رواية شظايا قلوب محترقة للكاتبة سيلا وليد هي حكاية تنبض بالمشاعر وتفيض بالصراعات الداخلية والخارجية، حيث تتقاطع الأقدار وتتشابك المصائر في قصة حب مختلفة لا تخضع للمنطق أو الزمن.في رواية عشق على صفيح الموت، يعيش القارئ حالة من الانجذاب العاطفي والتوتر النفسي، وسط أحداث متسارعة تكشف أسرارًا مدفونة وقرارات مصيرية تغير كل شيء. الرواية لا تقدم حبًا مثاليًا، بل واقعيًا، مليئًا بالتحديات والتضحيات.
رواية شظايا قلوب محترقة من الفصل الاول للاخير بقلم سيلا وليد
أنا وانت ...نشبه الحرب والسلام
لا نلتقي ولا نفترق..كلانا يبحث عن الآخر ...
والهدنة بيننا حفنة أحلام..
كاذبوون أنتم..
من اخبرتمونا بأننا سنتجاوز ونتخطى كما تخطى غيرنا....فواجع الفقد والرحيل..
مضت الأيام واحترق الفؤاد اشتياقًا...
والله مانسيناكم..أماكنكم هنا لا زالت شاغرة..
ياسااادة
نرسم أحلامنا ونحن نعلم ..
بأن الرسم ليس سبيلا لتحقيقها
ولكن أمل مرسوم خير من ألم مكتوم..
ف والله كان اللقاء بك قدر..
وللقدر رأي آخر لا يوافق أحلامنا الهادئة..
باختصار لا القدر يجمعنا ولا البعد يفرقنا
1
أبطال الرواية
إلياس مصطفى السيوفي :
يبلغ من العمر اثنين وثلاثين عامًا..
أرسلان فاروق الجارحي :
يبلغ من العمر ثلاثين عامًا
يزن إبراهيم السوهاجي :
يبلغ من العمر ثلاثين عامًا
آدم زين الرفاعي :
يبلغ من العمر ثلاثين عامًا
ميرال راجح الشافعي :
تبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا
إيلين محمود الجندي :
تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا
غرام محمود الزهيري :
تبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا
رحيل مالك العمري :
تبلغ من العمر خمسة وعشرين عامًا
بأحد أحياء القاهرة الراقية، وخاصة بتلك الفيلا التي يدون على خارجها
فيلا اللواء مصطفى السيوفي ..بالأعلى
بذاك الجناح سيدة بمنتصف عقدها الخمسون جلست على سجادة صلاتها
لتنهي وردَها اليومي، صدقت تفتح كفيها وتنظر بعيون مرققة بالدموع أن يربط على قلبها لغياب فلذة كبدها، تدعو من الله أن يجمعها بهما، ظلت لدقائق ثم نهضت من مكانها متَّجهةً إلى نافذةِ غرفتها تفتحها بخروجِ زوجها من الحمام:
صباح الخير يافريدة...استدارت مبتسمة :
صباح الخير يامصطفى، عامل إيه دلوقتي لسة جنبك بيوجعك؟.
خطى إلى أن جلسَ على الأريكة، ثمَّ بسطَ كفَّيهِ إليها :
تعالي قوليلي الصُّداع لسَّة بيجيلك؟..
خطت إليه، ثمَّ جلست بجوارِه :
لا، الحمد لله، باخد العلاج وأديني ماشية عليه..
مسَّدَ على وجهها بحنان، ثمَّ حاوطها بذراعيهِ يجذبها تختبأُ تحتَ جناحِ حنانِه :
اهتَّمي بصحتِّك يافريدة، أنا مقدرشِ أعيش من غيرِك..رفعت رأسها تطالعهُ بعيونٍ لامعة :
ربِّنا يخليك ليَّا يامصطفى، إنتَ أكبر نعمة ربنا أنعمني بيها بعد سنين مرار .
+
قبلةً عميقةً بمعاني كثيرة فوقَ جبينها :
طيِّب حبيبتي اهتَّمي بصحتِك، وسيبك من عصبيتِك طولِ اليوم..اعتدلت قائلة :
فكَّرتِني هتفضل ساكت على إلياس كدا، العمر بيجري بيه وهوّّ مش حاسس، نهضَ من مكانهِ يشيرُ إليها :
هاتي بدلِتي فيه اجتماع في الوزارة النَّهاردة، وربِّنا يستر مالقَهوش عامل مصيبة، إلياس خلاص مبقتِش قادر عليه، نفسي أجوِّزُه النهاردة قبلِ بكرة، بس إنتِ شايفة رفضه ..
ربتت على كتفهِ تتعمَّقُ بالنظرِ إليه :
إيه رأيك أكلِّمُه مرَّة تانية، يمكن يسمع مني المرَّة دي ..
هزَّ رأسهِ بالرَّفض :
لا لا ..بلاش إنتِ وترجعي تزعلي وضغطِك يعلى، سبيه بكرة الأيَّام تعدِلُه .
أومأت بحزنٍ واستدارت متَّجهةً إلى غرفةِ ثيابه :
براحتك يا مصطفى..أطبقَ على رسغها يجذبها إليه :
فريدة إنتِ فهمتي إيه؟..هزَّت رأسها ثمَّ رفعت كتفها للأعلى بعدمِ رضا :
عارفة إنَّك خايف يزعَّلني، بس أنا خلاص اتعوَّدتِ عليه ومبقتش أزعل منُّه، دنت منهُ تحتضنُ وجهه :
مصطفى..إلياس سواء رفض أو قبل هوَّ ابني وعمري ماهزعل منُّه، مهما يقول ومهما يعمل، هوّّ معذور ياحبيبي، شايفني مرات أبوه اللي مفكَّرها السبب في موت أمُّه .
ضمَّها بحنان :
ربِّنا يباركلي فيكِ يافريدة وميحرمنيش منِّك، خرجت من أحضانهِ ورسمت ابتسامة قائلة :
هنزل أشوفهم خلَّصوا الفطار ولَّا لأ...أومأَ لها دونَ حديث..غادرت الغرفة تشعرُ بدموعها تتكوَّرُ تحتَ أهدابها، إلى أن وصلت إلى غرفةِ ابنتها، دلفت إليها وهي تضعُ كفَّيها فوقَ فمها تمنعُ غصَّتها المتألِّمة، ظلَّت لدقائقَ تستعيدُ اتِّزانها، ثمَّ خطت حتَّى وصلت إلى فراشِ ابنتها :
ميرال حبيبتي قومي الساعة تمانية وعندِك Meeting ..رفرفت بأهدابها عدَّةَ مرَّات، انحنت فريدة تطبعُ قبلةَ فوقَ خصلاتها :
صباح الخير حبيبتي..اعتدلت تُرجِعُ خصلاتها للخلف :
صباح الخير ياماما، هيّّ الساعة كام ؟..
نظرت بساعةِ هاتفِ ابنتها :
الساعة تمانية حبيبتي، قولتي عندِك اجتماع مهِّم الساعة عشرة، هبطت من فوقِ سريرها متَّجهةً إلى الحمَّام :
فنجان القهوة ياستِّ الكُل قبلِ ما أنزِل ..
ابتسمت لها ثمَّ نهضت من مكانها واقتربت منها :
محكتيش لماما إيه اللي حصل معاكي إمبارح ..استدارت تنظرُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمّّ تأفَّفت بضجر :
ولا حاجة سيادة الظابط العظيم رفض أعمِل الحوار الصحفي مع المسجون، وطردني كالعادة..
أفلتت فريدة ضحكة على حركاتِ ابنتها، ثمَّ هزَّت رأسها وخرجت مردِّدة :
واللهِ جننتيني إنتِ والياس ..
ماما ..توقَّفت على بابِ الغرفة استدارت إلى ابنتها :
عرَّفي عمو مصطفى مش كلِّ مرَّة هسكُت على تبجحه، واللهِ هقدِّم فيه شكوى لنقابةِ الصحفيين ..
خرجت فريدة متذمِّرة من أحاديثها التي لا تنقطعُ عن قسوةِ إلياس، وصلت إلى الأسفلِ قابلها إسلام على الدرج :
صباح الخير ياماما فريدة .
ابتسامة تجلَّت بملامحها عندما اقتربَ منها ثمَّ قبَّلَ وجنتيها :
أنا مطيع أهو وقدِّمت الولاء والطاعة .
ربتت على ظهرهِ بحنانٍ أمومي :
صباح الورد ياروح ماما، أخوك مصحيش..قاطعهم صوتهِ وهو يردفُ بصوتهِ الرخيم :
صباح الخير...قالها وتحرَّكَ إلى طاولةِ الطعام، ثمَّ جذبَ الصحيفةَ يتفحصُ الأخبار، اتَّجهَ إسلام إليها حتى يُخرِجها من حالةِ الحزن :
بقولِّك ياجميل، إيه رأيك تحضري النهاردة حفلةِ التَّخرُج، إنتِ وسيادة اللوا، بس البتِّ ميرال لا، لأنها شقيَّة وهتبوَّظ الحفلة ..
سامعة دبَّانة بتجيب بسيرتي، تحرَّكَ إليها يحيِّها بيدهِ :
ميرو، وحشتيني الكام ساعة دول..توجَّهت إلى طاولةِ الطَّعامِ وعينيها على ذاكَ الذي جلسَ يرتشفُ قهوتِه ويتفحَّصُ الأخبار، ثمَّ جذبت المقعد بقوَّةٍ حتى أصدرَ صوتًا، رفعَ عينيهِ إليها :
بالرَّاحة يامعزة على الصُبح، إيه مفكَّرة نفسِك في حديقة حيوان، لم تعيرهُ اهتمامًا و رفعت عينيها إلى إسلام :
سلُّومي حفلتِك الساعة كام، علشان أعدِّي عليك، جلسَ بجوارِها :
قولي واللهِ وهتفضَلي ساكتة ولَّا تجيبينا مجلسِ الشّّعب، أفلتت ضحكةً مرتفعةً ثمَّ ضربتهُ بخفَّةٍ على رأسه :
بس يالا، قاطعهم دلوفُِ غادة توأمَ إسلام :
صباح الخير ياعفاريت السيالة..قبلة على الهوا من ميرال إليها ..
خلَّصتوا مسرحيتكم التافهة، قالها وعينيهِ كالطَّلقاتِ النَّارية إليهم :
مش عايز تفاهة على الصُّبح، إفطروا وأنتوا ساكتين ..نظرت غادة إليه :
صباح الخير ياأبيه إلياس، آسفة مكنشِ قصدنا نزعج حضرتك ..
أشارَ بعينيهِ لطعامها :
كُلي وإنتِ ساكتة، متبقيش تافهة زي الأغبية الرَّغايبن ..أومأت لهُ وبدأت تتناولُ طعامها بصمت، وصلت فريدة تضعُ إليهم أكوابَ اللبن :
ممكن تبَّطلوا قهوة على الصبحِ وتشربوا اللبن ..
رمقها إلياس وتمتمَ بتهكُّم :
ناقص تقوليلُهم إغسلوا سنانكم قبلِ النوم، قالها ونهضَ ملقيًا محرمتِه، يحملُ أشيائه الخاصَّة بعدما ارتدى نظَّارته ..
طالعتهُ بأعينٍ حزينة :
هتمشي من غير فطار..رفعَ رأسهِ إليها بدخولِ والدهِ ملقيًا تحيَّةَ الصباح :
صباح الخير ياولاد..ردّّ على والدهِ التحيَّة ثمَّ رمقَ فريدة بنظرةٍ سريعةٍ قائلًا :
ماليش نفس، أتمنَّى تعاملينا على إننا كبرنا، بلاش مثالية الستِّ المصرية المتأفوَرَة دي..قالها وخطا لبعضِ الخطواتِ ثمَّ استدارَ ينظرُ لتلكَ التي توقَّفت بجوارِ والدتها :
ماما حبيبتي أقعدي علشان تفطري، واللي يفطر يفطَر واللي مفطِرش يشرب من البحر ..
تحرَّكَ إليها وتوقَّفَ أمامها مردِّدًا بنبرةٍ قاسية :
عارفة لو شوفتِك عندي هحبسِك في الزنزانة، آخر تحذير سمعتي، ثمَّ ألقى نظرة على والدِه :
قولَّها تبعد عن طريقي، خلِّيها تلعب بعيد مش ناقص غباء من واحدة غبية زيَّها ..قالها وتحرَّكَ للخارجِ وكأنّّه يسابقُ عدوِه .
ربتَ مصطفى على كفِّ فريدة، ابتسمت وأومأت له :
إلياس خلاص اتعودَّتا ...ابتلعت غادة طعامها :
أه والله ياماما فريدة، بقى عندنا تناحة من كترِ ماتعوِّدنا ..
اتَّجهت ببصرها إلى ابنتها الصامتة :
ميرال مابتكليش ليه؟!
توقَّفت تمسحُ فمها ورسمت ابتسامة :
شبعت حبيبتي لازم أتحرَّك علشان متأخرَش، استدارت إلى مصطفى وطبعت قبلةً فوقَ رأسِه :
صباح الفُل ياحضرةِ اللواء..ضمَّها بحنانٍ أبوي :
صباح الخير على القمر..حملت حقيبتها واتَّجهت إلى والدتها ثمّّ دمغتها بقبلةٍ على وجنتيها :
دعواتِك ياستِّ الكُل..توقَّف إسلام يشيرُ إلى غادة :
ياله يادودي هنتأخَر على المحاضرة، هبَّت واقفة واتَّجهت تجمعُ أشياءها :
باي يابابي، باي ماما فريدة..قالتها غادة وغادرت برفقةِ أخيها ..
ظلَّت فريدة تطالعُ ذهابِهم إلى أن اختفوا، بعدَ فترةٍ انتهى مصطفى من طعامِه، ثمَّ همَّ بالمغادرة، توقَّف لتوديعها :
خلِّي بالك من نفسِك، لو حسِّيتي بحاجة كلِّميني فورًا أنا مش هتأخر ..
أومأت لهُ دونَ حديث..نهضت من مكانها متَّجهةً إلى الحديقةِ، جلست بمكانها المفضَّل تنظرُ لتلكَ الأشجارِ التي بدأت تتأثرُ بقدومِ فصلِ الخريف .
غامت عينيها لذكرياتِ تلكَ الأشجارِ، التي قامت بغرسها والعنايةِ بها بكلِّ حب، جلست بجوارِها تلملمُ أوراقها المتساقطة، تنهيدة عميقة حرقت جوفها متذكِّرةً الماضي بآلامه ..
فلاش باك قبلَ ثلاثون عامًا
بإحدى أجملِ محافظاتِ مصر المطلَّة على البحرِ الأحمرِ والتي تعدُّ من أكبرِ المراكز التجارية والحضارية، ألا وهي محافظة السويس خاصَّةً في ذاك الحيِّ القديم، ..انتهت تلكَ السيدة التي تبلغُ من العمرِ خمسة وعشرون عامًا من صلاتها، ونهضت متَّجهةً إلى موقدِ الغاز لتقومَ بتجهيزِ طعامِ الإفطار لزوجها قبل ذهابهِ لعملهِ في البحر، حيث يمتلكُ متجرًا كبيرًا للأسماك، أنهت فريدة إعدادَ الطَّعامِ ثمَّ توجَّهت إليه وقامت بإيقاظِه :
جمال ..قوم الساعة تمانية زمان الصيَّادين على وصول..فتحَ عينيهِ بإرهاقٍ ينظرُ بساعتِه، ثمَّ اعتدلَ يمسحُ على وجههِ مستغفرًا ربهِ علَّه يطردُ شيطانه :
صباح الخير ياأمِّ يوسف، اتَّجهت إلى النافذة وفتحتها مبتسمة :
صباح الخير ياحبيبي، نهضَ معتدلًا وابتسامة زيَّنت وجهه،
يزيد عامل إيه؟..ابتسامة زيَّنت ثغرها تشيرُ على بطنها :
خلاص سمِّيتُه يزيد، مش يمكن تكون بنت..
إن شاء الله ولد، إنتِ قولي يارب .
استدارت واتَّسعت ابتسامتها التي أنارت وجهها حلو التقاسيم :
ربنا يرزقنا بالذريَّة الصالحة أهمَّ حاجة، بنت ولد مش مهمّ، المهمِّ يكون ولد ياخد بأيدينا للجنَّة في الآخرة ويكون عونًا لينا في الدنيا، حاوطَ جسدها ثم دمغَ جبينها بقبلة حنونة:
إن شاء الله ياحبيبتي، راضي باللي يجيبه ربنا، نفسي في أخ ليوسف، يبقى يوسف ويزيد .
ربتت على كتفِه :
إن شاء ياجمال، أنا راضية، مع إنِّ نفسي في بنت بس في الأوَّل والآخر اللي ربنا يجيبُه كويس .
حاوطَ بطنها بكفَّيه :
إنتِ في الشهرِ الكام دلوقتي؟..
وضعت كفّّها على كفَّيهِ وأجابته :
لسة في بداية الرابع، خير إن شاءالله حبيبي..إجهز وأنا هشوف يوسف صحي ولَّالأ..الولد من إمبارح وجسمُه سخن،
تحرَّكَ بعدما شعرَ بالخوفِ على ابنه :
ياخبر أبيض، ليه مقولتيش، كنت أخدتُه للدكتور،
وصلَ إلى غرفةِ ابنهِ الذي يبلغُ من العمرِ سنتين، وجدهُ مستغرقًا بالنوم، انحنى وطبعَ قبلةً فوقَ جبينه :
ربنا يباركلي فيك ياحبيبي، وأشوفك أحسن واحد في الدنيا .
قطعَ حديثهم طرقاتٍ على بابِ منزلهما، اتَّجهت متحرِّكةً تشيرُ إليهِ :
اطلع إفطر وبعدين صلِّي الضحى..قالتها واتَّجهت تفتحُ الباب، دلفت سيدة تبلغُ من العمرِ ثمانية وعشرون عامًا :
صباح الخير يافريدة ..جذبتها من ذراعها :
صباح الخير حبيبتي، أدخلي هتفضلي واقفة ..دلفت بخطى متعثِّرة تكادُ قدميها تحملنها، أسرعت فريدة تساندها :
رانيا مالك ياقلبي؟!..سحبتها لتجلسَ على الأريكة التي تقابلُ طاولةَ الطَّعامِ ثمَّ جلست بجوارها ..ارتفعَ بكاؤها :
شوفتي، راجح عايز يرجَّع طليقتُه..
شهقة خرجت من فمِ فريدة :
ليه يرجعها، هوَّ مش كان طلَّقها وخلاص؟..ابتلعت جمرة حارقة وهي تشيِّعُ جمال بنظرةٍ قائلة :
علشان قولتلُه مش عايزة ولاد دلوقتي .
ضربت على صدرها بحركةٍ تنمُّ عن غضبها :
إنتِ مجنونة!..بعد إيه إنتِ حامل يارانيا، مينفعش تنزلِّيه حرام عليكي .
رمقها جمال مستاءًا، ثم أردف :
أنا لو منُّه كنت كسرت رقبتِك، ارتفعت شهقاتِها ومازالت نظراتَها عليه .
توقَّفَ يستغفرُ ربه، ثمَّ اقتربَ منهما :
عايزة تقتلي روح يابنت سيدة، إيه الجبروت اللي إنتِ فيه دا، إحمدي ربنا إن راجح سابِك عايشة، ثم أشارَ إلى زوجته،
اتعلِّمي من بنت عمك الصغيرة، عندها ولد والتاني جاي في السِّكة، وحضرتِك لسة عايشة صغيرة على الحب..
فريدة هنزِل الشغل، وعقَّلي بنت عمك وعلِّميها تكون ست زيِّك .
توقَّفت تصرخُ بوجهه :
إنتَ ليه دايمًا شايفني شيطانة ياجمال، إيه قولي عملت لك إيه ..
استدارَ وتحرَّكَ للداخل يردِّدُ الاستغفار .
حضنتها فريدة تربتُ على ظهرها :
طيِّب إهدي حبيبتي، متنسيش إنِّك حامل ودا غلط على اللي في بطنك، أقعدي وإحكي لي إيه اللي حصل ..
توسَّلتها برجاء، فجلست على المقعدِ وداخلها نيرانُ الغيرة تكوي أحشائها،
إحكي لي إيه اللي حصل، ليه عايزة تنَزِّلي الولد، إنتِ ممكن ماتعرفيش تخلِّفي تاني حرام عليكي ..
قطعت حديثها عندما خرجَ جمال من الغرفة :
أنا نازل يافريدة، وخلِّي بالِك من نفسِك، ومن يوسف واللي في بطنك، دول أهم حاجة عندي.قالها بنبرة مشمئزة وهو يرمق رانيا، ثم تابع حديثه:
- هبعتلِك مرات حودة تشوف طلباتِك، هزعل منِّك لو عملتي حاجة..تحرَّكَ بعض الخطواتِ ثمَّ توقَّفَ مستديرًا يرمقُ رانيا :
وهبعتلِك معاها لزوم الغدا، علشان رانيا تتغدَّى معاكي، وتغذِّي الولد كويس ..تحرَّكت إليه :
متبعتش حاجة ياجمال، خيرَك موجود ياحبيبي، بلاش مصاريف على الفاضي
حملَ جاكيتهِ يشيرُ إليها بالتقرب إليه ثمَّ طوَّقها بين أحضانِه :
حبيبتي أنا ومالي تحتِ رجليكي، اوعي تسخسري حاجة في نفسك والولاد ..حاوطت خصرِه :
ربِّنا يخليك ليَّا ياجمال يارب، دمغها بقبلةٍ فوقَ جبينها ثم غادرَ إلى عمله .
كانت هناكَ عيون تطلقُ شرار من ذلكَ المشهد..هبَّت واقفةً واتَّجهت إلى بنت عمها كالنيرانِ التي تريدُ التهامَ كلَّ شيئ .
سايبة بنت عمك اللي بتقولي عليها اختك في همَّها وحزنها وحضرتِك قاعدة تحبِّي في جوزك!..
أنا غلطانة مفكَّراكي أخت بحق وحقيقي لكن إنتِ كلِّ همِّك جمال وبس إنَّما أختِك لا، هقول ايه ماانا مش شقيقتك..
سحبت كفَّها تجذبها إلى الداخل :
إهدي حبيبتي، ايه اللي بتقوليه دا، انتِ زي اختي وحبيبتي ومالناش غير بعض بعد موت عمي، ارتاحي واسحبي نفس إنت دايمًا كدا تقفشي..جلست تضربُ على ساقيها :
أنا عايزة أطَّلق يافريدة من راجح، مستحيل أفضل على زمِّتُه لحظة واحدة بعدِ اللي قالُه .
أطلقت فريدة تنهيدة عميقة، وحاولت تهدئتها :
طيِّب ممكن تهدي دلوقتي علشان الولد اللي في بطنِك، الطلاق مش سهل وخصوصًا معاكي ولد، راجح ابن حلال، احكي لي اللي حصل، ووعد لمَّا يرجع جمال من الشُغل هخلِّيه ينزل يكلِّمُه، بس المهم تشيلي فكرة تنزِّلي الحمل حرام عليكي .
لم تستطع الردَّ عليها،كيف ستقصُّ لها أنَّها تريدُ الطلاقَ لأنها تحبِّ زوجها..فكرة شيطانية خطرت بذهنها فتمتمت:
عايزة بيت جديد يافريدة، البيت دا بقى قديم، لازم يشوف شغل مع جمال، هنفضل في الشقَّة القديمة دي لحدِّ إمتى ..، وليه ماسك في الوظيفة
تأفَّفت فريدة بضجرٍ وهي تسحبها إلى طاولةِ الطَّعام وهتفت بنزق :
تعالي إفطري يارانيا، وإحمدي ربِّنا جوزِِك ربنا أنعم عليه بوظيفة كويسة، ليه بتحاربيه في شغله، يابنتي فيه رجَّالة كتير تتمنَّى تكون مكانه .
مصمصت شفتيها معترضةً وضربت بكفَّيها بعضها البعض :
على إيه ياحسرة الكام ملطوش اللي بياخدُهم، هوَّ فيه أحسن من الشغل الحر، شوفي جمال بيكسب في أسبوع أكتر ماهوَّ بيكسبُه في شهر .
لا حولَ ولا قوَّةَ إلا بالله العلي العظيم، رددتها فريدة قائلة
- إيه اللي بتقوليه دا يارانيا، دي أرزاق، جوزِك ظابط يابنتي يعني قيمة، وبعدين متزعليش إنتِ اللي بتصرفي كتير، راجح بيدخَّل كتير لكن إنتِ اللي مش حريصة، مين قالِّك جمال ياما هنا ياما هناك ...جمال ياحبيبتي معاه عمَّال يعني اللي بيطلع لنا بسيط بس دي بتكون بركة..إنتِ اهتمي بجوزِك يابت دا كفاية عليكي مرات حضرة الظابط .
وضعت الطعام بفمها تلوكهُ وتتحدَّثُ بغضب:
مش عايزاه ياختي الظابط دا، أنا عايزة راجل يحسِّ بيا .
جاهدت في إخفاءِ حزنها من بنت عمها على عدمِ الرضا بالمكتوب..وضعت أمامها كلَّ ماتشتهيهِ ثمَّ أردفت بهدوء :
حبيبتي طول ماإنتِ مابتشكريش ربِّنا كدا عمر ربنا ما يزيدك، مش دا راجح اللي كنتي هتموتي عليه رغم أنُّه كان متجوِّز ، شوفتي آخرتها إيه
تصنَّعت الحزنَ ونكست رأسها للأسفلِ قائلة:
كنت مفكَّراه هيطلع زي جمال يافريدة، نفسي في راجل يحبِّني ويهتمِّ بيا زيك كدا .
ضحكت فريدة ببراءة ثم ربتت على كتفها :
يابتِّ راجح بيحبِّك، وبيموت فيكي كمان، هو فيه واحد يتجوز على مراته غير عاشق، بس ضغوطِك عليه دي غلط ..
هزَّت جسدها تلُّوحُ بكفَّيها غيرَ راضية وأجابتها ممتعضة :
لا والله إنتِ متعرفيش حاجة كلِّ فلوسه على إبنه الزفت، طليقتُه سوسة كلِّ شوية تتكهون عليه، وإيش الواد عايز دكتور مرَّة وعايز مصاريف منها غير كلِّ شوية ينطِّ لها بحجة الولد .
هزَّت رأسها غير راضية .
حرام عليكي يامفترية، البنت غلبانة وفي حالها وأهلها شايلين كل حاجة
هيَّ مين اللي في حالها دي، لمَّا جمال يتجوِّز عاوزة أشوفِك بتقولي كدا .
تذمَّرت فريدة فنهضت تلملمُ طاولةَ الطعام :
قومي يارانيا ارتاحي شوية، وبلاش كلامِك اللي يزعَّل دا، حافظي على جوزِك، المهمِّ قوليلي عايزة تاكلي إيه أعمِله ليكي؟..
تجوَّلَت بعينيها على المنزل فهتفت :
إنت جبتي صالون جديد؟..
تحرَّكت فريدة وهي تحملُ الأطعمة المتبقيِّة تضعها بالمطبخ، ثم توقَّقت تشيرُ إليها على مطبخها :
وغيَّرت المطبخ إيه رأيك؟..
إش إش يافريدة، إيه الحلاوة دي، شوفتي علشان تصدَّقيني تجارة السمك دي بتكسِّب إزاي، لو جوزِك شغَّال زي كان زمانِك مش لاقية حاجة .
توجَّهت إلى ثلاجتها وأخرجت بعضَ المجمدات :
غلطانة يارانيا، أنا كنت عملت جمعية كبيرة والستِّ عفاف قالتلي على معرض بيصفِّي شُغلُه جبت منه المطبخ والصالون، وكمان أوضة النوم، مقدرش أقرَّب من فلوس تجارة جمال، إنتِ عارفة البحر يوم ليك ويوم عليك .
المهم روحي ارتاحي، زمان البتِّ سميحة هتيجي وأخلِّيها تعملِك كلِّ الأكل اللي بتحبيه، إنتِ عارفة جمال بيضَّايق لمَّا بعمل شغلِ البيت أهمِّ حاجة عنده يوسف واللي في بطني .
نزلت ببصرِها على بطنها متسائلة :
جمال بيحبِّ الولاد شكله كدا، بدليل الولد لسَّة ماكمِّلش ٣سنين وعايز تاني .
ابتسمت تضعُ يديها على بطنها قائلة :
أوي يارانيا، ونفسُه كلِّ خلفتُه تكون صبيان، أنا شاكة برضو المرة دي كمان هجيب ولد نفس اللي بيحصلي دلوقتي حصل أيام يوسف .
استمعت إلى بكاءِ ابنها فنهضت سريعًا متجهةً إليه :
هشوف الولد وراجعة لك..أومأت لها .
تابعتها رانيا بعينين تنبثقُ منهما الغيرة ونيرانًا تريدُ إحراق كلَّ ما تملكه..خرجت تحملُ الولد :
يالهوي الولد سُخن أوي، أنا كدا لازم أنزِل بيه للدكتور، أتِّصل بجمال وأعرَّفه ولَّا إيه، بس جمال ممكن يقلق
رفعت كفَّيها قائلة :
طيِّب هاتيه وروحي إجهزي، ولا تقولي ولا تعيدي..تناولت الولد وتصنّّعت الحزن قائلة بأسى :
ياحبيبي الولد نار، إجهزي بسرعة وأنا هنزلِ معاكي .
بعدَ فترة بالمشفى جلست بجانبِ ابنها بعد قرارٍ من الطبيبِ بحجزهِ بالرعاية،
ربتت رانيا على ظهرها :
ألف سلامة عليه يافريدة ماعلى قلبُه شر حبيبتي ..
أومأت لها وهي تحتضنُ كفَّ الصغير، إتِّصلي براجح يعرَّف جمال، معرفش تليفوني شكلي نسيتُه في البيت .
استدارت قائلة :
ولا يهمِّك هعرَّفُه، كان نفسي أقعد معاكي لكن مش قادرة إنتِ عارفة الحمل وتعبُه .
أومأت لها وتجمَّعت العبرات بعينيها :
ولا يهمِّك، المهمِّ جمال يعرف علشان مايقلقش ..ولَّا هاتي تليفونِك أكلِّمه .
رفعت الهاتف وأشارت لها :
هكلِّم راجح أهو وأعرَّفُه، قالتها وتحركت للخارج، لحظاتٍ وأجابها :
إنتِ فين ؟!
أنا في المستشفى مع فريدة، عرَّف جمال ..قطعَ حديثها :
خير إن شاءالله..تراجعت للخارجِ وهمست :
الولد تعب شويَّة أصرِّت الدكتور يشوفُه، وقال إيه لازم يفضَل للصبح، علشان تطَّمِن عليه، مع إنِّ الدكتور قالَّها روحي الولد كويِّس بس تقول إيه لازم تجنِّن جمال، علشان تفهِّمُه أنَّها مهتمِيِّة بالولد .
جمال مش هنا، هيبات في البحر، عندُه نقص في أعدادِ العمَّال واتصَل بعد ما معرفش يوصَل لفريدة، وقالِّي أعرَّفها أنُّه هيبات برة .
بعدَ عدَّةِ ساعات تجلسُ بجوارِ زوجها تتناولُ الطعام، نهضَ من مكانهِ :
هروح أشوف الولد، برضو مينفعش يارانيا نسيبها لوحدها .
ألقت مابيديها وتوقَّفت :
هي اللي عايزة كدا، الدكتور قالَّها مالوش لازمة، بس أهو تقول إيه..
سحبت كفِّهِ وأجلستهُ بجوارها،
أقعد الولد كويس، هيَّ اللي بتحبِّ تظهر قدَّام الكل إنَّها شاطرة وبتخاف على ابنها وكأنِّ مفيش غيرها.
ظلَّ يطالعُها بصمت، فتراجعت إلى الخلفِ تسحبه، تحاوط عنقه
-اقعد ياراجل وحشتني الله، ضمها من خصرها
-بحبك يارانيا نفسي تعقلي وتحطي الكلمتين دول في عقلك، رفعت نفسها وطبعت قبلة على وجنتيه
-عارفة ومتأكدة يارجوحة، بس انت اللي بضايقني وكل شوية فين الفلوس، بتسخسر فيا شوية فلوس ياراجح -ايه اللي بتقوليه دا، دا انت الحب كله دفعته ليجلس على المقعد،
طيب علشان الكلمتين الحلوين دول شوف هعملك ايه
ثم قامت بتشغيلِ إحدى الأغاني الشعبيَّة وبدأت تتراقصُ عليها، إلى أن وصلت إلى ماتخطِّطُ إليه .
فجرًا بأحدِ المشافي الحكوميَّة، قامت إحدى الممرضات بمهاتفتها :
أيوة ياستّ، الولد فاق وبقى كويس، وممكن يخرُج النَّهاردة .
هبَّت فزعة وتحرَّكت بعيدًا حتى لا يستمعَ إليها زوجها :
يعني إيه يابت، إنتِ مش أكدِّتي أنُّه هيموت..أجابتها الممرضة بصوتٍ خافت :
معرفش فيه دكتور جديد كشف عليه، من شوية عرفت إنِّ الولد فاق .
بدأت تتآكلُ من الداخلِ وتهمسُ لنفسها كالتي فقدت عقلها :
يعني الولد هيعيش وهي تتهنَّى معاه، تعملي إيه يارانيا لازم تفكَّري بسرعة قبل ماجمال يرجع،
اتَّجهت لذاكَ المقعد وجلست تنظرُ للخارجِ وعقلها يعملُ بكافَّةِ الاتجاهات، ظلت لعدة ساعات وهي بتلك الحالة، إلى أن ابتسمت بشيطنيَّة، نهضت، متجهة إلى زوجها تيقظها
-الساعة داخلة على ٩ ايه هتفضل نايم، مش هتروح الشغل، اعتدل يجذب سجائره وأردف قائلًا
-لا إجازة النهاردة، إنتِ بتعملي ايه؟! جذبت وشاحها وصاحت قائلة:
هنزِل السُّوق أشتري شويِّة خضار، البيت مفهوش حاجة .
خرجَ زوجها وحاولَ إيقافها :
استنِّي أشوف حدِّ ينزل بلاش إنتِ الجو قلب ..
لفَّت حجابها بطريقةٍ عشوائية ثمَّ ارتدت حذاءها :
هاتلي بس 1000 جنيه، فيه فيتامين ناقص وعايزة أشتري شويِّة حاجات كمان .
أشارَ إليها بالانتظارِ ثمّّ توجَّهَ إلى حافظة نقوده ليُحضرَ النقود..تحرَّكت رانيا الى إحدى المناطقِ تنتظرُ أحدَهم، خرجَ أحدُ الرجالِ الخارجينَ عن القانون يُعرَف بعطوة :
عامل إيه ياعطوة ؟..
كويِّس ياستِّ الناس ..تلفَّتت حولها ثمَّ أردفت بصوتٍ خافت :
عايزة منَّك خدمة تعملها زي اللي عملتها في الأوِّل ياعطوة وتتصدَّق ..
ظلَّ يستمعُ إليها بهدوء، استندَ على الجدارِ يحكُّ ذقنهِ ثمَّ رمقها قائلًا :
بس الموضوع صعب ياستِّ الناس، دا خطف وكمان متنسيش حضرة الظَّابط إيدُه طايلة .
جذبتهُ من ذراعهِ وتراجعت للخلف :
إسمعني، كلِّ اللي عاوزُه هتاخدُه زي المرَّة اللي فاتت المهم تخلصلي من الولد دا النهاردة قبلِ بكرة، ومتخفش من حضرة الظابط..
صمت ثم رفع عيناه إليها:
التمن المرَّة دي غالي ياستِّ رانيا، المرَّة اللي فاتت كانت شويِّة صور على شويِّة مكالمات، المرَّة دي خطف يعني أقلِّ حاجة سجن .
طالعتهُ بتذمُّر :
إخلص ياعطوة عايز كام؟..
نصِّ مليون .
إيه إيه، نعم ياعنيَّا نُصِّ عفريت يشلُّوك، إنتَ مجنون يابني، همَّا 50 ألف ياكدا يا يفتحَ الله .
100 ألف ومينقصوش ولا جنيه، وبكرة تسمعي كلِّ خير .
ربتت على ذراعهِ وأفلتت ضحكة شيطانيَّة :
عليك نور، أيوة كدا عايزة عطوة الجدع اللي يعرف يخدِم صاحبة أختُه، بس أوعى هناء تعرف أزعل منَّك ..
مساء اليوم التالي :
جالسةً تشاهدُ التلفاز وتتناولُ بعضَ المكسَّرات، دلفَ ملقيًا السلام :
عاملة إيه يارانيا..طالعت التلفاز دونَ أن تعيرهُ اهتمام .
جلسَ بجوارها وسحبَ نفسًا يلفظهُ على مراحل ثمَّ أشارَ إليها :
فريدة رجعت من المستشفى ولَّا لسة؟..أغلقت التلفاز وتوقَّفت ترمقُه :
هوَّ إيه كلِّ شوية تتصل وتسأل على فريدة، أوعى يكون شيطانك بيلعب بعقلك ،،
هبَّ من مكانِه، وأطبقَ على ذراعها :
اتجننتي!.. دي زي أختِك ومرات أخويا، شعرت بتسرُّعها فارتمت على صدرهِ تبكي بتصنُّع :
آسفة ياراجح، بغير عليك، كلِّ ماأشوف حدِّ فيكم بيشكُر فيها بتجنن، يعني سبت بيت أبويا وهنا برضو، عجباكم شوية السَهوكة اللي بتعملهُم، محدِّش فاهمها أدي...
مسَّدَ على خصلاتها وضمَّها :
متزعليش حقِّك عليَّا، أنا بسأل عادي علشان منكنشِ قصَّرنا معاها ويجي جمال يزعل ...خرجت من أحضانهِ :
زمانها جاية تلاقيها خرجت من المستشفى وراحت تشتري حاجات، أصلها مابتبطَّلشِ إغراء في جمال، إنتَ مش شايف راحت حملت تاني علشان تربطُه بيها،
تلاعبت بزرِّ قميصِه، وأردفت بغنج :
قولِّي هتجبلي إيه في عيد ميلادي ؟..
غمزَ بطرفِ عينهِ :
حسب ماتقدِّمي ياروحي، أطلقت ضحكة رنانة وهتفت بدلال :
متنساش إنِّي حامل ..بعدَ فترة اعتدلَ متحرِّكًا للخارجِ يدندن، ثمَّ صاحَ بصوتِه :
رينو تعالي حطِّي الأكل أنا جعان ..خرجت وهي تجذبُ روبها ترتديهِ ثمَّ هتفت :
معملتِش أكل ياراجح، كنت تعبانة ونمت ..
وليه مخلتيش البنتِ الشَّغالة تعمل الأكل؟..طلبتي زيادة علشان هتغيَريها وتجيبي واحدة أحسن منها إيه اللي حصل ؟!..
يوووه هوَّ تحقيق، البنت مرضيتشِ تيجي قالت الفلوس مش مكفِّية،
يعني إيه الفلوس مش مكفِّية، أومال ليه اتَّصلتي بمكتبِ الخدم، وفين الفلوس اللي المفروض تجدِّدي بيها البيت؟!..
طالعت البيت وأردفت بتهكُّم :
بيت إيه ياأبو بيت، أنا عايزة بيت زي طليقتَك، ماليش دعوة، أنا مش أقَّلِ منها ولو هي معاها الولد أنا كمان حامل وهجبلَك الولد ..
ألقى مابيدهِ واقتربَ منها غاضبًا :
وبعدهالك يارانيا، قولتلِك الشقَّة دي مش أنا اللي جبتهالها، هيَّ أخدت النفقة وكمِّلت واشترتها، وبعدين البيت مالُه ماهو حلو زيُّه زي بيت جمال، بس عايز اهتمام منِّك شوية .
نفخت بضجرٍ وجلست تحدجهُ :
قولِّي بقى الستِّ فريدة هيَّ اللي عجباك مش بيت جمال ..تأفَّفَ وثارت جيوشُ غضبه :
وبعدين معاكي، كلِّ ما نحاول ننسى ترجعي بينا لنقطةِ الصفر، مابقتشِ عيشة دي ..قالها وهمَّ بالمغادرة، هبَّت متَّجهةً إليهِ سريعًا :
رايح لها ياراجح، الجو خليلَك وعايز ترُوحلها، للدرجادي مقدرتِش تنساها حتى بعدِ ماتجوزتِ اتنين!..
+
دفعها صارخًا :
إنتِ بتقولي إيه يامجنونة؟!..قالها وهو يلطمُها على وجهها .
برقت عينيها متسمِّرة لأوَّلِ مرَّة، يصفعُها، هل حقًا ذاكَ الرجلَ الذي تنازلت وتزوَّجته، يهاتُفُها بتلكَ الطريقة..اقتربت منهُ وكأنَّها أصابها الجنون :
بتضربني ياراجح !..طيِّب طلَّقني، أنا لازم أسبلَك البيت وأمشي، أنا غلطانة رضيت أتجوِّز واحد زيك، واللهِ لأفضحَك وورِّيني هتعمل إيه ياحضرة الظابط، دنى منها وعيناها كالهيب من قاع جهنم، قاطعَ تشاجرهُم رنينَ هاتفِه،
استمعَ إلى بكائها :
إلحقني ياراجح، مش لاقية يوسف في أوضتُه ابني اتخطف ياراجح، وجمال لسة مرجعِش ..
تسمَّرَ جسدهِ وشعرَ بدورانِ الأرضِ به، ليردِّد :
يعني إيه يوسف مش في أوضتُه!.. اسألي الدكاترة، أنا جاي في الطَّريق .
رمقتُهُ الأخرى بنظرةٍ خبيثةٍ مقتربةً منه :
إيه اللي حصل ياراجح؟..لم يُعرها اهتمام وتوجَّهَ إلى سيارتهِ وغادرَ المكان...هوت على المقعدِ وابتسامةِ الانتصار تزيِّنُ وجهها تهمسُ بفحيح :
أخيرًا هعرف آخد حقِّي منِّك يافريدة، خلِّيهم يعرفوا إهمالِك، نفسي أشوف جمال لمَّا يرجع ويعرَف إنِّ ابنُه اتخطف...تؤتؤ ياحرام ياجيمي، الستِّ اللي رفضتِني علشانها ضيَّعِت ابنك اللي بتموت فيه .. رفعت الهاتف :
عملت إيه ياعطوة؟..توقَّفَ على جانبِ الطريق :
كلُّه تمام وزيِّ الفُل ياستِّ الكل، الولد واخده ملجأ في القاهرة، يعني مهما يدَّوروا عليه مش هيعرفوا يوصلولُه .
-القاهرة!!
ليه القاهرة مش اتَّفقنا على إنَّك تسفَّرُه برَّة مع الناس اللي بيشتروا العيال؟!
تلفَّتَ حولهِ وقامَ بإشعالِ سيجارة :
صعب حاليًا، المهمِّ إنِّك اتخلصتي منُّه، لازم اتحرك قبل الحكومة ماتشم خبر
أجابتهُ على الجانبِ الآخر :
عندَك حق، بكرة هتلاقي حقَّك وصلَّك وزيادة كمان علشان تعرف أنا حقَّانية..قالتها وأغلقت الهاتف .
نهضت من مكانِها وتوقَّفت أمامَ المرآةِ تنظرُ إلى نفسِها بالمرآة :
يادي النيلة على الحملِ وسنينُه، وشِّي انطفى غير جسمي اللي بقى يقرِف، اتَّجهت إلى خزانتها وأخرجت عباءتها السوداء :
لازم احتفِل بأوَّل انتصار ليَّا، واللهِ شكلَها هتلعب معاكي يارانيا..وصلت بعدَ قليل إلى إحدى صالوناتِ التجميل،
جلست إلى أن توجَّهت إليها إحدى العاملات، نظرت لنفسها بالمرآةِ تشيرُ على وجهها وشعرها :
عايزة نيولوك كأنِّي واحدة جديدة تعرفي ولَّا أشوف غيركم...
أمسكت الفتاةُ بعضَ المجلَّاتِ الخاصَّةِ بقصةِ الشعرِ وتجميلاتِ الوجه :
اختاري يامدام وإحنا في الخدمة .
بعد عدَّةِ ساعات عادت إلى منزلها، قابلتها فريدة التي تهبطُ من سيارةِ راجح ووجهها لوحةً من الألمِ والحزن
توقفت رانيا ترمقه، عينيها متورِّمة من كثرةِ بكاؤها، يحاوطها راجح، يشيرُ إليها ..اقتربت رانيا وتصنَّعت الدهشة :
مالِك يافريدة وفين الولد..رفعت فريدة عينيها المنتفخة تحاوطُها بنظراتها من أسفلها لأعلاها ثمَّ همست بتقطُّع :
رانيا إيه اللي إنتِ عملتيه في نفسك دا، اتجننتي!
خلعتي حجابك!!ألقت نظرة على زوجها ثمَّ مسَّدَت على خصلاتِها القصيرة :
إيه رأيَك ياراجح، حلو؟..
رمقَ فريدة بنظرةٍ وصمَت، اقتربت فريدة ومازالت نظراتها المصدومة :
إيه الجنان اللي إنتِ عملاه دا، إنتِ إيه؟! ابني اتخطَف وإنتِ رايحة الكوافير تتجمِّلي وتغيَّري تسريحة شعرِك وتخلَعي حجابك ؟!
شهقة بتصنُّع تضربُ على صدرها :
بتقولي إيه اللي حصل لابنِك، إزاي اتخطَف يعني؟! استندت على الجدارِ تحرِّكُ أقدامها بصعوبة، وساحت عبراتها على وجنتيها حتى فقدت الرؤية..، سحبتها إلى داخل منزلها ثم ساعدتها بالجلوس:
إهدي يافريدة يمكن حدِّ عايز قرشين، ماعملتيش بلاغ ؟..
جلست تمسحُ على وجهها بحزن :
راجح عمل البلاغ، وبيدوَّروا عليه، قلبي مولَّع نار يارانيا ابني حبيبي ..
تابعتها بملامحٍ جامدة، احكي لي ازاي اتخطف، أنتِ كنتِ فين
-لعبوا عليا دخلت واحدة لابسة لبس ممرضات قالتلي الدكتور عايزك، رجعت مالقتوش من عند الدكتور اللي مكنش دكتور اصلًا..قالتها بشهقة وقلبها يئن من الوجع
جلست بجوارهِا :
المهم فكَّري هتقولي إيه لجوزِك لمَّا يرجع...قالتها ونهضت قائلة :
معلش يافريدة، تعبانة معرَفش من وقتِ مارجعت من عندِك وبطني وضهري بيوجعوني ليه..كان نفسي ابات معاكي، بس أنا تعبانة اوي
رمقتها فريدة بنظرةٍ خرساء، ونهضت متحرِّكةً بدخولِ راجح :
فريدة رايحة فين؟! استندت للخارج :
رايحة بيتي، لو عرفتِ حاجة
ياراجح عرفَّني .
حاولَ إيقافها ولكنَّها تحرَّكت وكأنَّها تتحرَّكُ فوقَ بلُّور، أطبقت على جفنيها تتمتمُ :
إنتَ فين ياجمال، تعالَ هاتلي ابني ياجمال..تشبثت بسياجِ الدرجِ وخطت إلى منزلها الذي يقابلُ منزلَ بنت عمها ..فتحت الباب وهوت على الأرضيَّةِ تبكي بنشيج :
إنتَ فين يايوسف، إنتَ فين ياحبيب ماما..ظلَّت تبكي بمكانها حتى أصابتها غمامةً سوداء ونزلت بجسدها بالكاملِ مغشيًا عليها .
بالأسفل :
اقتربَ راجح من رانيا بعد مغادرةِ فريدة :
مكنتيش تطلعي معاها، شكلها مش مطمِّني يارانيا .
تعاظمَ الغضبُ بداخلها، ورغمَ ذلك حاولت السيطرة على نفسها، فاقتربت منهُ بغنجٍ تحاوطُ عنقهِ ثمّّ طبعت قبلةً فوقَ خاصتِه :
كلِّ سنة وإنتَ طيِّب ياحبيبي، مفيش حاجة في الدنيا هتبعدني عنَّك الليلة سمعتني، هيَّ شوية وهتنسى، الليلة عيد ميلادك، وبكرة عيد ميلادي
سحبت كفِّه ودلفت للداخل، وزَّعَ نظراتهِ على الغرفة المزيَّنة، جحظت عيناهُ من تلكَ الكعكةِ المعدَّة على اسمه، نظرت له قائلةً :
فيه عصير في الثلاجة هاتُه لحدِّ مااأرجعلَك ..قالتها وتحرَّكت بخطواتها الأنثوية الذي أفقدتهُ اتزانهِ فأردفَ بصوتهِ الأجش :
رينو متتأخريش عليَّا، قالها غامزًا بطرفِ عينهِ ..
دلفت للداخلِ وتزيَّنت ثمَّ جلست أمامَ المرآةِ تضعُ أحمرَ شفاه، نظرت لنفسها بتباهي وفخر :
بقى الجمال دا مش عجبك ياأستاذ جمال، فيها إيه يعني علشان يحبَّها أكتر منِّي، إنتَ السبب ياجمال في اللي أنا عمَلتُه، إنتِ ياستِّ فريدة الشريفة الخضرة، لازم أخليه يطردِك، وزي ماوقَّعت راجح اللي مكنش حدِّ بيقدَر عليه، بكرة أخليه يركع تحتِ رجلي،
أغمضت عينيها وابتسامة تجلَّت على ملامحها، تهمسُ لنفسها :
هانِت ياجمال، مبقاش كتير، أخلص من فريدة وبعدها راجح، وبعد كدا مفيش حاجة هتمنعنا، فتحت عينيها تتلاعبُ بخصلاتها، ثمَّ وضعت كفَّها على أحشائها :
دلوقتي إنتَ أهمِّ حاجة، علشان هيلاقي عوض ابنُه هنا، بعد ماأخلص من ابنُه التاني هانت أهي ياستِّ فريدة، علشان تتجوِّزي حبيبي حلو، إشربي خلتيني أتجوِّز أخوه المتجوِّز، وإنتِ روحتي اتهنيتي بحبيب بنت عمك بعدِ سنين انتظار ،رحتي في الآخِر اتجوزتيه .
خرجت لزوجها بتلكَ البدلةِ التي ينحني أمامها أعتى الرجال وهي تتراقصُ بجسدِها الأنثوي بإغراء،
إلى أن فقدَ سيطرتهِ وجذبها إليهِ في وسطِ ضحكاتها ..
بعدَ عدَّةِ ساعات :
استيقظَ على رنينِ هاتفه، اعتدلَ :
أيوة ..
إلحق ياراجح بيه مركِب أخوك جمال غرقِت في البحر، وكلِّ اللي عليها ماتوا .
هبَّ من مكانه، يجذبُ ثيابهِ يرتديها سريعًا :
إنتَ بتقول إيه ياحمار إنتَ !..
بعد يومين، بعدما استلم راجح جثة جمال، فقدت الشعورَ بكلِّ مايحيطُ بها، جسدًا خاويًا من الروح،
تتمدَّدُ على الفراشِ كالجثَّةِ الهامدةِ لا حولَ لها ولا قوَّة، دموعٌ فقط تنهمرُ عبرَ وجنتيها تتمنَّى بداخلها أن يُزهقَ اللهَ روحها ..دلفَ إليها راجح:
فريدة لازم تقوي ومتنسيش اللي في بطنِك..
دلفت رانيا تطالِعُها بأعينٍ كارهةٍ تريدُ أن تطبقَ على عنقها حتى تلفظَ أنفاسها..أشارَ إليها راجح:
أدخلي يارانيا حاولي تخفِّفي عنها .
جلست بجوارِها ونظراتها مازالت متعلقة بجسد بنت عمها المسجى على الفراش، انهمرت دموعها وشهقة خرجت رغمًا عنها
مات يافريدة اللي استنيتوا العمرِ كلُّه مات، شوفتي لا إنتِ اتهنيتي بيه ولا سبتهولي أعيش شوية في حُضنه، أنا شمتانة فيكي عارفة ليه؟.. لأنِّك كنتي عارفة إنِّي بحبُّه ورغمِ كدا روحتي اتجوزتيه، ولسة ربنا هينتقِم منِّك، ابنك وجوزِك في يوم واحد...
قالتها وخرجت من الغرفةِ سريعًا، ودموعها كزخَّاتِ المطر ..وقفت متسمِّرةً أثناءَ خروجِ الجثمانَ لمثواه الأخير..
ظلَّت تتابعُ تابوتَ الموتى إلى أن شقَّ جوفها صرخةً وهم يحملونهُ ويغادرونَ المكان ..ظلَّت تصرخُ وتصرخ إلى هوت فاقدةً الوعي ...
مرَّت عدَّةَ أسابيع :
ذاتَ مساءٍ، فتحت عيناها على ألمٍ شديدٍ، نهضت تصرخُ ليهرولَ زوجها إليها :
مالِك يارانيا، حاوطت بطنها تصرخُ من شدَّةِ آلامها إلى أن شعرت بالدماءِ تسيلُ بين ساقيها، حملها زوجها وهرولَ بها إلى سيارتِه :
بعد فترةٍ خرجَ الطبيب :
آسف فقدنا الجنين بس حالة الأمّ كويسة، قالها الطبيبُ وتحرَّك، هوى راجح على المقعدِ عندما خانتهُ ساقيه، انسابت عبراتهِ رغمًا عنه .
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن جاءَ موعدُ ولادةِ فريدة، هبَّت من نومها فزعةً على ألمٍ بظهرها، استندت على الجدارِ إلى أن وصلت لهاتِفها وقامت بمهاتفةِ جارةٍ لها : إسراء الحقيني هولِد..
جذبت إسراء عباءتها وأيقظت أخيها :
محمد قوم تعالَ نطلَع لفريدة شكلها بتولِد، و ياحبيبتي لوحدها بعدِ عمايل الزِفتة رانيا فيها .
وصلت بعدَ قليلٍ إلى المشفى، ظلَّت لفترةٍ بغرفةِ العملياتِ إلى أن خرجَت الممرضة :
-مبروك ولد ..جذبت إسراء حافظةَ نقودِ أخيها :
شكرًا حبيبتي، ثمَّ أعطتها بعضَ النقود، وتحرَّكت متَّجهةً للداخل، وصلَ راجح بجوارهِ رانيا بعدَ قليل،
دفعَ البابَ ودلفَ يرمُقها بنظراتٍ حادَّة :
يعني اتصلِّتي بالغريب ومهنشِ عليكي تتصلي بأخو المرحوم جوزِك..
رفعت بصرها إلى ابنَةِ عمِّها التي تحرَّكت بدلال :
خلاص ياراجح، خلِّيهم يجيبوا الولد نطَّمِن عليه، جحظت عيناها تنظرُ إليها بخوف، ابتسمت رانيا بنصر واقتربت تتبخترُ بخطواتها :
يتربَّى في عزِّك وفي عزِّ راجح طبعًا، ماهو عمُّه في مقام أبوه...
دلفت الممرِّضة تحملُ الطفل..توقَّفَ راجح أمامها :
هاتيه أنا هسمِّيه، ابتلعت غصَّتها بصمتٍ خوفًا على وليدها، وكأنَّها فقدت الكلام، أطبقت على جفنيها بعدما حملتهُ رانيا تنظرُ إليه :
الولد شبه جمال الله يرحمُه مش كدا ياراجح؟..
ابتسمَ وهو يمسِّدُ على خصلاتهِ الخفيفة الناعمة :
اللي خلِّف مامتش فعلًا...تلقَّاهُ مرَّةً أخرى من رانيا وتحرَّك مقتربًا يضعهُ بين يديها هامسًا لها :
أنا دلوقتي جبتهولِك وبحطُّه بين إيديكِ ياريت تفكَّري كويس في كلامي بدل ماأخدُه منِّك يافريدة ..
شعرت بانسحابِ الأوكسجين من رئتيها وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ ينطبقُ فوقَ صدرها، ارتعشَ جسدها بالكامل حينما رفعَ كفَّيهِ على وجنتيها
مبروك ياأمِ جمال، شوفتي أنا كريم إزاي وهسميه على إسمِ جمال ..قالها وانتصبَ عودهِ يرمقها بصمت، ثمَّ استدارَ إلى رانيا :
خليكي مع بنتِ عمِّك لحدِّ ماأشوف الدكتور ..رمقت إسراء :
شكرًا على تعبِك ياإسراء، خدي أخوكي وروحي، فريدة مش محتاجة غير بنتِ عمَّها وجوزها دلوقتي
تحرَّكَت إسراء إليها :
حبيبتي لازم أمشي، ولمَّا ترجعي هزورِك، انحنت وقبَّلت الطفلَ على جبينهِ قائلة :
ربِّنا يباركلِك فيه ..أومأت دونَ حديث،
جلست رانيا تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تطالِعُها بشماتة :
مبروك يافريدة، شوفتي الولد حلو إزاي زي أبوه، أهو دا اللي شفعلِك عندي، هاخدُه وأربيه يافريدة وأخلِّيه يكرهَك وأحصَّرِك عليه زي أخوه
ضمَّت ابنها بخوفٍ وانسابت عبراتها بصمت...
هزَّت رانيا ساقيها ترمُقها بسخرية :
هتتجوزي راجح يافريدة، وتتنازلي عن كلِّ ماتملكيه، مكُنتش أعرف أنُّه بيحبِّك أوي كدا لدرجة يكتبلك كلِّ حاجة، حتَّى بيت أبوه ..
استندت على الفراشِ واقتربت منها ترمقها بنظراتٍ ناريَّة :
كلِّ اللي أخدتيه منِّي هاخدُه، حبِّ أبويا اللي مكنشِ شايف غير الستِّ فريدة بنتِ أخوه، وحسرة أمي وهيَّ شيفاني كلِّ ليلة نايمة معيَّطة، بسببِك، جِه الوقتِ كلِّ حاجة هاخدها منِّك، وأنا شيفاكي ذليلة كدا، هتوافقي على راجح دا لو عايزة ابنِك في حُضنِك، وأوعي تفكَّري أنُّه هيتجوزِك حق وحقيقي، تبقي مجنونة، دا علشان أسيبِك طول حياتك زي الحيطة الوقف كدا ..
1
قالتها وهبَّت من مكانها :
إجهزي ياعروسة علشان أسبوعين بالتَّمام تكوني ضُرُّتي ..قالتها بعدما أطلقت ضحكةً رنانةً دوت بالمكانِ كصوتِ عويلٍ من الإعصارِ يصمُّ الآذان
مرَّت عدَّةِ شهورٍ عاشتها فريدة بالجحيم، حفاظًا على ابنها...ليلةً شتويَّة عاصفة..جلست لإرضاعِ ابنها، استمعت إلى شجارهُما بالخارج، ولكنَّها لم تكترِث ..مسَّدت على خصلاتِ طفلها،
حبيب ماما إنت، ربِّنا يقوِّيني وأقدر أربِّيك كويس، لازم نصبِر شويَّة علشان نهرَب من هنا، أصبُر حبيب ماما ..
كانَ الطفلُ يداعبُ وجهها وكأنَّه يفهمها، ضمَّتهُ لأحضانها تستنشقُ رائحتهِ متذكِّرةً ابنها المفقود ؛
ياترى يايوسف إنتَ عايش ياحبيبي، وحشتِ ماما أوي، حاسَّة ربنا هيجمعني بيك قريِّب .
استمعت إلى طرقاتِ البابِ ثمَّ دفعَهُ ودلف، احتضنت ابنها :
عايز إيه ياراجح؟..إزَّاي تدخُل عليَّا كدا من غير استئذان؟!..
اقتربَ منها وعينيهِ كأسدٍ مفترس :
ناسية إنِّي جوزِك ولَّا إيه، عايز حقِّي..
تراجعت وهي تحتضنُ ابنها :
راجَح، عارف جوازنا ليه هصَّوَت وألمِّ عليك النَّاس .
كانت بالخارجِ تغلي كمرجلٍ فوقَ النَّار، تريدُ أن تحطِّمَ ذاكَ البابَ عليهما، ظلَّت تجوبُ المكان ذهابًا وإيابًا، يأكُلَها الغيظ منَ الدَّاخل :
ماشي يافريدة فضلتي وراه لحد ماوقعتيه، توقَّفت بعدما استمعت إلى صرخاتِها بالدَّاخل :
لو قرَّبت منِّي هموِّتَك ياراجح مستحيل أكون لراجل بعد جمال .
جلست رانيا وعلى وجهها ابتسامةَ انتشاءٍ، وهي تستمعُ إلى صرخاتها وترجِّيها له، ولكنَّهُ كانَ كالذِّئبِ البشري ..صمتت بعدَ دقائق..ورغمَ نيرانِ صدرِ رانيا من الغيرة إلَّا أنَّ وجودَ فريدة مذلولةً أمامها برَّدَ تلكَ النيران .
ظلَّت لدقائق، ثمَّ نهضت تدفعُ البابَ وتوقَّفَت على بابِ الغرفة، وكأنَّ أحدَهُم صفعها بقوَّةِ لتشعرَ بترنُّحِ جسدها، وهي ترى زوجها بتلكَ الحالة، وكأنه لأول مرة يرى سيدة صرخت به :
خلاص بقى، استمتعتِ شوية تعالَ عايزاك وارميلها قرشين، تمن استمتاعك..
رفعَ رأسهِ وعينيهِ تخترقُ وجهَ فريدة التي ذُبِحت بسكينٍ بارد، ثمَّ هدرَ بها :
إطلَعي برَّة اتجنِّنتي، إزاي تدخلي كدا؟!دي مراتي وزيَّها زيك بعد كدا .
شعرت وكأنَّ أحدًا سكبَ عليها دلوًا منَ الماءِ المثلَّج، لتشعرَ بشحوبِ وجهها :
إنتَ اتجنِّنِت ياراحج!! بتقولِّي أنا الكلام دا ؟!..
سحبَ فريدة لأحضانِه، يجذُبُ الغطاءَ عليها ثمَّ رمقَ الأخرى بعينيهِ لتخرجَ صافعةً البابَ خلفها، استيقظَ على أثرهِ الطفلُ يبكي .
دفعتهُ صارخةً به :
إطلَع برَّة روحلها، إنتَ واحد حقير زيها، برَّة..
قالتها بصُراخ، حاولَ الحديثَ إلَّا أنَّها
ظلَّت تصرخُ بهِ كالمجنونة، نهضَ متَّجهًا إلى الخارج .
مرَّت الشهورُ والوضعُ كما هو عليهِ بينَ فريدة ورانيا، بل ازدادَ سوءًا بعدَ تعلُّقِ راجح المجنونَ بفريدة وحملِها منه،
دلفت إلى غرفتها وبدأت تحطِّمُ كلَّ ما يقابِلُها :
ليه هيَّ اللي تجيب العيال، ليه، ظلَّت تصرخُ كالذي مسَّها جِن، لازم اخلص منك يافريدة، دلفَ من عملهِ على صوتِ صراخها :
رانيا اتجنِّنتي مالك فيه ايه؟!صمتت وعيناها ترسلُ إليهِ لهيبًا من قاعِ جهنَّم :
فريدة حامل وعايزة تهرَب بابنك،
لم يستمع سوى فريدة حامل ..لمعت عيناهُ بالسعادة، ليغادرَ الغرفة متّّجهًا إليها :
فريدة إنتِ حامل ؟!
ألقت مابيديها واقتربت تطالعهُ شزرًا :
هموِّتُه ابنِ الزنا دا، لأنُّه من حيوان زيك..
لطمةً قويِّةً على وجهها، ثمّّ سحبها من شعرها ، يهمسُ إليها :
حاولت معاكي بكلِّ الطُّرق، لكن الغبيَّة مصرِّة برضو، طيِّب إسمعيني.. الولد دا لو حصلُّه حاجة هموِّتِك ..
قالها ثمَّ دفعها بقوَّةٍ لتهوى على فراشها .
كتمت صرخاتِها بوسادتها، تبكي بنشيجٍ على رجُلٍ يُحسَبُ من أشباهِ الرِّجال،
بعدما شعرت بألمٍ يسري بجسدها، نهضت متَّجهةً إلى الحمَّامِ بعدما ازدادَ الألم، أمسكت بطنها وآلامًا مبرحةً بظهرها.. جذبت وشاحها وخرجت من المنزلِ متَّجهةً إلى العيادة النسائية، التي بجوارِ المنزلِ بعدَّةِ أمتار، بعدما وجدت ابنها يستغرقُ بنومه . وسفر رانيا ليومين لأحد اقاربها
وصلت إلى العيادةِ وجسدها يئنُّ بالألم..شعرت بتدفقِ سائلٍ بينَ ساقيها، بكت حينما فقدت الحركة، ساعدتَها إحدى النساءِ التي كانت في العيادة،
مرَّت قرابةُ الساعتَينِ بعدما أخبرتها الطبيبة على فقدانِ جنينها ..
عادت بعد فترة إلى المنزلِ متلهفةً لرؤيةِ ابنها الذي تركتهُ وحيدًا بذاكَ الجحيم، دلفت تبحثُ عنهُ كالمجنونة ثمَّ دفعت البابَ، وهي بين حالة الوعي واللا وعي
قابلتها رانيا تطالعُها بابتسامةٍ حمقاء :
حمدلله على السلامة ياضُرِّتي ..
سحبت نفسًا محاولة السيطرة على نفسها من عدم اغمائها، دلفت بخطوات هزيلة تبحث عن ابنها، شهقة خرجت من جوفها مستديرة تستند على الجدار:
ابني فين يارانيا؟..أنا كنت سيباه نايم ..
نظرت إلى أظافرِها المطليَّة ثمَّ رفعت عيناها قائلة :
اثبتي، وشوفي هتعملي إيه مع راجح لمَّا يرجع، هتقوليلُه إزَّاي الولد اللي في بطنِك نزل، وكمان ابنِ أخوه اتخطَف وهوَّ متأكِّد إنِّي مش موجودة في البلد كلَّها ..توقَّفت كالجُثَّةِ التي فقدت الحياةَ ولم تشعر بنفسها لتهوى ساقطةً على الأرضيِّةِ الصلبة ..أنتِ اللي سقطيني صح خططي علشان اسيب الولد ..تحركت إليها تهجم عليها ورغم أنينها إلا أنها سيطرت عليها لتلطمها على وجهها تجذبها من خصلاتها
-هموتك ياحقيرة .
دفعتها بقوة وظلت تركلها ببطنها حتى هوت على الأرضية وانسدلت الدماءمنها
-حقي ولادك الاتنين كانوا حقي انا ولسة ياما تشوفي، وراجح كل ليلة يهجم عليكي زي الحيوان ياحيوانة
حاوطت بطنها بعدما شعرت بآلام بكامل جسدها
بمكانٍ ما بعيدًا عن السويس..
خرجَ من المسجدِ بعدَ قضاءِ صلاةِ الفجرِ ومازالَ لسانهِ يردِّدُ ذكرَ الله، استمعَ إلى صوتِ بكاءِ طفلٍ بجوارِ المسجد، وضعَ مسبحتهِ بجيبِ جاكيتهِ الثقيل، واتَّجهَ مردِّدًا :
لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيم، استمعَ إلى صوتِ أخيهِ خلفه:
بتعمِل إيه؟!
أشارَ على الطِّفل ...
فيه طفل بيبكي هنا، انحنى يحملهُ ونزعَ عنهُ جاكيتهِ مردِّدًا :
لا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العليِّ العظيم، النَّاس مبقاش في قلوبِهم رحمة، إزَّاي أم أو أب هانوا عليه يحطُّوه في البردِ دا!..نظرَ للطفلِ الذي يتضوَّرُ جوعًا، رفعهُ إلى صدرهِ وضمَّهُ بحماية :
ياحبيبي يابني، ربِّنا يسامح اللي عمَل فيك كدا..
إنتَ هتاخدُه ولَّا إيه؟!..
حاوطهُ بعنايةٍ يدَثِّرُهُ بجاكيتهِ من قطراتِ المطر :
نروح ونشوف هنعمل إيه، مش هاين عليَّا أسيبُه وأمشي ..
دخَلَّه المسجد إنتَ مجنون، دي مسؤوليَّة، رمقَ أخيهِ بنظرةٍ أخرسته :
تعرَف تسكت، قولت هاخدُه يعني هاخدُه .
فتحت عيناها بعدَ فترةٍ وجدتها تجلسُ بجوارِها :
حمدلله على السلامة، اعتدلت بعدما تذكَّرت ماصارَ تهمسُ بتقطُّع :
ابني فين؟ أبوس إيدِك يارانيا قوليلي ودِّيتي الولد فين؟..
بسطت يدها إليها قائلة :
بوسي إيدي وأنا أقولِّك ..صاعقة ألجمتها عن الحديثِ تطالُعها بذهول، لتسحبَ كفَّها تقبلهُ بدموعِ عينيها :
فين ابني بقى..تراجعت متوَّقفة :
قومي اعمليلي الغدا أنا جعانة، وزمان راجح على وصول معرفش ابنِك فين .
هبَّت من مكانها رغمَ تألُّمِها وسحبتها من خصلاتِها وظلَّت تضربُها إلى أن دفعَ البابَ ودلفَ إليها :
نزَّلتي الولد يافريدة، عملتي اللي في دماغِك..رفعت كفّّيها لتتحدَّثَ ولكنَّهُ لم يعطها فرصة، ليبدأَ بضربها بقوَّةٍ حتَّى فقدت الوعي..كانت تنظرُ إليها بشماتة تهمسُ لنفسها :
علشان قرَّبتي لحاجة تخصُّني يافريدة استحملي ..نهضَ من مكانه :
فين جمال يارانيا ؟..
هزَّت كتفها بعدمِ معرفة قائلة :
معرفَش ياراجح، أنا رجعت لقيتها بتقابلني وبتقولِّي نزلِّت الولد، وفضلت تشتِم فيك وتقول مستحيل أخلِّف منُّه حتى لو فيها موتي، ولما حاولت امنعها هجمت عليا
ثارت جيوشُ غضبِه، وبدأ يحطِّمُ كلّّ مايقابلهُ وصاحَ يزأرُ كالأسدِ الفاقدِ لطعامه :
فين جمال، الولد فين، هعيِّشِك في مرار لو مقولتيش هرَّبتي الولد لمين، قالها بعدما دلفَ إليها يدفعها بقدمهِ مرَّةً أخرى ..
بعدَ خمسِ سنوات :
عاشت فيهم فريدة كجثَّةٍ رغمَ محاولاتها الهروب، ولكنَّها فشلُت بسببِ الوضعَ الأمني الذي فرضهُ راجح عليها
يعاملها كالجارية، التي يُستباحُ جسدها كلَّ ليلة بعدَ معرفتهِ بعمليةِ استئصالها للرَّحمِ بعدما حملت منهُ مرَّةً أخرى وحاولت إسقاطِ الجنين، فساءت حالتها وقامَ الأطباءُ باستئصالِ الرحم .
حملت رانيا بعدما فقدت الأمل في الإنجاب بعد فقدانها لجنينها بعدَ موتِ جمال، مرَّت الأيامُ إلى أن أتت اللحظة الحاسمة التي ستذوقُ مثلما أذاقتها ..
جلست على فراشها تنتظِرُ دلوفهِ للغرفة ككلِّ ليلة، دخلَ كعادتهِ وجدها تتألقُ بمنامتها كما طلبَ منها، ظلَّ معها لبضعةِ دقائقَ ثمَّ جلسَ يدخِنُّ سيجارة،
اعتدلت وحاولت تستعملُ أساليبَ رانيا :
راجح، متعرفشِ رانيا ودِّت ابني فين؟..
استدارَ إليها غيرَ مستوعبٍ حديثها :
إنتِ مجنونة!!رانيا ليه هتخطَف ابنك؟!..زحفت وجلست أمامهِ وهمست له :
علشان تنتقِم منِّي، أصلها كانت بتحبِّ جمال...
جحظت عيناهُ وحديثها أذهبَ عقلهِ فهبَّ من مكانه :
إنتِ مجنونة مين دي اللي بتحب جمال؟!..رفعت أحدِ حاجبيها قائلة :
إسألها لو مش مصدَّق، ولَّا أقولَك، مش هي والدة بقلَها اربع شهور.. ليه بقت تمنع نفسها عنَّك، اتَّجهَ سريعًا يصرخُ باسمها
خرجت على صرخاتِه :
اتجنِّنتِ ياراجح!! البنتِ نايمة ماصدَّقتِ نيَّمتها .
اقتربَ وشياطينُ الأرضَِ تأكلُ بعقله :
إنتِ كنتي بتحبِّي جمال أخويا؟!..
شهقة خرجت من فمها :
إنتَ اتجنِّنتِ ياجمال، خرجت فريدة بقميصها الشفَّافَ تطالعها بابتسامةٍ ساخرة..هرولت إليها :
إنتِ ياحيوانة قولتيلُه..حاولت ضربها إلَّا أنَّهُ توقَّفَ أمامها :
رُدِّي عليَّا الكلام دا حقيقي..توقَّفت تطالعهُ بذهول :
كدا ياراجح، بعدِ الحبِّ دا كلُّه تشُكِّ فيا!! تصدَّق فريدة اللي قتلت ولادَك، وأنا اللي كنت هموت على ضُفرِ عيِّل منَّك، لو مش بحبِّك كنت خلِّفتِ ليه..
استدارَ إلى فريدة يشيرُ إليها :
أدخلي جوَّا بكرة هحاسبِك...دفعتهُ واتَّجهت إليها تجذبُها من خصلاتها :
صرخت تلكمَها :
ودِّيتي ابني فين ياحيوانة، خمس سنين على أمل يكون عندك رحمة، حيوانة..صرخت بها فريدة التي جذبت السكِّين وحاولت الهجوم عليها ولكنَّهُ صفعها بقوَّة :
إخرسي بقى، بطَّلي تمثِّلي علينا، أنا عارف ومتأكِّد إنك غيرانة منها، شوفي ضيعتيه فين زي اخوه .
بصقت بوجههِ مردِّدة :
حسبيَ الله ونعمَ الوكيل فيكم، ثمَّ نظرت لتلكَ التي تقفُ على بابِ غرفتها بمنامتها التي تكشفُ أكثرَ مما تستر،
راجح سيبَك منها دي مريضة، ياريتَك تطلَّقها وترميها لكلابِ السكك..
استدارت ترمقها بانتصارٍ ثمّّ أشارت لزوجها :
حبيبي ياله علشان ننام الجوِّ برد، خلِّيها تكلِّم نفسها، يالة استنيتَك كتير عايزاك تدَّفيني، قالتها بنبرةٍ شامتة، ثمَ أشارت للواقفة :
الصُّبح أقوم ألاقيكي مخلَّصة كُلِّ شغلِ البيت، قالتها وتحرَّكت بخيلائها كأنَّها تملكُ العالم..رمقتهُ بنظرةٍ كارهة تمَّ اقتربت :
السنِّ بالسن والبادي أظلَم، قالتها وتحرَّكت بعضَ الخطواتِ إلَّا أنَّها تسمَّرَت بمكانها :
دي اللي مانعة نفسها عني، عايزة توصلي لأية يافريدة
-لو راجل وأخو جمال فعلا خلي عندك دم وطلقني، انت اخدت كل حاجة، ومراتك اخدت ولادي
حك ذقنه وعيناه عليها ثم أردف:
انا اتجوزتك علشان اعرفك اني راجل يافريدة، مش رحتي قولتي لرانيا ازاي وافقتي تتجوزي نص راجل
ايه يافريدة شوفتيني راجل ولا لا .دنى منها وغرز عيناه بمقلتيها:
-اللي رحمك مني إنك صونتي اخويا بعد موته، ودلوقتي كل حاجة كانت عنده بقت ليا حتى انتِ، بس عمري ماأحبك قد حبيبتي، حاولت احميكي من كلاب السكك، بس إنتِ متستهليش
إنتِ طالق يافريدة، كفاية لحدِّ كدا مش عايز أشوف وشِّك تاني ..قالها وغادر إلى غرفته
بعدَ عدَّةِ ساعات وهي جالسةً على الأرضيَّةِ الباردة، وشياطينُ الأرضِ تتلاعبُ بعقلها، هبَّت من مكانها وتحرَّكت بخطواتٍ هادئة تتلفَّتُ حولها إلى أن وصلت إلى غرفةِ ابنتهم، وحملتَها تخرجُ من بابِ المنزل ، ظلَّت تهرولُ كالمجنونة، إلى أن وصلت إلى الطريقِ العامِّ لتضعها على طرفِ الطريقِ وغادرت المكانَ بأكملهِ وهي تهرولُ تدعو اللهَ أن يسامحها لما فعلته..استمعت إلى بكائها، فاستدارت بقلبها الذي ضعُفَ ولم تنتبه لتلكَ السيارةِ التي تتحرَّكُ أمامها لتصدمُها وتُلقي بها على الأرض، هرولَ الرجلُ إليها يفحصها مع نزولِ زوجتِه، رفعت عيناها إليه :
لسَّة عايشة ولَّا ماتت ..
حملها متَّجهًا إلى سيارتهِ قائلًا :
عايشة، همست بصوتٍ خافت :
البنت، أنزلَ رأسهِ ليستمعَ إلى ماتقولُه :
بنتي..تلفَّتَ حولهِ يقولُ لزوجتِه :
بتقول بنتي، لحظاتٍ واستمعَ إلى بكاءِ الطفلة، هرولَ إليها يحملُها متَّجهًا بها إلى وجهته..تساءلَت زوجته :
مصطفى الستِّ هتعيش؟..
أومأَ برأسهِ وهو يطالِعُها من خلالِ المرآة :
إن شاء الله ياغادة هتعيش، المهمِّ أوصَل بيها للعيادة محمد، أخرجَ محرمة قائلًا :
إربطي دماغها عشان النزيف..
بعدَ عِدَّةِ ساعات داخلَ إحدى العيادات الخاصَّة، خرجَ الطبيبُ إليهِ مبتسمًا :
يعني لو مفيش مريض ياحضرة الظَّابط منشفشِ وشَّك..
ربتَ مصطفى على ذراعِه :
إنتَ عارف شغلِ الشرطة،المهمِّ الستِّ عاملة إيه ؟..
كويسة ياسيدي، إحمد ربِّنا لولا إنَّك كنت سايق بالرَّاحة كان زمانها توكَلِت ..
طيِّب الطفلة؟.
والطِّفلة كويسة، دي حديثة ولادة عمرها حوالي أربع شهور ..
أومأَ لهً ثمَّ تساءل :
الستِّ هتفوق إمتى يا محمد؟..
نظرَ بساعةِ يدهِ ثمَّ تحرَّك :
يعني نصِّ ساعة كدا، تعالَ نشرب القهوة وإحكي لي عملتِ إيه الفترة دي ....
نهاية الفلاش..
خرجت من ذكرياتها المؤلمة، على رنين هاتفها
-فريدة فيه ملف ازرق في درج المكتب ابعتيه مع السواق
نهضت بعدما أجابته
-حاضر ...
بمكانٍ آخرٍ وخاصَّةً بمطارِ القاهرة :
خرجَ من صالةِ المطارِ متَّجهًا إلى الخارج، وجدَ صديقَ عمرهِ بإنتظاره، ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا :
أهلًا يادكتور..مصر نوَّرت والله..
رفعَ كفِّهِ يخلِّلُ أناملهِ بين خصلاتِ شعرهِ الناعمة.. يسحبُ نفسًا عميقًا داخلَ رئتيهِ ثمَّ زفرهُ على مهلٍ حتَّى يخرجَ نيرانَ اشتياقه
حدجَ صديقهِ وابنِ خالهِ وهتفَ متهكِّمًا :
مصر منوَّرة باللي فيها يا كرم أفندي..قهقهَ كرم يشيرُ إلى سيارته :
أفندي إيه يادكتور، إنتَ مش غايب كتير يعني دي كلَّها سبع سنين ياعم ...
استقلَّ السيارة يشيرُ إليهِ بالتَّحرُّك، مردفًا بعدما ارتفعت ضحكاتُ كرم : صوتك يا دكتور الحيوانات..طرقَ كرم على المقوَدِ يرفعُ حاجبهِ بشقاوة :
مش أحسن منَّك يادكتور البنات..إنَّما بتوقف وسط البنات إزاي وتمسِك أعصابك ؟!..
2
زفرَ آدم بغضبٍ من ثرثرته، فأشارَ بيدهِ :
بُص قدَّامك لتموِّتنا قبلِ مانوصل .
في منزلٍ متوَّسطِ الأثاث، بهِ عدَّةِ مفروشاتٍ بسيطة..ورغمَ ذلكَ يُحاطُ بهِ حديقة أقلُّ مايقالُ عنها حديقة من الجنَّة..
تجلسُ تلكَ الأميرة التي تبلغُ من العمرِ اثنى وعشرينَ عامًا وهي تضعُ دفترها وأقلامها أمامها تنظرُ بصمتٍ وخيطٍ من الدموعِ يزيِّنُ فيروزتها .
أطلقت تنهيدة مرتعشة من عمقِ داخلها كعمقِ الليلِ الحالكِ في فصلِ الشتاء .
وصلت أختها وجلست بمقابلتها :
وبعدهالك يا إيلين هتفضلي كدا، من وقتِ ماعرفتي برجوع آدم وإنتِ مش مبطَّلة عياط ..
ابتلعت غصَّتها المتورِّمة ونهضت تجمعُ أشيائها :
لا آدم ولا حتَّى كرم بقوا يعنولي بشيئ، من فضلِك يامريم مش عايزة أتكلِّم ..
ربتت أختها على ظهرها، وطبعت قبلةً على خصلاتها :
براحتك حبيبتي، بس فكَّري في بابا ومتنسيش مرات أبوكي وعمايلها فينا..قالتها وتحرَّكت :
ظلَّت صامتةً لثواني تقاومُ غلالةَ دموعٍ وخزت جفنيها ثمَّ قالت بصوتٍ مختنق :
اللي يبيع مرَّة يبيع ألفِ مرَّة يامريم .
..استمعت لصوتِ سيارة تدلفُ لذاكَ المنزلِ الذي يقابلهما ..
ابتسمت بسخريَّة عندما استمعت إلى الأعيرَة الناريَّة التي بدأت تَمطرُ بالمكان .
بعد ساعتين من وصوله وصلَ أخيها ووقفَ أمامها :
إيلين قاعدة كدا ليه، وليه مبتروحيش بيت خالِك؟!..إنتِ نسيتي إنِّ آدم رجع النَّهاردة!..
نهضت من مكانها وأجابت أخيها :
أنا مش هروح لحدّ ياكرم اللي عايز يجي هنا يسلِّم علينا مرحب بيه، واللي مش عايز براحتُه يبقى وفَّر ..
سحبها كرم بقوََةٍ وسطَ صرخاتها :
لا، هتيجي وغصبِ عنِّك كمان..حاولَت الفكاكَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كانَ الأقوى في السيطرة عليها .
وقفَ زين الرفاعي وهو يفردُ ذراعيهِ لابنةِ أختِه :
يامرحب ببنتِ الغالية..تسمَّرت بوقفتها تنظرُ إلى أخيها بغضبٍ ثمَّ رفعت نظرها إلى خالها :
إزاي حضرتك ياخالو..
صدمة أزهقت روحهِ من جفائها فاقتربَ منها :
كدا ياإيلين مش عايزة تيجي في حضنِ خالِك، وبتقوليها من بعيد، أنا لسَّة راجع من مصر والله يابنتِ الغالية، حتى إسألي كرم أخوكي ..
دنت منهُ ورفعت كفِّهِ لتقبيله :
أبدًا ياخالو، بس زعلانة من كرم عشان جابني غصبِ عنِّي، أنا عارفة إن حضرتك مشغول ..
ليه مكنتيش عايزة تيجي كمان؟!..أشارَ إلى آدم الصامت كالمشاهد فقط :
طيِّب مش تقولي لابنِ خالِك حمدلله على سلامته!..
رمقتهُ سريعًَا ثمَّ تحدَّثت :
أهلًا يادكتور..حمدلله على السلامة..ثمَّ اتَّجهت إلى خالها :
الموضوع عندي مذاكرة كتيرة، حضرتَك عارف كلية الطُّب عايزة مذاكرة على طول ..
اقتربَ آدم يطالعُها بتعمق لعدَّةِ دقائق ثمَّ أشارَ إلى كرم متسائلاً:
مين دي؟!
سؤالهِ البسيط نزلَ على قلبها كضربةِ خنجرٍ قاتلةٍ فتَّتهُ من الوجع ..التفتت إليهِ وداخلها يحترقُ كمرجلٍ جفَّ مائهِ من كثرةِ الغليان، وأجابتهُ بصوتها الحزين المتألِّم :
إيلين الجندي يادكتور، معلِش السنين عدِّت كتيرة قوي هتفتكر إزاي .
أنهت حديثها بأعينٍ يتطايرُ منها الشررَ ثمَّ أشارت إلى كرم وتحدَّثت متهكِّمة :
مش كنتِ تفكَّر الدكتور بقرايبُه ياكرم حتى يعرَف هو بيسلِّم على مين..بس هنقول إيه معذور .
معركة حامية بين كبريائها الذي أهدرهُ من عدمِ معرفتهِ لها وبينَ أشواقها، التي جعلتها تتحدَّثُ كالمنتقمِ فأكملت حديثها :
آسفة ياخالو مش هقدر أرحَّب بالدكتور أكتر من كدا، عندي محاضرة بعدِ ساعة ولازم أجهز .
قالتها واستدارت متحرِّكة، ولكن توقَّفت بعد حديثِ خالها :
إيلين آن الأوان عشان نتمِّم خطبتِك بآدم .
جحظت أعينُ آدم من قرارِ والدهِ المفاجئ، فصاحَ غاضبًا :
آدم مين إن شاءالله، إنتَ لسة ماسك في كلامنا لمَّا كنَّا عيال !..
أشارَ والدهِ لهُ وأردفَ منهيًا الحوار :
إعمل حسابك الجمعة هنكتِب كتابك إنتَ وإيلين، ودا آخر كلام ..
هنا لم تستطع الإهانة من رفضهِ القاطعِ لها، فصاحت رافضةً بصوتها المرتفع متناسيةً وقوفها وسطَ جميعِ العائلة :
ومين قالَّك إنِّي موافقة عليك، خالو هوَّ اللي إتكلِّم وأنا مقولتش قراري، بناءً على إيه ،معرفشِ آخد القرار !..
صاحَ كرم غاضبًا بأختِه :
إيلين!!
تحرَّكت ولم تعيرُ أي اهتمامٍ لأخيها، ووقفت أمامهِ ونظرت إلى داخلِ مقلتيه :
وأنا بقولَّك في وشك يابنِ خالي إنِّي مش موافقة عليك، ولو كنت آخر راجل في الدنيا ..
قالتها وهي توزُّعُ نظراتها بينَ الجميع،
هوَّ عشان أنا يتيمة تتحكِّموا في حياتي، لا، أنا آه يتيمة بس مش ضعيفة، ولو الدكتور مش عايز الجوازة دي قراط..أنا مش عايزاها مليون قراط ..
قالتها وتحرَّكت سريعًا وعبراتها تفرشُ الأرضَ أمامها حتى وصلت إلى منزلها، وسقطت على الأرضِ كزهرةٍ تبعثرت وريقاتها في مهبِّ الريحِ من غصنها الرقيق،
وهي تبكي بنشيجٍ وتهزُّ رأسها بقوَّة .
بمكانًا اخر
بأحدِ الأحياءِ الشعبيِّة، بمحافظةِ القاهرة، استيقظت على صوتِ أذانِ الفجر
"الصلاةُ خيرٌ من النوم"..فتحت عينيها تستعيذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، ثمَّ جذبت وشاحها الثقيل ووضعتهُ على أكتافها ونهضت متَّجهةً إلى والدها لكي توقِظُهُ لصلاةِ الفجر ..قابلها على الباب :
صباح الخير حبيبة أبوكي ..
صباح الخير حبيبي، كويس إنَّك صحيت، هروح أصلِّي وأجهزلَك الفطار لحدِّ ماترجع، عندي جامعة ولازم أكون في محطِّة القطرِ بدري، وحضرتَك عارف، الميزانية ضاربة مش ناقصة ميكروباص ..
ربتَ على كتفها بحنانٍ أبوي :
ربِّك هيعدلها يابنتي، طول ماإنتِ بتقولي يارب ربنا هيقولِك مسألتِك عندي ..ربِّنا ربِّ قلوب يابنتي .
ونعمَ باللهِ يابابا، هوَّ فيه موضوع كنت عايزة أكلِّم حضرتك فيه بس لمَّا أرجع بإذنِ الله .
أومأَ وتحرَّكَ وهو يردِّد :
"أصبحنا وأصبحَ الملكُ لله"
"اللهمَّ ارزقنا السترَ والنعمة ياالله "
عادَ بعدَ قليل، وجدها أعدَّت لهُ طعامهِ وأيقظت أخيها الذي يدرسُ بالصفِّ الثالثِ الثانوي ..
دلفَ إلى بابِ منزلهِ ولسانُ حاله :
اللهمَّ صلِّ على خيرِ الأنام ..نظرَ إلى الطعامِ المعَّد، ثمَّ رفعَ نظرهِ الى ابنتهِ التي تقفُ أمامَ المرآةِ ترتدي حجابها :
أقعدي إفطري معانا ياقلبِ أبوكي، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى ابنهِ الذي يتابعُ هاتفه :
زياد، توصَّل أختَك لمحطةِ القطرِ ياحبيبي، الجو شتا برَّة ومفيش حدِّ في الطريق ..
حاضر يابابا، هشرَب الشاي وأقوم أهو ..حملت حقيبتها ونظرت بساعةِ يدها :
خليك ياحبيبي علشان تلحق تراجِع قبلِ درسك، أنا هعدي على أمل ممكن ربنا يهديها وتيجي معايا النهاردة، وإنتَ ياسي بابا متنساش حقنة السكر في ميعادها لو سمحت، وأه صفاء مش هتروح المدرسة النهاردة قالتلي عايزة تروح تزور أمَّها .
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ أطلقَ زفرة حارَّة تنمُّ عن غضبه، حملت حقيبتها بوقوفِ أخيها :
هوصَّلِك، ممكن أمل ترفض تروح إنتي عرفاها هوائية .
عانقت ذراعهِ وتحرَّكت مع نظراتِ والدها إليها وهو يدعو لها :
بعدَ فترةٍ بالقرب من محطَّةِ القطار، هرَجٌ ومرَجٌ وطلقاتٍ ناريِّة واعتقالِ الكثيرِ بالمكان، لفَّ زياد ذراعهِ حولَ أختهِ يجذبها بعيدًا عن الطلقاتِ التي زادت بالمكان، ولكن كانَ من نصيبهِ تلكَ الطلقة التي استقرَّت بكتفهِ حينها جذبَ أحدهما أختهِ يضعُ السلاحَ برأسها :
اللي يقرَّب هقتل البنت..صرخ زياد وهو يضعُ كفِّهِ موضعَ الجرح :
غرام..ارتجفَ جسدها وهي ترى الكثيرَ من الرجالِ وهم يحملونَ الأسلحة، نظرت إلى أخيها الذي سقطَ متأوِّهًا ثمَّ نادت بصرخاتها :
زياد ..جذبها الرجلَ للخارج، ولكن طلقة من أحدهما أدَّت إلى مقتلهِ..هزَّة عنيفة أصابت جسدها حينما وجدت الرجلَ سقطَ أمامها غارقًا بدمائِه ...اقتربَ منها أحدُ الرجال :
إنتِ كويسة ..رفعت عينيها مع ارتجافِ جسدها تهتفُ بتقطُّع : أخويا،
قالتها لتسقطَ بين ذراعيه، أشارَ لأحدِ الرجال :
اتِّصل بالإسعاف ينقل الولد، وإنتَ نضَّف المكان، قالها لأحدهما وهو يشيرُ بسلاحِه، تلفَّتَ بأنظارهِ حولَ المكان، ليضعَ الفتاةَ على المقعدِ ويتحرَّكَ كالزئبقِ من المكان ..قادَ سيارتهِ وقامَ بمهاتفةِ قائده :
تم ياباشا، الولد اتصفَّى، والمطلوب معايا، والتاني تحتِ إيدين أمنِ الدولة .
أشارَ بيديهِ علامةِ انتصار :
برافو صقر، كنت عارف إنَّك قدها .
-ولو إسحاقو حبي، إنتَ تؤمر، المهمِّ الشارع اللي قبلِ المحطة أخد الولد رهينة والولد اتصاب، خليتهُم يكلِّموا الإسعاف ؟..
على تواصل اسحاقوا باشا، مهما كان الأمن في خدمةِ الشعب .
قهقهَ الآخر :
تشكُّرات صقور، تشكرات ..قالها وأغلقَ الهاتفَ ليتحرَّكَ الآخرَ متَّجهًا إلى عمله .
بأحدِ الأحياءِ الشعبيَّة القديمة:
استيقظت تلكَ الفتاة التي تبلغُ من العمرِ ثمانية عشرَ عامًا، اتَّجهت إلى غرفةِ أخيها الأصغر :
-معاذ قوم ياله علشان تلحق تجبلنا الفول والطعميَّة قبلَ ميعادِ المدرسة، فتحَ عينيهِ ثمَّ جذبَ غطائه :
إيمان، سبيني شوية عايز أنام، إطفي النور، دفعت الغطاءَ من فوقه ؛
قوم يامعاذ هنادي على أبيه يزن..نهضَ يتمتمُ بامتعاض :
أوووف كلِّ شوية قوم يامعاذ، مفيش غير معاذ في البيت دا ..قالها الصغيرُ وهو يجذبُ منها الصحنَ واتَّجهَ إلى الأسفلِ بعدما ارتدى جاكيتهِ الشتوي .
تحرَّكت متَّجهةً إلى غرفةِ أخيها الأكبر
ابيه يزن،حبيبي الساعة تمانية ياله علشان تلحق تفطر قبلِ ما تنزِل الشغل .
اعتدلَ ينظرُ بساعته، مسحَ على وجههِ ثمَّ تحدَّثَ بصوتٍ مفعمٍ بالنوم:
صباح الخير ياموني ..
صباح الخير ياأبيه، ياله قوم صلِّي لحدِّ ماأجهَّز الفطار .
دفعَ الغطاءَ وأجابها :
صلِّيت الفجر حبيبتي، عايز شاي وأي حاجة علشان أنزِل بسرعة..
تحرَّكت متَّجهةً للمطبخِ قائلة :
عيوني شوية وهتلاقي كلِّ حاجة جاهزة، خرجَ يبحثُ عن أخيهِ فتساءل :
فين معاذ،
ضحكت بشقاوة :
نزِل يجيب فول وماقولَّكش، قال إيه..
ضحكَ عليها وجلسَ على المقعدِ بمقابلةِ المطبخ متسائلًا :
حبيبتي معندكيش دروس ولَّا إيه؟.
خرجت تحملُ الخبزَ والجبنَ وأجابته :
عندي الساعة تلاتة بعد مامعاذ يرجع من المدرسة، أومأَ برأسِه :
فيه حاجة واقفة معاكي في الكيمياء
هزَّت رأسها بالنفي :
معايا أحسن مستر وهغلط برضو !.. تسلملي يازينو، قاطعهم صوتُ الباب
اتَّجهَ يفتحُ الباب، توقَّف متسمِّرًا عندما وجدَ دموعها تسيلُ على خديها :
يزن أنا قررت أتجوِّز، آسفة مش هقدر أكمِّل معاك..تحرَّكت للداخلِ ووضعت أشيائهِ ثمَّ خرجت سريعًا من المنزل،
دقائق وهو متوقِّفًا كأنَّ روحهِ سُحبَت لبارئها يردِّد :
أنا أكيد بحلم .
↚
وَجعُ فراقِ الأحبّةِ يُعادلُ آلامَ الموتِ ،،
و بعض الحب خلق ليبقى رغم البعد..
رغم استحالة اللقاء ،
رغم وجع الفراق ،
رغم الكبرياء ،
ورغم الأمل المفقود ...
يبقى فقط لأنه خلق ليبقى.!!
ثم______ماذا
هناك أرواح حبها لا يحكى ولا يكتب ، هم حكاية قدر جميلة لكنها لن تكتمل ولن تتكرر أبدًا..!!
توقَّفَ يزن محاولًا استيعابَ ماقالتُه، رفعَ عينيهِ إليها :
استني عندِك، إيه اللي بتقوليه دا ؟!.
فركت كفَّيها تبتعدُ ببصرها عنه :
كلِّ شيء قسمة ونصيب يايزن…
بتقولي إيه يامها؟!
ابتعدت بخطواتِها بوقوفِ إيمان بجوارِ أخيها :
مها أدخلي إفطري معانا، قالتها بدخولِ معاذ :
أهلًا أبلة مها، وأنا بقول الطعميَّة لذيذة ليه، علشان أبلة مها هتفطَر معانا …
كانت تطأطئُ برأسها للأسفلِ ولم تقوَ على النظرِ إليه :
أنا هتخطب يايزن ربِّنا يرزقك ببنتِ الحلال ..
رجفةٌ قويةٌ حتى شعرَ بسحقِ عظامه، فتراجعَ خطوةً للخلفِ وعينيهِ تلتهمها بنيرانِ صدرهِ المشتعلة..دقائقَ حتَّى يستوعبُ ماقالتهُ تلكَ المجنونة، مسحَ على وجههِ بكفوفهِ مع عدَّةِ أنفاسٍ مضطربة، أعادهُ لحالتهِ صوتَ أختِه :
أبيه أدخلوا جوَّا، استدارَ إليها وعينيهِ على معاذ :
خُدي معاذ وأدخلي جوا ياإيمان .
أومأت برأسها قائلة:
حاضر.. سحبت أخيها وألقت نظرة على مها، ثمَّ دلفت للداخل :
تراجعَ يجذبُ مقعدَ طاولةِ الطَّعام، ثمَّ أشارَ لها بالدخول :
أدخلي نتكلِّم، عايز أعرف إيه اللي حصل..
مفيش حاجة نتكلِّم فيها يايزن، أنا تعبت، بقالنا خمس سنين مخطوبين، العمر بيسرقني، إنتَ راجل، السِّن عندك مش فارق لكن أنا دلوقتي عندي تمانية وعشرين سنة عايزة أعيش حياتي يايزن، أتجوِّز وأجيب أطفال، وأعيش حياتي مرفَّهة ودا مش هلاقيه معاك، متزعلشِ مني أنا ذنبي إيه أشيل مسؤولية
أختك وأخوك، بحبَّك أه، لكن الحبّ مابأكلشِ عيش، كلِّ شوية أقول أعذار لأمِّي وأبويا، تعبت من نظراتهم وخصوصًا بعد آخر عريس و…أشارَ بيديهِ أن تتوقَّفَ عن الحديث، ألقى نظرةً على أشيائهِ التي أحضرتها :
علشان كدا مختفية بقالِك أسبوعين وكلِّ ماأروحلِك يقولوا تعبانة، ياترى كنتي واخدة القرار ومكسوفة تقوليلي ولَّا بتهربي؟..
يزن أنا بحبَّك بس ظروفك أقوى من الحبِّ دا، مقدرش أفضل كدا ..
مبروك عليكي العريس يامها، الحاجات دي متلزمنيش، مبروكة عليكي، اقتربت تهزُّ رأسها مع انسيابِ عبراتها :
لا يايزن مش حقِّي، أنا اللي فركشِت .
توقَّفَ سريعًا، ورمقها بنظرةٍ مستاءة :
إسمها أنا اللي بعت، وأنا اللي يبعني ضغطَ على أسنانه، وعيناه تطلق أسهمًا ناريَّة يرمقها بها، ثم دنا منها مردِّدًا بجفاء:
أحرق اللي يفكَّرني بيه..غرزَ عينينهِ بمقلتيها..جاية بكلِّ بجاحة توقفي قدامي، تقولي واحد إتقدملِك وإنتِ موافقة !.
دنا إلى أن أصبحت المسافة بينهما معدومة ثمَّ انحنى بجسدِه :
خنتي العهد اللي بينا يامها، حرقتي قلبي، روحتي اتكلِّمتي مع واحد وإنتِ مخطوبة، إنتِ عارفة أنا شايفِك إيه دلوقتي ؟..
نكست رأسها بأسفٍ وتمتمت بخفوت :
لو سمحت يايزن، بلاش تجريح .
خاينة إنتِ واحدة خاينة وكذَّابة وأنا اللي غلطان.. تراجعَ وجنونُ العشقِ الغادرِ بداخلهِ يحرقُ روحه :
اطلعي برَّة وخدي الحاجات دي، خُديها حتى لو هاترميها .
همَّت بالمغادرة إلا أنّّهُ صاحَ باسمها :
مها منتظر دعوةِ الفرح.. هرولت للخارج، أمَّا هو فهوى بجسدهِ على المقعد، وخزاتٌ كالمسامير تغرز بصدره دونَ رحمة، لحظاتٌ يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ وكأنَّهُ داخلَ قبر، خرجت أختهِ تطالعهُ بأنينِ قلبها، كم تعلم عشقهِ الذي دُفنَ لسنوات، خطت
إلى أن جثت بركبتيها أمامَ أخيها :
يزن ليه كدا، ليه تتنازل عن حبَّك، قولتها قبلِ كدا، من حقَّك تعيش، لو سمحت يايزن، فكَّر في نفسك شوية، مش من حقَّك تحرم نفسك علشانا ..
انحنى وحاوطَ وجهها :
أنا أبيع الدنيا كلَّها علشانِك إنتِ ومعاذ، أوعي أسمعِك تقولي كدا، أنا قبلِ ماأكون أخوكي فأنا أبوكي.. هوَّ فيه أب بيجي على ولادُه علشان نفسه، أنا راضي بيكم حتى لو متجوزتِش طول حياتي ..
هزَّت رأسها رافضةً حديثه :
تضيَّع حياتك ليه، إنتَ مش أبونا..
إيمي مش عايز أسمع كلام في الموضوع دا، أهمَّ حاجة دلوقتي تهتَّمي بدراستك وبس، متنسيش إنتِ ثانوية عامة، كفاية السنة اللي اتأجلِّت بسبب وفاة ماما مش هاقبل أعذار، عايز طب ياإيمي غير كدا مش مسمحولِك تفكَّري في حاجة، لو فعلاً بتحبِّي أخوكي.. عايز نجاح باهر.
قبَّلَت كفِّهِ الذي يحتضنُ بهِ وجهها :
إنتَ أحسن أخ في الدنيا، ربِّنا مايحرمني منِّك .
دمغَ جبينها بقبلةٍ حنونةٍ :
ولا منِّك حبيبة قلبي، وبنتي الغالية، هاعوز إيه أكتر من إنِّي أشوفِك إنتِ وأخوكي في أحسن حال ..
طيِّب مها، هتقدَر تنساها، تنسى حبِّ حياتك.
أشاحَ ببصرهِ بعيدًا عنها ثمَّ أردف :
ربِّنا أنعم علينا بالنسيان علشان ننسى أعزِّ النَّاس، فتخيلي اللي ميستهلوش مش هنقدر ننساهم؟..قومي ياقلبي جهِّزي الفطار أنا اتأخرت ..
حبيبي متزعلشِ هيَّ الخسرانة لأنَّها متستهلكش، أوعى واحدة زي دي تكسر يزن السوهاجي، اللي كلِّ بنات المنطقة هتموت على نظرة من عيونُه :
رسمَ ابتسامة، وارتفع جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة قائلًا :
بنات المنطقة كلها مرَّة واحدة، قومي يالِمضة قومي..
بعدَ فترةٍ على طاولةِ الطعامِ أردفَ معاذ :
أبيه يزن عايز فلوس درسِ الانجليزي، الميس طلبتهم منِّي الحصَّة اللي فاتت.
حاضر.. قالها وأخرجَ سيجارة يرتشفُ من كوبِ الشاي، وعينيهِ شاردة بكافَّةِ الاتجاهات، كانت تتابعهُ بعينيها، أصابَ قلبها الألم على نظراتهِ الحزينة رغمَ محاولتهِ بالظهورِ أَّنَّهُ على مايرام .
وضعَ الكوبَ وتوقَّفَ متحرِّكًا إلى أشيائه، جمعها ثمَّ أخرجَ نقودًا من الحافظة الخاصَّة به :
موني دي فلوس درسِ معاذ، عدِّي على الميس وشوفيه عامل إيه معاها، وكمان فلوس الفيزيا، آسف حبيبتي نسيتهم امبارح، كان لازم تفكَّريني بدل ماتلغي الحصَّة كدا .
توقَّفت واتَّجهت إليهِ متمتمة :
لا يايزن أنا سمَّعت الدرس فيديو على اليوتيوب، استفدت مكنشِ له لزوم الدَّرس ..
داعبَ خصلاتها مبتسمًا:
على يزن برضو ياموني، النِّت أصلًا فصل، مش عيب تكذبي على أخوكي..
جذبها لأحضانهِ بعدما شعرَ بحزنها :
شوفتي بتزعَّليني إزَّاي، مكسوفة تسأليني على الفلوس، نسيت واللهِ ياقلبِ أخوكي، بعد كدا هقبَّضِك شهريًا كلِّ دروسك، إحسبي الحسبة وقولي عايزة إيه وأنا تحتِ أمرِك .
ابتسمت تهزُّ رأسها دونَ حديث، فيكفي مايشعرُ به، همَّ بالمغادرة إلى أن أسرعَ معاذ يحملُ حقيبته :
وصَّلني معاك بالمكنة ياأبيه، عمُّو اسماعيل عامل عمرة للتوكتوك، أومأَ وتحرَّكَ إلى دراجتهِ البخاريَّة .
ارتدى الخوذة وأشارَ إليهِ بالتحرُّك :
استناني برَّة لمَّا أخرَّج المكنة، خرجَ وتوقَّفَ أمامَ معاذ، رفعَ نظرهِ على تلكَ السيارةِ التي توقَّفت أمامَ منزلِ خطيبته، ترجَّلَ منها شاب يافعَ الطول، عرفهُ من ظهره، نعم صاحبَ العمل الذي تعملُ به، وصلت إليهِ بجوارِ والدتها، التي رمقت يزن بنظرةٍ مستاءة ثمَّ أشارت على ذاكَ الشابِّ الذي يُدعى طارق وصاحت بصوتٍ مرتفعٍ ليصلَ إلى آذان يزن :
تعالَ إفطَر معانا ياخطيب بنتي، حماتك بتحبِّك ..
كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضت مفاصلِه، يضغطُ على شفتيه بقوَّةٍ بأسنانهِ ولم يشعر بدمائها.. رفعت عينيها لتتقابلَ بعينيهِ وهناكَ الكثير من الأحاديثِ الملامة، ضغطَ بقدمهِ على الوقودِ ليصدحَ صوتُ الدراجةِ وكأنَّهُ لم يعد يستمع لأصواتِ تلكَ الشمطاءِ وهي ترحبُّ به، كيفَ يفعلوا به ذلك، كيفَ تقبَّلت أن تجلسَ معهُ وهي على عهدٍ معه…
قادَ دراجتهِ بسرعةٍ فائقةٍ مما أزعجهم بخارَها، كانت تطالعهُ بأعينٍ حزينة، تعلمُ أنَّها خلت بوعدهما ولكن ماذا عليها أن تفعلَ بعد إصرارِ والديها بجبرها على الزواجِ في ظلِّ ظروفه، استقلَّت السيارة بجوارِ من اعتبرتهُ زوجها المستقبلي ولم تعلِّق على حديثهِ حينما قال :
شكلِك عرَّفتي الولد اللي كنتي مخطوباله، شايفه مش طايق نفسه..
أشارت على الطريقِ وردَّدَت :
هنتأخَّرعلى الشغل، أمالَ برأسهِ مقتربًا منها، حتَّى أصبحت المسافة بينهما معدومة، ليهمسَ لها :
مفيش شغل النَّهاردة فيه طارق وبس، عازمِك على فسحة هاتعجبِك أوي .
يعني إيه؟..
قادَ السيارة وتحرَّكَ قائلًا :
هانعمل تور أنا وإنتِ وبعد كدا نروح نشوف الفستان ..
ضيَّقت عينيها متسائلة:
فستان إيه، ليه هوَّ الفرح إمتى؟!
غمزَ بطرفِ عينهِ قائلًا :
وقتِ مالجميل يؤمر..
عندَ يزن وصلَ إلى مكانِ عمله، ودلفَ للدَّاخلِ ملقيًا تحيَّةَ الصباحِ على صاحبِ العمل، نظرَ بساعةِ يده :
اتأخرتِ ليه يايزن النهاردة ؟..
ارتدى ثيابَ عملِه، متهرِّبًا بنظراتهِ من ذاكَ الرجلِ الذي يعتبرهُ بمقامِ والده، ثمَّ أجابه :
مشكلة واتحلِّت ياعمو اسماعيل.. ربتَ على كتفِه :
حبيبي ربِّنا ييسرلك أمورَك دايمًا .
يارب.. قالها بدلوفِ إحدى السيارات، فأشارَ لهُ الرجلِ بمقابلةِ زبائنه .
بمكانٍ آخر :
وصلَ إلى مكانِ عمله، وجدَ أحدَ الضباطِ بانتظارِه :
إلياس باشا، القضية دي جيَّالنا عن طريقِ المخابرات، وعايزينَك بالإسمِ في تحقيقها، فتحَ الملَّف يطالعهُ لثوان، ثمَّ رفعَ نظرهِ قائلًا :
دي مش تبع الأمنِ القومي، ليه جايَلنا؟!.. قالها وهو يتحرَّكُ لداخلِ مكتبِه..
خلعَ جاكيتَ بذلته، وقامَ بثني أكمامهِ بعدما تحرَّكَ لمقعدِه :
دي خليَّة ياباشا بتموِّل الإرهابيين، الشرطة مسكتهُم متلبِّسين بمشاركةِ المخابرات.. قالها أحدُ الضباط،
مش جناية يعني..
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ أردف :
تمام ليه جت علينا وهيَّ تبع السويس؟..
معنديش معلومة والله ياباشا .
دلفَ العسكري يضعُ قهوتهِ ثمَّ توقَّف :
فيه واحد برَّة عايز يقابل حضرتَك ياباشا.. قالها وهو يبسطُ كفِّهِ بذاكَ الكارت.. رفعهُ يقرأ مايدوَّنُ به :
راجح الشافعي، ودا عايز إيه، مكتوب هنا رائد متقاعد، مش دا اللي ابنه اتمسَك من كام أسبوع وحقَّقنا معاه..نقرَ على مكتبه، ثمَّ أشارَ للعسكري :
خلِّيه يدخل لمَّا نشوف أخرتها إيه ..
دلفَ راجح ملقيًا السلام ..
أومأَ إلياس يشيرُ للمقعد.. جلسَ بعدما فكَّ زرَّ بذلته :
إزَّيك إلياس باشا ؟..
أهلًا بحضرتك، ممكن أعرف إيه المطلوب ؟..
حمحمَ راجح متمتمًا :
عرفت إنَّك اللي بتحقَّق في قضيةِ ابني، جايلَك وأملي كبير، ابني اتمسك من ضمنِ الولاد دول، واللهِ ياإلياس باشا هو مالُه دخل بالسياسة، يعني أبوه كان ظابط، ليه يعمل كدا ..
مش فاهم حضرتَك، ياريت توضَّح..
ابني كان في الشَّقة بس مش علشان إرهابي دا ابنِ ظابط، هوَّ بس كان متصاحب على شويِّة عيال، وكانوا بيروحوا الشقة دي يلعبوا قمار ..
تراجعَ بجسدهِ للخلفِ قائلًا :
ليه هو ابنِ الظَّابط بيلعب قمار؟..
حمحم قائلًا :
شباب بقى ياإلياس باشا، والغلط عندي علشان نقلت جامعتُه القاهرة..
أخرجَ الملفَّ الخاص وطالعهُ لبعضِ الدقائق، ثمَّ رفعَ نظرهِ إليه :
قدَّامك عشَر دقايق تشوفُه، ودا مبعمِلوش مع حد، تأكَّد إكراميَّة مني علشان في مجالِ الشرطة .
نهضَ وشكرهُ :
شكرًا يابني، ربِّنا يريَّح بالك ..
استمعَ إلى طرقاتٍ ثمَّ دلفَ العسكري :
إلياس باشا، أستاذة ميرال جايبة إذن عشان تعمل حوار صحفي مع المسجون .
بتقول مين؟!
تساءلَ بها وعينيهِ كالحممِ البركانيَّة .. دلفت للدَّاخلِ مقاطعةً حديثه :
إيه هوَّ حضرة الظابط واقع على ودنُه وهوَّ صغير، اتفضَّل دا تصريح من اللوا مصطفى السيوفي بذات نفسُه علشان أقابل المتَّهم اللي اتمسك في الشَّقة، وكمان المتَّهم بتاع المحطَّة .
خُد راجح باشا يقابل ابنُه عشر دقايق، قالها وهو يشيرُ لراجح بالخروج، ثمَّ التفتَ للتي تعقدُ ذراعيها أمامَ صدرها،
توقَّفَ راجح أمامها :
عدِّيني يابنتي، رفعت نظرها إليهِ ورسمت ابتسامة :
آسفة حضرتَك ..قالتها وتراجعت تُفسحُ المكان ..خرجَ راجح ونظراتِ إلياس عليه إلى أن أغلقَ الباب، ثم انتفضَ بجسدهِ إليها :
أنا مش محذَّرِك الصُّبح، إنتِ ليه مصرِّة تخرَّجي شياطيني عليكي، علشان عَندِك واسطة كلِّ شوية تقرفيني…
رفعت حاجبها وشيَّعتهُ بنظرةٍ متهكِّمة :
يعني علشان بعمِل شغلي، بص ياحضرة الظابط، المسجون دا أنا هقابلُه، وهاعرَف منُّه اللي حضرتِك معرفتِش توصلُّه .
أشارَ إلى مقعدِه :
تعالي أُقعدي مكاني، وحقَّقي ولَّا أقولِّك سيبِك من الصحافة، وأقدِّملِك في الشرطة .
جزَّت على أسنانها واقتربَت منه :
إنتَ ليه مستِّفز، أنا بعمِل شغلي، الواقفة قدَّامَك دي ميرال جمال الدين اللي أي مكان يتفتحلها من غير واسطة، ياحضرة الظابط، بس أعمِل إيه..في ظابط مغرور وواخد في نفسُه مقلب .
جلسَ يدَّخنُ سيجاره وتركها تثرثرُ كما زعم، توقَّفَت عن الحديثِ عندما وجدتهُ بتلكَ الحالة، رفعَ نظرهِ بقلقٍ بعدَ صمتها، ثمَّ نفثَ دخانَ سيجارتِه :
قلقت عليكي، كمِّلي تعريف وهيصة..
احتقنَ وجهها بالغضب، حتى توردَّت وجنتيها، فدنت منهُ وانحنت برأسها لمستواه :
إنتَ إيه ياأخي فريزَر برجلين قاعد على المكتب، بقولَّك عايزة أشوف شُغلي .
رفعَ رأسهِ ونفثَ دخانَ تبغهِ بوجهها، فتراجعت برأسها تسعُل، مطَّ شفتيهِ ساخرًا :
ياحرام، ماكنتِ عاملة فيها سكوت آدكنز من لحظات ..
إلياااس..صاحت بها غاضبة، نصبَ عودهِ متوقِّفًا واقتربَ منها بخطواتٍ سُلحفيِّة، دبَّت الرعبَ بقلبها، ورغمَ ذلك
اقتربت منهُ وتحدَّثت بجرأة :
عايزة أقابِل المتَّهم، مش خايفة منَّك، متحاولشِ تعملِّي فيها قابض الأرواح .
كوَّرَ قبضتهِ يجزُّ على أسنانه، لتتراجعَ للخلف، ليهمسَ بفحيحٍ أعمى :
إمشي من هنا معنديش متَّهمين .
اتقدَّ الغضبُ كنيرانٍ مشتعلة، وهدرت به :
إنتَ ليه بتعمِل كدا، أنا عايزة أوضَّح للجمهور حياة الولد وإيه اللي وصَّلُه لكدا .
رفعَ كفِّهِ ولم يشعر بنفسهِ إلَّا وهوَ يضعُ أناملهِ على ثغرها، لتتوسَّعَ عيناها بذهولٍ من حركتهِ الجريئة، دنا يهمسُ بجوارِ أذنها بأنفاسهِ الحارَّة التي تريدُ إحراقها :
ميرال ..ميرال، مالكيش شُغل في محيطي، اختفي من قدَّامي بدل ماأندِّمِك..قالها وتراجعَ للخلفِ وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا..أمَّا هي فكأنَّ قربهِ شلَّ جسدها ولم تعد لساقيها القُدرة على الحركة..جلسَ فوقَ مقعدهِ يشيرُ إليها :
أخدتِ من وقتي حضرة الصحفيَّة الفاشلة، روحي شوفي شُغلِك بعيد عني ...
استفاقت أخيرًا من سيطرتهِ الطَّاغية التي فرضها عليها، رفعت عيناها تتأمَّلُ جلوسهِ المغرور ثمَّ اقتربت إلى أن وصلت إلى مكتبِه، ونظراتهِ تلاحقُ حركتها .
استندت بكفَّيها على مكتبِه :
حضرتَك في المكان دا، وبتاخُد مرتَّب منِّي ومن غيري، بلاش القنعرة الكدّّابة دي..
جحظت عينيهِ، ونظراتٍ كالسهامِ الناريَّة، يصرخُ بالعسكري، حتَّى هبَّت من مكانها فزعة، هاتلي المسجون يشوف أبوه، وخُد أستاذة ميرال عرفَّها طريق الخروج منين..
