباردة قد تخرج منه. فرفعت عيناها إليه بصدمةٍ يكاد وجهها يتلوى من شدتها، ولكن قبل أن تتكلم، صاح في وجهها بمزاحٍ مر:
والحاجة الوحيدة ال فرحتني دلوجتي لما بجيت بشوف بعيني… اني هشوفك وإنتي بتموتي
وقف جبل وبدت خطواته متثاقلة نحو الباب حتي خرج من الغرفة وهو يترك وراءه صدى كلماتٍ ثقيلة. والهواء بدا أضيق، والغرفة ضاقت على صدر غفران كما لو أن الجدران اقتربت لتشهد على إذلالها وألمها فجلست على الكرسي بقرب الطاولة الصغيرة، رأسها يدور، ويدها تبحث بلا وعي عن شيءٍ يلامسها، يخفف عنها. فتوقفت عيناها على الطبق الصغير وفيه سكين فرفعت غفران اليد إلى الملعقة أولا، ثم إلى السكين ورددت:
كفايه... كفايه بجا لحد اكده... مفيش حاجه استني علشان انا في جميع الحالات ميته اصلا
وفجاه وضعت السكين علي معصمها وسحبتها بقوه وصرخت ويديها بدات تنزف بغزاره حتي تلاشي كل شئ امامها ووقعت علي الارض غارقه في دماءها وفي ركنٍ من أركان البيت، جلست صفية وجهاد وجها لوجه، النار تشتعل في العيون قبل القلوب. كانت صفية تضرب الأرض بقدمها بعصبية، بينما جهاد تحاول أن تحافظ على هدوئها، رغم الغضب الذي يتأجج بداخلها. فـرفعت صفية رأسها وقالت بصوتٍ متوتر حاد:
أنا خلاص هجول لجبل كل حاجة. كفاية بجا كدب وسكوت. غفران مظلومة.... مظلومة... جمال هو ال كان عاجز، وكان بيهينها ويضربها ليل ونهار
حاولت جهاد مقاطعتها، لكن صفية واصلت بصوتٍ يرتجف من الانفعال:
دا حتى حاول يلبسها جضية شرف، علشان تسكت وتعيش معاه من غير ما تطلب الطلاج... بس معرفش. هو ال اتفضح، وهو ال وقع في شر أعماله.
نظرت إليها جهاد بحدة، وضربت بكفها على الطاولة أمامها وقالت:
مهما كان! في الآخر مات بسببها... ابنك مات يا صفية، مات
انتفضت صفية واقفة، وكأن كلمات جهاد طعنة في صدرها، وصاحت بصوتٍ مبحوح من الألم والغضب:
لع يا جهاد! ابني منتحرش بسبب غفران... ابني انتحر بسبب خوفه من ال عمله! جمال كان السبب في كل حاجة.
ارتجفت شفتاها وهي تضيف:
وإحنا... إحنا ال ضحكنا على جبل، وجولناله إن غفران السبب علشان ميعرفش الحقيقة. لكن الحقيقة إن جمال هو ال دمر حياته وهو ال خلاه ججعد سنين مش جادر يشوف بعيونه
سقطت الكلمات في الغرفة كالصاعقة، وعم الصمت للحظة. فتجمدت جهاد في مكانها، واتسعت عيناها بدهشة لا توصف. ظلت تنظر إلى صفية كأنها تسمع هذه الحقيقة لأول مرة، وقلبها يهبط شيئا فشيئا إلى هاويةٍ سحيقة وبينما الدموع تكاد تفر من عينيها، التفتت جهاد ببطء نحو الباب... لتتجمد أكثر. فقد كان جبل واقفا هناك، جسده مائل قليلا، وملامحه يكسوها الصمت المميت..... عيناه تتفحصان وجهيهما ببرودٍ قاتل كأنهما سهام تنفذ إلى أعماقهما و
↚
كان الممر باردا على غير العادة... أضواءه البيضاء الخافتة ترسل ظلا متعبا على الجدران ورائحة المطهرات تزاحم أنفاس من يقفون فيه حيث وقف جبل أمام باب غرفة العمليات، وعيناه معلقتان بذاك الباب المغلق، كأنه بوابة بين الحياة والموت. يديه ملطختان بالدم، قميصه غارق في آثارها، وعيناه شاردتان في فراغ أسود لا نهاية له.
لم يتحرك، لم يتنفس إلا بصعوبة، وكأن الزمن توقف عند تلك اللحظة فـ اندفع أسد في الممر بخطوات متسارعة، ووجهه يحمل مزيجا من القلق والدهشة، وما إن لمح جبل حتى أسرع إليه، ينظر إليه بعينين مذعورتين. لكن قبل أن ينطق، ظهرت حورية من آخر الممر... ركضت وهي تلهث، وحين وقعت عيناها على جبل، تجمدت لحظة ثم انفجرت صرختها المدوية:
إنت السبب..... انت السبب في كل دا... هي جوه هتموت بسببك ؟! إنت متستاهلش الحب ال هي حبتولك... انا اصلا مش فاهمه ازاي نحب واحد جلبه جاسي زيك اكده. ... إنت مشوفتش فيها غير إنها ست تاخد منها بتار واحد حقير زي جمال طيب تعرف بجا الحمد لله إنه مات... الحمد لله إننا خلصنا منه
ارتج جبل في مكانه وصوته محبوس في صدره، ووجهه شاحب كأنه حجر منقوش عليه العذاب فـ حاول أسد أن يمسك بكتفها ليوقفها، لكن غضبها كان أقوى من أي محاولة وردد :
اهدي يا حورية... مش شايفة جبل حالته عامله إزاي... كفايه بجا بلاش تضغطي عليه اكتر من اكده
استدارت نحوه بعينين ملتهبتين، وصاحت:
ميهمنيش حالته.. زي ما هو مكنش بيهمه حاله غفران وهو بيعذب فيها كل يوم... شايف الدم ال مالي هدومه؟ دا دم غفران..صاحبتي ال بتموت بسبب واحد زيه....بس جسما بالله لو حوصلها حاجة... أنا هحمله هو النتيجة كلها... هو وبس وما هسكت بجا
القت حوريه كلماتها واقتربت أكثر ووقفت أمام الباب مباشرة، كتفها ملتصق بالحائط، كأنها تحمي غفران بجسدها، أو كأنها تتحداه أن يقترب فـ ظل أسد صامتا للحظة، عيناه تنتقلان بينهما، ثم استدار نحو جبل الذي لم يرمش منذ دخل الممر، وقال بصوت حاول أن يجعله ثابتا:
هي هتبجى كويسة يا جبل... متخافش والله... هتبجي كويسه ان شاء الله
بدا وكأن جبل استيقظ من غيبوبة... رفع رأسه ببطء، وعيناه ممتلئتان بغبار الحزن، وصوته خرج مبحوحا كأنه يجرح حنجرته:
كل حاجة كانت كدب... كل ال عاشته كان وهم... وهي كانت مظلومة.... أنا لو حوصلها أي حاجة... مستحيل أسامح نفسي طول عمري
ارتجف صوته عند آخر كلمة، حتى أن أسد لم يجد ما يرد به، فاكتفى بوضع يده على كتف صديقه في محاولة صامتة للتهدئة.. لكن حورية لم تلين بل أشاحت بوجهها بحدة ودموعها تسيل على وجنتيها وهي تهمس بغضب:
غفران دفعت تمن كذبكم كلكم... تمن كذبك إنت قبل أي حد
ساد الممر صمت ثقيل، لم يكسره إلا أصوات الأجهزة القادمة من خلف الباب المغلق. كل دقيقة مرت كأنها ساعة، وجبل يقف في مكانه بلا حراك، وعيناه مسمرتان على الباب وفجأة، فتح الباب، وخرج الطبيب منهكا، يرفع كمامته عن وجهه فـ اندفع جبل نحوه بجنون وأمسك بذراعه بكل قوته، وصاح بصوت مبحوح:
يا دكتور... غفران عاملة إي... طمني بالله عليك
ألقى الطبيب نظرة سريعة على الجميع، ثم قال بجدية وهدوء:
الحمد لله... جدرنا نسيطر على النزيف، وأنقذنا حياتها. لكن حالتها النفسية صعبة جداً... أكيد هيبجى فيه تأثير نفسي، لسه منعرفش اي ال ممكن يوحصل بالظبط
تسارعت أنفاس جبل.... عروقه بارزة في عنقه، وصوته خرج مرتجفا وهو يسأل:
ممكن... ممكن أشوفها دلوجتي... لو سمحت
لكن الطبيب هز رأسه ببطء، وصوته خرج حازماً:
لع يا حضرت الظابط لااسف مينفعش مش دلوجتي هي محتاجة ترتاح. بـ الليل تجدروا تشوفزها وتطمنوا عليها إن شاء الله
ثم تركهم ومضى، خطواته تتلاشى في عمق الممر، تاركا خلفه ثلاث قلوب مشتعلة بالوجع..... حورية التي تنظر إلى جبل بعيون متقدة باللوم و أسد واقف بينهما لا يعرف أي جرح يضمد أولا وجبل يقف مكانه، يده ما زالت ترتعش، وعيناه متعلقتان بالباب كأنه ينتظر أن يفتح من جديد ويعيد له شيئاً من روحه التي نزفت معه وفي غرفةٍ واسعة يكسوها السكون، جلست شوق على كرسيها المتحرك، أمامها طاولة ممتلئة بأوراق متناثرة.... شهادات ميلاد....وصور قديمة باهتة وأوراق رسمية تحمل أختاما تشهد بسنواتٍ طويلة من الخداع.... كانت عيناها معلقتين بتلك الأوراق... وصدرها يعلو ويهبط كمن يحاول أن يستوعب زلزالا ضرب حياته فجأة فـ رفعت ورقة بين يديها المرتعشتين، وعيناها تغرورقان بالدموع وهي تهمس بذهول:
يعني إي... جبل ابني؟! وأنا طول السنين دي فاكره إن جمال هو ابني... يعني أنا... أنا كنت واحده من الأسباب ال خلت ابني ميجدرش يشوف بعيونه طول السنين دي
ارتبك الحارس الواقف أمامها واقترب خطوة وقال بصوتٍ مهدئ:
يا ست هانم... جمال هو ال عمل اكده مش انتي
لكن كلمات الحارس لم تهدئها بل أشعلت نارا جديدة في صدرها فصرخت بصوتٍ مبحوح و دموعها تنهمر على وجنتيها مردده :
بس كان حد مننا بيلعب في دماغه علشان يعمل اكده وأنا... أنا السبب.... كنت عايشه في وهم... وسيبت ابني يضيع جدام عيني ومشيت ورا الكدب والخداع
انحنى الحارس قليلا، وصوته خرج أكثر جدية:
جمال يا ست هانم طول عمره طماع. كان بيغير من جبل بيه ... وعايز ياخد كل الفلوس وال مش من حقه. حتى نجاح جبل كان بيكويه من جوه
ارتجفت أنامل شوق وهي تسند رأسها بيدها، ثم همست بصوتٍ مكسور:
هعمل إي دلوجتي؟! الحل إي... هعترف لابني إزاي... أجول لجبل إني أمه بعد العمر دا كله واني كنت من ضمن الاسباب ال خلوه يخسر نظره طول الفتره دي
ظل الصمت يسيطر لحظة، قبل أن تمسح دموعها ببطء، وعيناها تتحولان إلى جمرتين مشتعلتين حتي رفعت رأسها بغضب مكتوم، وقالت بنبرة حادة:
لع.. مش هفضل مستخبيه تاني. كفاية... كفاية كدب. لازم أواجه. لازم آخد حقي. وصفيه وجهاد... لا يمكن أسامحهم... هما السبب في ال حوصل، وهما ال ضيعوا ابني من حضني سنين وسنين
تنهدت شوق ثم ضغطت على مسند كرسيها بعزمٍ، وصوتها ازداد صلابة:
من النهارده... كل حاجة هتتغير. حضر نفسك يا عزت
ارتسم التوتر على ملامح الحارس، لكنه أومأ برأسه في صمت، بينما ظلت شوق تحدق في الأوراق أمامها، مزيج من الصور والحقائق والذكريات الكاذبة، كأنها تتعهد لنفسها ألا تنحني بعد الآن وفي الصباح الباكر كان جبل واقفا أمام باب الغرفة، عيناه معلقتان بما وراء الزجاج، حيث غفران نائمة على سريرها الأبيض، أنفاسها هادئة لكنها متقطعة، كأنها ما زالت تصارع في أعماقها ظلال الأمس وإلى جوارها جلست حورية على الكرسي، عيناها ساهرتان بلا نوم، ممسكة بيد صديقتها، كأنها تخشى أن يبتلعها الغياب مرة أخرى وظل جبل واقفا مكانه، كأن خطواته مقيدة بسلاسل من الذنب، لم يجرؤ على الدخول، فقط يكتفي بالنظر إليها بعينين مثقلتين بالحزن والندم حتي اقترب منه أسد في صمت وهمس وهو يضع يده على كتفه:
مالك واجف اكده ليه ؟ ادخل يا جبل… هي محتاجاك جمبها
هز جبل رأسه ببطء، وصوته خرج متقطعا:
هدخل أجولها إي يا أسد؟… بعد كل ال عملته فيها؟… أنا لو دخلت دلوجتي هتتعب أكتر… هخليها تفتكر كل حاجة تزعلها وتتتعبها تاني . أنا هستني تحت… يمكن ده أهون ليها.