تنهيدة ناريَّة خرجت منها وهي تشيرُ إليهِ بغضب :
إلياس متقوفشِ قدَّام شغلي، اللي بينا مالوش علاقة بالشغل، إنتَ عارف ومتأكِّد أنا بعمِل شُغلي، فلو سمحت متقوفشِ قدَّامي…
دنا منها، فتراجعت للخلف، حتَّى اصطدمت بالجدار، حاوطها بذراعيهِ
وانحنى ينظرُ لعيونِها التي تشبهُ عيونَ الغزال، ثمَّ همسَ بهسيسٍ مرعبٍ وعينيهِ تخترقُ عينيها :
إنتِ بقالِك تكَّة معايا، أي كلمة تانية هاندِّمِك على حياتِك طول العمر، كلِّ شوية إلياس، إلياس دي عند مامتِك هناك مش هنا في مكان شغلي، تنطيطِك ليَّا كلِّ شوية مالوش غير معنى واحد وبس، عايزة تلفتي انتباهي، بس غبية لو الستِّ فريدة بتحلَم وزقِّتِك عليَّا هافعصِك، استلفي شوية عقل من عندِ مامتِك اللي معرفشِ بترسم على إيه، اتعاملي معايا بيهم لحدِّ ماأشوفلِك مصيبة، سمعتيني ولَّا لأ …
ثقلَت أهدابها لحجزِ الدموعِ تحتها، رفعت عينيها مع رأسها بكبَرِ أنثى داسَ على كرامتها :
إعرَف لو إنتَ آخر راجل على الكرة الأرضيَّة علشان ألعب عليه وأجذِبُه، مستحيل.. لأنِّي هاضيَّع وقتي مع الشخصِ اللي ميستهلِشِ ميرال جمال الدين، إنتَ أخرَك تزعَّق وبس، إنَّما تِتحَب وتكون من طموحاتي تبقى مجنون.. قالتها ودفعتهُ بقوَّةٍ ليبتعدَ عنها، ثمَّ أشارت مهدِّدةً إيَّاه :
هاكتِب فيك شكوى لنقابةِ الصحافة ياعمِّ المغرور، قالتها وجذبت حقيبتها،
وتحرَّكَت بخطواتها الواثقة، وغادرت المكانَ بالكامل، وقلبها يئنُّ كالوترِ المقطوع..سبَّها قائلًا :
دمِّك يلطُش، إصبري عليَّا بت متخلِّفة،
جلسَ على مقعده، بدلوفِ المسؤول :
الولد جاهز للمقابلة
أشعلَ سيجارة ينفثها بهدوء :
خلِّيه يشوفه كدا، علشان يعرَف يربِّيه، دلفَ صديقهِ بالعمل :
صباح الخير :
ارتفعَ جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة :
صحِّ النوم ياعريس، ناموسيِّتَك كحلي .
هوى على المقعدِ يشيرُ للرجل :
قهوتي يابني، استدارَ إلى إلياس :
عملت حاجة في القضيِّة بتاعة الخليِّة؟..
تراجعَ بجسدهِ ورمقهُ ساخرًا ثمَّ تمتمَ :
مش بقول عريس وصباحيَّة مباركة، الولد المخابرات صفِّتُه إمبارح، والتَّاني في الزنزانة بين الحيا والموت .
يعني إيه؟..اقتربَ يستندُ بذراعيهِ على المكتب :
الولد مالوش في السيَّاسة فعلًا، دا بتاع قُمار وشرب، بس فيه ولد هرب قبلِ الهجوم، كدا يبقى عرف إنِّ الشقَّة هاتُقتَحم ..
مسحَ على ذقنهِ قائلًا :
معنى كدا فيه حد بيحرَّكهم...أومأَ له مجيبًا :
بالظبطِ كدا، دا اللي عايز أقوله ..نهضَ من مكانهِ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ إلياس أوقفُه :
شريف الولد أبوه عندُه، عشر دقايق ومش عايز حدِّ يقرَّب منُّه، وممنوع من الزيارة، حتَّى أبوه نفسه ممنوع يشوفُه تاني
قطبَ جبينهِ مستفسرًا :
ليه خلِّيت أبوه يشوفه، هوَّ ينفع؟!
نهضَ من مكانهِ قائلًا :
عايز أعرَف اسمِ الولد اللي كان معاهم، ودا مش هيقولُه لحدِّ غير أبوه، وكمان أبوه طلع كان ظابط بس تقاعد، نُصِّ ساعة وهنجيب ملفُّه بالكامل .
تمام يعني فيه تسجيلات ..
-ولو ..إنتَ مجنون، فيه حاجة تفوتني..أومأَ لهُ وتحرَّك، ولكنَّهُ توقَّفَ على بابِ الغرفة :
أستاذة ميرال قابلتني تحت، وكانت مضَّايقة، إكسَب الصحافة علشان ميقلبوش علينا ..
لوَّحَ بيدهِ قائلًا :
سيبَك منها، هاعرف أوقفَّها
هزَّ رأسهِ ضاحكًا : واللهِ البنت زي القمر، معرفش مالَك ومالها ..
إنتَ اتجنِّنت ولَّا إيه، إنتَ بتعاكِس في البنتِ قدَّامي!..
اقتربَ شريف مقهقهًا :
إيه الغزالة غمزِت ولَّا إيه.. استدارَ إلى مقعدهِ يشيحُ بكفَّيه :
غزالة إيه يابني، دي من أهلِ بيتي.. أه مختلفين بس دا ميدلَكشِ الحقِّ تتكلِّم عنها مهما كان ..
غمزَ بطرفِ عينهِ مردفًا :
من إمتى الحنان دا ياأمِّ كلثوم ..
أوووف إمشي من قدَّامي، أهو إنتَ بارد زيَّها..رفعَ حاجبهِ ساخرًا :
طيِّب إحنا الاتنين شبه بعض،ماتجوِّزنا لبعض، اهو تلمِّني وتاخد فيَّا ثواب بدل الأفلام الثقافيَّة اللي مبهدِلة أخوك .
شريف ..صاحَ بها بغضبٍ وكأنَّهُ تحوَّلَ لشيطانٍ أعمى :
قولتِلَك أهلِ بيتي مش للهزار، أوعى تفكَّرني هتساهِل معاك، دي زيَّها زي غادة، اللي بينا مالوش علاقة بحد، سمعتني ولَّا لأ، ياريت تلتزم حدودك في الموضوع دا .
أومأَ معتذرًا :
آسف ياإلياس مكنشِ قصدي أزعَّلك، أشارَ لهُ بالخروجِ وأجابهُ ممتعضًا :
روح شوف شُغلَك، وابعتلي تسجيلات مقابلة الراجل وابنُه، عايز نشوف شُغلنا .
بفيلَّا السيوفي :
تقرأُ بمصحفها، وتنسابُ عبراتها مع ذكرياتٍ متألِّمة، أغلقت المصحف ووضعتهُ بمكانِه، جلست تنظرُ للخارجِ تزيلُ عبراتها تهمسُ لنفسها :
إيه يافريدة، ظهور راجح قلَّب عليكي الماضي، عايزة إيه ..حقِّك وربنا جبهولِك، وأكيد عند ربنا الأكبر والأعظم .
تنهيدة متألِّمة ثمَّ وضعت كفَّها على صدرها تتمتمُ بخفوت:
متأكدة ربنا هايجمعني بيهُم قريب، يارب استودعتكَ أولادي، إحفظهُم بحفظك، واجمعني بيهم،
ذهبت بذاكرتها منذ ساعتين :
خرجت من غرفةِ مكتبها، ونادت على مربيِّة الدار التي تمتلكُها :
علية ..هرولت إليها السيدة قائلةً :
نعم يامدام فريدة..أشارت إليها :
شوفي أستاذة حنان فين، ناديها علشان نعمِل جولة على غرفِ الأطفال ونشوف المستوى..أومأت لها وتحرَّكَت سريعًا .
تحرَّكَت فريدة إلى مكتبها وهاتفت ابنتها :
ميرال حبيبتي خلَّصتي شغلك؟..كانت تستقلُّ سيارتها فأجابتها :
لا ياماما، لسَّة عندي مقابلة عند عزرائيل باشا، نفسي أطبق على زمَّارِة رقبتُه دي وماسيبوش غير وهوَّ بيرفرف ..
ضحكت على حديثِ ابنتها :
قصدِك إلياس؟..همست ميرال بخفوت ؛
هوَّ فيه غيرُه الطاووس المغرور .
عيب ياميرال مهما كان مينفعشِ تغلطي فيه حبيبتي دا في مقام أخوكي الكبير..قطعت حديثَ والدتها:
متقوليش بس أخوكي، عمرُه ماهيكون أخويا ياماما، دا شبه جنكيز خان ..أفلتت فريدة ضحكةً قائلةً :
بلاش تضَيقيه ياميرال، المهم أنا هاتأخَّر شوية في الدار النهاردة متقلقيش حبيبتي .
قادت سيارتها وتحرَّكَت قائلة :
تمام حبيبتي المهم خُدي بالِك من نفسك..
خرجت فريدة مع المسؤولة وقامت بعملِ جولةٍ على كلِّ الغُرَف، عادت إلى غرفتها بعدما ألقت أوامرها بقيامِ المهام لكلِّ فردٍ في الدَّار، ثمَّ تحرَّكَت إلى غرفةِ مكتبها بدخولِ وكيلةِ الدَّار :
شوفتي الأخبار يافريدة ..جعدَت جبينها متسائلة:
أخبار إيه؟..ألقت الجريدة أمامها على المكتب :
الإرهابيين اللي مسكوهُم من فترة، نظرت إليها منتظرةً باقي حديثها ، فتابعت السيدة :
إنتِ مش ابنك أمنِ دولة وجوزِك لوا، إزَّاي متعرفيش!..
جلست على المقعدِ مستفسرة :
مبدَّخلشِ في شغلهُم إلَّا إذا كانت قضيِّة رأي عام .
والانفجارات اللي بتحصَل دي ماهيَّ رأي عام برضو، وضعت الجريدة أمامها :
شوفي مصوَرينهُم أهو، بس أهاليهُم اللي صعبوا عليَّا، دول عيال مش فاهمين حاجة، وداعش مابيصدَّق يوصل لعيال زي دي..
أومأت بتفهُّم تنظرُ إلى تلكَ الجريدة، هزَّة عنيفة أصابت جسدها وهي ترى صورةُ ذاكَ الشَّخصِ وبجوارهِ شابًا بالعشرينات، رفعت الجريدة تدقِّقُ النظرَ بالصورة، فنهضت سريعًا تجمعُ أشياءها قائلةً بتلعثم :
رحاب خلِّي بالِك من الدَّار، عندي مشوار مهم ..قالتها وغادرت سريعًا، اتَّجهت إلى سيارتها بساقينِ مرتعشة، وصلت إلى السيارة ودقاتٍ عنيفة تكادُ تخترقُ صدرها ..توقَّفت تلتقطُ أنفاسها تنظرُ حولها بتشتُّت :
راجح..همست بتقطُّع تتلفَّتُ حولها وكأنَّهً يراها، أنفاسٍ كالمسامير تدقُّ بصدرها، فتحت بابَ السيارةِ وجلست بداخلها مع انسيابِ عبراتها .. دقائقَ كأنَّها دهرًا طويلًا حتَّى شعرت وكأنها كهلةً لما شعرت به من ثقلِ أنفاسها، فتَّشت عن هاتفها بتذبذبٍ إلى أن وجدتهُ ورفعتهُ بكفِّها المرتعش :
ليه ماقولتليش ابنِ راجح في القضية؟..
صمتًا دامَ للحظات، يستمعُ إلى أنفاسها المضطربة، إلى أن سحبَ نفسًا عميقًا :
علشان متكونيش زي دلوقتي كدا .
ثقلُت حروفُ نطقِها مما جعلها تصمتُ وكأنَّها لم يعد لديها القدرة على التحمُّل إلى أن استمعت إلى صوتهِ الحنون :
فريدة مصطفى السيوفي مستحيل حد يقدر يقرَّب منها، أدفنُه حي، أقسم بالله يافريدة اللي يقرَّب منِّك أو من ميرال أدفِنُه حي، حبيبتي إهدي، ميقدَرش يعمل حاجة، ولا يقدر يقرَّب منِّك .
مصطفى أنا خايفة...قالتها بتقطُّعٍ ممَّا جعلته يشعرُ بتفتيتِ ضلوعِه، ليتوقَّفَ متَّجهًا للخارج :
إنتِ فين حبيبتي، أنا جايلِك، تلفَّتت حولها وانسابت عبراتها قائلة :
قدَّام الدَّار ..
خليكي يافِري أنا في الطَّريق .
مساءَ اليومِ التالي :
جلسَ أمامَ مسبحِ منزلهِ يطالعهُ بشرود، وصلَ إليهِ إلياس :
مساء الخير ياسيادة اللوا..
رفعَ رأسهِ مبتسمًا وردَّ تحيَّتِه :
مساء الخير ياحبيبي، رجعت إمتى شايفَك مغيَّر هدومك…
جلسَ بمقابلةِ والدهِ ينظرُ إلى دلوفِ سيارةِ إسلام وبجوارهِ غادة واجابه:
من ساعة تقريبًا، استدارَ بعدما استمعَ إلى ضحكاتِ غادة بنزولِ ميرال :
طيِّب أقوم أضربهم.. بتقولِّي ماتشدِّش عليهم وخلِّيك حنيِّن، سامع صوت الضحك..
حدجهُ والدهِ بنظراتٍ مبهمة، ثمَّ أردف :
بيضحكوا في البيت ياإلياس، وبعدين غادة صغيرة، خلِّيها تفرح حبيبي بلاش الشدَّة علشان ماتغلط برَّة .
صغيرة إيه يابابا، دي أولى جامعة، يعني مش طفلة، والأستاذة ميرال برضو صغيرة؟..دي لمَّا الأمن يسمع ضحكاتها بالطريقة دي…
وصلت الخادمة إليهما بمشروباتهم :
مدام فريدة بعتت لحضرتَك العصير دا ياباشا، والبيه قهوتُه..قالتها بعدما وضعتهم على الطاولة وغادرت .
رفعَ مصطفى عصيرهِ يرتشفه، ثمَّ تساءل :
سألت على فريدة؟..
رفعَ قهوتهِ وارتشفَ منها يسحبُ بصرهِ من نظراتِ والدهِ إلى أن استمعَ إليه :
مابترُّدِش ليه ياإلياس، سألت على مامتك؟..
توسَّعت عيناهُ بضجر، وأردفَ ممتعضا
بابا لو سمحت اتكلِّمنا كتير في الموضوع دا، أتمنَّى ماتزعَّلنيش تاني، الستِّ دي هاتفضَل لآخِر يوم في حياتي مرات أبويا اللي استغفلتنا .
إلياس..هدرَ بها مصطفى بوصولِ ميرال إليهما ملقيةً تحيَّةِ المساء :
مساء الخير عمُّو مصطفى ..قالتها وهي تنحني تقبِّلُ رأسه..كانت عيناهُ ثابتة على ابنه، وزَّعت نظراتها بينهما متسائلة:
جيت في وقت مش مناسب، أمشي..
ابتسمَ مصطفى يشيرُ إليها بالجلوس :
لا حبيبتي إنتِ تيجي في أي وقت، دا إلياس كان عايز يعتذِر منِّك بسبب اللي حصل منُّه في المكتب .
جحظت عيناهُ يرمقُ والدهِ بذهول، فهمت ميرال ماينويهِ مصطفى، فالتفَتت تبتسمُ إليه :
لا ياحبيبي مش مستاهلة أنُّه يعتذر، الواحد لمَّا بيغلط بيعتذِر لأن بيكون حسِّ أنُه قليل ذوق، فابيضَّايق من نفسُه وبيعتذِر، أمَّا حضرِة الظابط دي شخصيتُه، شخصية عاملة زي فرعون لمَّا كان بيقول أنا ربُّكُم الأعلى..
تجاهلَ ثرثرتها، ثمَّ هتف:
صوتِك ياأستاذة ميرال لمَّا تضحكي وطِّي صوتِك، الأمن في كلِّ مكان، إحنا مش في مسرح، بلاش شُغلِ المهرِّجين .
أسبلَت عيونها بوميضٍ قائلة :
أنا مش مهرِّجة يا إلياس، أنا مهرجة وعاجبة نفسي مالكش فيه..استدارت إلى مصطفى ثمَّ احتضنت كفَّيه :
عمُّو مصطفى حضرتَك عارف أنا بحبِّك قدِّ إيه، فيه موضوع أتمنَّى توافِق عليه وتقنِع ماما بيه .
ابتعدت بنظرِها عنهُ وهتفت :
أنا اشتريت بيت صغير في آخرِ الشارع دا، خلاص كفاية لحدِّ كدا، وجودي بقى تقيل على بعضِ النَّاس، حتى إنُّهم وصلوا يتِّهموني بأخلاقي..رفعت نظرها إليهِ وترَجَّتهُ بعينيها الدامعة :
من زمان والموضوع في دماغي، بس النهاردة قرَّرت واتَّصلت بمكتبِ العقارات ومن حُسنِ حظِّي خليتُه يشوفلي بيت قريب من هنا علشان أمِّي عارفة إنَّها هاتُرفض، بس لمَّا تعرف هاكون قريبة هاتوافِق..
سقطت كلماتها على مسامعهِ كسقوطِ نيزك، ليستندَ على الطاولةِ مقتربًا منها :
ليه حبيبتي بتقولي كدا، عمرِك ماكنتي تقيلة إنتِ بنتي ياميرال واللي مش عاجبُه يشرب من البحر.
توقَّفت من مكانها وابتسمت قائلة :
حبيبي ياعمُّو مفيش داعي لدا، أنا كنت مقرَّرة مالوش لازمة، من حقِّ حضرِة الظَّابط ياخد راحتُه في بيته، علشان يتجوِّز براحتُه أصلي طلعت عقبتُه..
رمقَ ابنهِ الذي انشغلَ بهاتفهِ دونَ أنَّ يعيرَهُم اهتمام، ثمَّ أردف :
إيه الكلام دا ياإلياس؟..
قاطعته ميرال
-بعد إذنكُم، أنا قرَّرت وخلاص، أتمنَّى تقنِع ماما ياعمُّو، مستحيل أقعُد في البيت دا يوم بعدِ النهاردة…
أخيرًا رفعَ رأسهِ وانصهرَ جمودهِ ليُردفَ ساخرًا :
وهدومِك هاجمَّعهالك وأبعتها متشغليش بالك إنتِ..
زمَّت شفتيها تجيبهُ بملامحٍ جامدة:
شكرًا على خدماتك..قالتها وتحرَّكت سريعًا، ولم تلتفِت خلفها رغمَ مناداةِ مصطفى إليها..
خطواتٍ ظاهرَها ثابتةٍ ولكنَّها متعثِّرة، وكأنَّها تخطو فوقَ سيفٍ مدبَّبٍ ليشحذَ قدميها، هرولت إلى الحديقةِ الخلفيَّة، لتجثو بركبتيها على الأرضيَّةِ تضعُ كفَّيها على صدرها وكأنَّ حجرًا ثقيلًا يُطبِقُ على صدرها،
مع انفجارِ شلَّالِ عينيها، دقائقَ وهي على حالها تسألُ نفسها لماذا من صُغرِها وهو يعامِلُها بذاكَ الجمودِ والقسوة، ذكرياتٍ خلفَ ذكريات، تعبِّرُ عنها عيناها مع ألمٍ حارقٍ كادَ أن يُزهقَ روحها .
عندَ مصطفى وإلياس الذي كانَ يتابعُ تحرُّكِها وابتسامةً ساخرةً على ملامحه، يهتفُ لنفسِه :
بت غبيَّة مفكَّرة نفسها ملكة والكلِّ لازم يقولَّها آمين .
مسحَ بكفَّيهِ على وجههِ في محاولةٍ يائسةٍ لوقوفِ ابنهِ :
مش شايف إنَّك تخطِّيت حدودَك في وجودِ أبوك يا محترم…
إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، حضرتَك مش شايف هايفِتها، أشارَ بكفِّهِ بالتوقُّف :
البنتِ دي لو خرجت من البيت مش عايز أشوفَك قدَّامي…
أحسَّ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادِه، رفعَ عينيهِ بخيبةِ أملٍ إليهِ ونظراتٍ تحكي الكثيرَ من الانكسارِ هاتفًا بتردُّد :
كنت متوَقِّع حاجة زي كدا من حضرتك، نصبَ عودهِ متوقِّفًا لا يعلمُ كيف توقَّفَ بذاكَ الشموخَ أمامَ والدهِ بعدما استمعَ لتهديدهِ البائن :
دايمًا الستِّ فريدة وبنتها فوقي، بقيت أشُك إنِّي ابنك أصلًا…
رعشةٌ قويةٌ أصابت جسدُ مصطفى، حتَّى شعرَ بشحوبِ جسدِه، وتثاقلَ لسانهِ عن الحديث، صمتَ ونكسَ رأسهِ للأسفلِ بعدما شعرَ وكأنَّ أحدُهم طوَّقَهُ بطوقٍ من النيران..ظلَّ إلياس يحدُجهُ بنظراتٍ ثابتة، ورغمَ حزنهِ البائن إلَّا أنَّهُ لامَ نفسهِ في فظاظةِ حديثهِ مع والده، فاقتربَ منهُ وجثا أمامَ مقعدهِ يحتضنُ كفَّيه :
آسف عارف قسيت بكلامي مع حضرتك، حقيقي معرفشِ إيه اللي بيحصَل معايا، آسف بابا متزعلشِ منِّي .
رفعَ رأسهِ يتعمَّقُ بعينيهِ :
بتحبِّني ياإلياس؟..طالعهُ مصدومًا من حديثه، فابتسمَ يهزُّ كتفِه :
إيه اللي حضرتَك بتقولُه دا، إنتَ روحي يابابا، ولو طلبت عمري مش هاتأخَّر .
ربتَ على كتفهِ قائلًا :
عايزَك تتجوِّز ميرال..
رانَ صمتًا هادئًا بالمكان، ولكنَّهُ لم يخلو بتعلُّقِ الأعين بالنظرات بينهما، فجأةً أطلقَ ضحكةً صاخبةً متوقفًا يضربُ كفَّيهِ ببعضهما :
بتموت في الهزار يادرش، بس وحياة ابنك بلاش الهزار اللي يُخنُق الواحد دا ..
توقَّفَ مصطفى واقتربَ منهُ يغرزُ عيناهُ بمقلتَيه :
شوف عايز نعمِل الفرح إمتى وأنا موافق، واللي إنتَ عايزُه، عايز تقعد معانا، عايز تقعُد مع مراتَك لوحدك براحتك ..قالها مصطفى وتحرَّكَ من أمامهِ حتَّى لا يناقشهُ بقرارِه .
باليوم التالي بغرفةِ فريدة،
انتهت من قراءةِ وردها اليومي، ثمَّ جلست بالشرفةِ تنظرُ للخارج .
استدارت بعدما شعرت بخطواتِ أحدُهم بالغرفة :
نهضت وتبسَّمَت :
حمدلله على السلامة يامصطفى ..
أومأَ لها ثمَّ قامَ بخلعِ جاكيتَ بدلتِه، اقتربت منهُ تأخذهُ وهي تتعمَّقُ بنظراتها إليه، وضعت كفَّيها على كتفِه :
مُصطفى مالك، فيه حاجة حصلت؟..
جلسَ على المقعدِ يفركُ جبينِه، رفعت كفَّها تخلِّلُ أناملها بخصلاتهِ المختلطةِ بالشعرِ الأبيض :
عندَك صداع ولَّا إيه؟!
تراجعَ بظهرهِ على جسدها، حاوطتهُ بذراعٍ والآخر تُحرِّكها بهدوءٍ كمساجٍ برأسه :
ياحنان إيدك يافريدة، بحسَّها بلسم .
افترت شفتاها ابتسامة :
بتدلَّع يامصطفى، ولَّا بتهرب مني ؟..
اعتدلَ واستدارَ إليها :
عرفتي إلياس طرد ميرال من مكتبهِ مش عايزِك تزعلي، وفيه موضوع طول اليوم بفكَّر فيه .
طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، احتضنَ كفَّيها يربتُ عليهما :
فريدة أنا قرَّرت أجوِّز ميرال لإلياس، ومش عايز اعتراض .
ضيَّقت عينيها متسائلةً بلهفة :
ليه يامصطفى، علشان راجح ظهر تاني صح؟..
جذبَ رأسها لأحضانهِ بعدما انفجرت عيناها بالدُّموع :
إيه اللي بتقوليه دا، هوَّ أناخايف منُّه علشان أجوِّزها لإلياس !..
تأملَّها بعينينٍ حزينةٍ ونظراتٍ مترجيِّة :
فريدة إلياس عمرُه ماهيتجوِّز لو فضل كدا، عندي أمل في ميرال ..
هبت من مكانها تفرك بكفيها ثم
حانت منها نظرةً ممزوجةً بعيونها المترقرِقة :
هايعذبها يامصطفى، هياخُدها بذنبي، والبنت متستَهلِش معاملتُه الجافَّة، متزعلشِ مني، إنتَ عارف أنا بحبُّه أد إيه، بس عند ميرال مقدرشِ أضحِّي بيها .
أصابهُ الحزنَ فنكسَ رأسهِ للأسفل :
كان عندي أمل فيها، الولد يوم عن يوم قلبُه بيقسى، فكَّرت لمَّا يتجوِّز قلبه يحنِّ ويبعد عن قسوتُه شوية ..
هاجَ قلبها على حالته، جلست بجوارِه :
طيِّب عايزة مؤخَّر كبير علشان مايحاولشِ يطلَّقها..قالتها بابتسامةٍ حزينة...رفعَ رأسهِ يطالعها مذهولًا :
موافقة..هزَّت رأسها تُربتُ على كتفهِ
وأجابتهُ بنبرةٍ واثقة:
ابنَك مش قاسي يامصطفى، هوَّ عايز يفهِّمنا كدا، بس لو قرَّبتِ منه هتلاقي حنِّية الدنيا كلَّها عندُه، المهم مايكرهش البنت، وبلاش انا أظهر في الموضوع
إنتِ اللي بتقولي كدا بعد اللي حصل دا كلُّه!..
اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أفلتتها من بينِ آلامها :
مش هاخبِّي عليك يامصطفى، إلياس أكتر واحد هيقدَر يحافظ على ميرال، رغم جحوده معاها بس جوايا يقين بيقول أنه اكتر واحد هيحميها
لاحت نظراتهِ بتساؤلٍ عن ماتعنيه، نهضت مرتبكةً تفركُ بكفَّيها :
من وقت ما شوفت خبر القبض على ابنِ راجح ، وعرفت إنِّ الولد هايكون تبع أمنِ الدولة، لأنَّها قضية تمسُّ بالأمنِ القومي ..وأنا بفكر في اليوم اللي هقابل فيه راجح، عايز قدر اكتر من إن الولد ميلقوش حد غير إلياس يحقق معاه، مش شايف دي إشارة من ربنا
اهتزَّ جسدهِ يطالعُها بذهول :
فريدة إنتِ ناوية على إيه؟!
استدارت سريعًا وعادَ الوجعُ ينبثقُ من نظراتِ عينيها .
وأنا بأيدي إيه أعمِلُه، تقدَر تقولِّي، لو بإيدي حاجة كنت عملتها من خمس وعشرين سنة يامصطفى، واحدة وحيدة عاجزة وانداس عليها، اتسلَب منَّها كلِّ حاجة، حتى سُمعتها وشرفها، تفتكِر اللي مقدرتِش أعمله زمان هقدر أعمِله دلوقتي، بس أنا منتظرة عدالة ربِّنا واللي متأكدة منها .
زفرة حادَّة مع نظراتٍ مكدَّسة بالعتاب :
أنا مقصَّرتِش يافريدة، حاولت على قدِّ ماقدرت، استخدمت كلِّ نفوذي، بس معرفتِش أوصل لحاجة ، عارف إنك موجوعة، بس معرفش انك لسة شايلة جواكي الوجع دا
انهارت حصونها وبكت بدموعٍ تحرقُ عينيها قبلَ وجنتيها :
أنا عمري مانسيت قهرتي يامصطفى، دول ولدين، وعيشة ذل ووجع، أنا عمري ماهتنازِل عن ميرال يامصطفى، دي حقِّي، حقِّ وجع قلبي..بنتِ قلبي سمعتني اللي خففت وجعه في قهرته
محدِّش يقدَر يقرَّب منها، أنا هاحميها من الكل، حتى لو اتجوِّزت إلياس
بغرفةِ ميرال :
أنهت تبديلَ ثيابها وقضت فرضها،ثمَّ اتَّجهت إلى جهازها المحمول لإنهاءِ بعضَ أعمالها التي تتعلَّقُ بأخبارِ القضايا التي تسعى لمعرفةِ تفاصيلها.. استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة :
أدخل..دلفَ إليها بغرورهِ المعهود،
تطلَّعت إليهِ بذهولٍ فلأوَّلِ مرَّة يأتي إلى غرفتها منذُ سنوات :
هاستنَّاكي تحت، عايز أتكلِّم معاكي .
اتَّجهت إلى جهازها مردفة :
مش فاضية عندي شغل، لمَّا أفضى يبقى أبعتلك..
عقدَ حاجبيهِ بغرور، واقتربَ منها :
إسمعي يابت خُلقي ضيِّق، مش عايز هبل البنات هستناكي تحت، خمس دقايق وتكوني ورايا،
طالعتهُ برفعةِ حاجبٍ قائلة :
خلقك ضيِّق نوسَّعهولَك، أنا مش فاضية، وزي ماقولت لجلالة البيه المغرور لمَّا أفضى يبقى أكلِّمك ..
انحنى بجسدِه قليلًا، وبفظاظتهِ المعهودة :
لمَّا أأمُرِك بحاجة تسيبي كلِّ اللي في إيدِك وتيجي .
اندفعت صارخةً بوجهِه :
إنتَ إيه ياأخي، ماتسيبَك من شويِّة الغرور اللي نافخ نفسك بيهم، اسمعني علشان دا آخر الكلام بينا، إنتَ على بعضك ماتهمِّنيش، ووسوسة شيطانَك أنا مش مسؤولة عنها،
وياله إطلع برَّة سبني أكمِّل شغلي، شكلَك فاضي ومش لاقي حاجة تعملها .
احتقنَ وجههِ بالغضبِ من تلكَ الشرسة، فدنا ينحني بجسدهِ إليها حتى لفحت أنفاسَ غضبهِ وجهها :
-من بكرة مش عايز أشوف وشِّك في البيت دا، ولو فعلًا بنتِ فريدة خلِّيكي متمسِّكة برأيك، بلاش شوية الحوارات ودموع التماسيح اللي قدَّام أبويا، علشان تصعبي عليه، خلِّيكي شاطرة وفاردة عضلاتِك كدا قدَّام الكُل، بدل مابشُفهُمش غير معايا، بلاش خبثِ البنات دا علشان مهما تعملي ماتهزِّيش منِّي شعرة..قالها ونصبَ عودهِ متوقِّفًا :
أغمضت عيونها للحظاتٍ محاولةً تمالكَ أعصابها حتى لا تصفعهُ على وجهه، حاولَ إخفاءِ ابتسامتهِ من تبدُّلِ حالتها الغاضبة، إلَّا أنَّهُ أفلتَ ضحكةً رجوليَّةً قائلًا :
كدا شكلِك عجبني أكتر، كلِّ ماأشوفِك غضبانة كدا بحسِّ بارتياح نفسي .
-لأنَّك مجنون.. قالتها ببساطة، استدارَ للمغادرة وبدأَ يدندنُ بأغنيةٍ أجنبية، أمسكت جهازَ تحكُّمِ التلفازِ الذي يجاورها وألقتهُ برأسه، فاستدارَ إليها متأوهًا وعينيهِ تطلقُ شررًا، اقتربَ منها، فهدرت به قائلة
-هصوت وألم البيت واقولهم بيتهجم عليا، وشوف بقى عمو مصطفى هيعمل ايه..نفرت عروقه وتجهمت ملامحه ، وصل إليها بخطوة
-عايز اللي في الحديقة تحت يسمع صراخك يابنت فريدة، قالها وهو يجذبها من ذراعها، إلَّا أنَّهُ توقَّفَ بدخولِ فريدة قائلة :
ميرال، ولكنَّها توقَّفت مصدومةً من وجودهِ بغرفةِ ابنتها، واقترابه وتمسكه بها بتلك الطريقة، وزَّعت النظرات بينهما متسائلة :
فيه حاجة؟..تحركت ميرال متَّجهةً لوالدتها ويبدو أنها نست ما ترتديهِ من ملابسَ صيفيَّة :
مفيش قالها وتحرَّكَ سريعًا بعدما توقَّفت وظهرت أمامهِ بتلكَ الطَّلةِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ يراها بها، سحبتها فريدة وأجلستها على الفراشِ غاضبة :
إزاي تقابلي إلياس كدا، إنتِ اتجننتي ياميرال، مش واخدة بالِك من هدومك، -وهوَّ جاي ليه؟!..
نظرت لنفسها ورغمَ ذهولِها إلَّا أنَّها لوَّحت بكفَّيها متمتمة :
ماأخدتِش بالي ياماما، غير أنُّه دا مايفرقشِ معاه حاجة، يعني حملة فريزر عندنا في البيت .
أفلتت ضحكةً تضربُ كفَّيها ببعضهما ثمَّ رمقتها واستطردت :
حبيبتي ماينفعشِ إنتِ مش صغيرة حرام تقابليه كدا، وبعدين أنا خلاص مابقتش هاتساهِل بشعرك دا، لازم تلبسي حجاب، ولبسِك كلُّه لازم يتغير،
نفخت بضجر، واتَّجهت إلى فراشها :
رجعنا بقى للبسِ الحجاب والبناطيل، ماما مش هاعمِل حاجة مش مقتنعة بيها .
زفرت فريدة بغضبٍ ثمَّ جلست بجوارِها واسترسلت قائلة :
- وأنا كدا مش هارضى عنِّك ياميرال، لأنِّك وعدتيني وأخلفتي وعدِك .
-أوووف ياماما هانرجع نتخانِق تاني بسببِ اللبس، تمام حاضر وعد أفكََر في الموضوع كدا كويس .
توقَّفت فريدة تشيرُ إلى الباب :
إنزلي نتعشى تحت، عمِّك مصطفى عايزِك ..
قطبت جبينها متسائلة :
- عايزني أنا ليه؟!..تذكَّرت ما قالتهُ لهُ منذُ ساعات، فأومأت متباعدة :
هوَّ قال لحضرتِك حاجة ..هزَّت رأسها بالنفي واستدارت :
- لا، ياله إنزلي متتأخريش ..قالتها وفرَّت هاربة حتى لا تنفلتَ الكلماتَ من بينِ شفتيها، هي تعلمُ بقساوةِ إلياس ورغمَ ذلكَ تشعرُ بداخلهِ حنانًا يفيضُ العالم، وافقت مصطفى على ارتباطِ إلياس بابنتها لتحافظَ عليها من تقلُّباتِ القدر، رغمَ تيقُنِها بعدمِ أمومتها لها، ولكن كيفَ ستقنعُ قلبها بالابتعادِ عنها، أحبَّتها وتعلَّقت بها لتشعرَ أنَّها فلذةِ كبدِها وابنةِ روحها
بعدَ فترةٍ تجمَّعَ الجميعُ على طاولةِ العشاء، كانت تنظرُ بصحنِها دونَ النظرِ إلى ذاكَ الذي يقابلها وعلى وجههِ ابتسامة حمقاء لا تعلمُ ماهيتها همست لنفسها :
نفسي أضربَك على وشَّك أوقَّعلك سنانك دي، دنت غادة تهمسُ إليها :
مالِك ياميرو، بتكلِّمي نفسِك ليه؟!..
رفعت عينيها فتقابلت بعينيهِ الصقريَّة، ونظراتهِ التي تحملُ الكثيرَ من الوعيد، كانَ هناكَ من يراقبُ تلكَ النَّظرات،
رمقتها بنظرةٍ تشيرُ إلى إلياس :
هاقوم أطيَّر سنانُه اللي فرحان بيهم .
أفلتت غادة ضحكةً صاخبةً بينهم إلى أن قطعَ مصطفى حديثهم قائلًا :
أنا اتَّفقت مع فريدة هانكتِب كتبِ كتاب إلياس على ميرال يوم الجمعة .
ألقت مابفمها دفعةً واحدةً بوجهِ غادة..التي صرخت بها :
إيه دا ياميرال..
جحظت عيناها تنظرُ إلى مصطفى متسائلة :
ميرال مين وإلياس مين؟!..لكزتها غادة تشيرُ بعينيها لذاكَ الذي ينفثُ سيجارَتهِ ببرود..
فنهضت كالمجنونة :
حضرتَك قصدك أتجوِّز ابنك اليأس دا، زمَّ شفتيهِ مستمتعًا بجنانها بعدَ معرفتها ..ضحكت غادة تردُّ على والدها :
أعذرها، دي من فرحتها بتلخبط في اسمه، دلوقتي هتقولُه صح مش كدا يامريولة…
جزَّت على أسنانها تنظرُ لذاكَ المتعجرفِ :
لا، هو اليأس بذاته، وبعدين أنا مش موافقة، إزاي عايز تجوِّزني أبو الهول دا، يعني بعدِ السنين دي ماتجوِّزشِ غير ابنك الباير؟!..
ضحكَ الجميعُ على حديثها إلَّا ذاكَ الذي يرمقها بنظراتٍ مبهمة وهو ينفث سجائره بهدوء مميت، ورغمَ بركانهِ الداخلي، إلَّا أنَّهُ ابتسمَ قائلًا :
ماهو الباير كان مستنِّي البايرة تكبر .
ضربت قدميها بالأرضِ ودفعت المقعدَ متَّجهةً إليهِ كالفريسة :
اسمعني ياعمو اليأس إنتَ، أنا مستحيل أتجوِّز واحد زيَّك، وبعدين ترضى تتجوِّز واحدة غصب عنها؟..
نفثَ سيجارتهِ وغمزَ بعينيهِ لأوَّلِ مرَّةٍ مبتسمًا :
أه، هاخليكي تحبِّيني، قالها وتوقَّفَ يشيرُ إلى والدِه :
أنا موافق أتجوِّز الأمورة..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان ..هرولت خلفِه :
نظرت فريدة إلى مصطفى متسائلة :
ماتوقعتِش إلياس يوافق بسرعة كدا، إنتَ قولت له حاجة، أوعى تكون ضغطت عليه..ربتَ على كفِّها :
ودا موضوع ينفع أضغط فيه يافريدة، أنا قولتلُه وهوَّ قالِّي هافكَّر، ودلوقتي لقيتُه موافق مكُنتِش أعرف حتَّى رأيه..قالها وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :
خليهُم يجبولي قهوتي، عندي شويِّة شغل مش عايز إزعاج..
ظلَّت تلاحقهُ بنظراتها إلى أن أغلقَ بابَ مكتبه، استدارت على صوتِ إسلام :
مش فاهم حضرتِك معترضة يعني على أبيه إلياس ولَّا إيه ؟..
هزَّت رأسها بالنفي ورسمت ابتسامة مردِّدة :
أبدًا حبيبي مش عايزة بابا يضغط عليه، هوَّ من حقُّه يختار شريكة حياتُه..
طيِّب وميرال ياماما فريدة مش من حقَّها تختار شريك حياتها، ليه غصبتوا عليها؟!.. هكذا سألتها غادة .
توقَّفت ومازالت تبتسم :
ومين قالِّك إن ميرال رافضة إلياس ياغادة، قالتها وهربت من أمامهم بعدما شعرت بالعجزِ عن الردِّ على أسئلتهم .
بالخارجِ عند سيارتهِ صرخت به :
أنا مستحيل أوافق على الجوازة دي سمعتني..استدارَ إليها وهنا ثارت جيوشَ غضبهِ وعنفوانهِ الكارهِ لها، فقبضَ على ذراعيها بقوَّة، وهناكَ نظراتٍ كالطَّلقاتِ الناريَّة يريدُ أن يلقيها صريعًا يهمس بفحيح افعى :
-ولا أنا عارفة ليه، لأنِّي بكرهِك، روحي للستِّ الوالدة وافهمي منها ليه عايزة تجوِّزنا بعض، قالها وهو يدفعها بقوَّةٍ ثمَّ اتَّجهَ لسيارتهِ وقادها بسرعةٍ جنونيَّةٍ، وحديثُ والدهِ يخترقُ آذانه :
قدَّامك حل من الاتنين، ياتتجوِّز ميرال وتحميها من أي حد حتى نفسك، ياأما تنسى إنِّ ليك أب، سمعتني ولَّا لأ
وقبلِ ماتجاوب، ميرال ليها عم بيدَّور عليهم وعايز يوصلَّهم بأي طريقة، ووقتها لو عمَّها وصلِّها وعرف ياخدها مش هاسامحك ياإلياس، مش بعد اللي فريدة عملتُه معايا يكون جزاتها أحرمها من بنتها الوحيدة .
طالعَ والدهِ وأفلتَ ضحكةً ساخرة :
يعني علشان الستِّ فريدة، تجوِّز ابنك غصب عنه ...اقتربَ منهُ والدهِ وعينيهِ تحاوطهُ بنظراتٍ غاضبة :
-لا، علشان ميرال دي بنتي، أخدتها وهيَّ بنت شهور، ولو إنتَ ناسي أنا فاكر البنتِ دي كانت بتقولِّي يابابا، أمَّها ضحِّت بنفسها علشانك، إيه ياحضرة الظابط نسيت فريدة عملت إيه معاك؟..
ركلَ المقعدَ حتى سقطَ على الأرضيَّة واستطردَ غاضبًا :
ولو كنت أعرف هاعيش بسببها كنت اتمنِّيت الموت أفضل من إنِّي أعيش على أفضالِ الستِّ فريدة ..
-ولد تأدَّب!!.. إنتَ نسيت اللي بتتكلِّم عنها دي مراتي، وفي مقام أمَّك..غرزَ عينيهِ التي تحوَّلَ لونها لخيوطٍ حمراء بعينِ والدهِ وأردفَ بهسيس :
ماليش غير أم واحدة ماتت قدَّام عيوني وإنتَ في حضنِ الستِّ فريدة الكذَّابة المخادعة..
لطمة قوية على وجههِ حتى توقَّفَ مذعورًا ينظرُ لوالدهِ بعتاب، لأوَّلِ مرَّة يرفعُ يدهِ عليه..تراجعَ للخلفِ وتجمَّعت عبراتهِ تحتَ أهدابهِ ليستديرَ مغادرًا المكانَ بأكملِه؛
وذكريات السنوات تمر أمام عينيه كشريط سينمائي،
خرجَ من شرودهِ على اتصالِ صديقه :
إلياس ليه نقلت سجنِ الواد بتاع الخليَّة، توقَّفَ بسيارتهِ بمكانٍ هادئٍ أمامَ النيل :
إجراءات أمنيَّة ياشريف، لازم نعرَف مين بيموِّل العيال دي، وأه بالنسبة لهيثم الشافعي أنقلوه سجنِ الجنايات، قضيِّتُه مش عندنا ..قالها وأغلقَ هاتفهِ دونَ حديثٍ آخر…
اتَّجهَ بنظراتهِ للنيلِ وذكرياتٍ متألِّمة تعصفُ به :
فلاش :
قبلَ عشرِ سنواتٍ كلَّفَ أحدًا من فريقِ أمنهِ قائلًا :
فيه إسم عايزَك تكشِف عنُّه يامحمود، من غير ماحدِّ يعرف .
اتفضَّل ياباشا أي خدمة، ابعتلي التفاصيل وأنا هاعرَفلك كلِّ حاجة ..أخرجَ بطاقةَ فريدة الحقيقيِّة وقامَ بإملائهِ بمعلوماتها الشخصيَّة .
عدَّةِ أيامٍ وهاتَفهُ الذي كلَّفهُ بالبحثِ عن حقيقتها :
أيوة ياباشا، جبتلك الأخبار اللي إنتَ عايزها .
توقَّفَ بالسيارةِ على جانبِ الطريق يستمعُ إليه :
مافيش حدِّ في السويس في المكان دا باسمِ جمال الدين، بس فيه جمال الشافعي، ولُه أخ اسمُه راجح الشافعي، جمال مات في حادثةِ بحر، ومراتُه اتجوَّزِت أخوه بس هربت منُّه بعد ماعرف إنَّها على علاقة براجل تاني، غير أنَّها كان عندها طفلين من جوزها الأولاني واتخلِّت عنُّهم، فيه اللي بيقول علشان تتخلَّص منهم وتعيش حياتها وفيه اللي بيقول باعتهم علشان الفلوس، بس معظم الناس قالت حاجات قريبة من كدا، إلا ستِّ وحيدة اللي قالت إن أخو جوزها راجح دا كان مفتري واتجوِّزها تحتِ تهديد، ومراتُه هي اللي خطفت ولادها ….
أه وكمان فيه بيقول علشان تنتقم من أخو جوزها علشان رفض يطلَّق مراته الأولى فخطَفِت بنته وهربت بيها، وهوَّ دوَّر عليها في كلِّ مكان، لحدِّ مافقد الأمل .
شعرَ وكأنَّ أحدهُم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلَّج، حتى شحبَ وجههِ بالكامل، وحديثُ والدهِ يتردَّدُ بأذُنه :
كذبتي عليَّا يافريدة، استغفلتيني..تلك الكلمات استمع اليها صدفة بطفولته بعد عقد قرانه على فريدة، تلصص الطفل الذي يبلغ من العمر عشر سنوات على كلمات والده وهو يصرخ بها
-ازاي عرفتي توقعيني كدا، انا مصطفى السيوفي حتى بنت زيك تضحك عليا..فاق من شروده بانفاسه المتسارعة
كوَّرَ قبضتهِ ونفرت عروقهِ وهو يستمعُ إلى تكملةِ حديثِ الرجلِ عن أخلاقها،
صمتًا مقتولًا.. مرّّ عليهِ وكأنّّ أحدَهم وضعَ السيفَ على عنقهِ ليشعرَ بعدمِ ابتلاعِ ريقه، فاقَ على صوتِ الرجل :
فيه حاجة يإلياس باشا تانية ولَّا كدا تمام؟..
عايز تاريخ راجح دا كلُّه، تعرفلي كلِّ حاجة عن حياتُه يامحمود، كلِّ حاجة مش عايز غلطة، إتأكِّد من كلِّ معلومة .
أومأَ لهُ ثمَّ استرسلَ قائلًا :
جبتلَك من غير ماتقول، كنت عارف إنَّك هاتُطلبُه، دا كان ظابط شرطة بس تقاعد بعد هروبِ مراته، فيه اللي قال سمعتها ضرِّت شغله، وفيه اللي قال علشان يتولَّى شغلِ أخوه، عندُه ولدين وبنت، ولد من مراتُه الأولى أصله اتجوِّز تلات مرات، واحدة جابتلُه ولد ودي معنديش معلومات عنها كتير، غير أنَّها اتجوِّزت واحد بعدُه وهربت بابنها علشان ماياخدوش بعد مايعرَف بجوازها، والتانية دي بتكون بنتِ عمِّ فريدة اللي حضرتَك طلبتها، معاها وولدين غير البنت اللي فريدة خطفتها، واحد في كلية تجارة، والتاني ثانوي عام، والستِّ دي فاتحة مستحضرات تجميل بالسويس .
خرجَ من ذكرياتهِ متراجعًا بجسدهِ يهمسُ لنفسه :
هاشوف أخرتها معاكي يامدام فريدة .
بمكانٍ آخرٍ بالقاهرة :
استيقظَ من نومهِ على صوتِ الخادمة :
دكتور آدم، زين بيه منتظِر حضرتَك تحت ..
طيِّب شوية ونازل..قالها وهو يعتدلُ على فراشهِ يمسحُ على وجهه، ثمَّ اتَّجهَ ينظرُ بساعته، ناهضًا من فوقِ فراشه .
هبطَ للأسفلِ يبحثُ عن والده، قابلهُ أخيه :
أدخُل لبابا المكتب عايزَك..دقَّقَ النظرَ بملامحهِ متسائلًا :
مالَك يابني..تحرَّكَ بعدما حملَ أشيائه :
عندي محاضرة اتأخَّرت سلام ..راقبهُ إلى أن خرجَ من البوابة .
دلفَ لوالدهِ الغرفة، أشارَ إليهِ بالجلوس: صباح الخير ..
أومأَ لهُ دونَ حديث..جلسَ مبتسمًا ثمّّ هتف :
أكيد الموضوع يُخص إيلين بنتِ عمِّتو مش كدا؟..
فكرت في اللي طلبته منك، عايزَك تتجوزِّها ياآدم، البنت أمانة عندي، وصيِّة عمِّتَك ياحبيبي، وزي مااطَّمنِت على مريم عايز أطَّمن عليها .
موافق يابابا، بس لازم تعرف حاجة مهمَّة ..طالعهُ منتظرًا حديثه،
نكسَ رأسهِ للأسفلِ مردفًا :
أنا متجوَّز في ألمانيا، اتعرَّفت على بنت هناك، هبّّ زين منتفضًا وهدرَ بصوتٍ مرتفع :
إنتَ بتقول إيه، إنتَ اتجنِّنت!..
بابا لو سمحت..رفعَ يديهِ يشيرُ إليهِ بغضبٍ اندلعَ من حدقتيه :
البنت دي ولا كأنَّك شوفتها ولا عرفتها، وتطلَّقها وإيَّاك حد يعرَف بالمصيبة دي ..قالها وخرجَ للخارج كالمطارَد..جلسَ آدم على المقعدِ محتضنًا رأسهِ يشعرُ بألمٍ يفتكُ برأسه.
بعدَ فترةٍ جلست بجوارِ خالها بعدما أصرَّ على وجودِ الجميعَ على طاولةِ طعامِ الإفطار..
استمعت إلى خطواتهِ فاهتزَّ قلبها وكأنَّهُ يخطو فوقَه..ألقى تحيَّةَ الصباح ثمَّ جلسَ بجوارِ صديقه :
صباح الخير، ياااه من زمن ماشُفتِش الأكل دا، وشمِّيت الريحة الحلوة دي..
طالعهُ والدهِ مسترسلًا وهو يشيرُ إلى التجمُّع :
ولا من اللمَّة دي، قالها بمغذى ..قاطعت حديثهِ سهام زوجةُ والدِ إيلين :
مش مهم ياحجِّ زين، المهم أنُّه كان عايش مبسوط، ورجعلنا بالدكتوراة .
رمقها زين بنظرةٍ صامتة، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى محمود والد إيلين :
ساكت ليه يامحمود؟..
هزَّ كتفهِ قائلًا :
هاقول إيه يازين، المهم أنا مسافر شغل في الغردقة وممكن أغيب تلاتة شهور، خلِّي بالَك من البنات .
تراجعَ زين بجسدهِ وحدجهُ بنظراتٍ غاضبة :
وبعدين من سفرياتك اللي كترت يامحمود، أنا اتَّفقت معاك امبارح مفيش سفر غير لمَّا نجوِّز إيلين وآدم .
هنا رفعت رأسها، وطالعت خالَها وأردفت بوجع :
وأنا مش موافقة ياخالو، حضرتَك سألتني من فترة وأنا رفضت، ليه ترجَع تتكلِّم تاني .
نظر زين إلى آدم الذي حمحمَ معتذرًا :
بعد إذنَك ياعمُّو محمود، ممكن أتكلِّم مع إيلين شوية؟..
رمقَ ابنتهِ الغاضبة، ثمَّ رجعَ بنظراتهِ إليه :
ومالُه يادكتور، أهي بنتِ عمِّتك .
اتَّجهَ إلى جلوسها وسحبَ كفَّها :
تعالي نتكلِّم شويَّة مع بعض .
سحبت كفيها سريعًا حينما شعرت وكأن كفيه ماسًا كهربائيًا
-مفيش بينا كلام يادكتور، انا قولت اللي عندي، مش هتجوز دلوقتي
هزت سهام ساقيها تطالعها بخبث:
-ليه شايفة واحد احسن من الدكتور، ماهو طول الليل مش مبطلة وشوشة التليفونات دي
-سهام ألزمي حدك، ثم رفع عيناه إلى محمود والد إيلين مردفًا بعتاب:
-أنا بناتي مربيهم كويس يامحمود، قول لمراتك تلزم حدودها، إلا الشرف
توقفت ترمق زوجها واردفت موبخة إياه:
-أنا الوحشة دلوقتي علشان بقول الحق، شوف بنتك ماشية على حل شعرها وخالها عاجبه
-اخرصي..قالها زين بصوت مرتفع، توقفت مريم تحتضن اختها التي انسابت عبراتها على صمت والدها، سحب آدم كفيها ووزع نظراته يصيح بالجميع
-إيلين من اللحظة دي تخصني واللي يحاول يزعلها بكلمة مش هسكتله..قالها وسحبها متحركًا للخارج
بإحدى الأحياءِ الراقيَّة دلفَ بسيارتهِ
فورد فوكس الزرقاء إلى حديقةِ منزلهِ الواسعة، أغلقَ مُشغِّلَ صوتِ الأغاني وترجلَّ يلقي مفاتيحها للأمن، وصلَ إلى البابِ الإلكتروني للمنزلِ الذي فُتحَ عندَ دلوفه، دلَف للداخلِ وجدَ والدتهِ تجلسُ بجوارِ أختهِ التي تبلغُ من العمرِ عشرينَ عامًا، هبَّت من مكانها :
أبيه أرسلان وصل، قالتها وهي تهرولُ إليه، رفعها يدورُ بها :
ملوكة حبيبة أخوها، تشبَّثت بعنقهِ تقبِّلُ وجنتيه :
وحشتني أوي ياأبيه وكنت هازعل منَّك لو ماحضَرتِش عيد ميلادي .
حاوطها بذراعيهِ متحرِّكًا لوالدته، انحنى يطبعُ قبلةً فوقَ رأسها :
وحشتيني مدام الدراملِّي باشا..استدارت للجهةِ الأخرى قائلةً بتذمُّر :
ماتكلِّمنيش، روح لعمَّك جاي عندنا ليه، قبَّلَ كفَّيها :
أقدَر برضو صفيَّة خانم، دا أنا بحبِّك أكتر من حبِّ فاروق .
لا والله..قالها والدهِ الذي دلفَ يرمقهُ غاضبًا :
إيه ياأستاذ ماكنتِش ناوي تيجي ولَّا إيه؟..
-لأ..قالها هو يضحك ثمَّ استرسلَ قائلًا :
حضرِتَك مخاصمني، ينفع حدِّ يروح لحد مخاصمُه من غير مايصالحُه؟!..
-وإيه اللي جابك ياسيادةِ المقموص؟..
جاي أحضر عيد ميلاد ملوكة وهارجع مقموص تاني ..
لكزتهُ والدتهِ بخفَّة :
هاتفضل طول عمرك كدا، يابني حرام عليك بتوحشني ، قبل رأسها
-ست الكل تؤمر بس إنما فاروقو لا
-قوم تعالَ عايزك ..وضعَ رأسهِ على كتفِ والدتهِ وتمتم :
-تدفع كام وأنا أجيلَك..كتمت ملك ضحكاتها..رمقها والدها قائلًا :
عجبِك كلامه أوي، توقَّفت متَّجهةً لوالدها، خلاص يابابي علشان خاطري، ثمَّ اتَّجهت لأخيها :
الصراحة مابضحكشِ غير وهوَّ هنا..
فتحَ ذراعيه :
تعالي في حضنِ أخوكي ياروح أخوكي إنتِ..هزَّ فاروق رأسهِ وتحرَّكَ إلى مكتبهِ قائلًا :
مستنيك ياعمِّ الفيلسوف ...رفعَ رأسَ أختهِ من أحضانه :
هاشوف الملك فاروق وراجعلك، قبل مايوزع جنوده لاستعمار البلد، وبعد كدا ننزل نشتري أجمل هدية لأجمل ملوكة ...صفَّقت بيديها مثلَ الأطفال :
أحلى أبيه أرسلان في الدنيا، دمغها بقبلةٍ حنونةٍ ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى والده .
استدارت ملك لوالدتها :
يارب بابي مايتخنقِشِ معاه علشان الشغل ..شردت بدخولهِ عندَ زوجها، وهيَ تعلمُ ماذا سيحدثُ بالداخل..
بالداخلِ جلسَ أمامَ والده :
خير ياباشا؟!
بكرة في اجتماع لرؤساءِ الأقسام في الشركة ...عايزك بكرة تكون على رأسِ المجموعة …
تنهيدةً عميقةً بنظراتٍ صامتةٍ للحظاتٍ حتى توقَّفَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى نافذةِ الشرفةِ ينظرُ للخارج متمتمًا:
-حضرتك عارف رأيي في الموضوع دا، ليه مُصِّر، أنا مش بتاع اجتماعات يابابا لو سمحت، عجبنِي شغلي ..
اللي هوَّ إيه ياأرسلان ؟..
التفتَ برأسهِ مدعيًّا عدمَ الفهم، نهضَ فاروق من مكانهِ واتَّجهَ إلى وقوفه :
بتعمل إيه إنتَ وإسحاق ياأرسلان، وإيَّاك تكذب على أبوك، أصلِ شُغلِ الصالات الرياضيَّة دا مش داخل دماغي بربعِ جنيه...رفعَ حاجبهِ مستنكرًا حديثه :
-ماهو لازم مايدخُلشِ دماغك، لأن الربعِ جنيه انقرض ياوالدي ..
ابتسمَ ساخرًا ثمَّ رفعَ كفِّهِ يربتُ على كتفه :
أبوك ماعجِّزشِ وعارف كلِّ نفس إنتَ بتتنفسه، بس كنت أتمنَّى تيجي وتحكيلي لوحدك…
تراجعَ بجسدهِ يستندُ على النافذةِ عاقدًا ذراعيه :
من شابهَ أباهُ فما ظلم يافاروق باشا، انحنى يغرزُ عينيهِ في مقلتيه :
أكبر رجل مخابرات تاريخَك كلُّه عندي..
استدارَ فاروق ضاحكًا :
-عمَّك البغل اللي قالَّك؟..
-ولو يافاروق باشا، وقع ملفَّك قدَّامي بالصدفة .
توقَّفَ مستديرًا يرمقهُ بصمت، ثمَّ اتَّجهَ إلى مقعده :
إنتَ تعرف لو اتكشفت إيه اللي هايحصل..هزَّ كتفهِ للأعلى قائلًا :
ولا يفرِق معايا حاجة، ابنك مش قليل برضو ..قطعَ حديثهما رنينَ هاتفه :
صقر منزل دكتور بهاء الدين تحت المراقبة لازم توصل للجهاز .
تمام ...قالها وأغلقَ الهاتفَ وهمَّ بالمغادرة إلَّا أنَّ والدهِ أوقفه :
رايح فين، عمَّك اللي كان بيتكلِّم؟..
أومأَ لهُ ونظرَ بساعته :
بابا لازم أتحرَّك حالًا..صاحَ غاضبًا :
استنى عندك، رايح فين؟..
بابا عندي مهمة لازم أتحرَّك، ساعة بالكتير وهاكون هنا علشان عيد ميلاد ملوكة..بعد إذنك قالها وتحرَّكَ سريعًا من أمامه …
وصلَ بعد قليلٍ لتلكَ الفيلَّا، توقَّفَ أمام البوابةِ الخارجيَّة يطالعها لدقائق حينما عجز لدخولها، اضطر لبعض خططه فصاح على الرجل:
-عايز أقابل دكتور بهاء الدين .
اقتربَ منهُ المسؤولِ الأمني :
- عندَك ميعاد؟..
قولُّه دكتور حمدي الجامعي .
-آسف يادكتور، ماعنديش إخباريَّة بوجود حضرتك، ترجلَّ من سيارتهِ يوزِّعُ أنظارهِ على ذاكَ المكانِ الذى يوجدُ بهِ يعج ب رجالٍ من الأمن، كانَ على تواصلٍ مع إسحاق عن طريقِ جهازه :
لحظاتٍ واستمعَ إلى حالةِ هرجٍ ومرجٍ داخلَ الحديقة، استدارَ الأمنُ للسيطرة على الوضع..صاحَ إسحاق عبرَ جهازه :
إرجع ياأرسلان، ماتُدخلشِ الفيلا..أغلقَ جهازهِ وتسلَّلَ من بينِ الطلقاتِ الناريَّة بينَ المقتحمين وأمنِ المنزل،
دقائقَ ووصلَ إلى غرفةِ العالمِ المقصود،
رفعَ يديهِ أمامه :
ماتخافش أنا ظابط، قالها وهو يُخرجُ له بطاقته، هدأَ الرجلُ قليلًا، يشيرُ إلى جهازه :
الجهاز، دول جايين علشان الجهاز، نظرَ من خلفِ الستائرِ على الوضعِ الأمني بالاسفل، ثمَّ اتَّجهَ إلى العالمِ قائلًا :
لازم نتحرَّك من هنا يادكتور لو سمحت، قالها وهو يسحبهُ بجهازهِ للخارج، ولكنَّ هناكَ من عرقلَ تحرُّكهِ ليقفَ عاجزًا عندما وجدَ أحدهم يضعُ السلاحَ برأسِ العالم قائلًا :
أترُك مابيدكَ حتى تُنقذَ رأسك .
نظرَ بكافَّةِ الاتجاهات، لحظاتٍ قليلةٍ وهو يبحثُ عن مخرج، إلى أن لمحَ ذاكَ التمثالَ الذي بجوارِ العالم، ثانية اثنتان ثلاثة وهو يخرجُ سلاحهِ مع ركلتهِ لذاكَ التمثال، ليطفئَ الأضواءَ بالكاملِ عن الغرفة، مغادرًا المكانَ وهو يسحبُ ذاكَ العالمَ إلى أن وصلَ إلى سيارتهِ بالخارج، استقلَّ السيارة لعدَّةِ أمتارٍ ولكنَّهُ توقَّفَ فجأةً حينما توقَّفت تلكَ السيارة المصفَّحة أمامهِ لتصطدمَ بسيارته .
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ بمنزلِ فاروق الجارحي، اتصالات عديدة ليصلَ إليه، دلفت ابنتهِ بدموعها :
لسة ماوصلشٍ يابابي؟..
كيفَ يهدِّئها وبداخلهِ نيرانٍ تقنعهُ بأنَّ ابنهِ أصابهُ مكروهًا، خرجَ متَّجهًا إلى سيارته، دقائقَ ووصلَ إلى منزلِ أخيه .
صاحَ بصوتٍ صاخبٍ اهتزَّت لهُ أرجاءَ المنزل :
إسحاااق...صاحَ بها فاروق .
خرجَ من مكتبهِ يطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيه :
صدَّقني مقوِّم الجهاز كلُّه إن شاءالله خلال ساعات وهايظهر، إنتَ مش تايه عنُّه .
أشارّ بسبباتهِ هادرًا بتهديد :
ابني خلال ساعتين بس لو مظهرشِ هاقتلَك، علشان حذَّرتك كتير، وإنتَ ماسمعتِش الكلام... قالها وغادرَ المكان..
بمكانٍ في ضواحي القاهرة ..فتحَ عينيهِ يلتفتُ حوله، متذكِّرًا ماصار، كوَّرَ قبضتهِ بغضب :
غبي أرسلان، إزاي توقع في خطأ تافه زي دا، لازم تفكَّر بسرعة ..
دلفَ أحدُ الرجالِ العمالقة مع شخصٍ تظهرُ عليهِ الهيبة متسائلًا :
من أنتَ ولما كنتَ في منزلِ الدكتور؟!..
مطَّ شفتيه وضحكَ ساخرًا :
كنت بتفسَّح، إيه عندك مانع؟..ركلهُ الرجلَ الآخرَ بضهره، فنهضَ من مكانه، يطبقُ على عنقهِ وتحوَّلت عيناهُ لخيوطٍ حمراء .
هاكسرلَك رجلك لو حاولت تعملها تاني، اقتربَ من الآخرِ يزيحهُ بقوَّة :
أأنتَ ظابط؟..
رمقهُ بنظرةٍ ساخرة :
لا بلعب بلياتشو..أخرجَ مافي جيبهِ فوضعَ الرجلُ السلاحَ على رأسه :
ماهذا أيها الغبي، رفعَ أحدَ الحلويات يشيرُ إليه :
تشكوليت علشان أتحكِّم في أعصابي قبلِ ماأموِّتك إنتَ وهوَّ ...استمعوا إلى أصواتِ طلقاتٍ ناريَّة بالخارج :
حاولَ الرجلُ الانقضاضَ عليهِ ولكنَّهُ كانَ الأسرع حينما جذبَ سلاحهِ يضعهُ برأسِ رئيسه :
هاتقرَّب هاموِّتُه، إرجع ورا يالا، جاي بلدي تحطِّ عينك في عيني بكلِّ بجاحة ...
دقائق واختفى كلَّ شيئ، خرجَ من ذاكَ المنزلِ يزفرُ بغضبٍ بعدما نظرَ بساعتهِ التي تعدَّت الثالثة فجرًا ..قابلهُ إسحاق على بابِ المنزل ..توقَّفَ يطالعهُ مذهولًا :
إيه اللي جابك، هرولَ إليهِ يجذبهُ لأحضانه :
رعبتني خوف يامتخلِّف، إيه يالا.. إزاي توقع كدا؟!..
تراجعَ يدقِّقُ النظرَ بعينيه، ثمَّ غمز :
خُفت عليَّا إسحاقو..جذبهُ من ذراعهِ وأجابهُ ممتعضًا :
تعالَ يامتخلِّف، أبوك موَّلَّع الدنيا وحالف ليقتلني .
أشعلَ سيجارة والتفتَ إلى إسحاق :
أهو يريَّحني منَّك، وآخُد نفس شويَّة .
قهقهَ إسحاق عليهِ متمتمًا:
طول عمرَك حلُّوف يابنِ أخويا ..انحنى بجسدهِ ينظرُ لمقلتيه :
-إحلِف …
ضيَّقَ إسحاق عينيهِ قائلًا :
-أحلِف بإيه ..أشارَ على نفسه :
أنا حلُّوف ..ضربهُ على رأسهِ بخفَّة :
دا وقت هزار يالا ..
تحرَّكَت السيارة بهما فاستدارَ أرسلان إليه :
غلط ياعمُّو اللي عملتُه دا، مهما كان اللي يحصل، مكنشِ ينفع تيجي بنفسك .
تجهَّمت ملامحهِ بالحزنِ قائلًا :
استنى لحدِّ مايجيبوك جثَّة ياأرسلان، فداك عمَّك وكلِّ مايملك ياحبيبي
حانت منهُ التفاتة إليهِ قائلًا :
ماتحرمشِ منَّك حبيبي بس برضو أتمنَّى ماتعملشِ كدا تاني ياعمو لو سمحت..اه الدكتور فين
-للأسف مش موجود، والجهاز كمان تبخر..نقر على باب السيارة واردف بشرود
-مش هيخرج من مصر، ولو خرج هنعرف نوصله..ربت اسحاق على كتفه
-كويس انك شغلت الساعة ليه وقفتها
هز رأسه بالنفي
-ماوقفتهاش، ممكن جهاز التفتيش بتاعهم، بس كويس أنها متبرمجة بالدقائق
هز رأسه مستنكرًا حديثه:
-دول ٥ ساعات ياارسلان، كنت هتجنن فيهم
قهقه عليه، فهم الآخر مايدور بخالده
-اه عاقل يابن اخويا، بس شوية الجنان بتبقى معاك بس
بفيلَّا السيوفي :
تململت بنومها، ففتحت عيناها، وكأنها تشعر بأحدهم بالغرفة، هبت من مكانها بعدما وجدته جالسًا بالظلام ولم يظهر سوى عيناه الصفرية، ابتلعت ريقها بصعوبة تتمتم اسمه
بغرفة فريدة بعد خروج زوجها لصلاة الفجر، نهضت لقضاء فرض ربها، توقفت بعدما استمعت إلى إشعارِ رسالة بهاتفها، فتحت الرسالة، لتهوى على الفراشِ وهي تقرأها لمراتٍ عديدة :
"ميرال راجح الشافعي"..اهلا مدام فريدة الشافعي
دقَّاتٍ عنيفة مع انسيابِ عبراتها كالشلالِ تشعرُ وكأنَّ جدرانَ الغرفة تطبقُ على صدرها
↚
وعدتُكِ
وعدتُكِ ألَّا أحِبُّكِ ثمَّ أمامَ القرارِ الكبيرِ جبُنت..
وعدتُكِ ألَّا أعودَ وعدت..
وألَّا أموتَ اشتياقًا ومت…
وعدت أشياءً أكبرَ مني…فماذا بنفسي فعلت؟..
لقد كنتُ أكذِبُ…من شدَّةِ الصِّدق
والحمدُللهِ الحمدُللهِ أنِّيكذبت…الحمدُلله…
وعدتُكِ ألَّا أكونَ أسيرَ ضعفي وكنت…
وألَّا أقولَ لعينيكِ شعرًا… وقلت
وعدتُ بألَّا وألَّا وألَّا…فكيفَ وأينَ
وفي أي يومٍ تراني وعدت…
لقد كنتُ أكذبُ من شدَّةِ الصدق
والحمدُللهِ الحمدُللهِ أنِّي كذبت الحمدُلله
وعدتُكِ ألَّا أصيدَ المحَّار..
بشطآنِ عيناكِ طيلةَ عامٍ…
فكيفَ أقولُ كلامًا غريبًا كهذا الكلام
وعيناكِ داري…ودارَ السلام
وأنتِ البداية في كلِّ شيءٍ…
ومسكُ الختامِ مسكُ الختامِ… مسكُ الختام…
"نزار قباني"
وصلَ إلى مكانٍ ما بالحديقة وجلس، يشيرُ إليها :
أقعدي ياإيلين لازم نتكلِّم .
جلست دونَ حديث...ظلَّ الصمتُ بالمكان سيدَ الموقف إلى أن حمحمَ قائلًا :
زعلانة مني ليه، من وقت ما رجعت وإنتِ واخدة مني موقف .
ذهبت ببصرها لنقطةٍ وهميَّةٍ وأجابته:
وأنا هزعل منَّك ليه يابنِ خالي، كلِّ الحكاية الدراسة بدأت ومشغولة .
استدارَ إليها بجسدهِ متعمِّقًا بالنظرِ إليها :
يعني مش زعلانة..هنا رفعت عينيها الزيتونية وهتفت بخفوت :
إنتَ عملت فيَّا حاجة علشان أزعل منَّك ؟!..قالتها وعيناها تحتضنُ عينيه .
حمحمَ مبتعدًا يهزُّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ تحدَّثَ قائلًا :
ليه مش موافقة على ارتباطنا ؟..
وليه أوافق؟!
استدارَ إليها مرَّةً أخرى وعينيهِ تخترقُ عيناها :
وليه رفضتيني، فيه حد بحياتِك؟..
افترت شفتاها بسمةً ساخرة، ودقَّاتِ عنيفة بصدرها قائلة :
حد في حياتي، مش شايف الكلمة صعبة على إيلين يادكتور ..
تنَّهدَ بقلَّةِ حيلة متمتمًا :
حقِّك ياإيلين تحبِّي وتنحبي، علشان كدا بسألِك عن سببِ الرفض .
أطبقت على جفنيها وكتمت صرخاتها بداخلها، تحدِّثُ نفسها :
كيف لا تشعرَ بدقَّاتِ قلبي التي تدقُّ بعنفوانٍ بوجودك، آه ياقلبٌ حُكِمَ عليك بالأنين، لقد قتلني شوقي، ومزَّقني حنيني لشخصٍ لم يشعر بك..آه وآه ..
أفاقها حديثِه :
إيلين..قالها وهو يجذبُ كفَّيها يحتضنها بين راحتيهِ لتشعرَ برعشةٍ عنيفةٍ تسري بعمودها الفقري، طالعتهُ بأعينٍ مرتجفةٍ ونبضاتٍ تخترقُ قلبها الضعيف لتهمسَ بشفتينٍ مرتعشتين :
آدم سيب إيدي..احتضنت النظراتُ بين بعضها البعض، ليردفَ بصوتهِ الأجشَّ الرخيم :
إيلين أنا عايز أتجوِّزك، إدِّيني فرصة نقرَّب من بعض، مش يمكن تحبِّيني..
ابتعدت عنه حينما شعرت بانهيارِ دوافعها بحضرته، حنانُ صوتهِ الذي وقعَ على مسامعها كصوتِ كروانٍ يسبِّحُ الله، لمسَ وجنتها بإصبعه، ومازال يفرضُ سيطرتهِ عليها، بصوتهِ الرجولي الرخيم الذي جعلها تقسمُ بداخلها أنَّهُ الأحبَ إلى مسامعها ..مرَّر إبهامهِ على وجنتيها يرسمها بعينيهِ البنيَّة التي تشبهُ لونَ القهوة قائلًا بابتسامتهِ العذبة :
كبرتي واحلويتي أوي ياإيلي..تورَّدت وجنتاها تبتعدُ برأسها عن لمساته وباغتته قائلة :
ومين لسَّة صغير ياآدم، إنتَ كمان كبرت ماشاء الله.
قهقهَ عليها مازحًا :
بس مش حلو زيِك..
إحمرََّ وجهها حتى شعرت بإنبثاع الحرارة منه، نظرت للأسفلِ تفركُ بكفَّيها، وحاولت لملمةَ شتاتِ نفسها متسائلة:
كنت عايز إيه؟..
نسيتي بالسرعة دي؟!..
ابتلعت ريقها بصعوبة مردِّدةً بصوتٍ متقطِّع :
مش فاهمة برضو !..
توقَّفَ يضعُ كفَّيهِ بجيبِ بنطالهِ وعينيهِ مازالت تحتضنها :
إيه يادكتورة، يعني المفروض تبقي أذكى من كدا ...توقَّفت بمقابلتهِ وطالعتهُ متسائلةً بعينيها قبلَ شفتيها؟..
ليه ياآدم...قطبَ جبينهِ مستفسرًا عن معنى سؤالها؟!
مش فاهم تقصدي إيه؟!..
طافت عيناها بالمكانِ حولها تبتعدُ عن نظراتهِ التي اعتبرتها جريئة :
ليه عايز تتجوزني؟!
ثَقُلَت أنفاسهِ، فالحديثُ معها شاقًا، تركَ مايؤرقُ خواطرهِ واقتربَ يبسطُ كفَّيهِ إليها..نظرت لكفَّيهِ ثم لعينيهِ مستفسرة :
مش فاهمة، دي مش إجابة؟..
انحنى يجذبها من رسغها لتقتربَ منه، ثمَّ حاوطها بذراعيه :
إلينو..أنا كبرت وعايز أكوِّن أسرة، ومش هالاقي أحسن منِّك اكمِّل حياتي معاه
رفعت رأسها لتقتربَ من عينيه :
دا سبب يخلِّيني أوافق عليك..نزلَ برأسهِ ينظرُ لقربها وهناكَ ماأشعرهُ بخفقةٍ لذيذةٍ راقت له، ليبتسمَ وهو يضغطُ على أكتافها يقرِّبها إليهِ أكثر :
حاجات كتير ياإلينو، أولها إنِّك أوِّل دقِّة قلب، نسيتي؟..لو نسيتي أنا فاكر كلِّ حاجة ..
ابتعدت عنهُ ونظراتهِ تحاصرها ثمََّ أردفت :
علشان عرفتني أوَّل ماجيت، علشان كدا كنت بتطَّمِن عليَّا طول السنين دي، مش كدا ولَّا إيه ياأبو أوَّل دقِّة قلب ..قالتها وهمَّت بالمغادرة، إلَّا أنَّهُ جذبها بقوةٍ لتصبحَ بأحضانهِ يهمسُ لها :
إيلين أنا خلقي ضيَّق هانتجوِّز حتى لو غصب عنِّك يابنتِ عمِّتي، لأنِّي مش هاتجوِّز غيرك، فياريت تقنعي قلبك وعقلك دا لو مش مقتنعين بيَّا أصلًا .
ارتجفَ جسدها من أنفاسهِ التي ضربت وجهها، وارتخت ساقيها لتفقدَ الحركة، حتى شعرت بالعجزِ من ابتعاده، تلعثمت بالكلام :
آدم إبعد..إنتَ ماسكني كدا ليه؟..إبعد .
أمالَ بجسدهِ عندما راقَ لهُ خجلها، ليهمسَ بجوارِ أذنها :
مش هاسيبِك لمَّا توافقي الأوَّل،
آدم إبعد بقى ..ضغطَ على خصرها أكثر لتنهارَ كلَّ حصونها تهزُّ رأسها :
موافقة موافقة..وسَّع بقى .
لم يدع لها الابتعاد لينحني ويطبعُ قبلةً فوقَ جبينها :
مبروك ياإلينو...دفعتهُ بقوةٍ بعدما شعرت بسخونةِ شفتيهِ فوقَ جبينها وهرولت لمنزلها بسيقانٍ تكادُ تحملنها، دفعت بابَ غرفتها لتهوى على فراشها تضعُ كفَّيها فوقَ صدرها الذي يقذفُ بنبضاتهِ القوية.. دقائقَ وهي تسحبُ أنفاسًا بطيئة لانتظامِ تنفسها .
استمعت إلى طرقٍ على بابِ غرفتها، ثمَّ دلفت مريم أختها :
أدخل ولَّا أرجع؟..أشارت لها بالدخول دونَ حديث..دلفت وهي تطالُعها بابتسامةٍ قائلة :
شكل حبيب القلب تأثيرُه عال العال..أخفت وجهها بين كفَّيها تهمسُ بتقطُّع :
بيضعِفني يامريم، ماعرفشِ ليه كده، أنا مضايقة من نفسي أوي، ليه بضعف وبكون زي الطفلة اللي محتاجة حضنِ أبوها..
مسحت أختها على ظهرها مبتسمة :
دا الحب ياقلبي، علشان بتحبيه .
أزاحت كفَّيها عن وجهها تطالعُ أختها بعيونٍ مترقرقة:
بحبُّه أوي يامريم أوي، وكأنِّ ربنا جمع حبِّ العاشقين كلُّهم وحطُّه في قلبي.
ضمَّتها مريم مبتسمة:
إنتِ تستاهلي ياإيلين، تستاهلي الحب كلُّه حبيبتي، والظاهر آدم كمان لسة بيحبِّك .
أزالت عبراتها تخرجُ من أحضانِ أختها :
قلبي موجوع منُّه يامريم، إزاي السنين دي كلَّها ماحاولشِ ولا مرَّة يسأل عليَّا، إزاي قدر يعيش وينسى الحب اللي كان مابينا؟..
احتوت وجهها بين راحتيها تنظرُ بمقلتيها مستطردة :
حبيبتي ماتنسيش كنتي في ثانوية، يمكن ماكانش عايز يشغلِك، ويمكن ظروفُه ماكنتش تسمح، المهم أنُّه رجع وطلب يتجوِّزِك…
ظروف!!.. قالتها مستنكرة وهي تقطبُ جبينها ،تراجعت بجسدها بعيدًا عن أحضانها :
ظروف مايتِّصلشِ بيَّا بعد وفاة ماما، ظروف تمنعه يطَّمِن عليَّا وأنا محجوزة أربع شهور بالمستشفى، إيه، ولا مرَّة اتصل بخالو وعرَّفه أنا تعبانة، نسي ارتباطي بأمي، ماوصلوش خبر جواز أبويا، دا كلُّه ماكانشِ ينفع يطَّمن على البنت اللي قالها بحبِّك قبل مايسافر، البنت اللي سرق قلبها وكلِّ آمالها أنُّه يرجع ويطِّمنها ويقولَّها متخافيش أنا موجود، وفي الآخر جاي يوقف قدَّامي ويقول مين دي …
امتلأت عيناها بطوفانِ الوجع عن طريقِ دموعها التي أصبحت كالشلال، لتقتربَ منها أختها تضمُّها بحنان:
حبيبتي المهم أنُّه رجع وعايز يتجوِّزك، دا دليل أنُّه لسة بيحبِّك…
نهضت من مكانها تهزُّ رأسها:
خايفة يكون خالو هوَّ اللي غصبُه، هازعل أوي يامريم، مش عايزة أتصدم مش عايزة أكرهه، أنا ضايعة خايفة أفضل مصرِّة على رأيي ويطلع بيحبِّني بجد، وأرجع أندم وخايفة أوافق وأفوق على كابوس…
توقَّفت مريم بمقابلتها واقتربت تمسِّدُ على خصلاتها :
لا، حبيبتي آدم مش من النوع اللي يتغصب على جوازه .
أومال ليه كان رافض في الأوِّل يامريم، نسيتي قال إيه أول ماوصل؟..
قالتها مقهورة تهزُّ رأسها بشهقاتٍ مرتفعة .
تنهيدة عميقة من جوفِ آلامها تنظرُ لأختها بآلامٍ تنبثقُ من عينيها متمتمة:
يمكن وجودِك قريبة منُّه خلال الشهر دا قوِّم مشاعره وافتكر الماضي دا لو كان نسيه أصلًا ..
مسحت على وجهها بعنف :
مش عارفة حقيقي مش عارفة ومش قادرة آخد قرار...لازم أهدى وأشوف إيه اللي هايحصل الأيام دي.
عندَ آدم بعد تحرِّكها، جلسَ على المقعدِ وزفرةً حارقةً من جوفه:
وبعدين ياآدم ذنبها إيه إيلين تعيش معاها وقلبك مع غيرها .
مسحَ على وجههِ بعنفٍ حتى شعرَ باقتلاعِ جلدهِ وتنهيداتٍ بوخزاتٍ واحدة خلفَ الأخرى مما أشعرتهُ بألمٍ في صدره:
ياترى ياإيلين لسة عايشة على مشاعرنا القديمة ولَّا قلبك اتحرَّك لحد تاني ...أفاقَهُ من شرودهِ صوتَ والدهِ،
نظرَ حولهِ يلتفتُ باحثًا عن إيلين فتساءل :
فين إيلين؟..
أشار بعينيهِ على منزلها قائلًا :
مشيت ..جلسَ والدهِ بجوارهِ متسائلًا:
ليه مشيت لسة مصرِّة على كلامها؟..
استدارَ ينظرُ لوالده:
بابا ليه عمُّو محمود إتجوِّز سهام، تراجعَ زين مستندًا على المقعدِ واستطردَ:
محمود طلع متجوِّز من قبلِ ماعمِّتَك تموت، ودا اللي وجع البنات وطبعًا إيلين ماتقبِّلتشِ سهام واعتبرت إنِّ أبوها خان مامتها، ومن هنا المشكلة بدأت..سهام طبعًا مش طايقة إيلين وطلَّعت عليها إنَّها مريضة نفسية، وطبعًا البنت حالتها اتدمَّرت بسبب إشاعات سهام في البلد، لدرجة البنت أخدت شقة جنب كلِّيتها واستقرِّت فيها، بس سهام ماسكتتش وفضلت توِّز في جوز عمِّتك أنها ماشية على حلِّ شعرها وكلام كتير، لحد ما محمود جابها غصب عنها وعاشت معاهم، وأنا تدخَّلت وقولتله مالوش دعوة بيها هاتعيش معايا..بس البنت رفضت وقالت هاتفضَل في بيت أبوها، وكلِّ يوم سهام منكِّدة عليها زي ماسمعت كدا على الفطار .
اتقدَّ الغضبُ ليتجلَّى بمحيَّاه، ليهدرَ بغضب:
إزاي جوز عمتي يسمح لواحدة زي دي تتكلِّم عن بنته، والله لأطيِّن عيشتها الحيوانة…
بصفتَك إيه ياآدم ...إنتَ تعرف كان متقدِّملها واحد جزَّار وكانوا موافقين، لولا أنا قولت أنا ربطت كلمة مع نورة قبل ماتموت إن إيلين هاتكون لآدم، مش دا كان كلامك قبل ماتسافر يادكتور ؟..
نكسَ رأسهِ آسفًا وردَّدَ بتقطُّع :
آسف يابابا، بس قلبي مش عليه حكم، اتعلَّقت بواحدة هناك، البنت ممتازة وعجبتني جدًا، غير أنها ساعدتني كتير، وعرَّفتني بشخصيات مهمَّة ساعدوني على منحي الجنسية الألمانية اللي قبلي بسنين ماعرفوش ياخدوها، غير شغلي في الجامعة هناك، الصراحة مقدرشِ أبعد عنها بعد دا كلُّه، ولولا إصرارك على نزولي دلوقتي مكُنتش هاسبها في الوقت دا، لأنها بتحضَّر دكتوراه هيَّ كمان .تننهد زين قائلاً بلوم:
ليه يابني تعمل كدا، يعني تتجوِّز واحدة وتواعد واحدة، إنتَ تعرف كام عريس اتقدِّم لإيلين وهيَّ ترفض علشان وعدك، غير متأكِّد إن البنت بتحبَّك .
سحبَ نفسًا عميقًا ثمَّ لفظهُ على مهل، يطبقُ على جفنيه :
بابا مش هاقدر أتجوِّز إيلين وحياتنا تكون طبيعية زي أي اتنين متجوزين، لازم أقولَّها وهيَّ تختار .
ضربَ زين بعصاه الأبنوسية الأرضَ ناهرًا إيَّاه :
أنا البنت اللي هناك مش معترِف بيها يادكتور، وبنت عمِّتك هاتتجوزها وهتِّم جوازك منها وعايز أحفاد أكيد فاهم كلامي، أما البنت الأجنبية دي أنا مش معترف بيها...استطرد موضحًا:
هيَّ مش أجنبية يابابا، دي مغربية بس مستقرة هناك.
أشارَ محذِّرًا إيَّاه:
حتَّى لو مصرية، الكلام خلص يادكتور، أنا مش هاحاسبك بجوازك من غير معرفتي، في مقابل تتجوِّز بنت عمتك، دي وصية منها آخر كلام قالته لي، آدم يتجوِّز إيلين يازين دي وصيتي الوحيدة.
نهضَ من مكانهِ مردفًا:
خالو كلِّمني وقالِّي عامل حفلة علشان هيولِّي رحيل إدارة الشركات .
أومأَ له قائلًا:
هتحضَر الحفلة أنا ماليش دماغ للحفلات..
طالعهُ والدهِ متسائلًا:
هاتستلِم شغلك إمتى؟..
يوم واحد في الشهر إن شاءالله، جامعة عين شمس، واحتمال كبير أدَّرس إيلين، لسة مش أكيد.
توقَّفَ زين مبتسمًا، يربتُ على كتفه:
أتمنَّى كدا، وصيِّتَك إيلين ياآدم لو أبوك حصلُّه حاجة هسألك عليها…
-متقولشِ كدا يابابا، ربنا يباركلنا في عمرك يارب..
بفيلَّا فاروق الجارحي:
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ استيقظَ على صوتِ هاتفه:
رسلان إنتَ لسة نايم!..
اعتدلَ يعدِّلُ خصلاتهِ من فوقِ جبينه، متسائلًا بصوتهِ الناعس:
صباح الخير ياعمُّو..
صباح الورد حبيب عمَّك، فوق وصلِّي وتعالَ على بيتي عايزك ضروري.
قطبَ جبينهِ متسائلًا:
فيه حاجة ولَّا إيه ؟!
أيوة لمَّا تيجي هاتعرف، وعلى فكرة عمِّتَك فخرية هنا وطمطم الظريفة…
ابتسمَ أرسلان وتحدَّثَ مشاكسًا:
البت عسل بنتِ اللذينة.
فوق يالا مش عايز دوشة ومرارة حلق على الصبح.
هبطَ من فوقِ فراشهِ وتحرَّكَ إلى غرفةِ ثيابه:
ساعة وأكون عندك، صفيَّة الدراملِّي مخصماني من إمبارِح علشان عيد ميلاد ملوكة.
طب مستنيك ياحليتها، فوقلي كدا وصالح بنتِ الدرامَلِّي بدل ماتقيم عليك الحد.
- إسحاقو، أمِّي أنا بس اللي بدلَّعها، وياله أخدت من وقتي الثمين.
-قصدَك السمين ياديك البراري، وندبحوك ونوزَّعوك..قهقه ارسلان مازحًا:
-لحمي عسل خايف عليك ياإسحاقو.
قهقهَ عليهِ قائلًا:
ولا، مستنيك ربعِ ساعة وتكون عندي..
ههه ومالَك جاي على نفسك كدا كتير خليها خمس دقايق، باي.
دلفَ لمرحاضهِ وخرجَ بعدَ دقائقَ معدودة، متَّجهًا للأسفلِ بعدما قضى فرضَ ربه..وصلَ لتجمُّعِهم على طاولةِ الطعام، انحنى يقبِّلُ رأسَ والدته:
صباحو صفية الدرامَلِّي..
دفعتهُ وأدارت رأسها للجهةِ الأخرى، استدارَ إليها:
صفصف الحلوة مخصماني، طيِّب أدعي على نفسي يارب ياأرسلان يابنِ صفية الدرامَلِّي يخبطَك صاروخ..وضعت كفَّها على فمهِ تلكزُه:
أسكت يارسلان كدا هازعل منَّك أكتر، ربنا يباركلي فيك ياحبيبي..قبَّلَ كفَّيها:
ويباركلي فيكِ ياستِّ الكُل ..التفتَ إلى والدهِ الذي يرتشفُ قهوتهِ ويقرأ الجريدة:
صباحو فاروقو..
صباح الزفت على دماغك..قالها وهو يلقي الجريدة بوجهه:
إنتَ ناوي تموِّتني يابني، حرام عليك إيه اللي مكتوب دا!..
حانت منهُ التفاتة لوالدتهِ ثمَّ رسمَ ابتسامة:
إيه يافاروقو باشا، مالَك زعلان ليه، أيكونشِ حضني وحشك…
هبَّ من مكانهِ وهدرَ بصوتٍ مرتفع:
إفطَر والحقني على الشركة، إيَّاك تتأخَّر..قالها وتحرَّك.
التفتَ لوالدته:
مزعِّلة فاروق ليه ياصفية، يعني أنتوا تتخانقوا وتحطُّوا همُّكم فينا..
توقَّفَ فاروق واستدارَ إليهِ وجدهُ يرتشفُ قهوتهِ غامزًا بطرفِ عينه:
دمَّك ياباشا، الست عايزة الكلمة الحنيِّنة، مش كدا ياصافي؟..
برقت عيناهُ بنيرانٍ تطلقُ إليهِ سهامًا، مع ضحكاتِ صفية وملك عليهما، رفعَ فنجانُ قهوتهِ لوالده:
تشرب قهوة، طعمها حلو تاخد رشفة…
صفية ..صاحَ بها وهو يرمقهُ قائلًا:
ابنِك لو مسمعشِ الكلام ..نهضَ مقاطعًا له:
هاتحرمني من الميراث، وأنا مش أبوك، فاروق إحنا في القرنِ الخمسين، يعني شغلِ الأبيض والأسود دا تضحك بيهم على عيِّل بيلعب في الطين، مش حليوة زيي..
اااااه..صرخَ بها وتحرَّكَ وهو يسبُّه.
جلسَ بمكانهِ ينظرُ إلى أختهِ يلوِّحُ بيديه:
منشكحة إنتي وفرحانة، هزَّت رأسها ضاحكة:
جدًّا ياأبيه، فوق ماتتخيَّل.
برزت ابتسامتهِ الماكرة يغمزُ إليها:
حلوة الهديَّة علشان كدا فرحانة وبعتي أبوكِ اللي عايز ينفخني ويطيَّرني.
قهقهت بصوتها الناعم:
جدًا، ميرسي بجد ياأبيه، عجبتني جدًا، ماتحرمشِ منَّك. بس ايه القرن 50 دي
كانت صامتة توزِّعُ نظراتها بينهما، تدعو من الله أن يديمَ محبَّتهم، قاطعت حديثهما:
رسلان إفطر وروح الشركة ماتزعَّلشِ باباك حبيبي..
نهضَ من مكانهِ وهو يرتشفُ آخرَ مافي فنجانِ قهوته:
عندي ميعاد مهم ياماما، أخلص وأعدِّي عليه ...سلام ياملوكة قالها وهو يطبعُ قبلةً على وجنتيها…
بفيلَّا السيوفي:
قبلَ عدَّةِ ساعاتٍ استيقظت على صوتِ أذانِ الفجر:
"الصلاةُ خيرٌ منَ النوم"..اعتدلت توقِظُ زوجها:
مصطفى الفجر..بعدَ قليلٍ أنهت صلاتها وجلست تذكرُ ربَّها لبعضِ الوقت، ثمَّ اتَّجهت إلى فراشها، ومازال لسانها يردد الذكر حتى غفت ...استمعت إلى إشعارِ هاتفها:
"ميرال راجح الشافعي"
هبَّت من نومها تستغفرُ ربَّها تنظرُ حولها وجدت نفسها غفت بمكانها بعدما أنهت صلاتها ..نظرت لهاتفها ورعشة أصابت جسدها، تبتلعُ ريقها بصعوبة، وكأنَّ هناكَ ما يطوِّقُها بطوقٍ من نيران، ارتجفَ جسدها بدخولِ زوجها يردِّدُ الاستغفار:
صباح الخير حبيبتي..لم ترُّد عليهِ أو بمعنى أصَّح كانت بملكوتها، جلسَ بعدما خلعَ جاكيتهِ الشتوي:
هنام ساعة بس يافريدة وتصحِّيني، علشان عندي اجتماع مهم في الوزارة،هيختاروا وزير الداخلية بعدِ يومين وفيه قلق..قالها وهو يستديرُ إلى فراشه، توقَّفَ حينما وجدها مازالت على وضعها، اقتربَ منها يلكزها بخفَّة:
فريدة..هبَّت فزعة من مكانها وتكوَّرت دموعها تحتَ أهدابها:
مصطفى شوف حد بعتلي أي رسائل كدا..انكمشت ملامحِه، متسائلًا باستنكار:
رسايل إيه الفجر يافريدة، إنتِ تعبانة ولَّا إيه…طالعتهُ بأعينٍ مشتَّتة وقلبها ينزفُ بأنينٍ دونَ دماء، لم يعلم ما الذي أصابها، فاقتربَ منها يجذِبُها لأحضانه، يردِّدُ بعضَ آياتِ الذكرِ الحكيم إلى أن غفت. عندَ إلياس عادَ إلى منزلهِ بعدَ قضاءِ صلاةِ الفجر، دلفَ إلى غرفتهِ وهوى فوقَ فراشهِ بثيابهِ ونظراتهِ على سقفِ الغرفة، وذكرياتِ الماضي تصفعهُ بقوَّة، أطبقَ على جفنيهِ متذكِّرًا تلكَ الأيامِ التي أصابتهُ بعدمِ رغبتهِ للحياة.
فلاش باك قبلَ خمسةٍ وعشرينَ عامًا:
دلفَ مصطفى بجوارِ زوجتهِ التي تُدعى غادة، نهضَ من بينِ ألعابه:
بابي اتأخرت ليه ..انحنى يضمُّهُ بقوَّةٍ لأحضانه:
وحشتني حبيب بابي، عامل إيه..
نظرَ لوالدتهِ وهرولَ إليها:
مامي وحشتيني ..انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، ثمَّ أشارت إلى فريدة بالدخول:
أدخلي مدام فريدة..
دلفت بخطواتٍ بطيئة تكادُ ساقيها تحملها، طالعها يهزُّ كتفهِ متسائلًا:
مين أنطي ياماما ..أشارت إلى مربيته:
خدي إلياس طلَّعيه أوضتُه ياضحى، وشرَّبيه اللبن قبلِ ماينام.
تشبَّث بذراعها:
مامي لو سمحتي مش عايز أنام دلوقتي، تحرَّكَ إلى فريدة بعدما استمعَ إلى بكاءِ الطفلة:
البيبي بيبكي ياأنطي...استدعت غادة الخادمة:
جهِّزي أوضة لمدام فريدة ترتاح فيها، ارتفعت صيحاتُ الطفلة تأنُّ جوعًا، فاستدارت متلعثمة:
عايزة حاجة للبنت تاكلها..أشارت غادة إلى مربيِّة إلياس:
خدي البنت اهتمي بيها ياضحى، عندي هدوم بيبي فوق خلِّي عزة تجبه وغيَّري ليها..ضمَّتها فريدة متراجعة:
لا، ماحدِّش هياخد بنتي منِّي ..ربتت غادة على ظهرها:
ماتخافيش، هيَّ هتأكِّلها وتهتم بيها، إنتِ مش هتقدري في حالتك دي.
هزَّت رأسها بالرفض، تشيرُ إليها:
أنا ههتم ببنتي ماحدِّش هيقدَر ياخدها منِّي، أنتوا عايزين تاخدوها وترجَّعوها صح ..خرجَ مصطفى من غرفةِ مكتبهِ بعدما استمعَ إلى تصريحاتها فأشارَ للخادمة بالانصراف ثمَّ اقتربَ من فريدة وحملَ الطفلة بعدما رفضت، حاولَ تهدئتها:
ممكن تهدي، إنتِ شوفتي أهو، دي مراتي ودا ابني والبيت من برة مكتوب عليه ظابط يعني مش تجَّار أعضاء، ممكن تسترخي وترتاحي علشان الجرح اللي في راسك.
سحبتها غادة بعدما تحرَّكَ مصطفى بالطفلة، وأعطاها للمربِّية قائلًا:
أكِّليها وهاتيها لوالدتها، ثمَّ أشارَ إلى غادة بالدخولِ إلى الغرفة.
كانَ يقفُ بمكانهِ يتابعُ مايحدثُ بصمت، إلى أن استدارَ إليهِ والده:
حبيبي واقف كدا ليه؟..
أنطي تقربلنا يابابا..ضمَّهُ مصطفى بعدما جلسَ على عقبيهِ أمامه:
لا يابا دي ست أنا خبَطَّها بالعربية، وهيَّ مالهاش حد خالص وكان فيه مجرمين بيجروا وراها علشان يخطفوا بنتها.
توسَّعت أعينِ الطفلِ شاهقًا يضعُ كفِّهِ الصغير على فمه:
اللص يابابي كان عايز يخطف البيبي وياخدُه بعيد زي الكرتون…
داعبَ خصلاتهِ ثمَّ طبعَ قبلةً على وجنتيه:
أيوة يابابي، ممكن بقى نروح ننام علشان عندنا School الصبح..
حاوطَ عنقَ والدهِ وقبَّلهُ وتحرَّكَ للأعلى سريعًا، دلفَ إلى غرفته، ولكنَّهُ استمعَ الى صوتِ الطفلة بجوارِ غرفته، تحرَّكَ إليها، دلفَ مستئذنًا:
ممكن أدخل ياانطي؟..
استدارت ضحى إليه:
تعالَ حبيبي، تعالَ شوف القمر دا، تحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها، ظلَّ ينظرُ إليها وضعَ كفِّهِ الصغير على أذنهِ من صراخها مردِّدًا:
هيَّ بتصرخ كدا ليه، سكِّتيها ياأنطي.
بعدَ دقائقَ معدودة كانت تحملها وتُطعمُها وهو جالسًا بجوارها، بسطَ كفَّيهِ وأمسكَ يديها، ضمَّت إصبعهِ الصغير حولَ يديها الصغيرة، أطلقَ ضحكةً عفويةً بريئة، ثمَّ أمالَ بجسدهِ يقبِّلُ يديها:
حلوة أوي ..مسَّدت المربية على شعره:
عجبتك ياإلياس؟..
نهضَ من مكانهِ يطالعها بعيونهِ البريئة مردِّدًا:
أوي أوي ياأنطي، شكلها كيوتي، ممكن أشلها؟..
لا ياحبيبي لسة صغيرة، لمَّا تكبر شويَّة.
غفت الطفلة بعد إرضاعها، دفعت فريدة البابَ تسألُ عليها بلهفة:
بنتي فين..توقَّفت المربية وهي تحملها:
أكَّلتها وغيرتلها ونامت. ماتخافيش..استدارت تضعها على مهدٍ صغير..فتحرَّكت فريدة إليها:
لا أنا هخدها معايا وكدا كدا همشي الصبح قالتها وهي تحملها بأحضانها.
أمسكَ إلياس ردائها:
أنطي سبيها هنا بليز وأنا هخد بالي منها، قاطعهم دلوفَ غادة:
إلياس ياله حبيبي على أوضتك، الوقت اتأخَّر ..هرولَ إلى والدته:
أنا شوفت البيبي يامامي، خلِّي طنط تسبها هنا وأنا هاسكِّتها لو عيِّطِت، علشان اللص هيسرقها
جلست بمستواه ثمَّ أشارت على فريدة:
طنط فريدة خايفة عليها، هنسبها الليلة مع مامتها وبكرة إلياسو لمَّا يرجع من المدرسة هيسكِّت البيبي إيه رأيك…
استدارَ الصغيرُ وهو يطالعُ فريدة التي تنظرُ إليهِ بدموعٍ مترقرقة:
طنط ماتخافيش عليها هارجع من School وأسكِّتها مع أنطي ضحى، صح أنطي ضحى…
أومأت لهُ المربية بابتسامة، التفتَ لوالدتهِ وطبعَ قبلةً على وجنتيها:
Good night mom
قالها الصغير وتحرَّكَ لغرفته.
فاقَ من ذكرياتهِ المؤلمة على صوتِ ضحكاتها بالخارجِ مع غادة..اعتدلَ على فراشهِ يستمعُ إلى كلامهم:
هنام ساعتين عندي انترفيو مهم بس يارب ماتروح عليَّا نومة، وماما شكلها تعبان ومش عايزة أصحيها.
ربتت غادة على كتفها:
هصحيكي أنا، ماتقلقيش أنا هذاكر شوية، ولو نمت هأكِّد على إسلام ماتخافيش.
أفلتت ضحكة تضربُ كفَّيها ببعضهما.
يبقى كدا ضمنت الرفض، ياله ياماما روحي نامي دا إنتِ بتنامي وإحنا بنصلِّي.
تحرَّكت غادة وهي تضحكُ متَّجهةً لغرفتها قائلة:
كنت هصحيكي بس إنتِ مش وش نعمة..قالتها ودلفت غرفتها.
تحرَّكَت ميرال إلى غرفتها التي تقابلُ جناحِه، ألقت نظرة على بابهِ ولا تعلمَ لماذا تذكَّرَت دلوفهِ منذُ قليل حينما هبطت لإعدادِ فنجانِ قهوتها، دلفت لغرفتها تتنهَّدُ بحزن، متذكِّرةً حديثهِ عن والدتها، قامت بخلعِ ملابسَ الصلاةِ ثمَّ اتَّجهت إلى فراشها وألقت نفسها لتغطَّ بنومٍ عميق، بعد عدَّةِ ساعات تململت بنومها على أصابعِ أحدهما على وجهها، ابتسمت تهمس:
غادة أسكتي عايزة أنام شوية..انحنى يهمسُ لها بصوتهِ الرخيم:
قومي يامراتي البايرة عندك انترفيو..فتحت عينيها وأغلقتها ظنًّا أنها تحلم، تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ يطالِعُها بملامحً مبهمة، غفت مرَّةً أخرى فأردفَ قائلًا:
اتأخَّرتي ياعروسة، هنا فتحت عينيها مرَّةً أخرى مستديرةً برأسها، تنظرُ للذي يجلسُ على المقعدِ بجوارِ فراشها ويطالعها بأعينٍ خارقة:
هبَّت من مكانها وصاحت به؛
إنتَ بتعمل إيه هنا !!
ظلَّ كما هو مشبكًا أصابعهِ، اعتدلت تجمعُ خصلاتها المتشرِّدة على وجهها ثمَّ اقتربت منهُ تصيحُ بوجهه:
إنتَ إزاي تدخل عليَّا وأنا نايمة، إيه قلِّة الذوق دي..
نهضَ من مكانهِ بعدما توقَّفت ثمَّ أردف:
جاي أصحِّي مراتي علشان شغلها، مطلبتيش من غادة إنَّها تصحِّيكي..التفتَ سريعًا يرمقها بنظرةٍ ساخرةٍ قائلًا:
مش أولى إنِّ جوزِك هوَّ اللي تطلُبي منه كدا…
ثارت جيوشُ غضبها مقتربةً منهُ كالذي مسَّها مسًا جنونيًا هادرةً بعنف:
مرات مين إن شاءالله، أنا مستحيل أوافق عليك لو كنت آخر راجل، اطلع برَّة أوضتي وإيَّاك تقرَّب منِّي تاني، مش معنى إنِّي ساكتة هاتسوق فيها.
دنا منها فتراجعت للخلفِ حتى هوت على الفراش، انحنى يحاصرُها بذراعه :
كلمة كمان ماتلوميش غير نفسك يابايرة، هتوافقي على الجواز ومش بس كدا، هاتبيِّنلُهم إنِّك بتموتي فيَّا
جحظت عيناها ففتحت فاهها للحديث، إلَّا أنَّهُ رمقها بنظرةٍ حينها شعرت بتوهُّجٍ ناريٍّ من عينيه، يريدُ من خلالها أن يحرقها حيَّة..ابتلعت ريقها بصعوبة وقالت بصوتٍ خافت :
إلياس إنتَ ليه بتعمل معايا كدا، أنا عملت فيك إيه؟..من زمان نفسي أسألَك السؤال دا…
نظرَ إليها بقسوةٍ تبعثها عينيه يضعُ إصبعهِ برأسها :
لأنِّك بت غبية وتستهالي المعاملة دي، ثمَّ تابعَ بهدوءٍ مهينٍ لشخصها :
وإيه بعاملِك وحش دي، إنتِ مصدَّقة نفسِك علشان أحطِّك في دماغي، لا…فوقي واعرفي قدرِ نفسك، أنا إلياس السيوفي، مش حتِّة بنت مجنونة تشغل بالي علشان أفكَّر فيها إزاي أعاملها، جوازنا لمصالح شخصية، علشان الستِّ فريدة تفضل في البيت دا هتوافقي وتعملي زي مابقولِّك .
قست عيناها واعتدلت سريعًا تصرخُ بوجههِ ولم تكترث لنظراتهِ التهديدية :
اسمع يابتاع إنتَ أنا زهقت منَّك ومن غرورك المقرِف دا ..وإنتَ إذا كنت بتكرهني أنا كمان..وضعَ كفَّهِ على فمها يجذبها من خصرها بقوَّةٍ لتصطدمَ بجسده، ثمَّ أمالَ يهمسُ بجوارِ أذنها بأنفاسهِ الحارقة :
عيب تغلطي في جوزِك ياميرو، أعاقبِك ياقلبي، اتلَّمي على الصبح، دلوقتي إجهزي علشان أوصَّلِك لشغلك .
قالها وتحرَّكَ دونَ حديثٍ آخر .
بعدَ فترة:
توقَّفَ أمامَ المرآةِ ينثرُ عطرِه، ثمَّ ارتدى ساعتهِ وتحرَّكَ للخارج، هبطَ الدرجَ مع خروجها من غرفتها، توقَّفَ مستديرًا إليها
صباح الخير يامراتي..
تحرَّكَت من جوارهِ تسُبُّه:
دا في أحلامك إن شاءالله، وضعَ قدمهِ أمامها، كادت أن تقعَ على وجهها لولا ذراعيهِ التي تلقَّاها بها، رفعت رأسها تسبُّه:
إيه اللي بتعمله دا عايز توقَّعني وتكسرني، حاوطَ جسدها يرمقها بنظراتٍ متفحصة على جسدها بالكامل قائلاً:
بعد كدا أنا هاجبلِك هدومِك اللي تخرجي بيها، أنا راجل دمُّه حر.
حاولت التَّملُصَ من قبضته:
وسَّع كدا إنتَ ماطلعتِش بارد بس..لا دا إنتَ مجنون، ضغطَ بأصابعهِ على خصرها فأطلقت شهقة متألمة، فركلتهُ بساقهِ ليتراجعَ متزحزحًا:
واحد مجنون..قالتها وتحرَّكت سريعًا، ابتسمَ وتحرَّكَ خلفها إلى أن وصلَ لغرفةِ الطعامِ ملقيًا تحيَّةَ الصباح ، وصلت فريدة بقهوةِ مصطفى تطالعُ ميرال بذهول:
صحيتي إمتى!..كنت لسَّة هاطلع أصحِّيكي.
فردت محرمةَ الطعامِ وهي تهربُ من نظراتِ ذاكَ الذي يتطلَّعُ عليها منتظرًا حديثها فتمتمت بخفوت:
صحيت من شوية ياماما..جذبت فريدة المقعد ومازالت مذهولة:
أوَّل مرَّة تصحي من نفسِك ياميرو..رفعَ قهوتهِ يرتشِفها ثمّّ تمتم:
ومين قالِّك إنَّها صحيت لوحدها، أنا اللي صحيتها.
التفتت إليهِ فريدة سريعًا، تنظرُ إليهِ مذهولة وتوقَّفت الكلمات على أعتابِ شفتيها، فهمَ مصطفى ما تشعرُ بهِ فريدة فأردف:
- مش غريبة إنَّك تدخل تصحِّيها!..
ارتشفَ بعضًا من قهوتهِ وأجابَ والده:
ليه مش بعدِ يومين هتكون مراتي، ولَّا رجعتوا في كلامكم، بس عايز أقولَّك حاجة ياسيادة اللوا، أنا مش لعبة تقول أتجوِّز وسيب، الآنسة اللي قاعدة دي بقت مراتي منتظر العقد، ماهو اللي يعني آرائكم بعد كدا ماتهمِّنيش.
إلياس دا احترامك لوالدَك تكلِّمُه بالطريقة دي…
طالع والدهِ بعتاب واردف بنبرة مغلفة بالألم لم يشعر بها سوى من يشعر به فأردف قائلًا:
لو حضرتَك شايف بقلِّل من احترامك عاتبني، لكن حقيقي يابابا أنا ماقصدش، أنا عايز أرسم حياتي بنفسي، مش عايز حد يغصبني على حاجة...
تفاجئت بنبرته التي جاهد في إخفاء الالم بها، فتزاحمت الأنفاس بداخلها حتى شعرت باختناقها، رفعت رأسها حينما تابع حديثه:
-أنا مش بنت علشان تغصبني على حاجة ياسيادة اللوا، غير مابقتش الطفل الصغير، قدامك راجل
استنكرت تصريحه واعتبرته اهانها لشخصها فتشدقت ساخرة:
-وأنا ماطلبتِش إنَّك تتغصب ياسيادة الظابط، أنا مش موافقة على قرار عمُّو.
أنا كمان مبحبش الغصب
استدارَ يرمقها بنظرةٍ ناريَّةٍ حينما شعرَ بتقليلِ رجولتهِ أمامَ الجميع، لحظات وهناكَ حربُ الأعينِ إلى أن قاطعها قائلًا بصوتٍ جعلهُ متَّزنًا إلى حدٍّ ما:
وأنا لو مش مقتنع كنت مستحيل أوافق، بس بابا عندُه حق ..العمر بيجري من غير ماأحس ومحتاج أبني عيلة، وأنا ماليش خلق لجوِّ الستَّات الهابط دا، على الأقل تلاقي اللي يلمِّك ويرضى بيكي..
كادت أن يصيبها سكتة قلبية من رصاصات كلماته، فامتقع وجهها بالغضب وسئمت من حديثهِ الفظ فهبَّت واقفة وفتحت فاهها للحديثِ إلا أنَّهُ تابع، وكمان إنتِ متربية قدَّامي وأعرف أكسر رقبتِك لو غلطِّي، وبقولها قدَّام والدتك أهو ياميرال..أنا مابحبِّش الغلط، حياتِك الأوَّل كانت حاجة وبعد ماتكوني مراتي حاجة تانية…
توقَّفَ واضعًا كوبهِ قائلًا:
شوفوا عايزين إمتى تكتبوا الكتاب وأنا جاهز، بس فرح دلوقتي لأ، عندي قضية مهمِّة ماينفعشِ أعتذر عنها، ثمَّ اتَّجهَ بنظراتهِ إليها وسلَّطَ عيناهُ عليها وشبح ابتسامة ساخرة لوَّنت ملامحهِ قائلًا:
ماهو ماينفعشِ أروح أقضي شهر العسل ودماغي تبقى مشغولة في القضية، ومفضاش للعروسة مش كدا ياميرو؟..
كتمَ مصطفى ابتسامتهِ عندما استمعَ إلى تلميحاتِ ابنه، فيما برَّقت ميرال عينيها بغضبٍ جحيمي محاولةً السيطرة على ذاتها بالأ تطبقُ على عنقه:
نظرَ بساعةِ يدهِ يشيرُ إليها مردِّدًا:
اتفضلي آنسة ميرال أوصَّلِك في طريقي.
هنا فقدت عقلها وصرخت به:
أنا مش موافقة أتجوزُه ياماما سمعتيني، لو آخر راجل في الدنيا مستحيل أوافق على هذا الكائن البارد.
لم تهتزَّ عضلة من ملامحهِ وهو يستمعُ إلى حديثها، ارتدى نظارتهِ وحملَ هاتفهِ ملقيًا السلامَ ثمَّ رمقها قائلًا:
أنا في العربية ومابنتظرشِ كتير، إيَّاكِ تتأخَّري قالها وتحرَّكَ تاركًا تلكَ التي أصابها الجمود وكأنَّهُ ألقاها بقبرٍ وتركها، لحظاتٍ من الصَّمتِ تنظرُ إلى والدتها التي هزَّت رأسها ونظراتٍ تحملُ الكثيرَ من العتابِ قائلة:
دا اتفاقنا، مش اتكلِّمنا في الموضوع دا ..توقَّفت ضائعة وكأنَّ الأمرَ تعدَّى الترهات وماعليها سوى الطاعة، أردفت بتقطُّع:
أنتو بتتكلِّموا بجد، أنا وإلياس، طب أزاي، عايزة عقل يقول الشخص دا يتحب بانهي منطق، ضربتها فريدة بخفة على رأسها
-عيب يابت، دا هيبقى جوزك..زمت شفتيها كالأطفال
-حرام ياماما دا مستحيل يقول بحبك، دا شاطر بس يقول اخرصي، اسمعي، هعاقب هضرب، مايعرفش غير فعل الأمر القضائي فقط..توقَّفَ مصطفى يحاوطُ أكتافها وتحرَّكَ معها للخارج:
طيِّب حبيبتي ليه مش عايزة إلياس ياميرال، ليه رفضاه يابنتي؟..
رفعت عينيها بتشتتٍ تهمسُ بخفوت:
معرفش، خايفة منُّه يفضل قاسي كدا، وفي نفسِ الوقت عندي إحساس ورا القسوة دي حاجة تانية، توقَّفت أمامهِ متسائلة:
أنا ماعرفشِ هوَّ ليه اتغيَّر معايا، كان نفسي يقولِّي ياعمُّو بدل معاملته دي.
احتضنَ وجهها ينظرُ لمقلتيها:
إنتِ بتثقي فيَّا ولَّا لأ…هزَّت رأسها بعيونٍ لامعةٍ بالدموع:
أنا ماعنديش حد أثق فيه غيرَك وغير ماما.. مرَّرَ أناملهِ يزيلُ عبراتها التي انسابت على خدَّيها قائلًا:
لا فيه ..طالعتهُ متلهِّفةً.. قلبها يتلهَّفُ لقولهِ عنهُ وعقلها يصفعها بكبرهِ وتكبُّره.
هوَّ أكتر واحد تثقي فيه، بكرة تتأكدي من كلامي، إلياس مش كدا، وأكيد إنتِ عارفة مش منتظرة حد يقولِّك مين هو.
كثُرَت دموعها كالشلال، ضمَّها لأحضانهِ وهي تشهقُ ببكاءٍ
وتهتفُ من خلالِ بكائها:
كان ياعمُّو، دا بقى واحد تاني، من زمان أوي لدرجة نسيت شكلُه عامل إزاي لمَّا بيضحك.
أخرجَ رأسها وتساءل:
بتحبِّيه ياميرال صح…
اهتزَّ جسدها بالكامل وكأنّّ كلمة حبِّهِ صدمة كهربائية انتابت جسدها ورغمَ ذلك، لا تستطع ترجمةَ مشاعرها إذا كانت حب أم كره أم نفور لا تعلم..
تراجعت مستنكرةً حديثه:
إيه اللي بتقوله دا، مانكرشِ حبِّي له حب أخوي بصفته متربيين سوا، بس مش الحب اللي حضرتَك بتقوله.
كاد ألم حبه يمزق قلبها ليؤدي إلى هزيمتها أمام عنفوان عشقه المميت، همست لنفسها "مستحيل اكون بحبه"
ثقلت أنفاسها من مجرد ارتباطه بعشق قلبها، فتراجعت خطوة تهز رأسها
-مش قادرة اخد قرار
لم يهتمَّ لحديثها فأشارَ إليه:
طيِّب روحي وبلاش تضايقيه، اسمعي منِّي مش يمكن هوَّ بيحبِّك…
هزَّة عنيفة أصابتها لتستديرَ إلى سيارتهِ تشيِّعَهُ بنظراتٍ مشتَّتة، وشردت بحديثِ مصطفى بقلبٍ يهدرُ بعنفٍ وعقلٍ ينكرُ حماقةَ دقاتِ قلبها، انفجرت برك عيناها حينما فقدت السيطرة من انجراف مشاعرها نحوه، فهربت مهرولةً إلى سيارتها رافضةً أيَّ حديثٍ يخصُّه..رآها متَّجهةً إلى سيارتها بتلك الحالة، فارتسم على محياه ابتسامة ساخرة، وقادَ سيارتهِ متحرَّكَ إلى عملهِ دونَ حديث.
ظلَّ مصطفى متوقِّفًا يطالعُ خروجهم هامسًا لنفسه:
أتمنى اكون اخترت لك المناسب ياإلياس، شعرَ بفريدة خلفه، التفتَ برأسهِ على صوتها:
مشيوا..هزَّ رأسهِ قائلًا:
بنتِك عنيدة أوي، عملت اللي في دماغها...ابتسمت مجيبة:
وابنَك مغرور أوي...قهقهَ الاثنين معًا ثمَّ حاوطها بذراعيه:
لازم أتحرَّكَ دلوقتي علشان متأخرش
بمنزلِ يزن أنهى فرضهِ وتحرَّكَ للخارج،
وجدَ أختهِ تضعُ الطعامَ على الطاولة:
صباح الورد يازينو..
صباح الورد ياإيمي فين معاذ لسة نايم.. لا، حبيبي راح يجيب الطعميَّة.
جلسَ على الطاولة يفتحُ هاتفهِ يتصفَّحُ الأخبار، دلف معاذ:
أنا مش هانزل تاني أشتري الطعمية، الستات بيفعَّصوني.
رفعَ نظرهِ يطالعهُ مستاءً ثمَّ أردف:
ليه صغير، إنتَ راجل يلا إجمد شوية، شوية طعميَّة، الحارة كلها بتعرف إنَّك بتجبها..
جلسَ متأفِّفًا:
يووووه على التريقة، استدارَ إليهِ وبدأ يتناولُ إفطارهِ ولكنَّهُ توقَّفَ حينما استمعَ إلى صوتِ أخيه:
طنط أمِّ محمود سألتني بتقولِّي ليه يزن ساب أبلة مها..
لكزتهُ إيمان ليصمت، وضعَ يزن الطعامَ بفمهِ يلوكهُ بهدوءٍ ثمَّ تحدَّثَ بصوتٍ جعلهُ متَّزنًا قائلًا:
قولَّها مافيش نصيب، ثمَّ نهضَ ينفضُ كفَّيهِ قائلًا:
الحمدُلله خلِّي بالك من نفسَك وإيَّاك تجري ورا العربيات، أخبارك عندي وليه امتحان الرياضة ناقص درجتين، إجهز لحد ماأرجع نراجع مع بعض الدروس اللي وقعت منَّك.
أومأَ لهُ قائلًا:
آسف ياأبيه، بحاول أفهم الهندسة بس تقيلة وبضيع فيها، جمعَ أشيائهِ وأشارَ إلى أخته:
إيمي الواد دا ميخرجشِ يلعب بعد الدَّرس، خليه يحل ليَّ خمسة اختبارات رياضيات لمَّا أرجع.
نهضت متحرِّكةً خلفَ أخيها تومئُ برأسها:
حاضر ترجع بالسلامة حبيبي.
بعدَ قليلٍ بمكانِ عمله، كانَ يقومُ بتصليحِ شيئٍ ما بالسيارة، جلسَ صاحبُ العملِ بجوارِه:
ليه سبت خطيبتك يابني، توقَّفَ عن العملِ ملتفتًا إليه:
النصيب ياعمُّو، مالناش نصيب مع بعض.. ربتَ الرجلَ على ظهره:
هتتعدِّل إن شاءلله ماتزعَّلشِ نفسك.
مش زعلان..أنا صعبان عليَّا نفسي، حبيت الشخص الغلط.
سحبَ نفسًا قويًا وزفرهُ على مراحل قائلًا:
برجع أقول عندها حق هتفضل منتظراني ليه.. لم يتسنى لهُ الحديثَ ليقفَ مبتعدًا عنه، وذكرياتٍ مؤلمةٍ تغرزُ بقلبهِ كالغرزِ الملتهبة بالنيرانِ المحرِقة.
فلاش:
وقفَ يزن الذي يبلغُ من العمرِ خمسةٌ وعشرينَ عامًا على بابِ غرفةِ والده..
حضرتَك طلبتني..أشارَ إليهِ بالدخول،
جلسَ بجوارهِ متسائلًا:
حضرتك كويس.. ربتَ على كفِّه:
كويس ياحبيبي، لسة زعلان
نظر إلى والده نظرات عتاب ممزوجة بألم روحه، ليشعر بنزيفها بصمت ..واستفهام مؤلم شق ثغره بابتسامة حزينة
-هو فيه حاجة تزعل، كل الحكاية إني مطلعتش ابنك، الموضوع بسيط
تجمدت الدماء بشريان السوهاجي واهتزت جفونه
-طيب اسمعني كويس ياباشمهندس.. طول عمرك كنت ولد مطيع، رغم إنَّك مش من صُلبي بس طلعت ابنِ حلال يابني ربنا يباركلي فيك
داخل ينتحب بقوة، داخله بركان ثائر ولكن ماذا عليه فعله وهو يرى والده بتلك الحالة ..رسم ابتسامة وانحنى
يقبَّلَ رأسهِ متمتمًا:
وحضرتك كنت نعمَ الأب، مهما يحصل هتفضَل أبويا، لأن في نظري الأب اللي بيربِّي مش اللي بينجب.
ربِّنا يبارك فيك ياحبيبي ودايمًا السعادة والقبول في حياتك، عارف هشيِّلَك هم أكبر من همَّك بس إخواتك أمانة في رقبتك يايزن، أوعى ياحبيبي تفرَّط فيهم، إيَّاك واليتيم يابني، دول مالهمش ذنب، ووالدتك كمان ماتزعلهاش صحتها على قدَّها، أوعى تزعلَّها ولا تزعل منها حبيبي هي عملت اللي في مصلحتك، عارف إنَّك مصدوم من الحقيقة، هي كانت عايزة تعرَّفك من زمان بس أنا اللي رفضت، قولت لمَّا تكبر وتستوعب الكلام.
كانت الكلمات تنزلُ فوقَ مسامعهِ كصوتِ عويلٍ يصيبُ الأذنَ ويرتجفُ لهُ القلب، غامت عيناهُ بتحجُّرِ الدموعِ
وشعرَ باختناقِ أنفاسه، وكأنَّ الهواءَ الذي يحاوطهُ ماهو سوى ثاني أكسيد الكربون الذي يخنقهُ أكثر وأكثر:
ماما قالتلي كلِّ حاجة يابابا وزي ماقولت لحضرتَك مش يمكن نصيبي معاك أحسن من لمَّا أكون مع أهلي الحقيقيين.
خرجَ من شرودهِ على صوتِ أحدِ الزبائن:
يزن ممكن تشوف العربية بطلَّع دخان ليه للأستاذ.
أومأَ ونهضَ متحركًا إليه
كان يتابعهُ بعينيهِ بأسى:
عيني عليك يابني حملَك تقيل، وصلَ صديقهِ الذي يُدعى كريم يعملُ طبيب جراح.
مساء الورد يازينو، رفعَ رأسهِ مبتسمًا:
وأنا بقول الورشة نوَّرِت ليه يادوك.
اقتربَ منهُ واحتضنا بعضهم البعض
بعدَ فترةٍ خرجَ إلى مقهى بالقربِ من العمل، جلسَ بمقابلتهِ قائلًا بعد فترةٍ من الصمت:
-عرفت بفسخ الخطوبة..رجعَ بظهرهِ متّّكئًا على المقعدِ البلاستيكي ثم دارَ برأسهِ يشملُ المكانَ بنظرة متفحصة، كأنَّه يشعرُ بأنَّ الجميعَ يرمقونهُ بأسى على الشخصِ الذي اندهست رجولتهِ بينَ الناس ..استفاقَ من تخيُّلهِ على نقرِ كريم على الطاولة:
- يزن رحت فين؟..
زفرَة مهمومة بجميعِ آلامه مجيبًا:
- معاك أهو ..دنا كريم بجسدهِ متمتمًا بصوتٍ خافت:
متستهلكش والله يابني اللي زي دي ماتزعل عليها.
- مش زعلان...صمتَ بعدما وصلَ الصبي يضعُ مشروباتهم وتحرَّك:
- مش باين يابنِ السوهاجي.؟؟
ابنِ السوهاجي..ردَّدها مع ابتسامة فاترة ..حاولَ كريم مؤازرتهِ فأردف:
تعرف أنا سألت على الواد اللي خطبها دا، وجبتلك أصله من وقتِ ماتولد من ظابط عقر، واللهِ وفرحان فيها وتستاهل اللي بيحصلها.
قطبَ جبينهِ مستهزئًا بكلماته:
- وليه دا كلُّه يالا، إنتَ مجنون ولَّا إيه، مبقاش يخصنُّي.
طيِّب اسمعني وبعدين أحكم..
تجهَّمت ملامحهِ واشتعلت عيناهُ يحذِّرهُ من الحديث، ولكنَّهُ رفعَ كوبهِ يرتشفُ منهُ وتابعَ حديثه:
الواد دا اسمه طارق راجح الشافعي، أهله كانوا عايشين في السويس، بس نقلوا من شهرين علشان له أخ اتسجن في قضية أمنِ دولة
أصابه الجنون فتوقفَ غاضبًا وهدر بهِ
-مُصرّ تضايقني، قولت لك مش عايز اسمع حاجة ..سحبه بقوة من يديه وأجلسه واردف بقوة:
-يابني اقعد واسمع للآخر، على طول كدا، البنت واقعة في عشّ دبابير وتستاهل وفرحان فيها
تأففَ بضجر فتابعَ الآخر حديثهُ
-بقولك أخوه مقبوض عليه، والواد دا أبوه فتح له بوتيك ملابس كبير اللي شغالة فيه مها، بس واد بتاع بنات، عرفت أنّه بتاع مزاج وستّات، يعني صَاحبتك وقعت بدعوة الوالدين يازينو
-لم يرد عليهِ لفترة، ظلّ يُطالعهُ بنظراتٍ صامتةٍ، ثم أردفَ مُتسائلًا:
-ايه اللّي خلّاك تسأل عنّه !!
زمّ شفتيه رافعًا حاجبهُ ثم أردفَ ممتعضًا:
-إنتَ رخم على فكرة، جايبلك أخبار حلوة وحضرتك مش عجبك
-أخبار حلوة!!..قالها مستنكرًا، ثم تابع مستطردًا:
-الموضوع ميهمّنيش ياكريم، كنّا وخلّصنا، حياتها وهي اختارت، خلاص مبقاش يلزمني..
نقرَ بأصابعهُ على الطّاولة متسائلاً:
-يعني مش فرحان من اللّي هيحصل
- لا ..قالها ونهض يُلقي بعض النّقود على الطاولة ينادي على الصّبي وأردف:
-أنا مش من النّوع اللّي بيشمت، بس باخد حقي بعدلِ ربّنا...سلام ياصاحبي
بمنزل إيلين
جلست سهام تتناول بعد الفواكه ترمقُ إيلين المنشغلة بدراستها، وضعت ساقًا فوقَ الأخرى وهتفت:
-إيلين اعمليلي فنجان قَهوة عندي صُداع ..لم تُعيرها اهتمام وظلّت كما هي، فهبّت تلكَ واقفةً، واتّجهت إليها تجذبُ من أمامها أشيائها وتصيحُ بها
-لمّا اكلّمك من الإحترام توقفي وتردي عليّا، أنا في مقام والدتك
-اخرسي ..مين انتِ علشان تحطّي راسك من راس أُمّي، فَشرتي انتِ ما إلّا خَطّافة رجّالة سَرقتي راجل من مِراته وولاده
صفّقت بيديها تنظرُ إليها من أسفلها لأعلاها قائلة بنبرة ساخطة:
-اسم الله عليكِ يادكتورة، دا أنتِ مدوّراها مع شبابِ البّلد كُلّهم، اتلميّ يابتّ أبوكي اتجوّزني لمّا زِهق من أمّك المريضة، اللّي كان وجودها زيّ عَدمه، اقترَبت مَنها تحدجها بنظراتٍ مُستاءة
-ابوكي ملقاش الحنان والحبّ واحتياجاته ومحسّش برجولتهُ غير في حُضني ما أنتِ معذورةَ متعرفيش يعني إيه ستّ تسعد جُوزها، عِندهُ حقّ الدّكتور يرفضك ماهو شايف راجل قدامه طول الوقت لابسة خيمة ..قالتها وهي تُشير على إسدالها مُشمئزّةَ
-شوفي نفسك، وتعالي يابتّ و أنا أعلّمك، قال سرقتِ راجل، أبوكي، معرفش ِكلمة راجل غير مع العبدة لله،ويلّا عكّرتي مزاجي عايزة اشغل ميوزك وأرقص، مفيش مُذاكرة هِنا، عندك اوضّتك ياختي
رمقتها مشمئزّة وابتعدت تجمع أشياءها ودلفت للغرفة، وهي تَكبح عبراتها التي تحجّرت تحتَ أهدابها.
وضعت أشياءها وتركتْ لعيناها الإفراج
-يارب إمتى أخلص من الحرباية دي، استمعت إلى رنين هاتفها، وجدتهُ أُختها
-أيوا يامريم ..
-عاملة إيه ياإيلين، إحنا رجعنا بيتنا عدّيت عليكي ومرات أبوكي الزّفت قالت إنّك في الجامعة.
أزالت عباراتها وإجابتها :
-فعلاً لسّة راجعة، صَمتت ثمّ تسائلت
-خالو رِجع ولا لسّا هنا ..
-لا كُلّنا رجعنا ياقلبي، خالو قال يومِ الجُمعة هنرجع علشان نكتب كتابك على آدم، اسمعيني ياإيلين أنا عارفة العقربة مشْ سيباكي في حالك، وافقي على آدم حبيبتي صدّقيني آدم بيحبّك .
سَحبت نفسًا عميقًا ثمّ لفظتهُ على مهلًا
-وافقتِ يامريم بلّغت خالو، وبابا، هشوف الدّنيا مخبيالي إيه اتمنى مفقوشِ على كابوس .
عند آدم دلفَ إلى منزلُهم الذّي يقطنون به بإحدى الأحياء الراقية، اتّجه إلى غرفته قائلاًا:
-هنام ساعتين علشان حفلة خالو يابابا واحتمال أجيب رحيل تقعد يومين
أمسكهُ والدهُ من ذراعيهِ واردف قائلًا:
-بلاش رَحيل الأيّام دي ياآدم، خلّينا نخلّص من جوازك مش عايزك تزعّل إيلين، انت عارفهم من صغرهم مابيحبوش بعض..
أومأ متفهّمًا ثمّ تحرّكَ إلى غرفتهِ.
بمنزل اسحاق قبل قليل
جلسَ بجوارهِ يتحدّثونَ في بعض ِالقضايا التي تخصّ الأمن القوميّ، مع بعض صور للأشخاص.
نظرَ لذاكَ المبنى فاستطردَ مستفسرًا
-العيال بيتجمعوا هنا، وأمن الدّولة بتلاحقهم..أومأ يطالع الصّور بكلِّ دقّةٍ
فحكَّ ذقنهُ
-انهي دور بالظبط !!
جلسَ اسحاق بعدما شرح مايجب فعلهُ
-الدّور التّاسع فيه شقتين واحدة لمدرّس ثانوي، والتّانية لصاحب الجنسيّة، إنت هتدخل تحت الجهاز في الشّقة من خلال شقّة المدرّس دا
أومأ متفهمًا ..أشارَ لهُ اسحاق محذرًا إياه
-رسلان الموضوع مش سهل، دا جنسيّة اجنبية، عايزين نعرف الواد دا اللي بمول الإرهابين ولا إيه، مش عايز غلطة
تمام لازم اعديّ على بابا الأول علشان زعلان، توقّف يشير إليه بالخروج
-أيوا أنا كمان خارج على الشّركة، نسيت النهاردة اجتماع لمجلس الإدارة
بعد قليل وصل إلى الشّركة ..دلف للداخل بينما توقّف اسحاق مع إحدى المهندسات
- صباح الخير..
-أهلاً بحضرتَك مستر اسحاق ..
-أيوا بدل مستر يبقى زعلانة
هزّت أكتافها للأعلى والأسفل وهتفت :
-حضرتك عملت حاجة تزعل، كلّ اللّي عملته شهر وأنا معرفش عنّك حاجة ممكن أعرف هنفضل كدا لحدّ امتى ؟
دنى بخطوةٍ مقتربًا منها ينظرُ لعيناها
-دينا انا مفهمك الوضع، حاليًا مقدرش أعلن جوازنا
قاطعته ترفع سبّابتها أمامهُ :
-اسحاق اسمعني دا أخر كلام عندي، يا إمّا تعلن للدّنيا كلّها إنّي مراتك.
تعمّق بعيناها مردفًا بنبرةٍ جليديةٍ
-يا إمّا ..كمّلي
تلعثمت وتجمّدت الكلمات على أعتابِ شفتيها وهي تنظرُ إليهِ بأسى :
-أنا تعبت بجدّ، حاسّة إنّي مش عايشة، من حقي أنام كل ليلة في حضن ِجوزي علشان أشعر بالأمان، إبن عمّي بقى يضيّق خناقهُ عليّا وحضرِتك عارف وساكت .
أطبقَ على ذراعيها بقوةٍ يهمسُ بفحيحٍ مرعب ٍ
-أنا خيّرتك وأنتِ اخترتِ، مَتجيش تعملي ملاك بريئ أنا مش مستعدّ دلوقتي، سمعتي ولّا لأ، عايزة اطلّقك براحتك، بس مش اسحاق اللّي يتلوي.
قالها ودفعها بقوة واستدارَ مغادرًا إلى غرفةِ الإجتماعات..
بعد فترة انتهى الإجتماع، تحرّكَ ارسلان قائلًا :
-عندي مشوار يا فاروق، اشوفك باللّيل، واللّي بيني وبينك صفيّة مالهاش دعوةَ بيه، عيب يافاروق تزعّل أمّي بسببي، لو عملتها تاني هحتجّ وهرفع عليك قضيّة خلع.
القاهُ بالقلمِ الذي بيديه
-امشي يا حلوف من هنا..قهقه وهو يتحرك يلوح بكفيه
التمعت عيناه بالسعادة، وهو يتابعُ مغادرته ..اتّجه إلى اسحاق متسائلًا :
-باعتهُ في مهمة ولّا إيه ؟
تراجعَ مستندًا على المقعد يومئ برأسه وهو مغمّض العينين.
-مالك قابلت دينا ولا ايه ؟
فتح عيناه ومازالَ على حالتهِ
-ياريتني ماسمعت كلامك، عمالَ تزنّ علشان نعلن جوازنا، وأنا دماغي مش فاضية فيها مليون حاجة
غمغم مزمجرًا بخفوت:
-من عمايلك اشرب بقا
تفتكر أحلام هانم هتوافق ولا تقعد تقولّي مواعظ في الطّبقات
قهقهَ فاروق وسلّطَ عيناهُ عليه :
-أحلام هانِم هتولّع فيك، علشان كدا لازم ترتّب لكلِّ حاجة قبل ماتطردك من حلفِ الجارحي.
زفرَ بسأم يخلّل أناملهُ بخصلاتهِ متسائلًا:
-والله أمّك دي عليها شويّة تطبيقات للمجتمع تهوس، ياسلام بتحسسني إنّنا عايشين في عهدِ البشوات .
جفَّ حلقهُ وهو يطالعُ أخيهِ قائلًا بصوتٍ متقطع ٍ:
-إنتَ عارف إنّ أمّك لو عرفت حكاية ارسلان ممكن تعمل إيه يافاروق؟
تأرجحت عيناهُ بالقلق ِيهزّ رأسهُ ودقّات قلبهُ تخترق صدرهُ ممّا جعلهُ يهتف بتقطع:
-لا لا يااسحاق إنتَ وعدتني زمان، وبعدين أنا عملت اللّي عليّا واتجوّزت، هي كان أهمّ حاجة عندها أتجوّز غير صفيّة علشان أجبلها وريث، وربّك كريم وقعدت عَشر سنين من غير عيال، لولا إصراري على رجوع صفيّة وسَفرنا اللّي جه في مصلحة ارسلان،
تفتكر بعدِ ماربّنا كرمني بكلِّ حاجة حلوة بعد مارزقني بيه ..تحجّرت عيناهُ بالحزن ِ ونظرَ إلى اسحاق طويلًا ثمّ أردفَ بنبرةٍ مهزوزةٍ:
-محدّش يقدر ياخده مني يااسحاق، سمعتني، ارسلان فاروق الجارحي، لو دفنتني يااسحاق، ارسلان إبني سمعتني، وأنا كاتب وصيّتي محدّش يقدر يقول غير كدا .
نهضَ اسحاق من مكانهُ وجلسَ بجوارهِ
يربّتُ على ظهرهِ:
-حبيبي وعدِ منّي مستحيل حدّ يعرف حقيقته متخافش، مش معقول بعد السّنين دي كلّها حدّ هيعرف .
جاهد يكبح دموعهُ ولكنّها نزلت رغمًا عنهُ، زُهِلَ اسحاق منه فضمّه :
-فاروق إنتَ بتعيّط، صدّقني محدّش يقدر يقرّب منه، أنا بحميه أكتر من روحي، ارسلان إبني وأخويا وكلِّ ما أملك انت فاهم كدا، دا روحي اللي لو بعدت عني بتجنن
ارتسم الألم داخل عيناه:
-وصيّتي الوحيدة يا اسحاق ارسلان، مش خايف على ملك لأنّي متأكد أن جدّتها هتراعيها أما ارسلان من يومها وهي مبتحبوش علشان ابن صفية .
طالعهُ بغضبٍ محموم اندلعَ من حدقتيه وهدرَ بنبرةٍ غاضبةٍ:
-خليها تقرب منه بس، علشان كدا دخّلته المخابرات، هي بس لو عرفت أنّه تبع المخابرات بلاش أقولّك هتترعب إزاي، بس أنا أهمّ حاجة عندي أمانه
مسحَ على وجههُ متوقّف ثم أردفَ:
-ربّنا يرحمه أبوك بقى اختارلك أمّ من كوكب تاني .
بعد اسبوع
.ليلةً شتويةً قاسية البرودة، مع ظلامها الحالك بإختفاء ِنجومها ، عائدًا من عملهِ ليلًا، وهو يحتمي بنفسهِ من البرد بذاكَ البالطو وتلكَ الاسكارف، يتحرك برشاقة حتى يتفادى مياهُ الأمطار، إلّا أنّه توقّف فجأة على ذاكَ المشهد المريب، بعض الخارجين عن القانون يهرولون خلفَ شخص ٍما بعدما ترجّلَ من سيارتهِ بعد قتل سائقهِ، هرولَ الرّجل الذي يبلغُ من العمرِ 50 ربيعًا من أمامه يحتضنُ ذراعهِ الذي ينزفُ دمائه ُالممزوج بمياه الأمطار، دفعَ باب منزلِه ودلفَ إليه بوقوفه متسمرًا ملجومًا، كأنّ جسدهُ أصيبَ بشلل على ذاك المشهد إلى أنْ آفاق على صوتِ ذاك الرّجل:
-إنت مشفتش راجل بيجري من هنا
لحظات وعقله غير مستوعب مايدور، ذهبَ ببصرهِ سريعًا لمنزلهِ الذي دلفَ إليه الرّجل و يبعده ببعض الأمتار ، فاتّجه للرّجل يهزّرأسه بالنّفي ..تحركَ ذاكَ الرّجل حينما صاح الآخر :
-تعالى نشوفه في الشّارع دا، الدّنيا ضلمه هناك ممكن يكون متخبي لازم نخلص منه ..ظلّ للحظات واقفًا، إلّا أنّ صدمهُ صوتُ الرّعد بالبرق .مع غزارةِ الأمطار فاتّجه إلى منزلهُ، فتحَ بابَ المنزل الخارجي بهدوء ودلفَ يبحث بعينيهِ عن ذاكَ الرّجل الذي وجدهُ جاثيًا على الأرضية محتضنًا ذراعهُ يهمس بأنين
-انقذني ارجوك، متخلهمش يوصلولي ..أرجوك يابني عايزين يقتلوني ..أرجوك قالها ثم فقدَ وعيه .. دقائقٌ وهو عاجز عن فعلِ أيّ شيئ ولم ييقظهُ سوى صوتُ أختهِ.
-ابيه إنتَ تحت، إبيه يزن الكهربا قطعت لو حضرتك اللّي تحت ردّ عليّا ..أخرج صوتهُ مهزوزًا وهو يجيبها :
-أيوا يا إيمان انا حبيبتي هقفل الباب واطلع على الكشّاف ادخلي نامي.
بفيلا السيوفي وبخاصّة بتلكَ الغرفة المزيّنة التي أرسل الخدم إليها لتزينها مع فستانٍ من اللونِ الأبيض مطعّم بفصوصٍ من اللؤلؤ، وتاج مرصع الألماس ..وضعتهما إحدى الخدم
-إلياس باشا بعتلك دول ياميرال هانم
أومأت لهُ دون حديث..نهضت من أحضان فريدة تفحص الأشياء ثم أردفت متسائلة :
-معقول البارد يشتري فستان بالجمال دا، قلبت التّاج بيديها مع ابتسامة سعيدة مستديرة لوالدتها
-شوفتي جايب إيه..شعور الرّاحة والأمان تسرّب لداخل فريدة، فتوقّفت تمسّد على خصلاتِها :
-شوفتي مش قولتلك أنّه حنين، اسمعي منّي حبيبتي والله إلياس دا مفيش أحنّ منه، طيب عارفة وإنت صغيرة مكنش حدّ بيشتري لك ألعاب وحاجات غيره، هوّ بس اللّي لما كبر شاف البعد احسن .
هناك شعور لذيذ بداخلها وهناك عتابٌ من عقلها يمنعها، وضعت الأشياء وجلست متمتمة:
-خايفة ياماما، ساعات بحسّه قاسي وجبروت، رفعت عيناها لوالدتها قائلةً:
-تعرفي اتّهمني إنّي بغريه، وبيقول بتخطّطي إنت ووالدتك عليا
اخترقت الكلمات صدر فريدة كالخنحر الباردة، حتى شحبَ وجهها، فنهضت من مكانها متخبطة تحاول سحب نفسًا عميقًا لتردفُ بتقطع
-معذور حبيبتي، أبوه اتجوّز وأمه مريضة، غير ليلة فرحنا والدته ماتت فطبيعي يكرهني، بس صدقيني ياميرو إلياس بيحبّك حتى لو مش بيحبّك دلوقتي متأكدة بعد الجواز هيحبك أوي هو واخد طبع باباه بيخبي مشاعره
خطت عدة خطوات محاولة السّيطرة على نفسها بعدما شعرت بإنقباض صدرها قائلة:
-اجهزي ياميرو وزي ماوعدتك حبيبتي لو مرتحتيش معاه هطلّقك منه ..قالتها وغادرت سريعاً الغرفة .
بعد ساعتين على طاولةِ عقد القران ، جلسَ الجميعُ بانتظارِ نزولها، شعرَ بالقلق لتأخرها فانسحبَ بهدوء وصعد إلى غرفتها دفع الباب ودلفَ للداخل، تسمّرت قدماه وهو يراه تجلسُ بتلكَ الهيئة كحوريةٍ هبطت من الجنة، اقترب منها وعيناه تبحران ِعلى ملامحها حتى توقّف أمامها،وقال:
-قاعدة هنا ليه والكلّ مستنّيكي تحت
توقفت بمقابلتهِ ترسمه بعيناها :
-عايز تتجوّزني ليه إلياس، بصراحة إيه سبب جوازنا، قالتها وطالعته بعيونًا متلهّفة تنتظر حديثه بشقّ الأنفاس
لحظات صمتٍ مريعة لكليهما، عجز عن الرّد بينما هي تجمّعت دموعها لتتلألأ بعيناها متمتمةً بارتجاف :
-عايز تنتقم من ماما فيّا صح، علشان ماما اتجوّزت والدك فأنت تنتقم مني.
حروف بسيطة كنيران ملتهبة أحرقت داخله، لينحني ويسحب كفّيها متجهًا للأسفل ناكرًا أي شعور :
-إحنا مش بنلعب، مش المأذون يجي ويمشي ويقولوا العروسة رفضت إلياس السّيوفي، مش على أخر الزّمن اتهان من واحدة زيك
تحرّرت دموعها لتسيل على خدّيها متوقّفة على الدّرج تهزُّ رأسها رافضًة الحركة قائلة:
-مش على شان كرامتك أحرق حياتي ياالياس باشا أنا مستحيل أكون مراتك سمعتني، جذبها بقوةٍ لتصطدم بصدرهِ وحاوطها بذراعيه يجزّ على أسنانهِ:
-اللّيلة ياميرال هتُكتبي بإسمي، خلّيني امشيها كتب كتاب بس، بدل مااخليها دخلة .
غرزت عيناها بمقلتيه قائلة بنبرة جافة:
-مستحيل أكون مراتك، مستحيل لو أخر يوم في حياتي
دنى أكثر من اللّازم بعدما أشعلت فتيل غضبه وجعلته كتلة من النّيران تريد إحراقه ثم انحنى لخاصتها مما جعل دقات قلبها كالطّبول تقسم أنه استمع إليها وعيناه تحتضنُ عيناها قائلًا بصوته الرّخيم الممزوج بالغرور والكبرياء:
-اقسم بالله لو ماانزلتي وتم كتب الكتاب بهدوء لتكون آخر ليلة لفريدة هانم في فيلا السيوفي، دنى أكثر واكتر مما لمس وجنتيها بشفتيه هامساً:
-تليفون مني لعمّك اللّي بيدوّر عليها وشوفي بقى هيعمل فيها إيه بعد اللّي عملته، رفع عيناه وحرب أعين حارقة بينهما وتابع بهمس مميت :
-امك المصون هربت من عمك بيكي ومش بس كدا عندي الأكتر والأكتر
متفكّريش أبويا هيحميها من جحيم غضبي ..قاطعهم وصول فريدة تطالع وقوفهم بشهقة، اردفت بنبرة مزعجة :
-ايه اللي بيحصل هنا، ازاي توقفوا كدا، انزلوا يلا اتأخرتوا ؟
ابتعد عنها وعيناه تحاورها ثم بسط كفيه وابتسامة باردة على وجهه:
-إيه يامراتي هنمشي ولا عجبك وقوف السّلم ...
نظرت إلى فريدة التي هزّت رأسها بالموافقة ثم رجعت الي نظرات التهديد فوضعت كفّيها بكفّيه الذي ضغط عليه وتحرك كالملك الذي ينصب على عرشه.
بعد قليل انتهى عقد القران وهي جالسة بجوار غادة بصمت توزّع نظرات على الجميع، الجميع يشعرون بالسّعادة، فتح مصطفى ذراعه :
-حبيبتي ألف مبروك، واخيرًا هتفضلي تحت رعايتي العمر كلّه ..أغمضت عيناها بأحضانه تريد أن تصرخ بأعلى صوتها ولكن كأن أحدهم يدفنها بداخل قبر ولا تستطع الصراخ.
جذبتها غادة
-ميرو تعالي نرقص نحتفل، مش كفاية كتبنا الكتاب ساكت كدا
أشار إليها بعينيه :
-اقعدي يابت رقص إيه اتجننتي، نهضت من مكانها أخيرًا بعدما فاقت من الغيبوبة الفعلية التي وضعت بها ثمّ هتفت :
-تعالي نرقص فوق، ولا يهمّك هنرقص للصبح وخلّي اللي يعترض يعترض .
هزت فريدة رأسها باستياء من ردود أفعال إبنتها، اتجه مصطفى إليه قائلًا
-حبيبي ليه مخرجتش مع خطيبتك تحتفل برة، توقف واجابه:
-لا مش قادر، عندي سفر بكرة لمدة يومين
-خلاص يامصطفى مش مهم المهم يكونوا فرحانين
ابتسم بسخرية وأجابها بغموض:
-فعلا عندك حق أنا النهاردة أسعد واحد ، قالها وصعد للأعلى .
صعدَ إلى غرفةِ أختهِ طرقَ الباب ثم دلف، توقف على الباب مشيرًا بتهديد:
عارفة لو رقصتي هعمل إيه؟،
صمتت ولم تعبرهُ إهتمام حتى خرجَ من باب الغرفة، فألقاته بالوسادة
-والله لأرقص وفوق التربيزة كمان اخبط دماغك في الحيطة، تحرك وعلى وجهه ابتسامة متمتمًا
مجنونة ياميرو ..قالها وهو يدلفُ إلى غرفته، تحرَّكَ إلى أن توقَّفَ أمامَ المرآةِ ينظرُ لنفسه، ابتسمَ ساخرًا:
عملت اللي عايزُه ياإلياس، هتقدر تنتقم منهم و لَّا دا كان مجرد تهديد عشوائي علشان تمتلكها وبس
عند إلياس بعد اسبوع
خرج من عمله يهاتف أحدهما
-الاستاذة في الجريدة ولا فين؟!
نظر للمبنى أمامه قائلًا:
لا يافندم في الجريدة..تمام، قالها وهو يغلق الهاتف وتحرك إليها وعلى وجهه ابتسامة قائلًا:
-جايلك يامراتي البايرة..وصل بعد قليل، كانت منهمكة بعملها لم تشعر بوجوده سوى من رائحته التي تسللت إلى رئتيها، رفعت رأسها تبحث عنه بلهفة غير مصدقة أن أحدهما يحمل نفس رائحته، وجدته يقف أمامه بهيئته التي سلبت عقلها قبل قلبها مع ابتسامته التي بدأت تراها في بعض الأحيان
ضربت على كفيها قائلة
-خير ياحضرة الفاضي ..جذب المقعد وجلس بغروره يضع ساقًا فوق الأخرى
يشمل المكان بنظرة قائلًا
-بقالك سنتين شغالة وأول مرة اشوف مكتبك، وانت ماشاءالله أربعة وعشرين ساعة عندي ..دنى بجسده وحاورها بنظراته
- بس المكتب مش بطال على فكرة، ماهو مش معقول حرم إلياس السيوفي تقعد في أي مكان
أشارت إليه تلتفت حولها
-يعني إنت السبب في نقلي للمكتب دا
اومأ لها بغمزة ثم أردف
-لحد النهاردة بس، شوفتي كنت معاكي حنين ازاي من غير ماتعرفي
جزت على أسنانها وطرقت على المكتب
-خير جاي ليه ؟!
-بردلك الزيارة ياروحي
دنت بجسدها تشير إليه بالاقتراب ولكنه ظل كما هو قائلًا:
-بطلي شغل الاطفال دا، انت كبيرة اعقلي، ومتنسيش انتي مراتي وانا ميرضنيش يقولوا مراتك هبلة
-طيب ياعاقل ياجوز الهبلة قوم امشي بدل مااطردك
غاص في عناد تمردها الذي راق له وقال
-قهوتي مظبوطة يامراتي البايرة
رسمت بسمة سمجة على وجهها مضيقة العينين
-معندناش بن ياجوزي الباير
رسمت عيناه ردودها الطفولية بابتسامة عريضة يضع خديه على كفيه
-اطلبي عصير اكيد حافظة انواع العصير اللي بحبها
تأففت بضجر فهبت من مكانها واردفت من بين أسنانها
-معندناش سكر، وقوم امشي بدل مااطلب لك الأمن
توقف واستدار يستند بظهره أمامها على المكتب غامزًا بطرف عينيه
-مش كفاية انا مسكر
ذابت من كلماته، هذا الرجل يثير بداخلها مشاعر متضاربة تحملها له لم تعد تعلم بماذا تشعر بقربه، انحنى بجسده وعلم ماتشعر به من خلال تحرك عيناها فأردف هامسًا:
-هتطلبي العصير للمسكر...تراجعت مبتعدة واطلقت ضحكة صاخبة مما جعل الجميع يطالعونهم، رفعت كفيها تشير معتذرة
-اسفة ياجماعة عندنا شئ مسكر هنا والدبان بيزن فوق راسي
انحنى يسحب كفيها مع نظراته للجميع
-اعذروها أصلها مصدومة بعد ماعرفت أنها انطردت من الشغل
برقت عيناها تطالعه بذهول، وتسائلت
هي مين دي اللي انطردت، حاوط جسدها بكفيه وتحرك مغادرا المكان قائلًا
-إنتِ ياروحي، مفيش شغل وتنطيط بعد كدا ..تحرك مسلوبة الإرادة بسبب قربه الذي سلب عقلها
وصلت بعد قليل بسيارته مترجلًا منها
-انزلي ياحلوة ..قالها وتحرك للداخل دون حديث آخر
ظلت كما هي بالسيارة لمدة دقائق ثم هبطت من سيارته بخطوات متخبطة، قابلتها غادة تطالعها بذهول عندما وجدتها بتلك الحالة
-ميرال مالك ..رفعت رأسها إلى غادة وتمتمت بتقطع
-اخوكي خلاهم يطرودني من الشغل
خطت بخطوات تاكل بها الأرض وكأن هناك من يطاردها، توقف غادة أمامها :
هتعملي ايه يامجنونة، دفعت الباب والله لاندمه، دلفت غرفته دون استئذان، تصرخ باسمه، خرج من المرحاض محاوط جسده بمنشفة، وبيده أخرى يجفف خصلاته توقف حينما وجدها بتلك الهيئة الغاصبة
-عايزة ايه بوتجاز، داخلة اوضتي ليه..لم تهتم بهيئته، اقتربت منه
-هموتك، والله هموتك لو قربت من شغلي تاني، ورقة الجواز تبلها وتشرب ميتها، انسان مستفز، مفكر الكل عليه الطاعة، هفضحك يازوجي المستبد..قالتها واستدارت لتغادر
-استني عندك يابت.....
دنى منها يشير إليها بالاقتراب
-ايه اللي قولتيه دا ..اهتزت حدقتيها بعدما استفاقت على حالته، فركت يديها تتراجع للخلف تبتعد بنظراتها عن عيناه
- انت واحد مستبد متفكرش هسكت على اللي عملته، فوق انا مش خايفة منك ولا تفكر ورقة الجواز دي هتخليك تتحكم فيا، انا ميرال جمال الدين ولا انت ومليون زيك، فارد ضلوعك عليا ليه،انا مش معترفة بيك اصلا ، قالتها وهمت بالمغادرة الا أنه جذبها بقوة يدفعها على فراشه عندما أخرجت شيطانه قائلا
-وأنا دلوقتي هخليكي تعترفي بيا يااستاذة علم الدين
بالأسفل دلفت إلى مكتبه وابتسامة خلابة تزين وجهها
-طلبتني، توقف يفتح ذراعيه إليها
-تعالي حبيبتي انا اقدر استغنى، سحبها وأجلسها بأحضانه، نزل برأسه يدفنها بعنقها يستنشق رائحتها بوله
-من أول مرة اخدتك في حضني وريحتك دي بعشقها، وضعت رأسها على رأسه واحتضنت كفيه
-ربنا يباركلي فيك يامصطفى ومايحرمنيش منك يارب
اعتدل جالسًا وحاوط أكتافها، سحب نفسًا قويًا حتى يستطع اخراج مايؤلم روحه، رفعت رأسها تتعمق بعيناه ومازالت ابتسامتها تزين ملامحها
-يااااه دي كلها تنهيدة..
فريدة بتثقي فيا قد ايه!!
أشارت إلى قلبه ووضعت كفيها على صدره قائلة بنبرة واثقة:
-قد دقات قلبك تحت ايدي يامصطفى، شوف القلب بينبض كام مرة في الدقيقة واضرب اضعافهم، بلاش احلف لك انك اجمل حاجة حصلت لي بعد موت جمال
احتضن وجهها ودمغ جبينها بقبلة حنونة، تحكي الكثير من المشاعر، ثم رجع بجسده للخلف وجذبها تحت حنان ذراعيه مردفًا:
-هقولك سر مخبيه بقاله تلاتين سنة عن الكل، حتى اختي الوحيدة متعرفوش...اعتدلت ونظرات مستفهمة منتظرة حديثه باهتمام
احتضن عيناها واردف بلسان ثقيل
-إلياس!!..اومأت له منتظرة تكملة حديثه بلهفة ولا تعلم لماذا ..اغمض عيناه حينما شعر بثقل اهدابها من الدموع ثم فتحهما قائلاً
-اوعديني الكلام اللي هقوله يفضل بينا سر يافريدة
ملست على وجهه وتعمقت بالنظر إليه
-وحياة مصطفى اللي هو اغلى من أي حاجة ماهقول لحد
ابتلع غصة مدببة كأنها سيوف حادة واسترسل:
-إلياس مش ابني حقيقي، دا ابني بالتبني ..
ألجمتها الصدمة ولم تشعر بما حولها وكأن أحدهم سلب روحها، لينتفض جسدها وتشعر بانصهار روحها، وبدأت تشعر بدوران الأرض وكأنها ستفقد وعيها..حاولت تستفسر عما استمعت إليه ، ولكن هربت الحروف ولم يعد لديها القدرة على النطق
اقترب يحتضن وجهها وحاول استرضائها بعدما وجدها بتلك الحالة:
-سامحيني علشان خبيت عليكي، بس مكنش ينفع اقول لأي مخلوق، الواد ظابط في أمن الدولة، انت عارفة يعني ايه يطلع مش ابني
تآذر الوجع بصدرها من ضربات قلبها المرتفعة، تطالعه بأعين مرتجفة
-ازاي تخبي عليا حاجة مهمة زي دي، احنا متجوزين بقالنا اكتر من عشرين سنة عارف يعني ايه، عشرين سنة وأنا بنام في حضنك، عشرين سنة شوف كام مرة اتكلمنا فيهم عليه، ازاي وليه وانت لقيته فين ولا اتبنيه ازاي، وازاي وازاي وازاي يامصطفى حرام عليك ، دا انا خبيت عليك حقيقة ميرال سنة عقبتني وبعدت عني، قولي اعمل ايه. وكمان اتجوز بنتي، نهضت من مكانها تدور بالغرفة تشير لنفسها
-مكنتش قد الثقة علشان تقولي حاجة مهمة زي دي، انا اللي قولت لك على كل حاجة وانت مخبي حاجة مهمة زي دي، طيب ليه ..توقفت فجأة وهرولت تجثو أمامه
-الياس عنده 32 سنة يامصطفى، انت لقيته ولا اتبنيه منين، اوعى تكون لقيته مكان ماضربتني بالعربية، نهضت تهز رأسها لا لا .. مستحيل ممكن يكون ابني، إلياس ممكن يكون ابني
توقف اخيرا يضمها إلى صدره
-فريدة اهدي هو لو عندي شك ماكنت زماني قولت لك، لا مالقتوش في السويس، غادة اللي لقيته على باب الدار، انت ناسية أنها كانت فاتحة الدار قبلك، الصبح اتصلوا بيها وعرفوها، الولد كان عنده سنتين وقاعد بيعيط ومش راضي يسكت، اخدته غادة واتعلقت بيه، ويوم عن يوم بقت تتجنن من بعده لدرجة كانت بتبات معاه في الدار وساعات بتجيبه، وبعد عمليات الحقن الكتيرة فقدنا الأمل نجيب ولاد طلبت مني نسجل الولد باسمي، ومخبيش عليكي استخدمت سلطتي والولد اتكتب باسمنا ومن وقتها والكل عرف ان الولد ابني بعد سفر غادة خمس سنين ألمانيا، وبعد مارجعت عملنا حفلة واعترفت للدنيا كلها أنها أنجبت طفل، وفي الفترة اللي سافرت فيها غيرت طقم الدار كله علشان محدش يشك في حاجة، والولد فضل عايش معانا لحد ماقابلانكي والباقي اكيد تعرفيه
جلست بجسد منتفض تمسح على وجهها بعنف لازم تعرفلي لقيته امتى بالظبط، بكت بشقهات تضع كفيها على صدرها
-حتى ولو عرفت أن اليوم دا هو اختفاء يوسف دا مش إثبات أنه ابني ، اثبت ازاي يارب، يارب يطلع ابني معقول يطلع ابني ، معقول ربنا يكون رحيم بيا ويكون انا اللي ربيته، مش مهم كره ليا المهم يطلع ابني
-فريدة ..اتجننتي ايه اللي يجيب ابنك عندنا ..هزت رأسها انا هثبت لازم ادور
راااااجح ..لازم اعمل التحليل
كان أحدهم يستمع إلى حديثهما..فتوقفت كالجثة التي سُحبت أنفاسها إلى بارئها
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
قادني إليك قدر ..
و سرقك مني آخر ..
و بين القدرين فقدت قلبي ..
فهم كاذبون حين أخبروني أنّ التعافي ببعد الأحبة هيّن وأنّ الزمن كفيلٌ بتضميد جراحي
كاذبون حين أخبروني أنني سأتجاوز وأتخطى..
مضَت سنين العُمر ولازلت كما أنا بل ساءَت حالتي أكثر..
أخبروهم أنّ أماكنهم لازالت شاغرة ..
أخبروهم أن كل منا يحمِل أوجاعه معه حتى نحظى بلقاء يطيب به القلب..
ف والله إن الأذى وكل الأذى ممن تركنا معلقين دون مرسى..
ممن قال أنا هنا ، كفي بكفك للمنتهى ..ثم ذهب وترك جراحا لا تندمل ولا تشفى
خطت بخطواتٍ تأكلُ بها الأرضَ وكأنَّ هناكَ من يطاردها، توقَّفت غادة أمامها :
هاتعملي إيه يامجنونة!..دفعت الباب والله لأندِّمُه، دلفت غرفتهِ دونَ استئذان، تصرخُ باسمه، خرجَ من المرحاضِ محاوطًا جسدهِ بمنشفة، وبيدهِ الأخرى يجفِّفُ خصلاتهِ، توقَّفَ حينما وجدها بتلكَ الهيئةِ الغاصبة:
عايزة إيه يا بوتجاز، داخلة أوضتي ليه؟!..لم تهتَّم بهيئته، اقتربت منه:
تدفعهُ بغضبٍ وهدرت وكأنَّها تحاربُ شياطينها:
هاموِّتَك، واللهِ هاموِّتَك لو قرَّبتِ من شغلي تاني، ورقة الجواز تبلَّها وتشرب ميِّتها،إنسان مستفز، مفكَّر الكل عليه الطاعة،هافضحَك يازوجي المستّّبِد، لو مارجعتِش في الهبل دا...قالتها واستدارت لتغادر.
استني عندِك يابت.....
دنا منها يشيرُ إليها بالاقتراب:
إيه اللي قولتيه دا ..اهتَّزت حدقتيها بعدما استفاقت على حالته، اقترب منها وهتف بصوت اجفلها
- متفكريش علشان ساكت وبعدي تسوقي فيها
تراجعُت للخلفِ تبتعدُ بنظراتها عن عينيه:
إنتَ واحد مستَّبِد، ماتفكَّرش هسكت على اللي عملته، فوق أنا مش خايفة منَّك ولا تفكَّر ورقة الجواز دي هاتخليك تتحكِّم فيَّا، أنا ميرال جمال الدين ولا إنتَ ولامليون زيك، فارد ضلوعك عليَّا ليه، أنا مش معترفة بيك أصلًا، قالتها وهمَّت بالمغادرة إلَّا أنَّهُ جذبها بقوةٍ يدفعها على فراشهِ عندما أخرجت شيطانهِ قائلًا:
وأنا دلوقتي هخليكي تعترفي بيَّا ياأستاذة نجمة الدين، ياله عايزة أعرف بنت جمال الدين هتعمل إيه.
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ من هيئتهِ الغاضبة، واقترابهِ الغير مسموح:
إلياس ..أخرجت اسمهِ من بينِ شفتيها متقطِّعًا:
إبعِد بقولَّك ماينفعشِ كدا.
شعرَ بتخدُّرِ جسدهِ وعدم قدرتهِ على الصمود أمامَ جمالها الطاغي.
اشتعلت عينيهِ بلهيبِ الرغبة لتذوُّقِ كرزيتها..حاورتهُ بعينيهِ أن يرحمَ ضعفها بحضرته، من خلالِ لمعانها بطبقةٍ كريستالية. تصارعت أنفاسه وحرب داخليه ألهبت جميع حواسه
-إلياس ابعد انت كدا بتتمادى ..أنهت كلماتها المتألمة التي خرجت من بين شفتيها بتقطع
رسم قناع بارد فوق ملامحه كي لا يعكس لهيب عشقه الدفين
اعتدلَ متمسِّكًا بكفَّيهِا ليعدلها من فوقِ فراشه، واستدارَ بظهرهِ قائلًا:
اطلعي برة، وتاني مرة إياكي تدخلي أوضتي تاني من غير إذن.
أغمضت عينيها تستمعُ إلى حديثهِ القاهرِ لقلبها، ثمَّ تحرَّكت بعضَ الخطوات، توقَّفت مستديرةً إليه:
أنا بحبِّ شغلي، ومن صغري وأنا نفسي أكون مذيعة، بس حضرتَك منعتني من الحلمِ دا من غير أسباب، حطِّيت أعذار وقولت يمكن علشان طبيعة شغلك ومن حقَّك، بس إنَّك تهدم شغلي اللي اتأقلمت عليه دا يبقى إنتَ بتهدمني لتاني مرة، اقتربت خطوةً تنظرُ لمقلتيه:
معرفشِ ليه كلِّ الكره دا، عايزني أترجَّاك، تمام ياإلياس ..اقتربت خطوةً أخرى حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد معدومة ونظرت إليه متمتمة:
لو سمحت ياإلياس إلَّا شغلي، شغلي دا حياتي بلاش تسحبها مني كفاية امتلاكك ليَّا ..
صمتٌ من الأصواتٍ بالغرفة، ولكنَّ هناكَ ارتفاعَ أنفاسٍ تودي إلى توقُّفِ القلب، تدحرجت دمعةٌ غادرةٌ عبرَ وجنتيها، حينما وجدت جمودِه، فأزالتها واستدارت مغادرةً الغرفة بالكامل، دلفت غرفتها، وأغلقت البابَ خلفها، لتحتضنَ نفسها مع ذكرياتها المتألِّمة معه، اتَّجهت إلى مكتبتها وأخرجت ألبومًا من الصورِ يجمعهما في طفولتهما، فتحته بدموعِ عينيها التي طُبعت عليه، مع شهقاتها المرتفعة، تسألُ نفسها وهي تقلِّبُ بين الصور، وترى كيف هنا كانت نظراتُ الحبِّ والحنان، ومنذُ لحظاتٍ نظراتٍ جليديةٍ لا يوجدُ بها أي مشاعر.
أما عندهُ بعد خروجها اتَّجهَ إلى غرفةِ ثيابهِ وارتدى ملابسهِ بجسدٍ فاقدٍ لجميعِ حواسِّه، كلَّ ما يشعرُ به أنَّهُ يريدُ تحطيمَ كلَّ مايقتربُ منهُ بذاكَ الوقت.
دقائقَ وهو يحاولُ السيطرة على نداءِ قلبهِ الذي يحاربهُ بدقاتهِ العنيفة أن يخترقَ كلَّ الحواجزَ بينهما، حربٌ شعواءٌ صماءٌ تحرقُ داخلهِ بين صفعِ قلبهِ والتَّحكُمَ بنبضهِ وبين عقلهِ الذي يجزعُ من نبضِ القلب.
زفرَ باختناقٍ ليتَّجهَ إلى جهازهِ يجذبهُ ويجلسَ فوق فراشه، قامَ بحفظِ بعضِ المعلوماتِ التي توصلُ إليها، ثمَّ رفعَ هاتفهِ ليردَّ أحدهما بعدَ قليل:
أيوة ياباشا، آسف الفون كان بعيد.
إخلَص قول اللي عندك.
اسمعني ياباشا، وصلت للست اللي حضرتَك بدَّور عليها ..استمعَ إليهِ باهتمام:
الست اسمها إسراء متجوزة في العين السُخنة جوزها شغَّال في المينا، عندها ولد وبنت، الولد محامي لسة تحت التدريب والبنت ثانوية عامة، ليها أخ وحيد مسافر أبوظبي.
إبعت لي عنوانها ...
حاضر لحظة وهاتلاقيه عندك.
بالأسفلِ قبلَ قليل:
دلفَ إسلام من بابِ المنزلِ استمعَ إلى هرولةِ غادة على الدرج توقَّفَ أمامها :
مالِك يادودي..أشارت إلى الأعلى:
إلياس وميرال بيتخانقوا لازم أعرَّف بابا، خلَّاهم يفصلوها من الشغل.
ربتَ على كتفها يشيرُ إلى الأعلى:
طيِّب اطلعي إنتِ حاولي تهدِّيهم، أنا ماينفعشِ أدخل ..استدارت هاتفة:
طيِّب بسرعة ..تحرَّكَ إلى غرفةِ مكتبِ والدهِ، رفعَ يدهِ ليطرقَ فوقَ الباب ولكنَّهُ توقَّفَ حينما استمعَ إلى بكاءِ فريدة:
إلياس مش ابنك، إزاي،
دقائقَ يستمعُ إلى حديثهم بذهولٍ حتى شعرَ بدورانِ الأرضِ وكأنَّها تُسحَبُ من تحتِ قدميه..تراجعَ سريعًا للخارجِ محاولًا سحبَ أنفاسًا معتدلة، حينما شعرَ بارتفاعِ أنفاسهِ التي تزدادُ كالمتسارع.
بالداخلِ توقَّفَ مصطفى
واتَّجهَ إليها يرفعها من فوق الأرضية، ولكنها دفعتهُ بعيدًا، وهرولت للخارجِ ودموعها تفرشُ الأرضَ أمامها ...قابلها إلياس على الدرج، رفعَ رأسهِ إليها بعدما استمعَ إلى شهقاتها، توقَّفَ يطالعُها بتدقيق، شعرت بوجودهِ فرفعت عينيها إليه، وتقابلت العيونُ للحظات، لا يعلمُ لماذا خفقَ قلبهِ إشفاقًا على دموعها، لم يشعر بنفسهِ وتحرك مقتربَا منها متسائلًا:
إنتِ كويسة؟!..
كانت تسبحُ بعينيها تتفحَّصهُ بلهفةِ أم، تناست كلَّ شيئ، وكأنَّ العالمَ اختفى من حولها ولم يتبقَ سوى وليدها، اقتربت خطوةً وعينيها متعلقةً بعينيه، إلى أن وصلت إليه، حاولت الحديثَ ولكنّّها لم تقو كأنَّ لسانها ثقلَ أو هربت حروفه، استغربَ حالتها ووجهها الذي أصبحَ كلوحةٍ متفننةٍ بالأسى والحزن.
إنتِ كويسة؟!..تسائل بها مرةً أخرى حينما وجد نظراتها التائهة عليه، هزَّت رأسها وابتلعت غصَّتها وسحبت نفسها من جوارهِ بصعوبة، كالذي ينسحبُ إلى غرفةِ إعدامه، صعدت إلى الأعلى، بوصولِ مصطفى إلى إلياس الذي يراقبُ صعودها:
واقف كدا ليه يابني ..استدارَ إليهِ مقتربًا:
أبدًا مفيش، خطى من جوارهِ إلى الخارج، أوقفهُ والده:
إلياس…استدارَ برأسهِ منتظرًا حديثه، تراجعَ مصطفى إلى وقوفهِ وتساءل:
كنت في السويس بتعمل إيه؟..
ارتدى نظارتهِ قائلًا بنبرةٍ باردة:
شغل ياباشا...قالها وتحرَّكَ للخارجِ دونَ إضافةِ أيِّ حديث..
بالأعلى دلفت فريدة إلى غرفتها وهوت على الأرضيَّةِ خلفَ الباب، تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها كلَّما تخيَّلت ماذا لو أصبحُ ابنها..
ذهبت بذكرياتها ....
فلاش باك:
تحرَّكت بجوارِ غادة تشيرُ إلى الغرفةِ التي ستمكثُ بها قائلةً بإبتسامةٍ عذبة:
دي أوضتِك، هاتقعدي فيها لحد مامصطفى يشوف موضوعك..
ترقرقت عيناها بالدموعِ هاتفة :
ممكن أطلب منِّك طلب ...
أومأت لها قائلة:
طبعًا أكيد، اتفضلي…
همست بضعفٍ قائلة:
مش عايزة حد يعرف مكاني، أوراقي كلها اتحرقت في بيتي، كنت طالبة خدمة مش هانسهالِك العمر كلُّه.
أومأت غادة منتظرةً بقيَّةِ حديثها، وضعت ميرال على فراشها ثمَّ اقتربت من غادة:
عم بنتي لو وصلِّنا هايموتني أنا والبنت، دا قادر وظابط كمان، يعني هيسلَّط كلِّ نفوذه، زي ماسلَّط نفوذه وأخد منِّي كلِّ حاجة، عايزة أغيَّر اسمِ العيلة، بدل فريدة عبد المجيد يعمله أي اسم تاني، استدارت إلى ابنتها تشير إليها:
وكمان البنت يكتبها ميرال جمال الدين، دا أهم من أي حاجة وشكرًا لحضرتِك، وقت ماأوراقي تخلص، هامشي من هنا وأدوَّر على شغل.
تنهدت غادة برهةٌ تطالعها بشك، ثمَّ أردفت قائلة:
ماعرفش مصطفى هيوافق ولَّا لأ، بس هاقولُّه، لكن ماتتعشميش، مصطفى بيعامل ضميرُه أوي ماعتقدشِ أنُّه يقبل يزوَّر.
اقتربت منها وطالعتها بنظراتٍ متوسلةٍ مقتربةٍ منها بملامحٍ متألمة:
وحياة أغلى حاجة عندك يامدام، ربنا يجازيكي خير دا ثواب كبير هاتعمليه وتنجِّيني من حاجات كتيرة.
تجهَّمت ملامحُ غادة تشيرُ إليها بهدوء:
طيِّب نامي دلوقتي وبعد كدا نتكلِّم.
بعدَ عدَّةِ أيامٍ دلفت إليهِ المكتب بعد إستدعائهِ اليها، وتوقَّفت على الباب..فتوقَّفَ عندَ مقعدهِ بهيئتهِ التي تجعلُ قلبها كالمضخَّةِ خوفًا من اكتشافِ أمرها، أشارَ إليها بالدخول، دلفت بخطواتٍ ثقيلةٍ وكأنَّها ستساقُ إلى حسابها..
أقعدي يامدام فريدة..جلست تفركُ بكفَّي يديها منتظرةً حديثهِ بفارغِ الصبر:
أنا سألت عنِّك..رفعت رأسها سريعًا تنظرُ إليهِ بذهول، فهتفَ وعينيهِ تخترقُ جلوسها:
العنوان اللي قولتي عليه، دا عنوان عمِّك صح؟..
أومأت لهُ وقلبها ينبضُ بعنفٍ وكأنَّهُ سيتوقَّف.. تصنع النظرَ للورقةِ التي أمامهِ وتابعَ حديثه:
فريدة عبد المجيد
توسَّعت عيناها حتى شعرت بخروجها من محجريها فهبَّت قبلَ إتمامِ حديثه:
عرفت الحاجات دي إزاي؟..
زوى مابينَ حاجبيهِ متسائلًا:
بتتكلِّمي بجد ولَّا بتهزَّري؟!..إنتِ ناسية أنا ظابط، وسهل جدًا عليَّا، سحبت منهُ الأوراقَ سريعًا تنظرُ إليها بلهفة، ولكن وجدتها فارغة، طالعتهُ مقتربةً وهتفت بصوتٍ أجفله:
ليه تدوَّر ورايا أنا ماطلبتِش منَّك حاجة، إنتَ اللي طلبت آجي هنا لحدِّ ماأتحسِن، والصبح هاخُد بنتي وأمشي من هنا.
انكمشت ملامحهِ مستنكرًا حديثها، فنصبَ عودهِ متوقِّفًا، وأشارَ بيديهِ قائلًا بخشونة:
عايزة مني أدَّخل واحدة بيتي من غير ماأعرف هيَّ مين، مايمكن يكون تخطيط.
توقَّفت الكلمات على شفتيها، ولم يُسعفها الحديث، فنكست رأسها مع انسيابِ عبراتها بصمت.
زفرَ بضيقٍ واقتربَ منها يشيرُ إليها بالجلوس:
أقعدي يافريدة لازم نتكلِّم.. أومأت لهُ وجلست تفركُ بردائها.. حمحمَ معتذرًا:
مش قصدي أشك فيكي، أنا قصدي مكانتي حساسة ولازم أعرف كلِّ حاجة عنِّك، ماحبتشِ أنزِّل صورتك.
رفعت عينيها إليه سريعًا:
أنا ماطلبتِش من حضرتَك حاجة، ليه تعمل معايا كدا؟!..
تأفَّفَ يمسحُ على خصلاتهِ بضجر:
أنا ظابط وفي مكان حساس إنتِ متخيِّلة لو حد زقِّك عليَّا ممكن تعملي إيه!!ماخبيش عليكي كنت رافض وجودك معانا لولا إصرار غادة وخاصَّةً معاكي بيبي ومن غير أوراق، ولا أي حاجة تستندي عليها
استدارت سريعًا مردِّدةً:
شكرًا لحضرتك، وكتَّر خيرك أنا هاخد بنتي وأمشي.. قالتها وهمَّت بالمغادرة إلا أنَّهُ صاحَ قائلًا:
استني عندِك..توقَّفت بجسدٍ مرتجفٍ.
خطا إلى وقوفها ومع كلِّ خطوة كانت تشعرُ وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ تطبقُ عليها خوفًا من هيبته التي دبَّت بقلبها الرعب، وصل إليها متوقِّفًا بثباتٍ واضعًا كفوفهِ بجيبِ بنطاله:
انا بعت اسأل عليكي في السويس
شهقة خرجت من فمها مع ازديادِ بكائها بنحيبٍ حتى فقدت القدرة على التَّحمُل، فهوت على الأرضية أمامهِ تبكي بصوتٍ مرتفعٍ مما أفزعَ غادة بالخارج، لتدفعَ بابَ المكتبِ وتدلفُ مذعورة:
مصطفى إيه اللي حصل؟!
أشارَ إليها تساعدها على الوقوف، حاولت غادة مساعدتها، إلا أن بكاءَها أفقدَ غادة اتِّزانها ليميلَ هو ويرفعها من ذراعيها محاولًا تهدئتها..
خطفوا ولادي، خطفوا حياتي..قالتها لتهوى بين ذراعيهِ مغشيًا عليها.. بعدَ فترةٍ جلست زوجتهِ بمقابلتهِ في المكتب:
إيه اللي بتقوله دا، دي شكل واحدة جاسوسة. نفثَ دخانَ سجائرهِ وتمتمَ ممتعضًا:
هوَّ أنا بقول هعمل التحريَّات
تعاظمَ الحزنُ بداخلها رافضةً ماتستمعُ إليه ، اللي أقدر أقولُه مستحيل تكون كذابة ولا مخادعة…
أطفأَ سيجارتهِ بالمطفأة، ثمَّ مسحَ على وجههِ بعنف
مسحَ على وجههِ بعنف، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى زوجته:
أنا ماسألتِش عليها ياغادة، أنا بخوِّفها بس..انكمشت ملامحها قائلة:
ليه يامصطفى، هاترجع تقولِّي علشان إنتَ ظابط..توقَّفت غادة وهدرت به:
إنتَ ظابط يامصطفى أه، بس مش مخابراتي ، علشان تبقى خايف أوي كدا، البنت شكلها طيِّب والكام يوم اللي قعدت فيهم هنا أنا اختبرتها في حاجات كتيرة، اقتربت منهُ بعدما وجدت تجهُّمِ ملامحه، عانقت ذراعيهِ وتحدَّثت بدلال:
حبيبي اللي دايما بيشك في صوابعِ إيدُه، البنت دي على ضمانتي أنا الشخصية، مستحيل تكون بتخطَّط لحاجة، وبعدين تعالَ هنا هيَّ كانت تعرفنا ولَّا حد كان يعرف إننا في السخنة ياباشا، ماتركِّز شوية ياظبوطي، دماغك بقت بتفلت منَّك ليه؟..
قهقهَ عليها يضمُّها لأحضانه:
بتعرفي تسيطري ياغادة ...حاوطت عنقهِ مبتسمة، ثمَّ تمتمت:
عيب عليك يامصطفى بعد السنين دي كلَّها وماعرفشِ شخصيتك!..
انحنى يدمغُ جبينها بقبلةٍ ثمَّ أردف:
ربنا يخليكي ليَّا حبيبتي، ياله قهوتي وابعتيلي إلياس وحشني من امبارح ماشفتوش.
باليومِ التالي ..دلفت غادة إلى غرفتها وجدتها تحملُ ميرال للمغادرة، توقَّفت أمامها:
رايحة فين يافريدة؟..مسَّدت على شعرِ ميرال تبتعدُ بنظراتها عن غادة وأجابتها:
ماشية يامدام.
توسَّعت عيناها تنظرُ إليها بصدمة، ثمَّ اقتربت تحملُ ميرال التي صدحَ صوتها:
طيِّب سيبي البنت يافريدة، عايزة تاكل، ثمَّ استدعت المربية:
خدي البنت أكِّليها، ثم سحبت كفَّ فريدة وخرجت قائلة:
تعالي يافريدة عايزاكي...جلست وأشارت إليها بالجلوس، طالعتها للحظاتٍ صامتة، ثمَّ أردفت:
تعرفي أنا ماليش أخوات، بابا وماما اتوفوا في حادثة وأنا ثانوية عامة، وعمِّي اللي اتولى رعايتي، كنت بتمنَّى يكون ليَّا أخت أو أخ أقعد أحكيلهم، علشان كدا خلِّيت مصطفى يفتح لي الدار دي، أنا معايا طب نفسي وأعرف أحكم على اللي قدَّامي كويس جدًا، أنا متأكدة إنِّك كويسة وطيبة، بس الدنيا عاندتك شوية، ماتزعليش من مصطفى، طبيعة شغله شكاك، أه نسيت أقولك مصطفى دا حب حياتي كلها، يعني ماتخافيش منُّه مابيقدرشِ يزعلني، وبدل قالي خلاص صدَّقيني مش هيزعَّلِك تاني ..أنا متشوقة أسمع حكايتك، إنتِ بقالك شهر عندنا ماحاولتِش أضغط عليكي، لكن حاسة وراكي وجع كبير، وحزن عميق.
ترقرقت عيناها بالدموع، ثمَّ همست بتقطُّع:
أنا كمان حبيتِك.. إنتِ طيبة أوي، رغم إنِّك ماتعرفينيش بس دخلتيني بيتِك وساعدتيني، ربنا يجبر بخاطرك، أنا طالبة منِّك خدمة وهاكون شاكرة لحضرتِك كتير.
انتظرت غادة حديثها، فركت فريدة كفَّيها قائلة:
عايزة شغل، ولو أوضة أقعد فيها أنا وبنتي..ابتسمت غادة بمحبة، ثمَّ نهضت من مكانها وجلست بجوارها تربتُ على ظهرها:
إيه أشوفلِك أوضة دي!..بقولِّك أنا ماعنديش أخوات تقوليلي أشوفلك أوضة..دلفَ إلياس يحملُ جهازَ تحكُّمِ سيارتهِ يبكي؛
مامي الريموت اتكسر، والعربية ..قالها بشهقات، نهضت فريدة تمسِّدُ على خصلاته:
ماتزعلشِ حبيبي المهم إلياسو بخير، وبابي لمَّا يرجع هايصلَّح عربية إلياسو، استدارت إلى غادة التي تبتسمُ بمحبةٍ قائلةً: مش كدا يامامي؟..
نهضت غادة وجلست أمامهِ مثلَ جلوس فريدة:
حبيب مامي زعلان علشان الريموت، طيِّب إيه رأيك نجيب عربية شُرطة كبيرة زي بتاعة بابي لإلياسو أحسن من عربية اللصوص دي.
صفَّقَ بيديهِ وعانقَ غادة:
أحلى مامي ..ثمَّ اتَّجهَ إلى فريدة وطبعَ قبلة على وجنتيها:
أحلى أنطي فريدة، ممكن أروح أبوس ميرو بقى؟..
وضعت كفَّيها موضعَ قبلتهِ وخطٌّ كرستالي من الدموع برزَ بعينيها، وهزَّت رأسها فتحرَّكَ من أمامهم سريعًا
يصدحُ بصوتهِ الطفولي.
توقَّفت غادة تبسطُ كفَّيها إليها قائلةً بمغذى:
مش يمكن دي تدابير من ربنا علشان يكون ليَّا أخت تراعي ابني بعدي،
هبَّت من مكانها تطالعها بصدمة، سحبتها غادة وجلست تنظرُ إلى فريدة، أخرجت تنهيدةً عميقةً متمتمة:
هاقولِّك سر بس أوعديني مصطفى ميعرفش، ظلَّت فريدة كما هي تنتظرُ حديثها إلى أن تابعت غادة قائلة:
عندي القلب، وخايفة أموت في أي وقت وإلياس محتاج حد يراعيه، وخصوصًا مربيته هتتجوِّز، فإنتِ لو وافقتي تكوني مربية لابني هكون شاكرة أكيد.
أمسكت فريدة كفيها وابتسمت تهزُّ رأسها:
أكيد شيئ يسعدني، لكن مصطفى بيه مش هيوافق وخصوصًا إنُّه هوَّ مصرّ يدوَّر ورايا.
توقَّفت بمقابلها تهزُّ رأسها بالنفي:
أبدًا.. مصطفى وعدني، بس لو سمحتِ ريَّحي قلبي وقولي إن فكرتي فيكي مش غلط، إحكي لي ووعد كلِّ كلمة هاتقوليها ماحدِّش هايعرفها حتى مصطفى نفسه.
جلست فريدة وطالعتها لمدَّةِ دقائقَ بصمت، تريدُ أن تبوحَ لها مايؤلمُ روحها ولكن خائفة، لم تأتمن أحدًا بعد مامرَّت بتلكَ الظروف العصيبة.
مسحت وجهها وقامت بقصِّ حكايتها منذُ ولادتها إلى أن وصلت إلى ميرال وصمتت للحظاتٍ قائلة:
وميرال بنتي منه، حبِّيت أحافظ عليها فهربِت بيها.
طالعت غادة لترى أثرَ كلماتها عليها، وجدت دموعها تنسابُ على خدَّيها بصمت، توقَّفت تطالعها بعيونها الباكية:
اتخطف منِّك ولدين، إيه كميِّة الأذية دي!..
اقتربت دونَ حديثٍ وعانقتها بقوَّةٍ:
أنا مش عارفة أقولك إيه، أه ياقلبي اللي اتحرق عليكي.
بكت فريدة بنشيجٍ وكأنَّها لم تبكِ من قبل، دقائقَ وهي بأحضانِ غادة حتى شعرت بالهدوءِ فتراجعت معتذرة:
آسفة يامدام غادة ..حاوطت غادة وجهها مردِّدَةً بصوتٍ مفعمٍ بالبكاء:
ربنا يصبَّر قلبِك، ويرجَّعلِك ولادك بخير يارب، بطَّلي عياط بقى وجعتيلي قلبي.
ظلُّوا لبعضِ الوقت إلى أن استمعوا الى صوتِ سيارة مصطفى، توقَّفت غادة وخرجت معتذرة:
مصطفى جه، إغسلي وشِّك واجهزي علشان نتغدى، وبقولِّك آخر مرَّة أسمع منِّك هاتمشي، ميرال بنتي زي ماإلياس هايكون ابنك.
خرجت من ذكرياتها على صوتِ طرقاتٍ على بابِ غرفتها ودلوفِ ميرال.
ماما قاعدة في الضلمة ليه؟..ثبَّتت نظراتها على ميرال تطالعها بصمت، وحدَّثت نفسها، هل سينصفها القدر ويجمعُ ابنها بابنةِ عدوِّها..عدوِّها كررتها فهبَّت فزعة من مجرَّدِ وجودهِ وأخذهِ ميرال، نعم إنَّها ابنتهِ ولكنَّها لاتستطع العيشَ من دونها، وضعت كفيّّها على صدرها وكأنَّ أنفاسها تُسحبُ
جلست ميرال بجوارها تنظرُ إليها بريبة، بعدما وجدت صمتها وحالتها التي لأوَّلِ مرَّةٍ تراها بها ..
ماما..قالتها وهي تربتُ على ظهرها..
سحبت نفسًا عميقًا، وبداخلها يغلي كالبركان يريد الانفجار، لقد خانها من ظنَّتهُ أصدقَ الناس لقلبها،
ماما..أطبقت على جفنيها من صوتِ ميرال وخاصَّةً حينما نادت بأمِّها…
أه ياقلبي كيف ستصمدُ أمامَ كلَّ هذا
قاطعهم طرقاتِ الباب ودلوفِ الخادمة:
إلياس باشا بيقول لحضرتِك إجهزي علشان هاتخرجوا..فتحت فمها للحديث، أشارت لها فريدة بالتوقُّفِ قائلةً وهي تستديرُ للخادمة:
قوليله هاتجهز وتنزل..اتَّجهت لوالدتها جاحظةَ العينين قائلةً برفضٍ قاطع:
مش هاخرج معاه ياماما، سمعتيني، وأنا العلاقة دي بتخنقني، لو سمحتِ، لو فعلًا بتحبِّيني إنهي العلاقة دي، يرضيكي بنتك تتجوِّز واحد مابتحبوش..نسيت فريدة مايؤلمُ قلبها أو هكذا أقنعت نفسها وتوقَّفت تجذبُ ابنتها:
تعالي علشان أساعدِك هتلبسي إيه، أوعي في يوم خطيبِك يعزمك وترفضي عزومته حبيبتي.
مسحت على وجهها تداعبُ وجنتيها، وبحرت فوقَ ملامحها، كصيادٍ ماهر، تحدِّثُ نفسها، واخدة من جمال كتير ياميرال اللي يشوفك يقول بنته، علشان كدا اتعلِّقت بيكي، قلبي وجعني ونفسي أقولِك كل اللي جوايا حبيبتي بس مش قادرة.
فاقت من شرودها على حديثِ ابنتها:
ماما روحتي فين؟..
أه..أنا هنا ياقلبي...إيه رأيك باللون دا؟..
طالعت الفستانَ للحظات، ثمَّ تذكرَّت كرههِ للَّونِ الأزرق، فبسطت يديها تجذبُ ذاكَ الفستان متمتمة:
هلبس دا خلاص يامامي، حلو وبحبِّ اللون دا أوي.
هتخرجي مع خطيبك بفستان زي دا!..إنتِ عايزاه يتخانق معاكي وخلاص ياميرال، وبعدين إنتِ ماكنتيش وعدتيني إنِّك مش هتلبسي الفساتين المكشوفة دي؟!..
دلفت للداخلِ ولم تجب والدتها، تأفَّفت فريدة بضجرٍ من أفعالِ ابنتها، ثمَّ تحرَّكت مغادرةً غرفتها، قابلها مصطفى على بابِ الغرفة، رسمَ حزنها بعينيهِ يسحبُ كفَّها بعدما وجدَ آثارَ دموعها، وصلَ إلى غرفتهما، دلفَ للداخلِ وحاوطها بذراعيه:
لسة زعلانة مني..قالها وهو يرفعُ ذقنها يتعمَّقُ بعينيها، تراجعت للخلفِ وأنزلت يديه؛
هاخلِّيهُم يجهزولك العشا، ميرال وإلياس هايتعشوا برَّة..قالتها واستدارت للمغادرة إلَّا أنَّهُ قبض على كفيها، يجذبها لأحضانهِ هامسًا بصوتهِ الرخيم:
فريدة وحشاني، قالها وهو يحتضنُ خاصتها.
بغرفةِ إلياس يقفُ أمامَ المرآةِ يصفِّفُ خصلاتهِ مع حديثهِ بالهاتف:
إزاي يعني، وليه الشقة دي متراقبة؟..
أجابهُ شريف على الجانبِ الآخر:
ماتيجي ياعم، القضية معقربة وأنا بغرق من غيرك.،
ارتدى ساعتهِ واتَّجهَ بنظرهِ لمفاتيحهِ وهو مازالَ يهاتفه:
لا أنا مش هارجع النهاردة، وبكرة كمان..اتولى إنتَ الأمر، لحد ماأرجع.
تسائلَ على الجانبِ الآخر:
رايح فين ...خرجَ من غرفتهِ متَّجهًا للأسفلِ قائلًا:
عندي مشوار شخصي، هكلِّمَك بكرة ..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ استدارَ على صوتِ كعبِ حذائها، رفعَ عينيهِ لتلكَ التي تهبطُ درجاتِ السلَّمِ كملكةٍ متوَّجة، ظلَّت نظراتهِ على خطواتها ورغمَ هدوئهِ إلا أنَّها أشعلت فتيلَ نبضه، ليشعرَ بعزفهِ لأوَّلِ مرَّةٍ وهو يراها بعينِ الحبيب، أبحرَ فوقَ جسدها بالكامل، كقبطان سفينة ليستكشفَ لأوَّلِ مرَّةٍ مفاتنها التي تُركعُ القديس أمامَ فتنتها ..فاقَ من افتتانها على صوتِ غادة:
أوعي وشك ياميرو، إيه الجمال دا؟!..
اقتربَ منها يشيرُ إلى الأعلى:
الفستان دا يتغيَّر ومش عايز حرف.
اقتربت غادة تلفُّ حولها قائلة:
ليه ياأبيه واللهِ تحفة، واو ياميرو..
غادة ماتدَّخليش في اللي مايخُصيكيش، اطلعي أوضتِك، ثمَّ اقتربَ منها حتى اختلطت أنفاسهما عندما ردَّت:
أنا مش هاخلع حاجة، دا لبسي وماحدِّش له يدَّخل، لم تُكمل حديثها حينما ارتفعت أنفاسها جاذبًا حمَّالةَ الفستان، وهدرَ بغضبٍ ارتجَّت لهُ جدرانَ المنزل:
ومش أنا اللي مراتي تمشي تعرض جسمها قدَّام الناس، حذَّرتِك قبل كدا من العريان، بس الغبية مش واخدة من دينها غير الاسم بس.
وصلت فريدة على صياحه، حاولت الحديث، رفعَ سبباته أمامها:
مراتي ..مراتي ياريت تاخدي بالك من الكلمة، مستحيل أقبل تكون على إسمي وتخرج بالطريقة دي، لو هيَّ فرحانة بجسمها أوَّلعلها فيه..
لقد صفعَ بفعلتهِ وحديثهِ كبريائها، فدنت منهُ حتى لم يفصل بينهما سوى الهواء تنظرُ لمقلتيه:
وأنا مش مراتك، ومش موافقة عليك
قست عيناهُ وارتفعت الأنفاسُ بحربِ النظراتِ هادرًا بصوتٍ مرتفعٍ بوصولِ مصطفى إليهما:
مالكم ياولاد فيه إيه؟!..
نظرَ إلى والدهِ ثمَّ أشارَ عليها مشمئزًا:
شوف المنظر دا، الأستاذة المتربيَّة خارجة بفستان عريان مبيِّن أكتر ماخافي، لا وبتتبجح ..خطا إلى أن توقَّفَ أمامَ فريدة منحنيًا بجسده:
عرفتي تربي مدام فريدة، ولولا عيني على غادة كان زمانها متربية تربية تليق بأولادِ السيوفي.
لم تعلم ماذا يقول، كانت نظراتُ الأمومة لديها تتفحَّصُ كلَّ مابه، عينيهِ التي لأوَّلِ مرَّة تراها تشبهُ عينا زوجها الراحل، لم تشعر بنفسها سوى وهي تضعُ كفَّيها على وجههِ فجأةً تهمسُ بقلبِ أمٍّ ينزف:
يوسف ..قالتها بدلوفِ مصطفى الذي طالعها بذهول، وحاولَ جذبَ إلياس:
حبيبي أنتوا خارجين؟..كانت نظراتهِ
على فريدة التي فاقت من غيبوبةِ آلامِ روحها، مستديرةً تزيلُ دموعها قائلةً بصوتٍ مفعمٍِ بالبكاء:
ميرال غيَّري فستانِك وأخرجي مع خطيبِك ..رفعت حاجبها وشيَّعتهُ بنظرةٍ ساخرةٍ ثمَّ أردفت:
أنا مش خارجة، عايز يروح يتعشَّى يروح، دي حياتي ومالوش حق يدَّخل فيها، عجبُه على كدا عجبُه مش عجبُه يبعد عنِّي، أنا أصلًا مش موافقة على الجواز.
تبدَّلت ملامحهِ وثارَ غضبهِ ينظرُ لوالدهِ بكبريائه حينما شعرَ بالدماءِ تغلي بعروقهِ من فظاظةِ حديثها وهدرِ رجولتِه:
البنت دي ماتلزمنيش، وهاطلَّقها، قالها وتحرَّكَ للخارج.
صدمةٌ عنيفةٌ أصابت فريدة ملتفتةً إلى ميرال تهدرُ بها بعنف:
روحي صالحيه، إمشي روحي صالحي خطيبك ..طالعتها بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ أردفت:
أنا ماغلطِّش فيه علشان أصالحُه، وأحسن حاجة هايعملها،معرفش ليه مصرِّين أنُّكم تجوزونا وأنتم متأكدين إنِّنا ماننفعشِ لبعض.
قالتها وتحرَّكت تختبئُ بغرفتها، هوت على فراشها وهنا تركت لعينيها السماحَ بالإفراجِ عن ألمِ روحها، تمدَّدت تحتضنُ نفسها وتبكي بصمت، مع أنينِ قلبها الذي ينزفُ دونَ شعورِ أحدهم.
عندهُ.. خرجَ إلى سيارتهِ قابلهُ إسلام بهيئةٍ جعلتهُ يقفُ مذهولًا ينظرُ إليهِ بلهفة:
مالك إيه اللي عمل فيك كدا وليه مختفي من الصبح؟!..
توقَّفَ أمامهِ ينظرُ إليه بدموعٍ تحجَّرت تحتَ جفنيهِ يحدِّثُ نفسه:
إزاي يكون مش أخويا، معقول بعد السنين دي كلَّها نكون عايشين في وهمِ الأخوَّة، اقتربَ إلياس بعدما وجدهُ شاردًا يربتُ على كتفه:
إسلام سامعني...رفعَ عينيهِ التي خطَّت الكثيرُ من الدموعِ على وجنتيهِ رغمًا عنه، ولم يشعر بنفسهِ سوى وهو يلقي نفسهِ بأحضانهِ يبكي كالفتاةِ التي فقدت والديها ..ربتَ على ظهرهِ وشعور الصدمة سيطرَ على جميعِ خلاياه، ظلَّ صامتًا لم ينبت ببنتِ شفة حتى يهدأ، صمتَ لدقائقَ معدودة، سحبَ كفَّيهِ يشيرُ إلى السيارة:
تعالَ نروح نتعشى مع بعض.
هزَّ إسلام رأسهِ بالنفي وتمتمَ بتقطُّع:
لا أنا هاطلع أنام شوية وأقوم علشان عندي مشروع اشتغل عليه.
أشارَ بعينيهِ على سيارتهِ قائلًا دونَ جدال:
مش باخد رأيك، إركب العربية، قالها وهو يستديرُ إلى القيادة يرفعُ هاتفهِ يحدِّثُ أحدهما بخفوت:
إسلام أخويا كان فين؟..أجابهُ الآخر:
من وقت ماخرج من البيت قعد شوية في المسجد، وبعدين لف بعربيته لحدِّ ماوصل جبل المقطَّم، قعد عليه يجي ساعتين ورجع تاني..
تمام ..قالها وأغلقَ ثمَّ استقلّّ السيارة بجوارهِ إلى أن وصل إلى أحدِ المطاعمِ المشهورة، دلفَ للداخلِ ووصلَ إلى طاولتهِ المخصَّصة كلَّما أتى إلى ذاك المطعم، ابتعدَ إسلام بنظراتهِ يتجوَّلُ بعينيهِ بالمطعم إلى أن قاطعهُ إلياس:
تاكل إيه؟..
أي حاجة ..طلبَ طعامًا لهما وظلَّ الصمتُ سيِّدَ المكانِ إلى أن تحدَّثَ وهو يشعلُ سيجارته:
سامعك..قالها وهو يطالعهُ بتدقيق، وصلَ الطعامُ فتوقَّفَ عن الحديثِ ومازالت نظراتهِ تحاصره، ابتلعَ إسلام غصَّةً مدبَّبةً وكأنَّ روحهِ تُسحبُ لبارئها يفكرُ بتلكَ المعضلة، يعلمُ أنَّهُ لم يتْركُه، تذكَّرَ تلكَ الفتاة التي قابلها بالجامعة، فرفعَ رأسهِ قائلًا بثباتٍ اكتسبهُ من مواجهاتهِ مع أخيه:
متخانق مع البنت اللي بحبِّها.
زوى مابينَ حاجبيهِ ثمَّ أخرجَ زفرةً متهكِّمًا من حديثه:
بنت، إنتَ أهبل بت تعمل فيك كدا، ماتخلينيش أرمي الطبق دا في وشَّك، هيَّ ناقصة غباء قالها وهو ينفثُ تبغهِ بغضب، وكأنَّ حديثهِ أخرجَ نبضهِ لينتفضَ بداخلهِ عندما تذكَّرَ عنيدته.
أشارَ لهُ بالطعامِ مبتعدًا عن دقَّاتِ قلبهِ العاصية، قائلًا بثباتٍ انفعالي:
إتعشى، أهو أحسن من الهبلة اللي كنت ناوي اتعشى معاها.
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
قصدك مين، لم يرد عليه واتَّجهَ بنظرهِ للطعامِ وهناك قبضةً قويَّةً تحرقُ صدرهِ من صدى صوتها بالإجبارِ على زواجها.
عندَ ميرال دلفَت غادة إليها وجدتها تحتضنُ نفسها كالجنين، جلست بجوارها تمسِّدُ على خصلاتها:
ميرو حبيبتي هاتفضلي كدا، ماغيرتيش ليه؟..أطبقت على جفنيها حتى شعرت وكأنَّ هناكَ وخزاتٍ تحرقُ مقلتيها، فهمست بتقطُّع:
سبيني عايزة أنام..تسطَّحت بجوارها تتلاعبُ بخصلاتها قائلة:
أقولِّك سر..ظلَّت ميرال كما هي إلى أن تابعت غادة حديثها قائلة:
ماعرفشِ ليه النهاردة حسِّيت إن إلياس مغرم بيكي ياميرو.
رفعت رأسها تُطالعها بلفهةٍ من عينيها لتؤكدَ لها ما وقعَ على مسامعها، استندت غادة على خديَّها ورفعت أناملها تخللها بداخلِ خصلاتِ ميرال
مردِّدة:
قرأت شوية معلومات كدا علشان أعرف إمتى هتحَّب يعني ..قالتها بشقاوتها. اعتدلت مرام تلملمُ خصلاتها وتدفعُ كفَّيها:
بَوظتي تسريحتي ياغبية..
رفعت حاجبها وأردفت ساخرة:
تسريحة إيه ياختي، اللي يسمعك يقول البت خارجة مع حبيبِ القلب، دنت تغمزُ بعينيها:
إنَّما يابت يامرمر عايزة تطَّلقي من العسل أخويا ولَّا إيه؟..هبلة وعبيطة، بقولِّك بيحبِّك ودا شوفته النهاردة لأوَّل مرَّة أشوف إلياس بالجنان دا، أه هوَّ شديد وأنا مانكرشِ أنُّه معظم الوقت كدا، بس عيونه عليكي كانت غير، وصلني إحساس غيرة نارية بتخرج من عيونه، لكزتها وتابعت حديثها:
مش تحكُّم زي ما حضرتك قولتي، بدليل لبستي الفستان دا في عيد ميلادي وماعملشِ كدا، ليه دلوقتي اتجنن، اعتدلت جالسةً تنظرُ لأناملها قائلة:
عدِّي معايا ياستي، عيد ميلادي ماكنشِ فيه شباب غير إسلام أخويا وصحباتي اللي فيهم بنت هتموت علشان إلياس بس يكلِّمها، عرفاها طبعًا وعارفة إنَّها بتيجي هنا علشانُه، ثانيًا خروجك بالفستان دا عيون كتيرة هاتشوفِك وإنتِ عارفة جنانُه لو حد بصِّلِك، رابعًا دا الأهم عنده، شايف إن دا حرام، وإنتِ ملاحظة كلامه ليَّا طول الوقت عن اللبس، بلاش ضيِّق ياغادة، بلاش قصير ياغادة، بلاش عريان ياغادة ..يعني مش تحكُّم زي ما حضرتِك بتقولي، يبقى ليه شوفتيها كدا، ماخبيش عليكي الفستان ظاهر صدرك كلُّه، وحضرتِك كمان رافعة شعرك، يعني منيِّلاها من كلِّ حتة، وأنا حاولت أفهمِّك بطريقتي بس الغباء راكب دماغك.
ليه قولتي أنُّه بيحبِّني..قالتها بتقطُّع.
ابتسامة جميلة زيَّنت ملامحَ غادة لتقتربَ منها وتحدجها بمقلتيها:
علشان متأكدة إنِّك كمان بتحبيه، حتى لو أنا ماعرفتِش أترجم مشاعره كويس، إلياس من النوع اللي عنده كنترول كويس، بس حاسة إن جواه مشاعر، بدل ماكل شويَّة تسمِّميه بالكلام وإنتِ عارفة أنُّه مابيحبِش اللي يقرَّب من رجولته، كل شوية أنا مش موافقة ..كانت تقفُ على بابِ الغرفة تستمعُ إلى حديثهما، اقتربت منهما وأكملت حديثَ غادة:
الراجل لو بيموت في ست وحاولت تقلِّل منُّه، صدَّقيني بيدوس عليها ويمشي، وأنا لو عندي شك في إلياس ماكنتِش وافقت، اسمعي مني حبيبتي ، اختاري الراجل اللي يحميكي من أذى الدنيا والغدر، مش بتاع كلام حنيِّن وأشعار، وضعت فريدة يدها على صدرِ ميرال تنظرُ لعينيها:
اسمعي دا، وأنا متأكدة إن دا عندُه غير العند اللي بتحاولي ترسميه قدَّامه.
اعتدلت فريدة تسحبُ كفَّ غادة قائلة:
دودي تعالي معايا نعمل كيك حلو ونحضَّرُه علشان الساعة اتناعشر عندنا ظابط كاريزما وحلو عيد ميلادُه بكرة، إيه رأيك نحتفل بيه أنا وانتِ؟..
رفعت غادة كفَّها تضربها بكفِّ فريدة
وعرفت كمان أنه خرج راح مطعمه المفضل، ياله يمكن بنت حلوة من صاحبه تقابله صدفة تتعشى، ولا البت صاحبة اسلام اللي ماشية تحب على نفسها ...قالتها وخرجوا الاثنتين وهما يضحكون.
نهضت من مكانها سريعًا وتوجَّهت إلى
خزانتها وقامت بتبديل ثيابها متجهة إلى ذاك المطعم، دلفت للداخل تبحث عنه وجدته يجلس بمقابلة اسلام ينظر للنيل بشرود فاق من شروده على صوتها
-قولت غيري الفستان، مش هستناكي في المطعم، توقف اسلام يحمل هاتفه
-أنا همشي بقى، عندي مذاكرة كتير، انحنى يهمس إليها
-معرفش ايه اللي حصل بس شكلك متقلة العيار شوية
-إنت مش قولت ماشي...قالها إلياس هو يشير إليه بالتحرك..لوح لميرال
-باي ياميرو اشوفك في البيت يامرات اخويا
دقائق من الصمت بينهما حتى حمحمت معتذرة
-آسفة..لم يكترث لحديثها وظلت نظراته للخارج
-بكلمك على فكرة، من الاحترام تدي أهمية للست اللي قاعدة قدامك
-ست ..قالها مستنكرًا، فين الست دي مش شايف غير واحدة كل حياتها شتيمة وبس
-إنت اللي بتوصلني لكدا، هو ليه دايما الراجل مابيطلعش نفسه غلطان، ودائما الست هي الكائن الضعيف اللي بيغلط، رغم أنه مايقدرش يعيش من غيرها لأنها مهمة جدًا في حياته ..التفت اليها سريعًا:
مين قالِّك إن للستِّ أهميَّة في حياةِ الراجل...احتضنت كوبها بين راحتيها، وحدجتهُ بنظرةٍ جوفاءٍ متمتمة:
الصح اللي يتقال إنِّ الراجل مالوش أهمية من غير الست..
ارتفعت ضحكاتهِ بصخب، ثمَّ سلَّطَ عينيهِ عليها وأردفَ بنبرةٍ مصبوغةٍ بالتكبُّر:
وإيه الأهمية ياستِّ الفيلسوفة؟..
شملتهُ بنظرةٍ ساخرة، ثمَّ رفعت كوبها ترتشفُ منهُ وتابعت حديثها:
لولا الست ماكُنتش موجود دلوقتي، ونافخ ريشَك زي الطاووس المغرور..
الستِّ اللي حضرتَك مستهون بيها دي هيَّ اللي عملتلَك قيمة في المجتمع، ولو الرجَّالة كلَّها زيَّك ياريت الستات تتمنع عن الجواز..أنهت حديثها متوقِّفةً تجمعُ أشياءها:
حاسب على المشاريب ياسيادة الراجل المنفوخ أنا غلطانة اصلًا اني جيت وراك
ألجمتهُ بحديثها، حتى أحسَّ بإرتفاعِ ضغطِ دمهِ ليهبَّ متوقفًا
يقبضُ على ذراعها بقوَّة:
قوليلي اعمل فيكي ايه، بحاول امسك نفسي بالعافية علشان مضربكيش
-تضربني انت اتجننت..استمع الى صوت الموسيقى، فسحبها بقوة حتى كادت أن تسقط، وخرج من المطعم
فتح باب سيارته وألقاها فيها بغضًبًا جم مستديرًا إلى القيادة، جلس يسحب نفسًا يهز رأسه ودقات قلبه تخترق صدره
-نكمل في بيتنا أهو يلمنا، عجبك الفضايح دي، على اخر الزمن الناس تبصلي كدا لا ويفتحوا ميوزك علشان الناس متسمعش زعيق الهانم
وصل بعد قليل يشير إليها بالنزول
-انزلي..اتجهت بجسدها إليه وحاولت الحديث، أشار بسبباته
-انزلي مش عايز ولا كلمة ..
-بارد وتقيل ..قالتها وترجلت تدفع الباب تسبه ..ظل جالسا للحظات يهز رأسه مرددا
-وبعدهالك يابنت فريدة، هتعملي فيا اكتر من كدا ايه
دلفت للداخل ومازالت ملامحها تنم بالغضب الساحق،
كنتي فين ياميرال
اجاب أخته من الخلف مقتربا منهما
-كنت عازمها على عشا رومانسي مش كدا ياروحي..قالها وهو يحاوط خصرها بذراعيه، حاولت التملص من بين قبضته تطالعه بنظرات نارية، ولكنه اقترب يهمس بجوار أذنها
-هطلع اغير هدومي علشان نكمل العشا في اوضتي..قالها متراجع ينادي على الخادمة
-اعمليلي عشا مع ...توقف وعيناه تحاورها بمكره
-مراتي البايرة..قالها وتحرك وهو يطلق صفيرا..أشارت غادة عليه مصدومة
-مين دا؛ دا اخويا، عملتي فيه ايه؟!
توقفت عن الحديث، على صوت فريدة
- إلياس طالب عشا اومال كنتوا بتعملوا ايه ..ضربت أقدامها بأرض متحركة
-لازم اشرب س. ...م فيران علشان اخلص من البارد دا، صرخت بوالدتها
-أنا قولت دا مش بتاع جواز، دا آخره يوقفوه على منصة الاعد. ام...توقف على الدرج يرمقها بصمت ، أخرج هاتفه الذي صدح بالمكان ثم أجاب وتحرك للخارج قائلا
-عشر دقايق وأكون عندك
هزت فريدة رأسها باستياء من أفعالها، ثم تركتها وتحركت ..توقفت غادة أمامها
-معرفش الصراحة ليه الكلام دا ياميرال، يعني خرجتي ،وهزرت قدامه علشان ميعرفش، وبرضو مصرة تخسريه، على العموم مااظنش إن إلياس هيسكت بعد كدا ..قالتها وتحركت
دلفت إلى غرفتها تتجول بنظراتها بكل مكان ترسم لنفسها احلامًا وردية تريد أن يخرج من ركنا بها، وصلت لذاك الصندوق جلست وسحبته لتفتحُه، جلست تُخرجُ مافيه من بعضِ ذكرياتهما، نعم لم يكن لهما ذكرياتٍ مع بعضهما البعض منذُ أكثر من عشرِ سنوات ولكن هناك الكثير من الصور التي تجمعهم بأعيادِ ميلادهما، أخرجت تلكَ الساعة التي جلبها لها بإحدى أعيادِ ميلادها، ملَّست عليها وابتسمت على ذكرياتها كانت بعيدِ ميلادها السبعة عشر عامًا، أرسلها مع غادة مع تلكَ البطاقة التي يدَّونُ داخلها " كلِّ سنة وإنتِ طيبة"
رغمَ أنَّها خالية من المشاعر ولكنَّها تحوي الكثير من دقَّاتِ قلبها، أخرجت صورهما تنظرُ إليهم بعيونٍ سعيدة، تُحدِّثُ نفسها
من هذا الرجل، أيُعقَل يكنُّ لها مشاعر، تلكَ الملامح الجافَّة ذاتَ الخشونةِ الرجوليةِ تحملُ مشاعرَ حب!..
ظلت بفترة تفتش بأشيائها عن شيئا يبرد نار قلبها
استمعت إلى صوتِ سيارتهِ بالأسفل، فنهضت تنظرُ من خلفِ الستارة عليه،، حانت منهُ التفاتة إلى الأعلى ليجدَ ظلَّها خلفَ الستارة،
تحرَّكَ للداخلِ غاضبًا، وبداخلهِ نيران قلبهِ الذي يتجاهلها، صعدَ إلى غرفتها وطرقَ البابَ عليها، استمعَ إلى صوتها الباكي ليكوِّرَ قبضتهِ بعنفٍ حتى ابيضت، دلفَ للداخلِ وجدها كما هي بفستانها، اقتربَ منها وتعمَّقَ بالنظرِ لحالتها الحزينة، تنهيدةٍ عميقةٍ مع زفرةٍ مختنقةٍ قبلَ أن يتحدَّث، جلسَ على المقعدِ بمقابلتها قائلًا بصوتٍ جاف:
الصبح إجهزي هاخدِك معايا قبلِ الشغل ، نعدِّي على المأذون، حبِّيت أطمِّنك علشان تعرفي تنامي كويس، أشارَ على فستانها:
قومي غيَّري هدومِك، ولو عايزة تلبسي هدوم عريانة أكتر من كدا براحتِك، مش هادَّخل تاني، وزي ماقولتي تحت حياتك وإنتِ حرة فيها، انا شخص بارد مالوش في جواز الكيوتة اللي زيك
قالها ونهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى الباب ، ليتوقَّفَ على صوتها الغاضب:
في الآخر أنا اللي غلطانة، في الآخر أنا الوحشة وإنتَ الملاك، أنا اللي بغلَط ومش عايزاك وإنتَ اللي بتعشقني وبتموت فيَّا.
كان يستمعُ إلى صوتها الباكي ليشعرَ بتراخي أقدامِه
استدارَ يرمُقها بوجهٍ خالٍ من المشاعر، متسائلًا:
بتعيَّطي ليه؟..مش هم غاصبينك على جوازة البارد، أقبلَ عليها بخطواتهِ الثابتة وعينيهِ تحاورها بعتابٍ خرجَ من قلبهِ قبلَ لسانهِ مردِّدًا وهو ينحني بجسدهِ لمستوى جلوسها وغرز عيناهُ بمقلتيها:
تأكدي ياميرال لو روحي فيكي ودستي على رجولتي، أعدِّي عليكي مايهمنيش أي حاجة ..قالها واعتدلَ متراجعًا للخلفِ وتابعَ بأسى ظهرَ بحديثهِ رغمَ محاولتهِ الثبات:
من وقتِ ماطلبتِك للجواز وبتغاضى عن هزارِك البارد، استدارَ بجسدهِ وأشارَ إليها بسبباتهِ هادرًا بها بعنف:
إنتِ مش لسة طفلة هاقعد أدلَّع فيكي، اقتربَ مرَّةً أخرى وأردفَ من بينِ أسنانهِ بهسيس:
أنا لو شاكك واحد في المية بس إنِّك فعلًا رافضة الجوازة دي ماكنتش اتجوزتِك، بس ليه بتحاولي تستفزِّيني ماعرفش، ليه كلام العيال بتاعِك دا ماعرفش، أنا مش لسة بتعرَّف عليكي، ولا لسة صغير وماعرفشِ اللي قدَّامي كويس، اتنيِّلت وقولتلك عايز أتجوِّز علشان أكوِّن أسرة، فكَّرت بعقلي بسنِّي دا ليه ماتجوزشِ وأعمِل أسرة؟..، توقَّفَ عن الحديثِ عندما خرجت عن صمتها وتوقَّفت تتمتمُ بخفوتٍ متسائلة:
ليه أنا، مش أنا اللي كنت بحاول ألفت نظرك، مش أنا البنت اللي أمَّها بتخطَّط إزاي تسيطر عليك زي ماسيطرِت على أبوك..
شحبت روحهِ وتعرَّى أمامها عندما عجزَ عن الرد..دنت منهُ وتابعت حديثها وهي تحاورُ عينيهِ بكثيرٍ من الألم:
مش أنا البنت اللي كنت بتعطف عليَّا بعيد ميلادي لمَّا تبعتلي هديِّتي مع أختك، مش أنا البنت اللي مستحيل تربط نفسك بيها، مش أنا البنت اللي أخدت منَّك انتباه الكُل، ظلَّت تخرجُ قيحَ مافي صدرها حتى لا تعلمَ كيف وصلت إلى أن أصبحت أمامهِ ولم يفصل بينهما سوى أنفاسهما التي تعالت بكثيرٍ من الغصَّاتِ التي تخترقُ روحيهما، تعمَّقت بعينيهِ القريبة:
ليه ياإلياس، ليه أنا اللي فجأة قررت تتجوزها وتكوِّن أسرة مع إن أمها ست مش ولا بد.
انهارت كلَّ حصونهِ أمامها وعجزَ عن كلِّ شيئٍ من شعورهِ القاسي الذي شعرَ به من أعيرتها النارية التي توجَّهت إلى صدره، وقفَ كالجندي الذي سُلبَ سلاحهِ أمامَ عدوِّه ..دنت خطوةً أخرى ولم تكترث لذاكَ القربَ الجحيمي وهمست بجوارِ أذنهِ حتى شعرَ بأنفاسها الناعمة تضربُ وجنتيهِ وشفتيها التي لمست أذنه:
أنا مش عايزة أطَّلق ياإلياس، وهفضل على ذمِّتَك، بس عايزة إلياس بتاع طفولتي إلياس اللي قدامي دا مش عايزاه، أما لو عايز تفضل كدا انا برضو موافقة عليك ..توقَّفت وتعلَّقت عيناها بعينيهِ وأردفت بنفسِ خفوتها:
علشان تعرف تكسر قلبي اكتر واكتر
تراجعت للخلفِ بعدما أصابت هدفها وتابعت حديثها:
عايز تاخد حقَّك من بنتِ الست اللي مفكَّرها السبب في موت والدتك، تمام أنا جاهزة، بس بلاش دور مش دورك ... ودلوقتي إنزل لعمُّو مصطفى وحدِّد الفرح، لأننا لسة بينا جولات كتيرة يازوجي المستقبلي.
أطلق تنهيدة حارة من لهيب العشق المدفون، يرفع مقلتيه إليها
-دا كل اللي فهمتيه، الانتقام، يعني بقول نبني بيت وعيلة وانتِ بتقولي هتجوزك علشان الانتقام
طالعته لبرهة عاجزة عما يفكر به، وضعت كفيها على ذراعه وتمتمت
-طيب قولي ليه ..ريح قلبي وقولي أنتِ غلط
انحنى يدمغ جبينها بقبلة دافئة ثم ربت على ظهرها
-لا إنتِ غلط ياميرال ، عمري ما فكرت انتقم منك، ومش من شخصيتي انتقم من واحدة ست، رفعت عيناها وتسائلت بخفوت
-طيب ليه أنا، ريح دا ..قالتها وهي تشير على قلبها ، نظر محل قلبها ثم رفع عيناه إليها
-خليه يرتاح ياميرال مفيش غيرك ينفعني ولا فيه غيري ينفعك احنا الاتنين بنكمل بعض
-طيب والحب!!
نظر إليها بقلب مهشم وأعين ماتت بها الحياة مردفًا
-الامان أهم من الحب، الاحتواء والحنان أهم من الحب ..قالها و
تحرَّكَ مغادرًا قبلَ أن يفقدَ سيطرته، فلقد حاولَ استجماعَ ذاتهِ الضائعة التي بعثرتها بكلماتها
دلفت غادة بعد خروجه بفترة
-التورتة خلصت، قومي البسي حاجة حلوة وشيلي وش حضرة العمدة في الزوجة التانية وقربي من خطيبك، قربي منه وبعد كدا احكمي عليه، مش طول دا بارد دا معرفش ايه ..قالتها وتحركت للخارج ..جلست فترة تنظر لتلك الكعكة ثم توقفت وحملتها متجهة إلى جناحه
جالسًا بشرفة غرفتهِ على الشيزلونج، مغمضَ العينين يستمعُ إلى موسيقى أجنبية، وحديثها يتردد بأذنه، دلفت تحملُ كعكةَ عيدَ ميلادهِ.. وضعتها على الطاولة، وبحثت بعينيها عنهُ وجدته غافي بالشرفة، ظنَّت أنَّهُ مستغرقًا بنومه، اقتربت بهدوءٍ حتى لا توقظهُ، شعرَ بوجودها من رائحتها التي تسلَّلت إلى رئتيه، ورغمَ ذلكَ ظلَّ كما هو، اتَّجهت إلى مشغِّل الموسيقى وأغلقته، وجلست بجوارهِ تسبحُ بعينيها على ملامحهِ الوسيمة، ابتلعت ريقها وهي تمدُّ كفَّها على خصلاتهِ للحظات..تنهيدةٍ عميقةٍ أفلتتها من ثنايا روحها تداعب خصلاتهِ وتهمس:
ماعرفشِ إن كنت بتكرهني فعلًا ولَّا مجرَّد عند وخلاص، بس تأكَّد عمري ماكرهتك، بالعكس كنت بشوفَك حاجة كبيرة أوي، ماعرفشِ رغم اللي عملته بس ماعرفتِش أكرهك، وأتمنَّى إنتَ كمان تبادلني شعوري، أفلتت ضحكةً خافتةً واقتربت تطبعُ قبلةً على وجنتيه:
كلِّ سنة وإنتَ طيب يأسي، ماعرفش لسة فاكر ولَّا لأ، ظلَّت للحظاتٍ تراقبهُ بعينيها، ثم توقفت وغادرت الغرفة ...فتحَ عينيهِ
ينظرُ لطيفها الذي اختفى، ليعتدلَ جالسًا يمسحُ على وجهه، يشعرُ بتناقضٍ شديدٍ بحالته، ورغم تناقضهِ وفكرهِ المتردِّدَ بعقله الذي يُنكرُ حماقةَ دقَّاتهِ داخلَ قفصهِ الصدري، إلا أنه تمنى عدم خروجها من غرفته، اغمض عيناه وهناك شعور يراوده بالوصول إليها وسحقها بأحضانه ولكن كبريائه يرفض ذلك، ذهبَ ببصرهِ لتلكَ الكعكةِ التي وُضعت على الطاولة، نهضَ من مكانهِ ينظرُ إليها بتدقيق.. علمَ بأنَّ فريدة من أعدَّتها.
أمسكَ هاتفهِ قائلًا:
مستنيكي في الاوضة، اوعي ممتجيش جلسَ على الطاولة ومازالت نظراتهِ على تلكَ الكعكة، مرَّت عدَّةُ دقائقَ إلى أن استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتهِ لتدلفَ قائلة:
دلفت بخطواتٍ بطيئةٍ إلى أن توقَّفَ أمامها يشيرُ إلى الكعكةِ قائلًا:
حد يجيب حاجة ويرميها كدا ويمشي؟..
طالعتهُ مستفهمة، سحبَ كفَّها إلى أن أصبحت بجواره:
جبتي دي ومشيتي ليه؟..
رفعت رأسها قائلة:
لقيتَك نايم ماحبِّتش أقلقَك..ثبَّتَ عينيهِ
وسحبَ كفَّيها وأجلسها بجوارهِ وظلَّ يطالعها لعدَّةِ لحظات..وذكرياتهِ معها كشريطٍ سينمائي ..هاجَ القلبُ بالنبضِ حينما ابتسمت تغمزُ بعينيها:
حلوة وزي القمر صح..،
حاوطَ كتفها يضُمُّها لأحضانهِ وأطلقَ ضحكةً رجوليةً صاخبةً جعلت قلبها يتقاذفُ بينَ ضلوعها، لترفعَ وجهها تنظرُ إلى ملامحهِ عن قرب، حتى فقدت السيطرة على نبضِ شقِّها الأيسر، لترفعَ أناملها على وجههِ بلحظةِ هروبِ العقل وتحكُّمِ القلبَ هامسةً بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء:
تعرف ماشفتِش ضحكتك من إمتى، تجهَّمت ملامحهِ فجأةً وانقلبَ حالهِ وكأنَّ الذي أمامها غيرَ الذي كان يضحكُ منذُ لحظات، توقَّفَ وجذبَ سجائرهِ مبتعدًا بنظرهِ عنها:
حبيت أشكُرك على التورتة، بس أنا ماليش في الحلويات، والمفروض تبقي عارفة ..
خطت إلى وقوفهِ وتوقَّفت أمامه:
إيه رأيك نبدأ صفحة جديدة، ننسى المشاكل اللي بينا ونقرَّب من بعض مش يمكن علاقتنا تكون غير؟..
احتضنَ وجهها وانحنى ينظرُ لعينيها:
ميرال إنتِ ليه مفكَّرة إنِّك عدوتي، مانكرشِ أفعالك مزعجة، بس دا مايديش إنِّي بكرهك،
طيب بتحبِّني؟.،
تجمَّدَ بوقوفهِ للحظات، وسحبَ كفَّيهِ مبتعدًا عنها وسلَّطَ عينيهِ على الكعكة:
خدي التورتة وانزلي عايز أنام ماليش في شغل البنات وأعياد الميلاد دي.
هزَّت رأسها، وانسحبت تحملُ تلكَ الكعكةَ مع الغصص التي انتابت حلقها، أطبقت على جفنيها، فيكفي إذلالًا له على سرقةِ بعض لحظاتٍ تجمعهم.
بمنزلِ يزن:
أفاقَ من نومهِ على صوتِ هاتفه:
أيوة..
الباشمهندس يزن؟.،اعتدلَ على الفراشِ يعدلُ من تمرُّدِ خصلاتهِ وأجابها بصوت ٍ مفعمٍ بالنوم:
أيوة يافندم مين معايا؟..
أنا رحيل العمري ..ظلَّ صامتًا إلى أن استمعَ إلى حديثها:
الباشمهندس مالك العمري منتظرَك بكرة في مكتبُه الساعة تسعة.،
تمام ...قالها وأغلقَ الهاتف دونَ حديثٍ آخر ..استمعَ إلى صوتِ أخيهِ وأختهِ بالخارج، نهضَ من فوقِ الفراشِ وتحرَّكَ للخارج، ينظرُ بساعةِ الحائط:
مالكم صوتكم عاالي ليه؟..
أشارَ معاذ على إيمان ..أبلة إيمان مش مخلياني أنام، و أنا نعسان.
رفعَ حاجبهِ لإيمان قائلًا بمزاح:
إخص عليكي ياإيمان، ليه تحرميه من النوم أبلة إيمان؟…
ضحكت إيمان قائلة:
بيهرب من المذاكرة، هوَّ هاينام دلوقتي!.. دا لسة الساعة تسعة
حاوطَ كتفهِ وتحرَّكَ لغرفةِ المعيشة:
تعالَ يامعاذ، هاشوفك عامل إيه في الهندسة وبعدين نام، قاطعهم صوتُ رنينُ جرسَ الباب، تحرَّكَت إيمان إلى الباب وفتحته..توقَّفَ كريم:
مساء الخير ياإيمي..
نظرت للأسفلِ بخجلٍ قائلة:
أهلًا يادكتور كريم، استمعَ إلى صوتِ يزن
تعالَ يادوك...
عامل إيه ياهندسة...أشارَ لهُ بالجلوسِ قائلًا لأخته:
إعمليلنا قهوة ياإيمي ...حمحمت وهتفت بخفوت:
أنا جهزت العشا، إنتَ ماتغديتش..
اتَّجهَ ببصرهِ إلى كريم متسائلًا:
تاكل يالا، ماليش نفس لو هاتاكُل معايا وتفتح نفسي هاكل ...قالها كريم بشقاوة ...أشارَ إلى أخته:
جهزيه حبيبتي، اقتربَ منهُ يلكزه:
مافيش أخبار عن الراجل اللي أنقذته؟..
تراجعَ بظهرهِ يمسحُ على وجههِ وأجابه:
بنته لسة مكلماني.،
زوى مابينَ حاجبيهِ متسائلا:
عايزة إيه؟..هزَّ كتفهِ للأعلى والأسفل قائلًا :
ماعرفش ومش رايح..
ليه ماترُحشِ، روح شوفه عايز إيه.
أطبقَ على جفنيهِ قائلًا:
أكيد عايز يعوَّضني، أصل الناس اللي زي دي كل كلامهم مقابل.
جذبَ كريم تفاحةً من أيدي معاذ وهتف:
عارف الراجل دا قريب المحروس عريس خطيبتَك الصفرة.
ضيّّقَ عينيهِ محاولًا استيعابَ حديثه، بدأ يلوكُ التفاحة مستلِّذًا طعمها وتحدَّث إلى معاذ
أنتوا بقيتوا أغنيا إمتى يابني وجايبين تفاح أمريكاني!..ضربهُ يزن على رأسهِ بخفَّة:
اتلَّم ياحلوف، عايز أعرف إزاي بقيت دكتور..توجَّهَ بنظرهِ يفتحُ كفَّيهِ مازحًا:
كنت نايم فأمي صحتني وقالتلي مبروك ياكيمو بقيت دكتور جراحة قد الدنيا.
قهقهَ يزن عليهِ يضربُ كفوفهِ ببعضهما:
ربنا يعينِّي عليك...دلفت إيمان قائلة:
العشا جاهز ياأبيه، نهضَ يسحبهُ من كفِّهِ إلى مائدةِ الطعام متسائلًا:
ماقولتليش إزاي مالك العمري بيكون يقرَب الواد؟..
جذبَ المقعدُ وعينيهِ على تلكَ العصفورة التي تضعُ الطعامَ أمامَ معاذ ليلكزهُ يزن:
مش بترد ليه
أه..أرُّد على إيه؟..صمتَ ولم يعلِّق على حديثه، فحمحمَ معتذرًا:
من قرابة الأم، عرفت بالصدفة، رحيل دي المالك الوحيد لمجموعةِ العمري عندها خال وخالتين، واحدة بتكون أم المحروس والتانية قاعدة في ألمانيا، أه وفيه واحدة تانية بس ميتة.
استمعَ إليه بإنصاتٍ متسائلًا:
إنتَ بتعرف الأخبار دي منين؟..
لوَّحَ بكفيه قائلًا:
أووووه دا أنا مخبر قديم أوي يابني…
ألقاهُ بشريحةِ خيار:
اتكلِّم عدل وجاوب وبس، الأخبار دي بتيجي لك إزاي؟…
لو مكنتش تحلف..شيَّعهُ بنظرةٍ حذرةٍ فأجابه:
شهاب ..إنتَ نسيت إن الراجل انضرب بالنار وقعد ليلة في بيتك، وشهاب استلم القضية كان لازم يعمل فحص عائلي فحكالي عرفت كدا ارتحت.،
وضعَ الطعام بفمهِ يلوكهُ بهدوءٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ وأجابه:
لا مارتحتِش...ذهب بذاكرتهِ إلى تلكَ الليلة قاسيةَ البرودةِ منذُ أسبوعٍ عندما دلفَ إلى منزلهِ ووجدهُ غارقًا بدمائه، يتشبثُ بقميصهِ قائلًا:
إنقذني عايزين يقتلوني...صمتَ للحظاتٍ وبعدَ رجاءٍ دامَ لدقائقَ ساعدهُ بالوقوفِ واتَّجهَ بهِ إلى منزلهِ، فتحَ البابَ ودلفَ بعودةِ التيارِ الكهربائي:
يزن مين دا؟..أشارَ إليها بالدخول:
إيمي أدخُلي إعملي أي عصير، لمَّا أكلِّم كريم..وصلَ كريم بعدَ فترةٍ وقامَ بالكشفِ عليه..فاتَّجهَ بنظرهِ إليه:
لازم ننقله مستشفى..
هيَّ الإصابة خطيرة...تسائل بها يزن؟.. هزَّ رأسهِ بالنفي واستأنفَ مستطردًا:
دا رجل أعمال مشهور، عارف يعني إيه ينضرب في بيتَك؟.. دي مصيبة، لازم ناخدُه المستشفى وهمَّا يتعاملوا معاه، هانقول لقيناه قدَّام البيت.
تخصَّرَ قائلًا:
مادا اللي حصل فعلًا:
سحبهُ من ذراعهِ يشيرُ إلى الرجل:
يابني دا لو حصلُّه حاجة الدنيا هاتتقلب عليك بلاش اسمع مني، إصابتُه محتاجة عملية ماينفعشِ أخرَّج الرصاصة هنا
قطعَ حديثهما صوتُ الرجل:
عايز تليفون، اتِّصل ببنتي قالها بينَ الوعي واللاوعي ...اقتربَ منهُ كريم بعدما وجدَ شحوبَ وجهه، ثمَّ أشارَ إلى حقيبته:
هات الشنطة أحاول أعمل حاجة لحد ما نشوف هانعمِل إيه..قامَ بعملِ إسعافاتٍ أوليَّة بوقفِ النزيف، ثمَّ هتفَ متسائلًا:
لو سمحت لازم ننقلَك مستشفى، أنا دكتور أه بس مافيش إمكانيات هنا، حاولت أوقف النزيف، لازم نخرَّج الرصاصة..
همسَ بنتي، اتصل برحيل بنتي ...أشارَ إلى جاكيتهِ ليسحبَ هاتفهِ يعطيهِ له:
تليفونك أهو..حاولَ رفعَ يدهِ لفتحِ الهاتف ولكن لم يستطع السيطرة على تلكَ الغمامة.
نفخَ بضجرٍ يمسحُ على شعرهِ بعنفٍ وصاحَ بغضب:
أنا هاتَّصل بالإسعاف الراجل هايموت، وهاتبقى مصيبة ليك يايزن..قاطعهم رنينُ هاتفَ مالك، ليرفعهُ كريم سريعًا بعدما وجدَ اسمِ وصورةِ ابنتهِ.. أجابها سريعًا:
اسمعيني كويس ياآنسة، والدِك فيه ناس حاولوا يقتلوه وإحنا أنقذناه ودلوقتي لازم يتنقل للمستشفى بأقربِ وقت، عايز من غير شوشرة عربية إسعاف بسرعة على العنوان دا.
فاقَ يزن من شرودهِ على صوتِ كريم:
شهاب بيقول شاكين إن فيه حد من أعدائهِ بس بنته بقى بتتِّهم مين تخيَّل؟..
طالعهُ باهتمامٍ متسائلًا:
راجح الشافعي، وأبو عريس الغفلة.
عندَ آدم وصلَ إلى الجامعة بأوَّلِ يومٍ دراسيٍّ له، كانت تقفُ مع صديقاتها رأتهُ يترجَّلُ من سيارته، ظلَّت تراقبهُ بنظراتها إلى أن لكزتها صديقتها:
سرحتي في إيه يا دكتورة؟.،
التفتت إليهِ مردّّدَةً
أه..لا مفيش، ياله علشان مانتأخَّرشِ على المحاضرة
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ خرجت من الجامعة تلتفتُ حولها تبحثُ عن سيارته، تأفَّفت بضجرٍ بعدما علمت بمغادرته، استقلَّت سيارةَ أجرة إلى منزلها وصلت على تجمِّعٍ من الناسِ أمامَ المنزل، ترجلَّت تنظرُ بضياعٍ إلى الحشود، وقلبها يؤلمها من الصراخ، هرولت للداخلِ وجدت والدها متسطِّحًا على الأريكة وزوجتهِ تتمتمُ بكلماتٍ غيرَ مفهومة .. توقَّفت متسائلة :
بابا مالُه..هنا فاقت سهام زوجةُ والدها:
أهي جت وش المصايب اللي أبوها أخد قرض علشانها وفي الآخر يطلعوا عليه قطَّاع الطرق يضربوه وياخدوا الفلوس آه يامراري وآدي كلية الطب ومصايبها، مفكَّرة نفسها هاتطلع أحمد زويل، أومال لو مش طول الليل وضحكات مع الشباب وقال إيه بتسمع محاضرات أهي ياختي أهي ...انسابت عبراتها على وجنتيها تنظرُ للحشدِ الذي يطالعها مشمئزًا ...هرولت للداخلِ وعبراتها تفرشُ طريقها ، أخرجت هاتفها بيدٍ مرتعشة وهاتفت متيِّمَ قلبها:
آدم…توقَّفَ بالسيارة على طرفِ الطريقِ وهزَّةٍ أصابت قلبهِ وهو يستمعُ إلى شهقاتها قائلة:
أنا موافقة على الجواز، جاهزة في أي وقت.