استدار جبل ليمضي، لكن فجأة اخترق سكون الغرفة صوت ضعيف متعب لكنه واضح:
جبل
توقف في مكانه كأن السقف هبط فوق رأسه، عيناه اتسعتا دهشة، فالتفت إليه أسد على الفور وقال بلهجة حاسمة:
سامع؟! بتندهلك… ادخل يلا واجف ليه اكده
ترددت قدماه لحظة، ثم خطا نحو الباب بخطوات ثقيلة، فتحه ببطء ودخل، كأن الهواء صار أثقل من احتماله.
واقترب من السرير.. قلبه يخفق بجنون، ووجهه ممتلئ بتوتر غريب فـ رفعت غفران عينيها المتعبتين نحوه ونظرت اليه نظرة شاحبة لكنها مملوءة بصدق لم يعرفه من قبل وقالت بصوت مبحوح:
هو انت مش عايز تشوفني؟
تفاجأ الجميع من كلماتها حتى حورية التي كانت ممسكة بيدها ارتبكت وأبعدت نظرها، بينما أسد وقف صامتا ومدت غفران يدها المرتجفة نحوه، كأنها تبحث عنه بين الضباب، فأمسكت يده بقوة رغم ضعفها، وهمست برجاء:
متسبنيش… خليك جمبي… متسبنيش
ارتعشت أنامله بين يديها واقترب أكثر وجلس على حافة السرير، عينيه تغرورقان. رفع يده الأخرى ليمسح بخفة على وجهها الشاحب، كأنه يحاول أن يعيد له الحياة، وصوته خرج مخنوقا بالندم:
سامحيني… بالله عليكي سامحيني يا غفران… أنا آسف
نظرت إليه غفران بعينيها المرهقتين، لكنها ابتسمت ابتسامة باهتة، ثم هزت رأسها وقالت:
على إي… انت معملتش حاجه علشان أسامحك يا جبل
ساد الغرفة صمت مشبع بالدهشة، نظرات حورية وأسـد ارتفعت نحوهما في استغراب شديد، لم يصدقوا رد فعلها، كيف تحولت كلماتها إلى دفء وطمأنة، بدلا من اللوم والعتاب وفي تلك اللحظة، انفتح الباب فجأة، ودخلت صفية تتبعها جهاد.... ما إن وقعت عينا جبل عليهما، حتى تبدلت ملامحه كليا، غضبه اشتعل في عروقه، ووجهه تغير وكأن بركانا يثور داخله. لم يري أمامه إلا خيالات الماضي، وجدران السجن الذي صنعوه له فـ شهقت حورية بخوف من ملامحه، وأسـد تحرك بخطوة مترددة بينه وبين الداخلين، لكن جبل لم ينطق بكلمة، فقط نظر إليهما نظرة كفيلة أن تحرق كل ما تبقى من هدوء في المكان وقبل ان يتحظث اسد قاطعه دخول شوق علي كرسي ماحرك فنظروا الجميع بصدمه وبالتحديد جهاد التي اقتربت منها ورددت بخوف:
انتي اي ال جابك اهنيه... جايه ليه عاد وكنتي فين
جبل بضيق؛
انتي مين عاد... وعايزه اي اتفضلي
ابتسمت شوق بدموع وهتفت:
انا امك يا جبل و
↚
كان الصمت يملأ الغرفة كأن الهواء ذاته توقف عن الحركة... والعيون كلها شاخصة نحو شوق التي جلست على كرسيها المتحرك، ووجهها يكسوه خليط من الرجاء والعزم والدموع، بينما تجمد الجميع في أماكنهم لا يدرون أيتكلمون أم ينتظرون الكلمة التالية التي قد تهدم ما تبقى من توازنهم اما جبل كان يقف بثيابه الملطخة بالدم مذهولا وصوته خرج متحشرجا، كأنه لا يصدق ما سمعه وردد:
أم مين؟!
نظرت إليه شوق بثبات مدهش رغم رعشة يديها، ومددت أمامه الأوراق التي كانت تحتضنها كأنها دليل خلاص وقالت بصوتٍ مختنق:
امك إنت يا جبل... أمك ال ظلموها وخدوا منها ضناها كنت متجوزة أبوك قبل ما يموت... كنت في أول حملي فيك. لكن أول ما ولدت، خدوك مني و اتهموني في شرفي بسبب عمتك ومرات عمك، وفضلوا يخلوني أصد الكدب... يخلوني أعيش سنين وأنا فاكرة إن جمال هو ابني... وانهم كتبوه باسم عمك علشان يبعدوه عني... وأنا صدجت بس طلع فعلا جمال مش ابني وانت ال ابني
مددت يدها بالأوراق أمامه مره اخري كانت أوراق رسمية قديمة وشهادات ميلاد وصور باهتة وقالت:
الورج دا كله بيشهد... بيجول إنك إنت ابني مش جمال.
تسمرت نظرات الجميع عليها، حتى أن أنفاسهم صارت مسموعة.... وصفية التي كانت تقف بجوار جهاد، صرخت فجأة بصوت حاد كأنها تحاول طرد الحقيقة من الغرفة وهتفت :
كدابه.... كدابه يا جبل دي ست مجنونه... بتلفق أي كلام علشان تخرب بيتنا.. اوعي تصدجها يا ابني
وتقدمت جهاد خطوة وهي تهز رأسها بعنف:
أيوه والله كدابه دا كلام فاضي، احنا كلنا عارفين مين ابن مين... متصدجهاش يا جبل.. دي مجنونه
ظل جبل صامتا، يده ترتعش وهو يمسك بالأوراق، عيناه تتحركان بين السطور ببطء، وصدره يعلو ويهبط بعنف، حتى قال بصوت مخنوق:
يعني دا كله... حقيقي ولا... كدب جديد منكم كلكم
اقتربت شوق منه وصوتها مبحوح مردفه :
لع يا جبل، دا مش كدب... دا الحق. أنا أمك والله، والله أنا أمك، والورج دا شاهد على كل حاجة.
لكن جبل رفع عينيه نحوها، وفي نظراته خليط من الغضب والضياع، ثم صاح بانفجار مفاجئ:
كدابه... كلكم كدابين انتو بتلعبوا بيا من أول يوم! دي خطة جديدة منكم علشان تدمروني زي ما دمرتوني زمان صوح.. مستحيل اصدجكم
صرخت جهاد وهي تتظاهر بالدموع:
شايف؟! شايف يا جبل هي بتجول إي.... جايه بعد العمر دا كله تجولك إنها أمك دا جنان!
اقتربت بخطوة منه ومدت يدها نحوه محاولة أن تلمسه لتهدئه لكن جبل تراجع بسرعة وصاح بوجهها:
ابعدي عني انتي كمان كدابه... أنتو كلكم كدابين ... أنا بكرهكم كلكم سامعني بكرهكم
انكمشت جهاد مكانها بينما ارتسمت على وجه صفية ابتسامة باردة، كأنها تظن أن الكفة مالت لصالحها.