ثقلُت أنفاسهِ ورجفة قويَّة ضربت سائرَ جسدهِ مما شعرَ بانسحابِ أنفاسهِ متسائلًا بلسانٍ ثقيل:
إيه اللي حصل ماأنا عارف إنِّك وافقتي، بابا قالي.
بكت بصوتٍ مرتفعٍ حتى وصلَ لوالدها بالخارج:
أنا مستنية تيجي تاخدني من الجحيم دا...صفَّقت زوجةُ والدها:
شوفوا البت البجحة، لا..كمان مش مكسوفة وبدل ماتيجي تترمي تحتِ رجلِ
أبوها وتعتذِر.. رايحة تكلِّم حبيب القلب ...لكزت زوجها بقوَّة:
قوم ربِّي بنتك يامحمود اللي ناقصة تربية
عندَ أرسلان.. وصلَ إلى منزلهِ ودلفَ لداخلِ مكتبهِ يغلقهُ خلفهِ وفتحَ جهازهِ الخاص بعملِ المخابرات، دقائقَ معدودة وظهرت تلكَ العمارة أمامه، تحدَّثَ بهاتفِ المنزل:
إعملي قهوة وهاتيها المكتب، بعدَ فترة ومازالَ يراقبُ تحرُّكاتِ تلكَ العمارة، ويرتشفُ من قهوتهِ حتى ظهرت أمامهِ تلكَ الفتاة التي أغشي عليها بمحطَّةِ القطار، تدلفُ لتلكَ العمارة، كبَّر شاشةَ جهازهِ يراقبُ دلوفها وكأنَّها تعلمُ المكان جيدًا، ظلَّت نظراتهِ عليها إلى أن صعدت الطابقَ الذي بهِ تلكَ الشقة..
الله الله كان ناقصني إنتِ وبعدين بقى، دا شكل الدنيا كدا دخلت في بعضها، إيه علاقة البت دي بالأجنبي دا..شكل أيامِك مرار ياستِّ سندريلا..
بمكانٍ آخرٍ، لأوّّلِ مرَّةٍ نذهبُ إليهِ بعدَ سنوات ...فيلَّا عصرية على أحدثِ التجهيزات كانت تجلسُ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تنفثُ سجائرها:
وبعدين ياعطوة، يعني العملية فشلت، لازم تفكَّر كويس هانتخلَّص منه إزاي، كفاية طارق الحيوان اللي غرَّفنا وراح يلعب ببنت بيئة، وسايب الكنز..
ارتشفَ عطوة من قهوتهِ وأجابها:
بصِّي ياستِّ الناس، دلوقتي الحكومة عينيها على الراجل وماينفعشِ نقرَّب منُّه حاليًا، بس وعد في أقرب وقت هاقتلُه.
نفثت سجائرها قائلة:
دا متأكدة منُّه، أهو لحدِّ ماأليِّن دماغ الحيوان طارق.
سؤال هنا ياستِّ الناس، هيَّ البنت وحشة علشان ماتعجبشِ طارق بيه؟..
تهكَّمت تهمسُ لنفسها:
لأنُّه واد غبي طالع لأمُّه، سايب النعمة وبيبُص في القاذورات.
بتقولي إيه ياستِّ الناس؟..
لوَّحت بكفَّيها متمتمة:
سيبَك من دا كلُّه..قولي لسة راجح بيروح للبتِّ ولَّا إيه؟..
الصراحة ومن غير زعل أه، راحلها من يومين، وعرفت كمان أنُّه طلب من طارق يزورها.
هبَّت فزعة واستنكرت مافعله، ليتلوَّن الحقدُ بداخلها وهي تضيفُ بنبرةٍ سامةٍ:
ماعرفشِ إزاي البنت دي كل ما أحاول أقتلها تفلت منِّي، دي فريدة ماأخدتشِ غلوة في إيدي.
توقَّفَ عطوة وتشدَّقَ بما جعلَ قلبها سيصابُ بسكتةٍ قلبيةٍ حينما استمعت إليه:
عرفت مكان فريدة ياستِّ الناس، بس قبل ماأتكلِّم دي في عش دبابير، جوزها لوا كبير في الشرطة، وابنِ جوزها ظابط في الأمنِ القومي.
توسَّعت عيناها تضربُ على صدرها:
إنتَ بتقول إيه؟!..
1
بفيلَّا السيوفي قبلَ حفلِ الزفافَ بيومين، طرقَ على بابِ غرفتها ثمَّ دلفَ للداخلِ وجدها تخرجُ بثيابِ الحمام، شهقت بفزعٍ من وجودِه، رفعت كفَّيها بعفويةٍ تغلقُ فتحةَ روبِ الحمام، وتحدَّثت بتقطِّع:
إزاي تدخل كدا من غير استئذان؟!..
اقتربَ منها وعينيهِ تخترقُ جسدها متمتمًا بمزاح:
ليه مش دي أوضة مراتي البايرة؟..بلعت ريقها بصعوبة، تتراجعُ للخلفِ ورجفةً بسائرِ جسدها جعلها متخبِّطة ..إلى أن استندت على الحائط:
إلياس اطلع برة عيب كدا ..سحبتهُ أقدامهِ إليها أكثر وأكثر حتى التصقَ بها وقامَ بنزعِ منشفتها التي فوقَ خصلاتها لينسابَ شعرها المندَّى تتساقطُ بعضَ القطراتِ على عنقها، هنا فقدَ عقلهِ وتعقُّلهِ بالكامل لينزلَ ببصرهِ على تفاصيلَ جسدها من شعرها المنسدلَ إلى بشرتها الناعمة ..هزَّة لكليهما حينما مرَّر أناملهِ الخشنة فوقَ عنقها ..بلَّلت ريقها بصعوبة:
إلياس إلعِد..ابتسمَ بجاذبيةٍ مستندًا بذراعيهِ على الجدار:
ليه مش أنا بارد والمفروض يحطُّوني على منصَّة الإعدام مش دا كلامك؟..
هزَّت رأسها بالنفي مع ابتسامتها الخلَّابة وهي تعضُّ شفتيها تنظرُ للأسفلِ بخجلٍ متمتمة:
إنتَ بضايقني أعمل إيه.. بطلَّع غلِّي من برودَك.
جانبًا سعيدًا من شقاوتها التي تشبهُ شقاوةُ الأطفال، أعادت إليهِ الكثيرَ من الطفولة،وجانبٍ حزينٍ أنَّها أصابت قلبهِ بسهامِ اتهاماتها ..هتفَ دونَ وعي:
موافقة على جوازنا ياميرا؟..أنا جايلك لحدِّ عندِك من غير أي ضغوط من حد
موافقة...طبقة كرستالية زيَّنت عيناها وهي تطالعهُ بترجِّي أن يرحمَ شقَّها الأيسر، كيفَ لا تشعرَ بقلبي الذي لا ينبضُ سوى بجواركَ.. إلى متى سأعاني التجاهلَ حبيبي.. حبيبي ردَّدَها قلبها قبلَ لسانها لتغلقَ عيناها تهربَ من نظراتهِ التي أضعفتها وجعلتها رخوةً ولم ترد سوى التنعَّمَ بأحضانه.
كانت نظراتهِ تتجوَّلُ على ملامحها دونَ انقطاع، ولكن حربهِ الداخلية أقوى من ذاكَ النبضِ الذي ينبضُ بعنف، هل هذا العشقَ عذابًا لقلبه…
ميرال..فتحت عينيها على صوتهِ الرخيم لتجيبهُ ومازالت بحالةِ غياهبِ العشق.
-يعني مش هاتقولي مش عايزة الجوازة دي تاني؟..
هزَّت رأسها سريعًا بالنفي بعدما استمعت لصوتهِ الحنون، ونظراتهِ المعاتبة..
ابتسامة شقَّت ثغره، ليرفعَ كفِّهِ على خصلاتها يزيحها بعيدًا عن عيناها:
طيب علشان نبقى متفقين مش عايز لبس عريان، ودا مش علشان دماغِك التافهة، دا علشان الصح، الأوَّل ماكنشِ من حقِّي ..تناست مابينهم واقتربت منهُ وعينيها تحتضنُ عينيه:
طيب دلوقتي إيه اللي اختلف؟.،قالتها بدقَّاتٍ عنيفةٍ تريدُ أن تصلَ لمرادِ قلبها.
ابتسمَ على كلماتها المغلَّفة بالتبرير لاعترافه، جذبَ رأسها لأوَّلِ مرَّةٍ لصدرهِ
ولفَّ ذراعيهِ حولَ أكتافها:
دلوقتي بقيتي مراتي ومن حقِّي أمنعك عن اللي مايعجبنيش، قالها وهو يغمضُ عينيهِ مسلِّذًا بذاكَ القرب، أمَّا هي دفنت رأسها بصدرهِ تستنشقُ أكبرَ كمٍّ من رائحته، وقلبًا ينبضُ بالسعادةِ.. رفعَ ذقنها وأخرجها من أحضانهِ ينظرُ إليها بنظراتٍ ينبثقُ منها معاني الحب التي تذيبُ الآلامَ وتمحو الاحزان. .
حاوطت خصرهِ لأوَّلِ مرَّةٍ تضعُ رأسها على ذاكَ النبضِ العنيف، ليبتعدَ سريعًا ويهربَ من ضعفهِ بحضرتها
هرولَ بخطواتٍ متَّسعةٍ وكأنَّ أحدهم يطاردُه، اصطدمَ بفريدة التي دلفت للداخلِ بذهنٍ شارد..توقَّفَ معتذرًا..
طالعتهُ بأعينٍ كلونِ الدماء، ذُهلَ من حالتها فدنا منها:
مالك...ابتسمت من بينِ آلامِ أحزانها لأوَّلِ مرَّةٍ يسألها مابها، ماذا ستقولُ له..
أيعقَلُ أن تقصَّ لهُ ماصار، أيعقلُ أن تخبرهُ بأنَّها أجبرت والدهِ على الفحص النووي له، ماذا عليها أن تفعلَ وهي كالذي يرقدُ على موقدٍ مشتعلٍ بالنيران...كيفَ لها أن تتعايشَ مع ذاكَ الألمِ بعدما دقَّقت بملامحهِ التي تشيرُ أنَّهُ الأقربَ إلى زوجها المتوفي، كيفَ تغاضت عن ذاك..،
لأوَّلِ مرَّةٍ يسحبُ كفَّيها ويحاوطُ أكتافها ليصلَ بها إلى أقربِ مقعدٍ عندما وجدَ ارتجافَ جسدها وشحوبه:
جلسَ أمامها قائلًا:
أنا مانكرشِ بتحفُّظي عليكي، بس برضو أنا حزين على حالتِك، بقالِك أسبوع على طول قافلة على نفسِك وسرحانة، غير نظراتِك ليَّا على الأكل، لو شايفة إنِّي ماانفعشِ بنتك وقَّفي الجواز، أنا كدا كدا مش فارق معايا أتجوِّز مين، قد مافارق معايا يكون عندي عيلة ...صدَّقيني ميرال من غيرها مش فارق.،
بقلبٍ ممزَّقٍ واستفهامٍ مؤلمٍ خرجَ من ثنايا روحها هاتفةَ من خلفه:
وأنا كمان ياسيادة الظابط مش فارق معايا إنتَ ولَّا غيرك، أهو راجل والسلام علشان أريَّح أمي اللي بقيت عبئ عليها..
وقعت الكلمة على مسامعهِ هو وفريدة كصاعقةٍ شقَّت صدورهم لنصفين، ليتوقَّفَ بجسدٍ مشدودٍ وكأنَّ حديثها فتَّتَ عظامهِ من شدَّةِ قسوته..
دنا منها بأنفاسٍ ثقيلةٍ مستنكرًا كلِّ كلمةٍ تفوهَّت بها ثمَّ أشارَ إليها بإعادةِ الحديث: أي راجل، راجل والسلام، كادَ الوجعُ أن يلقيها صريعةً أمامهِ لتقتربَ منهُ بكبرياءِ أنثى دعسَ على كرامتها وغرزت عينيها بمقلتيه:
إيه مش دا كلامَك ياإلياس باشا، ولَّا حلال لحضرتَك وحرام ليَّا…
نهضت فريدة بعدما تأزَّمَ الوضعُ تقتربُ منهما ولكن حاوطتها غمامةً سوداءَ لتسقطَ على الأرضية بصرخاتِ ميرال باسمها..
صباح اليوم التالي بعد ليلة مرت على الجميع بقلوب تئن بألمًا يزهق الأرواح
حاول مهاتفتها عدة مرات ولكن هاتفها مغلق .. صباح اليوم التالي
خرج متجهًا إلى غرفتها دلف بعدما طرق عدة مرات، قابلته على الباب
-صباح الخير...اومأت له دون حديث
رفع ذقنها يتعمق بعيناها متسائلًا:
-منمتيش..غاصت في لذة قربه تنظر إلى ملامحه الحادة واردفت قائلة
-هفطر وأنام، مش ورايا حاجة
تنهد بصوت مرتفع بعدما علم بما تعني، اتخذ نفسًا طويلًا وزفره،
-شيل ايدك عايزة اعدي
انحنى وطبع قبلة على وجنتيها يهمس بجوار أذنها:
-فيه واحدة نسيت تقول لجوزها حبيبها كل سنة وانت طيب
رفرفت اهدابها عدة مرات تطالعه بصدمة، لف ذراعيه حول خصرها يقربها إليه أكثر
-عندي شغل 4 ساعات نامي كويس علشان هرجع علشان هننزل تختاري فستان الفرح يامراتي البايرة ..قالها وغادر
ابتسامة شقت ثغرها تهمس لنفسها
-الراجل دا هيدخلني العباسية لا محالة
1
عند ارسلان
دلفت إلى العمارة وصعدت للطابق المنشود كعادتها، طرقت على الباب وإذ فجأة يسحبها أحدهم للداخل، بعد لحظات دلف إلياس مع طاقمه العسكري دون إحداث شغب
-مش عايز خساير بشرية، أشار إلى فريقه بالتحرك بكافة الاتجاهات ...لحظات واقتحمت الشقة وتم القبض على من بها
كان يغفو على مقعده استمع الى رنين هاتفه ..زفر بضيق واجابه
-والله انا لو بشتغل دكتور نسا ماهصحى كدا، ارحم ابويا يااسحاقوا، بقيت انام زي الخفاش بالنهار
-اسمعني وبطل رغي، أمن الدولة اقتحم الشقة، اكيد عرفوا، لحظة وتخفي كل حاجة، سمعتني
تنهد وظل صامتا
-صقر سمعتني ...هو انا بعمل حاجة غير اني اسمعك، سمعت خلاص، لحد ما دماغي فرقعت منك، ياريتك بتقلني المطافي ..وتابع بمزاح
-رسلان روح رسلان تعالى، انا خايف يكون متجوزني في السر..قالها واغلق الهاتف..قبض الآخر على خصلاته بعنف كاد أن يقتلعها..دلفت دينا بوجه شاحب تنظر إليه للحظات، جلس يطالعها بصمت، هب واقفًا كالملدوغ حينما اردفت
-اسحاق انا حامل
مساءَ اليوم دلفَ مصطفى وجدها تجلسُ بالشرفةِ تنظرُ بشرودٍ وكأنَّها شيدت لنفسها عالمًا لها لوحدها منذ معرفتها بأنَّه ليس ابنه ..
فريدة..ردَّدها مصطفى لتستديرَ إليهِ برأسها.،
رفعَ يديهِ بالمظروفِ قائلًا:
جبت التحليل ..هبَّت من مكانها وهرولت إليه ..وقلبها كالمضخةِ التي تكادُ تصيبها بأزمةٍ قلبية؛
تناولتهُ بجسدٍ منتفض، ثمَّ رفعت عينيها إليه:
أنا بعمل الصح ماتزعلشِ مني، ماكُنتش عايزة حد يعرف قبلي علشان كدا منعتك من فتحه..
احتضنَ وجهها يهاتفها بصوتهِ الحنون:
فريدة إهدي حبيبتي وكلِّ حاجة في الدنيا نصيب لولا إصرارِك على كدا مستحيل أوجَع قلبك، بس كان لازم أعمِل كدا…علشان إلياس بدأ يشك من نظراتِك له، وسألني إنتي بتشتكي من حاجة؟..
ابتعدت عن حنانِ يديهِ ورغمًا عنها هزَّت رأسها ولم تستطع الألم الذي يعصفُ بداخلها:
حسيتُه ابني يامصطفى، أنا كنت مستبعدة الإحساس دا علشان قولت مستحيل، أهو إحساس أمومي يامصطفى ماعرفشِ صح ولَّا لأ، أرجوك ماتزعلشِ مني، خلِّي نار قلبي تبرد، لو ابني وقتها بس أعرف قد إيه إن كرم ربنا فوق الوصف، أمَّا لو مش ابني قلبي هايرتاح علشان مافضلشِ موسوسة، وفي نفس الوقت بقول ربنا رحيم بيَّا وأكيد كلَّها تدابير زي ماقالتها غادة زمان..
طبعَ قبلةً على جبينها وتحدَّث:
طيب حبيبتي إهدي واسحبي نفس وقبل أي حاجة إعرفي أنا معاكي، وحاولي تتماسكي يافريدة، سواء ابنك ولا لا ..هزت رأسها سريعًا وهي تفتحُ المظروفَ بيدٍ مرتعشة، وقلبًا ينتفضُ برعب، تتمتم:
أنا قوية حبيبي وهاتحمِّل كلِّ حاجة..فتحت المظروفَ تطالعهُ،
حاوطها بذراعيه، قائلًا بصوتهِ الحنون:
إهدي، خدي نفس، جسمِك بيرتعش ليه، انسابت عبراتها على وجنتيها كزخاتِ المطر وهي تفتحُ ذاكَ المظروفَ الذي يُعتبَرُ جنَّتها وجحيمها ، قرأت بعينيها مرَّة واثنان وعشرة ودموعها التي أصبحت تجري كمجرى شلال…
هوت على ركبتيها وصرخة شقَّت صدرهِ وهي تطالعه:
ابني..إلياس ابني يامصطفى، قالتها وازدادَ بكاؤها مع دلوفهِ من البابِ الرئيسي يطوفُ بنظراتهِ عليهما وعلى جلوسها بتلكَ الحالة:
مالكم فيه إيه؟..ومدام فريدة بتصرُخ ليه...
توقفت تستند على ذراع مصطفى تنظر إليه بلهفة أم تردد دون وعي
"يوسف"..مع رنين هاتفه
-إلياس باشا جبتلك الست اللي اسمها اسراء
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
وتسألُني ماذا أريدُ منكَ؟!..
دَعني أفسِّرُ لك:
أريدُ منكَ أمانًا..وحنانًا..ووطنًا..
وبيتًا..وظِلًّا…ودِفأً..
أريدُ منكَ حياةً..
ماضٍ و حاضرٍ و مستقبل..
نظرةُ عينٍ تُخبرُني أنِّي حبيبتُكَ..
لمسةُ يدٍ تُعيدُ الأمانَ لقلبي..
دموعٌ ﻻ تسيلُ إلَّا من شدَّةِ الفرحِ..
وآلامًا تزولُ بمجرَّدِ رؤياك..
أُريدُكَ أنتَ فحسب.
....
ياسااااادة:
كلُّ مياهِ المطرِ تُخمدُ للنارِ ألسنتَها..
إلَّاااا مياهُ عيناها.. تزيدُ من لهيبِ نيراني..
فأهلًا بوجهِكِ ..لا حُجِبَت عن ناظريَّ ... يافتنة القلبِ يانُزهةَ البصَرِ ..
تعالَي لأسألُكِ ما الذي أوحاهُ قلبُكِ لقلبي لينصاعَ لهُ طوعًا..
ويعقِدُ معهُ صفقةَ العُمُر ..
تحرَّكَ إلى وصولِ فريدة عندما فقدت سيطرتها وارتفعَ بكاؤها، احتضنها مصطفى يبعدُها عن مرمى نظرِ إلياس، لقد فقدت تمسُّكَها الذي وعدتهُ به، نظرَ إلى إلياس الذي تقدَّمَ إليهم وانتابتهُ رعشةً مخيفة، بالتأكيد ستنقلبُ حياتهِ إلى جحيمٍ وسيكونَ هو المسؤولُ الأوَّل..
بابا مدام فريدة مالها؟..شهقةٌ خرجت من احتراقِ قلبها الذي ينازعُ لخروجِ الروحِ وهي تريدُ أن يصيبها اللهُ بالصمم، قرَّةَ عينها الذي تبحثُ عنهُ منذ ثلاثينَ عامًا أصبحَ تحتَ كنفِ رعايتها ..يالله ماهذا الألم الذي أشعرُ به، ألمًا يفوق انتزاع الروح من الجسد ...نزعت نفسها من بينِ ذراعي مصطفى مقتربةً منه وعيناها تبحر فوق وجهه، تتمنى أن تلمس وجهه، ابتلعت ريقها بعدما هتف مصطفى:
-تعالي يافريدة علشان ترتاحي..ظلت كما هي تقترب من إلياس الذي يطالعها بصمت وهي تحاوره بعيناها قائلة بلهفة أم غاب عنها وليدها لأعوام:
حبيبي ممكن أطلب منَّك طلب ..رمقها بنظرةٍ مستفسرة، ابتلعت ريقها واقتربت خطوةً أخرى مع ازديادِ عبراتها، وهناكَ مايفيضُ القلبَ بالغصَّاتِ المريرة… ناهيكَ عن آلامها كالأشواكِ التي تنخرُ بجوفها، وهي تريدُ أن تضمَّهُ وتستنشقَ رائحتِه...عيناها تخترقهُ تبحثُ فيه عن وليدها المفقود…
ظلَّت تتحركُ إلى أن وصلت أمامِه، وعينيها تحاورهُ بأن يرحمَ ضعفها.
لايعلمُ لماذا انشطرَ قلبهِ على حالتها تلك التي لأوَّلِ مرَّةٍ يراها بها..
ضعُفَ أمامَ دموعها وكأنَّ الله وضعَ رحمتهِ بها ذاكَ الوقتِ لينحني ويحتضنَ كفَّيها:
تعالي ارتاحي، ماعرفشِ إيه اللي حصل معاكي، لو عايزة تحكيلي أنا سامعِك.
شهقةٌ مُلتاعةٌ خرجت من فمها لتضعَ كفَّيها على فمها بوصولِ ميرال التي هرولت على ارتفاعِ بكائها، رفعَ إلياس نظرهِ إلى والدهِ وهتفَ بصوتٍ مرتفعٍ إلى حدٍّ ما:
مالها، أكيد حضرتَك عارف..ابتعدَ بنظرهِ وعجزَ عن كلِّ شيئ، يحدِّثُ حاله، هل سيعاقبِهُ ربِّهِ بفعلته…تحرَّكَ إلياس إلى توقُّفِ والده:
بابا، مدام فريدة مالها؟..
أطبقت على جفنيها وكأنَّ كلمةَ مدام اخترقت أُذُنها وكأنها تستمع لصدى صوت عويلٍ مرتفعٍ يصيبها بالذعر.
ماما حبيبتي إيه اللي حصل، بقالِك كام يوم وإنتِ كدا، مخبيَّة على بنتك إيه؟!..
كانت عيناها على إلياس الذي توقَّفَ متخصِّرًا ثمَّ أردفَ بعد صمتِ والده:
-معرفش بتبص لي ليه..قالها مقتربًا منها، توقف أمام جلوسها
-مدام فريدة، متحاوليش تعملي كدا علشان مبحبش الأسلوب دا
آلمها حديثه، وكأنه غرس خنجرًا لصدرها..رفعت نظرها إلى مصطفى وهمست بضعف
-موافقة يامصطفى اروح للدكتور، تراجعت بنظرها إلى إلياس واكملت بارتجافة قلبها
-إلياس اللي ياخدني ...
-أنا طيب ليه؟!..توقفت بمقابلته، تحتضن كفيه، وابتلعت غصة كالعلقم أحكمت حلقها بالأختناق تتابعه بعيناها بترجي
-مش انت جوز بنتي، يعني ابني ..قالتها بمرارة مع دموعها
ميرال ساعديها، خلِّيها تِجهَز هناخُدها للدكتور ..
تراقصَ قلبها فرحًا من موافقته، قاطعهُ مصطفى:
إلياس إنتَ ماكانشِ وراك شغل يالَّه حبيبي، ربنا يوفَّقك.. قالها مصطفى حتى لا يتسلل الشك لقلبه بشيئا اخر، هو يعلمه حد المعرفة، سيقلب الموازين على فريدة
هزَّ إلياس رأسهِ وعينيهِ عليها، ثمَّ أشارَ إليها:
طيب خُدها لطبيب نفسي، شوف مالها..
ربتَ مصطفى على كتفهِ يهزُّ رأسهِ قائلًا:
ماتخافش، شوف إنتَ شُغلك حبيبي.
توقَّفت سريعًا مقتربةً منهُ قائلة:
مش إنتَ وعدتني تاخدني إنتَ وميرال، ليه غيَّرت رأيك؟..
فتحَ مصطفى فمهِ للحديثِ ولكنَّها قاطعتهُ تترجَّاهُ بعينيها، تريدُ أن تنعمَ ببعضِ الوقتِ بجواره، قاطعَ نظراتها مع مصطفى صوتِه:
بابا قال هيخدِك، عندي شُغل مهمّ يبقى طمِّني ..بترَ حديثهِ ينظرُ إلى ميرال وتابعَ قائلًا:
يبقى طمِّنيني ميرال علشان ماتقولشِ مش مهتم بيكي..
استدارَ للمغادرة، ولكنَّهُ توقَّفَ على صوتِ والدِه:
خلاص لو قدَّامَك وقت ممكن تاخدها معاك إنتَ وميرال، افتكرت عندي شغل مهم ...توقَّفَ متردِّدًا ينظرُ لدموعها، مسحت دموعها مع ابتسامةٍ وهو يهزُّ رأسِه:
هستناكوا بالعربية..قالها وتحرَّكَ للخارجِ سريعًا:
أشارَ مصطفى لميرال قائلًا:
إجهزي حبيبتي وأنا هطلع معاها..أشارت على خروجهِ وابتسمت:
شوفت يامصطفى كان خايف عليَّا إزاي…حاوطَ كتفها وصعدَ بها إلى غرفتهِم، توقَّفَ متنهِّدًا ثمَّ تحرَّكَ إلى خزانةِ ملابسها دونَ حديث، كانت تتابعُ تحرُّكهِ بحزن، جلست على الفراشِ وتمتمت:
إنتَ السبب في اللي أنا فيه..جحظت عيناهُ والتفتَ بنظرهِ إليها يشيرُ إلى نفسهِ متحيِّرًا:
أنا السبب!..ليه أنا اللي خطفت ولادِك؟..
هبَّت من مكانها واقتربت منهُ تنظرُ لمقلتيه:
إنتَ لو عرَّفتني الحقيقة من يوم ما دخلت البيت دا،كان هايكون أهوَن من عذابي دلوقتي، إلياس لازم يعرف إنِّي أمُّه.
توسَّعت عينيهِ بذهول، اقتربَ منها وأطبقَ على ذراعيها يهاتفها بتحذير:
يبقى بتقضي عليه، لازم تهدي علشان أعرف أفكَّر، لازم نمهِّدلُه الموضوع، أوعي يافريدة تتهوَري، وقتها بس هتخسريه للأبد، إنتِ فاهمة يعني إيه فجأة بعد العمرِ دا كلُّه يعرَف أنُّه مش ابني، إنتِ كدا هتدفنيه بالحياة، إلياس أنا عارفُه كويس، كرامتُه ورجولتُه فوق أي حد، وممكن وقتها يدوس عليَّا أنا شخصيًا.
هزَّت رأسها رافضةً حديثهِ وتمتمت من بينِ بكائها:
مش هقدر يامصطفى، احتضنت كفِّيهِ تقبِّلُه، وحياتي عندك يامصطفى ساعدني أقرَّب منُّه، هوَّ بيحبِّني بدليل النهاردة، مش يمكن ربنا حنِّن قلبه عليَّا ويتفهَّم الوضع.
احتضنَ رأسها يمسِّدُ على ظهرها طابعًا قبلةً فوقَ رأسها:
حاولي يافريدة علشان خاطرُه، ابنك ممكن يضيع منِّنا.
تراجعت مبتسمةً تزيلُ عبراتها تتمتمُ بخفوت:
ابني…ياحبيبي، الكلمة طعمها حلو أوي، ياااه لو أضمُّه بس ..
أخرجَ تنهيدةً متألِّمةً على حالتها ثمَّ سحبَ كفَّيها قائلًا باطمئنان:
إن شاء الله حبيبتي، إهدي وكلِّ حاجة هتحصل، كويس إنِّك هاتروحي للدكتور وهوَّ معاكي، إحكي للدكتور، أنا مش عايز آجي علشان وقتها هيشُك، وأوعي تنسي إن إلياس ذكي جدًا فوق ماتتخيَّلي، بدليل ملاحظتُه تغييرِك...عرفي الدكتور وهو هيقولك تعملي ايه
بعدَ قليلٍ أمامَ السيارة كانَ يتحدَّثُ بهاتفه:
الست عندها السكَّر، خلاص يابني، مشِّيها ، مش ناقص بلوة، خلِّي حد يوصَّلها لحدِّ بيتها، وأنا بعدِ الفرح هزورها، المهم لمَّا تفوق ماتسبهاش تروح لوحدها ...استمعَ إلى حذاءٍ ذو كعبٍ عالٍ خلفه، استدارَ بعدما استنشقَ رائحةَ مجنونتِه، استندَ على السيارة يتفحَّصُها بتدقيق، اقتربت حتى توقَّفت أمامهِ مباشرةً قائلة:
لو حد قالِّي إنَّك لطيف واتنازلت عن كبرياءك وهتاخد ماما للدكتور ماكُنتش هصدَّق..ابتسامة زيَّنت ملامحِه، فدنا منها ورفعَ أناملهِ يضعُ خصلاتها المتمرِّدة خلفَ أذنها ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً فوقَ وجنتيها لتشعرَ بشللٍ كاملٍ بجسدها، رفعت عينيها المصدومة لتقابلَ عينيهِ المبتسمة، حاوطها بذراعيهِ غامزًا بعينيه:
علشان أصالحِك بس مش أكتر، دماغي وجعاني وهتُعقدي تقولي كلام إمبارح وأنا مش عايز أتناقش..غير بشوف المخطوبين بيخرجوا يقضوا وقت لذيذ مع بعض
كتَّفت ذراعيها تهزُّ رأسها وهدرت به:
أه، قولت أضحَك على الهبلة بمشوار مع مامتها، وأبيِّن اهتمامي..صح ياحضرة الظابط؟..
وضعَ كفَّيهِ بجيبِ بنطالهِ وأفلتَ ضحكةً رجوليةً يهزُّ رأسهِ قائلًا:
أيوة كدا بالظبط، إنَّما من إمتى وإنتِ ذكية كدا؟..
دفعتهُ بصدرهِ تجزُّ على أسنانها:
مستفِّز، طيِّب إضحَك عليَّا.. ضمَّها ومازالت ضحكاتهِ تعلو، نظرَ إليها وهيَ مازالت بأحضانِه:
طيِّب مش عيب ظابط عندُه هيبة زيي يكذِب، والمشكلة أنُّه يكذِب على حاجة مش مستاهلة.
نسيَت كلَّ شيئٍ وهي تنظرُ لقربهِ واحتضانِه، ناهيكَ عن ضحكاتهِ التي بدأت تظهرُ في بعضِ الأحيان، لم تشعر بنفسها وهي تهمسُ بصوتٍ خافتٍ وصلَ إليه:
إلياس ممكن تحضُنِّي..توقَّفَ عن الضحكِ يطالِعُها بصمتٍ للحظات، شاهدَ بعضَ الخطوطِ الكرستاليةِ من الدموعِ التي زيَّنت عينيها، لفَّ ذراعيهِ يضمُّها لأحضانِه، أغمضت عينيها وتمنَّت أن يتوقَّف كلَّ شيئٍ حولها، تمنَّت أن لا ترى شيئًا سواه، ولا تسمعُ شيئًا سوى صوتهِ الممزوجِ بدقَّاتِ قلبه، ولا تستنشقُ سوى رائحتهِ الخلاَّبة بأنفاسهِ المختلطةَ برائحةِ سجائرِه، شعورٌ ممزوجٌ بالسعادةِ والخوف، مسَّدَ على خصلاتِها وداخلهِ صراعٌ يؤلم ُروحهِ بينَ القلبِ الذي يطمعُ بأكثرِ من ذلكَ وعقلهِ الذي يرفضُ ذاكَ القربُ المدمِّر.
شعرَ بأنفاسِها الناعمة على جلدِ صدرهِ من فتحةِ قميصهِ فحاولَ الابتعادَ محمحمًا:
إركبي..مينفعشِ نفضل كدا، الأمن في كلِّ مكان، قالها بخروجِ مصطفى بجوارِ فريدة، توقَّفت تنظرُ لخطواتِ والدتها الواهية، وكأنَّها تحاولُ أن تتماسكَ أمامهم، أشارَ مصطفى إلى ميرال:
ميرو أقعدي ورا حبيبتي، خلِّي ماما قدَّام علشان ترتاح أكتر.
أومأت دونَ حديث، فتحت البابَ وجلست مع إشارةِ إلياس للسائقِ قائلًا:
هاخد السوَّاق علشان مدام فريدة، هترجَع لوحدها، عايز آخُد ميرال تشوف فستان الفرح.
أومأَ لهُ قائلًا:
هخلَّص شويِّة شغل، يبقى كلِّمني وأنا هروح أجيبها.
جلست فريدة بجوارِ السائقِ بعدما فشلَ مخططُ مصطفى بوجودها بالقربِ من إلياس لبعضِ الوقت، بالخلف..أخرجَ هاتفهِ وظلَّ يتفحَّصُ بعضَ المواقعِ الإخبارية، التفتت إليهِ فريدة:
إلياس ممكن بعدِ مانخرُج من عندِ الدكتور نتمشَّى على الكورنيش شويَّة.
كورنيش..قالها مستغربًا، ضغطت ميرال على كفِّهِ تهزُّ رأسها بالموافقة.
هزَّ رأسهِ قائلًا:
أوكيه ..بس أنا عندي شغل، هكلِّم بابا، قاطعت حديثهِ قائلةً وهي تستندُ على المقعد:
لا خلاص مش عايزة ..استغربَ ردَّها، وكذلكَ ميرال التي طالعتهُ بأعينٍ متسائلة..مطَّ شفتيهِ ونظرَ للخارجِ وتلاعبَ عقلهِ بهِ بأنَّها تقومُ بالتمثيلِ عليه ..ظلَّ ينقرُ بأصابعهِ على ساقيهِ بتوتُرٍ وغضب، وهناكَ الكثيرُ من السيناريوهات التي رسمها عقلهِ بأنَّ أفعالها ماهيَ إلَّا كذبة.
احتضنت ميرال ذراعهِ تضعُ رأسها على كتفهِ متمتمةً وهي تنظرُ للخارج:
يعني هتكون جوزي ببلاش، راسي تقيلة ومحتاجة أنام.
رفعَ حاجبهِ ساخرًا:
ودا اسمُه إيه إن شاءالله، هوَّ أنا مخدَّة ..رفعت رأسها عن كتفهِ وابتسمت قائلة:
ياريت أهو كنتِ استفدت منَّك، كانت عيناهُ ترسمها بحبٍّ لأوَّلِ مرَّة، كم هي جميلةٌ شقيَّةٌ كالأطفال، رفعَ خصلاتها بأناملهِ وانحنى يهمسُ بجوارِ أذنها:
تستفادي منِّي إزاي يعني يامراتي يابايرة، وضَّحي علشان أعرَف أفيدِك ..قالها بغمزةٍ بطرفِ عينيه…
رعشةٌ أصابت جسدها من مكنونِ حديثه، ابتعدت بجسدها للخلفِ وسحبت بصرها من مرمى عينيه تنظرُ للخارج، وصلت السيارةُ بعدَ قليلٍ أمامَ إحدى العياداتِ الكبيرةِ للطُّبِ النفسي.
ترجَّلَ أولًا يفتحُ بابَ السيارةِ لفريدة، وأمسكَ كفَّها يساعدها على الخروج ، رفعت رأسها بابتسامةٍ وشعرت بالدوران فاستندت عليه، ليضُّمها إلى أحضانه:
مالِك حاسبي هتوقعي، تعلَّقت بذراعيه وتمنَّت أن يضمَّها لأحضانه، ولكن خيَّبَ آمالها بعدما أشارَ للمسعفين بإحضارِ إحدى المقاعدَ المتحرِّكة.
بعدَ فترةٍ بإخبارِ الطبيبِ بكلِّ شيئٍ وكيفَ ستتعاملُ معهُ في الفترةِ القادمةِ
خرجت له، كانَ يجلسُ بالخارجِ بجوارِ ميرال بعدَ رفضِ الطبيبِ بحضورِ أحدهما للداخل.
توقَّف ودلفَ للطبيبِ بناءً على تعليماتِه..جلسَ أمامهِ متسائلًا:
حضرتَك، النيرس قالت إنَّك طلبتني.
تصنَّعَ الطبيبُ النظرَ بورقهِ وتسائل:
أنا سألتها مين معاكي برَّة، قالتلي ابني ومراتُه..صمتَ الطبيبُ يدقِّقُ بردَّةِ فعله.
امتعضَ وجههِ بالغضبِ إلى حدٍّ ما قائلًا:
بس أنا مش ابنها، دي ...صمتَ لبعضِ اللحظات وسحبَ نفسًا متنهِّدًا:
أه..زي ابنها، هيَّ اللي ربتني بعد والدتي الله يرحمها.
بتحبَّها...سؤال سريع ألجمه، لينظرَ للطبيبِ بتيه، ثمَّ تسائل:
ليه حاسس إنَّك بتعالجني أنا؟!..مش أنا المريض...توقَّفَ الطبيبُ من مكانهِ واقتربَ منهُ يجلسُ بمقابلته:
مش يمكن اللي هيَّ فيه دا بسببَك…
سؤالٌ آلمهُ ورغمَ ذلكَ جاهدَ بإخفاءِ مايشعرُ بهِ من اعتصارِ قلبه، ينظرُ للطبيبِ وأجابه بصوتهِ الرخيمِ الثابت:
ليه طفل وعامل إضراب عن الأكل؟!..
يمكن علشان مرات أبوك...قالها الطبيبُ وعينيهِ تخترقُ أعينَ إلياس..
توقَّفَ إلياس معتذرًا:
إجابتَك مش عندي يادكتور..أنا مابظلِمش، ماعرفشِ مدام فريدة حكت لك إيه، بس اللي أعرفه ومتأكِّد منُّه إنِّي بحترمِها..
لازم تحترمِها.. مش زي والدتَك.
تحمحمَ إلياس وانحنى ينظرُ للطبيب:
ماتحاولشِ تستفزِّني، قولت لحضرتَك علاج مدام فريدة مش عندي..
وليه واثق أوي كدا ياحضرة الظابط.
اعتدلَ بجسدهِ وارتدى نظارتهِ ثمَّ أجابه:
لسة بقولَّك يادكتور أنا مابظلمِش حد.
ماهيَّ مرات أبوك.
ولو ...إيه المشكلة حق بابا يتجوِّز، ماليش حق أرفض...أنا مش طفل محتاج الرضعة
طيِّب ليه مابتقولَّهاش ياماما، مش في مقامِ والدتك؟!..
يووو،تحرَّكَ بعدما تشدَّقَ بها وغادرَ مهرولًا للخارج...بحثَ بالخارجِ عنهما ولكنَّهُ لم يجدهما، تحرَّكَ وهو يرفعُ هاتفُه:
إنتِ فين ...أجابتهُ على الجانبِ الآخر:
عمُّو مصطفى جِه تحت وأنا منتظراك عند العربية.
وصلَ بعدَ دقائقَ وجدها تستندُ على السيارةِ وتنظرُ بشرودٍ لحركةِ السياراتِ.
اتَّجهَ يشيرُ للسائق:
إرجع إنتَ ..قالها وهو يفتحُ بابَ السيارةِ ويستقلَّها دونَ حديث..جلست بجوارهِ واستدارت بجسدها إليهِ تسألهُ بلهفة:
ماما مالها ياإلياس، ليه متغيَّرة؟!..
قامَ بتشغيلِ محرِّكَ السيارةِ وارتفعَ جانبَ وجههِ بابتسامةٍ ساخرةٍ قائلًا:
بتدلَّع، مامتك بتتهمِّني إنِّ أنا السبب في اللي هيَّ فيه.
إنتَ اتجنِّنت.. ماما ليه تتهمَك!..
التفتَ إليها سريعًا، وشيَّعها بنظرةٍ مميتةٍ:
إيه..اتجنِّنت دي، شيفاني خالع هدومي..
ليه همَّا المجانين اللي بيخلعوا هدومهم..
ميرال إخرسي مش ناقص هبل، أنا غلطان إنِّي بتكلِّم معاكي، وغلطان اصلًا اني جيت معاكم، مالي ومالها
سحبت نفسًا قويًا، عندما أوشكت على البكاء من طلقات كلماته، مردفة بنبرة باردة:
إنتَ على طول غلطان ياحضرة الظابط، دايمًا ترميها بالتهم.. تعبت منَّك وزهقت، يمكن من كترِ ضغطَك عليها انفجرِت، ويمكن عمُّو مصطفى ضغط عليها في موضوع جوازنا دا.
توقَّفَ بالسيارةِ فجأة وأطلت من عيناه نظرة قاسية بتكررها نفس الحديث:
مالُه جوازنا، عايزة تقنعيني إنَّها رفضاه؟!..
طيِّب إيه رأيِك هيَّ أكتر واحدة مرحِّبة بالموضوع دا، دا لو ماخطِّطش.
أسُكت بقى ياإلياس حرام عليك إنتَ إيه، على طول سوء ظن أنا تعبت من دا، إمبارِح قولتلي مفيش حد ينفعِك غيري، وبعدها بدقائق تنزِل لماما وتقولَّها أنا من غيري مش فارقة..لوَّحت بكفَّيها وانهارت باكية:
أنا مابقتشِ فاهمة إنتَ عايز إيه، عايز الجواز دا ولَّا إيه ...قطعَ حديثها عندما التفتَ إليها يجذبُ رأسها ويقبضُ على ثغرها بخاصَّتهِ ليمنعَ ترَّهاتها من الحديثِ الذي سيودي بهما إلى الجحيم.
لحظاتٍ وهو يتنعَّمُ بتلكَ الشفاهِ التي يتذوَّقها لأوَّلِ مرَّة، قشعريرةٌ لذيذةٌ ضربت كلٍّ منهما ولم تشعر بنفسها وهيَ تحاوطُ عنقهِ متناسيةً كلَّ ما مرَّ بهما..لحظاتٍ ناعمةٍ وهما يشعران بنعيمِ الجنَّةِ الغائبةِ عنهما..تركها حينما شعرَ باحتياجها للتنفُّس، وابتعدَ متَّجهًا للسيارةِ دونَ حديثٍ وقامَ بتشغيلها وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا...ابتعدت تنظرُ من النافذةِ تغمضُ عيناها بأسفٍ على ماتوصلَّت إليه، كيفَ لها أن تضعف، بدأت تلومُ حالها على ما فعلهُ بها ...آهة
طويلة أخرجته من أعماق روحها، مع دقات قلبها المرتفعة، تغمض عيناها تتذكر تلك القبلة التي ارتجف الجسد بالكامل إليها ..لم تقو على النظر إليه، ضعفت وضعفت إلى أن تمنت تلقي نفسها بأحضانه مرة أخرى
أمَّا هوَ شعورًا داخلهِ يدغدغُ مشاعرِه، يريدُ أن يعودَ إلى تلكَ الجنَّةِ مرَّةً أخرى ليتنعَّمَ بالسعادة، لامَ نفسهِ بعدما شعرَ بارتفاعِ حرارةِ جسدِه، وهناكَ شعورًا يُجبرِهُ بالانسياقِ وراءَ رغبتهِ بجذبها إلى أحضانهِ مرَّةً أخرى،
أغمضَ عينيهِ يسحبُ نفسًا للتحكُّمِ بنفسه، دقائقَ من الصمتِ بينهما إلى أن قطعه؛
مش عايز فستان عريان، هقطَّعُه لو حاولتي تستفزِّيني، وحاولي تخلِّيها تعملِّك طرحة زفاف، الفرح ملايين من الناس هايشوفوه، وأكيد هيكونوا محتفظين بفيديوهات، الفستان يكون بكُم ..ممنوع كوافير راجل أو مصمِّم يقرَّب منِّك أو يلمسِك.
كانت تستمعُ إليهِ بسعادة، أيُعقَل أنَّهُ يغيرُ عليها كما أخبرتها والدتها...توقَّفَ أمامَ أحدِ أكبرِ الأتليهاتِ المشهورةِ بتصميمِ فساتينِ الزفاف، ترجَّلَ أولًا ثمَّ استدارَ يساعدُها بالنزول، احتضنَ كفَّها ودلفَ للداخلِ بخطواتهِ المتعاليةِ والواثقة.
وصلَ إلى الداخلِ خلالَ دقائقَ وخرجت المسؤولةُ ترحِّبُ بهم بعدَ معرفتها بهويتهما، أشارت لأحدِ المصمِّمين:
دا مستَر تَيم الديزاينِر.. تابعت حديثها:
من أكفئِ المصمِّمين، الآنسة تقولُّه اللي محتاجاه وهوَّ هاينفِّذُه بالظبط.
أشارَ بيدهِ بالتوقُّف، واتَّجهَ بنظرهِ إليها فتحدَّثَت نيابةً عنه:
محتاجة ديزاينر ديالا عجباني.. لو موجودة...أشارت إلى الرجلِ بالتحرُّكِ مع استدعائها لتلكَ المصمِّمة، ابتسمَ برضا متحرِّكًا للمقعدِ بينما هي توقَّفت تتحدَّثُ معَ المصمِّمة.. تحرَّكت للداخلِ وعينيهِ تراقبُ تحرُّكها بكلِّ دقة، تلاعبُها بأناملها مرَّة، وحركاتها فوقَ خصلاتِها... توقَّفَ متَّجهًا بعدما وجدَ أحدهِم يقتربُ ببعضِ التصاميم، شعرت باقترابهِ فجذبت الكتالوج تقلِّبُ فيه مع حديثها للشخصِ مع تلكَ المصمِّمة، حاوطَ خصرها ينظرُ للذي تنظرُ إليهِ متسائلًا:
بتتفرَّجي على إيه؟..
وضعتهُ أمامِه: بختار قصَّة تتناسب مع الموديل، ظلَّ يقلِّبُ معها ويتفحَّصُ بتدقيقٍ إلى أن وصلَ إلى إحداها، وأشار:
دا كويس... نظرت إليهِ متذمِّرة
إيه دا ياإلياس، عايزة واحد سمبل دا واسع أوي.
همسَ بجوارِ أذنها:
السمبل دا يتلبِس ليَّا لوحدي مش لجمهورية مصر العربية.
رفعت رأسها تنظرُ لعينيهِ القريبة، وتاهت بقربهم مع ارتعاشةٍ خفيفةٍ أفقدتها توزانها إلى أن أفاقتها المتوقِّفة:
الأستاذ ذوقُه حلو، بالعكس الفستان هايكون واو.
ابتسمَ يغمزُ لها:
إيه رأيك ياروحي.. نظرت لكفِّهِ المحتضنُ لخصرِها ثمَّ رفعت عينيها لهُ بعدَ تحرُّكِ الفتاة:
إلياس إنتَ بتحبِّني.. رجفةً قويةً تسرَّبت لجسدهِ يطالِعُها بشرود، احتصنت ذراعيهِ كي لا يهربَ كعادتهِ وحاورتهُ برجاء:
جوازنا حب ياإلياس وخلفُه ستار العيلة، ولَّا إيه.،وضعَ أناملهِ على شفتيها قائلًا:
ميرال جوازي منِّك عقل، أنا مش بتاع حب، لو عايزة شخص يدلَّع ويحِب يبقى ننفصل من دلوقتي، اخترتِك بعقلي، شوفت فيكي أمِّ ولادي، بلاش عقلِك يرسِم خيالات تانية.
طيِّب ليه بوستني.. ابتعدَ بنظرهِ ورسمَ البرودَ بملامحٍ جامدة:
عادي أي اتنين مخطوبين بيبوسوا بعض، فدي مش حاجة يعني..
انهارت أحلامها وتجمَّعت دموعها، تجذُبُ حقيبتها بوصولِ العاملة:
إيه رأيِك نحُط فصوص لولي.. طالعتهُ وأجابتها:
خلِّيه سادة من غير أيِّ زينة ولو غيَّرتي لونه لأسود هايكون أفضل.
أشار للمصممة مردفًا
-عايز احلى تصميم يخرج معاكي، أهم حاجة يكون مقفول، ومش عايزه ضيق
قالها وتحرك خلفها، وجدها تقف أمام السيارة تنظر بشرود، اقترب منها واراد مشاكستها، حاوط أكتافها مردفًا:
-طيب أنتِ عايزة ايه، عايزة تتخانقي وخلاص، طيب ياستي انتِ زي القمر ومش محتاجة كلام معسول
رفعت عيناها بدموعها التي انسابت رغمًا عنها
-عايز مني إيه ياإلياس..
-تتحجبي!!
رفعت رأسها تطالعه بذهول، ضغطت على ثيابها مع ارتفاع أنفاسها، ثم استدارت تفتح باب السيارة قائلة:
-عايزة اروح، لو سمحت مش قادرة اتكلم في حاجة
استقل السيارة بجوارها دون حديث آخر، وضعت رأسها على النافذة تنظر للخارج وانهمرت دموعها بصمت، تبغض دواخلها التي تريد قربه واحتضانه، شعور بالقهر لديها وهي تراه بذاك التلبد بالمشاعر، ماذا عليها أن تفعل حتى يشعر بنبض قلبها..نبض قلبها كررتها بينها وبين نفسها، نعم لقد خانني قلبي بالنبض إليه، كيف ياقلبي ستتحمل ذاك الجمود ممن عشقته
شعرت بأنامله على كفيها، استدارت برأسها تسحب كفيها قائلة بخفوت:
-انت رايح فين، أنا قولت تعبانة وعايزة اروح
-استحملي نص ساعة كمان.
تراجعت بجسدها واغمضت عيناها مبتعدة من نظراته..
طاف بعيناه ببطئ على ملامحها الناعمة، دنى برأسه يهمس بجوار أذنها
-جميلة وانت هادية، اتمنى تفضلي كدا
فتحت عيناها تنظر لقربه وهو ينظر إلى الطريق يفتح يديه إليها ليحتضن كفيها، نظر إليها لتضع كفيها بحضن كفيه...ابتسم ليرفعه يطبع قبلة عليه وتابع مستطردا
-عايزة تلبسي فستان اسود يامرمر
ضيقت عيناها مبتسمة رغمًا عنها بعدما تذكرت الفستان وتمتمت:
-مرمر.. إيه مرمر دي كمان..قهقه على مظهرها الطفولي قائلًا:
-مرمر دي بعد الجواز ..زمت شفتيها تطرق بأناملها بعصبية على ساقيها ملتفتة إليه:
-ليه يااليأس باشا، ماله ميرو، مرمر دا مش عجبني
-بجد..هزت رأسها هاتفة:
-بجد محبتوش ..رفع حاجبه بترفع متظاهرًا بإستخفاف وهتف:
-بس عجبني أنا، مش مهم إنت ..
مش إنتِ بتقولي يأس، سبيني أنا كمان أقول اللي عايزه
-سؤال مهم لإلياس باشا ..نظر إليها منتظر حديثها
-هو انت هتفضل كدا طول حياتك..
زوى مابين حاجبيه مستفسرًا عن ماذا تعني ..استدارت بجسدها
-هتفضل بارد ورخم كدا
توقف فجأة بالسيارة حتى اصطدمت بكتفه..نظر إليها محاولًا السيطرة على ألا يغضب عليها، سحب نفسًا:
-عايزة إيه ياميرال من الآخر كدا !!
-هتزعل مني ..
نظر للإمام وأردف بنبرة جافة:
-لا مش هزعل، انطقي عايزة ايه
-ابتلعت ريقها بصعوبة، وشعرت بغصة تمنع تتفسها، وهي ترى جموده أمامها
-ليه عايز تتجوزني ياإلياس، ومش تقولي الكلام الأهبل بتاعك لأني مش مصدقة، اقتربت بجسدها تدير وجهه إليها تتعمق بالنظر بعيناه
-مش هزعل وعد، مررت أناملها على وجنتيه بعدما فقدت قدرتها على الصمود أمام قلبها
-عايز تنتقم من ماما فيّا ياإلياس صح
أطبق على جفنيه من حركتها الناعمة التي جعلت قلبه كمعزوفة موسيقة، ارتفعت أنفاسه بعدما دنت أكثر واختلطت أنفاسها الناعمة بأنفاسه الحارة تهمس له
-عايز تنتقم مني صح..كررتها مرة أخرى، فتح عيناه لقربها المهلك لرجولته، رفع كفيه بلحظة غياب للعقل وابتسم وهو يضمها لصدره وتنهيدة حارقة قائلًا:
-أنا مش هجاوبك ياميرال على السؤال دا، بس لو إنتِ شايفة إن إلياس دا طبعه يبقى خلاص مهما أقول كلامي مالوش أهمية ..ابتسمت داخل أحضانه واغمضت عيناها تسحب رائحته الرجولية ..قاد السيارة بعدما راق وجودها بأحضانها وهناك سعادة تقوده إلى التنازل عن صموده أمام عاصفة الحب ..وصل إلى أكبر متاجر المجوهرات..لم تشعر إلا بتوقف السيارة، ظل صامتًا لمدة دقائق وهو يراها بأحضانه كالطفل
الذي يحتاج الحنان من والداته، مسد على خصلاتها وطبع قبلة فوق رأسها
-مرمر وصلنا، بس لو عجبك حضني، ممكن افرد كرسي العربية ونحضن بعض طول الليل عادي، اعتبرينا متجوزين
اعتدلت تنظر حولها وتراجعت معتذرة
-آسفة، شكلي نمت
أشار إلى صدره وهتف بمزاح
-لا صدري اللي حنين ياحبيبتي..
-حبيبتك، فتح باب السيارة، يشير إليها بالخروج
-انزلي ياميرال، ابطل اتكلم خالص علشان ترتاحي
سحب كفيها ودلف للداخل يطلب من صاحب المحل ...
-عايز أحلى تشكيلة خواتم او أطقم اي حاجة تليق بمدام إلياس السيوفي
طالعته بذهول قائلة:
-مالوش لزوم يإلياس..أشار إليها بالصمت، نهض الرجل قائلًا:
-لسة طقم واصل حالا إلياس باشا، هيكون على المدام رائع
-رمقه بنظرة مميتة مردفًا:
-لا ملكش دعوة انت هيكون عامل ازاي، هاته وبس ...
وضع الرجل أمامهما بعض من الأطقم، فأشار إليه بالرفض
-مش حلوين...أمسكت خاتمًا به بعض الفصوص الألماسية، أشارت إليه
-حلو دا ياإلياس هناخده...اغلق العلبة ورفع نظره للرجل
-دول أحسن حاجة عندك...
اومأ الرجل برأسه، فنهض يسحب كفيها
-غلطنا في العنوان حبيبتي تعالي نشوف غيره، قالها واستدار، فأوقفه الرجل متمتمًا:
-عندي واحد معمول خصيصًا لرجل أعمال خليجي لو عجبك بكرة الصبح يكون عندك ...توقف مستديرًا اليه، فأخرجه له ..توقفت بجواره تنظر إليه بذهول، استمعت إلى الرجل
-الطقم دا غالي جدا ياباشا، دا أمير لدولة عربية طلبه مخصوص
ملس بأنامله عليه، ثم حاوط خصرها يشير إليها برأسه
-عجبك..رفعت قلادته تنظر إلى فصوصها التي تحتوي على الزمرد الخالص
-حلو أوي، بس شكله غالي أوي حبيبي
أردفت بها دون وعي ...خفقة لذيذة انتابته، رغم أنها لم تعي لما تفوهت به وهي تتفحص تلك الاساور التي أمامها
همس لها:
-الغالي يرخص لك ..رفعت عيناها مبتسمة ثم وضعته
-صدقني مش فارق معايا كفايا انك افتكرت حاجة مهمة زي دي ..
استدار للرجل
-عايزه بس مش نفس الشكل، هتعملي القلوب دي فراشات صغيرة واللون الأزرق خليه اخضر، ووصلي الخواتم بالاساور بتعته، المهم يكون مختلف واحسن من دا
احتضنت ذراعه ولمعت عيناها بالسعادة وهي تراه يشترط بتغييره للأفضل ..تحرك بعدما أعطاه التفاصيل الكاملة..خرج وهي بجواره تتحرك كالاميرة التي توجت بالتاج الملكي
توقف أمام السيارة ينظر لكفيها الذي يتشبث بذراعيه:
-نتعشى بدل العشا اللي باظ
دفنت رأسها بكتفه وافلتت ضحكة
-لسة فاكر..رفع ذقنها يملس على وجنتيها
-بتكوني جميلة وانت بتضحكي، دايما اضحكي
اعتدلت بجسدها واحتضنت عيناه بنظراتها العاشقة متمتمة:
-مش يمكن علشان انت جنبي ..حاوط جسدها وطبع قبلة فوق خصلاتها
-ربنا يخليكي ليا...تنهيدة عميقة اخرجتها وهي تشعر بالسعادة تحاوطها
بعد قليل وصلوا لأحدى المطاعم المشهورة، ترجل وهي تجواره وابتسامتها الخلابة تزين وجهها ، خلل أنامله بأناملها وتحرك إلى الداخل
وصل لإحدى الطاولات التي تطل على النيل مباشرة بأحد الأركان الهادئة...جذب المقعد واجلسها واتجه يجلس بمقابلتها
-تاكلي ايه!! ...هزت أكتافها قائلة؟!
-اللي تختاره...أدار الكوب الذي أمامه وتعمق بالنظر إليها
-يعني اللي بحبه هتحبيه..استندت على كفيها وهزت رأسها متمتمة:
-أكيد ...وصل بعد قليل الطعام يشير إليها
-اتمنى ذوقي يعجبك
طافت بنظرها مبتسمة
-دا أكلي المفضل، ضيق عيناه متصنع عدم الفهم
-بجد..اعرف انك ميالة للاكل التركي اكتر من الايطالي
دنت برأسها كأنها تهمس له وتعمقت بالنظر لعيناه
-تؤ يازوجي العزيز، مبحبش تعاملني على إني غبية
أطلق ضحكة رنانة، وتراجع بجسده يشير إليها بالأكل
-طيب كلي يامراتي العزيزة، مش محتاج اعاملك على إنك غبية
ترفعت بحاجبها الأيسر متدللة بحديثها
-والله، يعني انا غبية ..امسك الشوكة والسكينة ومازالت ابتسامته على وجهه يهز رأسه:
-لا سمح الله أنا اللي غبي متزعليش
هزت رأسها معترضة بشقاوة
-بتحب تهرب وخلاص ..ظلا لبعض الوقت وهم يتناولون الطعام مع بعض الأحاديث الجانبية إلى أن توقفت عن الطعام
-إلياس عايزة ارجع شغلي
-حاضر..قالها بهدوء وهو يتابع المطعم بنظراته
بجد ..قالتها بسعادة طفلة حصلت على أفضل ألعابها، التفت إليها وهو يلوك طعامه بهدوء يهز رأسه
-ايه الغريب في كلامي، حقك ترجعي شغلك، بس بشرط
طالعته منتظرة حديثه بلهفة
وضع السكين وتراجع بجسده للخلف ودقق النظر بها قائلًا:
-ابعدي عن اللقاءات السياسية، بلاش شغلك في رصد الخبر، ممكن تعيني طقم لكدا، إنما أنتِ تخرجي وتعملي لقاءات لا ياميرال مش موافق
-وفين شغلي في كدا ياالياس، فين طموحي، فين فرحتي لما اشوف الاخبار اللي حصلت عليها رصدت نجاح، لا طبعا دا مش شغل دا استهتار
مط شفتيه للأمام وصمت دام للحظات بينهما إلى أن قاطعته قائلة برجاء
-لو ليا خاطر عندك فعلا، حاسسني بقيمتي، بلاش تحرمني من حاجة بحبها لو سمحت:
-موافق ياميرال ..خاطرك غالي عندي، مش أنا اللي أحطم طموحك، أنا رفضت الإذاعة علشان عارف متاعبها فيما بعد، صدقيني مش تحكم قد خوف عليكي، ابتسم مقتربا منها
-لسانك طويل اه، بس أنتِ بريئة جدا، مش حمل ألعاب قذرة، المجالات دي بتموت البراءة والطيبة، وأنا محبتش أموت برائتك ..بس دا كله بعد مانرجع من شهر العسل
بعض الكلمات أثرها كالنسمة التي تدلف لروحنا تحياها، فلقد أحيت كلماته روحها مرة أخرى لتتعمق بالنظر إليه بعشق انبثق من عينيها دون خجل
نهض من مكانه بعدما استمع الى الموسيقى الهادئة يبسط كفيه
-تعالي نرقص..توقفت تضع كفيها ليحضتنه، متحركًا إلى ساحة الرقص
حاوط خصرها يقربها إليه، لترفع ذراعيها تعانق رقبته لأول مرة وعيناها تحتضن عيناه وابتسامة تشق ثغرها متمتمة:
-معقول برقص معاك، تعرف اتمنيت كتير نرقص مع بعض
انكمشت ملامحه بتساؤل:
-ليه، ايه الصعوبة في كدا
مررت كفيها على صدره ومازالت عيناها تعانق عيناه
-خفت دا يكون ملك حد تاني
تبسمت عيناه بمكر وانحنى برأسه يهمس لها:
-دا مش هيكون ملك لأي واحدة طمني نفسك ..توسعت عيناها تطالعه بغضب وأردفت بنبرة حادة:
-يعني ايه بقى ..قهقه عليه يضمها ويتحرك مع الموسيقى يهز رأسه
-مجنونة على طول ..تبسمت على ابتسامته، تضع رأسها على صدره لتستمع إلى أجمل المعذوفات الموسيقية التي لم تريد سواها لف ذراعيه حول خصرها بتملك وتنهيدة غرامية تحيي القلوب يريد من الله أن يتتم زواجهم على أكمل صورة تمناها منذ سنوات
بعد فترة توصلا إلى المنزل وكل واحدًا يحمل بداخله الكثير من المشاعر التي تحياه لعدد من السنوات..توقف بالسيارة فاستدارت بجسدها إليه
-شكرا إلياس متوقعتش الليلة هتكون حلوة كدا، ميرسي بجد
اومأ لها دون حديث، دنت تطبع قبلة على وجنتيه قائلة بصوت خافت اقرب إلى الهمس
-اتمنى ليالينا كلها تكون كدا ..قالتها وترجلت من السيارة، أما هو ظل كما يراقب مغادرتها الى أن اختفت من أمامه..تراجع بجسده واغمض عيناه هامسا لنفسه:
-وبعدهالك ياميرال شكلك هتضعفيني، أنا فعلا مكنش ليا جواز زي ماقولتي
خلل أنامله بخصلاته وزفرة حارة بمكنون صدره يعاتب نفسه:
-ياترى ناوي على ايه ياإلياس، هتقدر تصمد قدام قلبك، ولا هتقدر تضغط على فريدة علشان تعرف منها الحقيقة
ظل يخلل أنامله التي كاد أن يقتلع بها خصلاته قائلًا:
-المهم تحقق اللي بتخطط له، ومتكنش لغيرك، ترجل بعدما سيطر على غضبه، إلى أن أوقفه رنين هاتفه:
-البنت اللي قبضنا عليها امبارح اغمى عليها ولما فاقت مش مبطلة صريخ
اتجه إلى سيارته مرة أخرى قائلًا:
-أنا جاي، عشر دقايق وهكون عندك
بعد قليل وصل إلى مكتبه يشير للعسكري
-هات البنت دي مااشوف اخرتها ايه مع الحيوانات اللي زيها
بعد دقائق دلفت للداخل ..تطالعه برهبة وهو ينفث سجائره ينظر إليها بنظرة المفترس الذي يريد الأنقضاض على فريسته
-مين بيمولك يابت، وكنتوا ناوين تعملوا ايه
قالها وهو مستندا بجسده على المقعد وعيناه متركزة عليها ينفث تبغه
هزت رأسها مع بكاؤها
-أنا ماليش دعوة، أنا كنت هناك ..توقف يشير إليها بالتوقف
-مش عايز لاك كتير، من امتى وانت مع العيال دي، ومين اللي بيمولكم ..جلس يرفع ساقيه فوق المقعد بعدما وجدها تنكمش بركنا وقامت بقص ماصار
-أنا كنت رايحة للمستر بتاع اخويا، البواب قالي هتلاقيه في الشقة التانية علشان في تصليحات بشقة المستر، رنيت الجرس وقبل مااتكلم لقيت نفسي جوا الشقة وبعدها حضرتك وصلت
-لا حلوة دي..كملي كملي يا شهرزاد الحكايات
أيقنت أنها وقعت في شباك المتجبر، حاولت الدفاع عن نفسها، فاقتربت من مكتبه
-أنا قولت لحضرتك اللي اعرفه، غير كدا معنديش كلام تاني
نفث سيجاره ومازال على وضعه، تأففت من عنجهته، فتراجعت بعد صمته، انزل قدمه من فوق مكتبه،
-عمال تلفي وتدوري، انا عايز أعرف مين اللي هرب قبل مانوصل
استغفرت ربها بسريرتها، وابتعدت بنظراتها بصمت ..نصب عوده الفارغ واقترب بعدما حمل فنجان قهوته، ونظراته الثاقبة تحرق وقوفها، تراجعت للخلف وقلبها عبارة عن مضخة، حتى شعرت أنه استمع اليه، نظر إليها ساخرا ثم هتف:
-لا ولابسة حجاب، بتداري فيه ياروح خالتك ..
-لو سمحت ياحضرة الظابط مسمحلكش انك تغلط في والدتي
امسك فنجان قهوته والقاه فوق كفيها، لتأن بدموع انسابت رغما عنها حينما صرخ بها
-انتِ مين علشان تردي عليا ..استمع إلى طرقات على باب مكتبه ، دلف المسؤل عن مكتبه
-إلياس باشا صاحب الكارت دا عايز يقابل حضرتك ضروري
اقتحم ارسلان مكتبه معتذرا:
-إلياس باشا ..توقف إلياس يطالعه بجهل:
-مين؟!..التفت بنظره للمنكمشة بمكانها وعيناها متحجرة بالدموع ثم اتجه بنظره إلى إلياس قائلًا:
-أنا خطيب الأستاذة اللي حضرتك بتحقق معاها
-نعم يااخويا، ودا يدلك الحق تدخل عليا وعامل فيها..قاطعه عندما أشار إليه بيديه:
-لحظة لو سمحت علشان الموضوع ميطورش بكلمات لا داعي منها من ظابط كبير زي حضرتك ..بسط كفيه للتي توقفت تطالعه بصدمة ثم أخرج بطاقته الخاصة يرفع عيناه إلى إلياس عله يفهم معنى نظراته
تراجع إلى مكتبه بعدما فهم مغذى حديثه، جلس يشير إليه بالجلوس
ولكنه اقترب من تلك الفتاة وجذبها من رسغها قائلا:
-مرة تانية ياباشا، لازم ترجع البيت أهلها قلقانين، واتمنى موضوع القضية يتلم أكون ممتن لحضرتك
كانت نظراتها نافرة اتجاهه، فابتعدت تنزع كفيها من كف أرسلان .ظل إلياس يطالعهما بشك، حك ذقنه ونظر إلى ارسلان
-خطيبتك!!
استدار متحركا قائلاً:
-اظن الكارت اللي في ايد حضرتك يوضح كل حاجة..بعد اذنك
خرج من المكتب ، نزعت كفيها وتحركت سريعا بعيدا عنه
-استني عندك !!..توقفت تواليه ظهرها ..اقترب حيث وقوفها
-متفكريش إن الموضوع انتهى على كدا، مش معنى اني انقذتك يبقى برأتك
-إنت مين وعايز مني إيه ؟!
-هعوز منك ايه، اللي عايز افهمه، بنت محترمة زيك ايه يوديها مكان زي دا، وقبلها بيومين كانت هتموت وهي بتهرب مجرم، عارفة لو اتأكدت انك تبعهم هدفنك حية
رمقته بنظرات صامتة ثم استدارت متحركة تهبط الدرج سريعا، تحرك خلفها بعدما ارتدى نظارته ورفع هاتفه :
-كله تمام ياباشا، البنت خرجت
على الجانب الآخر
-وقدرت تاخدها من إلياس
توقف وعيناه تتابع سيرها عبر السيارت وهتف متهكمًا:
-إلياس على نفسه ياباشا، ايه هتقارن ولا ايه
-لا جدع يا صقر، المهم عندك سفرية خلال يوم ومهمة جدا، لكن عندنا شرط ياصقور
وضع كفه بجيبه وأطلق ضحكة هاتفا:
-القي اوامرك ياباشا
-عريس بيقضي شهر عسل في ايطاليا
-نعم ، دي مهمة ولا سجن
قهقه يعقوب:
-ارسلان مبروك مقدما ياحبيبي ، قدامك ساعة والعروسة تكون قدام المأذون
-اكيد بتهزر ياعمو
-البنت قبل ماتطفش ياارسلان
كور قبضته وفهم الان لما ضغط عليه بتدخله لإخراجها ، فاق على حديث عمه
-لو رفعت راسك هتلاقي إلياس بيراقبك ياكنج، نص ساعة وهتلاقيه مرجع البنت تاني، وبعدها انت عارف ايه اللي ممكن إلياس يعمله، دي قضية أمن دولة ياصقور
-اووف ..اوووف ، انا استقالتي هتكون عند جنابك بعد ساعة
-أيوة عارف، ومتنساش تبصم على قسيمة الجواز وتنزلها علشان اقولك مبرووك ياوحش
قالها وأغلق الهاتف..جز على أسنانه
-كان نقصني عروسة، ودي هعمل معاها هنلعب مع بعض
اه يااسحاق اه دماغك سم
بعد قليل وصلت غرام إلى منزلها..هب والدها يقابلها بقلب متلهف
-غرام ..قالها وهو يفتح ذراعيه
ألقت نفسها بأحضان والدها تبكي بصوت مرتفع:
-بابا حبيبي والله يابابا أنا ماليش دعوة، هم هم ..قالتها بشهقات
أخرجها والدها يحتضن وجهها وطبع قبلة فوق جبينها
-عارف ياروح بابا، ارسلان باشا حكى لي ...ضيقت عيناها متسائلة:
-مين ارسلان باشا دا ..أشار والدها إليه خلفها..اقترب منها ورسم ابتسامة
-أنا اسمي ارسلان، اسف مجاش مناسبة نتعرف، بس انا حكيت لوالدك على كل حاجة ..رفع رأسه لوالدها
-ممكن نتكلم على انفراد
اومأ له محمود والدها يربت على ظهرها قائلًا:
-حبيبتي أكيد تعبانة، ادخلي صلي ونامي، وخلي زياد يعمل شاي للباشا
هز رأسه وجلس يشير إليه بالجلوس
-اسمعني حضرتك علشان مفيش وقت
شعر محمود بالريبة فجلس منتظر حديثه:
-مخبيش على حضرتك، بنتك بقت تحت الميكرسكوب من المافيا، وكمان أمن الدولة، حضرتك محترم وراجل طيب علشان كده أنا مستعد أحميها، أنا بقالي فترة براقبها من وقت ما اختي قالتلي عليها وعجبتني جدا، وكنت هجي اطلب أيدها بس الظروف اللي حصلت أجلت كل حاجة
-هو انت شغال ايه يابني ..أخرج البطاقة الخاصة به وتحدث بهدوئه المعتاد:
-اتفضل حضرتك ممكن تسأل عني، علشان تطمن، بس أنا قاعد مع عمي، فيه خلاف في العيلة وأنا مع عمي بس قبل ماتظن حاجة مفيش مشاكل مع والدي، الموضوع بين الكبار، فلو حضرتك وافقت هكون طبعا سعيد، وزي ماوعدتك ارجع لك بنتك، بوعدك دلوقتي اشيلها جوا عيوني، وهتكون أمانة ودا وعد من راجل حر كلمته سيف على رقبته
فتح محمود فاهه للحديث فاقطعه معتذرا:
-قبل ما حضرتك ترد عليا بنت حضرتك كانت في أمن الدولة اتمنى تفهم معنى الكلمة كويس، ولولا تدخل عمي بعد إلحاح مني مكناش عرفنا نوصلها حتى، دي كانت في شقة ارهابين ..وانا قولت للظابط أنها خطيبتي فلولا كدا مكنش خرجها، غير أنه مش هيسبها واكيد هيبعت علشان يتأكد
-أنا موافق يابني، ثقتك بنفسك ووعدك دا كفيل اني اقولك بنتي أمانة عندك، لكن لازم اخد رأيها وارد عليك، نظر بساعة يديه وتحدث:
-بكرة الضهر لو وافقت هنكتب الكتاب علشان لازم نسافر لحد مالدنيا تهدى، اما لو رفضت ومااتمناش كدا طبعا يبقى كل شي قسمة ونصيب بس أنا برضو لازم اسافر خلال يومين بالكتير عندي شغل متعطل، خايف بعد سفري الاتنين يستفردوا بيها
توقف يشير إليه :
-ممكن اتكلم معاها خمس دقايق بس
بفيلَّا السيوفي عادَ بعدَ أكثرِ من ثلاث ساعاتٍ بالخارجِ، وجدَ الجميعَ بغرفةِ المعيشةِ سواها، تحرَّكَ ملقيًا السلامَ يبحثُ عنها بعينيه، اتَّجهَ إلى أختهِ وجلسَ بجوارِها، ثمَّ انتقلَ بعينيهِ إلى فريدة التي تطالعهُ بلهفةٍ واشتياق، ابتعدَ بنظرهِ عنها وهو يجذبُ ثمرةً من الموزِ الموضوعِ على الطاولةِ متسائلًا:
فين ميرال، مش باينة؟..
فوق بتعمِل فيديو للتيك توك..ابتلعَ الموزَ الذي شعرَ بتوقُفها بحلقه، يطالُعها بصدمة:
بتعمل إيه!..حمحمت معتذرةً تنظرُ إلى فريدة قائلة:
لا..فهمت غلط، قصدي بتعمِل فيديو علشان تعلن عن حفلةِ الزفاف، دعوة يعني ...هبَّ من مكانهِ واتَّجهَ إليها يأكل الأرض بخطواتِه، نهرتها فريدة قائلة:
لازم تتسحبي من لسانِك يعني..
ابتلعت ريقها معتذرة:
مكنشِ قصدي..توقَّفت فريدة قائلة:
هشوفهم بدل مايعكننوا على بعض، الحنَّة بكرة.
سحبها مصطفى يجذبها للجلوس:
أقعدي حبيبتي، ماتخافيش..ماشفتيش لهفتُه عليها إزاي من أوِّل مادخل، إلياس بيحب البنت وبيغير عليها.
أُنيرَ وجهها بابتسامةٍ ناعمةٍ تهزُّ رأسها:
أيوة لاحظت كدا، تفتكِر بيحبَّها بجد صح..كان إسلام جالسًا بعيدًا يوزِّعُ نظراتهِ بينها وبينَ والده، رجعَ برأسهِ على الأريكةِ وأغمضَ عينيهِ يهمسُ لنفسه:
ياترى إلياس هيعمِل إيه لما يعرف، دا أنا ومش متحمِّل الكدبة، ربنا يقويك ياإلياس على أيامَك الصعبة..اقتربت غادة تلكزُه:
سلُّومة بتكلِّم نفسك حبيبي؟!..انتبهت فريدة لحديثِ غادة:
مالَك حبيبي، اعتدلَ يطالِعُها ورسمَ ابتسامة:
كويس حبيبتي..قالها وهو ينصبُ عودهِ قائلًا:
هطلَع أنام ساعتين علشان أقوم الفجر أذاكر شوية بعد إذنُكم..
تصبح على خير حبيبي ..أردفت بها فريدة.
بالأعلى قبلَ قليلٍ دفعَ البابَ بغضبٍ يبحثُ عنها بعينينٍ كادت أن تخرجَ من محجريها، وجدها تجلسُ أمامَ الطاولةِ تضعُ الهاتفَ أمامها وتتحدَّثُ مبتسمة، نظرت للذي دلفَ بتلكَ الهمجية، وصلَ إليها بخطوةٍ وأطبقَ على الهاتفِ يلقيهِ بالأرضِ حتى أصبحَ قطعًا متناثرة، واتَّجهَ إليها بعينينٍ ترمقها بنيرانٍ يريدُ إحراقها بها، جذبها بقوَّةٍ حتى توقَّفت وهي تطالعهُ مذهولةً يهدرُ بصوتٍ صاخب:
بتعملي إيه..قاعدة بتضحكي قدَّام الكل ليه..مالكيش راجل يلمِّك، دفعها بقوَّةٍ على الجدارِ وأطبقَ على ذراعيها بقسوة:
إيه اتخرستي، مابترُديش ليه، طافَ بنظراتهِ على ملابسها التي جعلتهُ ككتلةٍ ناريةٍ قابلةٍ للانفجار..تراجعَ يكوِّرُ قبضتهِ يضغطُ عليها بقوَّةٍ ثم لكمها بالحائط حتى يُخرجَ غضبهِ الذي لو وصلَ إليها سيحرِقُها لا محالة..أمَّا هي كانت تطالعُ تحوُّلهِ بصمتٍ لا تعلمُ لماذا هذا التحوُّل ..اتَّجهت إلى الفراشِ وجلست عليهِ ومازالَ الصمتُ مسيطرًا على الغرفةِ سوى من أصواتِ أنفاسهِ المرتفعة..نظرت لهاتفها بعيونٍ مترقرقةٍ بالدموع، تُحدِّثُ نفسها:
هل هذا حبًّا أم جنونًا وتملك، وصلَ إلى جلوسها:
فيه واحدة محترمة تعمل اللي إنتِ عملتيه، ظلَّت صامتة ولم تُجب عليه..
انحنى يضغطُ على فكَّيها بقوَّةٍ ينهرُها بعنف:
مابترُديش ليه يامحترمة، فيه واحدة محترمة تقعد قدَّام الناس بقميص نوم، إنتِ عايزة توصلي لإيه، عايزة تخلِّيني أكون مجرم..دفعها بقوَّةٍ على الفراش ومالَ عليها بجسدهِ يهدرُ من بينِ أسنانه:
أموِّتِك وأريَّحِك وأرتاح ياميرال سمعتيني، لو ماحترمتيش نفسِك هموِّتك، إنتِ مابقيتيش طفلة، إنتِ كبيرة وفرحِك بكرة ياأستاذة وبعد فترة هتكوني أم، إيه هتعلِّمي ولادِك إيه بتربيِّتك دي
ظلَّت صامتةٌ تتابعُ غضبهِ بعينيها التي تحاولُ ألَّا تضعُفَ بدموعها أمامه.
اتَّقدَ غضبهِ من صمتها، حاولَ سحبَ نفسًا عميقًا حينما التقطت عيناهُ عينيها التي تزيَّنت بخطٍّ من الدموع، عتابٌ فقط أطلقتهُ بعينيها وصمتها الذي خنقه، مرَّرَ نظرهِ على هيئتها التي حطَّمت صمودهِ وسيطرتهِ حينما دلفَ ووجدها بتلكَ الهيئةِ وهي تتحدَّثُ بالهاتف ..لم يشعر بنفسهِ وهو ينحني إلى خاصتها يرتوي من شهدها الذي اعتبرهُ نجاتهِ من غضبه عليها، غضبًا يليقه، في لجَّةِ ظلامِ قلبه..ظلَّ للحظاتٍ إلى أن اعتدلَ وخرجَ سريعًا بعدما فقدَ سيطرتهِ التي بدأت تتلاشى مع دموعها التي تذوَّقها بقبلته.
احتضنت نفسها بعد خروجهِ وأطبقت على جفنيها وبداخلها شيئًا واحدًا، أنَّهُ ملاذها وقسوتها، عشقها وكرهها، ضعفها وقوَّتها، هو الحياةُ ومن بعدهِ تذهبُ للجحيم، مرَّرت أناملها على ثغرها الذي مازالَ متأثرًا بقبلته، وذهبت بنومٍ لا تعلمُ كيف وصلت إليهِ بعد رحلةِ عذابٍ منذُ قليل.
أمَّا هو دلفَ إلى غرفته، وبدأ يدورُ حولَ نفسهِ كالأسدِ الجريح، كلَّما تذكَّرَ هيئتها وأنَّ غيره رآها بتلكَ الهيئة، يقودهُ عقلهِ للجنون، ماذا عليهِ أن يفعلَ..أيقتُلها حقًا، أم ماذا..
رفعَ كوبَ الماءِ يتجرَّعهُ مرَّةً واحدةً علَّهُ يشعرُ برطوبةِ رئتيه التي جفَّت وكأنَّه غريقٌ برمالٍ متحرِّكةٍ تقودهُ إلى باطنِ الأرض..ضغطَ بقوَّةٍ على الكوب، ليتحطَّمَ بكفِّه، حينما تذكَّرَ قبلتهِ إليها وكأنَّهُ مراهقٌ يريدُ الأكثر والأكثر، هزَّ رأسهِ غضبًا من نفسهِ وتحرَّكَ إلى الحمامِ علَّهُ يطفئُ نيرانَ غضبه..دلفَ تحتَ المياهِ بثيابهِ ومازالت صورتها بهيأتها وشعورهِ بقبلتها يحطِّمُ قلاعهِ التي شيَّدها وحصَّنها منذُ سنواتٍ من فتنتها.
خرجَ ينزعُ ثيابهِ ودلفَ لكابينةِ الأستحمَّامِ لدقائقَ ينظرُ لتلكَ الملابسَ الملقاةِ بالأرضيةِ تحملُ رائحتها التي كادت أن تخنقُه .. دقائقَ معدودةً وخرج.. وجدَ إسلام ينتظرهُ بداخلِ الغرفة، رمقهُ بنظرةٍ واتَّجهَ إلى سجائرهِ متسائلًا بنبرةٍ باردةٍ وكأنَّهُ ليسَ الذي كانَ يحترقُ منذُ دقائق...توقَّفَ إسلام ودقَّقَ النظرَ بملامحهِ مردفًا:
هوَّ إحنا ليه مش شبه بعض..ابتسمَ عليهِ قائلًا:
مش فاهم هيَّ ناقصة غباء ياإسلام.. كفاية عليَّا ميرال وحركاتها.
بتحبَّها...توقَّفَ عن خروجِ تبغهِ حتى أخنقهُ بالداخلِ ليسعل، ربتَ إسلام على ظهرهِ وتابعَ حديثهِ مستطردًا:
بتعشقها مش بتحبَّها واللي بتعملُه غيرة صح؟.،أشارَ للبابِ قائلًا:
روح شوف وراك إيه، أنا مصدَّع، كلام المراهقين دا مش تبعي ..مطَّ إسلام شفتيهِ يهزُّ رأسهِ مردفًا:
بس هي بتحبَّك أوي على فكرة، لو مش مصدَّق روح شوف النوتس بتاعها هاتلاقيه في بوكس في مكتبتها، بلاش تضيَّعها بعصبيِّتَك، ميرال طيِّبة، عاملها كحبيبة بلاش شغلِ المجرمين بتاعَك دا ..قالها وتحرَّكَ للبابِ ثمَّ عادَ إليهِ يضمُّهُ قائلًا:
أنا بحبَّك أوي ياإلياس، تأكَّد مهما يحصل هاتفضَل أخويا ومثلي الأعلى في الدنيا، وبخاف عليك جدًا ومستعد أضحي بحياتي كلَّها علشان أشوفك سعيد، حافظ على حبيبتَك وبلاش تقلِّب في الماضي، طنط فريدة أعظم أم في الدنيا وبكرة الأيام تثبتلَك.
قالها وتحرَّكَ سريعًا بعدما تجمَّعت دموعهِ بعينيه.
طالعَ تحرُّكهِ بذهنٍ شارد:
الواد دا من إمتى بقى عاقل كدا..ربِّنا يصبَّرني، ميرال جنِّنت البيت كلُّه، هنا تذكَّرها وشعرَ بوخزةٍ حينما تذكَّرَ دموعها، تحرَّكَ إليها دلفَ بهدوءٍ عكسَ هيأتهِ منذُ دقائقَ وجدها تغفو تحتضنُ نفسها بعكسِ فراشها، مازالت بوضعها كما تركها، نظرَ لسيقانها المرمرية، يهزُّ رأسهِ ثمَّ انحنى و حملها وأعدلَ نومها وقامَ بسحبِ غطاءٍ خفيفٍ ودثَّرها بهِ، ينظرُ لدرجةِ المكيف ..جلسَ بجوارها على الفراش، يدقِّقُ النظرَ بملامحها، سنواتٌ طويلةٌ لم يقترب منها مثل قربهِ إليها اليوم، وضعَ سبباتهِ على شفتيها
متذكِّرًا قبلتهِ اليومَ إليها، هل سيدومُ النعيمَ بينهم أم سيحرمُ منها منذُ إغلاقهِ عليها النعيمَ الذي تنتظرهُ منه، تذكَّرَ حديثها مع أختهِ منذُ فترة.
فلاش:
عادَ من عملهِ وجدهما تجلسان بالحديقة، واستمعَ إلى حديثها:
لا ياقلبي، إلياس مين دا اللي أتجوِّزُه، أنا عايزة راجل فرفوش، كلِّ أسبوع يلفِّ بيَّا بلد، بالنهار يدلِّلني ويفسَّحني وبالليل برضو يكون ليَّا لوحدي
لكزتها غادة:
جاحدة ياميرو، وياترى هاترقُصيلُه يابت ..تنهَّدت بعمقٍ وصفَّقت بيديها:
دا هاخليه مايشوفشي غيري، هوَّ أنا هيِّنة ولَّا إيه يابنتي.
تناولت الكريز وقامت بتقليدِ مصطفى،
مش عمُّو مصطفى اللي جاي يقولِّي:
أنا قرَّرت أجوِّز ميرال لإلياس..نعم دا أعمِل معاه إيه، دا هيدفنِّي في سجن من سجونه، ويكلبشني دا يابنتي مش بتاع جواز، أنا عايزة واحد حليوة كدا زي أفلام هولييود.
نعم ياختي ودول أحسن من أخويا..
نعم..أخوكي مين، بقولِّك أبطال هوليوود مش اليأس.
أممم ودول هاييجوا إزاي؟..
بكرة تشوفي، هوَّ أنا وحشة، دا ياحبيبتي كلِّ يوم واحد هيموت علشان يوقَف بس يتكلِّم معايا بس أنا اللي مكبَّرة ..
-لا والله، ليه الحلوة جورجينا..
جذبت منها الفواكه:
أحسن منها ياماما، روحي إسألي عنِّي في الجريدة وشوفي هيقولوا ايه عليَّا، أحسن حاجة مطمنناني إن أخوكي اليأس رافض الجواز، أهو أرتاح منُّه لو عمُّو أصر، وأحسن حاجة إنُّه بيكرهني ..
قهقهت غادة تجذبها من شعرها:
واللهِ أنا اللي بدعي ربنا تتجوِّزوا علشان أفرح فيكي.
خرجَ من شرودهِ على حركةِ يديها فوقَ يديه..نظرَ ليديها وابتسم:
عايزة واحد يعيِّشِك في الجنَّة..انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها:
"أهلًا بيكي في جنِّة إلياس السيوفي ياروح إلياس، قالها ونهضَ من مكانهِ متَّجهًا للخارج.
بعدَ يومين..وهو اليوم المقرر ليومَ الزفاف:
استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها، دلفَ بعدما استمعَ إلى صوتها:
مساء الخير..حانت منها التفاتةٍ بعدما استمعت إلى صوته، لم تراهُ منذُ يومينِ
بعدَ آخرَ لقاءٍ بينهما ...شملها بنظرةِ إعجابٍ قائلًا:
عاملة إيه، تركت مابيدها، رفعَ نظرهِ لغادة:
- حبيبتي سيبيني شوية مع ميرال.
-بسرعة ياأبيه هنتأخَّر ..
نهضت من مكانها وتحرَّكت إلى الشرفةِ
فهمَ ماتشعرُ به، اقتربَ منها:
النهاردة هانبدأ حياة جديدة مع بعض، أتمنى تفهمي يعني إيه حياة جديدة خاصَّة بينا، مش عايز حاجة تشغلِك غير أولياتِك، أكيد مدام فريدة فهِّمتك..
مش عايز كلِّ شوية نتخانق زي الأطفال، ماليش في شغلِ العيال دا..
تقلَّصت المسافة بينهما، وقاطعتهُ قبلَ أن يستكملَ حديثه:
حضرة الظابط ماليش خُلق لأوامرك، لو خلَّصت اطلع برَّة عايزة أغيَّر علشان أنزِل أتنيِّل للعبة اللي حضرتَك بتخطَّطلها، عارفة ومتأكدة الجواز دا وراه حاجة، ماهو العاقل مش مرَّة واحدة هيفكَّر يتجوِّز هبلة صح ولَّا إيه..يالَّه ياسيادةِ العاقل المستَّفِز عايزة أغيَّر.
أنهت حديثها وهي تشيرُ إليهِ بالخروج..دنى منها لتتراجعَ للخلفِ وهو يهمسُ بهسيس:
ماتفكَّريش يابت علشان واقفة في البلكونة مقدرش أعمل فيكي اللي عايزُه، لا ماتنسيش إنِّك واقفة قدَّام إلياس السيوفي.
حصلِّنا الشرف والقرف ياسيادة ابنِ السيوفي، وماتنساش أنا مرات ابنِ السيوفي اللي بتقول عليه ولو مش عجبَك طلَّقني.
اغتاظَ من حديثها ، ليجذبها من خصرها لتصطدمَ بصدرهِ ويلفَّ ذراعهِ حولَ جسدها:
ليه يامرمر أطلَّقِك؟..مش لمَّا أتجوِّزك الأول ياروحي ..احتقنَ وجهها بالغضبِ
نصبت قامتها تطالعهُ بكبرياءٍ وطوَّقت خصرهِ مبتسمةً بفتور:
ومالو ياروحي، نتجوِّز مش نتجوِّز ليه
ممكن بقى تسبني علشان أجهز لعريسِ الغفلة.
التصقَ بها للحدِّ الذي جعلها تقبضُ أنفاسها من قربهِ المهلك، وتلاقت الأعينُ على حافةِ العندِ يداعبُ وجهها:
الليلة هاتكوني في حضني يامرمر، انحنى يهمسُ لها:
تخيَّلي بقى لمَّا تكوني في حضني هعمِل فيكي إيه..قالها وهو يحرِّكُ أناملهِ على جسدها مما جعلها تفقدُ اتزانها ولم يكتفِ بذلك بل تمادى بوقاحتهِ كما زعمت:
جبتلَك جميع أنواعِ بدلِ الرقص علشان تدلَّعي جوزِك، تؤ تؤ للأسف مش هيعرَف يلفِّفك كلِّ أسبوع دولة، بس ممكن نلف كلِّ أسبوع على سجنِ النسا، وأعرَّفِك إزاي الستات بتتعامِل معاملة الرقَّاصة.
ارتجفَ جسدها من نبرتهِ الجليديَّة، وعلمت أنَّهُ استمعَ الى حديثها، لمسَ شفتيها التي انفرجت مرتعشةً من حديثهِ وتابعَ بمكر:
أه..بالنسبة للروج اللي فرحانة بيه، وباعتة جيباه من أغلى الماركات، ليه بس تكلِّفي نفسِك، أنا مش بتاع الحركات الهبلة دي.
دفعتهُ بقوَّةٍ بعيدًا عنها بعدما فقدت سيطرتها:
اطلع برَّة بدل ماأهربلَك من الفرح وأفضحك عادي.
غادرَ وهو يطلقُ صفيرًا يشيرُ بيديه:
مرمر عايز عروسة أفرح بيها الليلة..توقَّفَ وغمزَ بطرفِ عينه:
هاشوف ست الدلال وهيَّ بتدلِّل.
- أاااه، صرخت وهي تضربُ قدمها بالأرضِ هاتفةً بغيظ:
بارد ومستفِّز ..بالخارجِ دلفَ إلى غرفةِ فريدة بعدَ السماحِ بالدخولِ وجدها تلملمُ سجادةِ صلاتها، اعتدلت تطالعهُ بفرحة:
حمدلله على سلامتك حبيبي، قلقت عليك.
استجمعَ شتاتَ نفسهِ واقتربَ منها وأردفَ قائلًا:
ياريت تعقَّلي بنتك، عرَّفيها يعني إيه جواز، الجواز مش بالفسح والهبل اللي هيَّ مفكَّراه، دي واحدة داخلة على تلاتين مش لسة صغيرة ..علشان ماترجعوش تزعلوا منِّي تاني ..قالها واستدارَ إلى البابِ.. توقَّفَ لدى البابِ وهتف:
وبلاش تفهِّميها هيَّ وبابا إنِّي السبب في اللي إنتِ فيه، استدارَ برأسهِ ينظرُ للسجادةِ التي بيديها وتابعَ ماشطرَ قلبها:
دا حتى إنتِ بتصلِّي وعارفة ربنا، مش تعرَّفيها كمان تصلِّي زيك، ياريتك علَّمتيها المفيد، بدل ماتعلِّميها حاجات تانية..فتحَ البابَ فهمست بتقطُّع:
إلياس ...توقَّفَ يواليها ظهره، فاقتربت منهُ وتوقَّفت خلفهِ مباشرةً تطبقُ على جفنيها تسحبُ رائحته، ثمَّ همست:
بلاش تشيل ميرال بذنبي، ميرال بتحبَّك زي ماإنتَ بتحبَّها، بلاش تبيِّن قسوتَك في حبَّك، التفتَ إليها سريعًا وبترَ حديثها:
حب إيه يامدام فريدة، يعني إيه حب أصلًا، حب الستِّ اللي أمِّنت لست.،فبعدين سرقت جوزها بحيلها، ولاحب الستِّ اللي باعت ولادها اللي همَّا أغلى من روحها ، ولَّا حب الستِّ لراجل خلِّتُه ينسى حبيبته، أنهي حب بالظبط يامدام ..هتجوِّز بنتك علشان أجيب ولاد بس، علشان يكون ليَّا عيلة، بس ماضحكشِ عليكي خايف تعمل زيك وتبيع عيالها علشان كلِّ أسبوع تتفسَّح في بلد زي مابتتمنى
انسابت دموعها بصمتٍ دونَ حديث ..تهكَّمَ متقدِّمًا منها:
إيه كنتي فاكرة هصدَّق لعبة الدكتور النفسي دي، مش الأولى سيادة اللواء اللي ياخدِك، ولَّا الأولى ابنِ ضرِّتك؟..
إلياس..هدرَ بها مصطفى، ليستديرَ ينظرُ لوالدهِ بصمتٍ ثمَّ تحرَّكَ للخارج.
هوت على المقعدِ تبكي بصوتٍ مرتفع،
ضمَّها مصطفى يربتُ على ظهرها:
آسف يافريدة، تعبت منُّه، بس دا راجل هعمِل فيه إيه.
ابني مفكَّرني بعتُهم يامصطفى، طيب إزاي هيصدَّقني..سحبها متَّجهًا إلى غرفةِ الملابسِ وتوقَّفَ محتضنًا وجهها:
ممكن تنسي كلِّ حاجة وافتكري حاجة واحدة بس..ابنِك البكري فرحُه النهاردة، ومهما يقول، صدَّقيني بيحبِّك، هوَّ ممكن يكون مضَّايق بس مش بيكرهك، وبكرة تقولي مصطفى قال، هوَّ أنااللي هاقولِّك إلياس مين..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ بأكبرِ الفنادقَ بالقاهرة
انتهت من لمساتها التجميلية مع خبيرةِ التجميل ..توقَّفت تنظرُ إليها برضا:
كتتتتير كتتير حلوة ياميرال.
ابتسمت بمجاملة:
ميرسي تسلَم إيدِك..رفعت ذقنها تنهي نظرتها التقيميية:
لا إنتِ اللي حلوة وماكنشِ فيه تعب ولا حاجة ...دلفت غادة:
وااااااه واااه إيه الجمال دا يابت ياميرو، لا كدا هزعل، هاتخطفي الأضواء منِّي ..ابتسامة خرجت من بينِ أحزانها، تمنَّت أن تستمعَ من عاشقِ روحها بعضِ الكلماتِ التي تطيِّبُ ثنايا روحها.
بعدَ قليلٍ استمعت إلى طرقٍ على بابِ الغرفة، فتحت غادة وجدتهُ يقفُ بطلَّتهِ المهيبة التي تخطفُ القلوبَ قبلَ الأبصار:
لا كدا كتير على قلبِ العروسة، دا إنتَ هتخطَف كلِّ حاجة، طيب أنا مظلومة في النُّص..
ضمَّها وقبَّلَ رأسها:
اتعلمتي اللماضة إمتى يالمضة ..وشوشت إليهِ تشيرُ على ميرال:
من مراتك هيَّ أستاذتي، رفعَ رأسهِ إليها وهمس:
هتقوليلي، دي مش عايزة معرفة.
توقَّفت أمامهِ متسائلةً بشقاوة:
رايح فين ..
رايح اريح جوَّا شوية، وسَّعي يابت واقفة كدا ليه؟..
بسطت كفَّيها تغمزُ بعينها:
ادفع ياعريس، عروستنا غالية تستاهل فلوس الدنيا كلَّها.. كانت نظراتهِ على التي تواليهِ بظهرها فهتفَ بصوتٍ مرتفعٍ ليصلَ إليها:
طيِّب دا لو ماكنتشِ بايرة ..قالها وجذبَ غادة متَّجهًا إليها..استمعت إلى صوتهِ بالخارجِ مع ارتفاعِ دقَّاتِ قلبها العنيف، قابلتهُ المسؤولةُ عن تجهيزها:
ألف مبروك ..بحثَ عن نقودٍ بجيبه ، رفعَ نظراتهِ إليها مبتسمًا يشيرُ إلى غادة:
شوفي الأستاذة ياغادة، ممعيش فلوس هنا ..اعتذرت تشيرُ إلى ميرال:
أبدًا مش محتاجة حاجة، مدام فريدة إدتني وبزيادة كمان هيَّ مش محتاجة، ربِّنا يسعدُكم ..
أشارَ لأختهِ بعينيهِ لتسحبها وتخرجَ بها، بينما هو تقدَّمَ إليها.. تلألأت عيناها تضغطُ على فستانِ زفافها تتمنَّى أن تمرَّ الليلة عليها مرورَ الكرامِ متذكِّرةً رجاءَ والدتها إليها:
لو بتحبِّي ماما فعلًا لازم تكمِّلي جوازِك من إلياس، حبيبتي صدَّقيني إلياس الوحيد اللي أقدر أمنِّلِك معاه ، لو وقَّفتي الجواز زي ما بتقولي هزعل منِّك ياميرال.
ماما إفهميني، أنا وإلياس مختلفين.
إنتِ وإلياس عنديين بس، صدَّقيني حبيبتي، إلياس الوحيد اللي يقدَر يحافظ عليكي ...فاقت من شرودها على صوته:
هاتفضلي مدياني ضهرِك كتير، طيِّب عايز أشوف عروستي حلوة ولَّا...
- هتفرِق...قالتها وهي تستديرُ إليه:
توقَّفَ متسمرًا يطوفُ بنظراتهِ يرسمها كفنانٍ مبدع، كلَّ إنشٍ بها يجذبهُ
وكأنَّها تسرَّبت واستوطنت بثنايا روحه، اقتربَ منها وتعلَّقت الأعينَ ودقَّت القلوبُ بالنبضِ لتعزفَ بأجملِ الألحان.
أسبلت عينيها مبتعدةً عن نظرهِ بعدما استمعت إلى كلماته:
كان فيه بنت هنا اسمها ميرال شوفتيها..ابتسامة شقَّت ثغرها، احتضنَ وجهها وعزفت شفتيهِ بقبلتهِ الحنونةُ فوقَ جبينها هامسًا بصوتهِ الرخيم:
ألف مبروك، ربِّنا يجعلِك ليَّ خيرَ حياة وخيرَ سعادة ..رفعت عينيها التي تشتَّتَ من دعائهِ وهتفت:
بجد ...ابتسمَ ابتسامةٍ عذبةٍ يبسطُ كفَّيه:
جد جدًا وياله ننزل تحت علشان أنا مش مسؤول عن التأخير.
اتَّسعت ابتسامتها تهزُّ رأسها مردِّدَة:
انفضام شخصية مذهل.
بسط كفيه يشير إليها بالنزول
-طيب ياله!!
مش هنزل إلا لما تقولي بحبك
ارتفع جانب وجهه بشبه ابتسامة ساخرة قائلًا:
-عادي مانزليش، وأنا هنزل ألغي الفرح وأقولهم العروسة هبلة
-دا كله علشان عايزة تقولي بحبك..سحب كفيها وتحرك:
-الكلام مابيتقالش يامرمر، الكلمة بتتحس
وصلَ إلى الردهةِ التي تخرجُ بهما إلى صالةِ الزفاف، توقَّفَ أمامها يلقي نظرةً أخيرةً عليها قائلًا:
زي القمر بالطرحة، أتمنَّى ماتُكنشِ مجرَّد موضة...تأففت قائلة:
-كويس أنها عجبتك، فكَّرتَك هاتتريق.
تحرَّكَ بها بعدما عانقت ذراعيه:
بالعكس سعيد جدًا ..المهم تكوني مقتنعة ..أُغلِقت الإضاءة بعد وصولهم الدرج لترتفعَ الموسيقى على ظهورهم مع نقطةٍ إضائيَةٍ تلتفُ حولهما فقط و ظهورِ أطفالٍ على الجانبين بردائهم الأبيضِ على شكلِ الفراشة...قدَّمت الأطفال عرضًا مذهلًا أمامهما، مع رجعوهم للخلفِ وارتفاعِ أغنيةِ الزفاف المشهورةِ إلى أن وصلا إلى مكانهم المخصص ليفتتِحَ حفلِ الزفاف برقصتهم.
أحاطَ خصرها بذراعٍ والآخر رفعَ كفَّها يمرِّرُهُ على صدرهِ ليتوقَّفَ عندَ نبضِه، وقرَّبها إلى أحضانِه، لتضعَ رأسها بهِ كأنَّهُ يريدُ أن يخفيها عن العالمِ أجمع.
أغمضت عينيها داخلَ حضنهِ.. كلَّ ما تشعرُ بهِ الآن ماهوَ إلَّا رهبةً من تلكَ اللحظاتِ التي تسحبُ روحها..انحنى يستنشقُ رائحتها المُسكرة منتشيًا بها لتتسرَّب لجميعِ جسدهِ وتستقرَّ بقلبه، وهو يشعرُ بكمِّ الحبِّ الذي طغى عليهِ بتلكَ اللحظة، تثاقلت أنفاسهِ بعدما رفعت رأسها ونظرت إليهِ مبتسمةً ثمَّ أردفت:
ياترى سيادة زوجي العزيز البروجرام بتاعُه إيه الليلة؟..
أطلقَ ضحكةً رجولية، ولولا ارتفاعِ الموسيقى لتوقَّفَ الجميعُ على ضحكتِه، فأمالَ بجسدهِ متعلِّقًا بعينيها:
بلاش تعرفي ياميرو خلِّيها مفاجأة..
-رخم يازوجي ..رفعَ حاجبهِ يشيرُ إلى نفسِه:
أنا رخم، طب والله مسكَّر وزي العسل تنكري؟..
مغرور ..قالتها تبتعدُ عن نظراته الثاقبة ..تابعَ حديثها مستطردًا:
بس عسل برضو…
أيوة عسل أسود هاتقولِّي..انحنى يدفنُ رأسهِ بعنقها يمنعُ ضحكاته:
إحنا قدَّام ملايين من الناس ياروحي، قصَّري لسانِك شوية لحد مايتقفِل علينا باب واحد.
ابتعدت خطوةً تطالعهُ بذُعر:
باب إيه اللي يتقفِل علينا..التفتَ بنظرهِ حتى وقعت عينيهِ على فريدة التي تنظرُ إليهِ بدموعٍ محتجزة، تقابلت أعينهُم للحظات، حتى توقَّفت بعدما نزعت نفسها من بينِ ذراعِ مصطفى واقتربت منهما قبلَ إنهاءِ رقصتهما، وصلت إلى وقوفهِم:
المفروض كنت أستنى تخلَّصوا الرقصة، بس مش قادرة عايزة أحضُنكم أنتوا الاتنين ...وصلَ إسلام إليهم قائلًا:
وأنا كمان ياماما فريدة، أحضني إلياس لحد ماأحضُن ميرال..
تعالي ياميرو..رمقَ أخيهِ بنظرةٍ مميتةٍ ليتراجعَ للخلفِ ضاحكًا يرفعُ يديه:
خلاص خلاص، كنت بهزَّر، اقتربت فريدة منهُ وعيناها تفترسُ ملامحه، كانت نظراتهِ على إسلام الذي جذبَ ميرال من كفَّها، بسطت كفَّيها على وجههِ وتدجرحت عبراتها بشدة، مع شهقةٍ ملتاعةٍ من أعماقِ قلبها تهمسُ لهُ برجاء:
عايزة أحضُنَك ياإلياس، اعتبرُه آخر حُضن بينا، وعد مش هقرَّب منَّك تاني، إنتَ ابني مش كدا ولَّا إيه…
ربتَ والدهِ على ظهرهِ مبتسمًا:
أكيد يافريدة إلياس ابنِك هوَّ فيه حد ربَّاه غيرِك، قالها مصطفى وهو ينظرُ إليهِ برجاء ..أومأَ برأسهِ لتجذبهُ لأحضانها تشدِّدُ من احتضانهِ وكأنَّهُ سيختفي من أمامها، تستنشق رائحته بوله مردِّدَةً:
ألف مبروك ياحبيب ماما، ربنا يسعدك ياحبيبي يارب..
رفعت كفَّيها وحاوطت وجههِ ونظرت لعينيه:
مبروووك يايوسف بالرفاء والبنين.
انكمشت ملامحهِ مردِّدًا:
"يوسف"
انتبه الى صوت إسلام وهو يسحب ميرال
-بعد اذنك ياعريس عايز أرقص مع العروسة ..فتح فاهه للإعتراض فاقتربت غادة تسحب كفيه
-أيوة وأنا هرقص مع إلياس ..تحرك إسلام يسحب ميرال بعيدا ببعض الخطوات أثناء اقتراب مصطفى منهم، ونظراته على فريدة التي تحاول كبح دموعها ..التفتت ميرال إلى إلياس متسائلة
-حركة الرقص دي وراها ايه ياسلومة..
اهه ..قالها وهو يتجه ببصره إلى ميرال قائلًا:
-كنت عايز ماما فريدة ترقص مع إلياس، بس غادة نيلت الدنيا
ابتسمت تهز رأسها وهتفت بإعتراض
-ماما ترقص..قالتها باستخفاف، ثم رفعت نظرها إليه وتابعت مستطردة
-مظنش اخوك كان هيوافق..تراقص معها على نغمات الموسيقى على مقطع دورانها ورجوعها إليه..زفر الآخر باختناق وعيناه عليهما لا تخلو نظرات غادة المشاكسة إليه لتهتف بتردد:
-بتحبك أوي على فكرة
زوى مابين حاجبيه وتصنع الجهل متسائلًا:
-هي مين دي؟!
تبسمت بمكر تنظر إلى فريدة ودارت أمامه على النغمات هي الأخرى قائلة:
-ماما فريدة، ذهب ببصره إليها وجدها تطالعه بعيون مترقرقة، ورغم ذلك إلا أن الابتسامة لم تخلو من وجهها، ثم اتجه إلى غادة مرة أخرى
-روحي ارقصي مع إسلام، أنا تعبت..
تراجعت خطوة للخلف تغمز إليه بمشاكسة:
-هعمل مصدقة، مش مجرد غيرة تمام يابوص..ضحك وهو يجذب رأسها يطبع قبلة عليها، رفعت رأسها ونظرت لعينيه:
-إلياس ميرال بتحبك أوي، بلاش تزعلها لو سمحت، أنا مش هضحك عليك وأقول مصدقة إنك عايز تعمل عيلة زي مافهمت بابا، بس في نفس الوقت هقولك انت اخويا الكبير ومهما تعمل لازم أقبل أعذارك، بس ميرال ملهاش ذنب، وقبل ماتحاول تعترض على كلامي افتكر إن ذنبها الوحيد أنها حبتك وبس
ربت على كتفها دون حديث وتحرك متجها إليها، ليسحب كفيها يشير إلى مكانهم المخصص للجلوس
-هتفضلي ترقصي طول الليل..تحركت بجواره بصمت
بمكانا اخر كانت تجلس بمكتبها بالبيوتي سنتر الذي ابتاعته منذ فترة بالقاهرة بعد نقلهم إليها ..استمعت إلى صوت الفتيات العاملات بالخارج، فخرجت على أصواتهم وهم ينظرون إلى شاشة العرض ويتهامسون باعجابهم بطلة العروس، قالت احداهن
-بس العروسة شكلها قمرين دي أكيد اللي جهزتها ماضفتش جديد، قاطعتها الأخرى ممكن بس شكلهم ناس تقيلة أنتِ مش شايفة الفستان ولا الفندق وقرأت كمان الفرح فيه قامات مرموقة يعني هيكون احسن من الأميرة
فيتوريا كريستينا أديلايد، أميرة ايطاليا دي عرفينها، الصراحة العروسة دي تشبهها اوي ..
كانت تقف تنظر لشاشة العرض التي تتحدث عنها الفتيات، فجأة اقتربت من الشاشة تنظر بتعمق على تلك السيدة التي تحتضن العريس ثم العروس..تراجعت الفتيات بعد خروجها وذهبن إلى عملهن، أشارت إليهن
-فرح مين دا ؟!...اقتربت أحداهن التي كانت تتحدث قائلة:
-دا فرح ابن اللواء مصطفى السيوفي، اللي فيلته في الكمبوند اللي قصادنا، ازاي متعرفهوش ياهانم، دي مراته كانت من احسن الزباين عندنا ايام مدام مليكة
أشارت لها بالصمت ثم لوحت بكفيها
روحي شوفي شغلك، ثم اتجهت تنظر إلى الشاشة تهمس لنفسها
-فريدة..ياااه يافريدة طلعتي أقرب مااتوقعت، لا وكمان زبونة عندنا ..التفتت مستديرة وتسائلت:
-هي اخر مرة جت امتى، أجابت الفتاة
-اخر مرة كانت قبل مدام مليكة ماتمشي بكام يوم، حتى مدام مليكة قالتلها على فكرة شراء المكان بس هي رفضت وقالت ماليش في الشغل دا، أصلها فاتحة دار للأيتام، جوزها غني جدا، وكمان عندها بنتين وولدين
-بتقولي عندها بنتين وولدين، همست لنفسها عطوة قال ولد بس ابن جوزها ولا مكنش يعرف بدول ..تنفست بغضب وتحركت للداخل وداخلها نيران تريد أن تصل فريدة
عند ارسلان
جلس بمقابلة غرام بعدما طلب من والدها الجلوس معها، حمحم قائلًا:
-أنا مش هلف وأدور عليكي، أنا محتاجك زي ماانتِ محتاجني
طالعته بتهكم قائلة:
-وياترى هتحاجك في إيه، مظنش اني هتحتاج لواحد زيك
أشار بسبباته إليها بالصمت وهتف من بين أسنانه:
-غلط مابحبش، أنا جايبك من سجن أمن الدولة، مكنتيش بتتمشي على الكورنيش، وبقيتي مطلوبة عند الإرهابين، ماهو إنت شوفتي شكل اللي هرب تفتكري هيسبوكي عايشة، لا دا أقل حاجة هيعملوها هيخطفوا اخوكي
-ايه ...قالتها بشفتين مرتعشتين بعدما تسرب الخوف إلى قلبها..
تنهد ثم سحب نفسًا عميقًا وتابع مستطردًا:
-اسمعيني كويس أنا مستعد أحافظ عليكي وعلى اهلك
-والمقابل ..ياحضرة الظابط
-أنا مش ظابط..هبت من مكانها تنظر إليه بذهول :
-ازاي مش ظابط، اومال خرجتني من هناك ازاي ...توقف بمقابلتها يضع كفوفه بجيب بنطاله وتابعها بنظراته قائلاً:
-مش شغلك.. أنا مش فاضي معنديش وقت كل وقتي بيتحسب بالدقيقة، وإنتِ اخدتي من وقتي اكتر من اللازم
-عايز مني إيه ؟!
-نتجوز لمدة شهر والمقابل حمايتك أنتِ واهلك
اقتربت منه كقطة شرسة
-إنت واحد مجنون، قول إنك واطي حقير..أطبق على ذراعها وهمس بهسيس مرعب:
-اسمعي يابت متفكريش بيت ابوكي هيحميكي مني، لو عايز اخدك هاخدك ومحدش يقدر يوقف قدامي، أنا دخلت لك من الباب وحكيت الظروف لابوكي، قدامك ساعتين بس تختاري أهلك ياتختاري الجواز، بكرة لازم نكون في ايطاليا، رقمي مع ابوكي، ومتفكريش إني مقدرش أجيب غيرك، بس أنا خوفت عليكي، شكلك متستهليش ..قالها وانحنى يجذب فونه ورمقها بنظرة سريعة يشير بيديه:
-ساعتين بالظبط وهشوف غيرك ..قالها وتحرك إلا إنها أوقفته:
-طبيعة الجواز هتكون إزاي..توقف مواليها ظهره وأردف:
-متخافيش جواز صحيح أنا مش من النوع اللي يغضب ربنا، وجوازنا هيكون على ورق بس، كتب الكتاب علشان خلوتك معايا مش أكتر، وزي ماأخدك هرجعك وكل حقوقك معاكي
اقتربت منه وهي تفرك بكفيها
-تمام أنا موافقة، بس مترجعش في كلامك..التفت برأسه وأردف وهو يعانقها بنظراته
-عرفي والدك وأنا هتصل بعمي يقابلنا عند المأذون بعد ساعة بالظبط ..هسيبك دلوقتي
-استنى ..قالتها بعدما تحرك، لتقترب منه قائلة بنبرة مشتتة:
-بتقول هنسافر إيطاليا أنا معنديش جواز سفر، غير لسة هعرف بابا وأشوف رد فعله، أنا بابا مقدرش ابعد عنه هو واخواتي في الوقت دا
استدار واقترب منها حاول طمئنتها
-والدك من وقت ما دخلت بيتكم تحت رعايتي متخافيش، ومن بكرة هنقله لمكان آمن لحد مالدنيا تهدى، واخوكي هيكون عنده احسن المدرسين وموافقة من المدرسة باعتذاره ..فيه حاجة تانية
-إنت مين وبتعمل ليه كدا
نظر بساعة يديه ثم رفع نظره إليها
-عندي شغل وانت بتأخريني، أنا مين قولت لبابكي هو يعرفك، عايز منك ايه
عايزك معايا لمدة شهر في مكان معين
على ماأظن الاسئلة كدا خلصت ..تحرك فعاد متوقفا مرة أخرى
-اه علشان متفكريش انا تبع مافيا ولا حاجة افتكري أنا جبتك من أمن الدولة، وانت متعلمة وفاهمة يعني إيه أمن الدولة، واتثبتي هناك انك خطيبتي
ممكن امشي ولا لسة قلقانة ...قالها وتحرك دون أن ينتظر اجابتها
خرج رافعًا هاتفه
-اسحاقو قابلني عند المأذون بعد ساعة، عندي مشوار
توقف اسحاق من جوار دينا يدثرها بالغطاء متسائلًا بهمس
-وافقت!!..ابتسم قائلًا:
-عيب عليك..المهم شوفلي مأذون فاتح دلوقتي الساعة داخلة على 12
اومأ له وهتف
-تمام هكلمك..انا عند دينا نص ساعة واكلمك
-تمام ياعمو، سلملي عليها، قالها واغلق الهاتف
نهضت معتدلة فوق الفراش تطالعه باستفهام:
-هتخرج !!..اقترب يطبع قبلة فوق جبينها
-عندي شغل مهم حبيبتي، ساعتين وهرجع لك، والدتك برة، بعت جبتها، خلي بالك من نفسك ومن البيبي
ضغطت على كفيه ونظرت لعينيه:
-بجد فرحان يااسحاق علشان البيبي
احتضن وجهها وابتسامة خلابة ظهرت بملامحه:
-احسن خبر اسمعه في حياتي، بعد خبر ارسلان، نفسي اربيه ويكون راجل زي ابن عمه، دينا حافظي عليه على قد ما تقدري ..ملست على وجهه واقتربت منه تقبل وجنتيه
-هحافظ عليه علشان انت أبوه بس..نصب عوده متوقفًا:
-أي حاجة تعوزيها عرفي الخدامة، وبلاش خناقتك مع والدتك كل شوية دي، اشتكت لي منك كتير
فركت كفيها قائلة:
-خلاص كفاية وجودك ..انحنى وطبع قبلة بجانب شفتيها..
عند إلياس
اقتربت الفتيات أصدقاء ميرال إليها لمشاركتهم الرقص..اتجهت بنظرها إليه
-هقوم أرقص مع البنات علشان متزعلش
-مايزعلوا، علشان مايزعلوش تتنططي
-إلياس الليلة دي أي بنت بتنتظرها علشان تكون سعيدة ليه بتخنقني كدا، دنى برأسه منها
-لو شايفة السعادة هتكون في الرقص قدام الناس دي كلها أنا مش عايزك تبقي سعيدة ياميرال
-إلياس ...ولا كلمة، رقصنا مع بعض كفاية، أما رقص البنات اللي بشوفوا أنه ماهو الا عرض لجسم يرخصوه قدام الناس مايلزمنيش
-إنت كدا بتزعلني!!
-مش مهم المهم اللي شايفه صح بعمله وبحافظ عليكي بيه ازعلي
أطبقت على جفنيها مبتعدة بنظرها عنه، لاحظت غادة حزنها فاقتربت منهما
-إلياسو حبيبي هاخد ميرو عند البنات ووعد مش هنتحرك، هتفضل بينا بس، ليها صحبات جايين من محافظات مختلفة مش حلوة لما تسبهم يرقصوا لوحدهم
-غادة ...سحبت ميرال سريعا من أمامه قبل حديثه:
-شكرًا ياحبيبي..ابتسمت ميرال من وسط أحزانها
-مجنونة عملتيها إزاي..رفعت حاجبها وشيعتها بنظرة منتصرة
-المهم بلاش تنسي نفسك وترقصي دا ممكن يطلقك هنا ومايهموش حد
بعد فترة انتهى حفل الزفاف الاسطوري ..خرجت بجواره إلى السيارة التي تنتظرهم بالخارج لنقلهم إلى المطار..
بعد عدة ساعات وصلا إلى الفندق الذي سيمكثان به بفترة شهر العسل
توقف أمام موظفة الاستقبال يضع بطاقته، لتشير لأحدهم لمساعدته
وصل إلى أحد الأجنحة المميزة التي تُحجز باسمه، دلف للداخل بجوارها بعدما وضع العامل حقيبتهما، دلفت للداخل تنظر بالجناح بذهول، فلقد كان معدًا على أروع مايكون لاستقبال العروسين..استمعت إلى خطواته بالخلف فهتفت:
-مكنش له لزوم، اومال لو مش مسرحية قدام الكل، كانوا عملوا ايه
فك رابطة عنقه ملقيها بإرهاق وأجابها
-مسرحية، شايفة اللي اتعمل دا كله مسرحية
التفتت إليه وهي تراه يخلع جاكتيه متجها إلى جميع الشرف التي تطل على البحر يغلق ستائرها
رجفة قوية أصابت جسدها، وهي تراه يدنو إليها يشير إلى الغرفة
-ادخلي غيري هدومك علشان نصلي الأول ..تجمد الدم بعروقها وهي ترى تلك المنامة الموضوعة على الفراش
تراجعت تبتلع ريقها بصعوبة مع ارتعاشة جسدها، حملت فستانها وابتعدت عنه ببعض الخطوات
-لا أنا كدا كويسة مش عايزة أغير
ضحك على حديثها فاقترب منها وهي تبتعد للخلف إلى أن احتجزها بالجدار
وآمال بجسده يهمس لها بصوت..جعلها تشعر بتلف خلاياها للثبات أمامه
-ليه ناوية تنامي بفستان الفرح
توردت وجنتيها من أنفاسه الحارة التي تضرب وجنتيها
إلياس ابعد عايزة اغير...رفع حاجبه وتحدث بسخرية:
-الله مش قولتي مش هتغيري ..دقات عنيفة تضرب داخل صدرها، حينما تعلقت عيناها بعينيه بسحر خاص، وتاهت بين عشقها وقربه المدمر لقلبها
مرر أنامله على وجنتيها لتغمض عيناها تشعر بالخجل مع ارتعاشة قلبها وهي تشعر بأنفاسه الحارة ..استندت عليه بعدما أصبحت ساقيها كالهلام، حاوط جسدها لتصبح بأحضانه، قائلًا:
-غيري هدومك أنا تعبان وعايز أنام من الصبح وأنا واقف على رجلي
ابتعدت سريعا تشير إلى القميص الموضوع على الفراش
-أنا مستحيل ألبس القميص دا ..اتجه بنظره للذي تشير إليه، ثم أطلق ضحكة صاخبة وجذبها بقوة يدير ظهرها وقام بفك أربطة فستانها، ثم انحنى يهمس لها
-ومين قالك ياروحي أنا هلبسك القميص دا ..شعر بارتعاش جسدها، فتركها لتبتعد عنه سريعا وهي تهتف
-إياك تقرب مني، ومش هلبس القميص دا، دا مكشوف أوي، عايزة حاجة تانية دا مش هلبسه مستحيل
قالتها بصوت متقطع مع ارتجاف لجسدها ولم تشعر انزلاق لبعض فستانها أمام ناظريه، لملمته سريعا ودلفت للداخل وقلبها كالمضخة، استندت على الباب تضع كفيها على صدرها تحاول أن تسحب أنفاسًا منتظمة:
-اسكت بقى، مالقتش غير دا وتحبه..اتجهت إلى الفراش وجلست فوقه ومازالت تحت سيطرة رائحته، أغمضت عيناها استمعت إلى صوته بالهاتف:
-وصلنا يابابا، طمن مدام فريدة، هي كويسة، بكرة اخليها تكلمها ..ظلت بمكانها إلى أن دلف بعدما بدل ثيابه يحمل اسدالها
-إلبسي دا واجهزي علشان نصلي
-فين هدومي، هلبس دا لوحده، هات الشنطة، خرج لدقائق معدودة يلقيها بقميصه
-البسي دا مفيش هدوم غيره، لو مش عجبك براحتك، توقفت مقتربة منه
-إلياس هات الشنطة وبطل هزار
أشار بعينيه على قميصه الأبيض الذي كان يرتديه
-مفيش غير دا، ياله مش هنتظر كتير، بدل ما ادخل البسك..ضربت قدمها بالارض تسبه:
-بارد مستفز، استدارت بعد إغلاقه لباب الغرفة، تحركت إلى قميصه الذي ألقاه على الفراش، حملته تقربه من أنفها تستنشق رائحته بوله، تهمس لنفسها:
-معقول كل اللي اتمنيته يتحقق..بعد قليل خرجت وجدته متوقفا أمام النافذة ينظر للخارج، استدار إليها واقترب يشير إلى مكان الصلاة الذي اتخذه من البوصلة التي لديه ...انتهى بعد قليل من صلاتهما ..ظلت كما هي جالسة تنظر بنقطة وهمية، استمعت إلى حديثه:
-هتفضلي قاعدة كتير، رفعت رأسها إليه بصمت، امال بجسده يرفعها إلى أن توقفت ..تعالت دقات قلوبهما من تلك اللحظة، رفع ذقنها بعدما نظرت للأسفل ونظر لداخل عيناها
-دلوقتي اقدر اسألك سؤال ومهما كانت اجابتك أنا هقدره، وهعرف حياتنا بعد كدا هتكون ازاي!!
-حياتنا!!..هز رأسه بالموافقة
-ليه مستغربة، عمرك مافكرتي ممكن القدر يجمعنا
انزلقت دمعة من طرف عينيها قائلة:
-اتمنيت بس مفكرتش، لانك كنت بعيد عن أحلامي، منكرش اعجابي بيك، وبنيت احلام بس كنت عارفة أنها أضغاث، عمري ما تخيلت هتكون جوزي في يوم من الأيام حتى وانت جنبي في الفرح لحد ماجينا هنا، كلها احلام، إلا بعد ..توقفت عن الحديث وعيناها تحتضن صمته إلى أن همس متسائلًا:
-إلا بعد ايه، سحبت نظرها من بحر عيناه، قائلة:
-مش مهم، المهم تتأكد أنا برسمش ولا بخطط لجذبك ولا حاجة، ولو عايز نفضل فترة مع بعد كأخوات وبعد كدا ، بتر حديثها مبتلعًا باقي حديثها، ليعقد علاقة منفردة بثغرها يتذوق شهدها، بعد فترة من الدقائق الناعمة بينهما وضع جبينه فوق جبينها ..لف خصرها بذراعيه مطبق الجفنين وصدره يعلو ويهبط قائلا بأنفاسًا متثاقلة:
-مكنش سراب ولا حاجة ..رفعت عيناها التي لمعت تطالعه بذهول منتظرة بقية حديثه بشق الأنفس
-ميرال اعتبري أننا مااتجوزناش ولا كأن حاجة حصلت، وهسألك دلوقتي ووعد أي إن كان اللي هتقوليه هتقبله حتى لو مش موافق عليه، أنا رضيت كل الأطراف بس انت عندي أهم
أصبح قلبها كمعذوفة تعلن عن حبه بعد حديثه الذي جعلها تتيقن من حديث غادة..رفع كفيه يحتضن وجنتيها متسائلًا:
-إنتِ موافقة نكمل حياتنا مع بعض، موافقة على جوازنا
رفرفت أهدابها عدة مرات تحاول السيطرة على ارتعاشة دواخلها، من حديثه المؤذي لقلبها،
-طيب ماتيجي تعكس ياالياس..انت موافق على جوازنا
-طبعًا...قالها دون تردد
لم تشعر بنفسها إلا وهي تحيط خصره تهمس له
-موافقة اكون طول العمر جوا قلبك قبل حضنك..رفعت رأسها تنظر لداخل عيناه، ينفع أكون جوا قلبك
ابتسم يمرر أنامله على وجنتيها
-ومين قالك انك مش في قلبي
هزت رأسها وانسابت عبراتها بكثرة من اعترافه الغير مباشر
-بتحبني..انحنى يحملها ويتجه إلى فراشهما خاطفا أنفاسها وروحها لتتعانق بأنفاسه وروحه ..وخاصته تعزف لحنه الاثير على اوتار خاصتها ليؤكد لها انها العشق الذي استوطن بثنايا روحه
اغتيال عنيف شعر به من لحظة الاقتراب وكأن روحه تصدر ألحانا وقلبه الذي يعزف بدقاته العنيفة، لينفجر بركان العشق رغمًا عنه ليوثق ميثاق العشق ويثبت ملكيته قولًا وفعلًا بعد فترة اقسم أنها فترة من الجنة من روعة ماشعر به وهي داخل أحضانه ..
هدأت النبضات اخيرًا واستكانت بعد رحلة من النبض العنيف الذي اخترق الصدور، تنهيدة عميقة وشعور الراحة يطفو فوق ملامحه بعدما وجدها تغفو بأحضانه كالطفلة التي تنعم بأحضان والديها ..سبح بعيناه فوق ملامحها التي تنعش الروح بالجسد، مرر أنامله إلى أن وصل إلى توثيق ملكيته على عنقها مبتسمًا يتذكر همسها إليه ..
تراجع بجسده على الفراش بعدما وضع رأسها على الوسادة، ونهض يجذب سجائره متجهًا إلى النافذة، وقام بإشعال سجائره
-ياترى هتقدر تعمل اللي ناوي عليه، هتقدر تكسر قلبها ياإلياس، التفت برأسه ينظر إلى نومها الهادئ، ثم رجع ينظر من النافذة مرة أخرى وجذب المقعد وجلس عليه ينظر لشروق لشروق الشمس
-المهم أنها ملكك وبس، ومحدش هيقدر ياخدها..، بعد عدة ساعات تململت بنومها وابتسامة عاشقه تهمس اسمه، استمع الى همسها بقلبًا يئن بين الضلوع
فتحت عيناها بعدما شعرت بخلو الفراش أعتدلت تجذب قميصه وترتديه متوقفة تبحث عنه، وجدته بالشرفة، تحركت إليه حافية القدمين إلى جلوسه، عانقته من الخلف وانحنت تطبع قبلة فوق وجنتيه
-صباح الخير، صحيت امتى ..
ظل ينظر أمامه بصمت لدقيقتين ثم رفع رأسه إليها يشير إلى الخارج
-عملت لك كل اللي اتمنتيه، جبتك ايطاليا زي ماكان نفسك تقضي ليلة الفرح هنا، وفندق على البحر، منظر خلاب ..ثم أشار على قميصه وهو
ينصب عوده متوقفا
-ولبستك قميصي الأبيض بتاع الفرح، وعيشتك ليلة مكنتيش تحلمي بيها زي ماقولتي
دقات عنيفة تشعر بتوقف قلبها من حالته التي تغيرت عن الأمس، وكلماته التي تدبح روحها، دار حولها وأكمل
-اتمنيتي وأنا نفذت، جه الدور عليا بقى مش المفروض يكون ليا أمنية وتنفيذها ..انسابت عبراتها بعدما فقدت السيطرة ليكمل قائلًا بنبرة جافة مميتة
-كفاية ليلة العمر في جوازنا، مش عايز اقرب منك تاني، حاسس كأنك جنزير من النار على رقبتي، مش عايزك في حياتي، مش قادر اكمل، وفعلا زي ماقولتي مسرحية بس هزلية يابنت مدام فريدة ... ودلوقتي ردي تمن ليلة امبارح اللي اتمنتيه نفذته من غير ماتطلبي ..اعتبري من اللحظة دي انك مراتي بس على الورق بس، اكرامًا لوالدي اللي احتوى والدتك السنين دي كلها، اعتبريه دينها وسددي عن مامتك
صمت مرعب بالغرفة وهي تتراجع للخلف دون حديث بجسد منتفض، وعيون كزخات المطر، تريد من الله أن يسحب روحها لبارئها، من هذا ، أي جرم ارتكبته ليذيقها الله عذاب هذا الشخص
كلمات وكأنها رمح مشتعل اخترقت روحها لتطعنها ..وجع ينخر ضلوعها، وكأنه فتتها بشظايا حادة..هوت على الأرضية تتراجع بجسدها تهز رأسها وكأنها بأحد كوابيسها
بفيلا السيوفي توقفت على البوابة الرئيسية وطلبت مقابلة فريدة
-صديقة مدام فريدة، قولها مليكة الحسيني ...
بعد عدة دقائق دلفت تتجول بنظراتها على الفيلا تهمس لنفسها
-حتى بعد مارميتك يافريدة، لقيتي احسن مما كنتي تحلمي، ياترى وصلتي لهنا ازاي ..استمعت إلى صوت كعبها المقترب ثم صوتها
-اهلاً مليكة..التفت تخلع نظارتها السوداء
اهلًا يافريدة، والله زمان، شوفتي الزمن، مصر ضيقة علينا ازاي، أنا قتلت ابنك وأنتِ قتلني بنتي يبقى خالصين
توقفت بجسد شاحب كالأموات وشعرت وكأن الأرض تسحب من تحت قدميها تهمس اسمها:
"رانيا"
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
نَظرتِ بطْرفِ عَيناكِ نظرةً أذابَت سنينًا بقَلبي من جَليد…
وليُشهِدَ اللهُ أنِّي ما كنتُ قبلَ نظرتُكِ أدركُ أنَّ في يسارِ الصَّدرِ قَلب .....
*كيفَ لي* ..
أن أُسكِتَ حنينًا بقَلبي
يُعلنُ الانتِماءَ إليِك ..
*كيف أُخِّبئُ* ..
اشتياقًا يُنادي باسمِك..
*وكيفَ أنسَى* ..
حبًّا يُعلنُ أنَّ قلبي لن يكتَفي إلَّا بِك
*كيفَ أُقنعُ عقلي* ألَّا يَنشغلَ بِك..
*ذاكَ هوَ الحُبّ*
لم أقُل إنِّي وقعتُ في حُبِّكَ..
بل قلتُ وجدتُ مَوطِني ..
فليُشهِدُ اللهُ أنِّي بَنيتُ لكَ بينَ أضلُعي سكنًا فَعسى المُقامُ بالمُقيمِ يليق…
توقَّفَت رانيا تدورُ حولها:
وحشتيني يابنتِ عمِّي..مرَّت لحظاتٍ على فريدة وهي تحاولُ استجماعَ شتاتِ نفسها من هولِ المفاجأة، ثمَّ تحرَّكت إلى المقعدِ بجسدٍ جعلتهُ إلى حدٍّ ما منتصبًا، وخطت بخطواتٍ واثقة، جلست تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى وشبحَ ابتسامةٍ ساخرةٍ لوَّنت ملامحها تشيرُ بأناملها على رانيا:
بس إنتِ ماوحشتنيش، عارفة ليه يارانيا…أصلِ الحقيرين اللي زيِّك حرام يكون ليهم نقطة شفقة في قلبي..
خطت رانيا بخيلاءٍ إلى جلوسها ترفعُ قامتها بتكبُّر:
حقيرة يافريدة، هيَّ مين منِّنا اللي حقيرة، اللي سرقت حبيب التانية ولَّا اللي عاشت طول حياتها تتمنَّى بس كلمة حلوة، اللي أخدت حبِّ أبوها والعيلة كلَّها واتَّهموني إنِّي شبه أمِّي الوحشة خرَّابة البيوت...أشارت على الفيلَّا قائلة:
بس شكلِك خاطفة راجل تقيل يابنتِ عمِّي ..نصبت عودها وتوقَّفت لتخطو إليها حتى وصلت أمامها:
جاية وعايزة إيه يارانيا…دفنتِك من زمان، ليه راجعة تدوَّري عليَّا تاني.
بنتي يافريدة…
رعشةٌ أصابت عمودها الفقري، لتبتلعَ ريقها بصعوبةٍ تنظرُ إليها بخوفٍ ظهرَ بملامحها، لتتراجعَ للخلفِ تهزُّ كتفها محاولةً السيطرة على انكشافِ أمرِ ميرال:
مالها بنتِك..اقتربت رانيا تُطالِعُها بشكٍّ مردفة:
ودِّيتيها فين يافريدة، أنا متأكدة إنِّك مستحيل تقتليها، قلبِك مايطوِعكيش…
رمقتها بغضبٍ لاحَ بعينيها وهدرت قائلة:
اللي شوفتُه منِّك يخلِّيني أموِّتِك وأموِّت كل اللي يقرَّب من حياتي، فريدة بتاعة زمان ماتت يارانيا، اللي قدَّامِك فريدة هانم السيوفي، يا مرات..
صمتت ترمُقها بنظراتٍ مشمئزَّة:
مرات راجح الشافعي، شوفي إنتِ فين وأنا فين..
كلمات أضرمت النيرانَ بداخلِ رانيا لتقتربَ بنوبةٍ من الحقد والغيرة:
ليه علشان إيه تحصلي على دا كلُّه، حلوة ماأنا حلوة، ليه إنتِ وزهرة أخدتوا كلِّ حاجة، واحدة اتجوِّزت واحد غني وعاشت حياتها كلَّها برَّة، غير القصور اللي امتلكتها، وإنتِ اتجوِّزتي جمال اللي كان أحسن واحد في العيلة وأذكاهم، وأنا في الآخر أتجوِّز حتِّة ظابط بمرتَّب مايكفيش يومين، غير جوازاتُه..تذكَّرت شيئًا:
كنتي تعرفي إنِّ راجح متجوِّز قبلِ عزة مراتُه صح يافريدة؟..
جلست مرَّةً أخرى تنظرُ بأظافرها بتكبُّر ثمَّ هزَّت رأسها بابتسامةٍ ساخرة:
أه أعرف أنُّه كان متجوِّز عليكي يارانيا، أصلُه واطي وحقير وكان دايمًا يجي على الغلابة، راجل عينه فارغه، مايملهاش غير التراب ، بنت كان كلِّ همَّها تصرِف على والدتها المريضة، يسبها في حالها، لا…لازم يقرفها ويهدِّدها علشان مزاجُه، ماهو واطي، نجس حقير كتب عليها عُرفي الحيوان بعد تهديدُه ليها، وياريتُه كان عايز يتجوِّزها كمان لولا تدخُل جمال، البنت أمَّها مااتحملتِش وهي بتشوفها كلِّ ليلة مذلولة لمزاج سي زفت وهوَّ بيعاملها زي الجارية وماتت الأم بحسرِتها، كنتي منتظرة من بنتِ عشرين سنة قدَّام جوزِك الحقير اللي استخدم نفوذه ضدَّها، لجأت لجمال علشان يحميها منُّه ومن ذلُّه وضغط عليه علشان يطلَّقها..
ليه مقولتليش الموضوع دا يافريدة…
كنت هقولِّك بس جمال كان عارف أدِّ إيه إنِّك حقيرة واطية، قالِّي سبيها تشرب من البحر..
قتلتي بنتي يافريدة..
بنت مين يامُّو بنت، بنتِك سبتها على الطريق زي ماسبتي ولادي للكلاب ياخدوهم..
سبتيها فين يافريدة، طمِّني قلبي وقوليلي سبتيها فين؟…
ماعرفش ويالَّه اطلعي برَّة وياريت ماترجعيش هنا تاني.
يعني مش عايزة تقولي ودِّيتي بنتي فين..
ماعرفشِ بنتِك فين ومايلزمنيش أعرف لأنَّها أكيد هاتطلع زيِّك..
حتى لو قولتلِك مكان ولادِك...هزَّة عنيفة أصابت فريدة، استدارت إليها لتصطدِمَ بعينيها المحدَّقتينِ بها باستخفاف..تراجعت متماسكةً بعدما استشفَّت من نظراتها الخديعة:
مش عايزة مبروكين عليكي..قالتها بجمودٍ رغمَ صرخةِ قلبها ..ثمَّ رفعت عينيها ونظرت إليها بقسوة:
هتفضلي تدوَّري على بنتِك العمر كلُّه..
قست ملامحُ رانيا بغضبٍ جحيميّ، فأشارت مهدِّدةً إيَّاها:
هفضحِك قدَّام جوزِك وولادُه…
زمَّت فريدة شفتيها تشيرُ إليها على الفيلَّا:
البيت قدَّامِك لو عايزة أنادي عليهُم ماعنديش مشكلة..
طالعتها بأعينٍ ناريَّة، وظلَّت حربُ النظراتِ بينهما إلى أن قاطعتها فريدة:
نفوذي أقوى منِّك بكتير يارانيا، زمان استضعفتوني إنتِ والحقير جوزِك، اللي ربِّنا هيخلَّص حقِّي منُّكم عن قريب، إمشي اطلعي برَّة..
وصلت إليها رانيا والشرُّ ينبثقُ بعينيها إلَّا أن فريدة قامت بصفعها بقوَّة، بدخولِ مصطفى ليقفَ مذهولًا عمَّا يراه:
فريدة!…استدارت إليهِ تشيرُ عليها:
خلِّيهم يرموا الزبالة دي برَّة يامصطفى..
قالتها وصعدت للأعلى بينما توقَّفت رانيا تطالعهُ للحظات، تنظرُ لهيئتهِ وهيبتهِ التي دبَّت بعضًا من الرهبة داخلها، إلَّا أنَّها تماسكت مستخدمةً أساليبها، ثمَّ اقتربت متصنِّعةً البكاءَ والظلم:
أنا بنتِ عمِّ فريدة بس هيَّ ..أشارَ بيديهِ إليها بالصمتِ ثمَّ هتف:
نوَّرتي يامدام ..قالها ووالاها ظهرهِ بعدَ معرفتهِ بهويتِها.
عندَ إلياس وميرال:
هبَّ فزعًا من نومهِ يردِّدُ اسمها، لم يشعر بنفسهِ وهو يغفو رغمًا عنهُ على المقعد، نهضَ من مكانهِ سريعًا بعدَ حلمهِ بل كابوسهِ المرعب، يبحثُ عنها وجدها مازالت تغوصُ بنومها، تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجها من بينِ ضلوعهِ ثمَّ اقتربَ من الفراشِ مع تقلُبها وهي تبتسمُ بنومها كأنَّها تحلُم، دثَّرها جيدًا بعدما انكشفَ معظمِ جسدها أمامَ عينيه، تمدَّدَ بجوارِها يسبحُ بعينيهِ على ملامحها الهادئة، دنا من وجهها وسحبَ أنفاسها الناعمة يستنشِقُها وهو مطبقُ الجفنينِ ثمَّ تراجعَ يحدِّثُ نفسه:
مش هاقدَر أقرَّب منِّك، مقدرشِ ياميرال بقيتي نقطة ضفعي الوحيدة، للأسف قدرتي عليَّا يابنتِ فريدة..
داعبَ وجهها ثمَّ بسطَ ذراعيهِ وجذبها لأحضانهِ وتابعَ همسه:
الليلة بس هقدر أنام وأنا مش خايف أقوم الصبح على حد بيكلِّمني علشانِك، عرسانِك كانت كتيرة يابايرة..
بس عرفِت أتعامِل كويس مع الوضع ..ابتسمَ وهو يقتربُ من أذنها هامسا:
"بتسألي بحبِّك ولَّا لأ…هوَّ الحب يكون حب من غيرك يامعذباني"
ظلَّ يمسِّدُ على وجنتيها إلى أن غفا وكفِّهِ يحتضنُ وجنتها، بعدَ فترةٍ فتحت عينيها بتملُّلٍ تشعرُ بشيئٍ صلبٍ تحتَ رأسها، وفوقَ جسدها، وجدت ذراعهِ الذي يلتفُّ حولها والآخر تحتَ رأسها..طالعت قربهِ بهيام لا تصدِّقُ نفسها وهي بأحضانِه، تذكَّرت أفعالهِ المجنونةِ بالعشقِ معها ليلةِ أمس، نظرت لملامحهِ الرجوليةِ الخشنة وصلابتها، مرَّرت أناملها إلى أن توقَّفت على شفتيه، وتذكَّرت قبلاته، أغمضت عينيها تُراجعُ مشاهدهما وابتسامتها الخجولة تهمسُ لنفسها، أيُعقَل أنَّها أصبحت زوجتِه..زوجتهِ كرَّرتها مع نفسها هامسة:
معقول الراجل اللي نايم دا هوَّ اللي كنت في حضنُه من ساعات، هو إلياس نفسه، معقول بقنا قريبين أوي من بعض كدا، دنت تدفنُ نفسها بأحضانه:
وآاااااه طويلة أخرجتها من ثنايا روحها على ماوصلت إليهِ قائلةً بهمس:
ماعرفشِ حاسس بيَّا ولَّا لأ، بس بحبَّك أوي أوي ..قالتها تتمسَّحُ بصدرهِ كالقطةِ الأليفة، واستأنفت
متأكدة من حبَّك ليَّا، بلاش قسوة معايا ياإلياس، كفاية سنين حرماني منَّك، مش محتاجة غير حُضنك دا بس..لفَّ ذراعهِ يقرِّبُها إليهِ حتى لم يفصِل بينهما سوى الهواء، بعدما استمعَ إلى همسها ثمَّ رفعَ ذقنها يحتضنُ ثغرها بعدما فقدَ سيطرتِه، رفعت ذراعيها تحاوطُ عنقهِ مع قبلتهِ العاشقةِ للروحِ لتشتعلَ نيرانُ العشقِ مرَّةً أخرى ولن يُخمِدها سوى التقارب..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ فتحت عينيها تجذبُ ساعتها تنظرُ بها، تراجعت برأسها لمتيِّمَ القلبِ وجدتهُ مستغرقًا بنومهِ يبدو أنَّهُ لم ينم طيلةَ الليل، سحبت نفسها من بينِ أحضانه، وعيناها على وجهه، اعتدلت بهدوءٍ وبداخلها سعادةُ العالمِ كلِّه، جذبت قميصهِ تشتمُّ رائحتهِ بوله، ثمَّ ارتدتهُ وانحنت تدثِّرهُ بالغطاءِ متَّجهةً إلى الحماَّم..
خرجت بعدَ قليلٍ بروبِ الحمَّامِ تبحثُ عن حقيبةِ ملابسها، تحرَّكت للخارج، بحثت بكلِّ مكانٍ متذكِّرةً أنَّهُ جلبها..
تأفَّفت بعدما فقدت الأملَ في الحصولِ عليها..جذبت إسدالها وقامت بأداءِ فرضها، ثمَّ تحرَّكت مرَّةً أخرى للداخلِ تجذبُ قميصهِ الوحيد الموجودَ لديها، وارتدتهُ سريعًا وغادرت خارجَ الغرفةِ تبحثُ بأرجاءِ الجناحِ عن أيِّ طعام، وجدت طاولةً متحرِّكةً تُوضَعُ عليها بعضَ أصنافِ الطعام..رفعت غطاءها..
تنهَّدت متراجعةً على الأريكةِ بعدما حاولت أكلَ أيَّ شيئٍ إلَّا أنَّها لم تستطع.
جلبت هاتفها وفتحت الشرفةَ واتَّجهت تجلسُ ناظرةً إلى أمواجِ البحر، ثمَّ هاتفت فريدة.
عندَ فريدة
قبلَ قليلٍ دلفَ إليها مصطفى وجدها تجلسُ على الأرضيةِ تحتضنُ ساقيها وتبكي بصمت...
جلسَ بجوارِها يمسِّدُ على خصلاتها:
مش هتقدَر تقرَّب منِّك، مش واثقة فيَّا يافريدة ..رفعت عينيها تطالعهُ بحزنٍ سكنَ روحِها:
ماقدرشِ أعيش من غير ميرال يامصطفى، ماقدرش، بدل وصلِت لهنا أكيد عارفة حاجة ...احتضنها:
خلِّيها تثبت إنَّها بنتها، حتى لو أثبتت.. تفتكري ميرال هايكون موقفها إيه..
نزعت نفسها من أحضانهِ بفزع:
لا، حبيبتي ملهاش في الصراع اللي بينَّا..هيَّ ماتستهلِش، انا الحاجة الوحيدة اللي خلِّتني أوافق على إلياس قبلِ معرفتي أنُّه ابني، علشان متأكدة أنُّه هايقدَر على رانيا وراجح، تخيَّل بقى لمَّا يعرَف اللي عملوه فيه تفتكِر ممكن يعمل فيهم إيه؟..
ضمَّها مصطفى يربتُ على ظهرها:
ممكن تهدي، ولازم نفكَّر كويس إزاي هانواجِه إلياس.. الموضوع مش سهل أبدًا يافريدة، رفعَ ذقنها يتجوَّلُ بالنظرِ فوقَ ملامحها قائلًا:
إسلام عرف إن إلياس ابنِك ومش ابني ..هبَّت فزعة واهتزَّ جسدها تهزُّ رأسها برفضٍ لما استمعت إليه:
مستحيل، ليه تعرَّفُه قبلِ إلياس..
نهضَ من مكانهِ محاولًا تهدئتها:
أنا ماعرَّفتوش، هوَّ سمع كلامنا، وجه اتكلِّم معايا، معوَّدهم على الصراحة..
ضيَّقت مابينَ حاجبيها متسائلة:
يعني تغيُّره بسبب معرفتُه!..طيِّب أوعى يكون ناوي يقول لإلياس حاجة..
سحب كفَّها واتَّجهَ إلى الفراش يدثِّرُها:
نامي حبيبتي مش هيقولُّه حاجة، هوَّ خايف على إلياس من صدمتُه، ربنا يستر أنا عاجز ومش عارِف أعمِل إيه..
تشبَّثت بكفِّه:
خُدني في حُضنك يامصطفى، حاسة إنِّي سقعانة…
سقعانة..قالها بذهولٍ ثمَّ جلسَ بجوارِها يضعُ كفِّهِ على جبينها:
إنتِ سُخنة، الجوِّ حر
توسَّدت ساقيهِ تحتضنُها تهمسُ بخفوت:
سقعانة من الوحدة والخوف اللي محاصرني، خايفة من بكرة أوي يامصطفى...همست بها قبلَ أن تذهبَ بنومها:
فاقت على رنينِ الهاتف..تناوَلَهُ مصطفى بعدما أنيرَت شاشتهِ بصورتها.
اعتدلَ مبتسمًا وأجابها:
ميرو حبيبة عمُّو صباح الجمال..
أجابتهُ ضاحكة:
وحشتني أوي ياعمُّو...شاكسها وهو يرى اعتدالَ فريدة وتوَّرُدِ وجهها مرَّةً أخرى بالدموية بعد شحوبها وهي تستمعُ إلى ضحكاتِ ميرال..تابعَ مصطفى قائلًا:
يابكَّاشة، يعني ليلة ووحشتِك، المهم اليأس عامل معاكي إيه؟..
لملمت خصلاتها المتشرِّدة على وجهها بسببِ الرياحِ وأجابته:
إلياس كويس لسة نايم لمَّا يصحى هخليه يكلِّمَك..جذبت فريدة الهاتفَ وتسائلت بلهفة:
حبيبة ماما أنتوا كويسين ..توقَّفت ميرال تتحرَّكُ إلى أن استندت على جدارِ الشرفة:
ماما..شهقة خرجت من جوفِ فريدة تضعُ كفَّها على فمها قائلة:
روح ماما إنتي طمِّنيني عليكي، وعلى جوزِك، إلياس كويس معاكي، ولَّا عمَل حاجة…
تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجتها من أشواقِ عشقها له حتى استمعت إليها فريدة لتشعرَ بالريبةِ منها:
إلياس كويس أوي ياماما، ماتوقَّعتِش يبقى كدا، بيحاول يسعدني وبس.
شعرت بالسعادةِ لتنهضَ من جوارِ مصطفى قائلة:
ميرال خلِّي بالِك منُّه أوي، اهتمِّي بيه حبيبتي ماتخلِهوش يشرَب سجاير على الريق، والقهوة يقلِّل منها ياميرال ..اهتمِّي بأكلُه أصلُه بينسى…
ضحكت ميرال وشاكستها:
ماما أنا اللي بنتِك مش هوّّ، المفروض هو اللي يهتم بيَّا ياستِّ ماما، بتوصيني عليه، هو دا عايز حد يهتمِّ بيه!…
والله..استدارت بعدما استمعت إلى صوتهِ خلفها..توَّردَت وجنتيها وهي تراهُ لأوَّلِ مرَّةٍ أمامها بتلكَ الهيئة، كانَ متوقِّفًا بطقمٍ رياضيٍّ شورت وحمَّالة، وخصلاتهِ المبعثرة من نومه..تناست أمرَ فريدة وهي تنظرُ إليهِ بإعجاب..اقتربَ متسائلًا:
بتكلِّمي مين..ابتلعت ريقها تشيرُ للهاتف:
دي دي ..ابتسمَ عليها يجذبُ الهاتفَ
وتحدَّث:
ألووو...نزلت دمعةٌ من عينيها غيرَ مصدِّقةٍ أنَّهُ يحادثُها، حاولت الحديثَ ولكنَّها لم تقوَ، شعرت بثقلِ لسانها مع انسيابِ دموعها للحظاتٍ تهمسُ اسمهِ بثقل:
إلياس عامل إيه ياحبيبي؟..
كويس، بابا عامل إيه وأُخواتي؟..
استدارت إلى مصطفى الذي خرجَ للشرفةِ ليتركها تتحدَّثُ مع ميرال براحةٍ تامَّة:
أجابتهُ بلهفةٍ تريدُ أن تستمتعَ بحديثهِ قائلة:
كويسين، إسلام وغادة لسة نايمين، وبابا برَّة في البالكون، لو عايز تكلِّمُه..
لا، خلاص هكلِّمه في وقتِ تاني ..
هاقفِل سلام..استنى صاحت بها ليتوقَّفَ منتظرًا حديثها، صمتت ولم تعي ماذا تقول..لحظاتِ صمتٍ موجعة لديها إلى أن همست بتقطُّع:
عامل إيه مع ميرال، رفعَ نظرهِ إليها وهنا توقَّفَ على هيأتِها التي لم يلتفت إليها منذُ دخوله، ليجيبها سريعًا:
إحنا كويسين، لازم أقفِل دلوقتي..قالها وأغلقَ الهاتفَ مقتربًا منها ينظرُ حولهُ ثمَّ جذبَ كفَّها ودلفَ للداخل:
إنتِ عايزاني أضربك ولَّا أموِّتك، قوليلي بس علشان أكون مستعدّ.
طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، أشارَ على ساقيها العارية، وقميصهِ التي تُفتحُ بعضَ أزرارهِ الأولى..
إزاي توقفي برَّة كدا، اقتربَ منها إلى أن استندت على الجدارِ خلفها ترفعُ يدها محاولةً الحديث، ولكن هيأتهِ الغاضبة جعلتها تشعرُ بالخوف، لكمَ الحائطَ بجوارِها واقتربَ يهمسُ إليها بهسيسٍ مرعب:
حذَّرتِك قبلِ كدا وعدِّيت، أقسمُ بالله المرَّة الجاية ..قطعَ حديثهِ بعدما رفعت نفسها تقبِّلهُ وهي تحاوطُ عنقهِ علَّهُ يصمتَ من تهديداتهِ اللامتناهية.
تصلَّبَ جسدهِ من فعلتها المجنونة، وتوقَّفَ حائرَ العقل، ماذا يفعلُ بتلكَ الجنيَّةِ التي أذهبت عقلِه..لحظاتٍ وهي تحاولُ تشتيتهِ لأنَّها تعلمُ بتحذيراتهِ وقسمِه..أغمضت عينيها بعدما حاوطَ جسدها يرفعها لمستواه، ليتولَّى قبلتها المجنونة للحظات ..تركها بعدَ اختناقِها وتحرَّكَ إلى الحمَّامِ بعد ضعفهِ وفقدانهِ لسيطرتِه ..دلفَ ينزعُ ثيابهِ ويُلقيها بغضبٍ من نفسهِ الضعيفةِ أمامها، فتحَ المياهَ الباردةَ لتطُفئَ لهيبَ غضبهِ من حاله، لحظاتٍ مرَّت عليهِ وهو يريدُ أن يهدمَ المكانَ لما شعرَ بهِ من اقترابها..
رغمَ أنَّها زوجتهِ وحبيبتهِ ولكنَّهُ مغلَّفٌ بجمودِ قلاعهِ المستميتة أمامَ حصونها..
بالخارجِ توقَّفت تنظرُ إلى اختفائهِ من أمامها بشرود، ظنَّت أنَّ صباحهم مختلف، تمنَّت الكثير، ورغمَ تنازلها عن كبريائها وبدأت بتقبيلهِ إلَّا أنَّها شعرت بنفورهِ منها.
تحرَّكَت إلى أن وصلت الغرفةَ وتمدَّدت على الفراشِ تحتضنُ نفسها، خرجَ بعدَ دقائقَ يرمقُها بنظرةٍ سريعة، ثمَّ أردفَ وهو يتوقَّفُ أمام المرآةِ يصفِّفُ خصلاته:
قومي إجهزي علشان هنُخرج.
-مش عايزة..قالتها بخفوت، استدارَ مقتربًا منها يطالعُها بصمتٍ ثمَّ هتف:
يبقى ننزِل مصر، قعدتنا هنا مالهاش لازمة.
اعتدلت سريعًا وتحدَّثت غاضبةً مع دموعها التي نزلت رغمًا عنها:
-اتلكِك قول إنَّك مجبور تقعُد معايا، زي ماانجبرتِ على الجواز، بس أنا مش هجبرَك على حاجة ياحضرةِ الظابط،
طلَّقني وأهو ترتاح..
قست عيناهُ وأنفاسهِ التي تعالت..من يراهُ يجزمُ أنَّهُ سَيرتكبُ جريمةً لامحالة ..أطلَّ عليها بجسدهِ وحاورها بعينينٍ كلهيبٍ من جهنَّم:
أسمعِك بس تقولي حرف الطاء من كلمة طلاق دي، أقسم بالله هكرَّهك نفسِك يابنتِ فريدة، أطبقَ على فكِّها يضغطُ عليها بقوَّةٍ حتى شعرت بآلامها من شدَّةِ ضغطه، وانسيابِ عبراتها التي تدحرجت بغزارةٍ من تغيُّرِ حالته.. هدرَ بصوتٍ مرعب:
سمعتي قولت إيه، كلمة طلاق دي لو سمعت حرف منها هاخليكي تتمنِّي الموت ومش تلاقيه، قالها ليدفعُها بقوَّةٍ تهوي على الفراشِ واعتدلَ يشيرُ إليها:
قومي إجهزي هاننزِل نفطر ولو عايزة نلف شوية ماعنديش مشكلة، فاضي للعروسة دلوقتي، ياعالِم بعدِ شوية ماكُنشِ فاضي.
أغمضت جفونها من أثرِ الرجفةِ التي تسرَّبت لجسدِها، اعتدلت تأخذُ أنفاسها بعدما شعرت بانقباضِ صدرها..
توقَّفت واتَّجهت إلى حقيبةِ الملابسِ وقامت بإفراغِها جميعًا على الأرضيِّةِ أمامَ عينيهِ ثمَّ ركلَت ملابسهِ جميعها:
فين هدومي، ألبس إيه؟..مش دي هدومَك أهي..قالتها وهي تركُلَها بقدمِها وتصرخُ بعدما فقدت سيطرتها وانتابتها حالةً من الجنونِ من جمودهِ معها.
اقتربَ منها بعدما وجدها بتلكَ الحالة، حاوطَ جسدها يضمُّها لأحضانهِ يهدهدُها، ولكنَّها ظلَّت تلكمهُ وتصرخُ بوجهه:
بتعمل فيَّا كدا ليه، ليه، علشان إيه دا كلُّه، علشان بحبَّك، ماهو أنا اللي حيوانة إنِّي حبيت واحد زيَّك، واحد جبروت ماشي على الأرض يدوس على خلقِ الله، ظلَّت تلكمهُ وتنتحبُ ببكاءٍ شديدٍ تهزُّ رأسها:
حاولت أكرهَك وماقدرتِش، نظرت إليهِ بدموعها التي أغرقت وجهها:
إحرقلي قلبي دا الغبي، قلبي غبي ياإلياس، ساب كلِّ الرجالة وراحلَك إنتَ…
سحبها بقوَّةٍ لصدرهِ رغمَ كماتها إليه، حاولَ السيطرةَ على غضبها وهمسَ بحنانٍ لأوَّلِ مرَّة:
اشش خلاص إهدي، إهدي ..ظلَّ يردِّدُ لها بعضَ الكلماتِ الحانيةِ إلى أن سكنت بأحضانهِ مع شهقاتها التي تخرجُ من الحينِ للحين، ضمَّها بكلِّ قوَّتهِ وتراجعَ إلى الأريكةِ يتمدَّدُ ويجذبها لأحضانِه ..يعلمُ أنَّها اقترفت أخطاءً لم تتجنَّبها، داعبَ خصلاتِها وبصوتهِ الحنونِ الذي يخصُّها وحدها:
هدومِك في الأوضة التانية حبيت أدَّلع عليكي شوية، بلاش أدَّلع على مراتي..
ظلَّت كما هي تدفنُ رأسها بصدرهِ وشهقاتها مرتفعةٍ لبعضِ الوقتِ إلى أن استمعَ إلى صوتها:
رغم إنِّي بحبَّك بس كنت مستحيل أوافق على الجواز لو إنتَ رفضت، أنا مش هأقدَر أتعامِل معاك كدا، ولو ذنبي إنِّي حبيتَك انتقِم مني براحتك أنا موافقة.
أبعدها عنهُ قليلًا واحتضنَ وجهها الذي انتفخَ من كَثرةِ البكاء، رغمَ بكائها إلَّا أنَّها كانت فتنةٌ خلَّابةٌ اخترقت صمودِه، رفعَ أصابعهِ يزيحُ شعرها الذي التصقَ بمياهِ دموعِها على وجهها، ثمَّ انحنى على ثغرِها يقبِّلُها بكلِّ العشقِ الذي وضعهُ اللهُ بقلبهِ لها، يضمُّها لأحضانهِ ويشدِّدُ عليها يودُّ دفنها بينَ ضلوعهِ وقبلاتهِ التي يتعمَّقُ بها ليثبتَ لها أنَّها الوحيدةَ التي هزَّت كيانِه..ابتعدَ عنها بشقِّ الأنفسِ بعدما سيطرت على جميعِ حواسِه،
دفنت رأسها تبتعدُ عن نظراتهِ بخجل، لأوَّلِ مرَّة تشعرُ معهُ بتلكَ المشاعر، يومًا واحدًا وجعلها تتعلَّقُ بهِ بتلكَ الحالة.. فماذا لقلبِها الضعيفَ بعدَ فترة..
ظلَّ الصمتُ سيدُ الغرفةِ سوى من أنفاسهِ المرتفعةِ التي شعرت بها على عنقها، أغمضت عينيها تستمتِعُ بكلِّ شيئٍ يصدرُ منه، همسهِ الخافتِ في بعضِ الأحيانِ بحبِّها بطريقةٍ غيرَ مباشرة، أنفاسهِ الحارَّة التي تضربُ جسدها، نظراتهِ التي توحي بالكثيرِ والكثير...رجفةٌ كهربائيةٌ تسري بعمودها الفقري بعدما شعرت بأناملهِ فوقَ جسدها ..ارتفعت أنفاسها مطبقةَ الجفنين، وهو يقومُ بفتحِ أزرارِ قميصِه، الذي ترتديه، ارتجفَ جسدها بالكاملِ وشعرت بتخديرِه، بعدما عادَ إلى شهدِ شفتيها مرَّةً أخرى وكأنَّهُ يسقيها من الخمرِ ليذُهبَ عقلها بالكاملِ وتظلُّ تحتَ سطوةِ عشقهِ وحده، دقائقَ من ترانيمِ العشقِ العذبِ وكأنَّهما طيورًا من الكناري الذي يعزفُ لحنهما الأبدي.
بعدَ فترةٍ استندَ على الأريكةِ ومازالت بأحضانهِ يتلاعبُ بخصلاتها يطالِعُها بعيونٍ غيرَ التي كانَ يراها بها، رجلٌ بجبروتهِ انهزمَ أمامَ سحرِ عينيها.
ابتسمَ وهو يراها كطفلةٍ خجلةٍ من والدها بعدَ افتعالها لبعضِ الأخطاء.
رباااه ماالذي أشعرُ بهِ الآن بعدما كنتُ زاهدًا بجميعِ النساء، إلى أن اقتحمت قلبهِ الصحراوي كنسمةِ ربيعٍ لتستقرَّ تلكَ النسمةُ وتكبرُ وتكبرُ حتى أصبحت عاصفة…
لسة زعلانة منِّي؟..هكذا قالها وهو يمسِّدُ على خصلاتِها ..لم تُجبهُ وظلَّت كما هي ..رفعَ رأسها من أحضانهِ
يتعمَّقُ بالنظرِ لوجهها الذي أصبحَ وكأنَّهُ لوحةً مبدعة، ولما لا وقد أبدعَ الخالقُ برسمها لتصبحَ فتاتهِ وسيدةَ قلبهِ الأولى بذاكِ الجمالِ الرَّباني..
داعبَ وجنتيها واحتضنَ عينيها هامسًا بنبرةٍ شجيَّةٍ وكأنَّ الذي أمامها ليسَ هو الذي كانَ منذُ فترة..
ماتزعليش منِّي أنا لمَّا بتعصَّب بفقِد نفسي، وخاصَّةً لمَّا الموضوع يتعلَّق بيكي..
رفرفت أهدابها تبتعدُ من اختراقِ عينيه،
ثبَّتَ وجهها يُبحرُ بهِ كقائدِ سفينةٍ متسائلًا:
زعلانة...طالعتهُ للحظات، ثمَّ رفعت كفَّها على وجهه:
بتحبِّني ياإلياس، وضعت كفَّها على صدرهِ وهي تشعرُ باختراقِ دقَّاتِ قلبهِ لضلوعهِ ورفعت عينيها لعينيه:
دا ليَّا، ولَّا مجرَّد جواز علشان تبني عيلة ويبقى عندَك ولاد، حركت كفَّها مرَّةً أخرى على وجههِ تترجَّاهُ بعينيها:
جوازنا زي ماقولت ياإلياس، زي أي اتنين اتجوزوا وخلاص، أنا زي أي واحدة كان ممكن تتجوِّزها؟..
انحنى لمستواها، يجذبُ عنقها واضعًا جبينهِ فوقَ جبينها..وآاااه حارقة لفحت وجهها حتى شعرت بحرارته:
إنتِ كتلةِ النار اللي جوَّايا اللي ماعرفتِش أسيطر عليها علشان أطفِّيها..
رفعت رأسها تتسائلُ بعينيها التي لمعت بطبقةٍ كرستالية..مرَّرَ أناملهِ على وجهها وعانقها بعينيه:
لو شايفة علاقتي بيكي زي أي حد يبقى الكلام مالوش فايدة..
بتحبِّني؟..قالتها مرة أخرى وهي تطالعهُ بلهفةٍ منتظرةً حديثه:
طبعَ قبلةً أعلى رأسها:
قومي إجهزي علشان أنا جوعت..
تنهَّدت بعدما علِمت بهروبه..
إلياس أنا بحبَّك..نصبَ عودهِ وقامَ بحملها إلى الحمَّامِ ثمَّ أنزلها بهدوءٍ وهي تحاوطُ خصرِه ..رفعَ ذقنها وأردف:
لو عندي شك في حبِّك كنت مستحيل أتجوِّزك، وتأكدي الشعور متبادل،
يالَّه خدي شاور، وأنا هاجهِّز هدومِك، هالبِّسك على ذوقي إيه رأيك؟..
قالها بنبرةٍ هادئةٍ وهو ينظرُ لعينيها.
رفعت نفسها تطبعُ قبلةً على وجنتِه:
متأكدة من ذوقَك..
ضحكَ وتراجعَ للخارج.
عندَ آدم وصلَ إلى منزلِ والدِ إيلين، ترجَّلَ من السيارةِ ودلفَ للداخلِ وجدَ سهام زوجةَ والدها تجلسُ ترتشفُ الشاي..
فين ايلين؟!
توقَّفت مبتسمة :
أهلًا يادكتور، كانِت هنا من شوية، يمكن حد كلِّمها وراحت تشوفه.
انكمشت ملامحهِ بإعتراضٍ تجلَّى بنبرةِ صوتهِ القاسية قائلًا:
اسمعيني كويس، يمكن ماتعرفنيش، بس اللي يقرَّب من اللي يخصِّني أدوس عليه وأعدِّي، انتبهي لكلامِك، اللي بتتكلِّمي عنها مرات آدم زين الرفاعي اللي خطيبتُه تتهان من واحدة مش معروف أصلها وفصلها.
بغضبٍ لوَّنَ ملامحها هتفت بنبرةٍ فظَّة:
لا، أوقف عوج واتكلِّم عدل يادكتور، إنتَ في بيتي و...أشارَ إليها بالصمتِ وأجابها بلهجةٍ متكبرة:
بيت مين ياست إنتِ، أشارَ بيديهِ على البيت:
دا بيت مريم وايلين، إنتِ هنا ضيفة ومالكيش غير هدومِك اللي لبساها…
آدم…صاحَ بها محمود والد إيلين واقتربَ منهُ ينهرهُ غاضبًا:
إنتَ اتجنِّنت بتهين مراتي جوَّا بيتها…
تشعَّبَ الغضبُ بداخلِ آدم ولم يعيرُهُ اهتمامٍ ليصيحَ بصوتٍ مرتفع:
إيلين..كانت تجلسُ بالحديقةِ الخلفيةِ التي ترعاها بنفسها، هرولت للداخلِ عند سماعَها لصوته، توقَّفت على بُعدِ بعضِ الخطواتِ تهمسُ اسمه:
آدم ..بسطَ كفِّهِ إليها:
تعالي لازم تمشي من البيت دا، كدا كدا الفرح بعد شهر، لازم تيجي علشان تشوفي الشقة وتفرشيها على ذوقِك..
ضيَّقت عينيها تطالعهُ بتساؤل:
ليه؟!...اقتربَ بعدما شيَّعَ والدها بنظرةٍ مُخذية قائلًا:
خالِك عايزِك هناك، وكلِّم باباكي واتفق على كلِّ حاجة، مش كدا ياعمُّو؟..
اتَّجهت إيلين تنظرُ لوالدِها بصدمة، كيف يفعلُ بها ذلك، يُلقيها إلى خالها قبلَ قبلَ زواجِها، لم يكترث لفرحةِ خروجها من منزلِ والدها، نعم كعادتهِ تركها لهُ كاليتيمةِ التي ليسَ لديها أقارب…
اقتربت من والدها تسألُه:
يعني إيه الكلام دا؟!..
نظرَ للأرضِ مبتعدًا بنظراته، إلى أن قطعت زوجتهِ حديثها:
الفلوس ضاعت بتاعة جهازِك، والدكتور مش محتاج، يبقى تُقعدي هنا ليه، همَّا أولى بيكي كدا كدا هاتتجوِّزي، وأهو آدم مش غريب اختتمت حديثها تشيرُ على آدم:
مبروكة عليك يادكتور، يبقى إبعتلِنا كارت دعوة…
أطبقت على جفنيها تشعرُ بالإهانةِ من حديثها الذي ذبحَ روحها، اقتربَ آدمُ يحتضنُ كفَّها ثمَّ شيَّعَ والدها بنظرةٍ قائلًا بنبرة فظة:
مش عايزين منكم حاجة ولولا العيبة مكنَّاش محتاجينكو في الفرح ...قالها وسحبَ إيلين وتحرَّكَ للخارج…
خطت بجسدٍ بلا روح كجثَّةٍ لفظت أنفاسها، حاوطَ أكتافها بعدما توقَّفت تنظرُ إلى منزلِ والدها تودِّعهُ بدموعِ عينيها، المنزل الذي يحتوي ذكرياتِ والدتها الحنون، تحرَّكَت سهام لتغلقَ البابَ بوجهها، شهقةٌ خرجت من فمها ليضمُّها لأحضانهِ محاولًا تهدئتها:
إيلين أرجوكي بلاش عياط، سيبِك منها دي حيوانة ..أمي ياآدم ذكريات أمي هنا، أخدِت كلِّ حاجة..
احتضنَ وجهها ينظرُ لرماديتها:
إيلين حبيبتي ممكن تنسيها، مش عايزِك تعيَّطي على حاجة مش مستاهلة، ولو على ذكرياتِ عمِّتو، بكرة من الصبحِ هابعت حد مع مريم تجمَع كلِّ حاجة تخصُّكُم.
دفنت نفسها بأحضانهِ وبكت بنشيج،
ربتَ على ظهرها محاولًا تهدئتها، حاوطها وتحرَّكَ إلى سيارتهِ ليغادرَ بها المكانَ بأكمله.
عندَ اأسلان وصلَ إلى المكانِ الذي ينتظرهُ بهِ إسحاق، ترجَّلَ من السيارةِ وفتحَ بابها يساعدُ والدها بالنزول، رفعَ نظرهِ إليها يشيرُ على المدخل..
تحرَّكت بجوارهِ إلى أن وصلَ إسحاق،
أومأَ اسحاق برأسهِ لمحمود:
إزاي حضرتَك؟..
أهلًا بيك ياباشا، سحبَ كفَّ أرسلان متحرِّكًا:
إنتَ عملت إيه، إزاي قدرت تقنعُه بالسرعةِ دي؟…
تحرَّكَ بجوارهِ وتحدَّثَ متهكِّمًا:
إيه إسحاقو مش واخد بالَك من اللقب ولَّا إيه، معاك رجلُ العقاب ياسيدي…
حاوطَ كتفهِ وتحرَّكَ يضحكُ عليهِ بصوتٍ مرتفع..كان يسيرُ محمود والدُ غرام خلفهم وعيناهُ تتابعُ تحرُّكِهم ومُزاحِهم مع بعضهم البعض، تذكَّرَ حديثهِ لابنهِ زياد بعدَ مغادرةِ أرسلان من منزله:
خد حبيبي الاسم دا ابحث عنُّه كدا
شوفُه مشهور ولَّا إيه…
أمسكَ زياد البطاقةَ الخاصَّةَ بأرسلان وبحثَ عنهُ عن طريقِ شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي، رفعَ نظرهِ لوالدِه:
دا من عيلة غنية أوي يابابا، عندُه نادي مشهور أوي في مدينتي، بص باباه دا..ودا عمُّه، بس ماعرفشِ مين دول، همَّا كاتبين تحت فاروق وإسحاق الجارحي وأسرِتُه،
استنى هاشوف صفحتُه الشخصية، أو الإنستا، ظلَّ يقلِّبُ إلى أن وصلَ إلى صفحتهِ وأردف؛
ليه أخت في أولى جامعة بس، علاقاتهِ محدودة مفيش غير عمُّه بس في معظمِ ظهوره، بس فيه حاجة لفتت نظري يابابا..طالعهُ والدهِ منتظرًا حديثه:
هتفَ يشيرُ إلى الأدعيةِ والآياتِ القرآنية، يعني شكلُه عارف ربِّنا يابابا، شوف صورُه كلَّها في أماكن كويسة…
خرجَ من شرودهِ على احتضانِ ابنتهِ لكفِّه:
بابا أنا مش عايزة..حاوطَ والدها أكتافها وتحرَّكَ خلفهم:
حبيبتي أنا استودعتِك عند ربنا، وشكلُه ابنِ حلال، نظرت إليهِ بخوفٍ وهو يتحدَّثُ مع إسحاق ويضحك:
شكلَك حافظ العمارة والمأذون ياإسحاقو، إنتَ متجوِّز على دينا ولَّا إيه؟..
لكزهُ بجنبهِ مردِّدًا:
إمشي ياأهبل وبطَّل كلام كتير، توقَّفَ لدى الشقةِ التي يقطنُ بها المأذون ليلتفتَ بعدما استمعَ إلى صوتها:
لا..أنا مش موافقة، بابا تعالَ نمشي من هنا، ونرجَع الصعيد هناك هيحمونا..
صعيد..قالها أرسلان يطالعُ عمِّهِ بذهول..أومأَ بعينيه:
-وعليه تار، إتلم خلِّي الليلة تعدِّي، اقتربَ إسحاق منها ..انكمشت متراجعةً إلى أحضانِ والدها، فرفعَ يدهِ إليها:
خلاص إهدي، براحتِك اتفضلي إرجعي، قالها وهو يشيرُ إلى الدرجِ ثمَّ التفتَ إلى أرسلان:
كنت هتتجوِّز واحدة غصبَ عنَّها هوَّ أنا ربيتَك على كدا؟!..
تأفَّفَ بضجرٍ من كلماتِ إسحاق، رغمَ أنَّهُ يعلمُ إلى مايرمي به، ولكنَّهُ شعرَ بالاختناقِ ليقتربَ منها:
بصِّي يا..صمتَ محاولًا أن يتذكَّرَ اسمها، فهتفَ إسحاق غرام هتفضحنا يخربيت عقلَك..
غرام أنا فهمَّتِك على كلِّ حاجة، مش عاجبِك براحتِك…
إنتَ مخابرات يابني؟..أردفَ بها محمود وهو يدقِّقُ النظرَ بعينيه..
هزَّ رأسهِ بالنفي سريعًا وأطلقَ ضحكةً ساخرة:
مخابرات إيه بس ياعم محمود، ليه بتقول كدا ..
أومال ليه عايز تتجوِّز بنتي يابني بالطريقة دي وتسافِر بيها؟…
ليه همَّا المخابرات بس اللي بيتجوِّزوا؟..
لا مش قصدي، بس غامضين ومركز ودخولَك لبنتي وإنَّك تاخدها يبقى أكيد منصِب أعلى من اللي كانت فيه.
عم محمود اسمعني..عندنا مشكلة وحلَّها في جواز أرسلان، وزي ماقولت لحضرِتَك بنتك بنتنا وعمرنا ما هانفرَّط فيها، إحنا عندنا بنات وزي ما أرسلان قالَّك أنُّه معجب بالبنت ..تقابلت أعينهُم للحظاتٍ ثمَّ تراجعَ مستندًا على الجدارِ يهمس:
إسحاق أنا خُلقي ضيِّق، هضربه هو وبنته ..أومأَ لهُ باطمئنان..
ظلَّ الحديثُ لبعضِ الدقائقَ إلى أن زفرَ أرسلان مع دلوفهم بعدَ إقناعها.
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ توقَّفَ أمامَ منزلها لخروجها عروسًا أمامَ أهالي المنطقة بعدَ شرطِ والدها بذلك ..استقلَّت بجوارهِ السيارةَ التي انطلقت بهما إلى المطار منهُ إلى روما.
بعدَ مرورِ عدة ساعاتٍ :
وصلا إلى الفندقِ الذي سيقضي به شهرَ عسلهِ المزعوم، خلَّلَ أناملهِ الخشنة بأناملها الرقيقةَ وتحرَّكَ بقامتهِ بشموخٍ وكبرياء، تليقانِ بشخصِه، توقَّفَ لدى الاستعلامات وخلعَ نظارتهِ يتحدَّثُ باللكنةِ الإيطالية، يستعلِمُ عن جناحهِ الخاص..
وصلَ بعدَ قليل ودلفَ لجناحهِ الذي يُعتبَر من أرقى الأجنحة بهذا الفندق، تطلَّع بعينيهِ الصقرية في كلِّ جانبٍ بالجناح، ثمَّ أشارَ إليها بالدخول:
إنتِ مصدَّقة إنِّك عروسة ومُنتظرة العرض اللي المجانين بيعملوه وأشيلِك وكدا..تؤ يا..صمتَ يشيرُ بيديه:
إنتِ قولتيلي اسمك إيه؟…قامت بنزعِ طرحةِ زفافها تلقيها أمامهِ وهرولت لأوَّلِ غرفةٍ تُغلقها خلفها دونَ حديث..شهقَ بتصنُّع قائلًا:
البت اتجنِّنت.. دخلت وماردِّتشِ عليَّا، معقول بتعملِّي مفاجأة ليلة الدخلة ..قطعَ حديثهِ مع نفسهِ رنينَ هاتفه، رفعهُ ينظرُ لشاشتهِ بابتسامةٍ ساخرةٍ مجيبًا:
هوَّ حضرتَك قضيت شهرِ عسلَك في إيطاليا قبلِ كدا؟..
قهقهَ إسحاق قائلًا:
إيه ياعريس ببارِك، وبقولَّك سبع ولَّا ضبع؟..
قوَّسَ فمهِ متذكِّرًا مافعلتهُ تلكَ الفتاة فأردفَ متهكِّمًا:
أه والعيال بتلعَب في الشارع..
ارتفعت ضحكاتُ الآخرِ لتصُمَّ أذنيه، فهتفَ من بينِ ضحكاته:
لئيم ياصقورتي تتجوِّز في يوم وتخلِّف في نفسِ اليوم وعيالَك يلعبوا في الشارع كمان..
ابتسمَ الآخرُ على حديثهِ قائلًا:
فيه جديد؟..أجابه:
أه..صمتَ يستمعُ إليهِ فهبَّ من مكانهِ متسائلًا:
إلياس ياخدُه ليه؟..
أجابهُ متهكِّمًا..
بيرُدّ الزيارة، على العموم كنت متوقِع من إلياس كدا، حاولت أفهِّمك طبعُه، بس إنتَ اللي عملت سبعِ الليل، ماتقلقش، بعت لإلياس..
انتظرَ حديثهِ متسائلًا:
وقالَّك إيه؟...ضحكَ الآخرُ قائلًا:
ابنِ السيوفي عايز زيارتي باين، وبيعمِل تقيل شكلُه فاهم اللعبة، حرَّص وخلِّي بالك من نفسَك، فيه واحد كان على طيارتَك، حجز قبلِ ميعادِ الطيَّارة بنصِّ ساعة، إنتَ فاهم معنى كدا إيه..
حكَّ ذقنهِ عندما فطنَ مايرمي إليه ثمَّ ابتسمَ قائلًا:
مرحب وناخد بعض بالأحضان..
لا ياخفيف أحضُن عروستَك ..هنا استمعَ إلى تحطيمٍ بالداخل، فهرولَ يدفعُ البابَ بقدمهِ بقوَّة، حتى انفتحَ وتوقَّفَ مذهولًا لما رآه، وجدها مزَّقت الفستان وألقتهُ بالأرض ..حركتها الهوجاءَ جعلت نيرانُ غضبهِ تزدادُ بداخله..كوَّرَ قبضتهِ محاولًا السيطرة على أعصابهِ من تلكَ الشرسة..
رفعَ عينيهِ إليها وتساءلَ بهدوءٍ رغمَ بركانهِ الكامنِ بصدره:
عملتي كدا ليه، إنتِ عارفة إحنا فين أصلًا، دا فندق مش بيدخلُه غير الناس الراقية، لمَّا يسمعوا حركاتِك دي يقولوا إيه..
إمشي اطلَع برَّة..قالتها وهي تدفعهُ بعنف ..قامَ بنزعِ ربطةِ عنقهِ وومضت عيناهُ بلمعةِ تحدِّي يشيرُ إليها:
ماتنسيش نفسِك، إنتِ مين علشان تقوليلي أطلع برَّة، اسمعي علشان ماليش خُلق ..إنتِ مراتي أه بس ورق، حتى لو مراتي حقيقي مالكيش إنِّك تكلِّميني بالطريقة دي، أوضتِك اللي جنبِ دي يالَّه اطلعي عايز أنام، ولمِّي الفستان..
تراجعت للخلفِ إلى أن وصلت إلى البابِ وتحرَّكت سريعًا للخارج..
جلسَ يزفرُ بأنفاسٍ حارقة، يهمسُ لنفسه:
وبعدهالِك يااسمِك إيه شكلِك هاتتعبيني..
عندَ إلياس وصلَ إلى الشاطئ بعد تناولِهم طعامَ الإفطار، عانقَ كفَّها وتحرَّكَ على الشاطئ:
لسة بتحبِّي قعدةِ البحر.. رفعت رأسها إليهِ تهزُّها قائلة:
أوي، البحر دا بحسُه بير أسراري.
توقَّفَ ينظرُ لتقلُّبِ الأمواجِ قائلًا:
خلِّي بالِك بس علشان غدَّار وموجُه بيقلِب بسرعة، ماتدِلوش الأمان أوي..
احتضنت ذراعهِ ووضعت رأسها عليهِ متمتمة:
لا، البحر صاحب صاحبُه، يعني اللي يفهمُه صح مش هيخاف.
طالعها مستغربًا حديثها:
اللي هوَّ إيه مش فاهم ..أشارت إلى الأرضِ بعدما تجوَّلت بالمكانِ قائلة:
ينفَع أقعد على الأرض؟..الشاطئ مفيش ناس هنا..
أومأَ وجلسَ ثمَّ أشارَ إليها بالجلوسِ أمامهِ ليحتويها بين ذراعيه ..شعرت بالسعادةِ من طلبِه ..جلست وفردت ساقيها تستند بجسدها عليه تنظرُ إلى البحرِ بصمتٍ تتذكَّرُ طفولتهما وكأنَّهما يتحرَّكانِ أمامها،
رجعت برأسها عليهِ تشيرُ للموجِ الذي ارتفع:
شايف الموج علي فجأة إزاي...كانَ ينظرُ بهاتفهِ ولم يستمع إلى حديثها، استدارت برأسها بعدما وجدت صمتِه:
بتعمِل إيه؟..
رفعَ رأسهِ من فوقِ الهاتفِ وأجابها:
بشوف الأخبار، استدارت تجذبُ منهُ الهاتفَ بغضبٍ وتمتمت:
يعني بكلِّم نفسي وحضرتَك بتقولِّي شغل، حتى في شهر العسل!..
أشارَ إليها:
هاتي الفون ياميرال، رجعت بهِ للخلفِ تهزُّ رأسها بالرفض:
مش هاتاخدُه ياإلياس، من حقِّي يكون وقتَك ليَّا وبس، أومال لمَّا نرجع، انحنى يجذبُ الهاتفَ من كفِّها، جفلَ من أفعالها الطفولية، أمسكَ الهاتفَ وتابعَ مايفعلهُ دونَ اهتمامٍ لحزنها، انسحبت من أحضانِه، وجلست على بُعدِ خطوةٍ تنظرُ بصمتٍ للبحر، وتكوَّرَت عبراتها بالدموعِ تهاتفُ نفسها:
هايفضَل زي ماهوَّ..تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجتها من ذلكَ الرجلَ الذي يثيرُ بداخلها مشاعرَ متضاربة، بعدَ دقائقَ وهي شاردةٌ بمنظرِ البحر، شعرت بهِ خلفها يلفُّ ذراعيهِ حولَ جسدها ويجذبها بتملُّك لأحضانه يهمس بجوار أذنها
-دلوقتي ملك ايديكي، رفعت رأسها تطالعه متمتمة
-إنت مش ملكي ماتضحكش على نفسك، حتى مش قادر تحسسني بأهميتي في حياتك، وضع أنامله على شفتيها وتحدث
-لو زي مابتقولي مكنتش عملت شهر عسل
-وليه عملت شهر عسل ياترى
لملم خصلاتها وابتسامة خلابة تجلت بملامحه
-علشان أجمع اوقات حلوة معاكي، احتضن أحشائها يكفيه وأكمل وعيناه تتعمق بالنظر بعيناها
-علشان نحكي ذكريات حلوة لأولادنا إن شاءالله،
-ولادنا ...قالتها وهي تضع كفيها فوق كفه
-متجوزين علشان نجيب ولاد بس ياإلياس ..قرص وجنتيها
-بطلي غباء ياميرال، حاوط جسدها يفتح هاتفه
-شوفي كدا علشان شوية الغباء اللي عندك ..قلبت بهاتفه، لتجد الكثير من صورها، رفعت عيناها تهمس له
-صوري، ليه بتعمل فيا كدا، أخذ الهاتف ثمَّ قامَ بفتحِ مشغِّلَ الأغاني على أغنيةِ العندليب حبَّك نار..
تراجعت بجسدِها لتصبحَ بأحضانِه، بعدما صمت ينظر للبحر، دون أن يجيبها، سحبت نفسًا و أغمضت عينيها تستمتِعُ بصوتِ الموجِ مع صوتِ العندليب، انحنى مستندًا بذقنهِ على رأسها، لفحتهُ رائحتها الخلَّابة التي دغدغت مشاعرِه، شعرَ بخفقانٍ لذيذٍ كإيقاعٍ موسيقيّ، ازدادَ بريقُ العشقِ بنظراتهِ وهو يسبحُ بالنظرِ على ملامحها، رفعت كفَّها على وجههِ متسائلة:
حلوة وعجباك..استندَ بجبينهِ وتنهَّدَ بغرامها الذي يسري بأوردَتِه:
أوي، حلوة وجميلة وتاخدي العقل.
طيِّب ودا ماأخدوش؟..
قالتها وهي تضعُ كفَّها موضعَ نبضِه..
رفعَ كفَّها يقبِّلهُ مبتسمًا، وأشارَ إلى البحر:
اشتكتيني للبحرِ كام مرَّة؟..
لوَّحت بيديها قائلة:
كتير أوي، بلاش أعدِّلَك وترجَع تقول نكدية..
عمري ...قالها وهو يهمسُ أمامَ شفتيها..تبسَّمَت لهُ وقلبها أصبحَ كطبولِ حربٍ من تغيُّرهِ في بعضِ الأحيان..كنت محتفظ بصوري ليه
-عادي مجمع صور العيلة كلها
متقولش كدا علشان مزعلش منك بجد
نزل بنظره اليها
عايزة تسمعي ايه، سحبت بصرها بعيدا عنه ولكنه عادت إليه بعدما همس
-اشتياق ياميرال
-اشتياق!! همست بها وهي تنظر لعيناه الذي يحاول أن يخفي لمعة الحب بهما وتسائلت
-كنت بتشتاق لي ..ابتسم بعدما وجد ارتجاف شفتيها ليقترب هامسا
-جدًا جدًا، ارتحتي كدا ...اومأت له برأسها مبتسمة، انحنى لمستواها
-طيب جنانك اللي قبل الفرح ورفضك اقول عليه ايه
-تخبيني في حضنك، ارتفعت ضحكاته على كلماته ليضمها متمتمًا:
-اخبيكي من الدنيا كلها بس خايف حضني اللي يأذيك
-راضية بأذيته انت مالك
طبع قبلة أعلى رأسها
-خايف عليكي من نفسي، خايف اخسرك، رفعت رأسها
-لو خايف عليا بلاش تبعدني عن حضنك، دا أكبر أذى ليا
-مقدرش ابعدك إلا إذا انت اللي بعدتي
دفنت رأسها بصدرهِ وتمنَّت أنَّ الحياةَ تتوقَّفُ هنا ..همست وأنفاسها الناعمة تغازلُه:
عمري ماهبعد طول ماانا بحبك،
راقت له كلماتها ليجيبها
-وأنا هحميكي من نفسي على قد ماأقدر، مستحيل ابعدك عن حضني تأكدي، دنى إلى أن لمس ثغرها بخاصته
-من إمتى دا بينبُض باسمي؟..
اعتدل بجسده متراجع يستند بكفيه على الشاطئ لحظاتٍ وهو يحاورُها بعينيهِ بكثيرٍ من المشاعر، ثمَّ أطلقَ تنهيدةً حارَّةً أحرقت ضلوعهِ بنيرانِ عشقها المكنونَ بقلبِه..
مرَّرت أناملها على صدرهِ بعدما وجدت صمته:
عارف من إمتى وأنا بحبَّك؟..
ابتسمَ منحنيًا يهمسُ لها:
عارف كلِّ حاجة، وحاولت أكرَّهِك فيَّا، بس ربِّنا كان رايد تكوني معايا..
ليه ياإلياس ليه عذِّبتني؟..
تراجعَ ونظرَ للبحرِ بصمت.. أشارت إلى هاتفهِ وتساءلت:
طيِّب ممكن تقولِّي ليه الأغنية دي ولَّا مش من حقي أعرف، مايمكن حضرتَك بتحبِّ واحدة تانية..
ضحكَ عليها بصوتٍ مرتفعٍ ثمَّ انحنى يحتضنُ ثغرها مداعبًا أنفها وهو يقول:
لأن حبِّك نار فعلًا ياميرو..
اعتدلت وجلست على ركبتيها أمامه:
ياااه ميرو من زمان أوي ماقولتهاش بالطريقة دي، وبعدين أنا حبِّي نار في إيه؟!..
آلمهُ سؤالها، بماذا يجيبها..
تسطَّحَ على الرمالِ يضعُ كفَّيهِ تحتَ رأسِه، اقتربت منهُ تضعُ رأسها فوقَ صدرهِ دونَ خجلٍ وهمست بضعفٍ هزَّ كيانِه:
عارفة إنِّي زهَّقتَك وكنت بتضايق منِّي، كسرتني كتير علشان كدا كنت ناوية أنقل بيت جديد، كنت بهرَب من حصارك.. رفعَ كفِّهِ يمسِّدُ على خصلاتها ثمَّ تنهَّد تنهيدةً عميقةً وهو يطبقُ على جفنيهِ متذكِّرًا تلكَ الليلةِ بعدما ألقت قنبلتها بتركِها البيت، اعتدلت تستندُ بذقنها على صدرهِ تنظرُ لعينيه:
قولِّي ليه كنت مضَّايق منِّي وكنت مرحَّب بنقلي، للدرجة دي ماكُنتش فارقة معاك، كنت كارهني أوي كدا!..
ابتعدَ بنظرهِ عنها بعدما اعتدلَ ينفضُ كفَّيهِ من التراب، أدارت وجههِ تتعمَّقُ بعينيهِ علَّها تجدُ بها مايريحُ قلبها:
ليه كنتِ كارهني أوي كدا، عملت فيك إيه؟..بتكرَهني صح، كنت بتكرهني علشان ماما اتجوِّزِت والدَك، أنا عارفة كلِّ حاجة، سمعتَك وإنتَ بتقولَّها علِّمي بنتِك بدل ماتتعلِّم تكون نسخة وتبيع عيالها.. تقصُد إيه ياإلياس…
ماما عملِت إيه خلِّتَك تكرهها وتكرهني معاها؟..
تعلقَّت عيناهُ بعينيها، وهو يقاتلُ بضراوةٍ دقَّاتهِ العنيفةِ التي تضربُ صدرهِ بعنفٍ وهو يرى دموعها التي نزلت على صدرهِ كالبلُّورِ الذي يشحذهُ دونَ رحمة:
أنا ماكرهتكيش..ليه بتقولي كدا؟!..
أفلتت ضحكةً ساخرة، مبتلعةً غصةً بطعمِ مرارِ الأيامِ التي كان يعاملُها بها:
أومال كنتِ بتحبِّني، تيجي نحسب كام ليلة نمت معيَّطة فيها بسببَك..
ميرال بطَّلي كلام مالوش لازمة مش عايز كلام وإنتِ ماتعرفيش حاجة.
دنت منهُ تحاوطُ وجههِ متسائلةً بلهفة:
إلياس إيه اللي بينَك وبين ماما؟..
أشاحَ بعينيهِ بعيدًا ينظرُ إلى البحرِ:
مش قولتلِك من شوية البحر غدَّار زي ناس كتيرة في حياتنا..
ماما مش غدَّارة ياإلياس ومش هاسمحلَك تهنها مرَّة تانية.
توقَّفَ يَبسطُ كفِّهِ ليساعدها بالتوقُّف:
قومي علشان نخرج نلفِّ شوية وأفسَّحِك بدل ماتقولي حابسِك..
توقَّفت بعدما فقدت الأمل في الحديثِ معهُ بعدما تبدَّلت ملامحهِ للتجهُّمِ وببراعتهِ المعتادة أوقفها عن الحديثِ وهو يحاوطُ جسدها ويتحرَّكُ للداخل، دلفَ يشيرُ إليها:
غيَّري هدومِك وإجهزي.. هزَّت رأسها وتحرَّكت دونَ حديث.
عندَ فريدة:
قبلَ قليلٍ بعد إغلاقها الهاتف اتَّجهت إلى الشرفةِ بعد مغادرةِ زوجها لعملِه، دلفت الخادمةُ بمشروبها لتحتسي بعضهُ وتنظرَ بشرودٍ لحديقةِ فيلَّتها..
ذهبت بذكرياتِها للماضي..
فلاش باك:
دلفت غادة ببعضِ الأوراقِ بيدها مبتسمة: شوفي جبتلِك إيه
وضعت ميرال على الفراش وتوقَّفت تُطالِعُها باستفهام..
إيه دا؟!..
جلست غادة بعدما ناولتها الأوراق:
دي أسماء كنيتِك الجديدة، فريدة عز الدين..اسم بنتِك بقى غيَّرتُه أعذريني..
دلفَ إلياس إليهما:
مامي عايز أشوف ميرو، داعبت فريدة خصلاتِه، ثمَّ رفعت عينيها إلى غادة:
سمِّتوها إيه؟..توقَّفت غادة مردِّدَةً:
مش هيَّ كانت مثبَّتة بمروة، أنا غيَّرتها زي ماإنتِ كنتي بتناديها ميرال، اتَّجهت إلى إلياس وتابعت ضاحكة:
سألت إلياس نسمِّيها مروة ولَّا ميرال قالي ميَّار، خلِّيت مصطفى يكتبها ميرال جمال الدين زي ماطلبتي أهو، مش جمال الشافعي.
اقتربت من غادة وتلألأت عيناها بنجومها، وهي تحتضنُ كفَّيها:
لو كان عندي أخت ماكَنتشِ هاتعمل اللي عملتيه معايا، شكرًا ياغادة بجد.
سحبتها وأجلستها بجوارِها:
قوليلي صحيح إنتِ ماعندكيش أخوات خالص؟..
هزَّت رأسها بحزنٍ أطلَّ من عينيها بالنفي قائلة:
أنا وحيدة كان ليَّا أخ ومات وهوَّ عشر سنين، قبل ولادتي والدي ووالدتي اتوفوا في حادث سير، وأنا عندي خمس سنين..عمِّي اللي ربَّاني، ابتسمت من بينِ أحزانها:
عمِّي كان حنيِّن أوي عليَّا، ماكنشِ عندُه غير صبي واحد، إتجوِّز أوَّل مرَّة خلَّف رانيا..بس مامتها ماعجبتهاش العيشة وطلبت الطلاق واتجوِّزت واحد تاني، وهوَّ إتجوِّز واحدة طيِّبة كانت بتعاملني زي بنتها، ربِّنا رزقها بولد سمِّتُه زين علشان كان زين الرجال فعلًا، وبنتين توأم كانوا أصغر منِّي بحوالي عشر سنين، وكانوا جُمال أوي شبه عمِّي الله يرحمُه، نظرت إليها وبدأت تقصُّ عليها حياتها دونَ إخفاءِ شيئ، استطردت باقي حديثها:
كنت أنا ورانيا وزهرة ونورة صُحاب، رانيا كانت أكبرنا وكانت عاملة علينا ريِّسة..قالتها متهكِّمة، ماكنتش بتحبِّ زهرة خالص، علشان عيونها كانت لوالدتها ..حياتنا كانت حلوة، رغم كنت يتيمة بس عمِّي وطنط أميرة ماحسِّسونيش باليُتم، كانت دايمًا تقولِّي إنتِ أختهم الكبيرة من عقلِك، رانيا من صُغرها وهيَّ كانت حقودة أوي بس من طيبتي مالاحظتِش، زين كان أصغر منِّي بتلات سنين، بس هوَّ لمَّا خلَّص الجامعة عمِّي سفَّره برة، كان بيدرس وبيشتغل في نفسِ الوقت، وفضلت أنا والبنات مع بعض، لحدِّ ماطنط أميرة ماتت، بعد موتها بفترة جمال خطبني، أصلِ جمال بيكون ابنِ أخو طنط أميرة، وكان بيحبِّني من وأنا في إعدادي وكلِّم عمِّي عنِّي، بس عمِّي رفض وقالُّه لازم تخلَّص تعليمها، دي يتيمة يابني وأنا ماقدرش أقِّل معها زيها زي أخواتها..
أفلتت ضحكةً مع عبرةٍ غائرةٍ انسابت من عينيها لترفعَ نظرها إلى غادة بعيونها المترقرقة:
عمِّي كان عايز يجوِّزني زين اللي أصغر مني بتلات سنين..بس طبعًا أنا رفضت، مش علشان هو وحش أبدًا والله، زين كان حلو وراجل زيُّه زي جمال، بس كان أصغر مني وأنا كنت رافضة المبدأ، جمال فضل منتظرني لحد أول سنة ليَّا في الجامعة، أصر إنِّنا نتجوِّز وأكمِّل عنده، وافقت واتجوِّزت..أجلِّت الخلفة اربع سنين علشان أكمِّل دراستي،أنا معايا تربية نوعية رياض أطفال، بس مااشتغلتِش بيها، خلِّفت يوسف واهتمِّيت ببيتي، ورانيا كانت خلَّصت حقوق وبعدِت عنِّنا، سافرت تقعُد مع أمَّها في الإمارات لمدِّة سنة، رجعت بعد ماخلِّفت يوسف، وزين بعت أخد زهرة ونورة بعدِ موت عمِّي.. واتفرَّقنا ومن وقتها ماعرفشِ عنُّهم حاجة، كنت طلبت من جمال يسأل عليهُم قالِّي آخر مرَّة زين كلِّمُه قالُّه في النمسا مع أخواته، كان اشتغل أستاذ في الجامعة، وبعدِ كدا جمال مات ودخلت في حياتي اللي حكتلِك عنها.
ربتت غادة على ظهرها، ممكن أخلِّي مصطفى يوصلُّه لو عايزة؟..
هزَّت رأسها بالنفي قائلة:
لا، هوَّ مسافر حتى لو رجع كتَّر خيرُه على اللي عملُه معايا وقتِ الفرح، ماعرفشِ ظروفه إيه، مش عايزة أشغلُه بمشاكلي كفاية عليه أخواتُه البنات.
خرجت من شرودها على رنينِ هاتفها:
أيوة يامدام عرفتلِك كلِّ مايخص مدام رانيا الشافعي، قصَّ الرجلُ الذي عينتهُ بجمعِ المعلوماتِ عنهما كلَّ ما عرفه، أغلقت معهُ قائلة:
إبعتلي العناوين دي وانتظر منِّي الجديد ..قالتها وتوقَّفت متَّجهةً إلى ثيابها بعدما هاتفت السائقَ الخاصَّ بها لنزولها لعملها..
عندَ يزن:
توقَّفت سيارةُ مرسيدس مايبخ أمامَ الورشة التب يعملُ بها، ثمَّ ترجلَّت تخلعُ نظارتها وتحرَّكت للداخلِ تسألُ عنه:
صباح الخير..رفعَ مالكُ الورشة رأسهِ بعدما استمعَ إلى صوتها، توقَّفَ يهزُّ رأسهِ قائلًا:
أومري ياهانم، طافت بعينيها على المكانِ متسائلة:
الباشمهندس يزن السوهاجي موجود؟..بترت حديثها عندما استمعت إلى صوتِ الدرَّاجةِ البخارية، التفتت خلفها على الصوت، ترجَّلَ يضعها بمكانها واقتربَ يشيِّعها بنظرةٍ سريعة، ثمَّ اقتربَ من الرجل:
فيه حاجة ياعمُّو؟..أشارَ إليها قائلًا:
الستِ هانم كانت بتسأل عنَّك..
عقدت ذراعيها فوقَ صدرها وتساءلت بنبرةٍ عتابية:
ماجِتش ليه؟..كلِّمناك من أسبوع وكلِّ يوم ننتظرَك..
استندَ على السيارةِ يطالُعها:
ليه..عايزين منِّي إيه؟..أنا مش من النوع اللي باخد تمن جدعنتي مع حد، أي حد مكاني كان هايعمل مع والدِك كدا..
اقتربت منهُ وهتفت قائلةً بنبرةٍ هادئة:
ليه بتسمِّيها تمن، والدي عندُه معرض سيارات كبير ومحتاج حد أمين يمسك المعرض دا، وبما إنَّك خبرة فاهيكون كويس..
معرض!!وأنا إيه اللي يفهِّمني في شغلِ المعارض؟..
فتحت بابَ سيارتها تشيرُ إليه:
هانتكلِّم كدا، ممكن نقعد عند بابا في الشركة ونتكلِّم..
صمتَ لدقائقَ وهي تطالعهُ منتظرةً ردِّه، دلفَ للداخلِ لمدَّةِ دقائقَ وخرجَ يجاورها السيارة، وصلَ بعدَ قليلٍ إلى المكان المنشود، ترجَّلَ ينظرُ إلى مبنى الشركة العملاق الذي يُدوَّنُ عليها:
جروب مالك العمري للصناعات الإلكترونية، تحرَّكَ بجوارِها قائلًا:
إلكترونيات مش سيارات، التفتت إليهِ مبتسمةً ثمَّ تحرَّكت بخطواتها الواثقة بينَ موظفيها:
بابا مهندس إلكترونيات، وخالو مهندس سيارات، نمشي مشروع مشترك..
رفعَ حاجبهِ يهزُّ رأسهِ متمتمًا:
عيلة هندسيَّة يعني..ابتسمت تشيرُ إلى نفسها:
أنا إدارة أعمال، بناءً على طلبِ بابا طبعًا..هزَّ رأسهِ دونَ حديث، دلفت للداخل:
صباح الخير ياباشمهندس..
توقَّفَ لاستقباله:
أهلًا يابني ..اقتربَ وحيَّاهُ قائلًا:
أهلًا بحضرتَك...أشارَ لهُ بالجلوسِ ثمَّ تحدَّث:
تشرَب إيه؟..
مش جاي أشرب، عندي شُغل، ماحبتش أكسِف الأستاذة..
جلست راحيل بمقابلتهِ وأشارت على نفسها:
اسمي رحيل ياباشمهندس، مش أستاذة ..استدارَ لوالدها:
سامع حضرتَك..نهضَ مالك من مكانهِ وهو يستندُ على عكَّازهِ بسببِ وعكتهِ الصحيَّة..
جلسَ على الأريكةِ وهتفَ بصوتٍ مجهد:
عايزَك معايا، أو بالمعنى الأصح، محتاج حد أمين يساعد رحيل.
قطبَ جبينهِ متسائلًا:
مش فاهم حضرتَك..تراجعَ بجسده:
عندي معرض سيارات تكون مسؤول عنُّه، ابنِ أختي كان هوَّ المسؤول، لكنه هايسافر بعدِ أسبوع، ورحيل مالهاش في السيارات، قولت إيه؟..
ظلَّ يزن يطالعهُ لبعضِ الوقت، ثمَّ توقَّف:
أنا مابشتغلِش عندِ حد، الورشة ليَّا جزء فيها، علشان كدا طلبَك مرفوض يافندم ..توقَّفت رحيل بمقابلتهِ وأردفت:
طيِّب إيه رأيك تدخُل شريك؟..
ارتفعَ جانبَ وجههِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرةٍ ثمَّ انحنى يغرزُ عينيهِ بها:
حضرتِك بتستهزئي بيَّا؟..
هزَّت رأسها سريعًا بالنفي قائلة:
أبدًا والله بتكلِّم جد، أشارَ بسبباتهِ بأن تصمتَ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى مالك والدها:
أنا ساعدتَك شهامة مش محتاج مقابل، بلاش تعمل تمن لشهامتي يامالك باشا..
توقَّفَ مالك واقتربَ منهُ يشيرُ إلى رحيل:
رحيل بنتي الوحيدة، بحلفلِك بيها أنا مش بعرِض عليك تمن مساعدتك، أنا بعرض عليك الاحتياج، محتاج راجل شهم وأمين مع بنتي،أنا ماليش غير أخت واحدة وكبيرة وعندها ولدين واحد منهم دكتور تشريح ودا مالوش في شغلنا غير إنِّ همَّا عندهم شُغلهم، والتاني مسافر بعد كام يوم وكان المسؤول عن المعرض، أنا من قبلِ ماأقابلك كنت بدوَّر، فيه كتير بس فين الأمين؟..
وإيه اللي يخليك تثق فيَّا مش يمكن أغدر بيك؟،،،
لا مش هاتغدر..تهكَّمَ يزن قائلًا:
ماتُكنشِ واثق أوي كدا يامالك بيه.
تراجعَ مالك على الأريكة:
الشاب اللي في سنَّك يقوم من أحسن نومه في عزِّ الشتا والمطر وينزل يصلِّي الفجر، دا مايتخافشِ منُّه، الشاب اللي يتنازِل عن حياته علشان أخواته دا ميتخافش منُّه، الشاب اللي يرفُض ياخد ملايين مقابل يسلِّمني لأعدائي دا مايتخافشِ منُّه يابني..أهمِّ حاجة تكون خايف من ربنا ودا اللي لقيتُه فيك واتمنِّيت يكون عندي ولد زيَّك.
صمتَ يزن وهناكَ صراعٌ بينَ عقلهِ وقلبهِ بعدما علمَ بصلةِ القرابة بينهُ وبينَ خطيبَ حبيبته:
هفكَّر وأرُد عليك ..قالها وتحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر..
وصلَ بعدَ فترةٍِ إلى حارتهِ الشعبية التي يقطنُ بها، كان يسيرُ بالشارعِ بذهنٍ شاردٍ بعدما ترجَّلَ من سيارةِ الأجرة، مرَّت سيارةُ طارق خطيبَ مها وهي جالسةً جواره، وتوقَّفت على بُعدِ بعضِ الأمتارِ أمامَ منزلها ..تحرَّكَ من جوارِهم ولم يكترث لأمرهم خاصَّةً حينما استمعَ إلى حديثه:
حبيبتي إنتِ تُؤمري وكلِّ اللي تُطلبيه يكون تحتِ رجلِك، هوَّ إنتِ مخطوبة لحد هيِّن، دا أنا طارق الشافعي
ردَّت والدتها بفخر:
تسلم ياخطيب بنتي، أومال إيه..هيَّ دي العرسان اللي تشرح الروح، مش واحد مزيِّت ومشحِّم وياريت ملكُه كمان دا صبي..
أطلقَ طارق ضحكة:
مزيَّت إيه؟.. بس بلاش الكلام اللي يقلب المعدة دا ياطنط..دلفَ للداخلِ يصفعُ البابَ خلفهِ بقوَّةٍ وبداخلهِ بركانًا قابلًا للاشتعالِ بوجهها، ورغمَ ذلكَ تحرَّكَ أمامهم بثقةٍ وشموخٍ لا يعلمُ كيفَ اكتسبها، استندَ على البابِ وهو يطبقُ على جفنيهِ مكوِّرًا قبضته، فلقد أظلمت قلبهِ وأحرقتهُ بنيرانِ الغدر، دلفَ للداخلِ ينظرُ بأرجاءِ المنزل، يبدو أن أختهِ لم تعد إلى الآن..
أمسكَ هاتفهِ وتحدَّث:
كريم إنتَ فين ؟..
أجابهُ على الجانبِ الآخر:
عندي شوية شغل، فيه حاجة؟..دلفَ إلى غرفتهِ ينزعُ ثيابهِ وأردف:
مستنيك بالليل على القهوة عايز آخد رأيك في موضوع..
تمام ياهندسة...قالها كريم وأغلقَ الهاتف..
فتح خزانة والدته وأخرج الصندوق الذي امنه والده عليه
-يوم مالدنيا تقفل في وشك هتلاقي حقيقتك في الصندوق دا، شهادة ميلادك بوالدك الأصلية وعيلته، عايزك تسامحنا يابني وتأكد عملنا كدا علشان نحافظ عليك
وضع كفيه الذي ارتجف وهو يحركه عليه يهمس لنفسه
-خمس سنين وأنا كل مااطلعك برة برجع ادخلك تاني، معرفش ليه عندي احساس أن الصندوق دا هيكون جحيمي، تناول المفتاح وقام بفتحه اخيرا، دلفت ايمان تنادي على أخيها
-معاذ انت جيت، أجابها من خلفها .
-أنا وراكي ..ضيقت عيناها تدلف للداخل ..
اومال مين اللي جوا ..دفعت باب غرفة أخيها وجدته جالسًا وأمامه صندوق يقوم بغلقه
مرَّ أسبوع والوضعُ هادئًا بينَ الجميع، قبلَ يزن عرضَ مالك العمري، وتمَّ تحديدُ موعدِ حفلِ الزفافِ الخاص بآدم وإيلين ..قبلَ حفلِ الزفافِ بأسبوعين دلفَ زين إلى غرفتها التي جلست بها بعدَ مجيئها إلى منزلِ خالها…
جلسَ بمقابلتها مبتسمًا:
محتاجة أيِّ حاجة ياحبيبتي، معلِش انشغلت بالشغلِ علشان الكام يوم الإجازة..
فين آدم ياخالو، من وقت ماجابني هنا ماعرفشِ عنُّه حاجة؟..
مسَّدَ على شعرها وأفلتَ ضحكة:
أنا بعَّدتُه عن هنا علشان تشتاقوا لبعض ..نظرت للأسفلِ بخجلٍ تفركُ كفَّيها، نهضَ متوقِّفًا:
أي حاجة محتاجاها عرَّفي مريم لو مكسوفة من خالِك ..عايز فستان حلو للحنَّة، إنزلي مع أختِك وعمِّتك عايزين ياخدوكي مشوار..
أومأت لهُ دونَ حديث..
عندَ أرسلان قبلَ أسبوع:
كانت تحبسُ نفسها بالغرفةِ طيلةَ وجودِه، ذاتَ مساءٍ طرقَ عليها الباب:
عايز أتكلِّم معاكي لو سمحتي..
خرجت بعدما ارتدت حجابها، جلست بمقابلتِه، بسطَ كفِّهِ بكوبِ العصيرِ وأردف:
إشربي دا ..هزَّت رأسها تنظرُ إليهِ بخوف ..أطلقَ ضحكةً صاخبةً على حركتها ثمَّ توقَّفَ واتَّجهَ يجلسُ بجوارِها على الأريكة، تراجعت للخلفِ بذعر، ضيَّقَ عينيهِ مردفًا:
إيه يابنتي ليه بتحسِّسيني هعمل فيكي حاجة؟..
إتجوِّزتني ليه؟..تساءلت بها بتقطُّع..
جذبَ سجائرهِ ونهضَ يتوقَّفُ أمامَ الشرفةِ وأردفَ بصوتهِ الرخيم:
عندِك فستان أدخلي إلبسيه، وفيه باروكة كمان، بلاش الحجاب النهاردة..هبَّت معترضة:
لا، طبعًا مستحيل أخلع حجابي، استدارَ إليها مقتربًا وهو ينفثُ سيجارته:
اسمعيني كويس علشان أدخل المكان دا لازم تكوني معايا، وكمان ماينفعشِ تدخلي بالحجاب..
خلاص شوف أي واحدة.
جزَّ على أسنانهِ واقتربَ منها يطبقُ على ذراعها بعنف:
الكلمة اللي أقولها تقولي حاضر من غير ولا كلمة، قولت تُدخلي تغيَّري، الفستان محتشم، وبعدين شعرِك مش هايظهر، الباروكة زيَّها زي الحجاب..
فتحت فمها للحديث، أشارَ إليها بالصمت:
مش عايز ولا حرف سمعتيني، أدخُلي غيَّري ولَّا أغيَّرلِك أنا…
هزَّت رأسها تشيرُ لكفَّيها الذي يضغطُ عليهما حتى آلمها...تراجعَ للخلفِ يشيرُ إليها بالدخول:
بعدِ ساعة كانَ يدلفُ إلى أكبرِ الفنادقِ في العاصمةِ الإيطالية، بحفلٍ يجمعُ عددًا من المشاهير، ظلَّ يتنقَّلُ بجوارها وهو يقبضُ على كفِّها، يتجوَّلُ بالمكان..
ظلَّ لمدَّةِ ساعةٍ بالحفلِ ثمَّ خرجَ دونَ أيِّ شيئ..استغربت وجودهِم وطريقةِ حديثهِ مع البعض، رغمَ أنَّها لا تتقنُ اللكنةَ الإيطالية، إلَّا أنَّها شكَّت بأفعالهِ وأحاديثه..
مرَّ أسبوع على ذاكَ الحال، بخروجهِم كلَّ مساءٍ وكأنَّهم عروسانِ يقضيانِ شهرَ عسلهما.
إجهزي هاننقل من هنا فورًا، قالها وهو يجمعُ أشيائهِ متَّجهًا إلى فينيسيا.
وصلَ إلى فندقٍ بالقربِ من الفندقِ الذي يقطنُ بهِ إلياس، تجهَّزَ لأداءِ مهمتهِ التي جاءَ من أجلها..
جلست تنتظرُ حديثِه، كان يقومُ ببعضِ الأعمالِ على جهازه، رفعَ عينيهِ إليها ثمَّ أردف:
غرام الصندوق دا هايفضَل معاكي لبُكرة الصبح لو مارجعتِش إفتحيه…
شعرت برهبةٍ انتابت جسدها، ولم تشعر بنفسها وهي تتساءل:
ليه، رايح فين، وأنا مش هاروح معاك؟!..هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
اسمعيني للآخر .. الصندوق دا هتفتحيه لو مارجعتِش للصُبح، هاتلاقي فيه رقم هتكلِّميه وهوَّ هايتصرَّف ويقولِّك تعملي إيه..
نهضت من مكانها وجلست بجوارِه:
إنتَ رايح فين وهتسبني لوحدي أنا ماعرفشِ أتصرَّف هنا..
احتضنَ كفَّيها اللذانِ لأوَّلِ مرَّة يلمسهما ثمَّ هتف:
ماتخافيش أنا واخد كلِّ احتياطاتي، اللي كنت جايبِك علشانُه خلَّصُته، لسة أهم حاجة إدعيلي أخلَّصها من غير مشاكل.
إنتَ ظابط صح؟..ربتَ على كفِّها:
صلِّي وإدعي وزي ما قولتلِك لحدِّ الصبح لازم تتصلي بالرقمِ اللي هنا..
أخرجَ قداحته، ثمَّ فتحها يخرجُ مفتاحًا صغيرًا، ثمَّ وضعهُ مرَّةً أخرى بالقدَّاحة:
شوفتي خرَّجتهُ إزاي ..إكتبي اسمك هنا وهايفتح معاكي، وبعدِ كدا استخدمي المفتاح، إيَّاكي تخرجي برَّة الأوضة حتى لو الفندق ولَّع سمعتيني..
قالها ونهضَ يضعُ سلاحهِ بخصرِه، ثمَّ تناولَ الإسكارف الخاص بهِ واستدارَ متَّجهًا إلى الباب، صاحت باسمه:
أرسلان..توقَّفَ فجأةً مع رجفةٍ تسلَّلت لدواخلهِ وهو يستمعُ إلى همسها باسمهِ لأوَّلِ مرَّة ..تلألأت عيناها بخطٍّ من الدموعِ وهمست له:
لا إله إلا الله..أجابها بعدما التفتَ إليها:
محمد رسولُ الله..
مش هعمل حاجة لأنِّي متأكدة إنَّك هاترجع وكمان هاتعمل اللي رايحلُه، خد بالَك من نفسك..استدارَ إلى البابِ وفتحهُ ثمَّ التفتَ يشيِّعَها بنظرةٍ سريعةٍ وتحرَّكَ للخارج:
هوت على المقعدِ تبكي بشهقات، والخوفُ يسيطرُ على دواخلها، كم كانت تشعرُ بالأمانِ بجواره، مَن هذا الشخصَ الذي راعها بحنانهِ وأمانهِ رغمَ عدمِ معرفتها به ..نهضت متَّجهةً للواحدِ القهارِ وقامت بأداءِ صلاةِ قضاءِ الحاجةِ وهي تدعي لهُ بالسجودِ مع شهقاتها المرتفعة ولا تعلمُ لماذا كلَّ هذا الخوف..
عندَ أرسلان دلفَ للمكانِ المنشود، لمدَّةِ دقائقَ وخرج، ولكنَّ هناك حدثَ مالا يتوقعهُ من أجهزةِ إنذارٍ بعدما حصلَ على ما يريدهُ من تلكَ الغرفة، تحرَّكَ سريعًا إلى أن وصلَ إلى شاطئِ البحرِ وهناكَ من يطاردونه..
عندَ إلياس كانَ عائدًا من رحلةٍ يوميةٍ للتجوِّلِ بالمناطقِ المشهورة، ترجَّلَ من السيارةِ متَّجهًا للداخلِ ولكنَّها تشبثت بكفِّه:
تعالَ نتمشى على البحر، الجو حلو أوي ..أومأَ دونَ حديث، عانقت ذراعهِ وتحرَّكت بجواره:
هاتفضل قالب وشَّك كدا، وبعدين بقى..
نظرَ إليها من فوقِ كتفهِ قائلًا:
إيه قالب وشَّك دي، بتجيبي الألفاظ دي منين ..ضحكت بنعومةٍ ثمَّ غمزت له:
من ظابط دمُّه مسكر، كان كلِّ ماأروح عندُه يسمَّعني كلام ماكنتش بعرف معناه إلَّا لمَّا أبحث عنُّه، عملت إيه أنا كمان..عملتلُه قاموس لغوي..
ابتسمَ بخفَّةٍ هامسًا:
مجنونة، ومش هتعقل..
أسرعت متوقِّفةً أمامهِ تشيرُ لنفسها:
أنا مجنونة، ماشاء الله على العاقل، اللي كان مجنِّني معاه، جذبها بقوَّةٍ من خصرها واحتواها بين ذراعيه:
مين اللي جنِّن مين، دا أنا كنت عايز..بترَ حديثهِ عندما خُيِّلَ بأحدهم يهرولُ اتَّجاهَ الشاطئ، سحبَ كفَّها وتحرَّكَ سريعًا إلى جناحهم وفتحهُ من جهةِ الشاطئ يجذبها للداخل.
أدخلي بسرعة، قالها وعينيهِ تتجوَّلُ بالمكان، نظرت للخارجِ على نظراته:
إلياس فيه إيه؟..
أشارَ إليها بالدخول:
أدخلي جوَّا وأنا راجع، تشبَّثت بكفِّهِ بعدما استمعت إلى طلقاتٍ ناريةٍ بالخارج:
إيه الصوت دا، ضرب نار..إحنا فين
ظلَّت نظراتهِ تتابعُ من توجَّهَ إلى البحرِ في مكانٍ مظلم، استدارَ إليها بعدما جذبت ذراعه:
أدخل جوَّا، دي شكلها شرطة بيجروا ورا حد ..
سحبَ كفَّها للداخلِ واحتضنَ وجهها بعدما وضعت كفَّيها على أذنها من الأصواتِ التي بالخارج:
ميرال إهدي ممكن يكون حالة شغب في الفنادق اللي جنبنا، مستحيل يكون فيه حاجة هنا، الفندق دا ملَكي مستحيل حد يقتحمُه..
دفنت نفسها بأحضانهِ حتى تبعدهُ عن الخروجِ قائلة:
أنا خايفة ماتسبنيش، نظرَ إليها وفهمَ ماتريده، سحبها للغرفة:
بطَّلي شغل أطفال بقى،إنتِ كبرتي..
قطبت جبينها متصنِّعةً عدمِ الفهم..
مسحَ على وجههِ واتَّجهَ إلى الشرفةِ ينظرُ للخارج، وجدهُ يتحرَّكُ باتِّجاهِ أحدِ الأجنحة..هرولَ للخارجِ بعدما أغلقَ البابَ على ميرال، وهتف:
ميرال مشوار سريع وراجع، إياكي أسمع صوتِك..قالها وتحرَّكَ للخارجِ بحذر، يريدُ أن يعلمَ ماالذي يحدث بالخارج، فتحَ بابَ غرفتهِ إلَّا أنَّهُ وجدَ أحدُهما يدفعهُ بقوَّةٍ للداخلِ
يضعُ السلاحَ برأسه:
لا تصدر صوتًا كي لا أقتلك، كوَّرَ إلياس قبضتهِ محاولًا أن يسيطرَ على غضبهِ وعليهِ التفكيرَ للتَّخلصِ من ذاكَ الشخص، التفتَ أرسلان ينظرُ من الشرفةِ على الصوتِ الخارجي، ركلهُ إلياس بساقيهِ ليسقطَ على الأرضِ أمامهُ وبحركةٍ سريعةٍ أخرجَ سلاحهِ يضعهُ برأسهِ ويحدِّثهُ باللكنةِ الإيطالية:
من أنتَ وماذا فعلت، قالها وهو يرفعُ الماسك من فوقِ وجههِ من الخلفِ والآن سأسلِّمك أيها الزنديقُ للسلطاتِ الإيطالية، قالها ثمَّ أدارَ وجههِ إليه..
طالعَ كلًّا منهما الآخرَ بصدمةٍ وبصوتٍ واحد:
إنتَ..إنتَ، نظرَ إلياس للخارجِ سريعًا، ثمَّ سحبهُ للداخلِ وأغلقَ البابَ خلفه، طالعهُ بصدمةٍ يمسحُ على خصلاته:
بتعمِل إيه هنا، وإزاي توقع بالطريقة دي ..شوفلي حاجة تكتم الجرح دا الأوَّل..نظرَ لذراعهِ المصاب، بطعنة ثمَّ استمعَ إلى صوتِ ميرال بالداخل:
إلياس افتح الباب، قالتها بصراخ..
نظرَ إلى أرسلان ثمَّ إلى بابِ غرفته، وتوجَّهَ إليها قائلًا:
ماتخافش دي مراتي..قالها وهو يفتحُ البابَ إليها، دفعتهُ تصرخُ بوجهه:
إنتَ مجنون تقفل عليَّا الباب، تحرَّكَ يبحثُ عن علبةِ الإسعافاتِ الأوليةِ وتركها تصرخُ كعادتها..
حملَ الصندوقَ واتَّجهَ إليهِ وجدَ العرقَ يغزو جبينه، شهقت ميرال تضعُ كفَّيها على فمها حينما وجدتهُ جالسًا على الأرضيةِ يمسكُ ذراعه..
جلسَ بجوارهِ يشيرُ إلى ميرال:
هاتي قميص من قمصاني بسرعة، لازم نتخلَّص من القميص دا، قالها بعدما نزعَ قميصهِ وقامَ بضمادِ جراحه..
مضروب بسلاح أبيض، فكَّرتُه رصاصة
بس الجرح عميق ومحتاج خياطة، هاتتحمِّل الوجع طبعًا نسيوا يحطُّوا بنج هنا ...قالها إلياس مازحًا..
أغمضَ أرسلان عينيه:
الجرح عميق أوي خد بالك مش حاسس بدراعي..
جلست ميرال بجوارهِ تنظرُ إليهِ بذهولٍ وهو يقومُ بتضميدِ جرحهِ بالخياطة، والآخر محاولًا السيطرة على آلامهِ بقوَّةٍ ظهرت من خلالِ تجمُّعِ العبراتِ تحتَ جفنيه..
أنهى مايفعلهُ إلياس ثمَّ جمعَ الأشياءَ سريعًا، يشيرُ إليها:
اتصرفي في القميص دا، هاتلاقيهم بعد شوية بيلفُّوا على الأوض..
مش إنتَ قولت الفندق دا تبع الطبقة الملكية، اتَّجهَ بنظرهِ إلى أرسلان ثمَّ أجابها:
إعملي اللي قولت عليه يالَّه..أشارت على أرسلان وابتسمت:
ماعرفشِ ليه حاسة أنُّكم شبه بعض،
غريبة قالتها وهي تتوقَّفُ تحملُ القميصَ الذي عليهِ آثارُ الدماء، وقامت بقصِّهِ إلى قطعٍ صغيرةٍ وألقتهُ بالحمَّامِ تصفِّقُ بيديها:
الاتنين اللي برَّة دول ظباط ماعرفوش يفكَّروا في اللي أنا فكَّرت فيه..
بتكلِّمي نفسِك اتجننتي!..
قالها وهو يفتحُ الثلاجة يجذبُ العصائر، ثمَّ رفعَ عينيهِ إليها:
عملتي إيه بالقميص ..أشارَت إلى الحمَّامِ
نزل البلاعة ..خرجَ يهزُّ رأسهِ وهو يضحكُ عليها..
خرجَ وجدهُ غفا على المقعد، حملَ سلاحهِ يخبئُه، ثمَّ قامَ بدثره، توقَّفت بجواره:
ظابط صح، ومصري، أصلك مش هاتساعده لله في لله
ماتعرفيش تسكتي شوية، هيحصل حاجة ..
أشارت إليهِ قائلة:
شبهَك على فكرة ..استدارَ إليها متخصِّرًا :
شبهي من أنهي ناحية يعني، انحنت تنظرُ إلى أرسلان الغافي، ثمَّ رفعت رأسها إليه:
واللهِ شبهَك يمكن شبهُ في الرخامة، المهم فيكوا حاجة أنتوا الاتنين..أه افتكرت ظباط باردين.،
جزَّ على أسنانهِ يشيرُ إليها بالدخول:
أدخلي جوَّا بدل مالطشِك قلم على وشِّك أدير راسك الناحية التانية..
برَّقت عينيها تطالعهُ بذهولٍ ثمَّ فتحت فاهها للحديث، إلَّا أنَّهُ وضعَ أناملهِ على فمها:
كلمة كمان وهطلع أقولُّهم إنِّك الإرهابية اللي بيدوَروا عليها..
شهقةٌ خرجت منها وتوسعت عيناها تشيرُ إلى أرسلان:
هوَّ إرهابي، يالهوي، إنتَ مدخَّل عندنا إرهابي، وبتقول ظابط، إنتَ مع الإرهابيين؟!..احتضنَ ثغرها ليجعلها تصمت، لحظاتٍ وهو يقبِّلُها ثمَّ انحنى يحملُها ودلفَ بها إلى الداخلِ ووضعها على الفراشِ يهمسُ لها:
ميرو مش عايز صوت، لازم أتصرَّف علشان أخرَّجه من هنا من غير ما حد يمسكُه..ماشي ..
هوَّ إرهابي ياإلياس..تنهَّدَ بغضبٍ وتراجعَ للخارجِ يستغفر ربه
ظلَّت على الفراشِ لبعضٍ من الوقت، وضعت أناملها على شفتيها تتحسَّسها، وابتسامةٍ على وجهها ثمَّ تسطَّحت على ظهرها وعيناها تنبثقُ منها السعادةَ على ماتشعرُ تهمسُ لنفسها:
ميرو بتحبَّك أوي ومتأكِّدة كمان إنَّك بتحبَّها..
بالخارجِ فتحَ أرسلان عينيهِ بتشوُّش، واعتدلَ متسائلًا:
-إيه اللي حصل، ؟!
أدلتلك مسكِّن ينوَّمك دقايق علشان الجرح، لازم دكتور يشوفه..
اعتدلَ يبحثُ عن سلاحه:
فين مسدسي..رفعهُ أمامه:
دخلت بيه إزاي، توقَّفَ متألِّمًا:
لازم أرجع حالًا مراتي لوحدها في الفندق، لازم أرجع قبلِ الصبح، خلِّي المسدس معاك علشان أكيد هاتفتِش برَّة..
طيِّب واللي معاك..طالعهُ لفترةٍ من الصمتِ ثمَّ انحنى على حذائه:
أمانة عندك لحدِّ ماأرجعلَك بكرة، أكيد فاهم كلامي..أومأَ له، جمعَ أشيائه يضعها بمكانٍ آمنٍ ثمَّ نهض…
استنى هاخرج معاك، علشان ماحدِّش يشُك ..
هستناك برَّة ..قالها وهو يتحرَّكُ لخارجِ الجناحِ الخلفي، وصلَ إلى بابِ الغرفة:
ميرال عندي مشوار هارجعلِك بعد شوية، أوعي تعملي أي غلط…
توقَّفت واقتربت منه:
الشخص اللي برَّة مشي ..قبَّلَ جبينها:
يالَّة سلام قالها وهو يغلقُ البابَ بالمفتاح، طرقت على الباب:
إلياس افتح الباب، تحدَّثَ من خلفِ البابِ لو عايزاني أموت صرَّخي كمان ياميرو ..قالها وتحرَّكَ للخارج..
غادرَ الإخوان مع بعضهما البعض دونَ معرفتِهم بالقرابةِ التي تجمعهُم ..توقَّفَ عدَّةَ مرَّاتٍ لإجابةِ بعضِ الأسئلةِ من أينَ أتيتَ وأينَ ذاهبٌ وتفتيشٌ دقيق، ضغطَ أحدُهم على ذراعِ أرسلان وهو يقومُ بتفتيشه، ضغطَ على شفتيهِ من الألم.. لاحظَ إلياس توجُّعه، فصاحَ غاضبًا:
كيف تعاملوننا بأنَّنا مجرمي حرب، هل ثقتنا بالمكانِ تفعل بنا ذالك، صاحَ وصاحَ إلى أن أشارَ أمنُ الفندق بخروجهم..وصلَ إلى الخارجِ واستقلَّ سيارةَ أجرةٍ وهو يضغطُ على ذراعهِ من الألم، همسَ إلياس إليه:
هنخرج على بلدة بعيدة شوية، علشان لازم تتفحِص، دراعك ممكن يتئذي.
أغمضَ عينيهِ بعدما شعرَ بنخرِ عظمِ جسدهِ بالكامل..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ عاد إلى الفندقِ الذي يقطنُ به، فتحَ البابَ وتوقَّفَ إلياس بالخارج:
لازم أرجع علشان مراتي زمانها قلقانة، وإنتَ واظب على العلاج، وبكرة هاجي أطَّمن عليك..استمعَ اليها من الخلف:
أرسلان ..استدارَ بعد مغادرةِ إلياس..
هرولت إليهِ وتوقَّفت أمامهِ تطالعهُ بذعرٍ من حالتهِ وهو يحملُ ذراعه:
إيه اللي حصل وصوت مين دا، دا صوت مصري، حاسة سمعتُه قبلِ كدا..
رفعَ ذراعهِ إليها اقتربت منهُ ليضمُّها هامسًا:
تعبان أوي عايز أنام..حاوطت خصرهِ وتحرَّكت معهُ إلى الفراش، دثَّرتهُ بغطاءٍ خفيفٍ شعرت بحرارته:
جسمَك سخن هاشوفلَك خافض معايا في الشنطة، جذبَ كفَّها يضعها تحتَ رأسه:
خلِّيكي جنبي ..قالها وأغمضَ عينيهِ ليذهبَ بنومه، نظرت إليهِ مبتسمةً تهمسُ لنفسها:
ياترى القدر مخبِّي ليَّ إيه معاك، استندت على ذراعه، ثمَّ رفعت كفَّها تضعها على خصلاته:
شكلَك وسيم أوي، معقول يكون ليَّا نصيب معاك، ولَّا هايكون مجرَّد اتفاق زي ماقولت..ارتفعت حرارته، فتوقَّفت تجلبُ الثلج تضعهُ على رأسه
وكفًَّها فوقَ رأسهِ حتى غفت بجوارهِ لتضعَ رأسها بجوارِ رأسه.
عندَ إلياس:
وصلَ إلى جناحهِ فتحَ بابَ الغرفة، دفعتهُ تصرخُ بهِ وتلكمهُ بصدرهِ مع بكائها مرَّةً واحتضانها لهُ مرَّة وقبلاتها بدموعها مرَّةً أخرى..
ضمَّها يهدئها بعدما شعرَ بما تشعرُ به:
خلاص أنا جيت أهو .ارتجفَ جسدها بشهقاتها من كثرةِ بكائها، ضمَّها يمسِّدُ على رأسها:
إهدي بقى إيه متجوِّز طفلة ..دفعتهُ تمسحُ دموعها كالأطفال، واتَّجهت إلى الأشياءِ الموضوعةِ بأركانِ الغرفةِ وقامت بتحطيمها وتنثرها على الأرضية وهي تسبُّه، ثمَّ اتَّجهت إليهِ كالمجنونة:
عايزة أرجع مصر دلوقتي مستحيل أقعد معاك دقيقة تاني، واللهِ لآخد حقِّ منَّك، رجَّعني مصر دلوقتي قالتها وهي تضربُ أقدامها بالأرض.
اقتربَ منها بعدما نجحت في إخراجِ وحوشهِ الكامنةِ بموجةٍ من الغضبِ على أفعالها:
لو سمعت صوتِك ..رفعت رأسها تهزُّها بعنفٍ واقتربت منهُ تدفعهُ بقوَّةٍ:
هتعمل إيه، قولِّي هتعمل إيه هتحبسني، يالَّة أنا قدَّامك احبسني أهوو ..سحبها بقوَّةٍ لتصطدمَ بصدرهِ ثمَّ انحنى يهمسُ لها :
لا..عندي طريقة تانية أتمنَّى ماتخلنيش أوصلها، قالها وهو يمرِّرُ أناملهِ على عنقها بحركةٍ أجفلتها فحاولت التحرُّر من قبضته، ضمَّها بقوَّةٍ يضغطُ على خصرها:
إيه ياروحي، مش مستحملة لمستي ليه، ولَّايمكن أسبوع تعَّبك نسَّاكي حنان جوزِك، شهقت بعدما علمت بما يرمي إليه..حاولت التملُّصَ من قبضته:
قليل الأدب واللي يشوف الراجل يقول محترم..
قهقهَ عليها وهو يحاصرُها:
طيِّب حد يشوف الجمال دا ويكون مؤدَّب ياروحي..
إلياس إبعد كدا ..دنى يدفنُ رأسهِ بعنقها يهمسُ بأنفاسهِ الحارَّة:
مش عيب تزقِّي جوزِك يامحترمة، يالَّة إجهزي لجوزِك حبيبك ياروحي، كفاية الأسبوع اللي فات كتير أوي..
جحظت عيناها تطالعهُ مصدومةً من حديثهِ وبداخلها نيرانًا تغلي بأوردتها من بروده ..
دفعتهُ وابتعدت عنه:
دا من إيه إن شاءالله، شايفني جارية، لا فوق يابنِ السيوفي، أنا مراتك مش بنت من الشارع لمزاج جنابِ البيه،
ويالَّه اطلع برَّة عايزة أنام بهدوء، قالتها وهي تدفعهُ للخارجِ وتغلقُ الباب:
فعلًا ظابط أمنِ دولة مستفز ومستبِّد.