لكن شوق لم تتحرك ظلت تحدق في جبل بعينين غارقتين بالدموع وصوتها يرتعش وهي تقول:
يا جبل شوفني يا ابني.... شوف وشي... أنا أمك والله العظيم أمك... سنين وأنا بعيش في الوجع دا... على غيابك والنهارده بس عرفت الحقيقة.... الورج دا كله بين إيديك مش كلامي أنا
تأملها جبل للحظة ثم أنزل نظره إلى الأوراق في يده... أصابعه كانت تضغط عليها حتى كادت تتمزق ثم فجأة رماها على الأرض بعنف وصاح:
كفاية... كفاية كدب.. اطلعوا برا الأوضة دي كلكم حالا يلا.. يلا
تجمدت الوجوه وشوق شهقت بذهول وهي تهمس:
أنا أمك يا جبل... وهتصدج دلوجتي او بعدين.. انا متاكده انك هتتاكد اني امك في يوم من الايام.. اما انتي يا صفيه انتي وجهاد جسما بالله لـ هنتجم منكم بطريجه مستحيل تتخيلوها
أشار جبل بيده نحو الباب بعنف و صوته يخرج كالرعد مرددا:
برا كله يخرج من اهنيه يلا .. مش عايز أشوف وش حد فيكم تاني
تبادلت صفية وجهاد نظرات سريعة وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجه جهاد كأنها انتصرت، ثم انسحبتا مسرعتين من الغرفة تتبعهما نظرات أسد المتوترة.
أما شوق فظلت مكانها لحظة دموعها تنهمر في صمت، ثم همست قبل أن يدفع احد الحراس كرسيها نحو الباب:
هتعرف في يوم يا جبل... هتعرف إن كل كلمة جولتهالك كانت صوح
خرجت ببطء وصوت عجلات الكرسي كان آخر ما بقي منها في الغرفة وظل جبل واقفا مكانه وأنفاسه تتلاحق، وملامحه متحجرة كأن الصدمة جمدت دمه في عروقه.
فـاقترب منه أسد في حذر وصوته منخفض لكنه يحمل شيئا من الشك والبحث:
يا جبل... الورج دا كان شكله رسمي... يمكن فعلا الست دي أمك.
رفع جبل عينيه نحوه بنظرة حادة وصرخ:
لع يا اسد محدش يتكلم في الموضوع دا تاني... كفايه جوي الكدب ال انا كنت عايش فيه وانا مش حاسس
ثم استدار وخرج من الغرفة بخطوات سريعة، يترك خلفه أوراقا مبعثرة وقلوبا مهشمة بينما أسد ظل واقفا مكانه يحدق في الأوراق على الأرض وصوت قلبه يتمتم:
لو كانت فعلا أمك... يبجي كل حاجه في حياتك فعلا كدب وظلام يا جبل... انا لازم اعرف اي الحقيقه بالظبط بأي طريجه
وفي صباح يوم جديد في بيت اسد حيث وقف وسط الغرفة يطوي قمصانه واحدة تلو الأخرى، ووجهه جامد بلا تعبير، لكن عيناه كانتا تحملان بريقا حزينا يوحي أنه يحزم في الحقائب شيئا أثقل من الثياب... كأنه يلم بقايا عمر مضى فدخلت حورية ورددت باستغراب:
اسد... إنت بتعمل إي
رفع رأسه نحوها دون أن يتوقف عن طي القميص بين يديه، وقال بهدوء بارد يخفي وراءه زوبعة من الانكسار:
بحضر هدومي... همشي
خطت خطوة نحوه ونظراتها تبحث في وجهه كأنها تحاول أن تفهم نكتة ثقيلة لم تفهم بعد فرددت:
هتمشي؟ تروح فين؟
اسد بضيق؛
ــ مش مهم أروح فين... دا بيتك دلوجتي.. وانا همشي واكده هترتاحي مني
تجمدت الكلمات في حلقها للحظة قبل أن تقول بصوت مرتجف:
بيتـي... يعني إي الكلام دا يا أسد؟
وضع القميص في الحقيبة وأغلق السحاب بقوة كأنما يغلق باب على قلبه ثم التفت نحوها وقال بثبات مصطنع:
يعني خلاص، نحدد الميعاد ال يريحك للطلاج
تسمرت مكانها وصدمتها واضحة وصوتها خرج مبحوحا:
طلاج
اسد بضيق:
ايوه... مش دا ال انتي عايزاه من زمان؟ مش انتي جولتي لأختي لو مطلجتكيش هترفعي جضيه طلاج خلاص يا حوريه.. مدام العيشة بجت وجع جلب اكده.. خلينا ننهيها من غير فضايح ولا محاكم.
تحركت نحوه بخطوات بطيئة، تحاول أن تثبت نفسها أمام العاصفة التي بدأت تعصف داخلها، وقالت بنبرة تحمل كبرياء مكسورا:
تمام... طلجني دلوجتي.
توقف أسد والتفت نحوها و نظر إليها طويلا كأنه يحاول أن يحفظ ملامحها في ذاكرته للأبد، ثم قال بصوت منخفض متعب:
انتي متعرفيش أنا عملت إي علشانك يا حورية... كنت فاكر إنك هتكوني البيت ال أرجعله لما كل ما الدنيا تتقلب عليا. بس واضح إني غلطت... واضح إنك محبتنيش أبدا
ارتعشت شفتاها، لكنها تماسكت، وأجابت بعناد هادئ يخفي خلفه وجعا لا يوصف:
مدام خلاص اكده، طلجني دلوقجتي، مدام ناوي تمشي
ظل ينظر إليها بضع ثواني ووجهه يختلط فيه الحزن بالغضب والخذلان، ثم قال بصوت خافت كأنه يودع شيئا غاليا وهتف :
انتي طالج يا حوريه
لم تتحرك حوريه وظلت واقفة مكانها كأن الكلمة سقطت فوقها كصخرة من السماء اما هو فـ لم ينتظر ردها، أمسك حقيبته بيده، ألقى نظرة أخيرة على الغرفة التي كانت يوما شاهدة على ضحكاتهما، ثم اتجه نحو الباب بخطواتٍ هادئة كل خطوة فيها صوت انكسار وحين خرج وأُغلق الباب خلفه، انهارت حورية فجأة على الأرض.
وجلست على ركبتيها، ويدها تغطي فمها كي لا يخرج صوت بكائها، لكن الدموع كانت أسرع من أن تخفى.
ظلت تبكي بصمتٍ موجع، تنظر إلى الفراغ الذي تركه خلفه، كأنها لا تصدق أن البيت الذي امتلأ يوما بصوته صار خاليا إلا من صدى كلماته الأخيره اما عند جبل كان واقفا أمام باب غرفته، يحدق في الداخل بصمت ثقيل كأن بينه وبين الخطوة الأولى وادي من الشك والخوف. عيناه ثبتتا على غفران، الملقاة على السرير بملامح شاحبة ووجهها يغفو فوق وسادة بيضاء تشبه البراءة التي فقدها منذ زمن...فـ ظل واقفا، لا يدري أيقترب أم يترك المسافة تحميهما من جراح لم تلتئم بعد حتي تحركت غفران قليلا.. ثم فتحت عينيها ببطء، وحين رأته واقفا عند الباب همست بصوت مبحوح:
واجف ليه اكده.. تعالي يا جبل
دخل جبل بخطوات مترددة، كأن الأرض تخونه تحت قدميه وجلس على طرف السرير وهو يقول بنبرة خافتة:
انتي كويسة؟
ابتسمت بخفة باهتة وقالت:
الحمد لله.. كويسه جوي
ظل ينظر إليها طويلا ثم خرج صوته متعبا.. يحمل وجعا أكثر من الغضب:
خديني.. انتي ازاي بتتعاملي معايا عادي اكده بعد كل ال عملته فيكي
نظرت له بثبات هادئ وقالت ببساطة موجعة:
علشان بحبك... بس دا مش معناه إني سامحتك
وقفت نظراتها على عينيه وأضافت:
أنا لازم أفضل جمبك كل ال بيوحصل حواليك مش سهل، ومجدرش أسيبك في وجت زي دا
سكت لحظة، فتابعت بنبرة أكثر جدية:
شوق جالت إنها أمك صوح.. حاول تتأكد بنفسك يا جبل
ارتسمت على وجهه مرارة وهو يردد:
مستحيل... الكلام دا كله كدب وانا متاكد
اقتربت منه قليلا وقالت بجدية:
لع.. متخليش غضبك يعميك... عمتك ومرت عمك ميأمنوش، وهما أكتر ناس يجدروا يقلبوا الحقيقة. لازم تتأكد بنفسك
تنهد وقال بصوت خافت كأنه يهرب من الحقيقة:
هتأكد... مع إني عارف إن دا مستحيل...... بس معني كلامك دا إنك هتفضلي جمبي؟ ومش هتسامحيني
اعتدلت غفران في جلستها، ونظرت إليه بابتسامة حزينة وقالت:
أنا محبيتش حد غيرك في الدنيا دي يا جبل... ومجدرش أعيش من غيرك.... لكن لازم أبعد... بعد ما المشاكل دي تخلص.
تسمر في مكانه وعيونه اتسعت بدهشة:
تبعدي؟ إزاي يعني؟
قالت بهدوء غريب:
هسافر وعايز تطلجني... طلجني.... عايز تستنى؟ يمكن الزمن ينسيني ال حوصل ... يبجي خلاص يا جبل مفيش غير اكده.
نظر إليها بصدمة مكتومة، وصوته خرج مرتجفا:
انتي بتجولي إي؟!
غفران بدموع:
بجول ال لازم يتجال... دا الصح يا جبل... إحنا لازم نبعد.
اقترب منها خطوة بخطوة وصوته انكسر وهو يقول:
أنا آسف يا غفران، والله آسف... ومستعد أعمل أي حاجة علشان تسامحيني بس بلاش تبعدي.
هزت رأسها بعزم ضعيف وقالت:
دا الصوح يا جبل
اقترب أكثر و مد يده ولم يتمالك نفسه، ضمها إليه بعنف مليء بالرجاء وهو يهمس في أذنها:
متسبنيش... بالله عليكي متسبنيش.