استمعَ إلى حديثها وخرجَ مبتسمًا على جنانها، تمدَّدَ على الأريكةِ حتى غفا بمكانه، استيقظَ على صوتها:
قوم عايزة أنزل البحر، نظرَ بساعته:
تنزلي البحر الساعة سبعة الصُبح!..
أه مش عجبك ولَّا إيه..
متخلنيش اتعصب عليكي ياميرال، لو سمعت صوتك هزعلك
ضربت ساقيها وتحركت للداخل تدور حول نفسها
-نايم البارد وانا هنا باكل في نفسي طيب استنى عليا ياإلياس..قامت بنزع ثيابها واردت شورت قصير فوقه كنزة حمالات، لم تغطي سوى نصفها العلوي
وقامت برفع خصلاتها مع بعض الخصلات العشوائية، تهمس لنفسها
-هشوفك يابارد هتعمل ايه لما اقولك نازلة البحر كدا
خطت للخارج تجذب حذائها ولم تلتفت إليه
-هنزل أنا البحر، خليك نايم..رفع رأسه ينظر إليها بذهول، هز ساقيه بعدما علم تلاعبه بأعصابه،
حاولَ إخفاءِ ابتسامتهِ قدرَ المستطاعِ كي يُبدي جدِّيتهُ برفضهِ عمَّا تفعلهُ ولكنَّها نجحت وبجدارةٍ في تسديدِ هدفها حينما اقتربت تتدلَّلُ وجلست فوقَ الطاولةِ تتناولُ الفواكهَ وتهزُّ ساقيها بانفعال قائلة
-جعانة من امبارح الضهر ماأكلتش بسبب واحد مابيفكرش غير ازاي يضايقني، وأنا هموت من الخوف عليه، أنا غلطانة مالي انا يروح مع ظابط ولا ارهابي، غبية ياميرال وياريته بعد كدا يسمعك كلمة حلوة، نهضَ من مكانهِ بعدما فقدَ سيطرتهِ على طغيانها الأنثوي، حاوطَ جسدها من الخلفِ يهمسُ بجوارِ أذنها:
طيِّب قوليلي كنتي منتظرة منِّي إيه وأنا متأكِّد من جنانِك..
استدارت برأسها تشيِّعهُ بنظرةٍ صامتةٍ ثمَّ اتَّجهت تجذبُ التفاحَ تتناولهُ بطريقةٍ أثارت حنقه، رفعتها لفمها تلذَّذها إلَّا أنَّهُ القطها بطريقةٍ جعلت جسدها يرتعشُ من فعلته، تجمَّدت وفقدت اتزانها، قامَ بحملِها بين ذراعيهِ، ومازال يسكرها بخمره المسكر، واتَّجهَ إلى الأريكة، وضعها بحنانٍ ثمَّ ملَّسَ على وجهها:
صدَّقيني خفت عليكي، عارفِك متهورة..
تقوم تحبسني، وتسبني الوقت دا كلُّه تلات ساعات وأنا هاتجنِّن عليك وماعرفشِ إنتَ فين…
خلاص حصل خير ورجعتلِك أهو.
هبَّت من مكانها تهزُّ رأسها:
لا.. لازم آخد حقِّي منَّك، استدارت تشيرُ إليه:
اعتذر قولِّي أنا آسف ياميرو يامراتي ياحبيبتي..، ولا أقولك قولي بحبك أكتر من أي حاجة..اقتربت منه ونظرت لداخل عيناه
-انا مش طفلة علشان تعمل معايا كدا، انا مراتك ومن حقي أعرف النفس اللي بتتنفسه، لو هتفضل معايا كدا يبقى كل واحد يعيش حياته اللي هو شايفها صح، انا ممكن أتنازل علشان حاجات كتيرة علشان اسعدك، لكن هتستهزئ بقيمتي معاك يبقى انت حر وأنا حرة
توقَّفَ متخصِّرًا، يطالِعها بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ أردف:
إجهزي هنسافر هاتصل أحجز
تسمَّرت بوقفتها من فعلته، نظرت إلى سرابِ توقُّفهِ، ثمَّ هوت على المقعدِ بعدَ خروجه ..جلست تهمسُ لنفسها:
دا بيتكلِّم بجد، يعني صدَّق الكلام..
بعد أسبوعين من عودتهما للقاهرة
بشقة ارسلان فتح عيناه على رنين هاتفه
-ارسلان تعالى على المستشفى، باباك اتنقل من ساعة..هب من مكانه متجها إلى غرفة ملابسه
-ايه اللي حصل؟!
معرفش انا لسة رايح اهو ملك كلمتني وهي منهارة، حاولت تكلمك على رقمك التاني شكلك قافله
-تمام تمام ...مسافة السكة
خرجت من الحمام تطالعه باستفهام
-فيه حاجة ولا ايه..خلع تي شيرته وارتدى قميصه سريعا حتى لم يقو على إغلاقه زرايره، تقدمت منه وحاولت مساعدته
-اهدى ،فيه ايه ..فين تليفوني التاني
أشارت بالخارج وهي تبتعد بالنظر عنه وهو يكمل تغيير ثيابه
-برة هجبهولك..قالتها وتحركت تحضر اشيائه..خرج سريعا قائلًا
-متفتحيش الباب لأي مخلوق، فيه واحد تحت متخافيش..اقتربت منه
-مش عايز تقولي ايه اللي حصل
طبع قبلة على جبينها وجذب حافظة نقوده متحركا للباب وهو يجيبها
-بابا محجوز في المستشفى،
امسكته من ذراعه وهتفت
-يبقى طمني..اومأ لها بالموافقة وتحرك سريعا
عند يزن دلف لغرفته وأغلق الباب خلفه وقام بفتح الصندوق الذي يحتوي أسراره المدفونة، امسك شهادة ميلاده يكرر اسمه بين شفتيه
"يزن راجح الشافعي"
طالع الشهادة لعدة دقائق بنظرات ضائعة ودقات عنيفة يردد الاسم عدة مرات
-راجح الشافعي ابويا
بغرفة إيلين دلفت مريم بفستان زفافها تضعه بمكانه ثم اردفت
-اجهزي ياعروسة، علشان الحنة، لازم اعمل لك حنة متنسهاش
كانت تجلس تنظر للخارج بشرود فتسائلت
-أكتر من أسبوعين معرفش عنه حاجة غير اتصالات بحسها اجبارية، رفعت عيناها لأختها
-تفتكري خالو ضغط على آدم في جوازنا
اقتربت مريم تمسد على خصلاتها تطمئنها
-حبيبتي بلاش الشيطان يلعب بعقلك، مش يمكن زي ماخالو قال، على العموم هشوف اخوكي يعرف هو فين واتكلمي معاه بكل اللي انت حاسة بيه
دلفت والدة آدم هدى مبتسمة
-عروستنا الحلوة عاملة ايه، عريسك تحت وعايز يشوفك، نظرت لأختها مبتسمة، ثم اتجهت ترتدي ثيابها لكي تقابل من عشقته منذ الطفولة قبل حفل زفافها بساعات قليلة
بفيلا السيوفي
خرجت فريدة إلى سيارتها واستقلَّتها تعطي السائقَ العنوان..وصلت بعدَ قليلٍ إلى المكانِ الذي تريدُه، دلفت لموظفةِ الاستقبالِ متسائلة:
عايزة أقابل راجح الشافعي لو سمحتي..
نظرت إليها متسائلة:
عندِك ميعاد يافندم ..خلعت نظارتها وأجابتها بثقة:
قوليلُه فريدة السيوفي وهوَّ يقابلني..
رفعت سماعةَ الهاتفِ تهاتفُه:
أستاذة فريدة السيوفي عايزة تقابل أستاذ راجح يامنى..
بعدَ لحظاتٍ أجابتها:
خلِّيها تطلع ...
بمكتبِ إلياس يجلسَ أمامَ بعضِ أجهزةِ المراقبةِ على إحدى قضاياه، استمعَ الى رنينِ هاتفه:
مدام فريدة خرجت إلى شركة اسمها شركة راجح الشافعي..
راجح الشافعي..كررها عدَّةِ مرَّاتٍ ثمَّ نهضَ قائلًا:
ابعتلي العنوان..جمعَ أشيائهِ وخرجَ إلى سيارتهِ يهاتفُ زوجته:
إنتِ فين؟..
عندي شغل لسة قدامي ساعة..
إرجعي على البيت بدل ماأجيلك، عيب تبقي كبيرة وتكذبي، الستِّ الوالدة ماعرَّفتكيش الكذاب بيروح النار..
تنهدت بحزنٍ ونهضت تعتذرُ لصديقتها:
آسفة لازم أرجع البيت دلوقتي..قالتها ثمَّ ودَّعتها واتَّجهت إلى السيارةِ وقامت بمهاتفته:
لمَّا إنتَ بتراقبني كان إيه لزمتُه السؤال،
إرجعي يامدام لسة حسابنا القديم ماخلصش، علشان نتحاسب على الجديد..
فتحت بابَ السيارةِ وصمتت لبعضِ الوقتِ ولكنَّها فشلت في إخمادِ ثورةِ اشتياقها له:
هاترجع إمتى؟..
نظرَ إلى الطريقِ أمامهِ يجيبها متهكِّمًا:
ليه هيَّ المدام نسيت إنِّي مش فارق وجودي من عدمُه، باي يامدام لمَّا يجيلي نفس هارجع، قالها وأغلقَ الهاتفَ دونَ ردَّها…
جلست بالسيارةِ وتنهيداتٍ متحسِّرةٍ على حياتها التي أصبحت باردةٍ بعدَ أسبوعٍ واحدٍ جعلها حوريةٍ من حورياتِ الجنة، رفعها إلى السماء كنجمةٍ عاليةٍ لم يستطع أحدٌ الوصولَ إليها ثمَّ
ألقاها وكأنَّها لا تعني لهُ شيئًا...انسابت عبراتها تضعُ كفَّها على صدرها تهمسُ لنفسها:
هونت عليك ياإلياس، بس العيب مش عليك العيب عليَّا أنا..قامت بتشغيلِ السيارة تهمسُ لنفسها:
هاعرَّفك ميرال هاتعمِل فيك إيه…
وصلت إلى الفيلا، وجدت سيارة بجوارها إحدى السيدات تسأل عن فريدة، ترجلت من السيارة واتجهت إليها تنظر لظابط الأمن
-فيه ايه هنا...أشار ظابط الأمن إلى ميرال
-الهانم ممنوعة من دخول الفيلا، وهي مصرة تقابل مصطفى باشا أو إلياس باشا
أشارت ميرال على نفسها قائلة
-أنا ميرال مرات إلياس ...ممكن أعرف عايزة تقابليه ليه
اقتربت تنظر إليها بتعمق قائلة
-أنا رانيا الشافعي، عندي حاجة مهمة لازم مصطفى باشا يعرفها عن مدام فريدة
-ماما!!
اعتدلت رانيا تهمس بتساؤل
-مامتك، ازاي وفريدة ماخلفتش غير ولدين
عندَ فريدة دلفت إلى مكتبه، رفعَ رأسهِ على دخولها، هبَّ من مكانهِ وهو يطالِعها بنظراتٍ مذهولةٍ يهمسُ بصدمة:
إنتِ..خلعت نظارتها واقتربت منهُ بثباتٍ وكبرياءٍ ترسمُ ابتسامةٍ كفتاةٍ تبلغُ من العمرِ عشرينَ عامًا:
إيه..مستغرَب ليه ماكُنتش منتظر أرُّدلَك الزيارة ولَّا إيه؟…
زيارة ..ردَّدَها مستفهمًا ..جلست تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى:
إزيَّك ياراجح..جلسَ بعدما سيطرَ على نفسهِ من صدمةِ وجودها أمامهِ بعدَ تلكَ السنين ..طالعها باشتياقٍ انبثقَ من عينيهِ:
دوَّرتِ عليكي كتير..نقرت فوقَ مكتبهِ
وطالعتهُ بابتسامةٍ ساخرة:
ليه كنت ناوي تكمِّل اللي عملته، توقَّفَ من مكانهِ واتَّجهَ إليها منحنيًا يحاوطُها بذراعيه:
لا كنت عايز أعتذرلِك وأقولِّك مش عارف أعيش من غيرِك..قالها مع دفعِ إلياس الباب ودخولهِ و اعتراضِ السكرتيرة..توقَّفَ متسمِّرًا على ذاكَ المشهد، بينما هي شعرت وكأنَّ أحدهم وضعها بقبرٍ وهي مازالت على قيدِ الحياة.
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
كأنَّكَ رسالةُ شوقٍ..
نسيَ ساعي البريدِ في أيِّ صندوقٍ وضعها..
قل لي برِبك..
أينَ يُباعُ الكره....
لأكرهكَ بحجمِ حبِّي لَك…
قل لي بربِِّك..
أينَ يُباعُ النِسيان..
لأستطيعَ نسيانَك…
بقدرِ إشتياقي..
قل بربِّكَ كيفَ أكونُ أنا بلا أنت...
تأخَّرَ شتائي..
أحتاجُكَ بالقربِ لتُمطر..
أعترِفُ لك ..
لاااأستطيعُ أن أتجاوزَك ..
فأنتَ وحدَكَ محطَّتي الأخيرةَ ولاشيئٍ بعدَك ..
وإن فقدُتكَ فليسَ لديَّ ما أخسَرهُ أكثر ..
وإن بقيتَ فلاااشيئٍ قد أتمنَّاهُ بعدَك ..
صرتُ أراكَ حينَ لاااأراك..
تبًّا لقلبٍ صارَ يهذي من هواك..
أيكونُ عِشقي ضربًا من جنون؟…
أهوَ جنونٌ إن لم أرَ في الدنيا سِواك؟…
أمام البوابة الرئيسية لفيلا السيوفي، ترجلت ميرال من سيارتها ، واتجهت تتطلع إلى امتناع الأمن عن دلوف رانيا للداخل، اقتربت متسائلة:
-في ايه ؟!.
أشار أحد رجال الأمن إليها
-المدام ممنوعة من الدخول ياهانم، وهي مصرة تدخل
رمقتها رانيا بنظرة سريعة
-أنا لازم أقابل فريدة أو إلياس السيوفي
توقَّفت ميرال:
نعم.. تعرَفي جوزي منين؟!..
اقتربت منها تطالِعها بتعمُّقٍ وأردفت متسائلة:
إنتِ بنتِ فريدة ولَّا…قاطعهما إسلام الذي وصلَ يحاوطُ كتفَ ميرال:
حبيبتي اتأخرتي ليه؟..
استدارت ترمقُ رانيا:
المدام كانت بتسأل على ماما..
ماما !! تساءلَ بها إسلام..بسطَ كفِّه:
أهلًا بحضرتِك..تعمَّقت بالنظرِ إليه:
إنتَ إلياس..هزَّ رأسهِ بالنفي فهزَّت رأسها متذكِّرةً صورتهِ يومَ زفافه، رسمت ابتسامة:
أه افتكرت ..قاطعها وتحدَّثَ بمغذى:
إلياس السيوفي تُقصدي ..
هوَّ أخوك ثمَّ أشارت على ميرال:
ودي أختك إزاي؟...اقتربَ منها وهو يضعُ كفَّيه بجيبِ بنطالِه:
هوَّ حضرتِك جاية تسألي عن شجرةِ العيلة!..آسف بس ليه بتسألي…
ابتلعت ريقها بصعوبة، وتلعثمت وعينيها على ميرال:
أبدًا كنت عايزة أسألُه عن حاجة.
حاجة، طيِّب ليه ممنوعة من الدخول، هيَّ ماما تعرفِك؟..
ماما!! قصدَك مين؟..
كانت تقفُ تطالعُها بصمتٍ وهي تتحدَّثُ مع إسلام إلى أن فجأة قطعت حديثها:
إنتِ تعرفي ماما فريدة؟..
هزَّت رأسها بالنفي واستدارت متحرِّكةً لسيارتها سريعًا...
استقلت السيارة ونظراتها على اسلام وميرال، ثم رفعت هاتفها
-عايزاك تعرف كل حاجة عن ولاد السيوفي، وكمان البنت اللي اسمها ميرال دي، دي اختهم ازاي وكمان مرات ابنهم الكبير ..قالتها وأغلقت الهاتف وهي تنظر إلى الفيلا
-مفكرة بيهم هتقدري تبعدي عن شري يافريدة، وحياة وجعي السنين دي كلها منك ومن راجح وجمال لاحرق قلبك عليهم كلهم، شكلهم بيحبوكي معرفش ليه، بس البنت دي ازاي بنتك، معقول تكون بنتي ..هزت رأسها
-لا لا ..ذهبت بذاكرتها تهمس لنفسها
-البنت شبه راجح وجمال فعلا، وبعدين، لازم اصرف اعمل ايه علشان اتأكد، البنت دي مش شبه فريدة
ضيقت عيناها تهز رأسها
-التحليل لازم اعمل التحليل ..
عندَ فريدة:
انحنى راجح يحاوطُ المقعدَ الذي تجلسُ عليهِ قائلًا:
دوَّرت عليكي كتير يافريدة، كنتي فين وإزاي عرفتي العنوان ...
دفعتهُ بحقيبتها تشيرُ إليهِ بغضبٍ اندلعَ من عينيها:
اسمعني ياراجح ..قالتها بدفعِ إلياس الباب َمع اعتراضِ السكرتيرة، توقَّفَ متسمِّرًا يوزِّعُ نظراتهِ بينهما، ووضعيةِ حقيبتها التي تدفعُ بها راجح ..اقتربَ منهما مع ارتجافِ جسدها من نظراتِ إلياس إليها، دلف للداخل باعتدال راجح
-إلياس باشا!!
دلف بخطوات مميتة لقلبها وهي تطالعه بصدمة كيف علم بوجودها، جذب المقعد مع بسط راجح يده للسلام عليه ولكنه تجاهله، رفع عيناه إلى راجح ثم أشارَ إلى السكرتيرة:
قهوتي سادة، وقهوة طنط فريدة مظبوطة، مش كدا ياماما فريدة؟..
قالها بعدما جلسَ يضعُ ساقًا فوق الأخرى، وأخرجَ سجائرهِ ينفثُها بهدوءٍ رغمَ احتراقِ داخلهِ من رؤيةِ راجح قريبًا منها ...
جلست فريدة وعينيها عليه، تعلمُ أنَّهُ لن يصدِّقها فصمتت تطبقُ على جفنيها للحظاتٍ تحاولُ أن تسحبَ نفسًا، بعدما شعرت وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ أطبقت على صدرها..
رانَ صمتٌ مميتٌ بالغرفةِ إلى أن قطعهُ إلياس وهو ينظرُ إلى راجح:
الذي مازال متوقفًا مذهولا من دخوله بتلك الطريقة، استدار إلى مقعده وجلس عليه، ينظر إلى إلياس الذي طالعه وهو ينفث سجائره قائلًا بنبرة يشوبها الثقة والغرور
اتقابلنا تاني، بس ماعتقدشِ المرَّة دي هاتكون زي المرَّة اللي فاتت.
توقَّفَ راجح من مكانهِ واستدارَ يجلسُ أمامهِ بكلِّ عنجهية وتكبُّر، يهزُّ رأسهِ باستخفاف:
مكتبي نوَّر بيك ياحضرة الظابط..
نفثَ إلياس تبغهِ وعيناهُ تخترقُ استخفافَ حديثُ راجح، فتراجعَ مستندًا على المقعدِ وهتفَ بنبرةٍ ممزوجةٍ بالتعظيمِ والتكبُّرِ لشخصه:
طبعًا لازم المكتب ينوَّر، ومش المكتب بس الشركة كلَّها، هوَّ أنا قليل ولَّا إيه، اللي قاعد قدَّامك إلياس السيوفي ..
اتَّجهَ بنظرهِ إلى فريدة وتابعَ حديثهِ وعينيهِ تخترقُها:
وكمان عندَك مدام مصطفى السيوفي، ودي لوحدها يقفلَها الكل وانت اولهم، فريدة هانم السيوفي لوحدها مجرد اسمها في المكان الكل يقدم الولاء والطاعة مش كدا ولَّا إيه…
أومأَ راجح وأردف:
مدام فريدة الكل لازم يوقفلَها، أصلك ماتعرفش قيمتها بتكون إزاي، فيه حاجات ماتعرفهاش ياحضرة الظابط..
أحسَّ بقبضةِ تعتصرُ فؤادهِ ورغمَ ذلكَ رسمَ ابتسامة:
لا، عارف ومقدَّر مكانة ماما فريدة مش حضرتَك اللي هاتقول..
متأكِّد ياحضرة الظابط ..انحنى إلياس بجسدهِ يردُّ بصوتٍ خافتٍ ورغمَ هدوئهِ إلا أنَّهُ أخرجهُ كالرصاصاتِ التي تستقرُّ بالصدرِ حينما قال:
إعرَف قدرِ نفسَك ياراجح بيه..واحمد ربنا اني جتلك، اصلي لو بعت اجيبك هيكون فيها كتير
أفلتَ ضحكةً بعدما علمَ بذكائهِ وأردف:
عارف ومقدَّر ياحضرةِ الظابط، بس إعرَف إنِّ في أسد غزالتُه هربت منُّه، قالها بمغذى وهو يشيِّعُ فريدة بنظرةٍ خبيثة.
حرَّكَ إلياس فمهِ يمينًا ويسارًا ينظرُ إلى فريدة نظراتٍ لم تفهم معناها، لتتأرجح عيناها بحيرة لما يفعله، ابتعد بالنظر عنهاثمَّ التفتَ إليه:
أسد مريض بيجري ورا غزالة ضعيفة، حدجَ فريدة بنظرةٍ واستطرد:
العيب مش في الأسد المريض، العيب في الغزالة اللي ماعرفتشِ تبعد عنُّه لحدِّ مااستضعفها..
أخرجَ راجح سيجارتهِ ينفثُها ويطالعهُ بنظراتٍ توحي الكثير والكثير قائلًا:
مش يمكن الغزالة بتلعَب بالكل علشان تهرب زي ماهربت؟..
خنجر غرز في جدار كبريائه قبل صدره، ابتلع إهانته بغضب يحرق احشائه ظهر بنفور عروقه، ثم
فتحَ فمهِ للرد ولكنَّها توقَّفت تصرخُ بهما:
شغل المخبرين دا مش عايزاه، اتَّجهت بنظراتٍ محتقرةٍ إلى راجح وهتفت بصوتِ مرتفع:
إبعد عنِّي إنتَ ومراتك ياراجح، ماتخلنيش أطلَّع فيك ظلمِ السنين كلَّها، هبَّ من مكانه:
ظُلم، وقتلِك لبنتي دا إيه، أشارت بيديها بعدما فقدت أعصابها وحاولت إخفاءَ أمرَ ميرال لتهتف:
زي ماقتلت ولادي ..صرخَ بصوتٍ جهوري:
ولاد مين، ولادِك اللي بعتيهم علشان تهربي مع عشقيك… قست عيناه بوميض الغضب الذي تجلى بمقلتيه كالهيب مشتعل فهدر بصوت أفزع الأثنين:
بااااااس..قالها وانتفضَ من مكانهِ كالأسدِ الذي يريدُ أن ينقضَّ على فريسته، دنا من راحج وهتفَ من بينِ أسنانه:
أنا مابحبِّش أتكلِّم كتيير، أنا عارف الماضي كلُّه، وكلِّ واحد فيكم أخد حقُّه، توقَّفَ عن الحديثِ بعد دخولِ العاملِ بالقهوة..
هوت فريدة على المقعدِ وانتفضَ جسدها بالرُّعب، من تحوِّلِ إلياس وحديثهِ الذي علمت أنَّهُ النهاية، برودة اجتاحتها وهي تتابعُ حديثهِ ظنًّا أنَّهُ سيصدِّقهُ ويخذلها ...أشارَ إلياس إلى راجح بغضب:
هاتقرَّب على حد من العيلة همسحك من على وشِّ الأرض، إبعد عن عيلتي، الست اللي قاعدة قدَّامك دي مرات مصطفى السيوفي، انت فاهم يعني ايه، وكمان في مقامِ والدتي، ومهما عمَلِت هتفضل في مقامِ والدتي، أنا مارضتشِ أقرَّب منَّك وسايبك إنتَ والمدام اللي مش مبطَّلة تدوَّر ورانا، شكلها ماتعرفشِ مين همَّا عيلة السيوفي ..اتَّجهَ بنظرهِ إلى فريدة التي تطالعهُ بذهولٍ لم تكن تتوقَّعُ حديثه، اقتربَ منها وساعدها على الوقوفِ يحملُ حقيبتها التي سقطت من يدها وتحرَّكَ للخارج، توقَّفَ لدى بابِ المكتبِ واستدارَ إلى راجح:
عملت معاك واجب لمَّا عرفت ابنك مالوش في السياسة، ودا ماحدِّش بيعملُه في منصبي ماتخلنيش أتراجع عليه، وعايز أقولَّك صلة القرابة بس اللي شفعتلَك عندي، علشان كنت في يوم من الأيام جوزها، وأنا بشفع مرَّة واحدة..وبعدها أغطي عليك بالتراب واعدي وأنا بدوس كمان، بتكلم بعقلي، يكفيك شر جنان إلياس السيوفي لما بيخرج جنانه على حد، اقترب منه خطوة وعيناه تحرق وقوفه وهمس بفحيح اعمى
-هخليه عبرة لمن لا يعتبر، حتى لو كان أقرب الناس ليا، ابعد عن طريقي علشان مكرهكش نفسك، ومتفكرش سنك هيشفعلك، ياااا راجح بيه، وراك على النفس
قالها تحرَّكَ مغادرًا تاركًا راجح على لهيبٍ مشتعل..بدأ يحطم كل تطاله يده، حتى أصبح المكتب ، شظايا مبعثرة، اتجه سريعًا إلى هاتفه
-مستعد أعمل اللي عايزه النهاردة قبل بكرة بس تخلصي لي من واحد النهاردة قبل بكرة
صمت يستمع إلى الطرف الآخر قائلا
-هبعتلك كل اللي يخصه ..
جلس يمسح على وجهه بعنف
-حتة عيل يعمل في راجح الشافعي كدا، طيب يابن السيوفي لو محصرتش ابوك عليك ..مبقاش راجح
عند فريدة وإلياس
كانت تتحرَّكُ بجوارهِ تنظرُ إليهِ بسعادةٍ تنبثقُ من عينيها، ودَّت لو تضمُّهُ لأحضانها، ودَّت لو تصرخَ بأعلى صوتها تخبرُ الجميعَ بأنَّهُ وليدها قرَّةُ عينها.
فتحَ بابَ سيارتهِ وأشارَ إليها بالجلوس، مشيرًا للسائقِ الخاصِّ بها بالمغادرة، تحرَّكَ بالسيارةِ وهو يقطعُ المكانَ بسرعةٍ جنونيةٍ وكأنَّ أحدَهم يطوِّقهُ بطوقٍ من النيران، ظلَّ محافظٌ على تماسكهِ حتى لا يصلَ إليها ويلقيها صريعةً على أفعالها المتهوِّرة، فهو منذُ عودتهِ من شهرِ عسلهِ علمَ بزيارةِ رانيا من خلالِ فريقهِ الأمني، الذي أخبرهُ بأنَّها تبحثُ خلفَ فريدة.
نظرت لسرعتهِ الجنونيةِ فأردفت بخفوت:
حبيبي بالرَّاحة، العربية كدا ممكن تتقلِب، شيَّعها بنظرةٍ مع ابتسامةٍ ساخرة:
خايفة يحصلِّك حاجة وإنتِ معايا؟..
لا، خايفة عليك يابني ..توقَّفَ فجأةً حتى كادت السيارةُ تنقلبَ بسببِ سرعتهِ المتهوِّرة، ولولا تحكُّمهِ بالقيادةِ بعد دورانِ السيارةِ عدَّةِ مرَّاتٍ للقيا حتفُهما لا محالة..
توقَّفَ ينظرُ إليها بأنفاسٍ متسارعةٍ وكأنَّهُ بحلبةِ مصارعة، ثمَّ اتَّجهَ بأنظارهِ إليها:
أنا مش ابنك ولا عمري هاكون ابنك، مانكرشِ كنت بعتبرِك زي والدتي السِّت اللي فتحتلِك بيتها واعتبرتِك أختها وأمِّنتك على ولادها وإنتِ في الآخر طلعتي شيطانة، خطَّطي لحدِّ ماوصلتي للي إنتِ فيه.
انسابت عبراتها تهزُّ رأسها فتحدَّثت من بينِ بكائها:
ليه بتحمِّلني موتها ياإلياس، والدتَك كانت مريضة وإنتَ عارف إنَّها كدا كدا كانت ميِّتة..
أاااه كنت عارف أنَّها ميتة، زي ماكنت عارف إنِّك أطيب خلقِ الله، بس عملتي إيه.. كذبتي علينا وعليها، استخدمتي حنانها لغرضِك..
اسمعني اللي إنتَ سمعتُه مش الحقيقة..
ضربَ كفَّيهِ ببعضهما يردِّدُ كلماتها ثمَّ اقتربَ يغرزُ عيناهُ بمقلتيها:
ليه مش المدام ألِّفت على بابا أنَّهم قتلوا جوزها وعمِّ بنتها عايز يتجوِّزها غصب، مش المدام اللي خافت يوصلَّها طليقها علشان يبيِّن حقيقتها..
خلِّت بابا اللي عمرُه مااتَّبع طريق الشر إلَّا معاكي ..إيه يامدام مش تاخدي بالِك إن العيِّل الصغير كبر…
إلياس ..أشارَ بسبَّباتهِ محذِّرًا:
مش عايز أسمع حاجة، كفاية اللي سمعتُه الأيام اللي فاتت، دلوقتي علاقتي بيكي إنِّك أم مراتي وبس، وحق بابا عليَّا ماتطلبيش منِّي أكتر من كدا..أكتر حد بكرهُه في الدنيا الكدَّاب المخادع..
قالها وقامَ بتشغيلِ السيارة، وضعت رأسها على النافذةِ تنظرُ للخارجِ وانسابت عبراتها بصمت، تعلمَ أنَّها أخطأت في بادئِ الأمر ولكن كيفَ لها أن تثقَ بهم..
وصلَ بعد قليل، ترجلَّت من السيارةِ دونَ حديثٍ ودلفت للداخل ..بالأعلى بغرفةِ ميرال أنهت استحمامها، خرجت على صوتِ هاتفها.. توقَّفت أمامَ المرآهِ تبعدُ منشفتها عن خصلاتِها وأجابت:
أيوة يادودي..
ميرو أنا في المكتبة كنتي عايزة أجيبلِك إيه نسيت..تبسَّمت وهي تجذبُ كريماتها قائلة:
عايزة كتاب تشارلز ديكنز ياقلبي، لو لقيتيه ..
تمام ياجميلتي، اشتريت حاجات هاتعجبِك أوي، وجبت لإلياس هدية كمان بس إياكي تعرَّفيه.
فردت الكريم على يديها تنظرُ لنفسها بالمرآةِ وشعرت بالحزنِ قائلة:
ماتخافيش مش هاقولُّه حاجة ..قالتها وأغلقت الهاتفَ، جلست لبعضِ الدقائقَ ونظراتها على هيئتها بالمرآة حتى شردت بحياتِها دونَ أن تشعرَ بدلوفِه، توقَّفَ يطالعُها بنظراتٍ هائمةٍ وكلَّ الأشواقِ تناديهِ أن يسحقَ عظامها، أسبوعًا كاملًا عاقبَ نفسهِ وعاقبها بالبعد، حتَّى احترقَ داخلهِ من الاشتياق ..دنا منها وانحنى يحضنُها من الخلفِ دافنًا وجههِ بعنِقها، هبَّت فزعة حينما شعرت بأنفاسهِ الحارَّة
إشش إهدي أنا ..ألقت مابيدها وتراجعت مبتعدةً عنه:
عرفت أنُّه إنتَ، تجوَّلَ بنظراتهِ على جسدِها وهي ترتدي ثوبَ الحمَّامِ ليظهرَ معظمَ جسدها أمامه، توجَّهَ إلى غرفةِ ثيابهِ بعدما تراجعت تضمُّ فتحةَ روبها..
ماتخافيش مش هاقرَّبلِك، جيت آخد شوية هدوم…
شوية هدوم..قالتها بذعرٍ ظهرَ على ملامحها، تحرَّكت خلفهِ تجذبهُ من ذراعه:
طيِّب الأوِّل لمَّا كنت بتغيب عن البيت بقول علشان عايز تبعد عنِّي ومش طايقني، دلوقتي ليه بتبعد؟..
لنفسِ السبب قالها وهو ينزعُ قميصه، توقَّفَ بعدما فكَّ أزرارهِ ينظرُ إليها:
هتفضلي واقفة كدا عايز أغيَّر هدومي..
لحظات وهي تطالعهُ بنظراتٍ خلت من الحياة..استدارت للخارجِ دونَ حديث، وما إن اختفت عنهُ حتى اكتساهُ الحزنَ وسقطت ملامحُ بروده، لتتحرَّكَ بخطواتٍ متعثِّرة، ودموعها تفترشُ خطواتَها، اتَّجهت إلى مكتبها ودلفت للداخلِ تغلقُ البابَ خلفها ثم خرجت إلى الشرفة، فتحتها بدموعِ عينيها تنظرُ للخارجِ بضياع، ماذا فعلت لكي تجني ذاكَ العشقُ المتألِّم ..جذبت المقعدَ وجلست تضعُ ذقنها على ركبتيها التي رفعتها تستندُ عليها…
بالخارجِ ألقى مابيدهِ يزفرُ بغضبٍ على ماتوصلَّت الحياةُ بينهما، جلسَ يُرجعُ خصلاتهِ للخلفِ بعنفٍ حتى كادَ يقتلِعُها، تنهيداتٍ متحسِّرةٍ حتى شعر بتوقُّفِ دقَّاته..ورغمَ حربهِ مع نفسهِ ومايشعرُ من فوضى بداخلهِ لم يقوَ على التحكُّمِ باشتياقِه، ودقَّاتِ قلبهِ العنيفة، نهضَ واتَّجهَ إليها يبحثُ عنها، ذهبَ لغرفةِ مكتبها ولكنَّهُ وجدها مغلقة، دبَّ الذعرُ بأوصاله، طرقَ عليها الباب عدَّةَ مراتٍ ولكن لا يوجد رد، انهارت حصونهِ بالكاملِ وعقلهِ يصوُّرُ لهُ أشياءً مفزعةً لا يستطيعُ القلبُ تقبُّلها، دفعَ البابَ بقدمه بقوَّةٍ عدة مرات إلى أن انفتح، دلفَ يبحثُ عنها بلهفةٍ ودقَّاتُ قلبهِ كجرسِ معبدٍ للتعبُّد، ذهبَ ببصرهِ إلى جلوسها بتلكَ الطريقة، نزفَ قلبهِ حتى شعرَ وكأنَّ أحدُهم انتزعهُ من صدره، دنا منها بخطواتٍ متمهِّلة، وصلَ إليها وجلسَ خلفها يجذبها لأحضانهِ بقوَّةٍ حتى شعرت بسحقِ عظامها ..أغمضت عينيها تمنعُ دموعها التي تكوي جفنيها، أخرجها من أحضانهِ يحتضنُ وجهها:
زعلان منِّك، ومش قادر أزعَّلِك..
حاوطت عنقهِ وهنا انفجرت بالبكاءِ بعدما فقدت سيطرتها...نهضَ وحملها متَّجهًا إلى غرفتهما ليلبِّي نداءَ قلبيهما بالاشتياقِ الكامنِ بصدرِهما، ويعزفُ لها لحنهِ الأثيرَ ليعلِّمها أنَّ جميعَ لغاتِ المعاجمِ تخلو مما يشعرُ به الآن وهي بداخلِ أحضانه، لم يجد مايعبِّرُ به عمَّا ينتابهُ فلقد تسرَّبت واستوطنت ثنايا الروحِ والقلب…
همسةٌ ضعيفةٌ خرجت من بينِ شفتيها بإبعادهِ عنها، أسبلَ عيونهِ بوميضِ الغضبِ معتدلًا:
تاني ياميرال، تاني.. قالها وهو يجذبُ قميصه، تشبَّثت بذراعهِ تهزُّ رأسها:
إلياس أنا تعبانة، تعبانة منَّك ومن حياتي اللي ماعرفشِ إنتَ واخدنا على فين..
شهقةٌ خرجت من ثنايا روحها قبلَ قلبها ترفعُ أكتافها تنظرُ حولها بضياع:
عجبَك كدا، قولِّي إيه أهمية جوازنا، وإنتَ عايش بعيد عني ونبذني من حياتَك، قولِّي إيه فايدة جوازنا وأنا لوحدي وكأن مفيش حاجة اتغيَّرت بالعكسِ الأوِّل كان أفضل..
نهضت من مكانها وتوقَّفت أمامه:
ليه بتعاملني كدا، علشان غلطت، ماكلنا بنغلط إنتَ مبتغلطش، ليه منتظر مني غلطة واحدة علشان تمسحني من حياتَك، ليه الضغط والصراع دا، مش متحمِّل وجودي عرَّفني ووعد هبعد عنَّك بس أكون عارفة حدودي، رفعت كفَّيها وأدارت وجههِ إليها تنظرُ بعمقِ عينيه:
لو شايف قربي منَّك بيخنقَك ومش قادر تتحمِّل هبعد بهدوء ووعد محدش هيعرف بس أكون عارفة أنا عايشة إزاي، ولو خايف أعمل مشاكل وعد مني هانسحب ولا كأنَّك قرَّبت حتى..
جذبها بقوَّةٍ لأحضانهِ ولفَّ ذراعيهِ حولَ جسدها يضغطُ بقوَّةٍ على خصرها مما جعلها تتألَّم، ورغم آلامها تعلقَّت بعينيهِ التي تحدجها بلهيبٍ مستعر، انحنى من خاصَّتها يهمسُ بفحيح:
قدرِك قدري، إنسي إنِّي أتنازل عن اللي قهرتني، بلاش أسلوب الدموع دا علشان مفيش حاجة تشفعلِك عندي غير قلبك اللي بيدُق باسمي وبس، ووقت ما يوقف النبض باسمي، هقسمهولِك نصِّين، بلاش تشغلي نفسِك بالتفكير علشان هتتعبي، أنا سألتِك قبلِ ماأقرَّب منِّك موافقة نكمِّل حياتنا، وإنتِ وافقتي، خلاص مبقاش فيه رجوع إلَّا إذا حد مننا يموت…
ملَّست على وجنتيهِ وعانقت عينيه:
يعني هتفضل تعذِّب فيَّا طول حياتك، إنتَ كدا مبسوط، وسعيد ببعدَك عنِّي، عايز تعرَّفني إنَّك سعيد وإنتَ شايفني بنهار على بُعدك…
دفعها على الفراشِ خلفها وحاوطها بجسدهِ ينظرُ لجسدِها بعيونٍ راغبة:
مين قالِّك أنا سعيد، مين اللي قالِّك أنا مرتاح، اقتربَ منها واحتضنَ ثغرها بقبلةٍ عاشقةٍ ثمَّ وضعَ جبينهِ فوقَ خاصتها وأااه بأنفاسهِ الحارقةِ تلفحُ بشرةِ عنقها الناعمةِ يهمس:
افتكري قولتلِك حبُّك نار ياميرال، بتحرَق اللي يقرَّب منِّي، وإنتِ لعبتي على الوتر دا، متستخفِّيش بقلبي دا لو عايزة تفضلي بقلبي…
نظراتٍ جانبًا منها سعيد وجانبًا منها حزين لتهمس:
طيب لمَّا زعلان من البعدِ ليه بتبعد، قلبك مش قالَّك كفاية عليها عذاب، مصعبتِش عليك؟..
لا، مصعبتيش عليَّا قالها سريعًا، وهو يحرِّكُ أناملهِ على عنقها وفتحةِ صدرها التي ظهرت أمامهِ وعينيهِ تتعلَّقُ بعينيها وتابعَ حديثه:
مش إنتِ شايفة جوازي منِّك رغبة وبس، مش دا كلامِك، شايفة اشتريتِك جارية، ليه تصعبي عليَّا…
تحجَّرت عيناها بالدموعِ ليغمضَ عينيهِ حتى لا يضعفَ أمام فتنتها الهالكة لا محالة، حاوطت عنقهِ تهمس:
وحشتني أوي، فتحَ عينيهِ لتتعلَّقَ بعيونها السوداء التي تلوَّنت بالدماءِ لكثرةِ بكائها، رفعَ كفِّهِ يملِّسُ على خصلاتها:
وبعدين معاكي، عايزة منِّي إيه.. أقرَّب تقوليلي إبعد، أبعد تقوليلي قرَّب، ماهو لو ناوية تجنِّنيني فإنتي فعلًا جنِّنتيني..
سيبِك من جنانِك دا وإعقلي بقى..
تؤ..قالتها بهمسٍ خافتٍ لتقضي على تمسُّكهِ ولم تكتفي بذلكَ لتقرَّبَ رأسهِ تهمسُ له:
مجنونة بحبَّك مش محتاجة تجنِّني..
تعلَّقت الأعين وارتفعت النبضاتُ بالعزفِ وهي ترى مدى تأثيرها عليهِ حينما همست بحبُّهِ مرَّةً أخرى لتسقطَ أقنعةُ البرودِ وتعلنُ طبولَ القلوبِ بالعزفِ المنفرد، الذي عبَّرَ كلٍّ منهما بطريقتهِ الخاصة…
بعدَ فترةٍ ليست بالقليلةِ كانت تتوسَّدُ ساقيهِ وهو يعملُ على جهازه، وجدَ إشعار برسالةٍ لأحدهما على جهازه، مع صور أمامِه...تفحَّصَ الصورَ أمامهِ ليرسلَ إلى الآخر:
تراقبُه كويس، دوَّنها وقامَ بإرسالها، ذهبَ ببصرهِ للتي تهمس:
هدِّي المكيف بردت، جذبَ من جوارهِ غطاءٍ خفيفٍ ووضعهُ فوقها، ثمَّ ملَّسَ على خصلاتِها:
لو لسة بردانة أجبلِك حاجة تلبسيها، هزَّت راسها بالنفي تحتضنُ ساقيهِ قائلة:
وجودَك مدفِّيني، المكيف اللي كان عالي ..انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها:
هخلَّص شوية شغل وأخدك في حضني..رفعت عينيها تنظرُ إلى وجهه القريب:
كويس إنَّك حسيت ببعضِ واجباتك..
أطلقَ ضحكةً مرتفعة:
ليه أنا مقصر في واجبي؟..هزَّت رأسها بإرهاق؛
هوَّ إنتَ عملت أي واجب أصلًا علشان تبقى مقصَّر ..ألقى جهازهِ المحمول وانحنى يحملُها قائلًا:
عندِك حق ماأنا اللي دلَّعتِك زيادة عن اللزوم، نظرت حولها برعب:
إلياس واخدني فين..أنزلها بكابينةِ الحمَّام وقامَ بفتحِ المياهِ دونَ قبل أن تعترض..
دا أوِّل واجباتي ياروحي كنت مقصَّر فيها، صرخت تحتَ المياهِ الباردة ولم تشعر بإغلاق الزجاجِ عليهما، برقت عيناها تطالعهُ بذهول:
إنتَ هتعمل إيه؟..
هعمل الواجب، مش أنا تلميذ فاشل، عندِك حق، قالها وهو ينزعُ ثيابهِ لتصرخَ تواليهِ ظهرها تضربُ أقدامها بالأرض..وضعَ كفِّهِ على شفتيها يجذبها إليه:
إشش هتفضحينا، بطَّلي غباء، واللهِ لأحمِّيكي ومش هخرج حتى لو لمِّيتي البيت كلُّه..
بعدَ فترةٍ كانت تغطُّ بنومٍ عميقٍ بعدما مرَّت بأيامٍ ثقال وهو يعاقبها بأشدِّ عقابه..أنهى بعضَ أعمالِه، نهضَ يضعُ أشيائهِ بمكانها المخصَّص، ذهبَ ببصرهِ لذاكَ الصندوقِ الذهبي، اتَّجهَ إليهِ وقامَ بفتحه، وجدَ بهِ ذكرياتِ طفولتها مع عائلتها، لمسَ صورةً وهي بالصفِّ الثالثِ الثانوي تُقبِّل مصطفى أثناءَ تكريمها لتفوِّقها ..ملَّسَ على ملامحها الطفولية مبتسمًا على ذاكَ اليوم..
عادت بعد تكريمها، كان يسبحُ بالمسبح، وصلت إليهِ وعقدت ذراعيها أمامَ صدرها:
ممكن أعرف مجتشِ حفلةِ التكريم ليه؟..
خرجَ من المسبحِ يجذبُ منشفتهِ وتحدَّثَ بنبرةٍ باردة:
مبروك، كنت هباركلِك هنا، وبعدين كلُّهم معاكي، مجتشِ عليَّا، اقتربت منهُ تطالعهُ بحزن:
وجودَك كان مهم ياإلياس، تحرَّكَ أمامها وكأنَّها لم تحادثهُ لبعضِ الخطواتِ ثمَّ توقَّفَ بعدما وجدَ وقوفها:
شايفِك اتكرَّمتي وجيتي من غيري فين الأهمية في وجودي..
تعلَّقت بنظراتهِ لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ تحرَّكت للداخل:
آسفة إن كنت ضيقتِ حضرةِ الظابط..قالتها وتحرَّكت دونَ حديثٍ آخر..
استني عندِك، نظرت أمامها تضغطُ على شفتيها بقوَّةٍ حتى لا تنسابُ دموعها.
أنا قدمتلِك إعلام زي ماإنتِ عايزة مع إنِّي مش مقتنع بالمجال دا، وطبعًا هتختاري صحافة ..دنا ينظرُ بمقلتيها:
لو ناوية على الإذاعة هحولِك أي كلية تانية، علشان منتعبشِ بعض في كُترِ الكلام هتدخلي صحافة ..قالها وتحرَّكَ من أمامها دونَ إضافةِ شيئٍ آخر…
بعد أسبوعين ..استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها ثمَّ دلفَ بعدَ السماح..
دلفَ للداخلِ وجدها تشاهدُ بعضَ البرامجَ السياسية، اقتربَ وجلسَ بجوارِها بعدما تابعت التلفاز دون أن تعيرهُ اهتمام..
كلمِّت بابا يعينلِك سواق ياخدك بكرة علشان تخلَّصي الحاجات المرتبطة بالكلية من اختبارات معرفشِ محتاجينك ليه…
ظلَّت تتابعُ التلفازَ بصمت، تنهَّدَ يسحبُ نفسًا طويلًا ثمَّ أخبرها:
مش عايز صداقة مع حد مهما يكون، السواق هياخدِك ويجيبِك، مفيش عربيات دلوقتي، والعربية اللي بابا جابها مش هتركبيها قبلِ سنتين…
هبَّت من مكانها وتعمَّقت بالنظرِ إليه:
خلَّصت أوامرَك ياحضرةِ الظابط؟..
دي مش أوامر دا اللي المفروض تعمليه…
دنت تجذبُه من كنزتهِ التي يرتديها بعدما أضرمَ النيرانَ بداخلها:
ملكشِ دعوة بيَّا، أركب عربية مركبشِ.. أدخل صحافة أدخل إعلام، شيء ميخُصَكش، أنا ماقولتش للباشا يدخُل إيه يبقى هو مالوش يدَّخل في حياتي.
دنا منها فتقهقهرت للخلفِ حتى سقطت على الفراشِ فانحنى بجسده:
نفسِك دا مينفعشِ تاخديه من غير إذني، عايزة تكمِّلي تعليمِك تعملي اللي قولته..مش عايزة يبقى إتنيلي في البيت أهو تتعلِّمي حاجة في البيت..
اعتدلت تنظرُ بعمقِ عينيهِ وهدرت به:
اسمعني ياإلياس أنا مش هدخل صحافة حتى لو هتموتني..
ضغطَ على فكِّها واقتربَ يهمسُ بهسيسٍ أرعبها:
طيِّب لو جدعة عارضي أوامري ..لم تهتم بالقربِ المهلكِ لقلبيهما:
مش لسة هعارض ياإلياس أنا معترضة أصلًا، رجفة أثارت قشعريرةً أصابت جسدهِ من نفسها الناعمِ الذي لفحَ عنقه، حتى اهتزَّ ولم يشعر سوى بجذبِ عنقها يلتقطُ ثغرها في لحظةِ ضعفٍ لكلٍّ منهما..لحظاتٍ كانت من نارِ جهنم لكليهما ..اعتدلَ سريعًا وهرولَ للخارجِ يصفعُ قلبهِ بصفعاتٍ ناريةٍ على ضعفه، فتحَ بابَ غرفتهِ بعنفٍ وقامَ بتحطيمِ كلِّ ما تحتويه، يزأرُ على ضعفهِ الذي أهلكهُ بتلكَ الطريقة، استمعَ والدهِ للتحطيمِ فدلفَ للداخل:
إلياس فيه إيه ياحبيبي، جذبَ هاتفهِ وتحرَّكَ للخارجِ دونَ رد..
أمَّا هي فمازالت بمكانِها كما تركها تنظرُ لسرابِ خروجهِ بضعف، وجسدها مازالَ يرتجفُ من آثارِ قبلته، كيف فعلَ بها ولماذا اقتربَ منها بتلكَ الطريقة، مرَّت ساعاتٍ وهي لم تقوَ على الحركةِ أو الوقوفِ من مكانها، بعد يومين دلفت والدتها بطعامِها بعدما رفضت النزول فتساءلت عنه:
إلياس مارجعش، كنت سامعة عمُّو بيزعَّق ..ربتت على ظهرها:
رجع من عشر دقايق بس قفل على نفسُه، ماتحاوليش تقرَّبي منُّه، لحدِّ ماعمُّو مصطفى يعرَف مالُه ..قالتها فريدة وغادرت الغرفةَ نظرت للطعامِ الذي وضعتهُ والدتها، ثمَّ توقَّفت بهدوءٍ تحملُ الطعامَ واتَّجهت إلى غرفته، دلفت تبحثُ عنه، وجدتهُ يخرجُ من غرفةِ الرياضة، وضعت الطعامَ على الطاولة:
إلياس ..استدارَ إليها كالملسوع، ثمَّ اقتربَ يهدرُ بجنون:
إزاي تُدخلي هنا، وليه تدخلي أصلًا، أوعي عقلِك يوزِّك علشان اللي حصل يبقى خلاص إنِّك حاجة في حياتي، إمشي اطلعي برَّة، وإنسي أيٍّ حاجة..
استدارت وتحرَّكت بعدما ذُهلت من حديثهِ الذي شقَّ قلبها لنصفين، شهرًا كاملًا ولم يتقابلا بها…
مرَّت الأيام إلى أن جاءَ أوَّلِ أيامِ جامعتها، هبطت بجوارِ فريدة سعيدةً تتحدَّثُ مع فريدة بما ستفعلهُ اليوم، دلفَ من البابِ بعدَ غيابهِ أسبوعًا بعملهِ الأوَّل بعدَ تخرُّجه، توقَّفَ على بُعدِ بعضِ الخطواتِ ينظرُ إلى تلكَ الطفلةِ التي نضجت وأصبحت أنوثةً متفجرةً لقلبهِ الطاغي، قبَّلت والدتها وتحرَّكت تجمعًُ أشياءها، ثمَّ اتَّجهت إلى مصطفى تحتضنُه، كانت تتنقَّلُ بينهم مثلَ الفراشةِ على الزرع، لم تشعر بوجودهِ سوى من حديثِ إسلام:
أبيه إلياس جه، قالها إسلام الذي وصلَ إليه يحتضنُه، ضمَّ الأخوانُ بعضهما البعض ثمَّ تحرَّكَ إلى الجميعِ ملقيًا السلام..
تحرَّكت بجوارهِ دونَ أن تعيرَهُ اهتمامًا تشيرُ إلى والدتها، أوقفتها فريدة:
حبيبتي لمَّا توصلي طمِّنيني، وبين المحاضرات ياميرو ..قبَّلت والدتها في الهواءِ وتحرَّكت إلَّا أنَّها توقَّفت متسمِّرة على صوته:
استني ..توقَّفت تواليهِ ظهرها فاقتربَ منها:
السوَّاق بعتُه مشوار مهم أنا هوصلِّك، تحركَّت دونَ حديثٍ مع نظراتِ فريدة عليهما، جلست بجوارهِ بالسيارةِ تنظرُ للخارجِ بصمتٍ حمحمَ قائلًا:
مبروك الكلية، لو حد ضايقِك عرَّفيني بس وشوفي هعملِك فيه إيه..
استدارت برأسهِا تطالعهُ بسخرية:
ماحدش يقدَر يكسرني ويضايقني غيرَك ..توقَّفَ بالسيارةِ على جنبٍ ثمَّ استدارَ إليها بجسده:
اسمعيني قولتلِك اللي حصل إنسيه، وعلشان ترتاحي شبِّهتِك بحد عزيز ماحستشِ بنفسي وخاصة لمَّا شُفتِكو شبه بعض..
التفتَ برأسها تنظرُ للخارجِ بصمت…
أسبوع اخر لم يلتقيا، عاد ذات مساء بيوم ميلاد غادة واسلام، بحث عنها بعينيه لم يجدها اتجه لأخته
-كل سنة وانت طيبة يادودي
-حبيبي ياابيه، ميرسي، فتحت هديته وتعلقت بعنقه
-احلى أخ في الدنيا دا ولا ايه
ذهب ببصره لوقوفها بالحديقة مع أحدهما يتلاعب بخصلاتها مرة، ثبت بصره عليهما ثم تحرك إليهما..لم يشعر بنفسه وهو يجذبه يدفعه على الأرض وهو يراه يقترب منها ليقبلها
خرجَ من ذكرياتهِ على صوتها بعدما وجدها تجلسُ فوقَ الفراش:
الساعة كام ..وضعَ الصندوقَ بمكانهِ وتوقَّفَ مقتربًا منها:
الساعة أربعة العصر، قومي صلِّي العصر..وضعت رأسها على كتفهِ تهمسُ بإرهاقٍ تجلَّى بنبرةِ صوتها:
مش قادرة تعبانة ومرهقة، هنام ولمَّا أقوم ..انحنى ليحملُها ثمَّ اتَّجهَ للداخلِ يساعدُها في الوضوءِ قائلًا:
مينفعشِ تأجلي صلاة، أحبُّ الأعمالِ إلى اللهِ الصلاةُ بأوقاتها ..أغلقَ المياهَ وعادَ يحاوطُ أكتافها..
صلِّي ونامي براحتِك، بعدَ دقائقَ ألقت نفسها على الفراشِ بإسدالِ صلاتها، قامَ بنزعهِ مع إحضارِ قميصَ نومٍ من اللونِ الأسود، ونزعَ ذلكَ الروبِ وساعدها بارتدائه…
ألقت نفسها على الوسادةِ تهمسُ بحبِّه:
بحبَّك أوي ..استندَ بذراعهِ على الوسادةِ يخلِّلُ أناملهِ بخصلاتها، يبحرُ بعينيهِ فوقَ ملامحها مع دقَّاتِ قلبه التي تثبتُ لهُ أنَّها شريانُ نبضهِ في الحياة لا يعلمُ كيفَ وصلت لمرحلةٍ أنًَها أغلى من الروح ..تمدَّدَ بجوارِها واحتضنَ كفَّها يضعهُ تحتَ رأسهِ يهمسُ بنبرةٍ خافتةٍ بصوتهِ الأجش:
"بحبِّك" قالها ليسبحَ بنومٍ عميقٍ لا يشعرُ به سوى بأحضانها..
بعد فترةٍ تململت لتجدَ نفسها فوقَ صدرهِ العريان الذي لأوَّلِ مرَّةٍ تراهُ بتلكَ الهيئة، ظلَّت تحدجهُ للحظاتٍ تهمسُ لنفسها:
نفسي تبقى معايا على طول زي دلوقتي، رفعت رأسها إلى وجههِ تتجوَّلُ بعينيها عليهِ باشتياق، وأناملها تتحرَّكُ بهدوءٍ على ملامحه…
ليه يوم عن يوم حبِّي ليك بيزيد أوي كدا، داعبت وجههِ بأنفها تحتضنُ عنقِه..
إلياس بُعدَك بيعذبِني ماتبعدشِ تاني، قالتها وهي تمرِّرُ أناملها ترسمُ دوائرَ وهمية على صدرهِ ثمَّ استندت برأسها عليهِ تتطلَّعُ إليهِ تودُّ أنَّها لاتغلقُ عيناها أبدًا.
قبلَ قليل:
بأكبرِ المشافي بالقاهرة كانَ جميعُ الأطباءِ في حالةِ ترقبٍ من تشخيصِ حالةِ المريضِ الذي بين أيديهم فاقدَ الحياة، بعدما زأرَ إسحاق بهم…
جلست ملك بالخارجِ بأحضانِ والدتها تبكي:
بابا هيعيش ياماما صح ..نظراتٍ ضائعةٍ بكلِّ الأنحاءِ وهي تتذكَّرُ دخولَ والدتهِ عليه تصيح بحدة ارعبتها:
فاروق ملك مبقاش ليها قُعاد هنا، أنا هسافر انجلترا وهاخدها معايا..
إيه اللي بتقوليه دا ياماما، عايزة تاخدي بنتي مني ...ألقت بعضَ الأوراقِ التي حصلت عليها:
بنتي مش هتقعد مع ابنِ شوارع تاني، شوف مش دي تحاليل مراتَك، شوفت مراتك الزبالة عملت إيه، عيِّشتنا قراطيس، وطلعت مبتخلفشِ ومش بس كدا، لا..دي استأصلِت الرحم، عايز مني أسيب حفيدتي تربيها مع ابنِ الحرام اللي مانعرفشِ جبتُه منين..
دارت الأرضُ تحتَ قدميه، وشعرَ بألمٍ يضربُ صدرهِ بقوَّةٍ كأنَّهُ يتمزَّقُ من شدَّةِ اللطمةِ القوية..رفعَ كفِّهِ محاولًا فتحَ زرَّ قميصهِ وهو يشعرُ بالاختناق، ولكنَّ صوتَ والدته:
أنا تجبلي ابنِ حرام تلاتين سنة وتفهِّمني أنُّه حفيدي، بنتِ الشوارع تضحك عليَّا، والله لأطردُه من البيت وأفضحها بكلِّ مكان، حاولَ أن يتفوَّه، ولكن لسانهِ ثَقُلَ ولم يشعر بفمهِ الذي تعوَّج، ليهوى على الأرضيةِ يمسكُ صدره، هرولت صفية إليهِ ودموعها تحفرُ وجنتيها:
فاروق..لكزتها بعكَّازها:
إبعدي عنُّه ياحيوانة، شوفتي متحملشِ اللي عملتيه فيه..قالتها بدخولِ إسحاق يتحدَّثُ بهاتفهِ ويضحك، ولكنَّهُ توقَّفَ على صوتِ والدته:
إمشي اطلعي برَّة إنتِ وابنِ الحرام..هنا شعرَ وكأنَّ أحدَهم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ البارد، ليشحبَ وجههِ يهمسُ باسمِ أرسلان، صرخت صفية باسمِ زوجها بعدما هوى بكاملِ جسدهِ وازرقَّت شفتاهُ وكأنَّهُ فقدَ الحياة، فاقَ إسحاق من صدمتهِ على ضمَّةِ صفية لزوجها وبكائها:
فاروق ..صرخت بها صرخةً تقشعرُّ لها الأبدان وكأنَّهُ تركها ورحلَ لتصبحَ وحيدةً كطفلٍ يتيمٍ فقدَ والديه.
اقتربَ إسحاق كالمجنونِ بعدما استمعَ ورأى أخيهِ بتلكَ الحالة، يصرخُ بالأمنِ الخارجي أشار إليها:
وصَّلوا ماما للمطار، مش عايز أشوف وش حدِّ فيكم لمَّا أعرف إنَّها وصلت لرحلتها..
إسحاق..نظرةٌ لها لأوَّلِ مرة يحدجُها بها:
أمي، صابر عليكي علشان إنتِ أمي ...قالها واتَّجهَ إلى أخيه، بعدما اتَّصلَ بالاسعافِ وحاولَ بعملِ إسعافاتٍ أوليةٍ لإعادةِ القلبِ للنبضِ مرَّةً أخرى، ضغطةٍ خلفَ ضغطةٍ وهو يصرخُ بصوتٍ أرعبَ الجميع:
فاروق لازم تعيش سمعتني، مش عايز تفرح بابنك ولا تقولِّي مبروك هتبقى عم .. فاروق قالها عدَّةَ مراتٍ مع ضغطهِ لعضلةِ القلبِ بوصولِ سيارةِ الإسعاف ...فاقت من شرودها على خروجِ الأطباء:
حالة غيبوبة منعرفشِ هيفوق إمتى.. قالها الطبيبُ وتحرَّكَ مهرولًا من أمامِ إسحاق الذي وقفَ كالأسدِ الذي يريدُ الانقضاضَ على فريسته ..وصلَ أرسلان مع حديثِ الطبيب ينظرُ بالوجوهِ كأنَّهُ يبحثُ عن والدهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ لعمِّه:
بابا مالُه..سمعت صوتهِ ملك لتهبَّ من مكانها تُلقي نفسها بأحضانه:
بابي تعبان أوي يارسلان..
إهدي ياملوكة، بابا كويس حبيبتي، روحي عند ماما دلوقتي..
أرسلان الدكتور قال غيبوبة ..كانت عيناهُ على إسحاق الذي استندَ على الجدارِ خلفهِ يطالعهُ بعيونٍ حزينة..دفعَ البابَ إلَّا أنَّ الممرضة توقَّفت أمامه:
ممنوع يافندم ..دفعها بقوَّةٍ يُبعدها عنه، ثمَّ دلفَ للداخلِ بأقدامٍ متراخية،يريدُ أن يُطمئنَ قلبهِ أنَّ مايستمعُ إليهِ ماهو سوى ترَّهاتٍ فارغة، والدهِ بصحةٍ جيدة، هو يعلمُ أنَّ والدهِ لن يتركه ..هذا ماصوَّرَ لهُ قلبهِ الضعيف..
توقَّفَ يتطلَّعُ إلى جسدهِ المسجَّى على الفراشِ يوصلُ بهِ بعضُ الأجهزة، سقطت مقاومتهِ ونزلت دمعةٌ عبر وجنتيهِ يشهقُ بصوتٍ كالأطفال:
بابا..قالها متسمِّرًا ولم تقوَ أقدامهِ عن الحركة،هنا فاقَ الوجعُ قوَّةَ الاحتمالِ وهو يريدُ أن يُطلقَ العنانَ لساقيهِ لتصلَ إليهِ كي يلقي نفسهِ بأحضانهِ كطفلٍ عادَ والدهِ بعد فترةِ انقطاعٍ طويلة، ضاقَ صدرهِ وانسابت عبراتهِ يخطو بخطواتِ الطفلِ الذي يتعلَّمُ المشي، وصلَ إلى فراشهِ وجثى بجوارهِ وشهقةٍ خلفَ شقهةٍ ليحتضنَ كفِّهِ يقبِّله:
حبيبي إيه اللي حصل يوصَّلك لكدا؟..
تآذرَ الألمُ بداخلهِ وهو يرى والدهِ لاحولَ لهُ ولا قوَّة..دلفَ إسحاق ..سُكبَ الألمُ داخلهِ حتى كادَ أن يمزِّقَ أوعيته، تدحرجت دمعةٌ غائرةٌ على وجنتيهِ وهو يرى حالةَ أرسلان بتلكَ الطريقة، توقَّفَ وعينيهِ على الذي يجثو على ركبتيهِ بجوارِ أخيه، وهمسٌ مخيفٌ بداخله:
اللي يحاول يقرَّب منَّك همحيه من على وشِّ الأرض، حتى لو أمي نفسها، إنتَ ابنِ روحي قبلِ ماتكون ابنِ أخويا..
هزَّ رأسهِ يهمسُ بفحيحٍ لنفسه:
أرسلان فاروق الجارحي، وعد عليَّا الاسمِ دا يفضل لحد مايتكتِب في شهادة وفاتَك.
أخرجَ تنهيدةً على هيئةِ حممٍ بركانيةٍ كادت أن تحرقَ جوفهِ ورئتيه، تحرَّكَ إلى جلوسه، وضعَ كفِّهِ على كتفهِ يضغطُ عليه:
قوم وإسند نفسَك، إيه الضعف دا، أبوك ربَّى راجل، مش بنت علشان تبكي كدا، قوم ..أخرجها من بينِ شفتيهِ بقهرِ الألمِ الذي يشعرُ بهِ، توقَّفَ مهزوزًا يشيرُ إلى والده:
إيه اللي حصل يوصَّل بابا لكدا ياعمُّو، بابا طول عمرُه صحتُه كويسة..
حاوطَ أكتافهِ وتحرَّكَ للخارج:
مفيش شوية تعب في القلب الصُبح هيفوق، مش واثق من كلام عمَّك يالا، وبعدين من إمتى ضعيف كدا ..هزَّهُ من أكتافه:
اسمعني يالا أنا مكنتش بربيك وأطلَّعك راجل علشان في الآخر تطلع زي البنات تعيَّط كدا، فوق يابنِ فاروق علشان ماضربكشِ على وشَّك..
ألقى نفسهِ بأحضانهِ وارتفعت شهقاتهِ كأنَّهُ لم يبكِ طيلةَ حياتهِ يردفُ من بينِ بكائه:
هموت لو حصلُه حاجة، أنا قصَّرتِ مع بابا ياعمُّو، رميت كلِّ حاجة عليه وجريت ورا طموحي مفكرتِش في أبويا أنُّه لمَّا يكبر له حق عليَّا، خليه يفوق ياعمُّو وأنا أوعدَك مش هسيبُه تاني ..أخرجهُ من أحضانهِ يضمُّ وجههِ بين راحتيه:
اسمعني يارسلان، حبيبي كلِّ واحد مننا بيكون عندُه نقطة ضعف ونقطة قوَّة، أنا عايز نقطة قوِّتِك تبان قدَّام الكل وبس، ونقطة ضعفك دي ماتظهرهاش غير لنفسَك وبس،
إنتَ راجل ودموع الراجل غالية ماتنزلشِ قدَّام حد مهما كانت حالتُه،إرفع راسك وأقف وأصلب نفسك متنساش إنَّك خليفة الجارحي، دلوقتي الخبر هينتشر والكل هتلاقيه جاي، لازم تقابل الكل وإنتَ قوي مش حتة عيِّل ضعيف بيبكي علشان أبوه تعب شوية، إنتَ أرسلان الجارحي تتعامِل على كدا ..همسَ بجواره:
دا ظابط مخابرات، دا إنتَ على حالتك دي مش محصَّل مخبر حتى…
عندَ غرام:
بعدَ خروجهِ توضأت وجلست على مصلَّاها بعد تأديتها ركعتينِ للواحدِ القهَّار تدعو إليه بكلِّ خشوعٍ أن يوفِقهُ اللهُ بدربهِ وينجي والده..قطعَ خلوتها مع الله رنينَ هاتفها، نهضت تحملهُ وأجابت:
بابا حبيبي عامل إيه..
عاملة إيه حبيبة بابا..جلست بمسبحتها وأجابتهُ مبتسمة:
كويسة حبيبي، حضرتَك عامل إيه وزياد عامل إيه؟..
كويس يابنتي بيذاكر جوَّا، تكلِّميه؟..
لا..خلاص حبيبي..حمحمَ متسائلًا:
جوزِك عندِك حبيبتي ولَّا في شغلُه؟..
لا..هوَّ راح المستشفى والدُه تعبان شوية، وعمُّو إسحاق كلمُّه ونزل من ساعة تقريبًا.
نهضَ من مكانهِ مردِّدًا:
لاحولَ ولا قوَّةَ إلَّا باللهِ العلي العظيم..مش المفروض تكوني جنبُه يابنتي..
إزاي بس يابابا، ومحدش يعرَف بجوازنا غير عمُّه..
ماشي يابنتي قولت أطمِّن عليكي، يبقى طمنيني عليه، لو مش خايف حد ياخد بالُه كنت رحت زرتُه..
تفهَّمت حديثهِ وأردفت:
أرسلان عارف كويس بيعمل إيه ..أنهت الحديثَ مع والدها ثمَّ قامت بمهاتفته:
كانَ جالسًا بجوارِ والدتهِ يضمُّها بينَ ذراعيه ..استمعَ لهاتفه، تذكَّرَ أنَّهُ لم يطمئنُها، نهضَ قائلًا:
هرد على التليفون حبيبتي..أومأت لهُ دونَ حديث، تحرَّكَ إلى حديقةِ المشفى وقامَ بمهاتفتها بعدما انقطعَ الرنين:
آسف انشغلت ونسيت أطمنِّك..
همهمت متسائلة:
والدَك عامل إيه..
لسة مفيش جديد، دخل غيبوبة ومحدش قال حاجة..
ألف سلامة عليه، ربنا يقوِّمه بالسلامة إن شاءالله..
صمتت لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ تساءلت:
محتاج حاجة منِّي أعملها..
أيوة ..قالها بنبرةٍ مهزوزةٍ لأوَّلِ مرَّة أمامها، توقَّفت بعدما شعرت بالحزنِ الذي يسكنُ نبرتِه:
إنتَ فين؟..ابعتلي عنوان المستشفى..
إنزلي للسواق هيجيبِك لعندي..قالها وأغلقَ الهاتف ..هرولت للداخلِ بقلبٍ متلهف للوصولِ إليه.. دقائقَ معدودة لم تعلم كيف تجهَّزت وهبطت إلى السيارة، وجدت السائقَ ينتظرُها أمامَ السيارة ..استقلَّت السيارةَ تشعرُ بشيئٍ غريبٍ بداخلها، ودَّت لو أنَّها تمتلكُ أجنحةٍ لتصلَ إليه..استندت على نافذةِ السيارةِ وذهبت بشرودها لتلكَ الليلةِ التي تغيَّرت حياتها بها..
فلاش باك:
شعرت بارتفاعِ حرارتهِ فاتَّجهت تجلبُ إليهِ مبردَ الحرارة ..وضعتهُ فوقَ رأسهِ واستندت على ذراعيها تطالعهُ بحنو، إلى أن غفا، لتضع رأسها بجوارِ رأسهِ وتذهبُ بنومها..بعدَ فترةٍ فتحَ عينيهِ متأوِّهًا، حاولَ الاعتدالَ ولكن شعرَ بثقلٍ فوقَ ذراعهِ السليم..اتَّجهَ برأسهِ وجدَ تلكَ الحوريةِ التي ينفردُ شعرها على الوسادةِ وذراعيه، استدارَ بهدوءٍ يحدُجها بنظراتٍ صامتة، بسطَ أناملهِ يرفعُ شعرها من فوقِ وجهها، ظلَّ يحرِّكُها بهدوء، فتحت عينيها بتململ وكأنَّها تحلُم، استمعت إلى همسه:
لو حد قالي لمَّا تتصاب هتصحى تلاقي ملاك جنبَك كدا كنت دعيت اتصاب من زمان..هبَّت من نومها تعدِّلُ ملابسها، رفعت كفَّيها على خصلاتها، وجدت حجابها سقطَ من فوقِ شعرها..
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ ونهضت تبحثُ عنه ..انحنى يجذبُها من رسغها:
إهدي إنتِ بتعملي إيه، ناسية إنِّك مراتي، يعني من حقِّي أشوف كلِّ حاجة مش شعرِك بس..
رجفةً أصابت جسدها من أنفاسهِ القريبة، حاولت التحدُّثَ إلَّا أنَّها لم تقو..
أقعدي لازم نتكلِّم ..جلست تفركُ كفَّيها، اعتدلَ متأوِّهًا، نهضت مقتربةً منهُ وسندتهُ حتى جلسَ بطريقةٍ مريحة، وهو يتشبثُ بذراعها..
آاااه ..أمسكت دوائهِ وحاوطت كتفهِ ليستندَ عليها:
خُد الدوا فيه مسكنات قوية، رفعَ عينيهِ إلى ذراعها الذي يحاوطُ جلوسهِ حتى يستندُ عليه .. تراجعَ عليها بجسدهِ وكأنَّها أتت إليه كنجاةٍ للغريقِ بعدما فشلَ في إسنادِ نفسه..
رفعت الكوبَ إليهِ وحاوطتهُ بيدها الأخرى على يديهِ وهو يرتشفُ المياه:
بالشفاء إن شاءالله..
بتعملي معايا كدا ليه ..قالها وهو ينظرُ أمامهِ بشرود..
ابتسمت قائلة:
متنساش إنَّك جوزي، واجب عليَّا مساعدتَك..
واجب بس ..استدارت تطالعهُ بنظراتٍ مستفهمة:
يعني إيه ؟!
رفعَ حاجبهِ وابتسم:
ودي براءة ولَّا استهبال؟..
تأفَّفت وأجابتهُ بصوتٍ أجفلُه:
لا، استهبال..زمّّ شفتيهِ على كلماتها يهزُّ رأسهِ مستهزئًا حديثها:
طيِّب ياستِّ المستهبلة، أنا سألت عن جوازنا..
توقَّفت وقطعت حديثه:
أنهي جواز بالظبط ياحضرةِ الظابط؟..
ظابط إيه يختي بعيد الشر، أنا ممكن أكون ظابط الأداء في حاجات تانية..
توسَّعت عيناها ورمقتهُ تسبُّه بهمس:
سامعِك ياستِّ المستهبلة ..منعت ابتسامتها تهزُّ رأسها على حركاته ثمَّ اقتربت منهُ وانحنت تنظرُ إلى وجههِ لأوَّلِ مرَّة:
بس يابتاع الحج متولي إنت، أنا عملت معاك اللي ربِّنا أمر الزوجة بيه
غير كدا متتعشمش..
أتعشِّم، هو إنتِ هبلة يابت، ليه بتحسِّسيني إنِّك أختي الكبيرة وعايزة أقسمِك تركة أبويا ..العشم دا ممكن يكون في طبق بسبوسة بالمكسرات أو كوب آيس كريم بالشوكولا..
انفجرت بالضحكِ تضربُ كفَّيها مبتعدةً عنه:
فعلًا إنتَ ظابط في الأداء ..ظلَّ يطالِعها بعيونٍ لامعةٍ لأوَّلِ مرَّةٍ يرى ضحكاتها وعفويتها ..دقيقتانِ تلهو بحركاتها وضحكاتها وهي تتحدَّثُ ومازالت عيناهُ تخترقُ أفعالها ..توقَّفت عن الحديثِ بعدما وجدت صمتهِ ونظراتهِ إليها ..ارتبكت وتراجعت تجلسُ على المقعدِ بصمت ..قطعَ صمتها:
جوازنا حرام، هبَّت من مكانها:
إنتَ بتقول إيه، الجواز عند مأذون وكمان إشهار، حارتي كلَّها عرفت، أه والدَك مايعرفشِ بس دا ميديش أنه حرام..
جذبَ سيحارتهِ ليشعلها، اقتربت عليهِ سريعًا، تجذبها من فمهِ بعنف:
إنتَ مجنون، إزاي تشرب سجاير قبلِ الأكل وكمان واخد مضاد حيوي..
لحظة هجهزلَك حاجة تاكلها ..قالتها وتحرَّكت…
غرام ..توقَّفت وانتفضَ قلبها وهي تستمعُ إلى اسمها بصوته ..ظلَّت كما هي لم تستطع أن تستديرَ إليه:
أنا مبفطرش، ماليش نفس، تعالي عايز أتكلِّم معاكي في موضوع مهم..
هربت من أمامهِ حينما فشلت في السيطرةِ على رعشةِ قلبها لا تعلمُ مالذي يحدثُ إليها منذُ فترة..
عادت تحملُ بعضَ الطعامِ الذي أحضرهُ إليها قبلَ خروجهِ بالأمس، حتى لا تفتحَ البابَ لأحدٍ بغيابه.
وضعت الطعامَ على الطاولةِ المتحرِّكة،
لازم تاكل أيِّ حاجة علشان معدتَك متتعبشِ من المسكنات..
أومأَ لها حاولَ أن يحرِّكَ ذراعيه ولكنَّهُ تألَّم، قامت بتقطيعِ الطعامِ بأناملها تهربُ من نظراتهِ مردِّدة:
مبعرفشِ أقطع الطعام بالشوكة والسكينة، هينفع تاكل بطريقتي..
رفعَ كفَّها بيديهِ السليمة على فمه:
أممم حلو مش بطَّال، هبَّت من مكانها وابتلعت ريقها بصعوبة هجبلَك عصير ..
استني عندِك، استدارت تطالعهُ..
توقَّفَ وهو يضمُّ ذراعيهِ واقتربَ منها يجذبُ كفَّها:
تعالي لازم نتكلِّم..سحبت كفَّها وجلست مبتعدةً عنه:
سمعاك..جذبَ سيجارتهِ وقامَ بإشعالها ينفثُها بهدوئهِ المعتاد:
الجواز اللي لُه مدَّة محدَّدة باطل، أو محرَّم، علشان كدا يابنتِ الناس أنا سحبت كلمتي واعتبريني ماقولتش حاجة..عايز جوازنا يبقى عادي يعني..
التفتت إليهِ منتظرةً تكملةِ حديثه:
بصي يا غرام أنا مابحبِّش اللف والدوران، راجل دُغري، منكرشِ إنِّك جذبتيني ..تورَّدت وجنتيها، ابتسمَ على براءتها وتابعَ حديثه:
قبل ماتقولي حاجة نجرَّب جوازنا ونشوف هينجح ولَّا لأ، وأنا لسة عند وعدي، مش هقرَّب منِّك غير بأذنِك..
ابتعدت بنظرِها عنه..
توقَّفَ من مكانهِ وجلسَ بجوارها:
أنا قدَّامِك أهو واللي عايزة تسألي فيه وعد هجاوبَك…
اتَّجهت إليهِ متسائلة:
إنتَ اتجوِّزت كام مرة؟..
نفثَ سيجارتهِ وثبَّتَ نظراتهِ على حركاتِ جسدها متمتمًا:
هتفرق لو قولتلِك..
أكيد ..سحبت نفسًا مستطردة:
معرفشِ إيه الحكمة في مقابلتنا أو جوازنا، بس متأكدة إنِّ ربنا له حكمة في كدا بالخير، علشان كدا عايزة أعرف كلِّ حاجة عنَّك، وأولها إحنا بنعمل إيه هنا؟..
بنقضي شهر العسل..
أرسلاااااان..هتفت بها بنبرةٍ منزعجة..
ضحكَ قائلًا:
أحلى أرسلان في الدنيا أسمعها..
هزَّت رأسها تضحكُ عليه:
بتعرَف تغيَّر مود الواحد..
بجد، يعني يجي منِّي ...قطبت جبينها:
يعني إيه ...انحنى بجسدهِ واقتربَ منها غامزًا:
يعني هعرف أصالحِك لمَّا أضايقِك..
ابتعدت برأسها عنه:
إنتَ مشكلة والله
- حلِّيها..
-أحلِّ إيه !!..أفلتَ ضحكةً مرتفعةً وتوقَّف:
لا خام خام يعني ...توقَّفت متذمرةً من ردِّة فعله:
بتضحك على إيه ..توقّّفَ عن ضحكاتهِ يشيرُ بيديه:
خلاص خلاص..خطت للخارجِ تسبُّه، خرجَ خلفها يجذبُ ذراعها:
استنى يابنتي، ماتبقيش قفوشة..
دفعتهُ بقوَّةٍ بذراعهِ المجروح ، ليغلقَ عينيهِ من الألمِ شعرت بهِ فاقتربت متأسفة:
آسفة والله مقصُدش..أشارَ بيديه:
خلاص حصل خير، قالها وهو يضمُّ ذراعهِ مبتعدًا إلى الأريكة، تحرَّكت خلفهِ وجلست بجوارهِ بعدما أحضرت لهُ بعضَ الأدويةِ التي تُوضعُ على الجرح ..فكَّت رباطه، وأزاحت مايُضَّمدُ به..شهقةً خرجت من فمها بعدما رأته متسائلة:
-من إيه دا..؟!
تراجعَ برأسهِ يستندُ على الأريكةِ وهي ترفعُ ذراعهِ لتضعَ بعضَ الأدوية عليه،
أطبقَ على جفنيهِ بقوَّةٍ وكأنَّ هذه الطعنة مزَّقت عظامَ ذراعه..
ملَّست على الجرحِ بحنانٍ ونظرت إليهِ بأسى:
-بيوجَعك أوي صح ..هزَّ رأسهِ دونَ حديث:
آسفة..تمتمت بها بخفوتٍ وتجلَّى على ملامحها الحزن..
أشارَ إليها للجانبِ الآخر:
تعالي هنا، نهضت ظنًا أنَّهُ يريدها بأمرٍ ما، تفاجأت يجذبُ رأسها يضمُّها تحت ذراعه:
أنا متجوزتش قبل كدا، وجوزاي منِّك كان ضروري علشان أعرف أدخل المبنى دا، دي أسرار مينفعشِ أتكلِّم فيها، وطبعًا مينفعشِ أتجوِّز أي حد، وكمان مش من طبعي أرافق أيِّ بنت عندي حدود ربنا في الأوِّل ..ثانيًا عمِّي اللي رشَّحِك من بعد أوِّل مرَّة اتقابلنا فيها وهوَّ اللي يعرف عنِّك أكتر منِّي، وواثق فيكي جدًا، معرفشِ على أساس إيه خلاني آخد الخطوة دي، حقيقي اتجوزتِِك علشان كدا، وماليش أي علاقات تانية، وبعد جوازنا سمعت بالُصدفة إن الجواز المشروط حرام..كدا كدا أنا خلَّصت مهمتي، وممكن ترجعي لحياتِك، بس انا ميرضنيش حدِّ يتكلِّم عليكي وخاصةً الكل عرف في شُغلك إنِّك اتجوزتي، غير طبعًا أهلِك..
كانت تستمعُ إليهِ ولا تعلم ماذا يقول، كل ماتشعرُ به حنانهِ ودفئهِ من خلالِ حضنه، عيناها على حركاتِ وجههِ من حديثه، حانت منه التفاتةً إليها وجدها تحدجهُ بتدقيق، توقَّفَ عن الحديث وتعلَّقت أعينهم ببعضها للحظاتٍ ربَّما دقائق، انحنى برأسهِ عندما شعرَ بارتجافِ شفتيها أو هكذا خُِّيلَ له..
أغمضت عينيها وارتفعت دقَّاتهِ حينما شعرت بأنفاسهِ الحارة على وجهها، ارتعشَ جسدها بالكاملِ وهو يحاوطُ جسدها بذراعهِ ودنا لتختلطَ الأنفاسُ يهمس:
تعالي نجرَّب حياتنا مع بعض، قالها وتعلَّقت عيناهُ بعينيها التي فتحتها بعد همسهِ باسمها:
-غرام ..موافقة نكمِّل حياتنا مع بعض؟..
صمتت ولكن مازالت العيونُ متعلِّقة،
لمسَ بخاصَّتهِ وجنتها، مع طرقاتٍ على بابِ جناحهم، لتهبَّ من مكانها فزعةً مع تورُّدِ وجنتيها لتشعرَ وكأنَّها أمامَ موقدٍ من النيرانِ من شدَّةِ حرارةِ ماشعرت به..
خرجت من ذكرياتها على صوتِ السائق:
وصلنا يا هانم..ترجلَّت من السيارة، تنظرُ حولها تسألُ السائق:
ليه جبتنا من هنا، هو دا باب المستشفى؟..أجابها معنديش معلومات ياهانم.. الباشا قال أنزلِّك هنا، قالها وتراجعَ بالسيارةِ لوجهته، التفتتَ حولها وأتت لترفعَ هاتفها تكلِّمَهُ وجدتهُ يقتربَ منها، يتحرَّكُ بخطواتٍ ثقيلةٍ هرولت إليه:
أرسلان ...ألقى نفسهِ بأحضانها دون حديثٍ آخر ..حاوطت خصرهِ تضمُّه بقوَّة:
إن شاء الله هيقوم بالسلامة..تحرَّكَ يجذبُ كفَّها متَّجهًا إلى مكانٍ هادئٍ بالحديقة، بعدما أوصى أحدَ المسعفين بوضعِ أحدِ المقاعدَ المنفردة بذلكَ الركنِ المظلمِ الهادئ..
أجلسها وتمدَّدَ على ذلكَ المقعدِ الذي يشبهُ الأريكة يتوسَّدُ ساقيها:
تعبان أوي عايز أرتاح وبس..خلَّلت أناملها بخصلاته، وانحنت تطبعُ قبلةً على جبينه:
ارتاح..إنسى أيِّ حاجة وريَّح دماغك، وخلِّي عندك ثقة بربِّنا إنَّ بعدَ العسرِ يسر، أنا معاك مش هسيبَك غير لمَّا تقولِّي إمشي..
احتضنَ كفَّيها وأغلقَ عينيهِ يهمسُ بإرهاق:
ربنا يخليكي ليَّا ياأحسن حاجة حصلتلي..
بمنزلِ زين الرفاعي:
تصدحُ أغاني الأفراحِ بالمنزل، وتقوم الفتياتُ بالرقص، انتهت العروس من زينتها مع طرقاتِ أخيها على بابِ غرفتها، دلفَ كرم يُطلقُ صفيرًا:
حبيبة أخوها الصغيرة اللي بقت أجمل عروسة..
هرولت إليهِ تهمسُ باشتياق:
-كرم ..رجعتِ إمتى؟..
ضمَّها يدورُ بها وارتفعت ضحكاته:
من ساعة بس، آدم كلِّمني من يومين، أمسكَ كفَّها يلفَّها منبهرًا:
إيه الجمال دا ياروحي، لا…كدا لازم الواد آدم يدفع كتير..
دفنت وجهها بصدرِ أخيها خجلةً وتحدَّثت:
-وحشتني أوي، معرفشِ ليه مصر على البحرِ الأحمر، مصر مليانة مستشفيات.
قوَّسَ ذراعه:
يالَّه ياعروسة علشان العريس منتظر على نار وبعدين نتكلِّم..
هبطت بجوارِ أخيها مع ابتسامتها التي يتدفَّقُ من خلالها الحب بكلِّ ماتشعرُ به الآن، فاليومَ أخيرًا سوفَ تُزفُ لمتيمَ الروح..
وصلت إلى أسفلِ الدرجِ لفارسها الهُمام الذي ينتظرها بحلَّتهِ البيضاء ..ظلَّ يحرِّكُ عينيهِ على جسدها بالكامل، فتاة وضعَ اللهُ بها من الجمالِ مايجعلُها محطَّ أنظارٍ لدقَّاتِ القلوب ..من خصلاتها البنيَّةِ المموَّجةِ وعينيها التي تتلَّونُ حسبَ حالتها ولا يعلمُ أحدٌ بالتحديدِ لونها، نعم فهي فتاةُ العائلةِ الجميلةِ المدلَّلةِ لفظًا وليسَ حظًّا..
وصلت إلى عاشقِ الروحِ الذي تلقًّاها من أخيها بابتسامتهِ المشرقةِ وعينيهِ اللامعة، لا يعلمُ لماذا يشعر بكمِّ هذهِ الفرحة ..طبعَ قبلةً حنونةً على جبينها:
ألف مبروك ياإيلي..
احمرَّت وجنتاها خجلًا لتنظرَ إلى الأرضٍ مبتعدةً عن نظراته، انحنى يهمسُ إليها:
حلوة الأرض..لو أحسن منِّي تمام ...رفعت عينيها سريعًا إليهِ ليضمَّ كفَّها الناعمَ بين كفِّهِ الغليظ ويتحرَّكَ مع الموسيقى ليصلَ إلى مكانهم المخصَّص..دلفت رحيل تجاورُ يزن الذي يتابعُ الحفلَ بإعجاب:
خالِك باين عليه تقيل ..ابتسمت ثمَّ بسطت كفَّها:
موافق ترافقني بالحفل، علشان أبعد عن كلِّ اللي يحاول يستفزِّني ..ابتسمَ يبسطُ كفِّهِ بكفِّها ويتحرَّكُ بجوارِها بعدما لمحَ طارق بجوارِ مها حيثُ كانا يقفانِ بالقربِ من زين..
وصلت حيثُ وقوفهم:
خالو وحشتني ..ضمَّها زين وعينيهِ على يزن الذي يطالعُ زين بصمت…
فهمت رحيل نظراتُ زين فجذبت يزن من كفِّه:
الباشمهندس يزن شريكي في الأجنس ياخالو..
كانت مها تقفُ بجوارِ طارق الذي لمحَ دلوفَ يزن مع رحيل، وتابعهُ بعينيه:
أنا عايزة فرح زي دا ياطارق، لم يستمع إليها، فاحتضنت ذراعهِ بعدما وجدت صمته:
طارق مابتردِّش ليه، قالتها وهي تنظرُ للذي ينظرُ إليه..صدمة جعلتها لم تستطع الوقوفَ حينما شعرت وكأنَّ أحدَهم لطمها على وجهها بقوَّةٍ وهي ترى يزن بجوارِ تلك الفتاةِ الشقراء ويتحدَّثُ بضحكاتٍ كأنَّهما يعرفانِ بعضهما البعض منذُ سنوات..
حانت منهُ نظرةً تجاههما، مع التفاتِ راحيل إليهِ لتصطدمَ بهِ فيحاوطُ خصرها كي لا تسقط، مشهد جعلَ نيرانَ مها تزدادُ بداخلها، لتجعلها كتلةً ناريةً أوشكت على الانفجار، ولا يختلفُ الأمرَ لدى طارق، لمحت رانيا مشهدَ يزن ورحيل لتقتربَ متسائلة:
مين الواد اللي مع رحيل دا؟..
ألقى سيجارتهِ يدعسُ عليها قائلًا وهو يقتربُ منهما:
دا واحد جاي لقدرُه..وصلَ إليهما فاقتربَ من رحيل:
إزيك يابنتِ خالتي ...استغربَ يزن صلةَ القرابةِ بينهما بتصنع ليهتف:
دا قريبك!،،ابتسمت بمجاملةٍ لطارق:
أهلًا طارق عامل إيه..
كويس قالها وهو يرمقُ يزن بنظراتٍ يودُّ أن يلقيهِ صريعًا بها..
ظلَّت راحيل بالحفلِ لبعض ِالوقتِ تتنقَّلُ بينَ الأقارب، بينما جلسَ يزن يشاهدُ الجميعَ بأعينٍ ثاقبة، التفتَ للخلفِ بعدما استمعَ إلى صوتها:
مش عيب تقلِّ بأصلك وتطاردني يايزن..
ضيَّقَ مابينَ حاجبيه:
أطاردِك !..ليه إنتِ مين علشان أشيلِك من أرضِك..نصبَ عودهِ وتوقَّفَ بعدما وجدَ طارق متَّجهًا إليهما:
- أنا رميتِك من يوم ماخنتيني، ولو أعرف إنِّك موجودة هنا مكنتش جيت، مش علشان حاجة...تؤ، علشان بس مش عايز أفتكر أسوأ مرحلة بحياتي، وأندم على الوقتِ اللي الشيطان استغلِّني فيه وضيَّعتُه مع الخاينين ..وصلَ طارق يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
بتعملوا إيه؟..
ربتَ بقوَّةٍ على كتفِ طارق يرمقُ الأخرى باستهزاء:
- شكلَك مش مالي عينها فبتجري ورايا، لمَّها دا لو قدرِت ..التفتَ إليهِ سريعًا وهو يرفعُ كفِّهِ ليصفعَه، ولكن أطبقَ على كفِّهِ يزن:
- ولا ...فوق دا أنا أدفنَك في صندوق زبالة، ولا عاش ولا اتخلَق اللي يمدِّ إيده على يزن السوهاجي، قالها وهو يدفعهُ بقوَّةٍ ليسقطَ على الأرضِ أمامَ الجميعِ في حالةٍ ذهولٍ من البعض، ليحدثَ همهماتٍ مرتفعةٍ من الجميعِ بدخولِ راجح الذي شاهدَ سقوطَ ابنهِ ليقتربَ من يزن كقابضِ الأرواح:
إنتَ مين يالا علشان تعمل في طارق الشافعي كدا ..لم يشعر يزن بمسكةِ راجح إليه، ولم يشعر ولم يستمع سوى لبكاءِ والدتهِ وهي تقصُّ إليهِ مأساتها معه، نعم ذلكَ الرجلَ صاحبَ الصورةِ مع تغيُّرِ ملامحِ السن ..صفعةً قويةً على وجههِ من راجح يهزُّ يزن هادرًا بغضب:
اعتذر لسيدَك يالا...شهقاتٍ خرجت من الجميعِ وحدثَ هرجٌ ومرجٌ بقاعةِ الزفاف ..بينما توقَّفَ يزن مصدومًا محاولًا استيعابَ ماحدثَ أمامَ الجميع، اقتربت راحيل:
إيه اللي عملته حضرتَك ياعمُّو، توقَّفت بينهم تضمُّ ذراعَ يزن:
يزن عمُّو راجح مايقصدشِ، أكيد فهم الموضوع بالغلط..
راجح ..راجح ..ظلَّت الكلمة بأذنهِ كصدى صوتٍ مؤذي ليخترقَ سمعه، أبعدَ راحيل واقتربَ من راجح:
مطلعشِ ابنك بس اللي مايعرفشِ قيم وأخلاق الرجَّالة، باين هوَّ معذور علشان ملقاش الرجولة عند باباه
رفعَ راجح كفِّهِ ليلطمهُ مرَّةً أخرى،
ليمسكَ يدهِ يضغطُ عليها بعنفٍ وصورةِ والدتهِ وصوتِ بكائها أمامَ عينيهِ وكأنَّ هذا الرجلَ سببَ مأساتها..
همسَ بفحيحٍ أعمى:
أوَّل مرَّة أخدتني على خوانة، ظنًّا منِّي إنِّي واقف قدَّام راجل، بس من طبعِ الرجالة الصح الأمان مش الغدرِ والخيانة..قالها وابتعدَ يلتفتُ إلى راحيل وزين:
آسف بس مش طبعي أسكت عن اللي يقلِّ منِّي..قالها وتحرَّكَ للخارجِ سريعًا لتهرولَ رحيل خلفه..
كانت نظرات راجح النارية تتابع خروجه،ثم رفع هاتفه لأحدهم
-الواد اللي هيخرج مع رحيل عايزك تجبلي حياته، وانتظر مني الأمر
طالعت رانيا طارق بغضب، ثم حدجت راجح وهتفت بحدة
-يارب ابنك الغبي يرتاح ، شوفت البت كانت هتموت عليه ازاي، اهو جه يكوش على كل حاجة، على الله ابنك يرتاح
بعدَ فترةٍ انتهى حفلُ الزفافِ الذي شعرَ البعضُ به بالسعادةِ والآخرُ بالحزنِ والألمِ وآخر يخطِّطُ تخطيطَ الشياطين..
وصلت العروس لجناحها الخاص مع أختها بعدما اعتذرَ آدم لعملِ شيئٍ مهم..
قبَّلتها مريم:
ليلة سعيدة حبيبتي، خلِّيكي بفستانِك لمَّا عريسِك يجي ..أومأت لها فتحرَّكت مريم للخارج..
كعصفورٍ صغيرِ يشقشقُ فرحًا ببزوغِ نهارٍ جديد، جلست تملِّسُ على ثيابهِ مرَّةً وعلى فراشهما مرَّة.. تبني أحلامًا وردية ..لما لا واليومَ حياةٌ جديدةٌ مرتسمةً بنبضِ قلبها الذي تمنَّتهُ عبر السنين ..أخيرًا ستنالُ السعادةَ بحضرته، صبرت وصبرت إلى أن تُوِّجت باسمه، ابتسامةٌ عذبةٌ فوقَ ملامحها تنظرُ لنفسها بالمرآةِ نظرةً أخيرةً قبلَ دلوفه..كانت كالأميرةِ بفستانِ زفافها ....مرَّت عدَّةُ دقائقَ ودلفَ فارسها المغوار ..تحرَّكَ إلى جلوسها ورغم تحرُّكِه الهادئ إلَّا أنَّها شعرت بتضاعفِ نبضِ قلبها..
سحبَ نفسًا يزفرهُ بهدوءٍ يناظِرها بنظراتٍ متردِّدة، لايريدُ انطفاءَ بريقَ عينيها اللامعةِ ولكن كيفَ لهُ أن يتعايشَ مع تلكَ الحياة التي أُجبرَ عليها، هو ليس بالضعيف، بل رجلٌ صلبٌ قويٌّ لاينهزمُ أبدًا مهما تعثَّرت ظروفه، إلا أنَّهُ لن يصمدَ أمامها ويحطِّمَ قيودها ،ولكن هناكَ ما جعلهُ يخضعُ رغمًا عنه..
حمحمَ مردِّدًا اسمها ..فرفعت بريقَ عينيها اللامعَ الممزوجِ بلونِ البندق والعسل، لونها كلونِ لمعةِ بذورِ القمح، مع تغيُّراتهِ لبعضِ الأوقات ..ظلَّ للحظاتٍ غارقًا بلونِ عينيها ..فابتعدَ بنظرهِ سريعًا بعدما وجدَ ابتسامتها تنيرُ وجهها ليصبحَ كقمرٍ يلمعُ بألفِ فضاء، فتاةٌ رقيقةٌ أخذت من الرِّقةِ عنوانها ، ومنَ الأنثى متعةَ ملامحها..
أخرجَ سجائرهِ يهربُ من مواجهةِ القدر، وبدأ بإشعالها، لايعلمُ لماذا شعرَ أنَّهُ يريدُ إحراقَ صدرهِ بتلكَ اللحظةِ لإخراجِ غضبهِ بها…
اقتربت تربتُ على كتفهِ مردَّدةً اسمه:
آدم مالَك فيه إيه.. وبعدين مش عيب تبقى دكتور وتنصح مرضاك بالبعدِ عن التدخين وإنتَ بدخَّن، لازم نتِّفق أنا مبحبش ريحة السجاير، معرفشِ إيه اللي حبِّبك فيها ..علشان خاطري حاول تبطَّلها.
صدمةٌ قويةٌ نالت منهُ، هنا فاقَ الألمُ حدودهِ وشعرَ بأنَّ الكونَ يدورُ به ..جاهدَ بإخفاءِ اعتصارِ أضلعه، ولكن خانتهُ حالتها ليردفَ بهدوء :
عايزِك تتأكِّدي أنا حاولت أحافظ عليكي إنتِ ومريم من مرات أبوكي غير الطريقة دي ملقتش، متزعليش منِّي، بس أنا انجبرت مكنشِ قدَّامي حل غير دا..
زوت مابينَ حاجبيها تطالعهُ باستفهام :
أنا مش فاهمة قصدَك إيه؟!..
نصبَ قامتهِ القويَّة يسحبُ كفَّها متَّجهًا إلى الأريكةِ وأجلسها بجواره:
اسمعيني للأخر، أنا عارف إنِّك عاقلة وهتقدَّري موقفي وتعرفي أنا عملتِ كدا ليه، أوَّل حاجة علشانِك إنتِ ومريم..
ممكن تدخل في الموضوع..
أنا متجوِّز في النمسا ياإيلين، ومقدرشِ أخدعك، لازم تعرفي كلِّ حاجة قبل مانبدأ حياتنا، اتجوِّزت واحدة اتعرَّفت عليها وحبيتها، واتجوِّزتها قبلِ ما أنزل مصر بشهرين، جوازي منِّك انجبرت عليه، لازم تعرفي.. حاولت أفهِّمك بس...
سلَّطت عيناها عليهِ بقوَّةٍ، تريدُ أن تتأكَّدَ ممَّا ألقاه..هل خُيِّلَ لها ..هزَّت رأسها رافضةً مااستمعت إليه ..لا، أنا بس من تعبِ اليوم بقيت أتخيَّل حاجات ..
تجمَّعت سحبُ عيناها تحتَ جفونها فأغمضت عيونها لتسيطرَ على دموعها، ناهيكَ عن الرجفةِ التي اعترت صدرها عندما تابعَ حديثه:
صدَّقيني حاولت أرفض بس ..فتحت عيناها وألمًا ينخرُ ضلوعها لتهتفَ بقوَّةٍ لا تعلمُ من أينَ اكتسبتها:
بس إيه يادكتور، إيه طفل وخالو هدَّدك ..ولا أيكونشِ قالَّك هغضب عليك ولا إنتَ ابني ولا أعرفك…
استدارت إليهِ بنظراتها التي شعرَ وكأنَّها كأسهمٍ ناريةٍ تخترقُ صدره:
مش عيب تبقى دكتور طويل عريض ويجبروك بالجواز، طيِّب كنت اتجرَّأ وقولِّي وأنا كنت وقَّفت الجوازة دي ...لأوَّلِ مرَّة يشعرُ بالضعفِ ولا يجدُ مايصيغهُ من الحروفِ ليسكنَ حزنها الذي ظهرَ بمقلتيها التي يزيِّنها كُحلها الفاحمِ ليجعلَ عينيها كمغناطيس ..اقتربَ منها وحاولَ تهدئتها إلَّا أنَّها رفعت
كفَّيها وقامت بنزعِ طرحةِ زفافها تُلقيها على الأرض، ثمَّ تحرَّكَت تدوسُ عليها بأقدامها إلى أن وصلت إلى بابِ الغرفةِ تفتحه:
اطلع برَّة مش عايزة أشوف وشَّك تاني .. تسمَّرَ بجسدهِ ولم يعد لديهِ القدرة على التحكُّمِ بغضبها البائن فنهضَ من مكانه مقتربًا منها:
لازم تسمعيني ..قاطعتهُ هادرةً بعنفٍ تشيرُ للخارج:
برَّة.. إنزل قولُّهم أنا طلَّقت العروسة..
برقت عيناهُ يطالعُها بذهولٍ لما استمع:
إنتِ اتجننتي!!..عايزة الناس تاكل وشِّنا ويطلَّعوكي معيوبة!…
تشابكت عيناها بسوادِ عينيهِ ولم يرفَّ لها جفنًا وقالت بقوَّة:
أه ..خلِّيهم يقولوا معيوبة، أهون عليَّا لمَّا أعيش بلا كرامة قدَّام نفسي..
قبضَ على أكتافها وهدرَ بها:
متبقيش مجنونة، خلِّي الليلة تعدِّي ..صواعق بدأت تضربُ عقلها وقلبها معًا من ذاكَ الخائنِ كما وصفتهُ قائلة:
وأنا بقولَّك طلَّقني والليلة يادكتور، ولو مطلقتنيش هنزل تحت وهفضحك، فخلِّي عندَك كرامة وطلَّقني..
هاجَ صدرهِ بنيرانِ الغضبِ وهتف:
أنا مش هرد عليكي مراعاةً لظروفِك، بس نسيتي حاجة يابنتِ عمتي أنا أوِّل مارجعت من السفر قولتلِك أنا مستحيل أتجوِّز وأستقر في مصر..الغلط مش عندي، ودلوقتي إحنا اتحطِّينا تحتِ أمر لا مفرَّ منه، لازم تتعاملي مع الوضعِ دا لحدِّ ما أشوف آخرة باباكي إيه..
تآذر غضبها المحمومُ الذي كادَ أن يندلعَ من قلبها من حبيبِ عمرها لحديثهِ المهينُ لكرامتها فثبَّتت عيناها بقوَّةٍ بمقلتيه هاتفةً بصوتٍ كالرعدِ زلزلَ كيانه:
وأنا بقولَّك طلَّقني..
بحركةٍ قاسيةٍ جذبها من خصرها يقيِّدها بينَ ذراعيه:
صوت يابنتِ عمِّتي، لسانِك هقطعه، مش علشان بكلمِّك بهدوء تعلِّي صوتِك عليَّا أنا ..
أزاحت يديهِ بقوةٍ تخرجُ من قبضتهِ ثمَّ تحرَّكت للأسفلِ سريعًا، وهي تهتُف:
أنا مستحيل أفضل دقيقة واحدة على ذمِّة راجل زيك.. تحرَّكَ خلفها، هبطت للأسفلِ حيثُ منزلِ خالها، وصاحت بغضبٍ باسمِ خالها ممَّا أخرجَ الجميعُ من غرفةِ المعيشة ..
عندَ إلياس:
باليومِ التالي عادَ من عملهِ وصعدَ إلى غرفتهِ بإرهاق، دلفَ فتسمَّرَ بوقوفهِ وهو يرى تزيينَ الغرفة، ورائحتها الخلَّابة، مع طاولةٍ دائريةٍ يُوضعُ عليها أصنافًا من الطعام ..خطا يبحثُ عنها، خرجت من غرفةِ الملابسِ ترتدي تلكَ المنامةِ التي أذهبت ثباتهِ ليقتربَ إليها وعينيهِ تتجوَّلُ على ملامحها الأنثوية:
دا إيه المفاجأة الحلوة دي، أوعي تعملي زي الستات الهبل وتبقي عاملة كدا علشان عايزة طلب..
لكمتهُ بصدرهِ وهتفت بنبرةٍ مستاءة:
وكمان نسيت أنا عاملة كدا ليه، قامَ بنزعِ جاكيتَ بذلتهِ وألقاها بإهمال:
أهو زي ماقولت، دارَ بكفَّيهِ وعينيهِ بالغرفة، إلى أن توقَّفَ على تلكَ الورودِ الموضوعةِ على الفراش ..استدارَ يشيرُ إليها:
إيه شغلِ المراهقين دا، ورود على السرير، زارعة حديقة على السرير..قالها وهو يجذبُ مفرشهِ يلقيهِ على الأرض:
ميرال مبحبش شغلِ البيئة دا، قالها ودلفَ للداخلِ ينزعُ ثيابه، هوت على مقعدِ طاولةِ الطعامِ دونَ حديثٍ فلقد كسرَ فرحتها بعيدِ ميلادها الأوَّل وهي زوجته، ضغطت على شفتيها كي لا تبكي، وفعلت مثلما أقنعها قبلَ ذلك..
نظرَ لجلوسها بتلكَ الهيئةِ وشعرَ بالحزنِ عليها، جذبَ المقعدَ وجلسَ بجوارها يضمُّها لصدره:
متزعليش منِّي، بس بجد أكتر حاجة بكرهها شغلِ المراهقين دا، وإنتِ عارفة وأنا مبحبش الورد، تقومي تُحطِّيه على السرير، نظرَ للطعامِ يشيرُ إليه:
عاملة أكل وجيباه هنا ليه، كشفَ الأغطية ينظرُ إليه متسائلًا:
إيه دا ..نسيَت ما فعلهُ بها، فأشارت مبتسمة:
محشي وفراخ وحمام ..انكمشت ملامحهِ ينظرُ للطعامِ مشمئزًّا يردِّد:
فراخ ومحشي الساعة سبعة بالليل!..
وكمان في الأوضة، هقول إيه يعني بعد حديقةِ الزهور بتاعةِ السرير، فعادي أنتظر منِّك الأصعب..
أمسكت الشوكةَ تضعُ بعضَ المحشي بفمِها مستلذَّةً بطعمها:
أممم، الله الله ..طيِّب دوق، دا أنا وقفت مع أنطي أمينة وحطِّيت البهارات عليه يعني تعبت..
أغمضَ عينيهِ وشعرَ بالنفورِ من رائحته:
ياربي البتِّ دي أموتِها ولَّا أعمل إيه، يعني أنا مابكلشِ الرز تجبلي محشي وكمان بالليل…
كتمت ابتسامتها وهي تستمعُ إلى حديثه، رفعت الشوكةَ مرَّةً أخرى تلوكُ الطعامَ باستمتاع..
بااااااس بتحسِّسيني إنِّك بتاكلي سلطة، بالرَّاحة ياماما إحنا بالليل وهتتخني، ثمَّ أشارَ إلى جسدها:
وإنتِ مش ناقصة..هبَّت من مكانها تصرخُ بوجههِ بنبرةٍ غاضبة:
دا اللي ربنا قدَّرك عليه، يعني مش كفاية ناسي عيد ميلادي..لا، عمَّال تسمَّعني كلام يوجِع قلبي..
طرقَ على طاولةِ الطعامِ بقوَّةٍ رافعًا رأسهِ يرمُقها بنظراتٍ غاضبة وهدر بها بحدة اجفلتها:
صوتِك يامدام، صوتِك بقى أعلى من صوتي، إيه نسيتي نفسِك..
ألقت الشوكةَ على الطاولةِ وتحرَّكت للحمَّامِ دونَ حديثٍ آخر..
تعالت أنفاسهِ وشعرَ وكأنَّها أشواكًا تخربشُ رئتيه، كيفَ لهُ أن ينسى يومَ ميلادها، نظرَ لهاتفهِ وجدهُ صامتًا، نعم لقد وصلهُ إشعار ولكنَّهُ لم يراه ..نهضَ متَّجهًا إلى الشرفةِ وقامَ بمهاتفةِ أحدِهم لبعضِ الدقائقَ ثمَّ خطا إليها وجدها تجلسُ بجوارِ حوضِ الاستحمامِ تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهمية، أمالَ بجسدهِ يرفعها ثمَّ وصلَ إلى الحوضِ وقامَ بغسلِ فمها مع كفَّيها ليجففهما بعد الانتهاء..
حاوطَ خصرها وتحرَّكَ للخارجِ متَّجهًا إلى خزانةِ الملابسِ ينظرُ بين فساتينها إلى أن وقعت عيناهُ على ذلكَ الفستانِ الأزرق، جذبهُ بطاعةٍ منها وهي تقفُ حائرةً لما يفعلُه، نزعَ حمَّالةَ منامتها ليهبطَ لأسفلِ قدميها بحركةٍ سريعةٍ منهُ خجلٍت من حركته، تضمُّ جسدها بكفَّيها، تابعَ مايفعلهُ قائلًا بنبرة جامدة:
بدَّاري إيه، دا أنا حافظ كلِّ حتَّة أكتر منِّك، إلبسي وبطِّلي الغباء اللي إنتِ فيه..دفعتهُ غاضبة،
-ايه البرود دا ياخي اللي تعدمه يارب
ضمَّها مقهقهًا عليها، ليزدادَ غضبها وحنقها منه،
-ياربي على الألفاظ البيئة بتاعتك صحفية ايه دي
-وسع انا زعلانة منك وهخاصمك قبلةً عاشقةً بجوارِ شفتيها:
إجهزي هنخرج مشوار، أنا هدخل ألبس في مكان تاني قدَّامك عشر دقايق..توقفت معترضة
-مش عايزة أخرج..أشار بسبباته يشير للساعة
-عدى دقيقة من العشرة ياله
بعدَ دقائقَ معدودةٍ كانت تطوِّقُ ذراعهِ وتهبطَ للأسفلِ، قابلهُ مصطفى يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
على فين العزم ياحبايبي؟..
-رحلة قصيرة ليومين ياحضرةِ اللوا، ظبَّط غياب ابنك...قالها وتحرَّكَ يسحبُ ميرال التي تردِّدُ حديثه:
فسحة ليومين إزاي؟..
-ربنا يسعدُكم حبيبي..وصلَ بعدَ قليلٍ لمطارِ القاهرة، نظرت حولها بجهل:
إحنا مسافرين!..خلَّلَ أناملهِ بكفِّها بعدما ترجَّلَ من السيارةِ وتحرَّكَ متَّجهًا إلى طائرةٍ خاصةٍ ستقلعُ بهم لوجهتِهم.
بعد ساعاتٍ وصلوا لذاكَ المكانِ الذي يُعتبرُ جزيرة بوسطِ البحرِ بأحدِ الأماكنِ الإندوسية..وصلا إلى ذاكَ الشاليه الذي حجزهُ منذُ ساعاتٍ لاحتفالهِ الخاص على طريقتهِ بعيدِ ميلادها، دلفَ للداخلِ مع ذلكَ العامل الذي يشيرُ إليهِ على كافَّةِ التجهيزاتِ متسائلًا:
هل لديكَ شيئًا آخر تريدُه:
أشكرك..غادرَ الرجل، بينما هي التي توقَّفت بالخارجِ تنظرُ إلى المكانِ حولها بانبهارٍ على تلكَ الجزيرة، سحبَ كفَّها للداخلِ مع إغلاقِ الإضاءةِ ولم يترك سوى شمعةً واحدةً بأحدِ الأركانِ ليصلَ لكعكةِ عيدِ ميلادها المعدَّةِ بالطريقة التي تعشقها ..احتضنت ذراعيه:
إنتَ ليه طافي النور، مفكَّر نفسَك في مصر، دي جزيرة ممكن يخرُج منها ثعبان ..توقَّفت أمامَ أحدِ الطاولاتِ التي تُوضعُ عليها كعكةِ عيدِ الميلاد، ليشعلَ شمعةً واحدةً ويتَّجهَ إليها يحتضنُها بعينيه:
كلِّ سنة وإنتِ طيِّبة ياميرو ..نظرت حولها بذهولٍ مع تساقطِ الورودُ الحمراءُ التي تعشقها، ابتعدَ عنها حينما وجدها تضعُ كفَّيها على فمها ودرات بفستانها مع الورود التي تساقطت حينما أشعلَ الشمعة، لمعت عيناها بالسعادةِ وكأنَّها لم تفرح من قبل...هرولت إليهِ تُلقي نفسها بأحضانهِ ليرفعها من خصرها يدفنُ أنفاسهِ بعنقها يقبِّله:
كلِّ سنة وإنتِ دايمًا سعيدة ..اعتدلت تعانقُ عينيه:
كلِّ سنة وإنتَ حبيبي وفي حضني، لمست وجنتيهِ واقتربت تطبعُ قبلةً عليها:
بحبَّك أوي ياإلياس، أووووووي..
ضمَّها لصدرهِ وأغمضَ عينيهِ يشعرُ بالسعادةِ لسعادتها، ثمَّ تحرَّكَ بها وهي مازالت بأحضانه:
طفِّي الشمعة ..أشارت بكفَّيها:
شمعة واحدة ...ليه؟!..
اقتطفَ قبلةً من عسلها المصفَّى، يضمُّها مغمضَ العينين:
علشان دي أوَّل سنة من جوازنا، بعد كدا عيد ميلادِك بعددِ سنين جوازنا..
حاوطت عنقهِ ورفعت نفسها:
عارف دلوقتي أقدر أقول وأنا كلِّي ثقة، مستحيل أخلِّيك تبعد عنِّي ولا لحظة، مش مسموحلَك حتى التفكير، وضعت كفَّها موضعَ نبضَ قلبه:
ودا طول مابيدُق يكون باسمي أنا بس، أموِّتك ياإلياسو لو بس فكَّرَت تبعد قلبك عنِّي..
كانَ يستمعُ إليها بدقَّاتِ قلبٍ عنيفة، ماذا فعلت به تلكَ الجنيَّة التي قضت على كلِّ مالديهِ ليقعَ صريعًا لغرامها، استدارت إلى الشمعةِ ثمَّ انحنت لتطفئُها..أمسكَ السكين يشيرُ إليها:
قطَّعيها ..وضعت كفَّها فوقَ كفِّهِ تُقرِّبها من الكعكة:
إحنا الاتنين هنقطَعها..قطعت قطعةً صغيرة، وسحبت أحدِ الأطباقِ تضعُ قطعةً به..ثمَّ أمسكت الشوكةَ وهو يراقبها إلى أن رفعت الشوكةَ على فمه، أدارها إليها يطعمُها ثمَّ اقتربَ يلتقطُها بطريقتهِ الخاصَّة، لتنهارَ كلَّ الدوافعَ وينحني يحملُها ليعزِفَ لها أبدعَ المعزوفاتِ الموسيقيةِ التي تعزفُها نبضُ القلوب، ليلة ولا ألفِ ليلة تحكي الكثير والكثير، وتزيلُ الكثيرَ من الشكوك، كلٍّ منهما أخرجَ مايكفي الآخر لأعوامٍ وكأنَّهم يشعرونَ بما سيحدثُ لهما فيما بعد..
فترةٍ أقلُّ ما يقالُ عنها أنَّها فترةً من الجنة ..
بالصباحِ الباكرِ فتحت عيناها بإرهاق، تنظرُ لنفسها متناسيةً ماصار، إلى أن وجدت نفسها محاصرةً بين دوافعِ حبِّه، ابتسمت قائلة:
لو خيَّروني بينَك وبين امتلاكِ العالم صدَّقني هختارك وأنا مغمَضة، مرَّرت أناملهِ على وجهه:
أجمل راجل في الدنيا
استمعَ إلى كلماتها القليلة، شعرَ وكأنَّهُ امتلكَ العالمَ ومابه، وقلبهِ كالمضخة التي ستقتلعُ ضلوعُ صدره ..تحرَّرَ من صدرها نفسًا ناعمًا أنهى ثباتهِ مما جعلهُ يلفُّ ذراعيهِ حولَ خصرها يضمُّها بقوَّةٍ لأحضانهِ متمتًمًا:
بتعاكسيني وأنا نايم..رفعت رأسها تنظرُ لعينيهِ المغلقة:
هوَّ إنتَ تتعاكس، فتحَ عينيهِ نصفَ فتحةٍ مبتسمًا:
ليه مش حلو ومعجبش، ازدادت دقَّاتُ قلبها حينما حرَّكَ أناملهِ على وجهها البهي وتابعَ حديثه:
وحش..أشوف حد أعجبُه بدل مش عاجبِك..
تعثَّرت الكلماتُ على شفتيها وكأنَّ حديثهُ سيصبحُ حقيقة لتشعرَ بغصَّةٍ تمنعُ ابتلاعَ ريقها، وحاولت الابتعادَ عن أحضانه، إلَّا أنَّهُ كان المتحكِّمُ والمسيطرُ وهو يضغطُ على خصرها بقوَّةٍ آلمتها، وهتف:
-لمَّا تبقي في حضني إياكي تحاولي تبعدي من غير إذني ..أظلمت عيناهُا بنجومها التي تحجَّرت من شدِّةِ قبضتهِ
على خصرها، لتبتلعَ ريقها بصعوبةٍ تتمتم:
-إلياس بتوجعني، قالتها لتنسابَ عبرةٌ حرَّرتها من جفنيها ..رفعَ ذقنها يتجوَّلُ بأعينهِ على ملامحها، ليهبطَ إلى عسلها المذابُ فوقَ شفتيها يجني من ثمارها مايجعلهُ كطائرٍ يغرِّدُ بين الأشجارِ فرحًا بفجرٍ جديد..ظلَّ لحظاتٌ ربَّما لدقائقَ لم يشعر بكمِّ الوقتِ الذي مرَّ عليهما وبداخلهِ يُقسمُ لنفسهِ أنَّهُ لن يحرمَ نفسهِ من تلكَ الجنَّةِ التي لم يشعر بتذوُّقها سوى بين يديها، انتهت دقائقُ جنتهِ مطبقَ الجفنينِ مانعًا نفسهِ ألا ينساقُ خلفَ رغبتهِ الجامحةِ بأكثرِ من ذلك، بينما ظلَّت كما هي دافنةً رأسها بصدره، لم تقوَ على الابتعاد، وكيفَ تبتعدُ وهو الأقربُ من حبلِ الوريدِ لنبضِ قلبها ..خلَّلَ أناملهِ بخصلاِتها وتحدَّثَ بصوتهِ الأجش المتنعمَ بحبِّها لأوَّلِ مرَّة:
فتحت صندوق ذكرياتِك وإنتِ نايمة، في الفيلا عارفة افتكرت إيه؟..ظلَّت كما هي تستمعُ إليهِ بصمت، انحنى واستطردَ
أوَّل بوسة بينا، البوسة اللي قلبت حياة إلياس وحوِّلِته من عدو لأحبِّ الناس لقلبه، رجفة أصابت جسدها بالكامل حينما علمت بمعنى حديثه، رفعَ رأسها ينظرُ لعينيها:
افتكرتي ولَّا لسة، قطبت جبينها وبشفتينٍ مرتجفتين:
إنتَ اللي فهمت غلط، حاولت أفهِّمك والله بس ..وضعَ أناملهِ على شفتيها وتغيَّرت نظراتهِ إليها بل ظلَّ يمرِّرُ أناملهِ على شفتيها بقوَّةٍ وأكمل:
صدَّقيني اللي رحمِك منِّي يومها بابا، لو مش بابا كنت ناوي أقتلِك..ابتسمت من بينِ دموعها:
كنت بتحبِّني من وقتها صح..علشان من يومها وحياتنا اتقلبِت، بس والله هو ماقرَّب منِّي ولا لمسني..
أطبقَ على جفنيهِ بقوَّةٍ وذاكَ المشهدُ يضربهُ بقوَّة، كوَّرَ قبضتهِ بقوَّةٍ حتى نفرت عروقهِ.. حاولَ السيطرةَ على أعصابهِ حتى لا يؤذيها..شعرت بما يشعرُ بهِ، رفعت نفسها الى أن أصبحت بمستوى جلوسه، لمست وجنتيه:
إلياسو..فتحَ عينيهِ ونظرةُ عشقِ الماضي يطالِعها بها لتكمل:
حبَّك مدفون من زمان يمكن من قبلِ الموقف، معرفشِ إزاي، بس صدَّقني إنتَ أوَّل راجل في حياتي..قالتها وهي تطالعهُ بابتسامةٍ بريئة:
ضمَّ رأسها لأحضانه:
وآخر راجل ياميرو، عارف كنت قاسي معاكي بس دا غصبِ عنِّي، متزعليش منِّي.
رفعت رأسها مردِّدَة:
-حد يزعل من روحُه ..ابتسمَ يضعُ خصلاتها المتشرِّدة خلفَ أذنيها:
-غالي أنا أوي؟..هزَّت رأسها و ابتسمت تدفنُ رأسها بعنقهِ تلكمهُ بخفَّة:
بس بقى علشان هتزعل ...قهقهَ بصوتٍ مرتفعٍ عليها، يضمُّها وهي تطالعهُ بسعادة:
إضحك على طول بتكون زي القمر..
زوى حاحبيهِ وأردف:
وأنا مكشَّر بكون وحش؟..
- أوي أوي ..قالتها سريعًا، توسَّعت عيناهُ
متذمِّرًا ليدفعها على الفراشِ وترتفعُ ضحكاتها تهزُّ رأسها تهتفُ من بينِ ضحكاتها:
خلاص خلاص حلو وزي القمر ..حاوطها بينَ ذراعيهِ وأبحرَ بعينيهِ عليها:
وإنتِ أجمل بنت شافتها عيوني ..رفعت ذراعيها تعانقُ رقبته:
أخيرًا أبو الهول نطق وسمَّعني حاجة زي العشاق، هوَّ مش زي العشاق بس أهو أحسن من مفيش..
ارتفعت ضحكاتهِ يدفنُ رأسهِ بصدرها:
يابنت همَّا شدوكي من لسانِك ..خلَّلت أناملها بشعره:
عمري مااتخيَّلت أعيش معاك لحظات زي دي ..أجابها وهو مازالَ على وضعه:
ولا أنا ..كنت حلفت أدفن قلبي وأبعد ونويت متجوزش..
يااااه..دا إنتَ شايل في قلبك أوي..تمدَّدَ بجوارِها على ظهرهِ وأخرجَ تنهيدةٌ متألِّمة:
مش علشانِك، عندي أسبابي.. عادي ..استندت على ذراعها وتحدَّثت متسائلة:
إلياس عايزاك تتكلِّم معايا، إيه اللي مخبيه وواجعَك أوي كدا ..نزلت برأسها تهمسُ بالقربِ من خاصتهِ وعينيها تحتضنُ عيناه:
لو معتبرني مراتك حبيبتَك ريَّح قلبي حبيبي...
حبيبي..نزلت على صدرهِ كقطرةِ ندى بصحراءٍ جرداءٍ جافية..ظلَّت العيونُ متعلِّقةً ببعضها إلى أن هتفَ بخفوت:
بتحبيني قدِّ إيه ياميرو؟..ملَّست على وجههِ وعينيها متعلِّقة بعينيه:
كتير أوي حبيبي..اعتدلَ يحتضنُ كفَّيها بين راحتيهِ ثمَّ رفعهما إلى فمهِ يقبِّلِهما ثمَّ رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها:
عايزِك على قدِّ حبِّك ليَّا تسامحيني..
أسامحَك..ردَّدتها متعجِّبة ثمَّ هزَّت كتفها متسائلة:
عملت إيه علشان أسامحَك عليه..نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الحمام
بعدين تعرفي..قومي إجهزي علشان هاخدِك رحلة في البحر..
هاتنزلِّني البحر؟..
أومأَ برأسه:
فيه مفاجأة حلوة هتعجبِك..
بعدَ فترةٍ على أحدِ شواطئِ البحر الهادئة، توقَّفَ اليختُ الذي قامَ باستئجارهِ لتلكَ الرحلة، فتحَ حقيبتهِ ينظرُ لوقوفها بالخارجِ وهي تغمضُ عينيها تستمتعُ بنسيمِ البحر..وضعَ اللبسَ الخاص بالغطس، ثم اتَّجهَ إليها..
حاوطَ جسدها من الخلفِ يضمُّها لصدره:
شايف البحر منسِّيكي كلِّ اللي حواليكي، تراجعت برأسها على صدره:
إنتَ عارف قد إيه بعشق البحر، نظرت إليهِ من فوقِ أكتافها تنظرُ لعينيهِ متمتمة:
بس أكيد مش أكتر منَّك..سحبها للداخل، توقَّفت تنظرُ للثيابِ الموضوعةِ بجهل:
إيه دا حبيبي..استندَ بذقنهِ على كتفها وأردفَ بخفوت:
أهو علشان حبيبي اللي كلِّ شوية بتقوليها هاخدِك رحلة للبحر..
هنغطس، قالتها بذهول ..أومأَ لها بالموافقة..هرولت للملابسِ كالطفلةِ السعيدةِ بملابسِ العيد.
بعدَ فترةٍ كان يتجوَّلُ بها في قاعِ البحر ..ظلَّا لفترةٍ إلى أن أُنهكت تشيرُ إليه بالخروج..
ظلَّ اليومُ بينهما هادئًا بينَ نظراتِ العشقِ والسعادة، ليكملَ مساءهِ بأحدِ المطاعمِ المشهورةِ بذاكَ المكان..
تناولت الطعامَ متحدثة:
ماتيجي نرقص زي اللي بيرقصو دول..
رفعَ رأسهِ لساحةِ الرقص، ثمَّ اتَّجهَ إليها:
لا ..مش حابب جوِّ العريان، معرفشِ إيه غاية الستِّ إنَّها توقف بالطريقةِ المقرفة دي، ولَّا إزاي الراجل قابل على نفسُه كدا..
مش يمكن لسة عرسان ياإلياس..المكان دا مشهور لقضاءِ شهر العسل.
يعني إيه عرسان، عرسان في أوضة النوم ياميرال، حانت منهُ نظرةً لتلكَ الفتاةِ التي تعانقُ أحدِهم وتقبلهُ مع حركاتِ أناملِ زوجها على منحنياتها الأنثويةِ المؤذيةِ للعين، التفتَ إليها وجدها تنظرُ عليهما، نهضَ من مكانهِ وأمال يسحبُ كفَّها:
اتخنقت من المكانِ المقرف دا، قومي نرجع الشاليه..
هنرجع دلوقتي إحنا لسة واصلين!..
رمقها بنظرةٍ توحي بالغضبِ الذي تجلَّى بعينيه، فتوقَّفت متذمرة، وتحرَّكت رغمًا عنها ..عانقَ كفَّها وتحرَّكَ على الشاطئِ بنسيمِ البحرِ العليلِ قائلًا:
مش أحسن لراحةِ العين..صمتت ولم تردَّ عليه..جذبها يحاوطُ أكتافها:
مش كلِّ خلاف بينا تتقمصي، ميرال إنتِ مبقتيش صغيرة، لازم يكون فيه عقل، عجبِك المناظر اللي شوفناها جوَّا..
تحرَّكت دونَ حديثٍ إلى أن وصلَ إلى الشاليه، دلفَ للداخل، طالعها قائلًا:
هعمل كام تليفون، اطلعي غيَّري هدومِك، فيه حاجات كويسة فوق شوفي اللي يعجبِك ..تحرَّكت للأعلى دونَ حديث، دلفت الغرفةَ وجلست على الفراشِ لبعضِ الدقائقِ تحدِّثُ نفسها:
كان عندي أمل تتغيَّر شوية ياإلياس، ياربي أعمل معاه إيه، والتحكم اللي بيفرضُه عليَّا، بحاول أضغط على نفسي وأتقبلُه علشان بحبُّه، بس تعبت وحاسة أنُّه بيخنقني أوي…
مسحت على وجهها تزيلُ شيطانها مستغفرةً ربها ونهضت إلى الخزانة، توسَّعت عيناها تنظرُ لتلكَ الملابسِ الخاصةِ بالنوم:
الحاجات دي جابها إمتى، قليل الأدب، أومال لو مش عامل تقيل..تخصَّرت تطالعهُم بتدقيق، ثمَّ اقتربت تقلِّبُ بهما، متذكِّرةً جلوسهِ وهو يقلِّبُ بإحدى المجلاتِ التي كانت على متنِ الطائرة..
معقول يكون جابُهم بالليل بعد ماوصلنا، وقعت عيناها على المنامةِ ذاتِ اللونِ الأرجواني، التي لاتسترُ شيئًا، أفلتت ضحكةً وهي تحرِّكها بين كفَّيها:
- ودي شافها إزاي، جزَّت على أسنانها متذكرة تفحصه للمجلة فهدرت تدور حول نفسها:
- أه المحترم أكيد شافها على موديل، طيِّب يابنِ السيوفي، عجبِتك على الموديل ..هشوف هتعجبَك على مراتك ولَّا لأ…دقائق حتى انتهت ماتفعله، مع لمساتها التجميليةِ الخفيفةِ التي طغت على جمالها
عندهُ جلسَ يحادثُ أرسلان..
عندَ أرسلان فتحَ عينيهِ على رنينِ هاتفهِ اعتدلَ يعدِّلُ من نومه، يهزُّ رأسهِ يشعرُ بتشنُّجِ عنقه، جلسَ إسحاق بجواره:
إرجع بيتك ريَّح شوية، مراتّك اتصلت بيك بس قفلت في وشَّها علشان ماتصحاش، إنتَ من امبارح منمتش..
أرجعَ خصلاتهِ يمسحُ على وجهه:
اطَّمن على بابا الأوَّل، تساءلَ عن والدتهِ وأخته..
نايمين جوَّا متقلقش، وكلِّمت والدتَك قالت هتستنى الدكتور تطمِّن وتروح علشان ملك.
التفتَ لهاتفهِ الذي قامَ بالرنينِ مرَّةً أخرى ..
دا إلياس السيوفي شكلُه عرف خبر بابا..ربتَ على كتفهِ ونهضَ قائلًا:
رُد عليه وأنا هشوف الدكتور..
ألفِ سلامة على والدَك، لسة شايف الخبر ..
متشكِّر ..هو َّعامل إيه دلوقتي..تساءلَ بها إلياس..
- في غيبوبة، توقَّفَ إلياس واتَّجهَ إلى النافذةِ الزجاجية:
- أنا برَّة القاهرة، وقتِ ماأرجع أكيد هزوره ..
شكرًا إلياس..
لو محتاج أي حاجة كلِّمني ماتتكسفش، إحنا خلاص بقينا أصدقاء، ماتنساش وعدَك ياحضرةِ الظابط.
تنهيدةً مؤلمةً أخرجها من آلامِ مايشعرُ بهِ قائلًا:
متشكِّر بجد ياإلياس، تليفونَك فرق معايا، ومنتظر زيارتَك أكيد
إن شاء الله..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ للخارجِ بشرود، ليلتفتَ للخلفِ بعدما استمعَ إلى كعبها الذي ينقرُ بالأرض، توقَّفَ يطالعُها وأقسمَ بداخلهِ أنَّ نقراتَ كعبها التي تتدلَّى بحركاتهِا، يشعرُ وكأنَّهُ ينقرُ فوقُ نبضِ قلبهِ ليتوَّقفَ عن النبضِ من تلكَ الجنيةِ التي قضت عليه.
وصلت إليهِ وتوقَّفت أمامهِ تشيرُ على نفسها:
مكنتش أعرف ذوقَك حلو كدا..كانت عيناهُ تفترسها برغبةِ رجلٍ عاشَ طيلةَ حياتهِ زاهدًا بالنساءِ لتخرجَ لهُ تلكَ الحوريةِ لتجعلهُ قديسًا لعشقها ..رفعت ذقنه تنظرُ بداخلِ عيونهِ بتجبُّرِ أنثى عاشقةِ حدَّ النخاع قائلةً بخفوت:
-إيه رأيك أنا ولَّا الموديل اللي شوفتُه عليها ..جذبها بقوَّةٍ لتصطدمَ بصدره.. شهقةً خفيضةً أخرجتها من قوَّةِ جذبه، تهمسُ اسمهِ بخفوت.. ارتجفت أوصالها بين ذراعيهِ وهي ترى صمتهِ وأنفاسها المرتفعةَ التي جعلت نبضاتهِ تخترقُ صدرهِ تحت كفِّها، رفعت عينيها إليهِ وتلاقت الأعينَ وليتها لم تلتقِ ليضمَّها بوقاحةٍ يتحسَّسُ جسدها بكفَّيهِ وكأنَّهُ يعدُّ فقراتها، همست بارتجافٍ من قبضتهِ عليها:
إلياس..تحرَّكَ ليقومَ بتشغيلِ الموسيقى الهادئة لتصدحَ بخفوتٍ بالمكانِ وأغلقَ الإضاءةَ ثمَّ اتَّجهَ إليها
يتراقصُ بجوارِها وهتف:
مش كنتِ عايزة ترقصي، دلوقتي أقدر أقولِّك أرقصي واعملي كلِّ اللي نفسِك فيه..
قشعريرة اختلجت كيانها لتتملَّكها عاطفةً قويةً وهي ترى تغيرهِ وعينيهِ التي لا تريدُ سواها..ناهيكَ عن إحساسهِ الصادقَ بكلِّ شيئٍ يفعلُه ..ظلَّ لوقتٍ يتراقصُ معاها وعينيهِ لم تنزاحَ عن جمالها ...إلى أن فقدت القلوبُ السيطرةَ لينعمَ كلًّا منهما بالآخر.
بعدَ يومين:
انتهى من ارتداءِ ثيابهِ وجمعَ أشيائهِ الخاصة للذهابِ لعمله، خرجت تجمعُ خصلاتها على جنب:
إلياس عايزة أروح بعدِ الشغل أغيَّر العربية، هتيجي معايا ولَّا أروح لوحدي؟..
استدارَ إليها قائلًا:
هعدي عليكي..توقَّفَ عن الحديثِ بعدما ذهبَ ببصرهِ على ماترتديه:
غيَّري الفستان دا، مش هتنزلي بيه، ارتدى نظارتهِ وهمَّ بالمغادرة، أوقفته:
إلياس الفستان حلو ليه أغيَّره، التفتَ يحدجها بصمتٍ ثمَّ تحرَّكَ دونَ أن يضيفَ شيئًا آخر.
عندَ يزن:
ترجَّلَ أحدهم من سيارتهِ يشيرُ إليه:
العربية بتعمل صوت ممكن تشوفها، أشارَ إليهِ اسماعيل:
أنا جاي أشوفها، الباشمهندس مبقاش شغَّال هنا يابني.
اقتربَ منهُ ياسر:
ليه يايزن استغنيت عن الحاج اللي خيرُه عليك، اتَّجهَ إلى السيارةِ وأوقفَ صاحبَ الورشة:
ارتاح ياعمُّو اسماعيل هشوفها أنا لحدِّ مالعربية توصل..
قلَّبَ بالسيارةِ يشيرُ إليها:
العربية مفيهاش حاجة صوت إيه، شغلَّها كدا..شغَّل المحرِّك، اقتربَ منهُ يزن:
عربيتَك حلوة مفيهاش حاجة لو مش مصدَّق ممكن تاخدها لحد يشوفها غيرنا.
استقلَّ الرجلُ السيارةَ وابتسمَ ساخرًا ثمَّ قادها وتحرَّك، نظرَ يزن إلى اسماعيل:
الواد دا مالُه، عمرُه ماصلَّح عندنا حاجة..
العلم علمَك يابني، والغريبة إنَّك متخانق معاه إمبارح ويجي عايزَك تصلَّح العربية.
عندَ آدم بعد يومين قضتهما تغلق على نفسها الباب ولا تريد الحديث مع احدًا استيقظَ من نومهِ ثمَّ اتَّجهَ إلى الغرفةِ يطرقُ عليها:
إيلين افتحي الباب عايز أغيَّر علشان أنزل الشغل..فتحت بعدما تجهَّزت وتحرَّكت متَّجهةً إلى مكتبها تحملُ كتبها وهمت بمغادرة المكانَ دونَ أن تهتمَّ بوجوده..
أوقفها بصراخ:
إنتِ رايحة فين كدا، كانت تواليهِ ظهرها وهي ترتدي نظارتها السوداء حتى لا يرى انتفاخَ عيناها من البكاء..
اللي ليك عندي قدَّام الناس جوزي، إنَّما هنا زيك زي أي حاجة في الشقة مالهاش لازمة غير ساعة ماأحتاجها.
استدارت ترمقهُ قائلة:
برَّة معرفكشِ ولا تعرفني، حتى لو قابلتني صدفة في الكلية كأنَّك مشفتنيش ..قالتها وتحرَّكت من أمامهِ سريعًا.
عند أرسلان فتحَ بابَ شقتهِ يبحثُ عنها كانت بالمطبخِ تعدُّ الطعام، اقتربَ منها يحاوطُ جسدها من الخلفِ لتهبَّ فزعةً تضعُ كفَّها على صدرها:
-حرام عليك يارسلان خضتني..
سلامتِك ..استنشقَ رائحةُ الطعام:
إيه دا مراتي بتعرَف تطبُخ ياللهول..
أفلتت ضحكاتٍ ناعمةٍ على طريقتهِ ممَّا جعلتهُ يبتسم ..سحبَ كفَّها وخرجَ إلى الأريكة:
جعان نوم عايز أنام ساعتين علشان أنزل المستشفى وكمان أعدِّي على الشركة من وقتِ تعب بابا ومعرفشِ حاجة عن الشغل..
وضعت الوسادةَ تشيرُ إليه:
طيِّب نام هنا وأنا هخلَّص الأكل وأجيلك..هزَّ رأسهِ بالرفض،
ليتمدَّدَ ويجذبَها إليهِ يضمُّها ويدفنُ رأسهِ بعنقها:
لا ..خلِّيكي معايا، قالها وذهبَ بسباتٍ عميق، ظلَّت بجوارهِ تتطلَّعُ إليهِ بحب تهمسُ لنفسها:
معقول ربنا بيحبِّني أوي كدا علشان يرزقني بيك، تذكَّرت حديثها مع زياد أخيها أن يبحثَ عنهُ ويعلمَ كلَّ شيئٍ يخصُّه.
رفعت كفَّها وظلَّت تُمرِّرها مرَّةً على وجههِ ومرَّةً على خصلاته، دنت من وجههِ وطبعت قبلةً على وجنته:
شكلي حبيتك ياحضرة الغامض..استمعت إلى رنينِ جرسِ الباب ..تسحبَّت بهدوءٍ من جوارهِ واَّتجهت تفتحُ البابَ وجدت فتاةً يافعةَ الطولِ شقراء ترتدي ثيابًا فاضحة كما تخيَّلتها غرام، خلعت نظارتها ترمقُ غرام باستهزاء:
فين سيدِك يابت؟..
ضيَّقت غرام عينيها متسائلة:
إنتِ مين وعايزة إيه؟..
تحرَّكت للداخلِ هاتفة:
أنا مرات البيه اللي جوَّه، وصلت لنومه:
الله الله الباشا نايم ولامعبَّرني ومخلِّيني ألف عليه الدنيا كلَّها، حضرة المشاغب أنا جيت..
فتحَ عينيهِ على صوتها، ثمَّ اعتدلَ يهمسُ اسمها:
طمطم ..
عندَ راجح:
هتعمل معاه زي ما عملتِ مع مالك، لكن تأكَّد لو فشلت هدفنك، الراجل دا أسمع خبرُه وإلَّا هموتك..
حاضر ياباشا، المرَّة دي جايب قنَّاص خبير ، الولد المهندس دا عملت الخطة زي ما اتفقنا
-أيوة ياباشا.أشارَ إليهِ بالخروج، فاتَّجهَ إلى مقعدهِ وفتحَ هاتفهِ ينظرُ إلى صورةِ فريدة:
خلاص يافري باقي تكّة واحدة ونتقابل تاني، وأرجع آخد حقِّي اللي حرمتيني منُّه، وخلِّي اسمُه إيه ينفعِك.. أه اللي عامل فيها بارم ديلُه إلياس ينفعك، عايز أشوفه بعد اللي هعملُه، أنا أتهدِّد من حتِّة عيِّل بتاع امبارح ،قالها وارتفعت ضحكاته..
بالجريدةِ عند ميرال:
كانت منشغلة على جهازها، استمعت إلى دفعِ البابِ وجدتهُ أمامها:
إلياس فيه حاجة، انحنى يُطبقُ على كفِّها يسحبها ويتحرَّكُ للخارجِ دونَ حديث..
حاولت الحديثَ ولكنَّهُ كان صامتًا، من يراهُ يظنُّ أنَّهُ سيفتعلُ جريمة ..دفعها بالسيارةِ بقوَّةٍ أذهلتها وقادَ السيارةَ بسرعةٍ جنونيةٍ بحالةٍ من الصمتِ المقتولِ الذي جعلَ قلبها سيتوقَّفُ من الخوفِ من هيئته، وصلَ إلى المنزلِ وسحبها للداخلِ بعنفٍ قابلتهم فريدة:
فيه إيه، مالكُم؟!..
إلياس سيب إيدي بتوجعني، وصلَ لجناحهِ وصفعَ البابَ بقوَّةٍ حتى كادَ أن يسقطَ متحطِّمًا ..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الفراشِ ثمَّ توقَّفَ يدورُ بالغرفةِ كالمجنونِ محاولًا السيطرةَ على أعصابه، اتَّجهَ إليها منحنيًا بجسده:
أنا مش حذَّرتك متنزليش بالفستان دا..
تراجعت بجسدِها خوفًا من هيئتهِ تهزُّ رأسها تهمسُ بتلعثم:
أنا قولتلَك حلو وإنتَ مردِّتش..
ضغطَ على فكَّيها بقوَّةٍ حتى شعرت بتحطيمها:
هوو إنتِ ليه متعوِّدة أقول الحاجة مليون مرَّة، قولتِ مرَّة يبقى تتسمِع، انسابت عبراتها من قوَّةِ آلامها:
إلياس بتوجعني، أوقفها بعنفٍ يهزَّها بجنون:
أوجعِك، هوَّ إنتِ لسة شوفتي وجع، إيه عاجبك جسمِك ماشية تعرضيه على الكل..نظرَ إلى منحنياتها التي أبرزها الفستان بطريقةٍ أذهبت عقله، وقصره الذي أظهر ساقيها، قبضَ عليهِ بعنفٍ وبكلِّ قوَّةٍ لديهِ شقَّهُ لنصفين، ليرتجفَ جسدها من فعلته، ثمَّ دفعها بقوَّةٍ بعدما سيطرَ عليهِ شيطانهِ يهمسُ بفحيح:
أنا هخليكي بعد كدا تحرَّمي تفكَّري تكسري كلامي، قالها وهو يهجمُ عليها كأسدٍ مفترس، ليجعلها تذوقُ من مرارِ عنفهِ مايجعلُها تشمئزُّ من حياتها بالقربِ منه، بعدَ فترةٍ ليست بالقليلةِ انتهى من مايفعلهُ دنا يهمسُ لها:
إفرحي بقى بحلاوتِك يامدام، مبقتشِ هتكلِّم، وكل ماتخالفي اوامري هتلاقي أصعب ماتتخيليه
قالها واتَّجهَ إلى متحركًا إلى الحمَّام ..توقَّف يشيرُ إليها:
أخرُج من الحمَّام مالقيش الفوضى دي..
اعتدلت تلملمُ الغطاءَ على جسدها، شعرت بتكسيرِ عظامها، احتضنت نفسها متألِّمةً تبكي بصمتٍ على ما فعلهُ بها، خرجَ بعد دقائقَ معدودةٍ واتَّجهَ يرتدي ثيابهِ وتوقَّفَ أمامَ المرآةِ بكلِّ جبروتهِ ينظرُ إلى نومها:
مفيش شغل بعد كدا، خروج من الفيلا هكسرلِك رجلك..قالها واتَّجهَ يجمعُ أشيائهِ ثمَّ اقتربَ يديرُها إليهِ ينظرُ إلى علاماتهِ التي تركها على جسدها:
شكلِك كدا أحسن، علشان تلمِّي نفسِك وماتنزليش بلبسِ عريان قدَّام إسلام مع إنِّي حذَّرتِك قبلِ كدا..
وأه، كلِّ هدومِك دي..الشغالة هتطلع تنزلُهم وأنا هجبلِك على ذوقي، دنا لشفتيها:
مش أنا ذوقي حلو حبيبي، صح قالها وهو يخترقُ عينيها بنظراتٍ توحي الكثير من عذابِ الحبِّ لدى الاثنين..
مرَّرَ أناملهِ على شفتيها المتورِّمة:
عندِك كريمات يبقى حُطيها، شكلِك كدا مش حلو..قالها واعتدلَ وتحرَّكَ للخارج.
مساء اليوم التالي
عند مصطفى خرج من مكتبه يتحدث بهاتفه:
-ايوة هو راجح الشافعي، اممم، برافوو عليك، ظبط الدنيا وبكرة اسمع عنه زي ما سمعت زي زمان..توقف بجوار سيارته مردفًا
-جودت الراجل دا آذاني كتير، وبيحفر ورا إلياس وبيخطط له، شركته بكرة اسمع أنه خسر كل حاجة، وتجبلي طليقته دي، اشوف حكايتها ايه، وايه اللي سمعناه دا، ازاي يعني ياخد ولادها بالتهديد ..ظل لدقائق يشير إلى السائق الذي قام بفتح باب السيارة ليستقلها ومازال يتحدث بهاتفه
-ودي بتراقب ميرال ليه، انت لسة جاي تقولي ياجودت، الست دي عايزة توصل لايه، جودت مش عايز الموضوع يوصل لإلياس، عارف لو ابني عرف هيعمل ايه، مش هيرحمه، خلينا نلمها من غير مايعرف
توقفت سيارته فجأة وطلقة نارية اخترقت رأس السائق، لتتحرك السيارة بسرعتها مع الطلاقات النارية عليها
عند إلياس قبل قليل عادَ إلى المنزل:
تسلَّلَ على ضوءِ الإضاءةِ الخافتةِ إلى أن وصلَ لفراشها ثمَّ وضعَ مابيدهِ واتَّجهَ ينظرُ إليها بنظراتِ الاشتياق، فمنذ أمس لم يعود، حرك أنامله على وجنتيها التي بها آثار من الدموع،
انحنى يطبعُ قبلةً بجوارِ شفتيها وهمسَ لها بعضَ الكلماتِ
-قولت لك حبك نار ياميرال، شوفتي خلتيني أذيكي وأذي نفسي ازاي، لا قادر ابعد ولا قادر أقرب، خلاص مبقاش ينفع نقرب من بعض تاني، كدا كفاية أوي على اللي عشانه، مكنتش مخطط اعيش دا كله معاكي، بس لأول مرة أضعف، ولو أنتِ هتضعفيني كدا يبقى بلاش منك، كل واحد يرجع لحياته، بس هتفضلي باسمي لحد ما اموت ..طبع قبلة مطولة على جبينها، استيقظت على إثرها، ولكنها مازالت مغلقة الجفنين ظل للحظات يحتضنها بعيونه ثم تحرَّكَ للخارجِ كما دخل ..فتحت عينيها بعد خروجهِ وانسابت عبراتها المتحجِّرةِ تحتَ جفنيها تهمسُ لنفسها:
طلعت قاسي أوي ياحبيب عُمري ومن قساوتَك قسِّيت قلبي عليك.. وكرهتيني فيك، استلم بقى ياإلياس انت اللي جبرتني على كدا
هبط الدرج استمع إلى رنين هاتفه اخرجه، ولكن توقف على صوت فريدة
- إلياس ..صاحت بها فريدة، استدارَ إليها دونَ حديث، يغلق الهاتف الذي عاد رنينه، اقتربت منهُ تطالعهِ باشتياقٍ قائلة:
ليه يابني بتعمِل في مراتَك كدا؟..
نعم ..وحضرتِك بصفتِك إيه تدَّخلي في حياتنا، دنا خطوةً إلى أن وصلَ إليها:
إنتِ مرات أبويا وأم مراتي آه، لكن حياتي أنا حُر فيها، ولو زعلانة على بنتِك خُديها عندِك مضربتهاش على إيديها..
يعني إيه يابني لو مش عجبني، إنتَ مش شايف قساوتك مع مراتك..
-مدام فريدة لمَّا بنتِك تشتكيلِك يبقى تعالي حاسبيني هيَّ اشتكتلِك؟..
انعقدَ لسانها من قساوته، لتقتربَ خطوةً قائلة:
والدَك هيرجع النهاردة تفتكر هيسكُت على معاملِتك دي؟..
توسَّعت عيناهُ ينظرُ إليها بذهول:
- نعم .. والدي، ليه هيَّ حياتي ولَّا حياته، بصي يامدام فريدة علشان منتعبشِ مع بعض، أنا قولت مش عايز أتجوِّز، ورغم كدا ماحترمتوش رغبتي..اللهُ أعلم قولتي لبابا إيه، علشان تدبِّسوني في الجواز ، وكمان أنتوا اخترتوا العروسة وماكان عليَّا
إلا إنِّي أوافق ماهيَّ العروسة مش بعيدة عنِّي، اقتربَ منها…
حب دفنتُه جوايا لعشر سنين بسببِك، والفرصة جاتلي على طبق من ذهب من جهة أعيش حياتي مع اللي اختارها قلبي ومن جهة أحسَّرك عليها إيه رأيك…لا وخدي التقيلة بنتِك هتفضل معزَّزة مكرَّمة لحدِّ ماتجيبلي وريث، بس أنا ناصح ومش هستنى منها تبيعهُم وتهرب زي غيرها، لأنِّي وقتها هولَّع فيها أو أدفنها حية، أو اعمل فيها ابشع ماتتخيلي، كفاية اني وافقت اتجوزها بعد مغامراتك العبقرية، والصراحة مش هخبي عليكي عجباني وكمان بتحبني ورامية نفسها عليا، ليه متهناش معاها شوية، دنى خطوة أخرى حتى لم يفصل بينهما شيئا
-تعرفي على قد حبي ليها على قد كرهي لها كل ما افتكر إني اتجوزت بنت اكتر ست كرهتها في حياتي، بس مش مهم باخد تعويض برضو
لطمة قوية فوق وجنتيه، تنظر إليه بشراسة مع تجمد جسده من فعلتها، دفعته بصدره
-إنت مين يالا، انت مستحيل تكون ابن جمال، جمال ابنه مش حقير ولا واطي
كدا ، انت حيوان ..قالتها بصرخة اذابت ضلوعها وهو يطالعها بشحوب لا يعلم بماذا تهذي
صرخةٌ خرجت من فمِ غادة على صوتِ ارتطامِ جسدِ ميرال ليتدحرج من الدرج بعد استماعها لحديثه حتى وصلت لاخر سلمة..لتحيطُها غمامةً سوداء وتشعر بدوران الأرض بها ناهيك عن الآلام التي اخترقت صدرها لتضع كفيها على بطنها تهمسُ بتقطُّع:
"يارب أموت "
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
عندَ الفُراق ...
يرحَلُ أحدُهم مُمتلِئًا بالأسئِلة .
و يرحلُ الآخرُ هاربًا بالأجوِبة .
الأوَّلُ لم يَطرْحها…لكنَّهُ فهِمَها بعدَ الرَّحيل ...
و الثَّاني لم يُجِب..لكنَّهُ بعدَ زمنٍ امتلأَ ندمًا بنفسِ الأسئِلة…
الأوَّلُ فهمَ فـأغلقَ سُطورَ الحكاية ..
و الثَّاني سَيفتحُ سُطورَها في كلِّ مرَّةٍ يطالهُ تأنيبَ الضَّمير .
هكذا هيَ الحكاياتُ الغيرُ عاااادِلة ...
نهايتُها مُبكِّرة…لكنَّها دائمًا لصالحِ منَ عاشَ الوجعَ أولًا…
كانت أيَّامًا بحوااافٍّ زجاجيَّة..
في كلِّ رُكنٍ منها يُوجدُ جَرحٌ و ضَمَّادة…
جَرحُ الرُوحِ لهُ وجَعين..يُبكي القلبَ قبلَ العين ..
لكنَّنا نُحبُّ هَزائمَنا مِنْ مَنْ نُحِب !! 🥀
فتعالَي لأُخبُركِ بعدَ كُلِّ هذا الوجعِ كيفَ ينهارَ سقفُ قلبي حينَ تَضحَكين ..
صرخةً من غادة باسمها وهي تتدحرجُ على الدرجِ حتى وصلت لآخره، آه خفيضة خرجت من بينِ شفتيها وهي تضعُ يديها على أحشائها متألمةً وغمامةٍ سوداء تحاوطها لتهمس:
"يارب اموت "
التفتَ سريعًا على صوتِ أختهِ باسمها، ارتعشَ جسدهِ بالكاملِ حتى اهتزَّ من قوةِ الصدمةِ التي تلقَّاها وهو يراها بتلكَ الحالة، لم يعرف كيفَ وصلَ إليها…
جثا على رُكبتيهِ يرفعها سريعًا، يهتفُ بتقطُّع:
ميرال…هزَّ جسدها ولكنَّها كانت بينَ يديهِ كالتي فقدت الحياة، نهضَ وهو يضمُّها لصدرهِ بتملُّك يصرخُ بأخته:
هاتيلَها لبس بسرعة، بينما فريدة التي توقَّفت وكأنَّها أُصيبت بشللٍ في خلايا جسدِها وهي ترى الدماء التي لطَّخت ملابسَ ميرال، همست:
ميرال حامل..تحرَّكَ بها لبعضِ الخطواتِ إلَّا أنَّها أوقفته:
إلياس ..توقَّفَ محاولًا السيطرةَ على ثباتهِ حتى لا يسقطَ بها بسببِ اضطرابهِ رغمَ برودهِ الذي تتميَّزُ به شخصيتهِ، لكن هنا انهارت جميعَ حصونهِ ببرودهِ وتجمُّدهِ ليهمسَ بتقطُّع:
هاخدها المستشفى..وصلت إليهِ تنظرُ إلى ميرال التي بينَ يديهِ برعبٍ تجلَّى بعينيها، ثمَّ إليه:
ميرال حامل؟..رجفةً تخلَّلت جسدهِ ينظرُ لفريدة بذهولٍ وعيونٍ متسعةً يهزُّ رأسه:
لا لا ..أكيد مش حامل، وصلت غادة بإسدالها مع خروجهِ سريعًا إلى السيارةِ يضعها بهدوءٍ عكسَ نبضاتِ قلبهِ التي تُقرعُ كطبولِ حربٍ من الخوف.
جذبَ إسدالها وألبسها إياه ولم ينتبه للدماءِ الملطَّخة بيده ..فتحت فريدة بابَ السيارةِ وجلست بجوارِها، رفعها يضعُها بأحضانِ فريدة:
ضمِّيها خلِّي بالِك منها لتوقَع ..قالها برجاءٍ انبثقَ من عينيه واتَّجهَ للقيادةِ يقودُ سيارتهِ بسرعةٍ كبيرةٍ كعاصفةٍ رعديةٍ غزيرةَ الأمطار، وصلَ إلى المشفى بدقائقَ معدودة، حملها ودلفَ للداخل، وقلبهِ يسبقهُ حتى وصلَ إلى الطبيبِ ووضعها..
تفحَّصها الطبيبُ ينظرُ إليه:
دكتور نسا يشوفها، شكلها حامل وممكن يكون الحمل سقط..هزَّةٌ عنيفةٌ كرعدٍ أصابَ طفلٍ ليهبَّ فزعًا من مكانه:
حامل..أشارَ الطبيبُ إلى يديهِ وثيابه:
مش أخدت بالَك من الدم..نظرَ بتوهانٍ ليديهِ التي تلطَّخت بالدماء، سحبها المسعفون باتِّجاهِ كشفِ النساء، وظلَّت عيناهُ تتابعها، احتضنت فريدة ذراعهِ بعدما وجدت حالته،رغمَ ماقالهُ إليها ولكن حالتهِ الآن توحي الكثير والكثير، توقَّفَ ينظرُ إلى دخولها بتوهانِ طفلٍ أضاعَ أبويه، نظرت إليهِ بحنوٍّ أمومي، وعينيها تتابعُ وجعهِ الذي يخفيهِ بملامحهِ الجامدة، أطبقَ على جفينيهِ بعدما أُغلق البابَ ليشعرَ ببرودةٍ تجتاحُ جسده، تمنَّت لو تحتضنهُ وتربتُ على ظهرهِ كي تخفِّفَ عنه، ظلَّ متجمِّدًا بمكانهِ محاولًا أن يستوعبَ ماحدث..لم تقوَ على أن تراهُ ضعيفًا لأوَّلِ مرَّةٍ بتلكَ الحالة، وأقسمت بداخلها أنَّ حديثهِ ماهو إلَّا هُراء..جذبتهُ من ذراعهِ وتحرَّكت بهِ إلى غرفةِ الطبيب، تحرَّكَ معها دونَ حديثٍ وكأنَّ الصدمةَ جعلتهُ فاقدًا الوعي ولايشعر بمايدورُ حوله، دلفَ للداخلِ لتقابلَهُ الممرضة:
إجهاض، هتدخل عمليات، بس الموضوع بسيط لأنُّه لسة ثمان أسابيع، ترنَّحَ جسدهِ محاولًا السيطرةَ على نفسه، حاوطت فريدة خصرهِ تنظرُ إلى الممرضة:
هيَّ كويسة أخبارها إيه، والإجهاض دا هيأثَّر على صحتها؟..
الدكتور معاها لسة يافندم، هنا فاقَ من صدمتهِ يبتعدُ عن فريدة وانحنى يُمسكُ رسغَ الممرضة يحدجُها بنظرةٍ مرعبةٍ قائلًا:
شوفيلي دكتورة، لو راجل دخل على مراتي هولَّع في المستشفى، يالَّه بسرعة، متخلِّيش راجل يلمس مراتي..
تحرَّكت الممرضة للداخل، بينما ظلَّ كما هو يتابعها بعينه ..
إلياس ..ردَّدتها فريدة، استدارَ إليها متسائلًا:
الإجهاض دا هيئذيها؟..ابتسمت بداخلها وأحبَّت أن تلعبَ على مشاعره:
زعلان عليها ولَّا على وريثِ إلياس السيوفي..عليها طبعًا قالها سريعًا ولم ينتبه لما تفوَّهَ به، ابتسمَ داخلها وتابعت حديثها وضغطت بكلماتِها وهي تتابعُ ملامحَ وجهه:
أكيد، فيه ستَّات بتموت وفي اللي تفقُد الحمل طول العُمر..وفيه اللي بتكون كويسة..
أشارَ لها قائلًا:
هيَّ هتكون كويسة، أيوة هتكون كويسة
جلست على المقعدِ ترمقهُ بنظرةٍ معاتبة:
وكان لازمتُه إيه الكلام اللي قولتُه، علشان تدبحني وخلاص ..أحكمَ قبضتهِ يكوِّرُها بغضبٍ فهو في حالةٍ لا تُجدي النقاش..بعد فترةٍ دلفَ إلى الغرفةِ وجدها متسطِّحةٍ على الفراش، دلفت فريدة خلفِه، ثمَّ اقتربت منها وانحنت تطبعُ قبلةً على جبينها:
ميرو سلامتِك حبيبة ماما، ابتعدَ إلى النافذةِ يضغطُ على نفسهِ حتى لا يقتربَ منها ويسحقها بين ذراعيهِ يستنشقُ رائحتها ليطمئنَّ أنَّها بخير..تحرَّكت إليهِ فريدة تُربتُ على ظهره:
مراتَك كويسة ياحضرةِ الظابط، يارب تكون مرتاح بعد ماقولتِ كلام دبحها، إنتَ كنت عايز توجعني بس غبي وجعتها هيَّ، خلِّيك كدا لحد ماتخسرها، قالتها وتحرَّكت من الغرفةِ لأنَّها تعلمُ أنَّهُ لن يقتربَ منها سوى بخروجها، استدارَ مقتربًا منها ولم يتحمَّل احتراقَ العشق، لتسحبهُ أقدامهِ وعينيهِ تتأمَّلُ تفاصيلها بعناية، يدعو ربِّهِ بسريرتهِ أن لا يصيبها أذى، يكفي فقدانَ جنينهم..
ردَّدها بينهُ وبينَ نفسه، جنين، ذهبَ ببصرهِ إلى بطنها وبسطَ كفِّهِ الذي ارتعشَ وهو يعضُّ كفِّهِ الآخر ندمًا على ماقاله، كيفَ ستغفرُ لهُ إذا استمعت لحديثهما، يعشقُها حدَّ الجنون، ولكن كبريائهِ وكرامتهِ فوقَ قلبه، ملسَ على بطنها بحنانٍ ثمَّ انحنى يضمُّها إلى صدرهِ لتنسابَ دمعةً رغمًا عنه، طبعَ قبلةً فوقَ رأسها:
آسف، سامحيني، ياريت الزمن يرجع بيَّا مكنتش وافقت على جوازنا، سنين وأنا بضغط على نفسي لحدِّ مابقتشِ قادر، خوفت تكوني لغيري، وآدي النتيجة، لمسَ عنقُها الذي مازالت آثارُ قبلاتهِ عليه..انحنى يدفنُ رأسهِ وأغمضَ عينيه:
حُبِّي بيدمَّرِك أكتر مابيسعدِك، صدَّقيني بضغط على نفسي علشان أصلَّح منها بس عندِك مابعرفشِ أسيطر، إنتِ مش مجرَّد بنت أُعجبتُ بيها ياميرال إنتِ حياة إلياس كلَّها، من الطفولة للشباب حتى المشيخ، رفعَ رأسهِ ينظرُ لوجهها الذي انطفأَ بريقه، وحرَّكَ أناملهِ على وجهها إلى أن وصلَ لشفتيها التي يعتبرها شهدَ الحياة، أغمضَ عينيهِ ولحظاتهم الجميلة تمرُّ أمامَ عينيه، ابتسامةً حزينةً وهو يتذكَّرُ شقاوتها بين أحضانهِ ليهمسَ دونَ وعي:
وأنا أموت من غيرِك، ..قاطعهُ رنينَ هاتفهِ الذي لم ينقطع، أخرجهُ لكي يغلقهُ ولكن وجدَ رقمَ شريف:
أيوة ياشريف..قاطعهُ قائلًا:
إلياس باباك عمل حادثة واتنقل للمستشفى..هبَّ من مكانه:
إنتَ بتقول إيه، طيِّب أنا جاي..تحرَّكَ خطوةً فتراجعَ بعدما تذكَّرَ أمرَ معشوقته، انحنى يدمغُ جبينها بقبلةٍ قائلًا بصوتٍ خافت:
هروح أشوف بابا وراجعلِك، ظلَّت نظراتهِ عليها للحظاتِ إلى أن طبعَ قبلةً فوقَ شفتيها يهمسُ لها:
ربِّنا يصبَّرني عليكي لمَّا تفوقي ..نصبَ عودهِ واعتدلَ متَّجهًا للخارج ..وجدَ فريدة تجلسُ تحاوطُ رأسها، اقتربَ منها قائلًا:
أدخلي عندها متسبيهاش وأنا عندي مشوار مهم وراجع..
نهضت تطالعهُ بذهول:
إنتَ إيه ياأخي جبروت، أنا كذِّبتِ كلامَك ليَّا من بعدِ ماشوفت لهفتَك عليها، وقولت دا عايز يحرَق دمي وبس، مستحيل يكون بيكرهها وهيموت عليها..
انحنى ينظرُ بعينِ فريدة:
أه كذبتِ عليكي علشان اللي جوَّا دي أغلى من روحي ارتحتي كدا، خلِّيكي معاها لحدِّ ماأرجع هيَّ مش بنتك..قالها واستدارَ للمغادرة، أطبقت على ذراعه:
طيِّب لمَّا إنتَ بتحبَّها كدا ليه يابني بتعمل معاها كدا..نظرَ لكفِّها الذي يتشبثُ بذراعهِ ثمَّ إليها:
وبعدهالِك ليه مصرَّة تخلِّيني أوجعِك بالكلام، إبعدي عنِّي لو سمحتي كفاية اللي حصل لمراتي، وابني اللي حتى معرفتش بوجوده، عايزة منِّي إيه؟..
عايزة إلياس الطفل البرئ اللي أوِّل مرَّة شوفته فيها:
استدارَ بكاملِ جسدهِ وغرزَ عيناهُ بها:
اندفن يوم ماضحكتي عليَّا أنا وبابا وماما بإيدك دي دفنتيه، خلِّتيني مأمِّنشِ لأي ست، أشارَ على بابِ غرفةِ ميرال:
شوفي بنفسِك، أُدخلي وشوفي نتيجة كُرهي ليكي، دنا خطوةً ومازالت عيناهُ تحرقها..
حاولت آذيها وأبعد عنَّها ومقدرتِش، حاولت آذيكي وبرضو مقدرتِش معرفشِ ليه بعد ماأبقى مُصر أدمَّرِك واقف عاجز ومقدرش، عرفت بموضوع عمِّ ميرال من سنين ورغم كدا ماحاولتش حتى أخلِّيه يقرَّب منَّها، ليه يامدام يافريدة، يمكن حبِّك ليَّا في الأوِّل دا اللي بيشفعلِك، ولَّا يمكن علشان ميرال، يمكن خُفت ياخدُها منِّك، حقيقي معرفش..
لمست وجنتيهِ وانسابت عبراتها:
بتحبَّها أوي كدا..قالتها وهي تهزُّ رأسها..
ابتعدَ كالملسوعِ يهزُّ رأسهِ وتحرَّكَ قائلًا:
مراتي أمانة عندِك يامدام فريدة..توقَّفَ واستدارَ إليها:
رُدي الجميل اللي عملتُه معاكي ..بعدَ فترةٍ وصلَ إلى المشفى، وجدَ شريف بالخارجِ يتحدَّثُ مع الطبيب:
فين بابا وحادثة إيه دي؟..
سحبَ كفِّهِ ودلفَ للداخلِ بعدما وجدَ لهفتهِ وخوفه:
أهو نايم، كويس، بس مصاب في دراعه، الطلقة الحمدلله ماصابتوش..
طلقة، ليه بابا مضروب بالنار ولَّا حادثة!..
ابتعدَ بنظراتهِ هامسًا:
مضروب بالنار، وقبل ماتقول حاجة عربية الحراسة أنقذتُه بصعوبة، حدِّ كان عايز يموتُه.
إيه ..يموتُه، أبويا..ليه ومين له مصلحة في قتلِ لوا شرطة ..بابا حد يموِّته طيِّب إزاي ..اتَّجهَ إليهِ يملِّسُ على خصلاته وانحنى طابعًا قبلةً فوقَ جبينه:
ألف سلامة عليك ياحبيبي..رفرفَ بأهدابهِ يهمسُ اسمه:
إلياس ..جذبَ المقعدَ وجلسَ محتضنًا يديه:
أنا هنا جنبَك ياحبيبي..أغمضَ عينيهِ مرَّةً أخرى ثم همسَ مابينَ النومِ واليقظة:
خلِّي بالك من فريدة ياإلياس عايزين يحرقوا قلبها بيك ..قالها وذهبَ بنومهِ مرَّةً أخرى:
أرجعَ ظهره متكئًا على المقعدِ يردِّدُ حديثَ والده:
يوجعوها بيَّا، ليه، ياترى بابا يُقصد إيه؟..نهضَ من مكانهِ فجأةً واتَّجهَ إلى النافذة:
شريف عايز أعرف مين اللي ورا حادثة بابا، وإبعت لمعتصم ملف ابنِ راجح الشافعي، خلِّيه يرجعوهلنا تاني.
نظرَ لخارجِ النافذة:
فريدة وراجح ..وأنا وبابا، راجح عايز يوقَّع بابا علشان فريدة بعد زيارتي، طيب أنا اللي هدِّدتُه..استمعَ إلى طرقٍ على الباب ثمَّ دلفَ إسلام بلهفةٍ وخوف:
بابا..استدارَ ثمَّ اتَّجهَ إليه:
إهدى حبيبي بابا كويس، هوَّ نايم بس..ضمَّ كفَّيه وقبَّلهُ ونزلت دمعةً من عينيه:
حبيبي مين عايز يبعدَك عنِّنا..ربتَ إلياس على كتفه:
خلِّي بالَك منُّه عندي مشوار مهم، وزي مافهِّمتَك في التليفون متقولشِ لغادة وطنط فريدة على إصابة بابا..
همَّ بالمغادرة:
إلياس رايح فين وسايب بابا ..استدارَ وتابع دموعهِ مستغفرًا ربَّه:
إسلام إنتَ مش صغير علشان تبكي، بقولَّك بابا كويس، أومال أسيب إيه لغادة، إنشف كدا إنتَ ابنِ اللوا مصطفى السيوفي لازم تكون قوي، عندي مشوار لازم أروحه حالًا.
طيِّب لازم ماما فريدة تعرَف هتزعَل أوي..
زفرةً حارقةً ألهبت جوفهِ فاقتربَ منه:
يابني إنتَ مش عايز تكبر، بابا قدَّامك كويس، ليه نقلقها على الفاضي، وكمان هيَّ مع بنتها في المستشفى..
قصدَك مراتَك ياحضرةِ الظابط.
أووف ..قالها وتحرَّكَ دونَ حديث..وصلَ بعدَ قليلٍ إلى فيلَّا الشافعي، دلفَ من البوابةِ الرئيسية بسيارته دون أن الاذن مع هرولة الحرس خلفه، توقف، ترجل من سيارته يشير اليهم ببطاقة تعريفه
-مش عايز اشوف حد فيكم هنا، امشو من قدامي، قالها واتَّجهَ إلى الداخل
قابلته الخادمة ..خلع نظارته وتحرك للداخل راجح الشافعي عايز أقابلُه الاقي في انهي مذبلة هنا..قطبت جبينها ، دفعها وتحرك للداخل أسرعت خلفه:
نقولُّه مين يافندم؟..
قوليلُه قدرَك ...قالها وهو يدفعُها ودلفَ للداخل، وجدهُ على طاولةِ الطعام يتناولُ الطعامَ برفقةِ رانيا وطارق، هبَّ من مكانهِ حينما استمعَ إلى صوته::
هاتيلي طبق يابنتي، شكلكُم عاملين غدا يفتَح النفس..قالها وهو يجذبُ المقعدَ بجوارِ رانيا ثم رمقها متسائلًا:
مدام رانيا جيت لحدِّ عندِك مكنشِ فيه داعي تروحي تسألي عنِّي.. كان تليفون صغير وأجيلِك، حضرتِك غالية،
زوت مابين جبينها متسائلة:
حضرتَك مين؟،،،،
رفعَ كوبَ عصيرِ راجح الذي مازالَ متوقِفًا يطالعهُ برهبةٍ شديدةٍ والخوفُ يتملَّكهُ بأنَّهُ علمَ بأمرٍ مصطفى..
نظرَ إلى كوبِ العصيرِ ثمَّ رفع نظرهِ إلى راجح
العصير المسكَّر بيجيب السكر وخاصةً للناسِ اللي بلاويها كتيرة، قالها وهو يُفلتهُ من يديهِ ليسقطَ فوقَ الطاولة، ثمَّ توقَّفّ يستندُ بكفَّيهِ على الطاولةِ يطالعهُ بنظراتٍ مستهزئة:
لعب العيال اللي بتحاول تعملُه مع عيلة السيوفي إنتَ والمدام بتاع تنضيف بشرةِ الستات ومسح كعوبهم دي تلعبوها هناك في السويس مع شوية قطاعين الطرق..
إنتَ مين ياجدع ماتحترم نفسك، قالها طارق بغضب، وهو يقترب منه، بينما توقَّفت رانيا:
إنتَ مجنون إزاي تدخل بالهمجية دي!..
التفتَ إليها يحدجُها بنظرةٍ جحيمية:
صوتِك يامدام، أنا مش راجح الشافعي علشان تنسي نفسِك وتعلِّي صوتِك، ثمَّ رمقَ طارق:
وإنتَ ياله يابتاعِ البنات مسمعشِ صوتَك، تقعد زي الكرسي اللي إنتَ عليه..اقتربَ طارق يدفعه:
دا إنتَ قليل الأدب وعايز تتربَّى، أطبقَ على عنقهِ يدفعهُ على طاولةِ الطعام:
مبحبِّش كلام العيال الشمَّامة يالا، مش قولت إخرس..
قالها وهو يضعُ رأسهِ بطبقِ السلطة ثمَّ رفعَ عينهِ إلى راجح وهو مازال يضغط على عنق طارق:
وحياة أبويا اللي في المستشفى علشان جلسة استجمام لصحتُه ماهو الصراحة لازم أشكرَك بس أتأكد إنَّك السبب في أنه يسمَع كلامي يعمل تشييك على صحته، جاي أشكرَك، لحدِّ دلوقتي بشكرَك بوق، بس طبعًا لمَّا أتاكِّد لازم أهاديك، ثمَّ التفتَ إلى رانيا:
وإنتِ لمِّي شوية العيال اللي بيراقبوا مراتي أصلًا قسمًا عظمًا أعمل معاكي الغلط، والغلط عندي مش تقدري عليه..
إنتَ إلياس السيوفي..رفعَ رأسَ طارق:
أكلت سلطة ياحيلة أمَّك حلوة صح ومفيدة على الصحة، المرة الجاية هحط راسَك في الشوربة المغلية، يوم ماتعمل راجل إعملُه مع البنات اللي بتحشش معاهم يالا مش مع أسيادَك، قالها ودفعهُ ليسقطَ على المقعد، ثمَّ اقتربَ من رانيا التي ارتجفَ جسدها من هيئته، إلى أن وصلت تختبئُ خلفَ راجح ، ارتفعت ضحكاتُ إلياس يهزُّ رأسهِ:
خبيها حلو ياراجح باشا، وياريت تتخبَّى معاها قبلِ مارجع أشكرَك تاني..
قالها ينظرُ للطعامِ ثمَّ اتَّجهَ إليه:
أكلكُم ريحتُه وحشة يمكن من ظلمِ الناس، خطا خطوةً أخرى وغرزَ عيناهُ بأعينِ راجح:
ماما فريدة هربت منَّك ليه ياراجح ياشافعي..توسَّعت أعينُ رانيا وارتفعت دقَّاتها بعنف ..
إسألها مش هي أمَّك مش المفروض تسألها، قولَّها ليه قتلتي بنتي، وليه بيعتي ولادِك، مش يمكن بتخطَّط علشان توصل لأبوك..
أطبقَ على عنقهِ واحمرَّت عيناه:
ياويلَك منِّي لو قرَّبت منها تاني، همحيك من على وشِّ الأرض، أنا زي نفسك، ماما فريدة خط أحمر بالنسبالي لو قرَّبتِ منها كأنَّك خرَّجت شياطيني عليك..أفلتَ يديهِ يرمقهُ باحتقارٍ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى طارق وتحرَّكَ مغادرًا يقطعُ المكانَ بخطواتهِ الثابتة من يراهُ يظنُّ أنَّهُ حاكمَ الكرةِ الأرضية.
هوت رانيا على المقعدِ تشيرُ لسرابِ خروجه:
مين دا، دا اللي أسمه إلياس، يعني دا اللي فريدة مربياه..
جلسَ راجح بعدما فقدَ اتزانهِ يردِّد:
لو وصل لحاجة هروح في داهية..
إنتَ عملت إيه يابابا؟..نهضَ من مكانهِ سريعًا وأمسكَ هاتفه:
إنتَ فين ياحيوان، مصطفى السيوفي لسة عايش وأنا مش قولتلَك الاتنين يكونوا في نفسِ الوقت، ليه مضربتِش إلياس؟..
أجابهُ الآخر:
ياباشا دا محاوطُه جيش من الأمن، غير أنُّه مش سهل عربيتُه مصفَّحة، أمَّا مصطفى الأمن بتاعُه قوي، إحنا يادوب عرفنا نخترِق العربية وكنَّا خلاص هنوصل لولا الظابط اللي اسمه شريف دا عرف أنُّه هيموت ولحقُه معرفشِ مين اللي بلَّغه..
يعني إيه مين اللي بلَّغُه، أوعى تقولِّي فيه خاين...آااااه صرخَ بها وهو يُلقي الهاتف ليتهشَّمَ وصلت إليهِ رانيا:
إنتَ كنت عايز تموتهم، إنتَ اتجننت ياراجح،دا ظابط أمنِ دولة، عارف يعني إيه، ضربت على ركبتيها:
يالهوي ابني هيضيع في السجن بسبَبك ياراجح ليه دا كله علشان إيه، أيوة فريدة هنرجع لفريدة تاني..
إخرسي بقى أيوة علشانها، إنتِ نسيتي عملت إيه، دي خلِّت سُمعتي زي اللبانة، ضربت كفيَّها:
لا ياراجح اللي واقفة قدَّامك دي رانيا مش حد غريب، إنتَ نسيت اللي عملناه فيها..
دفعها بقوِّةٍ يصرخُ فيها:
إخرسي مش عايز أسمع صوتِك، أنا بعمل كدا علشان أعرف أوصل لبنتنا، فريدة طول ماهيَّ قوية مش هنعرف مكان بنتنا.
مسحت على وجهها بغضبٍ تضعُ أناملها فوقَ جبينها تدورُ كالمجنونة:
دا ابنِ جوزها عامل زي التنين، إنتَ مش شايف دخل البيت إزاي وسط الأمن ومحدِّش قدر يوقفه، أومال جوزها هيكون عامل إزاي…
نفثَ سيجارتهِ بغضب:
أسكتي لازم نفكَّر بطريقة نخلص من الواد قبلِ مايوصلُّه، دا لو عرف إحنا ورا ضربه مش هيرحمنا.
إحنا، إحنا مين.. إنتَ ليه بتجمعنا، شيل شيلتك أنا ماليش دعوة ..تذكَّرَ راجح شيئًا فتوقَّفَ متسائلًا:
إنتِ كنتي بتراقبي مراتُه ليه؟..
جلست بقهرٍ وأجابته:
قولت يمكن تكون مروة بنتنا، وقولت أعمل أي فيلم علشان آخد منها أي حاجة وأعمل تحليل ..جحظت عيناهُ بصدمةٍ فاقتربَ متسائلًا:
مروة، وإيه اللي خلَّاكي تقولي كدا؟..
ابتلعت غضبها تطالعه:
حسِّيت من الشبه، واخدة منَّك ومن جمال..أطبقَ على كفيها:
لو جبتي إسمه هموتِك، حقيرة..قالها وتحرَّكَ للخارجِ وهو يصرخُ بأمنه..
عندَ إلياس ..وصلَ إلى المشفى التي بها أبيه وجدهُ استيقظَ وبجوارهِ إسلام وأحدِ أصدقائه، ألقى تحيةَ السلام، وقامَ بالترحيبِ لصديقه، ثم تساءلَ:
وصلتم لحاجة، الكاميرا لقطت حاجة؟..
فيه ظابط متابع وكمان شريف ياسيدي على الخطوة، لمُّوا ظباطكم ياإلياس، ليكم شغلُكم ولينا شغلنا قالها بمزاح، اقتربَ من والدهِ يطبعُ قبلةً فوقَ رأسه:
حاسس بإيه حبيبي؟..
أومأَ مبتسمًا :
كويس يابابا..استأذنَ صديقه وتحرَّكَ
بينما جذبَ مقعدًا وجلسَ بجوارِ فراشه:
الحادثة حصلت إزاي ..أغمضَ عينيهِ متراجعًا على الوسادة:
معرفشِ فجأة عربية دخلت بين الحرس وبين العربية، وضربوا نار على السواق، وحاولوا يفجَّروا عربيتي، لولا الحراسة كنت زمانَك دفنت أبوك.
ابتسمَ يربتُ على كتفه:
ألفِ سلامة عليك ياحبيبي، لسة في العمر بقية ياسيادةِ اللوا، مش مجرَّد الحرس..
فين فريدة إنتَ معرَّفتهاش؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
مرضتشِ أقولَّها، محبتشِ تقلق وتخاف على الفاضي.
هزَّ مصطفى رأسه:
عين العقل ياحبيبي، شوف الدكتور علشان نخرُج ..دلفَ إسلام بجوارٍ غادة الباكية:
بابا..قالتها بلهفةٍ ورعبٍ وهي تُلقي نفسها بأحضانهِ وارتفعت شهقاتها..
مسَّدَ على خصلاتها متألِّمًا:
حبيبتي أنا كويس إهدي مفيش حاجة.
توقَّفَ إلياس يطالعُها باستفهام:
دودي عرفتِ منين، قالها وعيناهُ لإسلام الذي رفعَ كتفهِ ينفي إخبارها.
رفعت رأسها من أحضانِ والدها تُزيلُ دموعها كالأطفال:
شوفت الخبر وأنا رايحة لميرال وماما في التليفون، كلِّمت حارس بابا قالِّي إنَّك هنا معرفشِ إن إلياس يعرَف فكَّرته عند ميرال.
اعتدلَ مصطفى: ليه هيَّ ميرال فين؟..
توقََفَ ينظرُ بساعته:
هشوف الدكتور قالها وهمَّ بالمغادرة إلى أن أوقفهُ مصطفى:
مراتَك مالها وفين؟..صمتَ وابتعدَ عن نظراتِ والده، طرقاتُ الباب أخرجتهم عن الحوار، ودلوفِ بعضَ أصدقاءِ مصطفى للأطمئنانِ عليه،
تحرَّكَ للخارجِ يرفعُ هاتفه:
إيه الأخبار:
مفيش جديد يافندم، اللي أسمه طارق دا خرج من شوية..
تمام أيِّ جديد عرًَفني..خرجَ للحديقةِ وبدأ ينفثُ سيجارتهِ يهمسُ بصوتٍ خافت:
ليه راجح مسألشِ عن ميرال، دي بنته اللي مراتُه هربت منُّه...زفرَ وهو يضعُ مبرِّراتٍ غيرُ مقنعة، احتضنَ رأسهِ وسيجارتهِ بيديه حتى انتهى رمادها ولم يشعر بها سوى على صوتِ إسلام:
الدكتور رفض بابا يخرُج الليلة، وبابا عايز ماما فريدة، بيقولَّك روح لمراتَك وأنا هجيب ماما فريدة..
نصبَ عودهٍ وتوقَّف:
تمام بس خلٍّيك جنبُه كمان، متنفعش لوحدها
وصلَ بعد قليلٍ إلى المشفى، توقَّفَ لدى البابِ على صوتِ بكائها:
عملت إيه ياماما علشان يعمِل معايا كدا، دا أنا حبِّيتُه أكتر من نفسي، ليه يدبحني ياماما..
ضمَّتها فريدة تمسِّدُ على خصلاتها:
إهدي حبيبتي، الكلام اللي سمعتيه مش حقيقي، هوَّ كمان بيحبِّك.
صرخت تهزُّ رأسها رافضةً حديثها:
كدب كلُّه كدب، طلع كدَّاب وواطي..
إشش إهدي حبيبة ماما، فيه حد يقول على حبيبُه وجوزُه واطي، عيب ياقلبي
ضربت على صدرها تبكي:
قلبي موجوع ياماما، أنا بتحرِق، حبيبي اللي بقالي سنين مش شايفة غيرُه دبحني بسكينة باردة، طلع بيرسِم عليَّا ياماما أنا بكرهُه..
احتضنت فريدة وجهها:
ميرو قلبي، والله إلياس بيعشقِك يابنتي هوَّ تارُه معايا مش معاكي..
تراجعت على الفراشِ وارتفعت شهقاتها تحضنُ نفسها:
أنا كرهتُه، بكرهُه مش عايزة أشوفُه، طلَّقيني منه زي ماجوِّزتيني، مستحيل أفضل على ذمِّة البني آدم دا لحظة واحدة ..طلَّقيني منُّه ..قالتها صارخةً فدفعَ البابَ وتوقَّفَ فجأةً أمامها، رفعت عينيها وتعلَّقت الأعينُ بحربِ النظراتِ
هتفَ قائلًا:
إسلام مستنيكي في العربية، هياخدِك لبابا قالها وعيناهُ على ميرال التي تطالعهُ بنفور، وكم شعرَ باحتراقِ روحهِ من نظراتها ..اقتربت فريدة منُّه:
ليه باباك فين يابني ..استدارَ برأسهِ إليها:
عمل حادثة وهوَّ في المستشفى..شهقةً خرجت من فمها وهرولت إلى حقيبتها:
لازم أروح أشوفُه، لسة جاي تقولِّي دلوقتي إنتَ إيه ياأخي ..سحبَ نفسًا وزفرُه:
أنا مكنُتش هعرَّفك بس هوَّ اللي أصر إنِّك تروحيلُه..زحفت ميرال على الفراشِ تتوقَّفُ هامسةً بخفوتٍ عكسَ صياحها منذ قليل:
عايزة أروح معاكي خُديني، التفتت إليها:
مينفعشِ ياقلبي لازم ترتاحي، اقتربت فريدة منها تجمعُ خصلاتِها على جنب:
روحي ارتاحي، وأنا مش هتأخَّر عليكي، هطَّمن على عمُّو وأجيلِك ..شعرت بالدورانِ فجلست تهمس:
ابعتيلي غادة ياماما ولَّا إسلام يوصَّلوني، مش عايزة البني آدم دا
التفتت فريدة إلى إلياس اتصِل بإسلام يوصلَّها وأنا هروح مع السواق..
اتأخرتي يامدام فريدة ..قالها واقتربَ يعدِّلُ وضعيتها على الفراش:
نامي وارتاحي، مفيش خروج لمَّا الدكتورة تشوفِك ..دفعت يديه:
إبعد عنِّي إيَّاك تلمسني، رفعَ رأسهِ إلى فريدة التي تطالعُهم بصمت..تحرَّكت للخارجِ بعدما وجدت نظراتَ إلياس:
حاسة بإيه فيه حاجة بتوجعِك؟..
بأنفاسٍ غيرُ منتظمةٍ من قربهِ وذراعهِ الذي يحاوطُ جسدها بهِ هدرت باقتضاب:
حاسة بخنقة من قُربَك، إبعد عنِّي مش طيقاك..
ضمَّ رأسها إلى صدرهِ وتحكَّمَ بحركاتها القويةِ محاولةً التملصَ من أحضانهِ
بنفاذِ صبرٍ.. محاولًا السيطرةَ على مشاعرِ الغضبِ التي نفرت عروقِه، ضمَّها بقوَّةٍ حتى رفعها من فوقِ الفراشِ لتصبحَ بأحضانهِ بكاملِ جسدها:
إهدي بقى، خُلقي ضيَّق ..لكزتهُ بصدره:
إبعد بقولَّك ..قالتها بصراخ، عايز منِّي إيه لسة ناوي تدبَح فيَّا لحدِّ إمتى، مخادع ياإلياس ..أطبقَ بخاصتهِ على شفتيها حتى تصمتَ ويُطفئَ لهيبَ اشتياقه، حاولت التحرُّرَ ولكنَّهُ كانَ الأقوى ليقبِّلها بقبلاتٍ عنيفةٍ كسابقتها، ابتلعَ دموعها التي جعلت صدرهِ كتلةً نارية، ورغمَ ماشعرَ بهِ أخنقها بقبلاتهِ لعدَّةِ دقائقَ كادت أن تسحبَ أنفاسها، ابتعدَ عنها يحرِّرُ كرزيتها ولكنَّهُ مازال يستحوذُ على جسدها بأحضانه، انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها يلمسُ بخاصتهِ أذنها:
أكتر كلمتين بكرهُهم وأتمنَّى ما أسمعهُمش منِّك"بكرهَك وطلَّقني" دول إبعدي عنهم دا لو خايفة على نفسِك سمعتيني ...قالها وابتعدَ يسندُ بذقنهِ على كتفها يضمُّها باحتواءٍ لأحضانهِ وكفِّهِ يتحرَّكُ بحريةٍ على بطنها قائلًا بخفوت:
هنا كان فيه ابننا وضاع، ابننا ياميرو، فاهمة معنى الكلمة، ممكن الكلمة تكون بسيطة بالنسبالِك، بس بالنسبالي أهمِّ حاجة في الدنيا..
لكزتهُ بصدرهِ بقوَّةٍ وهدرت بغضب:
علشان تعاقبني بيه، علشان تحسَّرني عليه، ولَّا علشان تفضَل تدوس على أمي ...قبلةً مطوَّلةً على وجنتيها:
علشان كان هيكون ابني وابنِك، ابني اللي عمري مااتمنِّيت من الدنيا حاجة غير إنِّك تكوني أمُّه وبس..
هزَّت رأسها تنظرُ بازدراءٍ وتلكزهُ حتى شعرَ بانكسارِ ضلوعهِ من شدَّةِ ثورانها:
جاحد ياإلياس بس ربنا قالَّك إنزل بغرورَك ياسيادةِ المغرور،ربنا كسر غرورَك وعرف قدِّ إيه إنَّك ظالم وواطي فحرمَك من ابنَك حتى قبلِ ماتفرح بخبرُه، شوفت كُره من ربِّنا أكتر من كدا ..اختتمت حديثها وهي تلكزهُ بقوَّةٍ أكبر بصدرهِ ليشعرَ وكأنَّها كسرت عضلاتِ صدره بالكامل ليته من ضرباتها ولكن من كلماتها التي أصبحت كالرصاص..ابتعدت مستديرةً وبعيونٍ مملوءةٍ بالنفورِ والإشمئزاز:
ربِّنا أخد حق امي و حقِّي منَّك، كان عارف قدِّ إيه نفسَك في البيبي فحرمَك منُّه قدَّام عيونَك وبايدك دي قتلته..انحنت بجسدها وهمست بهسيس مرعب
-إنت السبب في موت ابنك، وان شاء الله مش هتشوفه تاني
لمس وجهها ينظر إليها
-طيب اهدي، علشان ماتتعبيش
هاجت عيناها وفقدت تحكُّمها مقتربةً منهُ تنقضُّ عليهِ تدفعهُ بجبروتِ غضبها منهُ على الفراش:
بكرهَك وبكره نفسي وبكره كلِّ حاجة ربطتني بيك، بكرهَك ياحضرةِ المغرور اللي مفكَّر نفسُه ملك الكون، ربنا ياخدَك وأرتاح منَّك...حقيييير
صرخت بهِ بعدما شعرت بتمزُّقِ قلبها الملعونِ الذي مازال ينبضُ باسمه..
تجمَّدَ جسدهِ وهناكَ نيرانٌ داخلهِ تريدُ أن تحرقَ المكان، شعرَ بالقهرِ من نظراتها ونفورها وحديثها الذي مزَّقهُ لأشلاء ..ظلَّت نظراتهِ جافيةً على غضبها ..أُنهكَ كاملَ جسدها حتى هوت على الفراشِ أمامهِ تبكي بمرارِ ماتشعرُ به ...انحنى وجذبها يضعها على الفراشِ يمسِّدُ على خصلاتها يهدِّئُها بصوتهِ الحنونِ لأوَّلِ مرَّة:
بطَّلي عياط، راضي الحمدلله إن ربِّنا عاقبني بحرماني من الولد، المهم تكوني بخير
إبعد إيَّاك تلمسني، إمشي اطلع برة، مش عايزة أشوف وشَّك قدَّامي..أكتر بني آدم بكرهُه ومش عايزة أشوفُه قدَّامي.
استندَ على الفراشِ يلمسُ وجنتيها:
من قلبِك ياميرال، رغمَ رعشةِ قلبها منهُ ولكن كلَّما تذكَّرت حديثهِ انشطرَ قلبها، رفعت عيناها:
من أعماقِ قلبي ياإلياس، رفعت رأسها ونظرت إلى عينيهِ بجبروتٍ بل دنت من شفتيهِ تلمسُها بخاصتها مما جعلتهُ يُغلقُ عينيهِ متأثرًا من لمستها لتهمس:
قلبي دلوقتي بيكرهَك أكتر واحد في الدنيا...فتحَ عينيهِ التي تحوَّلت لِلَّونِ الأحمرِ بسببِ تلاعبِها بمشاعره، هبَّ من مكانهِ مبتعدًا ثمَّ أعدلَ من وضعيةِ ثيابهِ من لكماتها وهجومها عليه، وضغطَ على الزرِّ الذي يُوجدُ بفراشها..
وصلت الممرضة:
نعم يافندم ...أشارَ إليها:
شوفي المدام هنخرج، وياريت تساعديها لحدِّ العربية، قالها وارتدى نظارتهِ متحرِّكاًا للخارج..
بشقَّةِ أرسلان:
دفعتها ودلفت للداخلِ وجدتهُ نائمًا على الأريكة، طالعتهُ غاضبةً تشيرُ إليها:
سيدِك نايم هنا ليه، انحنت تلمسُ وجنتيه، ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً عليها وهو غارقًا بنومه:
راسو حبيبي ..أنا جيت..
فتحَ عينيهِ بتملُّلٍ ظنًّ أنَّها زوجته، ابتسمَ بنومهِ ولكنَّهُ هبَّ من مكانهِ حينما استمعَ إلى صوتها:
طمطم!..إنتِ إيه اللي جابِك؟!..
دفنت رأسها بصدرهِ تهمس:
وحشتني أوي حبيبي كدا ماتجيش تشوف حبيبتَك…
كانت تقفُ بعيونٍ مترقرقةٍ على ذاكَ المشهدِ الذي أحرقَ روحها..
استدارت للمغادرةِ ولكنَّها توقَّفت حينما استمعت إليها:
جهِّزي الحمَّام لسيدِك يابت..هنا فاقَ من نومهِ كاملًا، ظنًّا أنَّهُ يحلُم، رفع عينيهِ سريعًا ينظرُ إلى غرام التي تجمَّعت الدموعُ بعينيها، فتحَ فاههِ يشيرُ إليها إلَّا أنَّها قاطعته:
حاضر ياهانم هحضَّر الحمَّام لسيدي وأجهزلُه الغدا، ولو عايزة حضرتِك أعمل حسابِك معنديش مانع، بس إنتِ تؤمري.. أحضَّره في أوضةِ النوم؟..
قالتها وهي تحدجهُ بنظراتٍ ساخرة..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا ثمَّ تحدَّثَ:
غدا وأوضة نوم أنا وطمطم، أدارت وجههِ تنظرُ إليهِ بسعادة:
قولِّي إنَّك عاملِّي مفاجأة والشقة دي اللي هنتجوز فيها؟..
كانت مازالت نظراتهِ على تلكَ التي دلفت للداخلِ دونَ حديث..دفعَ تمارا بعيدًا عنهُ وتحدَّثَ بهسيسٍ مرعب:
إنتِ مجنونة، شقة إيه اللي هنتجوِّز فيها..مش عايزة تعقلي خالص، وبعدين تعالي مين قالِّك على العنوان؟..
خالو إسحاق، قالِّي إنَّك مستنيني هنا.
إسحاااااق...قالها وهو يكورُ قبضتهِ بعنف..ثمَّ استدارَ إليها:
تمارا ممكن تنتظريني تحت، هاخد شاور وأغير وأنزلِك ...جلست على الأريكة:
لا حبيبي هستناك هنا، أُدخل خُد شاور، ولَّا أقولَّك هقوم أشوف إيه ناقص الشقة علشان أقول للمهندس عليها، قالتها وتحرَّكت للداخلِ دونَ أن تنتظرَ حديثه،
رفعَ هاتفهِ وهتفَ اسحاق صارخًا:
إنتَ بتلعب معايا ياعمُّو، بعتلي طمطم في الشقة مع غرام..
توقَّفَ يشيرُ إلى الطبيب:
هيَّ جتلَك ولَّا إيه، أرجعَ خصلاتهِ للخلفِ بعنف:
جت ومشغَّلة نغمة جوزي وشقِّتنا..
أنا مقولتلهاش حاجة إزاي عرفت عنوان الشقة؟..
إيه يعني هيَّ بتضحَك عليَّا، طيب عرفت إزاي عنوان الشقة، تمام..فيه جديد عن حالة بابا؟..
ابتسمَ إسحاق يضعُ كفَّيهِ بجيبِ بنطالهِ ونظرَ من الشرفة:
باباك فاق وسأل عليك، تعال شوفُه علشان كلِّ شوية مفيش غير البغل ارسلان
لمعت عيناهُ قائلًا:
عشر دقايق وأكون عندَك ...قالها وهرولَ للداخلِ متناسيًا وجودَ تمارا ابنةِ عمَّته، دفعَ البابَ وجدها تستلقي بظهرها على الفراش تحملُ صورتِه ..اقتربَ منها كالمجنون:
إنتِ يابت مجنونة بتعملي إيه؟!..
ملَّست على الفراشِ ومازالت بوضِعها:
السرير حلو ومريح هنرتاح عليه... تحرَّكَ إليها يجذبُها بعنفٍ بوقوفِ غرام على بابِ الغرفة:
الغدا جاهز يابيه، قالتها وغادرت دونَ إضافةِ شيئٍ آخر.
رفعها من خصلاتها:
دقيقة واحدة لو لقيتِك هنا هدبحك، سمعتيني..
أرسو ليه بتعاملني كدا دا أنا بحبَّك..
جزَّ على أسنانهِ يصرخ:
ياربي أموتها ..سحبها من كفها وتحرَّكَ بها للخارج، ثمَّ فتحَ بابَ الشقةِ يشيرُ للأسفل:
ياله حبيبتي إنزلي وأنا جاي وراكي، علشان احبك اكتر كمان..قالها وأغلقَ البابَ يقفُ خلفهِ يزفرُ بغضب:
بت ثقيلة، ثكلتكِ أمك ياشيخة..
تحرَّكَ للداخلِ يبحثُ عن تلكَ الغبية، وجدها تضعُ بقيةِ الطعامِ على المائدة.
إنتِ بتعملي إيه ..رفعت عينيها إليهِ ثمَّ اتَّجهت لما تفعلُه:
بحضرلَك الغدا يابيه إنتَ والمدام بتاعتَك..
مدام بتاعتي!..ارتفعت أنفاسهِ وتحرَّكَ للداخلِ بعدما دفعَ المقعدَ بغضبٍ حتى سقط..
نقصني جنان، فعلًا ستات هبلة، قالها وهو يصفعُ بابَ الحمَّامِ خلفهِ بقوَّةٍ وقامَ بتحطيمِ كلَّ مايقابلُه..
جلست وامتلأت عيناها بسحُبِ الحزنِ تهمسُ لنفسها:
إحنا الاتنين مختلفين للأسف ياأرسلان ..شكلنا مش هنكمِّل مع بعض..نهضت متَّجهةً إلى غرفتهِ تُخرجُ ثيابهِ كما تعوَّدت بالأيامِ السابقة، وضعت ملابسهِ بانتظامٍ ودِقةٍ كما تعوَّد، ذهبت ببصرها موضعَ نومِ تمارا، شعرت بقبضةٍ تعتصرُ روحها هامسةً بتساؤلٍ خرجَ من آلام قلبها:
معقول يكون متجوِّز وبيضحك عليَّا؟..
أه..ومخلِّف والعيال بتلعَب برَّة، أجيبهم علشان يقولولِك يامرات بابا، ولَّا ياأنطي؟..
قالها واقتربَ بخطواتهِ منها، وهو يكادُ يحرِقها بنظراتهِ الغاضبة، تراجعت بعدما وجدتهُ بتلكَ الهيئة، خروجهِ بالمنشفة وخصلاتهِ النديةِ بالماء، ناهيكَ عن قطراتِ المياهِ التي تحاوطُ أكتافهِ وصدرهِ العاري ..استندت على الجدارِ خلفها تبتلعُ ريقها بصعوبةٍ مع رعشةٍ تسلَّلت لقلبها:
أرسلان ..قالتها بدموعٍ تزحفُ فوق وجنتيها ..زفرَ بغضبٍ ثمَّ ضمَّها لصدره:
طيِّب بتعيطي ليه.. فيه واحدة عاقلة تعمل اللي عملتيه، إنتِ مرات أرسلان الجارحي، فاهمة يعني إيه، يعني تتعاملي على الأساس دا، مش شغالة ياغرام…
كانت لا تعي ماذا يقول، ولا تشعرُ بشيئٍ سوى نبضاتِ قلبها التي تخترقُ ضلوعها من قربهِ المهلك، تمنَّت أن تضعَ رأسها على صدرهِ وتُغمضَ عينيها لتعرفَ كيفَ يكونُ شعورها وهي بينَ أحضانه...وجدَ صمتها، فرفعَ وجهها ينظرُ لبكائها:
بطَّلي عياط، دموعِك غالية نزِّليها على حاجة تستاهل..
إنتَ متجوِّزها فعلًا؟..
رسمت عيناهُ ملامحها البريئة، وداعبَ وجنتيها بابتسامةٍ شغوف:
هوَّ إنتِ مش سألتيني وقولتلِك لا، ليه راجعة تسألي تاني..
طأطأت رأسها تهمسُ بتقطُّع:
أصلها بتقول مراتَك..
رفعَ ذقنها وهمسَ بصوتهِ الأجش الرخيم:
أيِّ واحدة تقولِّك جوزي هتصدقيها..
تلاقت الأعينُ بدموعها تهزُّ أكتافها، وأخرجت كلمةً قطعت نياطَ قلبه:
معرفشِ...أنا معرفكشِ لسة، ولا فيه حاجة بتربطنا…
لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدها يضمُّها بقوَّةٍ إلى أحضانهِ قائلًا:
غرام أنا متجوزتش غير مرَّة واحدة وكان لشغل برضو..ابتعدت كالملسوعة تطالعهُ بصدمة:
كنت متجوِّز، يعني اتجوزت وطلَّقتها
وبعدين معاكي إنتِ مش مدياني فرصة أتكلِم، ممكن تسمعيني…
معقول أكون زيي زيها ...تسائلت بها..فلماذا جعلها زوجتهِ بالسر إلَّا إذا كانَ لغرضٍ ما..ابتعدت عنهُ قائلة:
هدومَك على السرير، هروح أجهزلَّك الغدا.
غرام لازم نتكلِّم...
مفيش كلام ياسعادةِ البيه...قالتها وغادرت الغرفة..
عندَ يزن:
منشغلًا بإحدى السيارات، استمعَ إلى صوتِ حذائِها ..رفعَ رأسهِ ثمَّ توقَّف:
أووه وأنا بقول المعرض نوَّر ليه.
عامل إيه، وأخبارِ الشغل؟..
أشارَ إلى المعرضِ قائلًا:
إنتِ شايفة إيه؟..تحرَّكَ إلى إحدى السياراتِ التي وصلت بالأمس:
إيه رأيِك في دي، نوعها حلو وكمان الطلب عليها مقبول، بعت زي مامالك بيه قالِّي، والدنيا تمام..
كانت تطالعهُ بنظراتِ إعجاب، اقتربت مستندةً على السيارةِ أمامه:
إيه رأيَك تيجي معايا الشركة، وسيبَك من المعرض دا ..جذبَ سجائرهِ ورمقها بنظرةٍ صامتة، ثمَّ خطا إلى وقوفها:
عايزة منِّي إيه أستاذة رحيل؟..مابحبِّش الَّلف والدوران، يعني حاسس إنِّك بتلفِّي على حاجة معينة وبتعملي مقدمات مالهاش داعي..
ثبَّتت عينيها عليهِ ثمَّ اقتربت منه:
عايزة راجل معايا في الشغل، وقبلِ ماتعترض عندي مشاكل شخصية.
مشاكل شخصية!!
تساءلَ بها وهو يرسمُها بعينيه ..
تآذر قلبها الألم الذي تجلَّى بملامحها:
خطيبي بيطاردني، قصدي اللي كان خطيبي، رغمَ أنُّه خطب وعاش حياتُه بس برضو مش سايبني وبيعاملني كأنِّي ملكية خاصة..
إنتِ كنتي مخطوبة..هزَّت رأسها وتابعت حديثها:
طارق ابنِ خالتو، اتخطبنا فترة، بس تركنا لمَّا عرفت أنه بيشرَب وبتاع بنات..
أخرجت آلامها من خلالِ زفراتها واستطردت قائلة:
كلُّه علشان الفلوس، ماكذبشِ عليك من وقتِ الحفلة وأنا بفكَّر في شهامتك وكمان حسَّاك شخص يُعتمد عليه، علشان كدا قولت أكلِّمك والرأي اللي يريَّحك..
كان يجاهدُ الكثيرَ والكثيرَ بداخله، ممَّا استمعَ إليهِ حتى تحوَّلت أنفاسهِ إلى نيران تريدُ إحراقَ كلِّ ما يذكِّره بالماضي..
سحبَ نفسًا وجاهدَ أن يسيطرَ على أعصابه كلما تذكر علاقته بطارق:
أنا مليش في شغلِ الشركات، مابحبِّش أشتغل في حاجة مابفهمهشِ فيها..
هعلِّمَك..توقَّفَ بجوارِها يستندُ على السيارة:
أتعلِّم في مجالي أفيد غيري، إنَّما أتعلِّم بمجال غيري ليه؟..
معادلة مش مظبوطة ياحضرةِ المهندسِ العظيم ...قاطعهُم دلوفَ كريم ملقيًا السلام:
عديت عليك، إيمان قالتلي إنَّك لسة في الشغل..
أشارَ إلى رحيل وهو يحاوطُ كتفه:
كريم صديقي الوحيد وأخويا الروحي..
أخوك الروحي ..إزاي مش فاهمة؟..
ابتسمَ كريم متسائلًا:
رحيل العمري أكيد ..أومأت بابتسامةٍ ناعمةٍ وأجابته:
مشهورة ولَّا إيه..أشارَ إلى يزن قائلًا:
عرفتِك من وصفِ يزن، ذاتَ الشعرِ الأشقر..
أفلتت ضحكةً تهزُّ رأسها ثمَّ أشارت:
شعري أشقر يايزن؟..
ألجمهُ عن الرد وهو يشيِّعهُ بنظرةٍ غاضبة، كانت تتابعُ حربَ النظراتِ فأردفت:
المهم فكَّر في اللي قولتُه أنا لازم أمشي عندي ميتينج ..تحرَّكَ معها إلى سيارتها إلى أن غادرت.
جلسَ كريم ينتظرُه، وصلَ إليهِ وتعاظمَ بداخلهِ الغضب:
إنتَ أهبل يابني، دلوقتي تقول عليَّا إيه بجيب في سيرتها…
ظلَّ يطالعهُ بنظراتٍ مبهمةٍ ثمَّ توقَّفَ مقتربًا منه:
رحيل تعرَف إنَّك ابنِ جوز خالتها
تجمَّدت الكلماتُ على شفتيه، وشعرَ بتخبُّطٍ يراودُ روحه، اقتربَ إلى المقعدِ وجلسَ عليهِ بهدوئهِ المعتاد، ثمَّ أردف:
كريم أنا العيلة دي معرفهاش، ولا عايز أعرفها، هفضل لآ خر يوم في عُمري يزن السوهاجي، أبويا اللي ربَّاني وعلِّمني، مش اللي كان بيعذِّب أمي..
توقَّفَ واقتربَ منهُ بنظراتٍ عميقةٍ كعمقِ البحرِ يتجوَّلُ بها على ملامحه:
بس اللي حاسه غير كدا يايزن، عندي إحساس إنَّك ناوي على حاجة..
سحبَ بصرهِ مبتعدًا عن مرمى عينيهِ ونفثَ سيجارتهِ وأردفَ بشرود:
مش ناوي على حاجة طول ماهمَّا بعيد عنِّي، إنَّما لو حاولوا يقرَّبوا منِّي، يبقى بيفتحوا القبر على أمي بذكرياتها..
يعني إيه وليه يقرَّبوا منَّك؟..
نهضَ مع دخولِ أحدِ الزبائن، ثمَّ ربتَ على كتفه:
ولا حاجة بعدين نتكلِّم، هشوف الأستاذ.
بالجامعةِ عندَ إيلين:
وصلت منذُ قليلٍ تبحثُ عن صديقتها الوحيدةِ خديجة، وجدتها تقفُ أمامَ بابِ القاعةِ تنتظرُها، نظرت بساعةِ يدها تهزُّ رأسها باعتراضٍ تجلَّى على ملامحها:
قولتي نُص ساعة مش ساعة ونص يادكتورة، كنتي بتعملي إيه دا كلُّه…
تحرَّكت الفتاتانِ إلى القاعةِ وهتفت:
لقيت مراجع كتير حبيت استغلَّها، صوَّرتِ بعضها والبعض بعتُّه على الداتا بتاعتي..
توقَّفت خديجة تطالعُها بذهول:
أكيد بتهزَّري، يعني جوزِك دكتور ورايحة تصوَّري مراجع ياهبلة!..
استدارت إليها سريعًا، ترمقُها بنظرةٍ متألِّمة:
أنا مش متجوزة ياخديجة سمعتيني، دا مجرَّد وقت لحدِّ ما اأخلَّص الكلية وأسافر..
أمسكتها من رسغها تعاتبُها بنظراتها:
معقول ياإيلين، هتتنازلي عن حبيب عمرِك، هوت على المقعد، وشعرت بطعنةٍ غادرةٍ حينما تذكَّرت عشقها لمن استباحَ نبضَ قلبها، وتهاونَ بدقاته، نهضت تنظر من النافذة و رفعت عيناها المتجمِّعة بسحُبها الحزينة، كسُحبِ الشتاءِ السوداءِ لتُلقي بأمطارها الرعدية، لم تتحمَّل كبتَ آلامها، وآآه شقت صدرها، فسمحت لعينيها بالتحرُّر، لتتلاشى ضغوطُ مآساتها و تردفَ بتقطُّع لصديقتها التي جاورتها بالوقوف:
حبيب عمري دلوقتي عقلي اللي لازم أشغلُه إزاي أبني حياة خاصة بإيلين دونَ ألقاب..
استمعوا إلى بعضِ الهمساتِ بدلوفِ أستاذهم الجديد، كانت تواليهِ ظهرها، عرفها من ثيابها ووقوفها الطاغي بأنوثتها..
صباح الخير:
استدارت سريعًا تنظر إليه بذهول، استندت على المقعد بعدما فشلت بالسيطرة على رجفة جسدها، لتهوى متجمدة تطالعه بأعين مغروقة بدموعها.. ابتعد عن مرمى نظراتها التي جعلته متخبط بحديثه ليردف:
كلِّ عام وأنتم بخير ..وعام دراسي سعيد ..معاكم دكتور آدم الرفاعي
دكتور....human anatomy
تهكَّمت تبتعدُ بأنظارِها بعيدًا عنهُ وأردفت بصوتٍ خافتٍ وصلَ لمسامعِ صديقتها:
"زادنا الشرف يادكتور الجثث"
أفلتت خديجة ضحكةً تلكزُها:
أسكتي يادكتور خلِّي اليوم يعدِّي..
ابتسامةً ساخرةً تجلَّت على وجهها:
الجامعة كلَّها مفهاش غير دكتور الجثث دا علشان يدِّرسلنا، أنا هعتزِل الطب خلاص..
ممكن أعرف الأستاذة اللي ورا بتتكلِّم في إيه وأنا بتكلِّم؟..
قالها آدم بنبرةٍ يشوبها الغضب.
رفعت حاجبها ساخرةً ثمَّ توقَّفت:
أهلًا بحضرتَك يادكتور، حقيقي زادنا الشرف إنِّ حضرتَك هتعلِّمنا إزاي نقطَّع الجثث، أمَّا أنا دكتورة والله مش أستاذة أبدًا، حضرتَك إحنا في كليةِ الطب..
استمعَ إلى بعضِ الضحكات، تسلَّطت عيناهُ عليها وكأنَّها أُضرِمت بهما نيرانُ غضبهِ فارتفعَ صوتهِ وهتف:
لمَّا أتكلِّم ممنوع كلام جانبي، وأنا عارف إنِّ حضرتِك لسة عيِّلة في كلية طب، ودا مايدنيش الحق أقولِّك يادكتور، وقتِ لمَّا تستلمي امتيازِك يبقى أصفقلِك ياحضرةِ الطالبة ذاتَ اللسانِ السليط،
وإيه تقطيع الجُثث ..إنتِ متأكدة إنِّك طالبة تَصلُح للطب..
برقت عيناها بغضبٍ عندما ألقاها بوابلِ الكلماتِ التي أشعلت فتيلَ غضبها، ممَّا جعلها .....
ظلَّ لفترةِ يشرحُ بطريقةٍ سلسةٍ جعلت كلَّ من بالقاعةِ يشيدُ بوصولِ المعلومةِ بطريقةٍ مبسَّطة..
وبنهايةِ المحاضرة طلبَ من الطُّلابِ بعملِ بعضِ الأبحاثِ عن الطبِ التشريحي ...لملمت أشياءها بعدَ انتهاءهِ ووقوفِ بعضِ الطالباتِ لمناقشتهِ في بعضِ النقاط..كانت عيناهُ عليها، نظراتها الحزينة ووجهها الذي انطفأَ بريقهِ، ناهيكَ عن عينيها التي أصبحت الدموعُ ملاذها..كم شعرَ بالأنينِ وكأنَّ أحدَهم غرزَ بصدرهِ طعنةً بسكينٍ بارد..جمعت أشياءها وتحرَّكت ولم تعيره حتى بنظرة، ظلَّ يتابُعها بنظراتهِ مع استماعهِ لطلابه، إلى أن خرجت وأغلقت البابَ خلفها، وكأنَّها هنا أغلقت عليهِ قبره..جمعَ أشيائهِ وتحرَّكَ معتذرًا:
نكمِّل المحاضرة الجاية يادكاترة..
تحرَّكَ يبحثُ عنها بعينيهِ إلى أن التقطها متوقفةً مع أحدهم، ثارت جيوشُ غضبهِ وهو يراها تبتسمُ له..أومأت لهُ وتحرَّكت بجوارِ صديقتها لتخرجَ من الحرمِ الجامعي بالكامل...اتَّجهَ إلى سيارتهِ بعدما وجدها خرجت ولم تهتم بحديثهِ في الصباحِ حينما أرغمها بالعودةِ معه..
بالخارجِ توقَّفت الفتاتانِ بانتظارِ سيارةِ الأجرة ..تحرَّكَ بالسيارةِ إلى أن وصلَ إليها ومع ضغطهِ لبوقِ السيارةِ حتى لاحت نظرةً إليه ولكنَّها عادت تنظرُ إلى الطريق وأوقفت سيارةَ الأجرةِ وغادرت مع صديقتها..
بعدَ فترةٍ عادَ يبحثُ عنها، دفعَ بابَ الغرفةِ بغضبٍ بخروجها من الحمَّامِ بالبورنس..توقَّفت بجسدٍ مرتجف، كانت تظنُّ أنه سيظلُّ مع صديقهِ الذي وصلَ إلى منزلِ خالها بالأسفل..
اقتربَ منها وعينيهِ تخترقُ جسدها بأنفاسٍ متسارعة، أحكمت فتحةَ روبها وتراجعت للخلفِ محاولةً الحديث:
إن. ت إزاي تدخُل من غيرِ استئذان، إيه..قعدتَك برَّك نسِتك الأصول يابنِ خالي؟…
حاوطَ جسدها بينهُ وبينَ الحائط، وعينيهِ تُبحرُ فوقَ جسدها، حبسَ أنفاسهِ داخلَ صدره، يتجوَّلُ بعينيهِ بدايةً من فتحةِ الروبِ وشعرها الذي تنسابُ منهُ قطراتُ الماءِ لتنسدلَ على عنقها، مرورًا بساقيها الناعمة ..أغمضَ عيناهُ مقتربًا يستنشقُ رائحتها يهمسُ بخفوتٍ يحرقهما:
مقدرتِش أخدعك صدَّقيني، عارف قسيت عليكي، ومهما تعملي أنا قابلُه..
رفعَ ذقنها وحاوطَ وجهها وأردفَ بصوتهِ الأجش:
متوجعيش قلبي عليكي لوسمحتي، مش عايز أخسرِك..
طالعتهُ بأعينٍ مرتجفةٍ، لأوَّلِ مرَّةٍ تكونُ قريبةً منهُ لهذا الحد، لمسَ وجنتيها الناعمةِ واقتربَ حتى اختلطت أنفاسهما وأردفَ بصوتٍ أشبهُ للخفوت:
آسف..نظرةُ ضياعٍ أسقطتها في بئرِ ظلامِ حبِّهِ لا محالة، حاوطَ جسدها لترتفعَ دقاتُ قلبها وتشعرَ وكأنَّها مكبلةُ الأيدي أو كأنَّهُ سحبَ منها قُدرتها عن إبعاده ...لمسَ وجنتيها بخاصته، لتهبَّ فزعةً حينما شعرت بسخونةِ شفتيهِ فوقَ وجنتيها، ثمَّ لكمتهُ بقوَّةٍ بكفَّيها الاثنينِ وصرخت حينما شعرت بضعفها أمامه:
إبعد عنِّي إياك تقرَّب منِّي..قالتها وتحرَّكت للغرفةِ الأخرى وأغلقت البابَ خلفها، هوت تزحفُ بساقيها مع شهقاتها التي أصمَّت أذنيه، ضربت على صدرها بقوَّةٍ تكتمُ شهقاتها:
لسة بتحنِّي لُه، دا واحد خاين، خان حبِّي وخان قلبي، خان عمري وأيامنا الحلوة..نهضت وبدأت تُحطِّمُ كلَّ ما يقابلُها تصرخُ بجنون:
أنا بكرهُه، لازم أكرهُه وأحرق قلبي اللي حبَّك ياآدم، بكرهَك وبكره كلِّ ذكرى ربطتني بيك..
دفعَ البابَ ودلفَ إليها، توقَّفَ متجمدًا على حالتها التي من يرآها يظنُّ إصابتها بمسِ جنِّي..
خطا إلى أن وصلَ إليها وجذبها بقوَّةٍ لأحضانه، محاولًا السيطرةَ عليها، ظلَّت تبكي إلى أن أُنهكَت لتهوى بين يديه، انحنى يحملُها بلهفةٍ ويضمُّها إلى صدره، متَّجهًا إلى فراشهما، وضعها بهدوءٍ وحقنها بمهدئٍ لتذهبَ بسباتٍ بعدها..جلسَ أمامها على ركبتيه، يمرِّرُ أناملهِ بحنانٍ على وجهها ثمَّ وضعَ رأسهِ بالقربِ من رأسها ورفعَ كفِّهِ فوقَ وجهها يغمضُ عينيه:
سامحيني، عارف ظلمتِك معايا، مقدرتش أرفض حبِّك اللي حسيته، عارف إنِّي أناني، غصب عني من وقتِ ما رجعت وشوفتِك تاني صحِّيتي الحب اللي اندفن..دنا إلى ثغرها وأغمضَ عينيه:
هتتعبيني معاكي، بس أنا نفسي طويل أوي يابنتِ عمتي، مستحيل أتخلَّى عنِّك...قالها ليطبعَ قبلةً سطحيةً فوقَ شفتيها ثمَّ نهضَ من مكانهِ وغادرَ الغرفةَ بعدما فقدَ قدرته..
عندَ أرسلان:
ارتدى حلَّتهِ السوداء، وتوقَّفَ يصفِّفُ خصلاته، استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفةِ نظرَ لانعكاسِ صورتها بالمرآة
اقتربت منهُ هامسة:
عايزة أروح أزور بابا، من وقتِ مارجعنا مازُرتهمش..
ارتدى ساعةَ يدهِ واستدارَ قائلًا:
لمَّا أرجع، لازم أنزل دلوقتي..توقَّفت أمامهِ معترضةً طريقه:
بس أنا عايزة أروح دلوقتي، معلش هأخَّرك شوية عن الستِ هانم.
تجهَّمت تعابيرُ وجههِ، بسطَ يدهِ يُزيحها من أمامه:
لازم أروح المستشفى دلوقتي، ساعتين وهرجع، مش عايز كلام كتير، نفسي كلامي يتسمِع من أوِّل مرَّة..
انتزعَ فتيلَ غضبها لتصيحَ بوجهه:
لا، طبعًا أنا أستناك ليه، إنتَ صدَّقتِ نفسك ولَّا إيه..جوازنا كان لمهمة وخلصت، وانت متعود على كدا، دلوقتي إنتَ من طريق وأنا من طريق، اقتربَ إلى أن التصقَ بجسدها، ثمَّ رفعَ كفِّهِ على خصلاتها وقرَّبها إليهِ يهمسُ بجوارِ أذنها:
كلمة كمان وهنسى إنِّك مراتي، ميغُرِكيش الطيبة اللي شيفاها على وشي، لمَّا بقلِب بحرق اللي قدَّامي..
قالها ثمَّ دفعها بعنفٍ على الفراش، استدارَ وتحرَّكَ بعضَ الخطواتِ ثمَّ توقَّفَ يشيرُ إلى السرير:
الليلة هتباتي معايا هنا، مفيش حاجة في الجواز إسمها ناخد على بعض، إجهزي لجوزِك الليلة ياأستاذة يابتاعة قالَ الله وقالَ الرسول..قالها وتحرَّكَ دونَ إضافةِ المزيد..ظلَّت نظراتها على خروجهِ إلى أن استمعت إلى إغلاقِ البابِ بعنفٍ لينتفضَ جسدها بقوَّة.
بفيلَّا الشافعي:
سحبتهُ ودلفت للداخلِ تُغلقُ البابَ خلفها:
طارق اسمعني كويس، إحنا لازم نخلَص من الظابط دا، شوفت عمل إيه في هيثم أخوك، أوِّل حاجة عملها وممكن كمان يعمل الأسوأ لمَّا يعرَف إن باباك حاول يقتل أبوه..
ضيَّقَ عينيهٍ متسائلًا:
وليه بابا عايز يموِّت أبوه...جلست تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى وأردفت:
مرات عمَّك فضحت أبوك زمان وهربت منُّه عايز ينتقم منها، سيبَك من ليه، إنتَ عارف مرات عمك دي هتورث قدِّ إيه، لازم نشوف خطَّة محبوكة ونخلص من إلياس، دا لو خلصنا منُّه هنعرف نتخلَّص من أبوه..
جلسَ ينفثُ سيحارتهِ ليختفي خلفَ رمادها، ثمَّ ابتسمَ بخُبث:
عندي اللي يخلَّص، بس عايز فلوس كتيرة..والمهم خطَّة كويسة، مش تبقى زي بابا..
نهضت من مكانِها واقتربت منهُ تهمسُ لهُ كالحرباءِ المتلوِّنة:
اسمعني اللي يوجِع زي إلياس دا غرورُه ورجولتُه، دارت حولهُ ومازالت تبخُّ سمَّها كالأفعى:
اللي يكسَر رجولتُه ويجنِّنه مراتُه، هنسحبه هناك في الوقت اللي إنتَ تبقى مرتِّب إزاي ندعيلُه بالرحمة…
نفثَ سيجارتهِ بفخرٍ وهو يضحك:
اعتبريه حصل، إديني يومين ونترحَّم عليه ..
عندَ إلياس: وصلَ إلى الفيلا، وتوقَّفَ يشيرُ إليها:
إنزلي ..فتحت البابَ وترجَّلت من السيارةِ دونَ أن تلتفتَ إليه، ترنَّحت بحركاتها، نزلَ سريعًا واتَّجهَ إليها ودونَ حديثٍ حملها وصعدَ بها إلى الأعلى مع معارضتها وصياحها، نظرَ أمامهِ قائلًا بنبرةٍ باردة:
صوتِك، الأمن بيبُص علينا، خطا بها إلى غرفتهما ووضعها على الفراش.
دفعتهُ صارخة:
ماتلمسنيش تاني سمعت…انحنى لمستواها وأردفَ بصوتٍ أجفلها:
ميرال خُدي بالِك من كلامِك، بتغلطي، أنا جوزِك..تراجعت ترمقهُ بنظراتٍ مشمئزَّة:
وأنا بكرهَك ياجوزي إيه رأيك بقى..
رسمَ قناعًا باردًا فوقَ ملامحه، رغمَ نيرانِ صدرهِ المشتعلةِ بكلماتهِا ثمَّ دنا بجسدهِ منها:
هخليكي تحبِّيني ماتشغليش بالِك إنتِ، المهم إهدي دلوقتي وبعدين نتكلِّم، علشان منخسرشِ بعض..
شعرت بقلبِها يتآكلُ من برودهِ وحديثهِ الذي يحرقُ روحها، رفعت عينيها حتى تلاقت بعينيهِ الباردة وأردفت:
طلَّقني ياإلياس، أنا مش عايزاك..
احترقَ قلبهِ من كلماتها، ليتنهَّدَ بألمٍ محاولًا الثباتَ والسيطرةَ أمامَ غضبها، جلسَ على الفراشِ وجذبَ جسدها يحتويها بين ذراعيه:
طيِّب ممكن تأجِّلي أي كلام دلوقتي، نتكلِّم ونتعاتب بعدين ياميرال عندي شوية شغل، أخلَّصهم ونخرج لأي مكان تشاوري عليها ووعد هنتكلِّم وأقولِّك على كلِّ حاجة.
طالعتهُ لبرهةٍ وبقلبٍ تهشَّمَ بسببهِ وعيونٍ ماتت بها الحياة وأصبحت خاوية من دفءِ أحضانهِ هتفت دونَ جدال:
مبقاش ينفع، جوازنا من الأوَّل كان غلط، إنتَ عندك حق، ليه تتغصب وتتجوِّز واحدة رامية نفسها عليك، أنا بحلَّك من أي وعد وأي حقوق، مش عايزة غير إنِّي أتحرَّر منَّك وبس.
تطلَّعَ إليها بخيبةِ أمل، نهضَ من مكانهِ إلَّا أنَّها تشبثت بذراعه:
طلَّقني، إرمي عليَّا اليمين وحالًا ياإلياس ..طلقن...قطعَ حديثها مبتلعًا كلماتَها التي أصبحت كنصلِ سكينٍ تمزَّقَ فؤاده، حاولت التحرُّرَ من بينِ يديهِ إلَّا أنَّهُ كانَ المتحكِّمَ والمسيطِر، ضعفت للحظاتِ تحاوطُ خصرهِ بعدما شعرت باشتياقها لهُ من خلالِ قبلاتهِ التي بعثرها على ثغرها..
ضمَّها بقوَّةٍ يريدُ أن يُدخلَها لصدرهِ ليُثبتَ لها أنَّها وحدها من لهُ الحقَّ أن يتربعَ على عرشِ قلبه، همسَ بضعفٍ لأوَّلِ مرَّة:
بلاش تهدمي حياتنا، زي ماقولتلِك قبلِ كدا عُمري مافكرت أوجَعك..
انتحبت بأحضانهِ وارتجفَ جسدها بالبكاءِ تريدُ أن تبتعدَ ولكنَّها لم تستطع، كيف يكونُ قاضيها وجلَّادها بنفسِ الوقت، تعشقهُ بجنونٍ حدَّ الثمالة، ولكَّنهُ أحرقها بنيرانِ الانتقام، دفنَ رأسهِ بحنايا عنُقها وآاااه حارقة شعرت بها على عنُقها مردفًا:
آسف، سامحيني..فكَّت حصارهِ وتراجعت:
أسفك مش مقبول ...اطلع برَّة..
توقَّفَ متردِّدًا يريدُ أن يصلَ إليها ويصفعها على وجهها على ماتلفَّظت به، ولكنَّهُ أجبرَ ساقيهِ أن تتحرَّكَ قبلَ أن يفعلَ شيئًا لا يُحمدُ عقباه..
مرَّ أسبوعًا هادئًا إلى حدٍّ ما على أبطالنا..
بفيلَّا الجارحي:
عادَ فاروق إلى منزلهِ بعدَ رفضهِ المكوثَ بالمشفى، دلفَ لوالدهِ ببشاشتهِ المعتادة:
نوَّرت بيتي ياباشا..رفعَ نظرهِ إليهِ بابتسامةٍ حزينةٍ مردِّدًا:
بيتَك، واللهِ.. يعني أبوك مالوش حاجة؟..
جلسَ بجوارهِ يقبِّلُ كتفه:
حبيبي إنتَ ياأبو الفوارق، يالَّه شدِّ حيلَك علشان أجوِّزك..قالها بدلوفِ والدتهِ تجرُّ طاولةَ الطعام:
عايز تجوِّز بابا ياأرسلان، طيِّب أنا زعلانة منَّك، ويالَّه روح لإسحاق خلِّيه ينفعَك..نهضَ يفتحُ ذراعيه:
يالهوي صفية هانم الدراملي أقدر أزعلَّها طيب يارب أموت لو زعلتِك،
ضمتهُ بقوَّةٍ تمسحُ على ظهرهِ متمتمةً بنبرةٍ غاضبة:
بعدِ الشرِّ عليك ياحبيبي، أوعى تقول كدا تاني ..خرجَ من أحضانِ والدتهِ يرفعُ كفَّيها ويلثمها قائلًا:
ربنا يخلِّيكي ليَّا ياماما يارب، المهم كنت عايزِك تروحي معايا مشوار مهم
زوت مابين حاجبيها:
مشوار فين وبابا تعبان كدا !..
روحي معاه ياصفية، مشواره هيفرَّحِك وهيخليكي تجي من هناك جري..
اتَّجهت لزوجها بنظراتٍ مستفهمة:
هوَّ مش عندِ إسحاق ولَّا إيه!..
سحبَ كفَّها لخارجِ الغرفةِ قائلًا:
ماما إجهزي حبيبتي مشوار هيفرحك متخافيش، مش هخطفك ياصفية..
عند يزن
جلس أمامها بإحدى الكافيهات
-فكرت وموافق، بس بشرط..احتوت كوبها بين راحتيها ترتشف منه وعيناها عليه
-أنا هدخل بنسبة على قد ماأقدر، وزي ماقولت قبل كدا، انا مابشتغلش عند حد، دي حاجة الحاجة التانية مش عايز وجود لطارق الشافعي في حياتك مهما كانت صلة القرابة
اومأت بأمتنان تجلى بملامحها، استندت على الطاولة تتعمق بالنظر إليه:
-يزن انت لسة بتحب خطيبتك..تراجع بظهره واجابها بشبه ابتسامة ساخرة
-أنا نسيت اصلًا اني كنت خاطب..استمعت إلى رنين هاتفها رفعته:
-ايوة يابابا... حبيبتي طارق اتخانق مع ظابط مرور علشان خاطر بابا كلمي الظابط يخرجه
تأففت بضجر واجابته:
-كالعادة سايق وهو بيشرب..تمام يابابا
رفعت نظرها إلى يزن
-لازم امشي دلوقتي، طارق متخانق مع ظابط..
نهض من مكانه بملامح منكمشة متسائلًا:
-وأنتِ مالك مايروح في داهية
باغتته بنظرة صامتة، ظننًا أن خطيبته السابقة سبب عداوته مع طارق ، تحركت إلى سيارتها متمتمة بخفوت:
-مينفعش اسيبه دا يضرنا اكتر مايضره
عمو راجح له نسبة في الشركة
فتح باب السيارة وأشار إليها بالركوب
طيب وصليني في طريقك، عايز اخد رأيك في حاجة...تنهدت بحزن متمتمة
-آسفة يايزن !!
هز رأسه وهو يستقل السيارة بجوارها
-اسفك مش مقبول إلا إذا وصلتيني
انشرح قلبها ورقت لهجتها إليه
-احسن توصيلة لأحسن مهندس
بعد فترة وصل إلى مسكنه
ترجل من سيارة راحيل لتتوقف أمامه مها تصرخ به
-أنت عايز مني إيه يايزن، انسى أنا مش هرجعلك حتى ..جمرات حارقة اشعلتها، حاول السيطرة على غضبه فرفع كفيه يشير إليها بالصمت واردف بنبرة يشوبها الاستهزاء:
- مش واخد بالي من الأستاذة، انت واخدة مقلب في نفسك هوى، اقترب خطوة مع ترجل رحيل من السيارة قائلًا:
-أنا حتى مش فاكر انتِ مين، وزعت رحيل نظرها عليهما ثم تحدثت:
يزن فيه حاجة ؟!..
استدار يغمز لها بطرف عينيه
-لا حبيبي..دي بتسأل عن خطيبها قوليلها تزوره في السجن، شكله عامل مصيبة..انحنى ينظر بعمق عيناها
-لو وقفتي قدامي تاني مرة هقل منك وانتِ مش ناقصة يابنت اعتماد ام كرش ..قالها وتحرك إلى منزله بعدما لوح بكفيه لرحيل يطلق صفيرا
ابتسمت على حركاته اللطيفة، ظلت تتابعه بنظراتها، تذكرت كلمة حبيبي التي ذكرها بها دون وعي..
طالعتها مها بنظرة مستخفة، لتقترب منها:
-بيضحك عليكي عايز ينتقم مني، اصلك متعرفيش بيبحني قد ايه، اقتربت منها ورفعت نفسها تهمس بخفوت بالقرب من أذنيها:
-حب سبع سنين وكنا بنقرب من بعض،فاهمة طبعًا الحب وأفعاله، تخيلي سبع سنين يتنسوا بسهولة من راجل زي يزن لما يحب بجد
قالتها وتحركت دون حديث آخر
بشقة ارسلان
جمعت ملابسها بالحقيبة تبكي بانهيار تسبه مرة وتدعي عليه أخرى
-غبية ياغرام كنتي مفكرة هيحبك شوفتي ياهبلة عمل إيه، اهو اللي كنت شاكة فيه حصل، خرجت تسحب حقيبتها وجدتها تجلس تضع ساقًا فوق الأخرى:
-برة مش عايزة اشوف وشك تاني، توقفتواقتربت منها تقبض على أكتافها:
-لو شوفتك تاني هقتلك، خافي على نفسك، ولو مش خايفة خافي على اخوكي الحليوة،
تأرجحت عيناها بالقسوة والنفور:
-سكت على نزواته لأنها كانت تستاهل، أما ينزل لمستوى الخدامين...اييييه ازاي نزل للمستوى الزبالة دا، لو كان عرفني أنه مزاجه المرة دي على بيئة زيك كنت استنضفت، ضغطت على فكيها تهمس بهسيس
-مش ارسلان الجارحي اللي يقرب من بيئة زيك ياحلوة..
دفعتها بقوة حتى سقطت على الأرضية، وانحنت تحدجها بنظرات مميتة
-أنا مراته ياحقيرة، اللي مش عجباكي دي مراته، وانا مش ماشية علشان إنت طلبتي، لأ، ماشية علشان يعرف الزبالة اللي زيك حدودها، لازم يجلي راكع علشان اقبل ارجع له، لانه سمح باللي ذيك تدخل بيتي وعلشان المفتاح اللي في ايدك دا ..
جرت حقيبتها وتحركت مغادرة الشقة بالكامل
بفيلَّا السيوفي:
حانت الشمسُ وقد هلَّت بشائرها وأيقظَ الفجرُ نورهِ الفضِّي، ليوقظَ عبادهِ بالذكرِ والصلاةِ على نبي الأمة ..فتحَ عينيهِ على صوتِ صلاةِ هاتفه، أغلقهُ ومازالَ على الفراش..
بسطَ كفِّهِ على مكانها الباردَ بجواره،
شعرَ ببرودةٍ تجتاحهُ كلَّما تذكَّرَ حديثها عن الانفصال، كيفَ لهُ أن يهدأَ وهي التي جعلتهُ لا يُتقنُ فنونَ العشقِ سوى بأحضانِها وهمساتِها، أصبحَ بداخلهِ شغفُ الحبِّ الذي لايهدأ، وموجٌ متلاطمٌ يريدُ أن يثورَ ليُغرقَ ضفافَ شواطئ، كيفَ تحمَّلت ذاكَ الأسبوعِ الكئيبِ دونَ أن تتنعَّمَ بأحضانه، هل حقًا تريدُ الانفصال، أم تريدُ أن تردَّ كرامتها التي بعثرها بكلِّ جبروت، ذهبَ بذاكرتهِ لتلكَ الأيامِ التي أصبحت ذكرياته لجنَّة دنياه..
فلاش باك:
خرجت من البحرِ تتعلَّقُ بعنقهِ ليحملُها بينَ ذراعيهِ قائلًا:
كدا مرتاحة يعني ..دفنت رأسها بصدره:
وماليش راحة غير هنا ياإلياس..مرَّرت كفَّها على صدره:
دا بيت راحتي، وإعمل حسابَك مهما نزعل من بعض إياك تحرمني من حُضنك مش هسمحلَك ياحضرةِ الظابط.