لكن قبل أن تنطق دوى صوت صراخ من أسفل الدرج كان صوت الخادمة وهي تصيح بفزع:
الحق يا بيه... الحق يا بيه بسرعة
انتفض جبل وجرى نحو الباب، نزل الدرج بخطوات سريعة، وعيناه تائهتان حتى توقف فجأة عند المشهد أمامه...كان أسد واقفا في منتصف الصالة، وجهه شاحب وصوته مبحوح وهو يقول:
انا آسف يا جبل... بس في أمر بالقبض على غفران و
↚
كانت الساحة أمام مديرية الأمن تضج بالصوت والعيون والدهشة...جنود وعساكر مصطفون في صفوف متوترة، وأهل القرية محتشدون على الجانبين، يتهامسون بوجوم وقلق، بينما الغبار يرتفع في الهواء مع كل حركة وفي منتصف المشهد، وقف أسد ببدلته العسكرية، وجهه غاضب يشتعل بالنار، يقابله جبل بالبذلة ذاتها، ملامحه متصلبة كصخر الجبل الذي ولد منه اسمه، ويداه ترتجفان من الغضب المكبوت فـ رفع أسد صوته صارخا:
دا أمر يا جبل.... أمر ولازم يتنفذ
اقترب منه جبل بخطوات غاضبة، وصوته خرج كالرعد:
أمر؟! أمر إنك تقبض على مرتي يا أسد... بتجولي أمر اي امر دا
ثم أشار بإصبعه نحوه، وملامحه تشتعل:
جمال مات يا أسد.... مات بإيده، دا انتحر مش مجتول
شدد أسد نفسه للوراء ورد بعصبية لا تقل عن صاحبه:
الكلام دا تجوله في التحقيق يا جبل... جالنا بلاغ رسمي إنه اتجتل، والبلاغ موجه ضد مرتك، وأنا لازم أنفذ الأمر، وانت عارف اكده كويس.. مجدرش اعترض
صرخ جبل بحدة:
تبجي مجنون لو صدجتهم... دي مؤامرة
اقترب أسد خطوة أخرى، واشتعلت العيون بينهما كشرارة أولى لحرب، ثم فجأة، اندفع جبل ودفعه بيده بقوة فرد أسد بلكمة في صدره... فارتد جبل نصف خطوة إلى الخلف، لكن سرعان ما رد الضربة بمثلها، لتتعالى الصيحات حولهما مرددين:
: يا بيه حرام
: يا أسد بيه وجبل بيه مينفعش اكده اهدوا
: العساكر يا ولاد، ابعدوهم عن بعض
لكن لم يجرؤ احدا على التدخل، كانت الهيبة تحيط بهما كجدار من الخوف، حتى تدخل احدهم بصوت أعلى منهما جميعا صاح صوت جهوري قادم من خلف الصفوف مرددا:
كفاااية... انتباه انتوا الاتنين
تجمد كل شيء والتفت الجميع نحو اللواء فؤاد الذي خرج بخطوات حازمة، ووجهه يشتعل غضبا ووقف أمامهما، وصوته يقطع الهواء قائلا :
أنتو ناسيين نفسكم انتوا فين... انتوا جدام مديرية الأمن؟! دا منظر ضباط من اعلي القاده اهنيه
أسرع كلّ من أسد وجبل إلى الوقوف في انتباه، ثم رفعا أيديهما مؤديين التحية العسكرية، بينما ما زال العرق يقطر من جبينهما فتقدم اللواء خطوة نحو جبل، وقال بنبرة صارمة:
ــ يا جبل، إنت لسه راجع الخدمة بعد ال حوصل، بلاش تبوظ كل حاجة من أول يوم. لو مرتك بريئة، التحقيق هيجول اكده، وهتخرج فورا.... أما دلوجتي... فإنت ال هتطلع المأمورية دي بنفسك
رفع جبل رأسه، وصوته خرج مبحوحا :
مجدرش يا فندم... مش هجدر أسيبها لوحدها، لازم أكون معاها.
فجاء الرد كصفعة عسكرية حاسمة:
دا أمـــر يا حضرت الظابط
صاح اللواء فؤاد بعنف و جعل الجنود يرتجفون ثم اكمل:
إنت وأســد هتروحوا مع بعض المأمورية، ومش عايز أسمع ولا كلمة زيادة مفهوم
تبادلا نظرات مشتعلة، ثم أديا التحية العسكرية في صمت ثقيل، كأنها تحية وداع قبل معركة لا تعرف نهايتها وسارا معا نحو العربات بملامح متحجرة وفي الجهة الأخرى من الساحة، كانت جهاد تقف بين صفية وسلمي، وابتسامة نصر باردة ترتسم على وجهها وهي تتابع المشهد من بعيد.
وقالت وهي ترفع ذقنها بزهو شيطاني:
دلوجتي بس خدنا بتارنا يا صفية... بتار جمال وجبل هيرجع لحضننا تاني ويتجوز هو وسلمي وكل حاجه تبجب تمام
نظرت إليها سلمي بضيق مكتوم، وكأنها غير راضية عما يحدث، لكنها لم تنطق، واكتفت بنظرة صامتة تائهة بين الخوف والندم ولم تلاحظ أي منهن الشخص الذي وقف بعيدا في ظل عمود حجريّ على جانب الشارع...
رجل يرتدي معطفا داكنا عيناه تتابع المشهد بصمت قاتل، وكأنه يعرف ما لا يعرفه أحد وهو ينفخ دخان سيجارته ببطء وقال همسا لنفسه:
دا انتوا شياطين مش بني ادمين.. مستحيل تكونوا بشر زينا بس معلش.. انا هوريكم هعمل فيكم اي
وبعد فتره كانت شوق جالسة في ركن غرفتها العتيقة، على كرسيها المتحرك الذي صار شاهدا على كل ما خسرته، والشرر يتطاير من عينيها الغائرتين كجمر تحت رماد هادئ
والغرفة تغمرها رائحة البخور والقلق، وصوت عقارب الساعة يضرب في الصمت وأمامها وقف شاب في منتصف الثلاثينيات، طويل القامة، ملامحه حادة كأنها منقوشة من صخر الصعيد نفسه و في عينيه بريق غامض يدل على ذكاء فطري وخطر كامن... كان هذا رسلان ابنها الآخر، وأخو جبل من الأم فقالت شوق بغضب مكتوم وهي تشد على ذراع كرسيها بعنف:
ازاي يعملوا اكده في مرت ابني يا رسلان؟! ازاي يظلموا البنت دي بالشكل دا
اقترب منها رسلان بخطوات واثقة، وصوته خرج هادئا لكنه يحمل نغمة استنكار:
انا بس عايز أفهم حاجة يا أمي... جمال دا انتحر ولا حد جتله فعلا؟
نظرت إليه شوق للحظة طويلة، وعيناها تلمعان بالمرارة، ثم قالت ببطء:
معرفش يا رسلان... والله ما اعرف. بس ال أنا متأكده منه إن في لعبة كبيرة بتتعمل حوالينا، والبنت دي مظلومة، مرت أخوك معملتش حاجه
تنهد رسلان، ومد يده يمسح على ذقنه بتفكير، ثم قال:
يعني عايزاني أعمل إي دلوجتي يا حجه
حدقت فيه بعزم مفاجئ، وصوتها ارتفع بثبات :
تعمل ال لازم يتعمل يا رسلان... دي مرت أخوك، والدم ميهونش.... واجبك تحميها وتكشف مين ورا المصيبة دي، سواء كانت صفية ولا جهاد ولا غيرهم
اقترب منها أكثر ثم جثي على ركبتيه أمام الكرسي و أمسك يدها بحنان خشن وقال بصوت خفيض:
حاضر يا حجه ... متخافيش. وعد مني مش هخرجها
ثم انحنى وقبل يدها بخشوع، بينما دمعة خفية انزلقت من عينها وسقطت على شعره قالت وهي تلمس وجهه المرتبك:
رسلان... حمايه اخوك ومرت اخوك في رجبتك يا ابني اوعي حد منهم يوحصله حاجه انا عارفه انك قد المسؤوليه
نهض رسلان ببطء ونظر إليها نظرة طويلة فيها مزيج من القوة والشفقة، ثم خرج من الغرفة بخطواتٍ ثقيلة تحمل نية لا رجوع عنها وظلّت شوق صامتة لثواني قبل أن تتحرك بعصبية وتضرب بعصاها على الأرض، وصوتها يخرج غاضبا مليئا بالقهر والانتقام:
جهاد... صفية... جسما بالله ما هسيبكم تعيشوا في أمان بعد النهارده... فاكرين إنكم كسبتوا؟ لع والله... استنوا عليا لعبتكم انتهت خلاص
ثم نظرت نحو الباب الذي خرج منه رسلان وبعد عدت ساعات كانت سماء الليل تشتعل شررا فوق أرض المواجهة وأصوات الرصاص تمزق السكون، وصيحات الجنود تختلط بصدى الانفجارات الصغيرة التي تهز المكان. كان أسد يقف في الصف الأمامي، مرتديا بدلته العسكرية الملطخة بالغبار، وصوته يجلجل وسط الفوضى:
خدوا الغطا... محدش يتحرك إلا بإشارتي
كان جبل إلى جواره، عيونه تترقب كل حركة، ونبضه يتسارع كلما اقتربت النيران منهم. والغبار كان كثيفا ورائحة البارود تملأ الهواء فـأطلق جبل طلقة سريعة على أحد المجرمين المختبئين خلف جدار مهدم، ثم ركض ليغطي أحد الجنود المصابين وفجأة، رأى أسد أمامه رجلا يرفع سلاحه نحوه مباشرة. لم يكن هناك وقت للتفكير، فاندفع جبل بكل قوته وصرخ بصوت حاد:
خد بالك يا أسد
ثم أطلق النار، فسقط المجرم أرضا قبل أن يضغط على الزناد. التفت أسد نحوه، وصاح بانفعال:
انت مجنون.... كنت ممكن تموت اكده
ـنظر جبل اليه بعصبيه وهتف:
لع اسيبك انت تموت صوح يلا خد بالك
استعادا الاثنين موقعيهما وسط المعركة، يتبادلان إطلاق النار مع من تبقى من العصابة. لكن فجأة، من زاوية بعيدة، خرج رجل مقنع، يحمل سلاحا موجها نحو جبل. كان على وشك إطلاق النار حين اندفع شخص مجهول من بين الظلال، ألقى بنفسه أمام جبل وتلقى الرصاصة في كتفه فـتجمد جبل في مكانه، وصاح:
انت مين عاد
لكن الرجل لم يرد، كان يضع قناعا أسود يغطي وجهه بالكامل، والدم يسيل من كتفه وقبل أن يتمكن جبل من الاقتراب، ظهر رجلان مسلحان يرتديان ملابس سوداء، أطلقا قنابل غاز خفيفة غطت المكان بسحابة بيضاء خانقة فـسعل الجنود والمجرمون، واضطربت الرؤية. وسط الفوضى وسحب المسلحان الرجل المصاب واختفوا بسرعة مذهلة بين الأنقاض فـحاول جبل اللحاق بهم، لكن أسد أمسك بذراعه وهتف:
سيبهم دلوجتي، المأمورية لسه مخلصتش
أومأ جبل بعنف، وعاد للقتال. وبعد دقائق طويلة من النار والصراخ، خمدت المعركة أخيرا وسقط المجرمون واحدا تلو الآخر، وتم تقييد الباقين فـوقف أسد يمسح العرق عن جبينه وقال:
المأمورية نجحت... بس انت شوفت الراجل ال أنقذك؟! مين دا مش مننا
تنهد جبل بصوت مبحوح وعينيه زائغتين:
مشوفتش وشه .. معرفوش... أو يمكن... يمكن لو كنت شوفت وشه اعرفه
ثم التفت نحو الأفق، حيث اختفى الرجل المقنع، وشعور غامض بالارتباك والخطر ينهش صدره وبعد فتره بسيطه كان جبل جالسسا في مكتبه... وجهه متجهم وملامحه مشدودة ، وصوت خطواته يتردد في الغرفة بينما يتحرك بعصبية ذهابا وايابا فجأة ألقى سلاحه على المكتب بقوة، فارتطم المعدن بخشب المكتب وأصدر صوتا حادا كأنه يعكس ما بداخله من غضب وضياع وجلس على الكرسي، يمرر يده في شعره بتوتر، وصدره يعلو ويهبط بسرعة. لم يكد يلتقط أنفاسه حتى دخل أحد العساكر بخطوات مترددة، وأدى التحية العسكرية قائلا:
فيه حاجة حضرتك لازم تشوفها يا فندم
رفع جبل نظره إليه بحدة مرددا:
فيه إي تاني
تقدم العسكري بخطوات حذرة، ووضع شيئا صغيرا على المكتب قائلا:
السلسلة دي يا فندم شوفناها في موقع الحادث... في نفس المكان ال اتصاب فيه الشخص ال أنقذك، واحتمال تكون بتاعته
مد جبل يده ببطء والتقط السلسلة ونظر إليها لثواني طويلة، ثم قلبها بين أصابعه حتى لمحت عيناه اسما محفورا بخط صغير وواضح:
" رسلان "
تجمد للحظة، وصوته خرج هامسا وهو يقرأ الاسم بدهشة:
رسلان.... مين رسلان دا
بدا الاسم مألوفا بطريقة غريبة، كأنه يوقظ ذكرى قديمة مطموسة في أعماقه. وبقي ينظر إلى السلسلة طويلا وعيناه تلمعان بين الحيرة والصدمة، قبل أن يغلق قبضته عليها بقوة ويهمس:
وهو ينقذني ليه عاد ... بيني وبينه اي علشان يضخي بحياته علشاني
وفي الجانب الآخر من المدينة، كان الهدوء يخيم على بيت شوق. وصدى العكازات وعجلات الكرسي المتحرك يملأ الممر الطويل، حتى توقفت أمام باب الغرفة، وفتحته ببطء ووجهها شاحب وقلق حيث رأت ابنها رسلان مستلقيا على الفراش، عاري الكتف، بينما الأطباء منشغلون بعلاج جرحه. كانت أنفاسه ثقيلة، وقطرات العرق تتصبب من جبينه فـ اقتربت شوق وهي ترتجف:
يا حكيم ... هو هيبجى كويس صوح
رفع الطبيب رأسه بنبرة مطمئنة وهتف:
إحنا بنعمل ال علينا يا حجه شوق، وإن شاء الله خير... الإصابة في الكتف ومش خطيرة جوي، بس محتاج راحة ومتابعة دقيقة
أمسكت شوق بطرف الكرسي بعصبية وقالت:
ابني لازم يبجى كويس... فاهم؟ أي حاجة تطلبها هعملها، لو عايز أجهزلك الأوضة دي تبجى مستشفى هعمل اكده... بس خليه يجوم على رجليه تاني بالله عليك
ابتسم الطبيب بلطف وقال:
متخافيش يا حجه...رسلانطول عمره قوي وهيعدي منها إن شاء الله
نظرت شوق إلى وجه رسلان بدموع محبوسة وهمست بصوت مرتعش:
يارب... يارب يبجي كويس... استرها معاه يارب واشفيه وعافيه
القت شوق كلماتها ثم أسندت رأسها على المقعد، وصوت جهاز التنفس في الغرفة هو الوحيد الذي كسر صمتها الثقيل وفي صباح يوم جديد حيث جلست غفران في زنزانتها، تبكي بصوت خافت يقطع سكون الحجارة الباردة، والدموع تسيل على خديها كما لو أن الليل نفسه يبكي معها. كانت أصابعها تحيط بصلابة بحافة المقعد الحديدي، وكأنها تبحث عن شيء يثبتها وسط توابيت الهموم التي أحاطت بها حتي انفتح الباب ببطء ودخل جبل كانت خطواته هادئة لكن نظراته مشتتة بين الحزن والغضب. فـ علا وجه غفران نور من الهلع والرجاء، فاندفعت ناحيته بلهفة واحتضنته، وانهارت تبكي وتهمس بلهجة مكسورة:
جبل… جبل أنا معملتش حاجة والله ما عملت حاجه
مسح جبل دموعها براحته القاسية الحانية، وقال وهو يحاول أن يخفي ارتباك صوته:
عارف يا غفران… اهدي، انا عارف كل حاجة… استحملي شوية وبس
انهمرت الدموع من عينيها أكثر، وبدافع الرجاء قالت:
خرجني يا جبل…بالله عليك خرجني من اهنيه ابوس يدك
نظر جبل إليها طويلا ثم همس:
والله هطلعك… انا أصلا بعمل كل دا علشانك
ارتعشت شفاهها بصدمة وفضول ورددت:
ازاي يعني... هو انت بتجول اي
تلعثم جبل قليلا، ثم قال باختصار حازم:
هتعرفي بعدين… بس افتكري حاجة واحدة، كل حاجة بتحوصلك دلوجتي في مصلحتك
ضمها جبل وكأنه يريد أن ينقل لها بعضا من قوته، ثم تراجع نحو الباب وهو يقول:
هرجعلك، وهجيبلك حد بتحبيه يجعد معاكي علشان متجعديش لوحدك اهنيه
هزت رأسها وشدت أزرته بضعف، وهو خرج مغلقا الباب خلفه بخطى حازمة وبعد فترة في مكتبه، كان جبل يمر بأوراقه متوتراً، وقد وضع سلاحه جانبا بعد ليلة طويلة من التفكير. لم يكد يلتقط أنفاسه حتى انفتح الباب بعنف ودخل أسد معلنا غضبه، فانقض عليه وكأن نفسه انفجر، ووجه له لكمه على وجهه يصحبها صرخة غاضبه مرددا:
انت مجنون... بتحبس مرتي إزاي تعمل اكده
ابتسم جبل وهو يمسح على وجهه محاولا كتم ضحكة ساخرة.. فرد برد هادئ مائل للسخرية:
مرتي جاعدة لوحدها في الحبس، ودي تهمة بسيطة، يومين وهتطلع، هظبط كل حاجة وهتخرج ان شاء الله متخافش
تفحص وجه أسد بعينين حادتين وقال بغضب متصاعد:
تهمة سرقة بسيطة؟
جبل ببرود:
لسه مظهرتش سرقة ولا حاجة يا اسد بس لو حاولت تخرجها ، والله لهبسها الجضية مع غفران وبعدين لسه مفيش حاجة ثابتة… انا هشوف كل حاجة وهظبطها، وسيبها عليا بس
امتد الغضب في صوت أسد صارخا:
والله انت ما عندك دم تصدج بالله انت موتك هيبجي علي ايدي
وفي تلك اللحظة انفتح الباب مجددا ودخل عسكري يؤدي التحية العسكرية بنبرة رسمية:
تمام يا فندم.... اللواء فؤاد عايزكم فورا في المكتب بتاعه
تبدلت ملامح أسد فجأة من اشتعال الغضب إلى الانضباط العسكري، بينما لمح جبل فرصة للتهرب من المواجهة ورفع جبل رقبته مبتسما بمكر خفيف وقال:
يلا بسرعة… اللواء عايزنا
نظر اسد بغضب ثم خرجا معا من المكتب و ما زال هو محموم الغضب في عينيه، وجبل يضحك بصوت خافت كمن يخبئ خطة ما في صدره
وفي صباح يومٍ جديد، تسلل ضوء باهت من بين شقوق جدران متآكلة، تتدلى منها خيوط العنكبوت، ورائحة الرطوبة تخنق الأنفاس ففتحت جهاد عينيها بتثاقل، واحتاجت لحظات لتفهم أين هي. المكان كان موحشا، جدرانه داكنة كأنها ابتلعت النور منذ زمن، وصوت الماء يتساقط من السقف فـ حاولت أن تتحرك، لكن جسدها لم يطاوعها فنظرت إلى قدميها وشهقت بفزع مكتوم... كانت مربوطة بسلاسل حديدية غليظة، أثقلت كاحليها حتى صارت كأنها امتداد للأرض فصرخت بكل قوتها:
يا ناس حد يلحقني... فين الناس انا ازاي جيت اهنيه
تردد صوتها داخل الجدران كأنها تصرخ في بئرٍ بلا قاع. ثم فجأة سمع صوت خطوات قادمة ببطء، رتيبة كأنها تدق طبول النهاية. وارتجف قلبها، وعيناها تتبعان الظل الذي أخذ يتضح شيئا فشيئة، حتى انكشف وجه جبل أمامها..... حيث كان واقفا بثبات، ووجهه جامد لا يحمل أثرا للعطف، لكن في عينيه نارا تشع كأنها تعوض كل البرود الذي على ملامحه فـ ابتسم ببرود قاتل وقال:
إي يا عمتي... فاكرة إنك اكده انتجمتي من مرتي
تلعثمت وهي تحاول تدارك أنفاسها وهتفت:
انت... انت بتعمل إي اهنيه يا ابني
اقترب منها خطوة بخطوة، وصوته صار أهدأ لكن أشد وطأة وردد بحده:
هو انتي متعرفيش... إني أنا ال جتلت جمال أصلا... زي ما هجتلك دلوجتي
صرخت جهاد وهي تبكي، تحاول شد السلاسل بكل قوتها مردده:
لع يا جبل إنت متعملش اكده! أنا عارفاك كويس... إنت زي ابني
اقترب جبل اكثر، وانحنى قليلا حتى صار وجهه أمام وجهها مباشرة، وقال بنبرة منخفضة تفيض غضبا مكتوما:
لع .. انتي عمرك ما عرفتيني يا عمتي بس أحب أعرفك بنفسي...أنا ظلام الصعيد ال معيشكم فيه طول عمري من غير ما تحسوا مستحيل اسمحلكم تشوفوا النور
القي جبل كلماته ثم مد يده إلى جيبه وأخرج مسدسا أسود، لمع بريقه في الضوء الخافت. لم تمهله جهاد لتصرخ مرة أخري حيث دوى صوت الرصاصة في المكان، وسقطت جهاد على الأرض، والدم ينساب ببطء تحتها...بينما وقف جبل صامتًا، ينظر إليها بنظرة لا تقرأ، قبل أن يستدير بخطوات بطيئة، تاركا وراءه الصدى الأخير لصوت الرصاصة و
↚
كان الصباح ثقيلاً في أروقة المستشفى والهدوء يلف المكان كغيمة من القلق حيث وقف جبل بجوار أسد أمام غرفة العمليات، ملامحه متحجرة كعادته، وعيناه تترقبان أي حركة من بعيد. وفجأة، اخترق الصمت صوت خطوات مسرعة وصراخ مختنق:
جبـــل
ركضت غفران نحوه، ودموعها تملأ وجهها، قبل أن تلقي بنفسها في حضنه باكية:
جبـل... أنا خرجت خرجوني من الحبس الحمد لله ... بس إزاي؟ إزاي خرجت اكده
ضمها جبل للحظة، وصوته خرج منخفضا لكنه ثابت:
علشان كل الأدلة طلعت مش ضدك يا غفران... الموضوع اتجفل خلاص.. ومغيش اي حاجه هتوحصلك تاني
ثم التفت نحو حورية التي كانت تقف خلفها، وقال بنبرة اعتذار خافتة:
آسف يا حورية... مكانش جصدي أحبسك معاها بس كنت خايف عليها انا عارف اني كنت اناني جوي في الموضوع دا سامحيني
ابتسمت حورية رغم إرهاقها، ورددت بهدوء:
أنا مش زعلانة يا جبل... المهم إني كنت جمب صاحبتي وجتها وخلاص
ثم التفتت إلى أسد الذي ظل واقفا يراقب المشهد بعينين ضيقتين وقال بصوت خافت:
إنتي كويسة؟!
أومأت برأسها، ومسحت دموعها قائلة:
الحمد لله... بس جولوا.. حوصل إي؟
تبدلت ملامح أسد، وأخفض صوته وهو يقول بثقل:
حد ضرب الحجة جهاد بالنار ومنعرفش مين عاظ.. بس از شاء الله خير
شهقت غفران بقوة وهي تضع يدها على فمها، بينما تجمدت حورية في مكانها، عيناها تائهتان بين الخوف والذهول. ولم تمر ثواني حتى خرج الطبيب من الغرفة، فاندفع نحوه جبل بسرعة يسأله بلهجة متوترة:
طمنا يا حكيم .. الحجه عامله اي عاد
تنهد الطبيب ببطء وأجاب بجدية:
الإصابة كانت جمب العمود الفقري يا فندم... للأسف الرصاصة عملت ضرر كبير الحجة حصلها شلل، ومش هتقدر تمشي تاني
ساد الصمت للحظات، كأن الزمن توقف داخل الممر. واتسعت عينا غفران، وارتجفت شفاه حورية، أما أسد فاكتفى بإغماض عينيه في صدمة مكتومة أما جبل، فقد ظل واقفا في مكانه، ملامحه لا تتحرك، جامدة كالصخر، وصوته اختفى خلف بحر من الغضب المكبوت فتحرك الطبيب بعدها بهدوء مغادرا المكان، فالتفت أسد إلى حورية قائلا بلهجة عملية:
خدي غفران وروحوا... السواج مستني تحت يلا
هزت غفران رأسها بعناد، واقتربت من جبل ورددت:
أنا عايزة أفضل اهنيه معاك يا جبل
نظر إليها بجمود وقال بنبرة حازمة لا تحتمل نقاشا:
روحي يا غفران.... ارتاحي انتي احسن وأنا محتاج أظبط أمور كتير
أخفضت رأسها في صمت، ثم غادرت مع حورية بخطوات مترددة، حتى اختفى صدى أقدامهما في الممر الطويل... عندها، التفت جبل ليغادر هو الآخر، لكن أسد مد يده فجأة وأمسك بذراعه بقوة، وعيناه مشتعلة شكا وغضبا:
استني.... إنت ال عملتها يا جبل؟! جولي الصراحه
سحب جبل ذراعه ببطء من قبضته، ونظر إليه ببرود قاتل وهتف :
ولو كنت أنا... هتعمل إي؟ هتوجف مع مين يا أسد
صمت أسد، وتجمد في مكانه، لا يجد ما يقوله، بينما أضاف جبل بحدة قبل أن يدير ظهره:
خلينا نروح نشوف شغلنا... لسه ال جاي كبير جوي
ثم مضى بخطوات ثابتة نحو الممر تاركا خلفه أسد غارقا بين الشك والخوف، وصوت خطواته يتردد كأنه وعد بالدم وبعد فتره في بيت شوق... كان يقف جبل إلى جوار أسد أمام الباب الداخلي وعيناه تتفحصان الجدران العريقة والزخارف الباهتة التي غطاها الغبار، بينما في صدره شعور غريب بالضيق، وإحساس يلسع ذاكرته كأن شيئا في هذا المكان يعرفه أكثر مما يعرف نفسه فمرر يده على الحائط ببطء وهمس في داخله:
أنا شوفت البيت دا قبل اكده... متاكد اني شوفته كتير جوي كمان بس ليه مش فاكى
وفجأة انفتح الباب الداخلي وخرج رسلان بخطوات واثقة. كان عاري الصدر وكتفه ملفوف بضمادة بيضاء مشدودة بعناية، ما زال أثر الجرح واضحا فيها ونظر إليهما بعينين حادتين تحملان مزيجا من الفضول والحذر، ثم قال بصوت منخفض لكنه ثابت:
يا ترى إي سبب الزيارة دي يا حضرات
تبادل جبل وأسد نظرة سريعة قبل أن يجيب أسد بنبرة رسمية:
جاين نشوف الحجة شوق... وإنت مين عاد
ابتسم رسلان ابتسامة جانبية فيها كبرياء الصعيدي وقال بثقة:
أنا ابنها.. اكيد مش عارفني و
لم يكد ينهي كلمته حتى ظهرت شوق من داخل الغرفة، تجلس على كرسيها المتحرك، يرافقها الحارس الذي يدفعها بخفة. كانت ملامحها متماسكة رغم التجاعيد التي رسمها الزمن، ونظرتها حادة كمن يرى ما وراء الوجوه. قالت بصوت جهوري ثابت:
نورتونا .. اتفضلوا.
نظر إليها جبل لثواني، كأنه يحاول أن يقرأ ملامحها، ثم قال ببطء:
أنا متأكد إنك مش أمي... بس لازم نتأكد بنفسنا.
وقبل أن ترد شوق، تدخل رسلان بضيق:
اتأكد من الورج ال معاك يا حضرة الظابط... شوف إذا صوح ولا غلط
تقدم أسد خطوة وقال بحدة:
الورج مش كفاية... الكلام دا محتاج دليل أقوى.
رفعت شوق يدها بإشارة هادئة نحو الحارس، فاقترب الرجل وفتح اللابتوب الموضوع على الطاولة. لم تمضي ثوانٍ حتى ظهر على الشاشة فيديو واضح لصوت وصورة صفية وجهاد وهما تتحدثان، وصوت جهاد يقول بوضوح:
أيوه، جبل ابن شوق... وكل ال حوصل كان علشان نخبيه عن الحقيقة دي
ساد الصمت لوهلة، ثم رفع رسلان نظره نحو جبل وقال ببرود ساخر:
اكده اتأكدت ولا لسه؟
أغمض جبل عينيه لحظة، يحاول السيطرة على اضطراب أنفاسه، ثم فتحهما وقال بصوت خافت ثابت:
لسه... بس الباجي هيكون عليا انا.. انا ال هتاكد بنفسي
ثم أدار جسده بحدة نحو الباب مردفا:
عن إذنكم.. يلا يا اسد
تحرك معه أسد بخطوات متوترة، لكن قبل أن يخرجا، قالت شوق بصوت قوي يخترق الصمت:
يا رسلان... وصلهم يا ابني.
تجمد جبل في مكانه، وعيناه اتسعتا قليلاً حين سمع الاسم... الاسم ذاته المنقوش على السلسلة التي وجدها في موقع المعركة والتفت ببطء نحو رسلان، الذي بادله نظرة غامضة فيها شيء من التحدي وكأنه يعلم ما يدور في عقله فمد أسد يده بسرعة وأمسك بذراع جبل هامسا:
يلا يا جبل... واسكت دلوجتي... اي رد فعل هتعمله مش هيكون في مصلحتنا
القي اسد كلماته وسحبه من ذراعه نحو الباب، بينما كان جبل يلتفت خلفه مرة أخيرة، عيونه تلاحق رسلان، والسلسلة في ذاكرته تلمع كالسكين في الظلام...وخرج الاثنان من البيت وفي المساء كانت غفران نائمة في سكون عميق، والضوء الخافت القادم من المصباح الصغير ينساب على وجهها بهدوء حيث دخل جبل الغرفة بخطوات مترددة، وملامحه متعبة كأن الأيام أثقلت كتفيه. وخلع قميصه ووضعه على المقعد القريب، ثم اقترب منها ببطء، وعيناه لا تفارقان ملامحها وكأنه يخشى أن تكون مجرد حلم فجلس بجوارها ومد يده يلامس خدها برفق شديد... ففتحت غفران عينيها على مهل، وما إن رأته حتى ابتسمت ابتسامة صغيرة، كأنها وجدت الأمان أخيرا وقالت بصوت خافت:
جيت؟ كنت حاسه إني هصحى ألاجيك
ابتسم وهو يمرر أنامله على شعرها قائلا:
مل الايام ال فاتت دي مجدرتش أنام وانتي مش جمبي… كل لحظه وانتي في الحبس كنت بحس اني بموت وان جلبي بيتحرق
اقتربت منه أكثر، ووضعت رأسها على صدره العاري، تستمع لدقات قلبه القوية مردده:
كفاية إنك اهنيه دلوجتي، خلاص، كله عدى
رد عليها جبل بصوت دافئ:
فعلا عدي الحمد لله
ظلا على حالهما لحظات صامتة، لا يسمع فيها سوى أنفاسهما المتقاربة، إلى أن انفتح باب الغرفة فجأة، فانتفض جبل قليلا، والتفت ليجد صفية واقفة عند العتبة بوجه جامد وقالت بصرامة:
عايزاك ضروري يا جبل
تنهد بتعب ورد وهو يمسك يد غفران برفق:
بكره يا مرت عمي، أنا تعبان… ومجدرش أسيب غفران لوحدها دلوجتي.
نظرت له صفية بضيق واضح، ثم خرجت دون كلمة فـ التفتت غفران نحوه قائلة بابتسامة خفيفة:
كنت روحلها وانا هستناك
ضحك قليلا وقال وهو يستلقي بجانبها:
لع... انتي أهم… أنا مش عايز أسيبك لحظه تاني
وضعت رأسها مجددا على صدره، وسألته بصوت خافت:
شوفت أمك؟
أجاب بعد لحظة صمت قصيرة، وعيناه تتأملان السقف:
شوفت أخوي… طلع شاب في سني تجريبا... قوي وشكله حلو كمان وذكي.. عرفته أول ما شوفته، جلبي جالي هو ال أنقذني واتاكدت لما سمعت اسمه
ابتسمت غفران برقة وقالت:
حبيته.
ابتسم هو الآخر وهمس:
أيوه… حبيته جوي كمان. بس هما لسه ميعرفوش إني مصدجهم، بس إن شاء الله… هيعرفوا جريب جوي.
أغلقت عينيها وهي تشعر بدفء حضنه، فيما ظل هو ينظر إليها
وبعد منتصف الليل ساد السكون أرجاء البيت إلا من أنفاس غفران الهادئة وهي نائمة إلى جوار جبل. كان القمر يتسلل بنوره الفضيّ عبر النافذة، يلامس وجهها برفق حيث فتح جبل عينيه ببطء، كأن شيئا ما أيقظه فجأة، فجلس على طرف السرير يتأملها لحظة، ثم نهض بهدوء كي لا يوقظها، وارتدى قميصه وغادر الغرفة وخطا في الممر الطويل بخطوات بطيئة حتى وقف أمام باب صفية. طرقه بخفة، ثم فتحه قليلا… لم يجدها. رفع حاجبه بتعجب وهمس:
راحت فين دي في نص الليل؟
تحرك نحو باب البيت، لكن صوت خطوات خافتة آتت من الخارج جعله يتوقف عندما رأى صفية خارجة من البوابة تمسك بهاتفها وتتكلم بعصبية، تتحرك يمينا ويسارا فـ ابتسم جبل بسخرية وقال بصوت منخفض:
هتهربي مني على فين يا مرت عمي؟
اقترب أكثر وهو يحاول الاستماع، لتتسلل كلماتها إلى أذنه بوضوح. كانت ترتجف وهي تقول في الهاتف:
هو عرف… جبل عرف كل حاجه! أكيد عرف إن أنا وجهاد ال جتلنا أبوه… وبعدناه عن أمه. وكنا عارفين إنه السبب ال خلاه يفقد نظره، دلوجتي هيجتلني، لازم أهرب!
وفجاه دوى صوت قوي من بعيد، وصافرة فرامل تملأ المكان، ثم ارتطام عنيف حيث سقطت صفيه غارقه في دماءها
اما عند أسد، الذي كان يدخل شقته بعدما فتح الباب بهدوء، لكنه توقف مصعوقا… كل شيء في الشقة مقلوب، الأثاث متناثر، الزجاج مكسور، والستائر ممزقة فتراجع خطوة للخلف وهو يتمتم بقلق:
إي ال حوصل اهنيه
مد يده إلى سلاحه بسرعة، وسار بحذر داخل الشقة، حتى سمع صوتا خافتا قادما من غرفة النوم و دخل بخطوات متوترة، وعيناه تتجولان في الظلام… وفجأة، تجمد كان هناك دم على الأرض، وبجواره ورقة مطوية. التقطها بيده المرتجفة وقرأ:
مرتك معانا
تجمدت أنفاسه، وارتسمت على وجهه صدمة عميقة، قبل أن يتغير المشهد مرة أخرى عند جبل الذي دخل غرفته بخطوات سريعة، وصدره يعلو ويهبط من القلق وعندما فتح الباب، وقف مذهولا…كانت الغرفة مقلوبة رأسا على عقب، والستائر ممزقة، وعلى السرير بقعة دم واضحة فـ اقترب بخطوات مترددة، التقط ورقة كانت موضوعة بعناية فوق الوسادة قرأها بصوتٍ منخفض وهو يلهث:
مرتك عندنا و
↚
كانت سلمى تجلس خلف المقود.... أنفاسها تتلاحق، ودموعها تختلط بعرقها، وعيناها لا تكفان عن النظر في المرآة الخلفية حيث أضواء سيارة سوداء تقترب منها بسرعة هائلة وقلبها يخفق بعنف وصوت المحرك يعلو كصرخة يائسة فـ همست بخوف وهي تضغط على المقود:
يارب... يارب و
لكن قبل أن تكتمل دعواتها انحرفت السيارة خلفها لتغلق الطريق أمامها فجأة، فاصطدمت سلمى بالمكابح بقوة، لتتوقف العربة في منتصف الطريق وهي تلهث برعب وفتح باب السيارة الأخرى بعنف ونزل منها رسلان بخطوات سريعة غاضبة... وجهه مشحون بالتوتر وكتفه ما زال ملفوفا بضمادة تتسرب منها قطرات الدم واقترب منها وفتح بابها بعنف... وأمسك بذراعها بقوة وهتف بصوت غاضب هز الصمت من حولهما:
انتي بتعملي اكده ليه عااد..وفين حورية وغفران انا عارف انك انتي ال خدتيهم
صرخت وهي تحاول الإفلات من قبضته، والدموع تنهمر من عينيها:
مش هسيبهم! أنا أمي اتشلت بسببهم! أنا ساعدتكم كتير المفروض تساعدوني مش تسيبوني لوحدي اكده
هتف بها رسلان وصوته يرتجف بين الغضب والشفقة:
فوقي بجا شويه يا سلمى! انتي هتفضلي مغيبة اكده لحد إمتى؟!
نظرت إليه بعينين دامعتين وردت بصوت مكسور:
ــ كلكم خسرتوني كل حاجة... كلكم.. انا كل خياتي ضاعت
اقترب منها أكثر ونبرته انخفضت لكنها ظلت حادة:
انتي لسه جدامك حاجات كتير يا سلمى، اسمعيني...أمك دي كانت السبب في موت خالك، هي ال جتلت أخوها ال هو أبو جبل وكانت عارفة كل حاجة، وجمال كان السبب إن جبل يجعد سنين ميشوفش بعيونه... أنا عايز أنقذك من كل دا قبل ما تتدمري زيهم
انهارت سلمى على الأرض، سقطت على ركبتيها وهي تبكي بحرقة صوتها يخرج متقطعا:
انا حياتي اتدمرت خلاص... كل حاجة راحت
اقترب منها رسلان ببطء، وجلس أمامها، ثم مد يده يلامس وجهها المبلل بالدموع وقال بصوتٍ خافت لكنه صادق:
أنا معاكي يا سلمى... بس جوليلي مكانهم فين غفران وحوريه قبل ما جبل وأسد يعرفوا... والله هيجتلوكي، وأنا مش عايز يوحصلك ضرر... أنا عايز أحميكي
رفعت نظرها إليه بدموعٍ متلألئة تتأمل وجهه الشاحب وكتفه الذي بدأ ينزف مجددا، فشهقت بخوف:
انت بينزف يا رسلان...فيه دم علي الجميص بتاعك ... لازم نروح المستشفى دلوجتي
ابتسم رسلان ابتسامة باهتة، وقال وهو يضغط على الضمادة بيده:
مش وجته دلوجتي... خلينا نروح لحورية وغفران الأول، قبل ما جبل وأسد يعملوا حاجة تاني متتصلحش
أمسك رسلان يدها وساعدها على النهوض، ثم فتح باب السيارة وأشار لها بالصعود. جلست بجانبه وهي ترتجف، بينما هو أدار المحرك بعزمٍ وعيونه تتجه نحو الطريق وفي المساء كان الليل يلف بيت سلمى بسكون مريب، لا يقطعه سوى صوت الريح التي تتسلل من بين النوافذ المهشمة وفجأة، انفتح الباب بعنف، ودخل جبل وأسد بخطوات حادة، وكل منهما يمسك مسدسه، وعيونهما تشتعل غضبا كالنار في الهشيم بينما كانت سلمى تقف في منتصف الصالة، يديها ترتجفان، ووجهها شاحب كمن ينتظر الحكم عليه فتوقف جبل أمامها، عروقه بارزة في عنقه، وصوته خرج خشنا غاضبا:
انتي زي أمك بالظبط... كلكم زي بعض فاكراني مش هعرف... فين مرتي وحوريه يا سلمي. ااتكلمي بدل جسما بالله العظيم هجتلك
مد جبل يده وأمسك بذراعها بقسوة، فشهقت سلمى بخوف وهي تهمس:
سيبني يا جبل... والله ما كنت عايزة أعمل اكده
لكن جبل شدها بقوة، وعيناه تلمعان بنار لا تنطفأ:
متكدبيش! كل حاجة كانت من تحت دماغك انتي وانتي عايزه تنتجمي مني و
وقبل أن يكمل، دوى صوت خطوات من أعلى السلم، ثم ظهرت غفران وحورية تنزلان بسرعة، وجهيهما شاحبين وصرخت غفران بصوت مرتجف وهي تجري نحوه:
جبــل
ألقى جبل مسدسه جانبا وفتح ذراعيه ليحتضنها بقوة، وكأنه يخشى أن تختفي من بين يديه، فيما أسرع أسد نحو حورية وضمها في صمت طويل، عيناه تغرورقان بالدموع التي حاول حبسها منذ أيام وقال جبل بصوتٍ خافت وهو يتحسس وجه غفران بقلق:
انتي كويسة؟ حد لمسك.. حوصلك حاجه
ابتسمت غفران وسط دموعها، وردت بصوت واهن:
أنا كويسة والله الحمد لله متخافش
ثم التفت جبل نحو سلمى مجددا، ونظراته عادت لتشتعل غضبا وهتف:
وانتي... انتي السبب في كل دا
تحرك نحوها بعنف كأنه على وشك أن يصرخ، لكن صوتا قويا أوقفه من الخلف مرددا:
متلمسهاش... هي ملهاش ذنب
التفت الجميع ليجدوا رسلان واقفا عند باب الغرفة، وجهه شاحب والدم ينزف من كتفه، لكنه ما زال ثابتا رغم الألم وقال بصوت جاد مبحوح:
أنا ال عملت اكده... أنا ال خدتهم مش هي.
تصلب جبل في مكانه، ثم اندفع نحوه بخطوة غاضبة، ووجه له لكمة قوية جعلت رأس رسلان يرتد للخلف ودمه يتناثر على الأرض وهو يقول بعنف:
انت كدّاب ومتدافعش عنها... أنا عارف إنها هي السبب.
تنفس رسلان بصعوبة، ثم قال بصوت هادئ رغم الألم:
أنا مش هردلك الضربة دي يا جبل... بس لو في حساب، يبجى حاسبني أنا.
تجمد جبل للحظة وعيناه تشتعلان غضبا لكن ما لبث أن لاحظ شيئا غريبًا... وجه رسلان بدأ يفقد لونه، وجسده يهتز بخفة، والدم ينزف بغزارة من كتفه وهمس جبل بدهشة:
انت بتنزف و
قبل أن ينطق رسلان بكلمة، ترنح جسده وسقط للأمام، لكن جبل أسرع بخطوتين وسنده قبل أن يرتطم بالأرض فصرخ جبل بلهجة مضطربةٍ تخالطها الصدمة:
رسلان... فوق متقفلش عينيك اكده... رسلان
ركع جبل على ركبتيه وهو يهزه برفق، ثم التفت نحو أسد وصرخ :
أسد... شيله بسرعة... لازم نوديه المستشفى دلوجتي حالا
تحرك أسد بسرعة و حمل رسلان بمساعدة جبل، بينما سلمى وقفت تبكي في ركن الصالة، تتابع المشهد بعينين غارقتين بالندم وخرجوا جميعا وفي صباح يوم جديد كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، ونسيم المقابر يحمل رائحة التراب المبلل بالدعوات والدموع. فوقف الجميع في صمت ثقيل، لا يسمع سوى صوت التراب وهو يلقى على التابوت. كانت زوجة عم جبل تدفن، ووجوه الحاضرين شاحبة فتحرك الناس واحدا تلو الآخر مبتعدين عن القبر، بينما بقي جبل وأسد وغفران وحور على مسافة قريبة، يراقبون المشهد بصمت حزين فقطع أسد السكون بنبرةٍ غليظة وقال:
انت كنت عايزها تموت يا جبل؟
رفع جبل نظره نحو القبر، ثم أجابه بصوت منخفض لكنه ممتلئ بالصدق:
لع...والله العظيم لع . أنا انتجمت فعلا من عمتي، بس مرت عمي؟ لع... دي ربتني، وكنت حاسس إنها بتحبني بجد. حتي لو مانت اذيتني... انا بحس انها بتحبني والله.... يمكن ربنا عمل اكده علشان ضميري ميوجعنيش لو أنا ال حاسبتها
سكت أسد للحظة، ثم قال وهو ينظر له بثبات:
مش جاه الوجت بجا ال تعترف فيه بموضوع أمك وأخوك؟
نظر جبل له بضيق وقال:
ويمكن جاه الوقت برده إنك انت ترجع لحوريه... انتوا مش هتعرفوا تعيشوا من غير بعض، وال بينكم أقوى من أي خلاف. خلينا نصلح كل حاجه يا أسد... يلا، تعالي
ابتسم أسد بخفة حزينة، ثم نظر إلى حوريه التي كانت تراقبه من بعيد بعينين دامعتين، ومد جبل يده له في صمت. تبادلا النظرات، ثم تحركا معا نحو المخرج، تتبعهما غفران وحور بخطوات بطيئة وفي المساء كانت رائحة المطهرات تملأ أجواء الغرفة البيضاء في المستشفى، وصوت الأجهزة يهمس بإيقاع ثابت يوحي بالسكينة حيث جلس رسلان على السرير، وجهه شاحب قليلا لكن ابتسامته تحاول أن تخفي آثار الألم. وإلى جواره كانت سلمي تجلس وعيناها معلقتان به بقلق لا ينقطع وأصابعها تلتف حول كفه في صمت خائف وما إن انفتح باب الغرفة حتى دخل جبل وأسد بخطوات هادئة، لكن حضورهما كان كفيلا بأن يجمد الدم في عروق سلمي التي وقفت مذعورة وهمت أن تغادر المكان لكن مد رسلان يده بسرعة، وأمسك بيدها قائلا بنبرة مطمئنة:
اجعدي... متخافيش… أنا معاكي
توقفت في مكانها، وجلست بخجل وارتباك، بينما اقترب جبل من السرير، ونظر إلى رسلان بابتسامة خفيفة وقال:
حمد لله على السلامة يا رسلان، بجيت كويس؟"
رد رسلان وهو يحاول رفع كتفه المصاب:
دي إصابة بسيطة، مفيش منها خوف
حول جبل نظره إلى شوق، التي كانت تجلس على الكرسي المتحرك بجانب السرير، بعينين يملؤهما الشوق والذنب فاقترب منها وجثي على ركبتيه أمامها، ثم أمسك بيديها وقبلهما وهو يقول بصوت متهدج:
انا آسف يا أمي… سامحيني
ارتجفت شوق، وانهمرت دموعها، رفعت يديها المرتعشتين ولمست وجهه بحنانٍ أمومي غامر، وقالت وسط بكائها:
انا ال آسفة يا جبل… سامحني إني مترفتش طول السنين دي إنك ابني… سامحني
أغلق عينيه والدموع تنحدر على خده، ثم همس:
انا هعوضك عن كل السنين ال فاتت، بوعدك يا أمي
ثم رفع رأسه ونظر إلى رسلان بنظرة صافية فيها امتنان حقيقي وقال:
شكراً يا رسلان… أنا عارف إنك حميتني من الرصاصة، وعارف إنك راجل بجد.... من أول لحظة شوفتك فيها حسيت إنك شبهي في كل حاجة… مستحيل أنسى إنك كنت ممكن تموت علشاني، وده جميل هيعيش في رجبتي طول العمر.
ابتسم رسلان بخفة وقال وهو يهز رأسه:
خلاص يا جبل، مش وجته الكلام ده… احنا إخوات، ومفيش جمايل بين الإخوات. بس لو مصمم تشكرني، يبجى تسامح سلمي… هي معملتش حاجة واتظلمت كتير، وكمان تقنعها توافج تتجوزني
شهقت سلمي بدهشة، ونظرت له بعينين متسعتين وقالت:
بجد يا رسلان
ضحك بخفة وأجابها وهو يشد على يدها:
اكيد بجد… ولا انتي مش عايزاني؟
رددت بسرعة ولهفة ظاهرة:
لع والله، عايزاك… وبحبك و
ثم خفضت عينيها بخجل، والتفتت نحو جبل بتوتر واضح، فاقترب منها بابتسامة دافئة وقال:
انتي عارفة غلاوتك عندي ازاي… وأنا مستحيل أزعل منك. وموافج يا سلمي
ارتسمت على وجهها ابتسامة سعيدة، كأن هما ثقيلا أزيح عن صدرها، بينما مد جبل يده نحو رسلان، ثم جذبه إليه في حضن قوي وقال بصوت مفعم بالعاطفة:
كان نفسي من زمان يبجب عندي أخ صغير… والحمد لله، ربنا رزقني بيك... دلوجتي بجا عندي أخين… إنت وأسد
ساد صمت قصير ملؤه الدفء، بينما نظرت شوق إليهم بعينين دامعتين، وهم الثلاثة يقفون متقاربين كأن القدر أخيرا قرر أن يعيد إليهم معنى العائلة وبعد مرور خمسة أشهر كانت غفران تقف في منتصف غرفتها، والشمس تتسلل عبر النافذة لتلقي خيوطها على وجهها الشاحب الجميل. أمامها كومة من الثياب الملقاة على الأرض، وصوت أنينها الخافت يملأ المكان وهي تحاول أن تجد ما يناسبها، لكن بطنها التي كبرت قليلا كانت تعلن بوضوح عن حياة جديدة تنبض داخلها فـ انفجرت باكية، وهي تجلس على طرف السرير وتقول بصوت مرتجف:
كل الهدوم بجت ضيقه عليا… شكلي بجا وحش حوي يا جبل
وفجأة انفتح الباب بهدوء، فدخل جبل بخطوات سريعة و ملامحه امتلأت بالقلق وهو يقترب منها قائلا بصوته العميق:
مالك يا غفران؟ في إي؟ بتعيطي ليه
رفعت رأسها نحوه والدموع على خديها، وقالت بصوت متهدج:
علشان كل هدومي مبجيش تدخل عليا، وبقيت حاسة نفسي تقيلة… وشكلي اتغير
نظر إليها جبل للحظة، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وهو يقترب أكثر، وقال مازححا وهو يميل برأسه:
اتغيرتي آه… بس للأجمل. والله يا غفران، انتي زي الجمر دلوجتي.
رمقته بنظرة غاضبة باكية وقالت:
بطل تتريق يا جبل، أنا مش ناجصة
ضحك بخفة وهو يمد يده ليزيل دمعةةعن خدها، ثم قال بنبرة دافئة:
مين جال بتريق؟ استني اكده بس.
خلع قميصه بخفة، ثم ألبسها إياه برفق حتى غطى جسدها كله، وظل هو عاري الصدر أمامها، وقال مبتسما:
شوفي… بجيتي زي الجمر أهه
نظرت إليه وهي تبتسم رغما عنها، ثم ضحكت قائلة:
انت مجنون يا جب.. اي دا بس
مجنون بيكي وبعدين بجيتي احلي واحلي كمان
قالها بهدوء وهو يقترب منها أكثر فـمدت ذراعيها تلفها حول عنقه، وقالت وهي تبتسم بعينين دامعتين:
كل حاجة اتحلت خلاص… أسد رجع لحورية ورسلان هيتجوز سلمي، ومامتك بقت معاها دلوجتي ومبسوطة… كل حاجة بجت تمام
أمسك بيديها برفق وردد بصوت عميق وهتف:
أنا مبسوط أكتر علشان انتي لسه معايا وجمبي.... بصراحه أي واحدة غيرك كانت سابتني من زمان
غفران بابتسامه وهي تشده نحوها أكثر:
مستحيل.....مستحيل أسيبك ولا أجدر أبعد عنك دقيقة واحدة… وانت؟ أوعدني يا جبل
اقترب منها حتى لامس جبينها وقال بصوت خافت يشبه الهمس:
أوعدك…أوعدك إني هفضل معاكي طول عمري ومستحيل أسيبك لحظة واحدة
ثم ضمها إلى صدره بقوة فابتسمت وهي تضع رأسها على قلبه الذي يخفق بقوة مطمئنة بينما يهمس قرب أذنها:
انتي ال خرجتيني من كل الظلمة ال كنت فيها يا غفران… علشان اكده، مستحيل أبعد عنك... انا بحبك.
أغلقت غفران عينيها في سكون عميق، والريح تمر من النافذة برفق كأنها تبارك وعدا نقش في ذاكرة الزمن و
تمت بحمدلله
خلصتي؟ الرواية الجاية أقوى وأحلى… تعالي وعيشيها معانا👇