رفعها إليهِ ليقبِّلها ويدفنُ وجههِ بوجهها:
ولا أنا هسمحلِك تبعدي، إبعدي وشوفي هعمل فيكي إيه..وصلَ إلى المنزلِ وأنزلها بهدوءٍ ومازالت تتعلَّقُ بعنقهِ ترفعُ نفسها وتنظرُ لعينيهِ متسائلةً بهمس:
هتعمل إيه لو بعدت..حاوطَ خصرها ودلفَ لداخلِ الحمَّامِ يزيلُ عنها ملابسَ الغطسِ تراجعت للخلفِ تشيرُ بيديها:
باااس هنا وشكرًا ياسيادةِ الظابطِ القمر، دنا بخطواتهِ منها وعينيهِ تعانقُ جسدها بالكامل:
واللهِ مايحصَل، لازم أكمِّل مش هتعرفي صدَّقيني، تراجعت تضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ تهزُّ رأسها كطفلةٍ ذاتِ السبعِ أعوام:
إلياس إبعد بقى، أنا هتصرف، وصلَ إليها ليجذبها بقوَّةٍ تصطدمُ بصدره، يلفُّ ذراعيهِ حولَ جسدها:
كنتي بتسألي هعمل إيه لو بعدت ..لمست وجنتيه:
أنا مش هقدر أعيش بعيد عنَّك ياإلياس، انحنى يطبعُ قبلةً على جبينها:
لو قولتي كدا قبلِ جوازنا كنت هقولِّك عادي مع الوقتِ هتنسي، بس دلوقتي مش هسمحلِك أصلًا، بلاش ترسمي خيال حتى ياميرو..
رفرفت بأهدابِها وهو يهمسُ بجوارِ أذنها، اتعودتِ على حضنِك وشقاوتِك المجنونة يابنتِ طنطِ فريدة..
نعم يعني إيه بقى الكلام دا..
قبلةً سريعةً على شفتيها وتحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر .
خرجَ من شرودهِ على صوتِ إقامةِ الصلاة، نفضَ نفسهِ واعتدلَ متَّجهًا إلى الحمَّام، ليقيمَ صلاةَ الفجر..
استيقظَ بعد فترة على رنينِ هاتفه:
إلياس باشا مدام ميرال رافعة على حضرتَك قضية طلاق.
أغمضَ عينيهِ يهمسُ بين النومِ واليقظة:
إقبل القضية يامتر وطلَّقها، وأتعابك عندي..قالها وأغلقَ الهاتفَ ليذهبَ بنومهِ مرَّةً أخرى ..
بالغرفةِ المجاورةِ تدورُ بالغرفةِ منتظرةً مهاتفةَ المحامي، لحظاتٍ واستمعت إلى رنينِ الهاتف:
أيوة يامتر عرَّفته؟..
أجابها على الجانب الآخر
قالِّي أطلقِك يامدام ...
إيه…أجابها : نعم فيه حاجة؟! أبعتلُه إعلان؟..
تمام ..قالتها وأغلقت الهاتفَ لتجلسَ على الفراشِ بعدما شعرت بدورانِ الغرفةِ بها:
الراجل دا إيه جبروت، جزَّت بأسنانها على أناملها غيظًا، إلى أن هبَّت من مكانها وغادرت المكان.
بعدَ فترةٍ خرجَ من حمَّامه، توقَّفَ يرتدي ثيابهِ مع رنينَ هاتفهِ مرَّةً أخرى:
أيوة فيه إيه؟!
مدام ميرال عايزة تقابل المسجون ياباشا وبتقول معاها تصريح بكدا..
خلِّيها تقابلُه، واعملَّها قهوتها كمان، ولو عايزة تاخدلُه صور خلِّيها تعمل اللي هيَّ عايزاه محدِّش يتعرضلها، إيَّاك حدِّ يقرَّب منها، وخلِّي بالَك من المتَّهم ليهجُم عليها دا مريض نفسي..أغلقَ الهاتفَ وتوقَّفَ أمامَ المرآةِ يُغلقُ زرَّ قميصهِ ووجههِ لوحةٌ من الجمودِ والبرودِ ينظرُ لنفسه:
عايزة إيه يابنتِ فريدة، تطلَّقي مع السلامة، مفكَّرة هموت عليكي..
جلسَ وشعرَ باختناقهِ وعدمَ تنفسهِ وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ تُطبقُ على صدره، ظلَّ لعدَّةِ دقائقَ يسحبُ أنفاسًا يزفرُها إلى أن هدأ
-بتلعبي معايا ياميرال، نهض يكمل ثيابه ثمَّ ذهبَ إلى عمله…
وصل إلى مقر عمله وجدها أنهت عملها، دلف للداخل ينزع سترته، ويطيق اكمامه كما تعود رافعًا عيناه للمسؤل عن المكتب:
-قهوتي، ومش عايز حد يدخلي غير لما اقولك ...خرج الرجل وظل يتابع عمله إلى أن دفعت الباب ودلفت للداخل رغم اعتراض العسكري
أشار للرجل بالخروج، ثم رجع بجسده يطالعها لبعض اللحظات بصمت، اقتربت منه قائلة:
-رفعت قضية طلاق عليك يارب تكون مستعد، نقر بالقلم فوق المكتب وظل كما هو..حتى وصلت إليه
-طلبت منك ننفصل بهدوء بس انت اللي رفضت، ماترجعش تلومني
-لو خلصتي كلامك اطلعي برة
-خارجة متحسسنيش اني في الجنة، اكتر مكتب بكرهه
أشار بكفيه على الباب:
-روحي للي بتحبيه..
عادَ مساءَ اليومِ وصعدَ إلى غرفتهِ رغمَ انتظارها له..أوقفتهُ على الدرج:
لازم نتكلِّم..
مش فاضي..قالها وصعدَ الغرفةَ، أصابه الجمود بعدما وجد انقلاب الغرفة، واخلاء الغرفة من اشيائها الخاصة
بغرفتها ظلت جالسة على الفراش لبعض الوقت تحاول أن تضغط على نفسها حتى لا تذهب إليه، تذكرت كلماته، أطبقت على جفنيها وترقرت دموعها، تضع كفيها على نبضها
-حرقت قلبي ياإلياس، حرفته لحد مابقاش ينبض..فتحت هاتفها تنظر إلى صورهما متذكرة جنونه معها، تهمس لنفسها
-معقول النظرات دي مكنتش بتحب، معقول دا كان كذب...ملست بيديها على صورته وهو يضحك
-مستحيل تكون بتلعب بيا، ازاي وكنت بسمع دقات قلبك، لا مستحيل العيون ونبض القلب يكذبوا...ألقت الهاتف بعيدًا تضم نفسها ودموعها تنساب بصمت تهمس لنفسها:
-هحرقك ياالياس زي ماحرقتني..
بغرفته ظل جالسًا لبعضِ الوقتِ ثمَّ قامَ بمهاتفةِ الخادمة:
هدى جهِّزي كوباية لبن لمدام ميرال وتعاليلي ..
مرَّت ساعةً ثمَّ تحرَّكَ متَّجهًا إلى غرفتها، دلفَ إلى الغرفةِ وجدها تغطُّ بنومٍ عميق، اقتربَ منها ينظرُ إليها بإشتياقٍ انبثقَ من عينيه، أمالَ بجسدهِ وطبعَ قبلةً أعلى رأسها:
دلوقتي هقولِّك جاهز..قالها وهو يحملُها يضمُّها إلى صدرهِ وخرجَ بها من الغرفة..
لازم نقعُد نتكلِّم مش هينفع نفضَل كدا كتيير، فوقي بس وبعدين لازم نحاسِب بعض ..خطى بها إلى أن وصلَ إلى بابِ الفيلَّا، توقَّفَ إسلام أمامه:
رايح بيها فين ياأبيه، ماما فريدة مش هتسكُت..
خلِّي بالَك من بابا لمَّا أرجع، قالها وتحرَّكَ بها إلى أن وصلَ إلى سيارته، وضعها بهدوءٍ واستدارَ للقيادةِ وتحرَّك..
بعدَ ساعتينِ من القيادة، وصلَ إلى ذاكَ المنزلِ الذي ابتاعهُ منذُ أسبوع، بإحدى المناطقِ التي تطلُّ على النيل مباشرة، ترجَّلَ يحملُها ودلفَ بها للداخل، كانت تنتظرهُ إحدى الخدمِ لمراعاتها أثناءَ غيابه، وضعها بهدوءٍ على الفراش، وانحنى يطبعُ قبلةً فوقَ جبينها يمسِّدُ على خصلاتها فتحت عيناها تهمسُ بخفوت:
إلياس ..ابتسمَ ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً على وجنتيها:
أخيرًا فوقتي، شكلِ المنوِّم كان تقيل، شعرت بثقلٍ برأسها، غفت مرَّةً أخرى، ظلَّ يمسِّدُ على خصلاتها واشتياقهِ إليها كجمرةٍ ناريةٍ تحرقُ داخله، رفرفت بأهدابها مرَّةً أخرى..انحنى يهمسُ لها:
فوقيلي ياروحي..
اعتدلت برأسها المتثاقلةِ وكأنَّها في حالةٍ بينَ الوعي واللاوعي، رفعت رأسها لهُ حينما أردف:
رافعة قضية طلاق على حبيبِك..
عايزة تطلَّقي، هنا فاقت من خمولِها لتعتدلَ تطالعهُ بذهول:
إنتَ!! تجوَّلت بالمكانِ حينما ارتعبَ داخلها:
فين ماما ..أخرجَ منامةً من الحقيبة، ينظرُ إليها:
مش بطالة حلوة، انحنى إليها..
أنا فين وإنتَ بتعمل إيه ..تسائلت بها بأنفاسٍ متقطِّعة..
جلسَ يفتحُ أزرارَ كنزتها:
إنتِ فين، إنتِ هنا قدَّامي، بعمل إيه، جاي علشان أطلَّقك، مش إنتِ عايزة تطَّلقي ياروحي، قالها بعيونٍ متوهجة، لتتراجعَ إلى الخلفِ تشيرُ إليهِ بتهديد:
لو قرَّبتِ منِّي هصوَّت وألمِّ عليك الناس..أشارَ على النافذة قائلًا:
اطلعي عند الشباك، هنا محدِّش هيسمعك، ولَّا أقولِك اطلعي برَّة البيت..نهضت وتحرَّكت جهةَ البابِ بينما ظلَّ بمكانهِ يتابعُ تحرُّكها قائلًا:
ميرال..تصنَّمَ جسدها فتوقَّفت تواليهِ ظهرها، نهضَ من مكانهِ واقتربَ منها بخُطى دبُّت الرعبَ لقلبها، وصلَ خلفها وأردف:
فرحانة من جواكي علشان رفعتي عليَّا قضية طلاق ..ارتجفَ جسدها من نبرتهِ ورغمَ ذلكَ استدارت تحدجهُ بنظراتٍ ساخرةٍ ثمَّ استدارت مقتربةً منه:
-آه فرحانة ولا كنتِ منتظر منِّي أبعتلَك دعوة فسحة للمالديف، إيه رأيَك، دنا منها والتوى ثغرهِ بشبهِ ابتسامةٍ ساخرة:
شكلِ الرحلة كانت عجباكي أوي..
أومال، مش معاك لازم تعجبني، أصلَك اتكلِّفتِ كتير، والصراحة أنا أستاهل..، مش الفسح معايا تستاهل برضو، وضعت إبهامها على شفتيها بعلامةِ تفكيرٍ ثمَّ غرزت عينيها بعينيه:
مشروع حلو ياإلياسو، يعني بعد ماتطلَّقني أه ماهو إنتَ هتطلَّقني غصبِ عنَّك برضاك المهم هتطلَّقني ليه بقى ياحضرةِ الظابط..
اقتربت خطوةً أخرى حتى اختلطت أنفاسهما وتعلَّقت الأعينَ بنظراتِ الكبرياء:
عجبني عرضَك أوي، ليه لأ..أجرَّب مع غيرَك، بس المرَّة الجاية هحُط شروطي، يعني اللي يدفَع أكتر، أشارت على نفسها وتمتمت بقهر اذاب ضلوعها من الألم
-أنا استاهل، انت مجرب وعارف اني استاهل ولا ايه، ولا حبيت تستمتع تاني متخافشِ هعملَك ...لم تُكمل حديثها عندما ثارت شيطاينهِ ليطبقَ على عنقها، يهمسُ بفحيحٍ أعمى:
هقطع لسانِك دا لو سمعت صوتِك، نفس تاني وهمو. تِك سمعتي يابت..
شحبَ وجهها وكادت روحها أن تذهبَ لخالِقها إلَّا أنَّهُ تركها تسعلُ وتضعُ كفَّيها حولَ عنقها تطالعهُ بدموعٍ قائلة:
-مفكر لما تعمل كدا هخاف منك..لم تهتم لحالته الجنونية التي أصبح بها، لتقترب منه فاليوم أعلنته عدوها، ودفنت حبها لتطعنه بجبروت انثى حطم كبريائها قائلة:
إنتَ مش راجل يابنِ السيوفي، نزلت من نظري سمعتني، مش راجل ياإلياس ياسيوفي، ولو معتبِر نفسَك راجل طلَّقني.
لحظاتٍ جحيميةٍ كادت أن تزهقَ روحهِ من حديثها، أنفاسٍ كالنيرانِ تلتهمُ رئتيه، نفرت عروقهِ وعينيهِ التي تحوَّلت شُعيراتها للونِ الأحمر، مع تكوُّرِ عبراتهِ لأوَّلِ مرَّةٍ تحتَ أهدابه، طالعها ورجفةٌ بكاملِ جسدهِ يهمسُ بتقطُّع:
أنا مش راجل ياميرال
أاااه..صرخت بها، واتقد النفور من قلبها الذي مازال ينبض له..غرزت نيران عيناها المشتعلة وهتفت بنبرة مصبوغة بالقوة لتحطميه:
-مش راجل، فين الرجولة فيك وإنتَ بتنتقِم من أمي فيَّا، فين الرجولة وكلِّ ليلة وأنا في حُضنك وفرحانة بدقاتِ قلبَك وإنتَ بتخطَّط إزاي تقهرني، اقتربت ورمقتهُ بنظراتٍ مشمئزَّة:
فين الرجولة وإنتَ بتتشطَّر على ست وبنتها، ليه الانتقام دا كلُّه، علشان إيه؟..
أوعى تدِّي لنفسَك العُذر ياحضرةِ الظابط..لأن عُذرَك ماهوَّ إلَّا إدانة، إنتَ في نظري إنسان ظالم مستبد عايز الكون يلف حواليه، إنسان مغرور متكبِر معرفشِ على إيه..
لكمتهُ بصدرهِ بقوَّةٍ وصاحت بقهر:
أنا بحمِد ربِّنا إنِّي بقيت أكرهك، وبحمِد ربِّنا أنُّي اتخلَّصت من الجنين علشان مفيش حاجة تُربطنا ببعض
أصابها الجنونَ وبكت بشهقاتٍ مرتفعة:
كرَّهتني فيك ياإلياس، خلِّتني أكره أكتر شخص حبيتُه في الدنيا..ظلَّت تدفعهُ وتبكي إلى أن أُنهكت لتهوى على الأرضية، طلِعت كدبة، وأنا بقول هي كلمة بحبِّك تقيلة على لسانُه، أتاريه متجوِّزني علشان ينتقِم من أمي، أشارت على نفسها ودارت بنظراتٍ ضائعةٍ وقلبٍ مهشَّم،
متجوِّزني مُتعة، عايز تتمتَّع وتنتقِم، علشان رامية نفسي عليك..ضربت بكفَّيها على الأرضيةِ وصرخت حتى فقدت أحبالها الصوتية:
ربِّنا ينتقِم منَّك ياإلياس، ربِّنا يُقهر قلبك زي ماقهرتني..نهضت واتَّجهت إليهِ تدفعهُ بقوَّةٍ ليرتدَّ للخلفِ صامتًا على ماتفعلُه، ظلَّ واقفًا بقلبٍ ينزفُ على حالتها لايعلمُ أيُعاقبُها على حديثها أم يعاقبُ نفسه..حاولَ أن يضمَّها ليهدِّئها ولكن كيف وهي التي سُحبت قواه ليصبح كالقلاعٍ الواهيةٍ من الرمال ..شعرَ بدورانِ الأرضِ به من طلقاتِ كلماتها الناريةِ التي مازالت ترميها وكأنَّهُ عدوها الأَّول والأخير..
هطلَّق منَّك ومش بس كدا هتجوِّز أي واحد قدَّامي علشان ينسِّيني أي لمسة من واحد حقير زيَّك،
نظرت إليه بعيونًا هالكة وتمتمت بجبروت:
والله لأحرَق روحَك زي ماحرقتِ روحي يابنِ مصطفى السيوفي..وصلت إلى جلوسهِ وابتسمت على وجههِ الذي شُحبَ بالكاملِ وغرزت عينيها بعمقِ عينيه:
عارفة إنَّك بتحبِّني وأوي كمان ، حركت كفيها على صدره تلكزه بقوة
-متأكدة من نبضه ليا، ماهي القلوب عند بعضها، علشان كدا هوقف نبضه للأبدوهتجوِّز غيرَك هخليه يمسح آثارك المُقرفة من عليَّا يابنِ السيوفي، لأنِّي قرفانة من نفسي كلِّ ما أفكَّر إنَّك..صمتت عن الحديثِ بعدما توقَّفَ وترنُّح وقشعريرة انتابت جسده كخروج الروح من الجسد، جاهد بإخفاء اعتصار اضلعه أمامها، ولكن كيف وهي التي طعنته باقسى الطعنات، ابتلع جمرات حديثها الذي ألجمه وشعره بالضعف والعجز، وخطى كالمخمور منسحبًا من المكانِ بل من المنزلِ بالكامل ..قادَ سيارتهِ بسرعةٍ جنونيةٍ يفتح زرَّ قميصهِ عندما شعرَ بانسحابِ أنفاسه، كلماتٍ داميةٍ بل طعناتٍ تدبحهُ بكلِّ جبروت ..ظلَّ يتحرَّكُ بالسيارةِ دونَ هدواة ..توقَّفَ فجأةً بالسيارةِ لتدورَ بسرعةٍ كادت أن تنقلبَ بهِ لولا تلكَ الصخرةِ التي اصطدمت بها.. دقائقَ يدعو من اللهِ أن يسحبَ أنفاسهِ إلى بارئها ..وضعَ رأسهِ على القيادةِ وأطبقَ على جفنيهِ محاولًا استجماعَ ذاتهِ التي ضاعت بسببِ ذاكَ القلبِ الضعيف، وكلماتها القاسية تضربه كالصاعقة، شعر وكأن أحدهم يطبق على عنقه، يود أن يصرخ من أعماقه بكل ما أوتي من قوة من شدة آلام مايشعر به، دقائقَ خلفَ دقائقَ إلى أن أقسمَ بداخلهِ أن ينتزعَ قلبهِ ويُلقيهِ خارجَ صدره..
أرجعَ ظهرهِ للوراءِ وقامَ بتشغيلِ موسيقى هادئة، وأغمضَ عينيهِ لفترةٍ إلى أن هدأَ ثمَّ رفعَ هاتفهِ إلى إسلام وأخبره قائلاً:
إسلام إبعت السواق على العنوان اللي هبعتهولَك، أو روح إنتَ رجَّع بنتِ مدام فريدة..
نهضَ إسلام من مكانهِ ورسمَ ابتسامةً أمامَ والديه:
بنتِ مدام فريدة!!.
إيه الِّلي حصل..اسمع الكلام وبس، قالها وأغلقَ الهاتفَ ثمَّ تحرَّكَ بالسيارة..
صباحَ اليومِ التالي:
خرجت من غرفتها بخروجهِ من غرفتهِ يتحدَّثُ بهاتفه، قابلتها غادة تنظرُ إلى ثيابها القصيرة معترضة:
إيه اللي إنتِ لبساه دا ياميرال وترجعي تقولي أخوكي وأخوكي..
أزاحتها وتحدثَّت بصوتٍ مرتفعٍ لكي يصلَ إليه:
أنا حُرَّة محدِّش لُه كلام عليَّا، حرِّة نفسي أعمِل اللي يعجبني واللي مش عاجبُه يشرَب من البحر..
هبطَ إلى الأسفلِ وكأنَّهُ لم يستمع إليها،
ألقى تحيةَ الصباحِ على والدِه:
رفع مصطفى بصره وأجابه بفخر:
-صباح الخير ياحبيبي، مبروك عرفت إنَّك اترَقيت لسة اللواء محسن قايلِّي..
شكرًا يابابا..هرولت غادة تقبِّلهُ على وجنتيه:
أشطر ظابط أخويا أنا، لازم حفلة بقى يابابا..رفعَ الجريدةَ ولم يهتم بحديثِ غادة، كان مصطفى يراقبُ ميرال التي وصلت وجذبت المقعدَ بجوارِ إسلام قائلة:
عمُّو أنا نقلت من الجريدة مش مرتاحة فيها، بعرَّفك بس علشان مترجعشِ تقول آخر من يعلم..
أومأَ لها دونَ حديثٍ وهو يتابعُ إلياس…
إلياس ..رفعَ نظرهِ لوالدهِ وهو يرتشفُ قهوته..
ليه طلبتِ نقلَك السويس؟..
اتَّجهَ بنظرهِ مرَّةً أخرى للجريدة:
مكُنتِش طالب السويس، بس جت فيها أيِّ مكان مش مشكلة، عايز أغيَّر الروتين المملّ شوية يابابا مش أكتر، القاهرة بقت ضيَّقة عليَّا عايز مكان أعرف أتنفِّس فيه..
شعرت بالحزنِ من نبرتهِ التي يحاولُ أن يخرجها ثابتة، وصلت فريدة إليها وهدرت بغضب:
إنتِ رفعتي قضية طلاق على جوزِك؟!..
رفعت كوبَ عصيرَها بأيدي مرتجفةٍ تطالعهُ وهمست بسُحبِ عينيها المتكوِّرةِ تحتَ جفنيها:
أيوة ياماما..لوَّحت أعينُ فريدة بالغضبِ وهدرت معنِّفةً إياها:
اتصلي فورًا بالمحامي ووقَّفي المهزلة، نهضَ ينظرُ إلى إسلام:
بعد ساعتين السواق هيجي ينقِل حاجاتي الخاصة، خلِّيك معاه..
ثمَّ رفعَ نظرهِ إلى فريدة:
أتمنَّى ماتدَّخليش في حياتها وهيَّ حرَّة..حتى لو سحبت القضية وجَت اعتذرِت مليون اعتذار، بنتِك مابقتشِ تلزَمني، ورقتِك هتكون عندِك بالليل يامدام، وفَّري أتعاب المحاماة واعرفي قيمة اسمِ العيلة..
قالها وارتدى نظارتهِ متحرِّكًا بعنفوانهِ وخطواتهِ الواثقة وكأنَّهُ لم يكن ذاكَ الذي كانَ منذُ ساعاتٍ قليلة ...
أمَّا مصطفى الذي نظرَ إليها بذهولٍ وكأنَّ أحدَهم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلج:
إيه اللي سمعتُه دا!..طلاق على إلياس
إنتِ اتجنِّنتي ولَّا إيه..نهضت تحملُ حقيبتها وهربت من أمامهم دونَ أن تتحدَّثَ بحرفٍ واحد، فيكفي ماتشعرُ به منذُ الأمس، لقد انتزعَ قلبها وأخذهُ ورحل، شعرت بفداحةِ ماقالتهُ لهُ ولكن ماذا سيفيدُ البكاءُ على اللبنِ المسكوب…
مساءَ اليومِ قامَ بمهاتفتها:
قابليني في العنوان اللي هبعتهولِك، بعربية الحراسة، متخرجيش من غيرها
ارتجفَ قلبها بالسعادة، هبَّت من فوقِ فراشها فرحًا، فمنذُ خروجهِ بعدَ حديثهِ بإتمامِ الطلاقِ وهي تشعرُ بالمرضِ يتخلَّلُ جسدها بالكامل ..همست بفرحةٍ وهي تُخرجُ أحدِ فساتينها:
هنروح فين علشان بس أعرف نوع الفستان اللي هلبسُه..
إلبسي فستان أبيض وياريت لو فستان فرح علشان النهاردة فرحتِك هتكمَل وتطلَّقي من أقذر شخص ربطِّي اسمِك بيه وبالتلاتة ..قالها وأغلقَ الهاتف..
شهقةٌ خرجت من فمها لتهوى على الأرضِ بعدما فقدت سيقانها حملها، بكت بصوتٍ مرتفعٍ حتى تحوَّلَ بكاؤها لصراخٍ وهي تهمسُ لنفسها:
مش عايزة أطلَّق، تراجعت بجسدها تستندُ على الجدارِ تحتضنُ ركبتيها..
دلفت والدتها بجوارِ غادة سريعًا بعدَ سماعِ بكائها، ألقت نفسها بأحضانها:
مش عايزة أطلَّق ياماما، قوليلُه مش عايزة أطلَّق..ربتت على ظهرها تحاولُ تهدئتها، ثمَّ أردفت بهدوءٍ رغم بكاءِ قلبها عليها:
مين اللي قال إنُّه هيطلَّق، ياهبلة دا لو عايز يطلَّق كان أقلِّ حاجة رمى يمين الطلاق عليكي، هيَّ بس حجة مش أكتر..لمعت عيناها بعدما وجدت بصيصًا من الأملِ على حديثها فنهضت من مكانِها دونَ أن تقولَ شيئًا وانتقت من فساتينها أجملها، ووضعت لمساتٍ خفيفةٍ متحرِّكةً للخارجِ مع مراقبةِ والدتها إليها بحزن، احتضنت رأسها:
يارب يهديك ياإلياس ومتعملشِ حاجة تندم عليها العمرِ كلُّه.
وصلت بعدَ قليلٍ إلى شارعٍ هادئٍ إلى حدٍّ ما بأحدِ الأماكنِ الراقية، على العنوانِ الذي أرسلُه، ترجلَّت من السيارةِ وهاتفتهُ تدورُ حولها:
أنا وصلت..كانَ بسيارتهِ يتابعُها بعينيه، فأجابها:
شوفتِك..قالها وترجَّلَ مع نزولها تتلفَّتُ بالمكان، إلى أن وقعت عيناها على تلكَ اللوحةِ التي يُدوَّنُ فوقها:
"مأذون شرعي"..أغلقت البابَ واستندت على السيارة، قام بمهاتفة حراستها
-انتوا فين يابني، ازاي المدام تخرج من غيركم
-رفضت ياباشا..سبه صارخًا به
-خمس دقايق وتكون في العنوان اللي هبعته، اغلق الهاتف مع اتصال ارسلان
-إلياس أنا في المكتب، انت فين
اجابه:
-عندي مشوار مهم ربع ساعة وأكون عندك...قالها مع لمحه لسيارة سوداء رباعية تقترب بجوارِها لتفتحَ البابَ وتحاولَ أن تجذُبها، صرخت باسمِ إلياس الذي كان يتحدَّثُ بهاتفِه مع ارسلان..تحرك سريعًا على ذاكَ المشهدِ الذي سحبَ أنفاسِه، لحظةً من الصمتِ المميتِ للعقلِ وكأنَّ عقلهِ توقَّفَ عن التصرُّفِ وهم يحاولونَ جذبها بعنفٍ للسيارة، أخرجُ سلاحهِ من السيارة، مع سماع ارسلان لصوته
-ميرال قالها وهو يهرول، مع إطلاقِ الأعيرةِ النارية، تبادلت الطلقات بوصولِ أمنِ ميرال الذي وصل للتو بأمرٍ من إلياس..وصلَ إليها
جذبها يدفعُها للخلفِ بعدَ وصولِ سيارةٍ أخرى من هؤلاءِ الخارجينَ عن القانون:
روحي على عربيتي بسرعة ..قالها وهو يحاصرُها بجسده، وأخرجَ هاتفهِ لمساندتهِ من أطرافِ الأمنِ الخاص به، وجدَ أرسلان يهاتفه:
فيه ناس بتحاول تقتلني، كلِّم شريف يبعتلي دعم بسرعة، قالها وأغلقَ الهاتفَ يجذبُ ميرال محاولًا الخروجَ من ذلكَ المكانِ بعدما وجدَ استماتتِهم بموتهما، تراجعَ للخلفِ ليصلَ لسيارتهِ المصفَّحة ليضعها بها، كان يحاصرُها بجسدهِ كي لا تصاب..تشبَّثت بملابسهِ من الخلفِ بعدما سقطَ معظمِ الأمنِ الذي يقومُ بحمايتها..
ميرال على العربية ..قالها بعدَ محاصرتهِ من بعضِ الأشخاص..
ارتجفَ جسدها وهي تراهُ يحاولُ جاهدًا الخروجَ من ذلكَ المكانِ الذي أُغلقَ عليهم وكأنَّ الذي خطَّطَ على درايةٍ تامةٍ بما سيفعلُه..نفذَ سلاحهِ من الطلقات، استدارَ إليها سريعًا يضمُّها لأحضانهِ يشيرُ إلى ذلكَ المنزل:
ميرال إعملي زي ماهقولِّك تمام ..هزّت رأسها بالموافقةِ مع دموعها التي أصبحت كالشلَّال ..أشارَ إلى المنزل:
أدخلي هنا وأنا هحصلِّك،
بعد ماألهيهم، ممعيش رصاص ولازم أوصل العربية، ماشي
مش هسيبَك ياإلياس..
ميرال مبقاش معايا غير رصاصة واحدة لازم نخرُج من هنا حبيبتي..
احتضنتهُ من الخلف تبكي تهزُّ رأسها بالرفض:
مش هسيبَك سمعتني، جذبها وتحرَّكَ سريعًا يضعها خلفَ جسدهِ واختبأَ بالداخلِ منتظرًا الدعم، استمعَ إلى صعودِ أحدِهم على الدرج ..وضعَ كفِّهِ على فمها يشيرُ إليها بالصمت، دخلَ يبحثُ عنهما وهو يوجِّهُ السلاحَ بالمكان، جذبهُ يجرُّهُ إليه، وبحركةٍ خفيفةٍ جذبَ السلاحَ وأطلقَ رصاصته،
ثمَّ استدارَ إليها بعدما صرخت تضعُ كفَّيها على أذنها..ضمَّها لأحضانه:
خلاص إهدي، تحرَّكَ بحذرٍ ومازالَ محاوطًا جسدها، خرجَ من المنزلِ ولكنَّ هناكَ من ينتظرهُ بالخارج.. طلقاتٍ ناريةٍ مصوَّبةً عليهما، حاوطها بجسدهِ إلى أن اخترقت أحدُ الرصاصاتِ جسده، مع وصولِ أرسلان بالدعم، ليهربَ المجرمينَ ويهوى على الأرضيةِ أمامها غارقًا بدمائه، صرخةً شقَّت صدرها باسمهِ وهي تجثو تحتضنُ رأسهِ وتهزُّ رأسها بعنف:
لا لا ..إلياس انحنت برأسها تضمُّهُ تبكي بهستريا:
افتح عيونَك حبيبي، إياك تسبني إلياس.. حبيبي أنا غلطانة آسفة أنا السبب، صرخت وصرخت وهي تضمُّهُ بجنونٍ وكأنَّهُ سيفارقها، رفعَ كفِّهِ ببطئٍ يحتضنُ كفَّها وحاولَ الحديثَ ولكنَّهُ لم يقو ...انحنت تقبِّلهُ وتبكي بهستريا " إلياس"وصلَ أرسلان بعدما أنهى على الجميع وجدهُ يحاولُ أن يفتحَ عينيهِ فحصَ نبضِه:
لازم نتحرَّك فورًا النبضِ ضعيف، هجيب العربية..
بكت تصرخُ تضمُّهُ مرَّةً وتقبِّلهُ مرَّة كالتي فقدت عقلها ..ضغطَ على كفِّها بضعفٍ ينظرُ لدموعِها التي تساقطت على وجههِ ثمَّ ابتسمَ ليغلقَ عينيهِ بعدها
↚
أتدري ماهوَ الخُذلان؟..
الخُذلانُ أن يأتيَكَ الرُمحُ من داخلِ سورِ قلعتِكَ وأن تُهزمَ من جيشِكَ الأوَّل..
كطفلٍ هرولَ إلى أمُّهِ باكيًا…فتلقَّى صفعةً ليكُفَّ عن البُكاء..
واللهِ إنَّهم لم يُخطِئوا بانشغالهِم عنَّا…
بل نحنُ من أخطأنا عندما انتظرناهُم ..
اشتقتُكَ بقوَّةٍ تذيبُ قلبي عِشقاً وحَنيناً..
اشتقتُكَ بلهفةٍ لم أعرِفُها إلَّا معَك..
لذلكَ تَستحقُّ بعضَ المشاعرَ أن تُدفنَ بالأعماقِ كي لايُهانُ القلبُ بها ...
صرخت وصرخت تضمُّهُ بانهيار ..وصلَ أرسلان مع أحدِ أفرادِ الأمنِ وقاما بحملهِ متَّجهينَ إلى السيارة..ساعدها أرسلان بالوقوف:
لو سمحتي يامدام ساعديني علشان ننقذُه مش وقتِ بُكى...
تحرَّكَت بجوارهِ وعيناها تتابعُه، إلى أن جلست بجوارهِ بالسيارةِ تضمُّ رأسهِ وتملِّسُ على وجهِه.. انحنت تضعُ رأسها فوقَ جبينهِ تهمسُ ببكاء:
إلياس افتح عيونَك، حبيبي متعقبنيش كدا...قادَ أرسلان السيارةَ بسرعةٍ مهولة، وقامَ بمهاتفةِ إسحاق:
عمُّو..إلياس السيوفي مضروب بالنار، غرفة عمليات جاهزة بسرعة رصاصة بالصدر، رقم العربية هبعتهولَك، تعرَف تبع مين، حرَّك الجهة المسؤولة تبعنا عايز العيال دي قبلِ خروجُه من العملية ياعمُّو..
تمام ..هوَّ عامل إيه إصابتُه خطيرة؟..
نظرَ لانعكاسِ صورتهِ بالمرآة، وتعلَّقت عيناهُ للحظاتٍ بميرال مردفًا:
خير إن شاءالله..قالها وأغلقَ الهاتف.
عندَ فريدة:
استيقظت من نومِها فزعةً وضعت كفَّها على صدرها تستعيذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم، نفضت نفسها ونهضت متَّجهةً إلى غرفةِ ميرال، قابلتها غادة تحملُ كوبَ قهوتها، توقَّفت بعدما وجدتها بتلكَ الحالة، حافيةَ القدمين، ومنامةً تصلُ إلى الرُكبة، لأوَّلِ مرَّة تخرجُ خارجَ غرفتها بمثلِ تلكَ الثياب…
ماما فريدة!!..التفتت إليها تتساءلُ بنغزةٍ تخترقُ قلبها:
ميرال كلِّمتِك، عملت إيه هيَّ وإلياس؟..
تحرَّكت تسحبُ كفَّها:
إهدي حبيبتي، أكيد زمانها قابلتُه، مسحت على وجهها، تنظرُ إلى غادة:
قلبي وجعني يابنتي، خايفة إلياس فعلًا يطلَّقها ودي مجنونة بحبُّه يعني ممكن تعمل حاجة في نفسها..
أومأت موافقةً ثمَّ أردفت:
إلياس سكوتُه مش مريحني، وخصوصًا بعدِ ماساب البيت، تفتكري ناوي ياخدها هناك علشان يعاتبها ياماما؟..أنا خايفة يقسى عليها..
تنهَّدت بآلامِ قلبها تمسِّدُ على صدرها:
هوَّ من جهة هيقسى فهيقسى فعلًا، ومش بس قسوة راجل مجروح في رجولتُه، راجل عايز ينتقم ..ربِّنا يُستر..رفعت رأسها إلى غادة ورسمت ابتسامةً حزينةً قائلة:
عارفة…رغم عارفة أنُّه هيقسي عليها بس متأكدة أنُّه هيحميها ومش هيقدَر يقسى كتير، هوَّ ممكن درس صُغنَّن..
ضحكت غادة تضربُ كفَّيها ببعضهما:
إيه ياستِّ ماما ماترسي على حل هيقسى ولَّا لأ، بس متزعليش بنتِك تستاهِل…
تغضَّنَ وجهها رافضةً حديثها:
بُصي..ميرال غلطانة على الطلاق، بس إلياس ميتوصَّاش في قلبتها..
ضحكت بصوتٍ مرتفعِ قائلة:
ياحبيبي ياخويا، حماتَك بتحبَّك ..ملَّست على خصلاتِها تضمُّها لأحضانِها:
وبحبِّك إنتِ كمان، أنتوا النور اللي جاني بعد سنين ظلام وقهر..اعتدلت غادة تمسحُ دموعها وهتفت:
طيِّب بتعيَّطي ليه دلوقتي؟!..واللهِ أنا بحبِّك أوي، حتى بحبِّك أكتر من البتِّ ميرال..
ابتسمت بحنانٍ أمومي:
بكَّاشة أوي يادودي..
واللهِ أبدًا ياماما، أنا بعتبرِك أمي أصلًا، إيه إنتي مش معتبراني زي ميرال ولَّا إيه؟..
قبَّلت جبينها واحتضنت وجهها:
مين يقدَر يقول غير كدا ياقلبي، إنتِ بنتي مش إنتِ بس وإسلام وإلياس.
إلياس !!
رغم اللي عملُه فيكي وفي ميرال لسة بتعتبريه ابنك!..
دا قلبي وروحي ياغادة، أجمل نعمة ربِّنا رزقني بيها، عمري ماأزعل منُّه يابنتي، ربنا يباركلِي فيه ويحفظُه ويبعد عنُّه كلِّ سوء.
أوبااا دا كلُّه لإلياس وأنا نو دعوة حتى دعوة أنام شوية قبلِ نكد ميرال مايوصَل..
إزاي بقى دا إنتِ روحي ياصغنَّنة، اتصلي بأخوكي كدا وشوفيه فين..
هزَّت رأسها بالموافقةِ وقامت بمهاتفتِه، ولكن لا يوجد رد ..
مابيرُدش ..طيِّب اتصلي بميرال طَّمني قلبي وجعني ربِّنا يستر..
قامت بمهاتفتِها مرَّةَ أخرى ولكن كالعادة لا يوجد رد..
ذهبت بشرودِها تهمسُ لنفسها:
ياترى ناوي على إيه يابنِ جمال، ممكن تطلَّقها فعلًا ولَّا قلبَك هيعاندَك وتتراجع
أتمنَّى تتراجِع ياإلياس علشان متخسرهاش..
وصلَ مصطفى إليهما:
فريدة صحيتي إمتى، نهضت متَّجهةً إليه:
لسة من شوية حبيبي..ابتسمَ إلى غادة ثمَّ حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ بها إلى غرفتهما:
تعالي ارتاحي، ضغطِك كان عالي تعالي نشوفُه نزل ولَّا لسة..
جلست على الفراشِ واحتضنت ذراعهِ تجذبهُ ليجلسَ بجوارِها:
أنا كويسة، إنتَ عامل إيه دلوقتي؟..
تمدَّدَ على الفراشِ وسحبها لأحضانه:
إيه رأيِك نسافر حجّ السنة دي، كلِّ سنة بنأجِّل، يمكن لمَّا نروح هناك وندعي لولادنا ربِّنا يهديهُم..
أغمضت عينيها تهمسُ بنبرةٍ حزينة:
عايزة ابني يرضى عنِّي وبس يا مصطفى، نفسي أخدُه في حضني أوي..
اعتدلت تنظرُ إليهِ وتابعت قائلة:
إلياس موجوع أوي يامصطفى، قلبي حاسس بيه، بس مش قادرة أهوِّن عليه، مشفتوش وهو هيتجنِّن عليها، بيحبِّ البنتِ أوي بس أنا عقَّدتُه، نفسي يعرَف الحقيقة..
مسَّدَ على وجهها وهتفَ بصوتٍ حاني:
إن شاءالله هحاول أمهدلُه، المهمّ فين ميرال، الجريدة الجديدة دي مش حلوة ولازم تستقيل منها، شغَّالين أخبار صفرة..
يعني إيه؟!
ربتَ على كفِّها وتحدَّثَ بنبرةٍ مُطمئنة:
متقلقيش أوي كدا، يعني أخبار كاذبة، مش عايزها تدخل في صدام مع إلياس، أنا بحاول أضغط عليه علشان يقولِّي إيه اللي حصل بينُه وبين ميرال ومرجَّعه بالطريقة دي..
مصطفى إلياس اتصل بميرال علشان يطَّلقوا، أنا عندي أمل يغيَّر رأيُه..
إنتِ بتقولي إيه، اتجنِّن دا، أنا سايبهُم قولتِ مستحيل يعمِل حاجة..قاطعهم رنينَ هاتفه:
أيوة ..على الجانبِ الآخر:
شهقاتٌ مرتفعةٌ ولم تستطع السيطرة على بكائِها، عمُّو إلياس ، إلياس ..قالتها بانهيارٍ تام ..ابتعدَ مصطفى عن فريدة وقلبهِ اشتعلَ من الخوفِ مردِّدًا بتقطُّع:
مالُه إلياس حبيبتي، عمل فيكي حاجة؟..
هزَّت رأسها مع ارتفاعِ شهقاتها:
إلياس بيموت ضربوه بالنار..
أُصيبَ جسدهِ بهزَّةٍ عنيفةٍ حتى لم يستطعَ الوقوف، فجلسَ على المقعدِ يردفُ بتقطُّع:
بتقولي إيه، إلياس انضرب بالنار!..
هبَّت فزعةً من مكانِها مقتربةً منهُ بجسدٍ ينتفضُ رعبًا:
مالُه إلياس يامصطفى..ابني ماله؟..رفعَ عينيهِ إليها وتجمَّعت سحبُ عينيهِ تحتَ أهدابه، نظراتٌ بضعفِ النبضِ حتى صلبَ جسدهِ متوقِّفًا بصعوبة، وأشارَ إليها:
البسي لازم نروح المستشفى حالًا..
أطبقت على ذراعيهِ تنظرُ بمقلتيه:
ابني عايش يامصطفى، قولِّي وريَّح قلبي ..احتضنَ رأسها ودمغَ جبينها بقبلة:
إن شاء الله حبيبتي، إن شاءالله عايش..
بالمشفى من أمامِ غرفةِ العمليات، جلست على المقعدِ تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهمية، اتَّجهَ إليها بعدما وجدَ حالتها:
مدام، إن شاءالله هيكون كويس، مازالت على وضعها لا تسمعُ لاترى لا تتحدَّث، وصلَ مصطفى بوقوفِ أرسلان بجوارِها، فين وإيه اللي حصل، بينما فريدة التي استندت على الجدارِ وهي تراهُم يُخرجونَهُ من غرفةِ العملياتِ متَّجهينَ بهِ للعناية، تحرَّكَ فراشهِ وهو كالجُثَّةِ الهامدةِ لا حولَ لهُ ولا قوَّة، همست بتقطُّع:ابني..قالتها ثمَّ هوت على الأرضية، ليصرخَ مصطفى باسمِها، مع هرولةِ أرسلان إليها الذي قامَ بحملِها بوصولِ أحدِ المسعفين، وتمَّ نقلها إلى غرفةٍ لفحصها…
تحرَّكَ مصطفى سريعًا إلى الطبيبِ بعدما وجدَ عدمَ تحرُّكِ ميرال من مكانها رغم ماحدثَ لوالدتِها، اقتربَ منها أولًا يشيرُ إلى الممرضة:
إعطيها مهدِئ يابنتي، أو أيِّ حاجة تفوَّقها، رفعَ نظرهِ إلى أرسلان المتوقِّفِ مع الطبيب، فتحرَّكَ إليهما:
ابني عامل إيه يادكتور ؟..
كويس الحمدلله، الرصاصة بعيدة عن الأعضاء الحيوية، نحمد ربِّنا وخاصَّةً أنُّه بكلية واحدة..
ردَّدَ مصطفى قائلًا:
الحمدُلله، الحمدُلله أنَّها بعدت عن القلب، المهم حالتُه كويسة يادكتور؟..
إحنا عملنا الِّلي علينا، لسَّة قايل لحضرتُه، الإصابة مش مميتة، بس برضو خطيرة إلى حدٍّ ما، إحنا نقلناه العناية بعيدًا عن أيِّ مخاطر سلبية، بس كعملية نجحت الحمدُلله..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ وصلت غادة وإسلام، تزاحمَ المشفى من الأصدقاءِ والأقارب، بانتظارِ الإفاقة..
بغرفةِ فريدة توقَّفَ بجوارِ الطبيب:
من الأفضل تفضَل شوية في العناية، الصدمة كبيرة عليها، مقدرتشِ تستوعبها، الحمدُلله بعدنا عن الذبحة الصدرية، بس حالةِ النبضِ ضعيفة، علشان كدا بقول لحضرتَك الأفضل تفضَل بالعناية، لحدِّ ماالنبضِ يتظبَّط، وكمان الضغط ضعيف جدًا..
أومأَ متفهِّمًا ...اللي تشوفه صح يادكتور إعملُه، المهمِّ تكون كويسة..
سلامتها إن شاءالله...قالها وتحرَّكَ، بينما جلسَ مصطفى بجوارِها يحتضنُ كفَّها:
ألفِ سلامة عليكي يارفيقةِ الدرب، قلبي مش متحمِّل خسارتِك يافريدة كفاية عليَّا غادة، والمرَّة دي هتكون أصعب وأصعب، أكتر من خمس وعشرين سنة يافريدة..لثمَ باطنَ كفَّها:
وعد منِّي أحافظ عليكي وعلى ابنِك حتى لو التمن روحي ...اقتربَ منها ثمَّ انحنى يلثمُ جبينها وتحرَّكَ للخارج، يشيرُ إلى غادة التي تجلسُ تحتضنُ ميرال الحاضرة الغائبة..
نهضت مقتربةً منه..
حبيبتي أدخلي لماما مش تسبيها وأنا هشوف أخوكي..انسابت عبراتها:
بابا إلياس هيكون كويس..
ضمَّها من أكتافِها وتحرَّكَ بها لداخلِ غرفةِ فريدة:
إن شاء الله، الدكتور طمِّني، المهم ماما خدي بالِك منها.
بالخارجِ عندَ ميرال، انحنى إسلام ورفعها متَّجهًا إلى الغرفة، ساعدها بالتمدُّدِ على الفراش..احتضنت نفسها تهمسُ بخفوت:
قولُّه بحبُّه ياإسلام، بحبُّه أوي، قالتها وذهبت بنومِها بسببِ المهدِّئ..
مسَّدَ على شعرها وخفضَ رأسهِ يهمسُ لعقلها الباطن:
وهوَّ بيعشقِك بس بيكابر، خلِّيكي وراه، بس يفوق ..قالها وتحرَّكَ للخارج، وجدَ أرسلان يتحدَّثُ بالهاتف، جلسَ إلى أن انتهى، تحرَّكَ إليهِ متسائلًا:
إنتَ إسلام أخو إلياس؟..أومأَ لهُ وهو يدقِّقُ النظرَ بملامحه، ثمَّ باغتهُ بسؤال:
إنتَ مين؟!..
بسطَ أرسلان كفُّه:
أرسلان الجارحي صديق إلياس..حيَّاهُ إسلام ومازالت عيناهُ عليهِ فتساءل:
ابنِ رجلِ الأعمال فاروق الجارحي..قالها بوصولِ والدهِ الذي استمعَ إليه:
جلسَ مصطفى بجواره:
احكي لي يابني إيه الِّلي حصل؟..قصَّ لهُ أرسلان ما رآه ..ثمَّ تابعَ مستطردًا:
كلَّمت ظابط يتابع العربية، وبدل رقمها موجود هنوصلَّها..
قولت عربية رباعية مصفَّحة وعربية ملَّاكي..صمتَ مضيِّقًا عينيهِ وتساءل:
ودول ليه يموِّتوا إلياس، يعني بسبب شغله؟..
هزَّ أكتافهِ بعدمِ معرفة ثمَّ استرسل:
بص حضرتَك عارف إن إلياس وظيفتُه بتحتِّم عليه أعداء كتيرة، بس الموضوع هنا مش لوظيفة، بدليل أنُّهم مش ساوموه على حاجة، لا..دول مصرِّين على قتلُه، ودول ناس خبيرة جدًا وعارفة بتعمل إيه..
هزَّ رأسهِ ثمَّ نهضَ وأمسكَ هاتفه، يهاتفُ أحدَ أصدقائه:
عايز تجيب العيال اللي ضربت إلياس من تحتِ الأرض ..قالها وأغلقَ الهاتف.
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ بغرفةِ العنايةِ كانت تجلسُ تخلِّلُ أناملهِ بكفٍّ والآخرُ تضعهُ تحتَ وجنتيها تغلقُ عينيها، همسَ بتألُّم:
ميرال...كرَّرها عدَّةِ مرَّات، فتحت عينيها وكأنَّها تحلَم ولكنَّها استمعت إلى صوتهِ مرَّةً أخرى ..ابتسمت تقبِّلُ كفِّه:
حبيب ميرال أنا هنا..رفرفَ بأهدابهِ للحظاتِ ثمَّ غفا مرَّةً أخرى..دنت منهُ تطبعُ قبلةً بجوارِ خاصَّتهِ تملِّسِ على وجنته:
إلياس افتح عيونَك حبيبي، طمِّن قلبي، قلبي محروق عليك، إلياس كرَّرتها لعدَّةِ مرَّات، ابتسمت تضعُ رأسها بجوارِ رأسهِ متمتمة:
هفضل جنبك العمرِ كلُّه ياحبيب ميرال..
مرَّت عدَّةِ دقائقَ أخرى ليفتحَ عيناهُ بتململٍ بسببِ الإضاءة، شعرَ بكفِّهِ
المحبوسِ بين كفِّها، ذهبَ ببصرهِ إلى نومها بجواره، واحتضانِ كفِّه..
أغمضَ عينيهِ متذكِّرًا ما صار، دلفت الممرضةُ وابتسمت:
حمدالله على السلامة ياحضرةِ الظابط..أومأَ لها يشيرُ إلى ميرال:
صحِّيها..أيقظتها الممرضة لتهبَّ فزعًا:
إلياس ..ضغطَ على كفِّها المتشبثة به:
أنا كويس، نايمة كدا ليه وفين بابا
انحنت بجسدِها تمسِّدُ على رأسهِ وأردفت بنبرةٍ متقطِّعة وعيونٍ دامعة:
حمدالله على سلامتَك، حاسس بإيه، دلفَ الطبيبُ بعد إخبارِ الممرضة:
حمدالله على السلامة يابطل ..
أومأَ لهُ دونَ حديث..تمَّ فحصهِ بالكامل:
عال العال ...ألفِ سلامة ومُعافى إن شاءالله..
قالها وخرجَ بعدما أمرَ الممرضةَ بالاهتمامِ به، ونقلهِ إلى غرفةٍ عادية.
بعد نقله للغرفته..
وصلَ إسلام:
حمدالله على سلامتَك ياأبيه ..قالها بأعينٍ حزينة..بسطَ كفِّهِ يشيرُ إليه..
خطا إلى أن وصلَ إليه، ضمَّهُ بحنانٍ أخوي يربتُ على ظهره:
مش عيب راجل يعيَّط كدا، إنتَ لسة صغير لكدا..
رفعَ رأسهِ من أحضانِ أخيه:
خوفت عليك أوي ياإلياس، إنتَ مش مجرَّد أخ، إنتَ أبويا وكلِّ حاجة.
ابتسمَ إلياس يداعبُ خصلاته:
رغم إنَّك كبَّرتني بس أحسن ابنِ في الدنيا كلَّها..كانت تتابعهُم بابتسامة، دلفت غادة بشقاوتها:
إلياسو حبيب أختُه فاق، قالتها وهي تهرولُ إليهِ لتُلقي نفسها بأحضانهِ حتى شعرَ بآلامه..
تراجعت متأسفة:
آسفة حبيبي، بس أصلَك نمت كام ساعة ووحشتني..
حمدالله على السلامة...وزَّعَ نظراتهِ بينهما متسائلًا:
بابا فين؟!..وضعت غادة رأسها على كتفه:
ماما تعبانة واتحجزِت بالعناية، حبيبتي ماتحمِّلتشِ خبر إصابتَك..
في العناية بسببي!..تساءلَ بها بذهول..
سحبَ إسلام كفَّ أختهِ بعدما وجدَ وقوفُ ميرال بركنٍ كالمنبوذة، فهتفَ قائلًا:
تعالي حبيبتي خلِّي أخوكي يرتاح ...طبعت قبلةً فوقَ جبينهِ وتحرَّكت للخارج..
ذهبَ ببصرهِ للواقفةِ بصمتٍ وعيناها تبحرُ فوقَ ملامحهِ بطبقةٍ كرستالية، ابتعدَ بنظرهِ يغمضُ عينيه، خطت إلى أن وصلت إليهِ ثمَّ جذبت مقعدًا وجلست بجوارِه، سحبت كفِّهِ تملِّسُ عليهِ متسائلة:
حاسس بأيه، موجوع ...مازالَ على حاله، بل سحبَ كفِّهِ وتمتم:
عايز أرتاح ممكن تُخرجي برَّة، مش محتاجِك..اقتربت بجسدِها منهُ تهمسُ بخفوت:
بس أنا محتاجاك..
أنا قولت برَّة مش عايز أشوفِك قدَّامي...
إلياس..حدجها بغضبٍ تجلَّى بعينيهِ وأشارَ بكفِّهِ للبابِ متناسيًا آلامه:
وأنا كرهت اسمِ إلياس اطلعي برَّة مش عايز أشوفِك قدَّامي ..اطلعي..
قاطعهُم دخولُ مصطفى، اتَّجهَ إليهِ بلهفةِ أبٍ مكلومٍ على ولدِه:
حبيبي حمدالله على سلامتَك..
أطبقَ على جفنيهِ من شدَّةِ آلامه يهزُّ رأسهِ بعدما فقدَ الحديث..
مسحَ على رأسه:
حبيبي مالَك، حاسس بإيه..
تنفَّسَ بتثاقلٍ وحاولَ الحديث، ولكنَّهُ لم يقو من شدَّةِ آلامه..
انحنت ترفعُ جسدهِ بعدما شحبَ وجهه:
ارتاح بالنوم كدا علشان تعرَف تتنفَّس كويس...قالتها بدلوفِ الطبيب ِبعدما استدعاهُ مصطفى، فحصهُ الطبيبُ يهزُّ رأسهِ معترضًا:
إزاي الجرحِ فتح، إنتَ اتحرَّكَت من مكانَك؟..أتمَّ ضمادةِ جرحهِ وتحدَّثَ محذرًا إياه:
ممنوع الحركة إنتَ لسة خارج من عملية من ساعات، عارف صعوبة تحكُّم الظباط في انفعالاتهم، لكن لازم تحافِظ على صحتَك، لو سمحت ياحضرةِ الظابط خاف على نفسَك، ممكن يكون فيه مضاعفات، الرصاصة قريبة من الكلية، وطبعًا مش هفكَّرك إنَّك بكلية واحدة، حاول تهدى لحدِّ ماتخف ..
أومأَ لهُ دونَ حديث، جلسَ مصطفى بجواره:
حبيبي إيه اللي قومَك من مكانَك بس..
عايز أنام يابابا، روح شوف مدام فريدة وخُد بنتها معاك..قالها بصوت اقرب للهمس
طالعهُ بصدمةٍ يهتفُ بذهول:
إيه اللي بتقولُه دا ياإلياس!..
ابتعدَ للجهةِ الأخرى، تنهَّدَ مصطفى بحزنٍ ثمَّ نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى ميرال:
تعالي معايا حبيبتي..اتَّجهت إليهِ وجلست على المقعد:
أنا مش هسيب جوزي ياعمُّو، يقول اللي يقوله، مش هخرج..
نظرَ إليهِ مصطفى وجدهُ مُغلقَ العينين..ظلَّ لعدَّةِ لحظاتٍ مثبتًا نظراتهِ عليه..
تحرَّكَ للخارجِ متَّجهًا إلى فريدة، بينما ظلَّت ميرال بمكانِها تطالعهُ بعينينٍ هالكتينِ من الحزنِ والندم، ذهبَ بنومهِ بسببِ الأدوية، اقتربت برأسها تضعها بجوارِ رأسهِ ورفعت ذراعها تحاوطُ جسدهِ لتذهب بنومها بقربهِ بعدَ مرورِ ساعاتٍ عصيبةٍ عاشتها وهي تكادُ تموتُ رعبًا عليه ..بعدَ فترةٍ تململت بسببِ نومتها، ابتسمت بعدما وجدتهُ استدارَ بوجههِ إليها، رفعت كفَّها تمرِّرُ أناملها على وجهه ثمَّ دنت تبعثرُ شهدَ حياتِها على خاصتِه، ومازالت ابتسامتها تُزينُ وجهها لتهمس:
بتكون زي الأطفال وإنتَ نايم، كان نفسي في طفل يكون شبهَك أوي، بس محصلشِ نصيب...مازالت تملِّسُ على وجههِ حتى اقتربت تهمسُ له:
آسفة عارفة إنَّك مضَّايق منِّي، بس غصبِ عنِّي، إنتَ جرحتني أوي ياإلياس، بس تأكَد كلُّه كان من ورا قلبي، مفيش حد في الدنيا دي كلَّها ممكن يملي عيوني غيرَك حبيبي،
أنا بس كنت محروقة من الكلامِ اللي سمعتُه منَّك، أفلتت ضحكةً ناعمةً قائلة:
مش أنا قرأت أمواجك المتلاطمة، طلع عندَك أسرار ياحضرةِ الظابط، بس فيه حاجات كتيرة مفهمتهاش، مفهمتش غير حبَّك ليَّا وبس، ودا اللي يهمِّني، أنا آسفة على غبائي بتمنَّى تسامحني ..استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، دلفَ أرسلان:
مساء الخير..نهضت من مكانِها مبتسمة:
اتفضل، هوَّ فاق الحمدلله..اقتربَ وعينيهِ على جسدهِ ثمَّ اتَّجهَ إليها:
الدكتور قالِّي، وكمان سيادةِ اللوا، قولت أشوفُه..
استدارت بنظرِها إليهِ قائلة:
ممكن يصحى بعد شوية، اتفضل..نظرَ إلى ملابسها التي مازالت ملطخة بآثارِ الدماء:
ممكن تروحي تغيَّري وأنا هفضل معاه، وكمان أخوه برَّة..
هزَّت رأسها بالنفي ثمَّ اقتربت تمسِّدُ على رأسه:
مش مهم، المهم يفوق ويكون كويس..رفرفَ بأهدابهِ عدَّةَ مرَّاتٍ حتى استيقظَ متأوِهًا:
ياهلا ياهلا..قالها أرسلان بابتسامة، رفعَ عينيهِ ينظرُ إليه:
حمدالله على السلامة ياوحش، كدا شوية عيال تلعب معانا وتنضرِب..حاولَ الاعتدالَ ولكنَّها انحنت سريعًا:
استنَّى هرفعلَك السرير، ماتتحرَّكش،
أومأَ لها ثمَّ تشبَّث بذراعها متألِّمًا، إلى أن اعتدلَ بنومهِ بالكامل، نظرَ إليها ورسمَ ابتسامةً أمامَ أرسلان:
شكرًا حبيبتي...لمعت عيناها بالسعادةِ بعدما نطقَ تلكَ الحروفِ البسيطة، ورغمَ بساطتها إلَّا أنَّها توحي لديها بالكثير…
مين دول ياإلياس وكانوا عايزين يقتلوك ليه؟!..تساءلَ بها أرسلان..
رفعَ نظرهِ إلى ميرال:
روحي شوفي ماما فريدة، وابعتيلي إسلام..أومأت لهُ وتحرَّكت دونَ حديث..
شريف هتروحلُه وتقولُّه عايز ملف هيثم الشافعي..
مالُه دا؟..
الواد دا عايزَك تجيب عيلتُه كلَّها من أوَّل ماأبوه اتولَد لحدِّ الوقتِ دا،
يعني بسبب شُغلَك؟..ابتعدَ عنهُ وأردفَ بشرود:
هيبان كلُّه هيبان، اتَّجهَ إليهِ مرَّةً أخرى:
أنا من فترة بعت حد يجيب أخبارُه، بس فيه حاجات مش راكبة على بعضها، فيه حاجة مش مظبوطة ولازم أتأكِّد منها..
نهضَ أرسلان من مكانهِ بعدَ دلوفِ مصطفى مع أحدِ أصدقائهِ وأجابه:
تمام ..أشارَ إلياس إلى مصطفى:
أرسلان الجارحي هو الِّلي أنقذنا..
ابتسمَ مصطفى وشكرهُ بعرفان:
تسلَم ياحبيبي، ربِّنا يبارك فيك، هوَّ إنتَ ظابط ولَّا إيه؟..
قطعَ إلياس حديثَ والده:
ماما فريدة عاملة إيه؟..قالها وعينيهِ على أرسلان الذي تحرَّكَ بعدما استأذن..
عندَ فريدة فتحت عينيها تهمسُ اسمه:
إلياس، هرولت غادة إليها:
ماما حمدالله على سلامتِك حبيبة قلبي..أخذت تنظرُ حولها وحاولت الاعتدال إلَّا أنَّ تلكَ الإِبر المغروزة بكفِّها:
أنا فين؟!..
انحنت ميرال تقبُّلُ جبينها:
حمدالله على سلامتِك ياماما، كدا تخوِّفيني عليكي..
إلياس، إلياس عامل إيه؟..
ابتسمت وجلست بجوارِها تحاوطُ كتفها:
كويس وفاق كمان، وسأل عليكي..
نزلت بساقيها المرتجفةِ بعدما نزعت الإبر:
عايزة أشوفُه، ودُّوني لعندُه..أوقفتها ميرال تنظرُ إليها بصدمة:
حبيبتي مينفعشِ إنتِ تعبانة، بكت بشهقاتٍ كالأطفال:
ودِّيني عندِ جوزِك ياميرال عايزة أطمن قلبي يابنتي، طمني قلب أمُّه ياحبيبتي..تحرَّكت بتأرجحٍ لخطوةٍ وكادت أن تسقطَ لولا ذراعِ ميرال الذي حاوطها ترجعُ بها إلى الفراش..
حبيبتي اهدي هتوقعي، بينما هرولت غادة إلى والدها، دفعت البابَ سريعًا:
بابا ماما فريدة صحيت ومصرِّة تيجي تشوف إلياس ومش قادرين عليها، وقعِت منِّنا..هبَّ من مكانهِ سريعًا واتَّجهَ إليها، ظلَّت نظراتهِ على والدهِ الذي اختفى من أمامه بلحظة، اتَّجهَ لصديقهِ بذهنٍ شاردٍ وهو لا يعلمَ ماذا يقول، ظلَّ لدقائقَ وغادر..
رفعَ رأسهُ إلى إسلام:
مالها مدام فريدة ..طالعهُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ تحدَّث:
يهمَّك ياإلياس؟..
تصلَّبت تعابيرُ وجههِ ورسمَ البرودَ قائلًا:
عادي مهما كان دي أمُّكم وبتهتمِّ بيكُم، والحق يتقال بتخاف عليكُم أكتر من روحها..قالها وهو يتطلَّعُ أمامِه، وصلت بجوارهِم ومصطفى يحاوطُ جسدها بعدَ إصرارِها على رؤيتِه، ولكنَّها توقَّفت لدى البابِ عندما استمعت ماشقَّ صدرها..فكانت كلماتهٍ كأشواكٍ تخربشُ صدرها..
وإنتَ لأ، يعني مش هتزعل لو حصلَّها حاجة؟..أشارت إلى مصطفى بالتوقُّفِ وهي تنتظرُ ردِّهِ بلهفة..
أكيد هزعل عليها، مهما كان دي أكتر واحدة اعتنِت بينا، ابتسامةً شقَّت ثغرها وهي تستمعُ إليه.. إلى أن اختتمَ حديثهِ الذي سحبَ أنفاسها:
كانت في وقتِ من الأوقاتِ زي أمُّي، اختلافنا بالطريقة، بس لو بخاف عليها وبحترمها علشان خوفها عليكُم وحبَّها ليكمُ مش أكتر، أمَّا وجودها من عدمُه مش فارق معايا..
ترنَّحَ جسدها فدفعَ مصطفى البابَ ينظرُ إليهِ بنظراتِ عتاب، بينما هي طالعتهُ بلهفةِ أم، تجوَّلت بأنظارِها على جسدهِ كالأمِّ التي تفتِّشُ بجسدِ رضيعها عن إصابتهِ بمكروه..وصلت إليهِ وانحنت دونَ مقدِّماتٍ تحتضنُ وجههِ وقبلةً حنونةً فوقَ جبينهِ تهمسُ بأنفاسٍ متقطِّعة:
حمدالله على السلامة يانور عيني، كانت متوقفة بجوارِ غادة تنظرُ إليهِ بحزنٍ وقهرٍ على والدتها بعدما استمعت إلى حديثه، فهربت للخارجِ ودموعها تفترشُ طريقها، بينما جلست فريدة بجوارهِ على الفراشِ تحتضنُ أكتافهِ وتضعُ رأسها عليه، دمعةً انسابت من عيونها وأناملها ترفعُ كفَّيهِ وتطبعُ قبلةً عليهما..
اعتدلت تنظرُ إليه:
حاسس بإيه حبيبي موجوع ..كانت نظراتهِ إليها ضائعة، فمنذُ زمنٍ لم تحتضنهُ بتلكَ الطريقة، ناهيكَ عن أفعالها المؤذية لقلبه، نظراتها ولهفتها وبكائها جعلتهُ كالتائهَ بصحراءٍ خاويةٍ من البشر.
ماما أنا كويس..قالها دونَ وعي، لتتَّجهَ إليهِ بدموعها وشهقةً خرجت من أعماقِ قلبها تضمُّهُ بقوةٍ لأحضانها:
قلب ماما وحياتها فداك ياحبيبي..ارتعشَ قلبُ مصطفى ينظرُ إلى إسلام بخوفٍ من ردَّةِ فعلِ إلياس…
دقائقَ وهي تضمُّهُ بأحضانهِا تريدُ أن ينتهي العالم على ذلكَ الحضنِ وتلكَ الكلمةِ التي نزلت على قلبها كنسمةِ ربيعٍ بيومٍ شديدِ الحرارة، بكت بصوتٍ مرتفع ..وظلَّت تردِّد:
حبيب ماما إنتَ يابني، رفعَ ذراعيهِ يحاوطُ جسدها بعدما فقدَ السيطرةَ عن إبعادها وهناكَ شعورٌ يجذبهُ للربطِ على قلبها الحزين..
أنا كويس بطَّلي عياط، اعتدلت تحتضنُ وجههِ وقبلةً مطوَّلةً مرَّةً أخرى على جبينهِ ثمَّ نظرت إلى عينيهِ وابتسمت:
بعد كلمة ماما النهاردة مش محتاجة حاجة تانية صدَّقني، ربِّنا يسعدَك يابني يارب…
تراجعَ بجسدهِ بعدما تحكَّمَ بسيطرتهِ ليهتفَ بتقطُّع:
بس أنا مش ابنِك، أنا قولتها عادي..خرجت منِّي كدا..
هزَّت رأسها رغمَ حزنها من كلماته:
مش مهم، المهم إنَّك قولتها وبطَّل بقى هتفضل تعاندني لحدِّ إمتى يا ..قاطعها مصطفى سريعًا:
فريدة اطَّمنتي على إلياس ممكن نسيب إلياس يرتاح، إلياس عايز الراحة ..كأنَّ تكرارهِ لكلمةِ إلياس أعادها لأرضِ الواقعِ لتنهضَ بتثاقُل تومئُ برأسها:
حاضر يامصطفى هسيبُه يرتاح شوية، بحثت بعينيها عن ميرال:
فين ميرال؟..
بحثَ عنها يشيرُ إلى إسلام:
شوفها فين وخلِّي بالَك منها لحدِّ مانشوف مين اللي كان عايز يقتلنا..
التفتت إليه سريعًا:
يقتلكوا، وليه ومين دا ؟!..
تمدَّدَ وأغلقَ عينيه ..سحبها مصطفى:
تعالي ارتاحي حبيبتي..
بعدَ عدَّةِ أيامٍ وهو اليوم المقرَّرُ لخروجه، ساعدتهُ بالجلوسِ بالسيارة، ثمَّ استدارت إليه:
إنتَ كويس، تراجعَ برأسهِ يستندُ على المقعد:
قولي للسواق يودِّيني فيلَّا الشافعي..
فيلَّا الشافعي، فين دي؟..
هوَّ عارف..جلست بجوارهِ وتحرَّكت بهما السيارة إلى وجهتها..
تعاظمَ الوجعُ بداخلها وهي تراهُ يبتعدُ عنها...بسطت كفَّها تحتضنُ كفِّه، فتحَ عينيهِ ينظرُ إليها، دنت برأسها منه:
خوفت عليك أوي، مكنتش أعرف إنِّي بحبَّك أوي كدا..
لاحت ابتسامةً ساخرةً على وجهه، فأردف:
كتَّر خيرِك، ودا اكتشفتيه فجأة؟..
إلياس…وضعَ إصبعهِ على شفتيها لتغمضَ عينيها وتنسابُ عبرةً على وجنتيها..مرَّرَ إبهامهِ يمسحها قائلًا:
مبقاش فيه إلياس ياميرال، أوصل البيت وهكلِّم المحامي وأوثَّق طلاقنا أبدي، علشان ماتفكَّريش ناوي أرجَّعِك…
بترت حديثهِ تقبِّلهُ وتهمس:
مش عايزة أطلَّق، مش هقدر أعيش بعيد عنَّك..
أنا تعبان ومش قادر اتكلِّم، ممكن تبعدي شوية، عايز أتنفس وريحتِك بتخنقني..
أخنقَك!..استدارَ برأسهِ إلى النافذة واستأنف:
فوق ماتتخيَّلي، مبقتشِ طايقِك..
ابتعدت تنظرُ من النافذةِ الأخرى إلى أن وصلوا إلى فيلَّا الشافعي..
عندَ أرسلان:
دلفَ شقتهِ وهو على الاريكة، يدورُ بعينيهِ بأرجاءِ الشقةِ بحثًا عنها، زفرةً حادةً أخرجها من جوفه، ثمَّ ألقى بجسدهِ يضعُ كفَّيهِ تحتَ رأسهِ وذهبَ بذاكرتهِ منذُ عدَّةِ أيام..
فلاش باك:
وصلَ إلى المنزلِ الذي اتخذهُ لنفسهِ بأحدِ الأحياءِ الراقية، ترجَّلَ من سيارتهِ ينظرُ إلى والدته:
انزلي ياستِّ الكل، دلوقتي هعرَّفِك على أجمل بنت في الدنيا..
بنت، معاك بنت فوق يابنِ صفية
قهقهَ عليها واحتضنَ ذراعها متحرِّكًا إلى داخلِ المنزل:
شوفتي ظلمتيني إزاي من قبلِ حتى ماتعرفي حاجة، معرفشِ ياصفية ليه دائمًا ظلماني..
قهقهت عليهِ تلكزُه:
إنتَ يابنِ صفية تتظلِم..فتحَ بابَ المنزل وأشارَ إليها للداخل:
ادخلي ياصافي وسمِّي الله، علشان متحسديش مرات ابنِك.
توقَّفت ترمقهُ بصدمة:
إنتَ اتجوِّزت!!
صاحَ بصوتهِ عليها وجذبَ والدته:
اتجوزِت بس في ظروف غامضة، نمت وقومت لقيت نفسي متجوِّز إزاي اسألي إسحاق، بس أحسن جوازة ياصفصف..
غرام...قالها وهو يُلقي مفاتيحه على الطاولة..ثمَّ دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها بكافَّةِ أرجاءِ الشقة، توقَّفَ يهمسُ لنفسه:
راحت فين دي، معقولة نزلت تشتري حاجة من تحت، إزاي من غير ماتقولِّي!..
نهضت صفية واتَّجهت إليه:
أرسلان مالك فين مراتك؟..هيَّ اسمها غرام أصلك كنت بتنادي بغرام.
رفعَ هاتفهِ وقامَ بالاتصال، استمعَ إلى صوتِ الهاتفِ بالداخل، خطا إليهِ وجدهُ على الكومدينو..
وبعدين بقى في القلق دا..خطا إلى جهازه وقامَ بفتحه، ضربَ بقوةٍ على الطاولة، ثمَّ ركلها بقوَّةٍ حتى تهشَّمت..
هاجَ كالوحشِ الكاسرِ ولم يتمالك نفسهُ وهو يركلُ كل مايقابلهُ ويزأر مما فعلته..
حاولت والدتهِ تهدئته:
ممكن تهدى، وليه الزفتة طمطم دي تجيلها ..حملَ أشيائه:
آسف ياماما بس لازم أخرج..أمسكتهُ من رسغه:
أرسلان ممكن تهدى، تمارا استفزِّتها بالكلام وطبيعي ياحبيبي يكون ردِّ فعلها كدا..
ماما هتيجي أوصَّلِك ولَّا اسيبِك وأمشي ..نظرت إليه بحنوٍّ تربتُ على ظهره:
أعذرها حبيبي، إيه رأيَك نروحلَها..إنتَ مش عارف عنوانها؟..
يالَّه ياماما علشان أوصَّلِك..حاولت معارضتهِ إلَّا أنَّهُ اعترض:
لو سمحتي مش عايز أسمع كلام تاني.
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى منزلِ عمَّته، دلفَ للداخلِ وجدها تتسطَّحُ على الفراشِ لعملِ جلسةِ مسَّاج..
وصلَ إليها بخطوةٍ ورفعها من خصلاتِها أمامَ والدتها:
مش مرات أرسلان الجارحي اللي تنطرِد من بيتها ياتمارا، سكتلِك كتير، بس لحدِّ مراتي وهعمل وشِّك دا بلياتشو، رفعها وهي تلفُّ أحدَ الشراشفَ على جسدها مع صرخاتِ والدتها به، جذبها يجرُّها إلى غرفةِ نومها، ثمَّ دفعها بقوَّةٍ على الأرضية:
دقيقة واحدة وتكوني لابسة ..اقتربَ منها وعينيهِ ترمقها بنظراتٍ نارية:
يالَّه...صرخَ بها حتى انتفضت من مكانها تهزُّ رأسها خوفًا من حالتِه:
نزلَ للأسفلِ واقتربَ من عمَّتِه:
بنتِك دخلت بيتي بغيابي وأهانِت مراتي، أنا مش هعاقبها المرَّة دي إكرامًا لصلةِ الدم، بس أيِّ غلط تاني هنسفها من على وشِّ الأرض..
تغيرَّت ملامحها تهمسُ بتقطُّع:
إنتَ اتجوزت، إمتى؟..تحرَّكَ للخارج:
مُنتظرها بالعربية وعلى الله تتأخَّر..
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى منزلِ غرام، أشارَ إلي المنزل:
انزلي اعتذريلها وتعالي أنا مستنيكي..
ترجَّلت بجسدٍ مرتجفٍ دونَ حديث، بينما ظلَّ هو على حاله..
فتحَ زياد البابَ يطالُعها باستفهام:
مين إنت؟..خرجت غرام ظنًّا أنَّهُ زوجها، وجدتها تقفُ على بابِ المنزل، اقتربت منها تطالُعها بأعينٍ استفهامية ثمَّ أردفت:
فيه حاجة نسيتي تقوليها ولَّا إيه؟..
أنا آسفة، بس قولتلِك كدا من غيظي من أرسلان، لأنُّه واعدني بالزواج وخلي بيَّا، اضيِّقت وخاصةً إنِّك مش بمستواه، حبيت أعمل معروف معاكي وأنبِّهك..ممكن الطريقة تكون غلط، بس مكنشِ قصدي أهينِك، ودلوقتي فيكي ترجعي بيتك..
قالتها واستدارت مغادرة، تحرَّكت غرام خلفها وجدتهُ جالسًا بالسيارة، رمقها بنظرةٍ ثمَّ نظرَ إلى السائقِ بعدما ركبت تمارا:
ارجع على بيت عمِّتي...تحرَّكت السيارة وغادرت المكانَ بالكاملِ ومازالت متوقِّفة بمكانها مصدومة، تنظرُ إلى مغادرةِ السيارةِ تحدِّثُ نفسها:
كان معاها ومنزِلش، حتى مقلِّيش كلمة، وسابني ومشي، معقول مبقاش عايزني..
عرفتي إنِّك غلطِّي، قولتلِك مكنشِ المفروض تُخرجي من بيتُه قبلِ ما يرجَع، البنتِ دي شكلها رامية نفسها عليه..
استدارت إلى أخيها تطالعهُ بشرود:
بس يجي لحدِّ هنا ويمشي من غير ولا كلمة..
بشقةِ آدم:
دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها بعدَ غيابها عن محاضرتهِ اليوم، وجدها تغفو فوقَ الأريكةِ ووجهها يغزوه العرق، اقتربَ منها بلهفة:
إيلين مالِك..فتحت عينيها بوهنٍ تهمسُ بتقطُّع:
آدم بطني ...انحنى وحملها إلى الداخل، وضعها بهدوءٍ على الفراش:
إيلين حبيبتي مالِك، أكلتي حاجة وحشة..
أغمضت عينيها ولم تقو على التفوُّه، ماذا ستخبره ..ازدادَ الألمُ مع ازديادِ عرقها تهمس:
عايزة أرَّجع، قالتها وهي تعتدلُ على الفراش، قامَ بإسنادها بعد رفضها بحملها، هوت بعدما فقدت التوازن، ليحملِها ويضمُّها لصدرهِ كالطفلِ الرضيع:
اهدي حبيبتي، هساعدِك، لم تتحمَّل آلامَ معدتها وقامت بالتقيؤ رغمًا عنها،
أمسكها باحتوائِها من خصرها، وقامَ بغسلِ وجهها..
واخدة برد شديد في معدتِك، ينفع كدا، قولتلِك مليون مرة بلاش درجة التكييف العالية دي.
وضعت رأسها على صدرهِ بوهن:
بردانة ياآدم ..اتَّجهَ بها إلى غرفتهما وقامَ بتغطيتها..
ارتاحي هعملِّك حاجة سُخنة..
أغمضت عينيها وهي تحتضنُ بطنها:
عايزة مسكِّن مش قادرة أتحمِّل الألم
مسَّدَ على خصلاتِها:
هشوفلِك حاجة لألمِ المعدة، شوية وراجعلِك..ضغطت على كفِّه:
ابعتلي مريم، عايزاها..انحنى لمستواها متسائلًا:
عايزة إيه وأنا أعملُه..ابتعدت بنظرِها قائلة:
عايزة مريم ...بعدَ فترةٍ ساعدتها على الجلوس:
اشربي دا سُخن وهيريَّحك، وجبتلِك مسكِّن، خُديه ونامي، ومليون مرَّة أقولِّك حالتِك النفسية بتأثَّر في كلِّ حاجة، وطبيعي عصبيِّتك الزايدة تأثَّر على البريود، وألم المعدة ساعات بيكون من العصبية، متنسيش حضرتِك بتشتكي من القولون العصبي..
استمعَ إلى حديثهما بدلوفهِ إليهما:
أحلى ساندوتش لأحلى دكتورة، توقَّفت مريم مبتسمة:
هنزِل أنا علشان زمان أدهم معذِّب ماما تحت ..لو احتاجتي حاجة كلِّميني حبيبتي..
جلسَ بجوارِها وهي تحتسي مشروبَ الأعشاب..
لسة تعبانة؟..
ارتدت قناعَ البرودِ قائلة:
كويسة شكرًا..أمالَ بجسدهِ متكئًا على الوسادةِ حتى أصبحَ قريبًا منها ينظرُ بداخلِ مقلتيها:
إيه اللي بيوجعِك..تورَّدت وجنتاها، لترتجفَ عيناها:
مفيش إنتَ قولت شوية برد في المعدة..اقتربَ بيديهِ يضعها على بطنها، لتشعرَ بقشعريرةٍ تسري بعمودها الفقري من لمستهِ الحانيةِ ونظرَ لعينيها:
هي المعدة نزلت هنا..
علمت أنَّهُ فهمَ ما يُصيبها، دفعت يدهِ بعيدًا عنها:
أنا مأذنتِش إنَّك تلمسني، وياريت تخلِّي فيه حدود بينا لو سمحت..
أخذَ نفسًا عميقًا وزفرهُ على مراحل ثمَّ نهضَ قائلًا:
على العموم عايز أفهِّمك المضاد الحيوي بيضُر في الحالات دي، ياريت تقلِّلي منُّه أو تمنعيه خالص..ومفيش داعي للكسوف أنا جوزك..
وأنا مش مُعترفة بيك ...قالتها سريعًا تشيرُ إلى بابِ الغرفة:
اطلع برَّة عايزة أرتاح، ومش معنى إنَّك ساعدتني يبقى سامحتَك، عمري ماهسامحك ياآدم مهما حصل، وعلاقتي بيك ما إلَّا مصلحة وبس..
خيَّمَ الحزنُ على وجهه، فانحنى يحاوطُ جلوسها بذراعيه:
إيلين مش طالب منِّك غير فُرصة واحدة.
معنديش فرص يادكتور..واتفضَّل أنا تعبانة وعايزة أرتاح.
باليومِ التالي:
نهضَ من فوقِ فراشهِ على صوتِ المكنسةِ الكهربائية، اعتدلَ يسبُّها بسرِّه ..ثمَّ جذبَ كنزتهِ وارتداها متَّجهًا للخارج ..وجدها تدندنُ مع الأغنية:
طب ليه بيداري كدا ولا يداري..
ركلَ المقعدَ بقدمه:
بتعملي إيه يابت؟..
نفثت بصدرها قائلة:
بسم الله الرحمن الرحيم ، بيطلعوا إمتى، خضِّتني..
اقتربَ منها يرمُقها بنظراتٍ كالطلقاتِ الناريةِ ثمَّ جذبَ منها المكنسة يركلُها بقدمهِ بقوَّة:
فيه ست محترمة تكنس الساعة تلاتة الفجر ..
أه لمَّا تبقى في كلية طب وعندها دكتور مفتري طالب منها أبحاث عشرين طالب، مُنتظر منِّي إيه بعدِ سبع ساعات متواصلة وأنا ببحث في أبحاثِ المفتري، إلهي ياربِّ ماينام شهرين..
جزَّ على أسنانهِ يشيرُ بسبباته:
متخرَّجيش عفاريتي عليكي..
إيه دا هوَّ إنتَ جوَّاك عفاريت، مش عيب تبقى دكتور طويل عريض ويبقى عندَك عفريت ..كدا الطلبة يخافوا منَّك يادكتور ..نظرت إلى المكنسةِ الكهربائيةِ وأشارت مستخفِّة:
كدا بوَّظتِ جهازي اللي أبويا مدفعشِ فيه غير إنِّي أتجوِّز واحد مغرور زيك.
بت بقولِّك ..تحرَّكت قائلة؛
مفيش بت هنا، مفيش غير دكتورة زي القمر قدَّامَك ودكتور زي الحيطة، معتقدتشِ اللي بتنادي عليها موجودة ..قالتها وتحرَّكت لداخلِ الغرفة وهي تدندنُ أغنيتها..
استمعت إلى التحطيمِ بالخارج،
فهوت بجسدِها على الفراشِ مبتسمة:
ولسة يادكتور الجثث، لو مخلتَكشِ تعمل مغادرة من مصر مايبقاش أنا الدكتورة إيلين..
عندَ أرسلان:
دلفَ إلى مكتبِ إسحاق وجدهُ منكبًّا على جهازه:
بتعمل إيه ياإسحاقو، وخير مبقتشِ أرتحلَك..أشارَ لهُ بالجلوس، ثمَّ أدارَ الجهاز:
احفظ الاشكال دي كويس..قطبَ جبينه:
اتحفظوا.. ليه؟..فتحَ أحدَ أدراجه، أعطاهُ فلاشة قائلًا:
المطلوب عندَك، مش عايز غلطة..
تمام..المهمة فين ياترى؟..
أسوان..
أووووه أسوان، ليه يامعلِّم..
لمَّا تشوف الفيديو هتعرف.
حكَّ ذقنهِ ينظرُ إليهِ بتفكير:
لو تهريب مش شُغلنا، ولو سرقة يبقى مش شُغلنا برضو..
ولا…مبحبِّش الرغي، الجواز علِّمك الرغي طلَّق وخلاص مش ناقص صُداع..
جواز مين ياسيدي قلبك أبيض هيَّ الأخبار ماوصلِتش من طمطم ولَّا إيه..
أخبار إيه يانابغة عصرَك؟..
ضيَّقَ عينيهِ مستفهمًا عمَّا يرميهِ من معنى، ثمَّ هتفَ متسائلًا:
تُقصد إيه يالا..قصَّ لهُ ماصار..
طرقَ بقوِّةٍ على المكتبِ يرفعُ كفَّيهِ يلطُمهما ببعض:
يخربيت عقلها، يبقى سمعتني وأنا بتكلِّم مع باباك، وأخدتُه من ميدالية مفاتيحي، أنا فكَّرتك إنتَ اللي أخدتُه، وقولت يمكن اتكسفتِ منِّي ومردتشِ تقولِّي.
إيه اللي عرَّفها بحوارِ غرام ياعمُّو؟..
هزَّ كتفهِ بعدمِ معرفة قائلًا:
هيَّ سمعتني بقول لباباك عن عنوانِ الشقة، وإنَّك اتجوِّزت ومُفتاحك معايا علشان سفرياتك وخُوفك على مراتك، بس مش مُتأكد إنَّها سمعت ولَّا لأ، علشان بعدها بكام يوم جاتلي..
فلاش باك:
دلفت تدفعُ البابَ وعينيها كاللهبِ المشتعل:
فين أرسلان؟..
نقرَ على سطحِ مكتبهِ يُطالِعها لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ نصبَ عودهِ وتوقَّفَ متَّجهًا إليها:
بيقضِّي شهرِ العسل..
برقت عيناها وكأنَّهُ ألقى عليها دلوًا من الماءِ المثلَّج، ليرتجفَ جسدها، حاولت السيطرةَ على حُزنها ،اقتربت منه:
إنتَ مضَّايق منِّي وعايز تضايقني مش كدا ياخالو…
ابتسمَ بتهكُّم ثمَّ تراجعَ على مقعده:
وأنا هضَّايق منِّك ليه يابت، شيفاني عيل علشان ألعب معاكي..
لو مش مصدَّقة كلِّميه.
انسدلت عبراتها رغمًا عنها تهزُّ رأسها بعنف:
مابيرُدش..
أشعلَ سيجارتهِ وبدأ ينفثُها كأنَّهُ يحرقُ وقوفها، اقتربت منه تستعطفهُ ببكائها:
خالو علشان خاطري قولِّي مخبِّي أرسلان منِّي فين؟..
ارتفعت ضحكاتهِ يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
إنتِ عبيطة يابنتي!.. إنتِ مين علشان أخبيه ولَّا مفكَّراه علبة جبنة رومي هخبيها منِّك، روحي حبيبتي ربِّنا يهديكي..الموضوع مش ناقص غباوة.
استندت على مكتبهِ بعدما فقدت أعصابها، وهدرت بغضب:
طب اسمعني كدا ياحضرةِ العقيد ووصلُّه كلامي، انا مش هرحمه لو لقيتُه بيلعب بديلُه..
أخرجَ صوتًا من بينِ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ وضحكاتهِ التي صمَّت أذنيها:
طب ماكان من الأوِّل ياتحية كاريوكا، ليه شُغل أمينة رزق دا ..
على العموم حبيبِك مع حبيبتُه في شهرِ عسل اشربي من البحرِ بقى..
ضربت أقدامها بالأرضِ وتحرَّكت للخارجِ تسبُّهُ بصوتٍ مرتفع..
ظلَّت نظراتهِ عليها إلى أن أغلقت البابَ خلفها..زفرةً حارقةً يمسحُ على وجههِ بغضب متمتمًا:
تافهة، معرفشِ الحلوف عايز منِّك إيه، رفعَ هاتفهِ ماهي الَّا لحظاتٍ وأجابه:
إنتَ فين يامتخلِّف بقالي يومين مش عارف أكلِّمك؟..
نهضَ معتدلًا من الفراش:
خير فيه حاجة، بابا كويس، خرجت من المستشفى وسافرت علشان أعرف هدخل إزاي..
مسحَ على وجههِ بغضبٍ وأردف:
طمطم كانت هنا وقرِّيت عليك.
عادي هوَّ إنتَ أوِّل مرَّة تعملها، ياترى من أوَّل قلم ولَّا من أوَّل دمعة ..قهقهَ إسحاق قائلًا:
مالي مركزك دايمًا ياصقورة.
عندك شك ..هزَّ رأسه:
أبدًا طول عمرَك أسد..طيِّب غرام معاك ولَّا لوحدَك؟..
اتَّجهَ بنظرهِ للفراشِ وجدها تغفو كالملاك، ابتسمَ قائلًا:
معايا، وهنرجع القاهرة الصُبح علشان بابا هيخرج من المستشفى.
طيِّب حبيبي خُد بالك من نفسك، وتيجي طيران بلاش سواقة علشان عارفك هطير بالعربية..
خايف عليَّا إسحاقو..
لا، ياحليتها خايف على عجلِ العربية مش هعرف أجيب بديله..
تصدَّق صح، والعجلِ غالي، بعد ارتفاعِ الدولار، هنفكَّر إسحاقو نغيَّر العجل بإيه..
تصدَّق حلال عليك طمطم يالا، واللهِ البتِّ دي تستاهِل حلوف زيك.
تشكرات إسحاقو، ولا يهمَّك حبِّي..
خرجَ من شرودهِ وقصَّ عليهِ ماصار..
نقرَ على المكتبِ عدَّةِ مرَّاتٍ ثمَّ توقَّف:
خلاص عرفت هعمل إيه، سلام..
ناوي على إيه؟..
على كلِّ خير، أجُرَّها لبيتِ الطاعة علشان تتعلِّم الأدب.
أُقف يالا إنتَ مجنون، عايز ترجَّع مراتك بالطريقة دي!..
لوَّحَ بكفِّهِ وتحرَّك.
باليومِ التالي بمنزلِ والدِ غرام، كانت تجلسُ أمامَ التلفاز، تقلِّبُ بهاتِفها، تنظرُ إليهِ وتتمنَّى أن يقومَ بمهاتفتها، تنهيدةٍ بأعماقها الحزينة:
كدا ياأرسلان، هُونت عليك أسبوع كامل، حتى مفيش تليفون، طيِّب يابنِ الحسب والنسب ...استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ منزلها، جذبت وشاحها، وتحرَّكَت للخارج:
نعم عايز مين؟..
نظرَ الرجلُ للورقةِ التي بيده:
غرام محمود الزهيري
أيوة ..بسطَ كفِّهِ بالورقة:
جوزِك طالبِك في بيتِ الطاعة يامدام، ولازم تتحرَّكي معانا.
إيه بيت طاعة!..خلاص يابني روح إنتَ وأنا هتصرَّف..
استدارَ الرجلُ متسائلًا:
حضرتَك مين...أخرجَ الكارت الخاصَّ به، فاستأذنَ الرجلُ معتذرًا بعدما أردفَ إسحاق:
البنت بنتي، وأنا هوصَّلها لجوزها..
توقَّفت تُطالعهُ بأعينٍ دامعة:
أرسلان عايز ياخُدني بالطريقة دي!..
زمَّ شفتيهِ ثمَّ رفعَ كفِّهِ يمسحُ على رأسه:
مشاكلِك مع جوزِك تبقى مع جوزك وبس يابنتي، نصيحة اتعاملي على إنِّك مرات أرسلان الجارحي..
أشارَ بسبَّباتهِ وتحدَّثَ بنبرةٍ حازمة:
غلطٍّي يابنتِ الناس، وغلطِك مع شخصية زي أرسلان مش مُرحَّب بيه، يالَّه علشان أرجَّعك بيت جُوزك..
عقدت ذراعيها وهتفت بحدَّة:
وأنا مش عايزة أرسلان ابنِ الحسب والنسب، خلاص فضِّيناها، وكلِّ الحكاية أنُّه اتجوِّزني علشان مهمِّتُه والمهمَّة خلصت..اقتربَ خطوةً وعينيهِ تُحاورها ثمَّ أردفَ بهسيس:
خمس دقايق بس وألاقيكي في العربية، أنا اتصلت بوالدِك وأخدتِ إذنه، وكمان هوَّ في الشُغل مالكيش حجَّة، أنا جيتلِك يبقى خلاص كلِّ حاجة ترجع لأصلها، ولولا شايف تعلُّق الولد بيكي الله في سماه ماكنت قرَّبتِ منِّك..قالها واستدارَ متحرِّكًا للخارج..
عندَ إلياس:
ترجَّلَ من السيارةِ حاولت أن تساعدُه، ولكنَّهُ أوقفها بحركةٍ من يديه:
شكرًا مش عايز مساعدة، تحرَّكت بجوارهِ بقلبٍ مهشَّم، عيناها عليهِ خوفًا أن يترنَّح..توقَّفَ يتنفَّسُ بهدوء، اقتربت منهُ وهمهمت بنبرةٍ عتابية:
معرفشِ ليه مش عايزني أساعدك..
مش عايز آثاري تكتر عليكي ومتعرفيش تزيليها كويس...قالها وتحرَّكَ يضعُ كفِّهِ موضعَ آلامه ...دلفَ للداخلِ وجدَ مصطفى بانتظاره:
اتأخرت ليه يابني..خطا بوهنٍ يهمسُ بصوتٍ خافت:
كان عندي مشوار..تلفَّتَ يبحثُ عنها، ثمَّ جلسَ وتجلَّت على ملامحهِ الألم:
إسلام مرجِعش..تساءلَ بها وهو مُطبقُ الجفنين...جلسَ بجوارهِ ولفَّ ذراعهِ حول كتفهِ يجذبهُ لأحضانه:
ربِّنا مايحرمني منَّك ياحبيبي..فتحَ عينيهِ ينظرُ لوالدهِ بصمت، ثمَّ أردف:
كنت دائمًا أسمعك بتقول كدا لماما وأهي ماتت وعيشت حياتك ونسيتها..
ابتسمَ مصطفى وطبعَ قبلةً على رأسه:
غيران على أمَّك ياإلياس..
استفهمَ باستهجان:
مش من حقَّها ولَّا إيه ياحضرةِ اللوا، سمعت في مرَّة أنُّكم واخدين بعض على حب..والحبِّ اندفن معاها واتولد مع حدِّ تاني يمكن مايتساهِلش..
لوَّحت أعينُ مصطفى بالغضب، قائلًا:
هتفضل لحدِّ إمتى يابني واخد الموقف العدائي دا، رفعَ نظرهِ إلى ميرال التي دلفت للتوِّ بعد وقوفها بالخارجِ تتحدَّثُ بالهاتف..وصلت إليهم ثمَّ جلست بجواره:
أخلِّيهم يعملولك حاجة تاكُلها ..تشابكت عيناه بعينيها إلى أن لاحظَ مصطفى ذلكَ فهتفَ قائلًا:
كنت رايح تطلَّق مراتك، دي الأمانة اللي أمِّنتك عليها!!
أنا، أبدًا حتى اسألها، هي اللي حبِّت تغيَّر الصنف..
رمقهُ مصطفى بنظرةٍ استفهامية:
يعني إيه ؟!..
يعني أنا مش عايز أطلَّق، دا أنا بحبَّها أكتر من حبِّي للمحشي، بس هيَّ اللي مُصرَّة، بدليل رفعت قضية طلاق وحضرتَك لو مش مصدَّقني اتِّصل بالمحامي، معرفشِ ليه دايمًا واخدين الفكرة الوحشة عنِّي، ماتسألوا رشيدة هانم ..برَّقت عينيها:
أنا رشيدة..نهضَ من مكانهِ يضعُ كفِّهِ على جرحهِ حتى وصلَ إليها:
أحلى رشيدة في الدنيا ياحبِّي، انحنى وطبعَ قبلةً بجانبِ ثغرها..
وحشتيني...قالها غامزًا ثمَّ صعدَ للأعلى..شحبَ وجهها تهزُّ رأسها:
حبِّي وبيحبِّني، ووحشتيني، الراجل دا عندُه انفصام واللهِ العظيم ابنَك ناويلي على مصيبة...قهقهَ مصطفى يشيرُ إليها بالاقتراب..ألقت نفسها بأحضانهِ ولم تشعر سوى ببكائها:
أنا بحبُّه أوي ياعمُّو، عارفة إنِّي غلطت بس واللهِ غصبِ عنِّي..اللي سمعتُه منُّه كتير...أخرجها من أحضانه، محتضنًا وجهها:
ميرو حبيبتي، عارف إنِّك بتحبيه
لازم تستحمليه شوية ومش عايز نغمةِ الطلاق دي تاني..
ابتلعت جمراتها التي تكوي قلبها قبلَ جوفها متمتمة:
ليه إلياس بيكره ماما كدا، وهيفضل لحدِّ إمتى يكرهها ياعمِّو، أنا أمِّي متستهلشِ المعاملة دي..
أزالَ عبراتها وأردفَ بنبرةٍ حنون:
متخافيش بكرة يحبَّها قومي اطلعي ورا جوزك متسِبهوش لوحدُه..
فركت كفَّيها وشردت بنظراتِها بكافَّةِ الأرجاء:
تفتكِر هيسامح ويتقبَّلني تاني..
ربتَ على كتفها وباغتها بابتسامة:
إنتِ وشطارتِك ياميرو، هتستني من الراجل العجوز يقولِّك إيه..
أومأت له، ثمَّ نهضت مردفة:
عندَك حق ابنك دا عايز مراوغة وأنا بحبِّ المرواغة..
بالأعلى انتهى من تبديلِ ملابسهِ بعدَ معاناة، ثمَّ اتَّجهَ إلى فراشه، توقَّفَ ينظرُ إلى الفراشِ للحظاتٍ فمنذُ آخرَ حديثٍ بينهما وطلبها الطلاقَ لم ينم عليه، ذهبَ ببصرهِ إلى الأريكةِ وخطا الى أن وصلَ إليها مع دولفها، تطلَّعت عليهِ ثمَّ نظرت إلى الفراش، خطت الى أن وصلت إليه:
هتنام هنا ولَّا إيه؟!.،
تمدَّدَ دونَ أن يعيرها أيَّ اهتمام..جلست بجواره:
ممكن نتكلِّم..
قومي من جنبي عايز أرتاح..
نزلت بساقيها واستندت بركبتيها مقتربةً منه:
بس أنا عايزة أتكلِّم معاك.. أغمضَ عينيهِ وأردف:
سامعِك... رفعت كفَّها تمسِّدُ على خصلاته:
ليه قولت لماما عليَّا كدا وإنتَ بتحبِّني، هوَّ فيه حد بيحبِّ حد يتكلِّم عليه بالطريقةِ البشعة دي..
صمتَ لثواني وعجزَ عن الرد.. اقتربت من وجههِ تهمسُ بجوارِ أذنه:
أنا عرفت كلِّ حاجة.. قرأت مذكَّراتك..
فتحَ عينيهِ سريعًا، وهاجت ضرباتُ قلبه حتى شعرَ بآلامِ صدره، قُبلةً سريعةً اقتطفتها مبتسمةً بعدما وجدت ردَّةِ فعله..
ابتعدَ برأسهِ عنها مع ارتفاعِ أنفاسهِ قائلًا بنبرةٍ جافة:
متقرَّبيش منِّي تاني، ويالَّه اطلعي برَّة روحي أوضتك، إزاي أصلًا جيتي..إيه نسيتي إنِّنا انفصلنا..
حاولت إخفاءَ حزنها من كلماته، وأخذت نفسًا عميقًا، ثمَّ أدارت وجههِ إليها:
تعرَف لو كان حصلَّك حاجة أنا كنت ممكن أموت.
ابتسمَ ساخرًا، وزمَّ شفتيهِ قائلًا:
ليه الرجالة خلصت..
تفتكِر أنا ممكن أشوف راجل تاني غيرَك.. قالتها بخفوت..
رغمَ القبضةَ التي اعتصرت فؤادهِ إلَّا أنَّهُ رمقها بنظرةٍ قاسية، ودفعها بعيدًا عنه..
كفاية بقى عايزة منِّي إيه، قومي اطلعي برَّة.. قالها بنبرةٍ مخيفة، حتى تحجَّرت ملامحها الجميلةِ حزنًا وألمًا وانسابت عبراتها، لتنهضَ من مكانها وتهرولُ للخارج..
زفرةً حارقةً أخرجها يريدُ أن يحرقَ بها نفسهِ بعد ماتذكَّرَ دفتره.. نهض بهدوء واعتدلَ يبحثُ عنه، دلفَ إلى مكتبه... لمسَ أشياءها الموضوعةِ يبدو أنَّها تناستها..جذبَ ربطةَ خصلاتِها وقرَّبها إلى أنفهِ يستنشقُ رائحتها بولهٍ مغمضَ العينين، تمنَّى لو يضمُّها لأحضانهِ لتعودَ روحهِ الضائعة، ولكنَّهُ فتحَ عينيهِ متذكِّرًا كلماتها التي ذبحتهُ دونَ رحمة..
هتجوِّز أيِّ راجل يمسَح آثارك المقرِفة،إنتَ مش راجل..كلماتٍ خلفَ كلماتٍ ليلقي مابيدهِ بالارضِ ثمَّ أزاحَ بيديهِ كلَّ مايُوضعُ على مكتبه..ارتفعت وتيرةُ أنفاسهِ كمتسابق، حتى فقدَ اتِّزانهِ وهوى على مقعدِ مكتبه، محاولًا أخذَ عدَّةِ أنفاسٍ بعدما شعرَ بانسحابها ..تراجعَ بجسدهِ وذكرياتهِ المؤلمةِ معها شقَّت صدره، حتى نزلت دمعةً رُغمًا عنهُ ليجزَّ على يديهِ معنِّفًا إيَّاه:
مشيت ورا قلبَك، حسَّرتك على نفسك، تستاهِل كنت مُنتظر إيه، رُد على نفسك وقول كنت مُنتظِر منها إيه، واحدة طعنِتَك برجولتَك، افرح بالحب..
أطبقَ على جفنيهِ ينهرُ قلبهِ الذي ضاعَ بغيباتِ الجبِّ بعدما شعرَ بالاشتياقِ إليها، كوَّرَ قبضتهِ يضربُ بها فوقَ مكتبه..
فوق يابنِ السيوفي، حتة بنت كسرِتَك، رُد كرامتَك الِّلي داست عليها ، ذهبَ ببصرهِ لذاكَ الدفترَ الذي يدَّوِنُ بهُ قِصة حبِّه..جذبهُ ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى سلَّةِ القُمامةِ وقامَ بإشعالِ قدَّاحتهِ لتلتهمَ النيرانُ كلَّ ماخطَّهُ قلبهِ قبلَ أنامله.. ألقاهُ بالسلةِ وظلَّ ينظرُ لتلكَ النيرانِ التي التهمت كلَّ ذكرياته..
ظلَّ لدقائقَ ينظرُ إليها ثمَّ خرجَ إلى غرفتِه..
عندَ يزن وخاصةً بغرفتِه:
جالسًا على مكتبهِ وأمامهِ بعضَ أوراقٍ للتصميمِ يرسمُ عليها بعضَ الرسومات، ورغمَ أنَّهُ مهندسًا إلَّا أنَّ رسوماتهِ اليومَ لا توحي لعمله، نظرَ إلى الأوراقِ بعُمقٍ ثمَّ حرَّكَ قلمهِ على كلِّ رسمةٍ على حدا..
هناكَ ورقةٌ يرسمُ بمنتصفها راجح وحولهِ طارق ابنهِ ورحيل وزين وآدم..
وهناكَ رسمٌ آخر يُدَّونُ عليهِ
فريدة وعلامةِ استفهامٍ كبيرة..ظلَّ ينظرُ لرسماتهِ مرَّة، لصورهِم مرَّة ..واحتضنَ وجنتيهِ بكفَّيهِ يتساءلُ بهمس:
ياترى إنتِ فين يامرات عمِّي، وليه مظهرتيش في الصورة، معقولة تكون اتجوِّزت تاني ..ظلَّ ينقرُ على مكتبه ..ثمَّ زفرَ بغضب، وقامَ بجمعِ الورق، وتراجعَ بجسدهِ رافعًا ساقيهِ على المكتبِ ينظرُ لصورهِم جميعًا، يشيرُ بيدِه:
راجح الشافعي، ظابط متقاعد..
رانيا ...اتجوِّزت راجل متجوِّز ومخلِّف علشان تعانِد في أخوه اللي حب بنتِ عمَّها، اللي انتقمِت منَّها وخطفِت ولادَها وعذِّبتها..شكلِك راس الأفعى الكبيرة يامرات أبويا...قالها بتهكُّم..
اتَّجهَ إلى دفترِ والدتِه، وظلَّ يقلِّبُ بهِ إلى أن وصلَ إلى كلماتِها عن فريدة:
دي بقى مرات عمَّك المرحوم جمال، دي هيَّ الوحيدة اللي وقفِت معايا بعد ماجدَّك مات، عايزة أقولَّك ياحبيبي دي اللي نجدتني من أبوك، وصلَ بيها الحال إنَّها تبيع حلقْها علشان تدِّيني فلوسُه وتهرَّبني من جحيمِ راجح الشافعي بعد ماجُوزها مات، خافت عليَّا وعليك بعد ماعرفت نيِّة مرات أبوك، آخر مرَّة شوفتها لمَّا رُحت معاها نبلَّغ عن الولد اللي اتخطف، حبيبتي اتخطف ولادها الاتنين ومعرفتشِ توصلُّهم ...هرَّبتني بعد ماعرفِت إنِّ راجح هياخدَك منِّي، ماهي رانيا بعد تسقيطها كام مرَّة الدكاترة قالوا عندها مشكلة ربَّنا بيخلَّص حقوق بحقوق..
عرفِت كمان من فريدة بعد ماهربت إنَّها أخدت ابنِ راجح من زهرة اللي عذَّبها..
سامحني يايزن علشان خبيت عليك كنت خايفة عليك، أوعى تاخُد أخواتَك بذنبي حبيبي، أبوك ابراهيم راجل ولا كلِّ الرجالة، كوَّرَ قبضتهِ حتى انكمشت الأوراقَ بيده، ونفرت عروقهِ ناهيكَ عن عينيهِ التي لمعت بخطٍّ من الطبقةِ الكرستالية..
راجح ...راجح، ياويلَك منِّي، وحياة دموع أمِّي وعذاب مرات عمِّي لأدفَّعك غالي، اصبِر عليَّا لو مخلتَكشِ تندم مابقاش يزن إبراهيم السوهاجي..
بفيلَّا السيوفي:
رفرفت بأهدابِها إلى أن فتحت عينيها، اعتدلت على الفراشِ تنظرُ بالساعة، ثمَّ هبَّت من مكانِها تهمسُ بتقطُّع:
يوسف زمانُه رجع من المستشفى..خطت بجسدٍ واهن، قابلها مصطفى على الباب:
رايحة فين يافريدة مش الدكتور قال الراحة..
ابني يامصطفى عايزة اطَّمِن عليه..حاوطَ جسدها يجذُبها إلى الغرفةِ وتمتم:
إلياس نام وصل من فترة، وبعتلُه ميرال، يعني زمانهم ناموا ..تعالي ارتاحي..سحبت نفسها مبتعدةً عنه:
لا، لازم اطَّمِن عليه، هبُص عليه من بعيد، مش هدخُل جوا، أمسكَ كفَّها:
حبيبتي بقولِّك ميرال عندُه ..استمعَ إلى صوتِ ميرال:
ماما كنت جاية اطَّمِن عليكي..خطت إليها مبتسمةً وكأنَّها طوقَ النجاةِ لكي تصلَ لابنها..
حبيبتي جوزِك عامل إيه نايم؟..
أومأت تبتعدُ عن مرمى بصرها تهمس:
أيوة كويس...ارتاحي لو سمحتي..
تركت يديها وساقتها قدميها مع لهفةِ قلبِها إليه:
أرتاح ..أرتاح ازاي وهو مش مرتاح، قالتها بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء..دلفت بهدوءٍ تُغلقُ البابَ خلفها، بينما بالخارجِ توقَّفَ مصطفى يطالعُ ميرال:
ليه مش مع جوزِك، ينفع تسيبيه في الظروف دي..
إلياس مُصر على الطلاق ياعمُّو...قالتها وتحرَّكت إلى غرفتها.
تضجَّرت ملامحهِ بالغضبِ يُردف:
وبعدهالَك يابنِ فريدة، طالع عِنَدي لمين..استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
أيوة عملت إيه؟…
مسكنا الولد ياباشا، واتحجَز، بس فيه حاجة لحظناها معاه..
هتنقَّطني بالكلام ماتتكلِّم بسرعة..
صورة مدام ميرال وعليها إكس بالقلمِ الأحمر.
أنا جاي أوعى حد يحقَّق معاه لَّما أوصَل..
بالداخلِ بغرفةِ إلياس ..وصلت إلى الأريكةِ التي يغفو عليها، جلست على الأرضِ بجوارِه، رفعت كفَّها على خصلاتهِ وانسابت عبراتها تهمسُ بخفوت:
ألفِ سلامة عليك يانور عيني، ياريتني مكانَك يابني، ياريت آخُد كلِّ آلامك..انحنت وطبعت قُبلةً مطوَّلةً فوقَ جبينه، لمعت عيناها بابتسامةٍ لأوَّلِ مرَّةٍ تراهُ وهو نائمًا بعدما بلغَ مرحلةَ الشباب.
ياااااه .أخرجتها من حرقةِ قلبها تمِّسدُ على خصلاتِه..
سنين ياإلياس مشفتكشِ كدا، تعرف كأنّ سنين الوجع دي ماعَدتشِ عليَّا بعد ماربِّنا ربط على قلبي وخلَّاني أربِّيك وأنا معرفشِ إنَّك ابني أوِّل فرحة لقلبي..
انحنت تضعُ رأسها بالقربِ منهُ تستنشقُ رائحتهِ وآاااه وكم من آهاتٍ وحسراتٍ أخرجتها متحسِّرة على سنينٍ كان بها قريبًا من العينِ بعيدًا عن القلب..شهقةٌ خرجت رُغمًا عنها، ممَّا جعلها تضعُ كفَّها على فمِها حتى لا يفيقَ ولكن كيفَ لهُ أن يظلَّ مُستغرقًا بعدَ شعورهِ بدموعِها على وجهه، ورُغمَ مفعولُ أدويتهِ القوي إلَّا أنَّهُ استيقظ ..فتحَ عينيهِ ينظرُ لقُربها منه،
حاولَ الاعتدالَ بعدما وجدَ بكاءها ..أطبقت على ذراعيه:
خلِّيك مرتاح ياحبيبي..نهضَ مُتحاملًا على نفسهِ وتساءل:
بتعيَطي ليه ميرال فيها حاجة..ابتسمت بعيونٍ دامعة، تهزُّ رأسها عاجزةً عن الرَّد..كيفَ تشكو لهُ ظلامَ قلبها بمنعُها بالتفوُّهِ عمَّا يُؤلمُ روحها..شهقةٌ ماهي إلَّا شهقةٌ خرجت من جوفِها حتى انتفضَ رعبًا من حالتِها التي تمادت كمَّا ظن، أنزلَ ساقيهِ وبسطَ كفِّهِ وهو يحاوطُ بطنهِ بكفِّهِ الآخر..
قومي من على الأرض، قاعدة كدا ليه؟..
نهضت بسعادةِ طفلةٍ بعدما رأت حنانَ عينيهِ ولهفتهِ بالخوفِ عليها.
جلست بجوارهِ وعينيها ترسمهُ بحنانِ أمومي، لم تشعر بنفسها وهي تضعُ كفَّها على وجههِ تتأمَّلُ ملامحهِ بكلِّ تفاصيلها وكأنَّها ترسمُه..
باغتها بنظرةٍ مطوَّلةٍ ثمَّ أبعدَ رأسِه:
مش عايز أزعلِّك صدَّقيني، بس شايف أفورة مش مريَّحاني، يعني تتعبي بسببي مش شايفة إنَّها أوفر شوية، ولَّا بترسمي على حاجة تانية، لو تُقصدي الطلاق، فالموضوع مُنتهي أنا وبنتِك زي الشمس والقمر، مايتجمَّعوش..بيستافدوا بس من بعض..
تنهَّدت بمرارةٍ ويبدو أنَّ الماضي ماتزالُ آثارهِ محفورةً بقلبِه..
إيه رأيَك نفتَح صفحة جديدة، اعتبرني والدتَك..
ابتسامةً ساخرةً مع نظرةٍ متهكِّمة، ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى سجائره:
الطُّموح حلو برضو يامدام فريدة..توقَّفت وخطت بخطواتٍ مترنِّحةٍ إليه محاولةً جذبَ سيجارتِه:
بلاش سجاير وإنتَ تعبان ياحبيبي..
توسَّعت عيناهُ بوميضٍ غاضب، وتجمَّعت سحبُ الألمِ والحزنِ بعينيهِ يرمُقها بنظرةٍ تعني الكثيرَ من الكُره:
متنسيش نفسِك، إيه اللي مدخَّلِك أوضتي، بنتِك في أوضتها روحي لعندها، وياريت تقنعيها تفضَل مُتمسِّكة بالطلاق، دا لو بنتِك حبيبتِك بتسمَع كلامِك، أنا مش عايز أخسر أبويا كفاية خسارتي لأمِّي يامدام..
هتفضَل تعاملني كدا ياإلياس على إنِّي عدوِّتَك الأولى ..استفهامًا مؤلمًا لقلبها قبلَ قلبهِ انبثقَ من شفتيها، اقتربَ منها بعدما نفثَ تبغه:
أسامحِك!..تعالي نرجَع بالزمن للورا كدا
أنا كنت بقولِّك ياماما، شوفتي.. كنت بقولِّك ياماما، يعني كنتي غالية عليَّا أوي، عملتي إيه، ضحكتي علينا كلِّنا، بوشِّك البريئ دا عرفتي تتلاعبي علينا كلِّنا.
فلاش باك:
جالسًا بجوارِ والدتهِ يلعبُ بهاتفِه، استمعَ إلى همسِها، نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ إليها :
ماما حبيبتي إنتِ صحيتي..ضغطت على كفِّهِ الصغير تهمسُ بأنين:
إلياس ناديلي بابا ياحبيبي..هرولَ الصغيرُ إلى غرفةِ والدهِ بعدما تمَّ عقدُ قرانهِ على فريدة..
قبلَ قليلٍ جلسَ بجوارِها:
فريدة عايز أفَّهمِك حاجة مهمَّة لولا إصرار غادة على الجواز أنا كنت مستحيل أتجوِّز عليها مهما كان..كانت مطأطأةُ الرأسِ تفركُ بكفَّيها:
عارفة يابيه..
أطلقَ ضحكةً يهزُّ رأسهِ وتحدَّثَ بمشاكسة:
بيه، فيه واحدة تقول لجوزها بيه!..
رفعت عينيها الممتلئةِ بالدموع،
عايزة أعرَّفك إنِّي فهمت جوازنا هيكون صوري علشان الولاد وعارفة إنِّ كلِّ واحد لُه حياتُه الخاصة، صدَّقني عُمري ماهتخطى حدودي معاك..
نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى النافذةِ ينظرُ بالخارجِ وأردف:
مش أنا اللي أغضِب ربِّنا يافريدة، ربنا ماأمرشِ بكدا، حقوقِك هتاخديها بالكامل، ربِّنا أعلم بس الظروف اللي بتحتِّم علينا نعمل حاجات خارج إرادتنا، علشان كدا لازم تفهمي حاجة مهمَّة..إنتِ من وقتِ ما كتبت عليكي بقيتي جُزء من حياتي، أولادي ولادِك وبنتِك بنتي يعني هعاملِك بما يُرضي الله، ومش عايزِك تشيلي أمرِ غادة، غادة ماهيَّ إلَّا أيام وأكيد سمعتي كلام الدكاترة، أنا ماحبِّتشِ أزعلَّها في آخرِ أيامها، كلِّ اللي طالبُه منِّك تسامحيني في حقِّك الأيام دي مش هقدر أقرَّب منِّك وأدِّيلك حقوقِك الشرعية ومراتي على فراشِ الموت، غادة مش مُجرَّد زوجة وأم ولادي بس، غادة كلِّ حاجة حلوة في حياة مصطفى..
أومأت لهُ ثمَّ رفعت عينيها تنظرُ لمقلتيه:
حضرتَك شخص مُحترم وأنا سعيدة بوجودَك بحياتي أنا وميرال، بس فيه موضوع مهمّ لازم تعرفُه قبلِ مانبدأ حياتنا مع بعض، أنا حاولت أتكلِّم بس مدام غادة هيَّ اللي رفضِت، خافِت من ردِّة فعلَك معايا لكن حقيقي مش هقدر أنام جنبَك وأنا مخبيَّة حاجات عنَّك..
كان يستمعُ إليها بتمعُّن ..حتى اتَّجهَ إلى الأريكةِ وجلسَ يشيرُ إليها بالجلوس:
سامعِك، شكلِ الموضوع مش مقبول اللي يخلِّي غادة تخبِّيه..
فركت كفَّيها وانسابت عبراتها تتمتمُ بتقطُّع:
ميرال مش بنتي ..توسَّعت عينيهِ بذهولٍ حتى انتفضَ من مكانِه:
يعني إيه مش بنتِك..ارتفعت شهقاتها تقصُّ لهُ معاناتها مع راجح..
شعرَ بانسحابِ الأرضِ من تحتِ أقدامِه، ليهوى على الأريكةِ بدخولِ إلياس:
بابي ..بابي ..مامي عايزاك، قالتلي أناديك..
اطلع برَّة دلوقتي ياإلياس، شوية وجاي ..
أومأَ الصغيرُ وتحرَّكَ للخارجِ بعدما استمعَ إلى بكاءِ فريدة، أغلقَ البابَ خلفهِ فاستمعَ إلى صرخاتِ والدهِ بالداخل:
بقى إنتِ تضحكي على مصطفى السيوفي وتخلِّيه يزوَّر، إنتِ إيه ياشخية حيَّة، إزاي ورا وشِّك البريئ دا شيطان، تخطفي البنتِ وتنسبيها لجوزِك الميت..أنا أنسب بنت لراجل تاني قالها وهو يدفعُ المقعدَ بقدمه..
تحرَّكَ إلياس متراجعًا عن البابِ بعدما استمعَ إلى الحوار:
ماما فريدة كذابة، استمعَ إلى صوتِ ميرال خلفِه:
إلياسو تعالَ إلعب معايا..قالتها الطفلةُ وهي تحملُ ألعابها ..هزَّ رأسهِ قائلًا:
روحي لأنطي هدى ياميرو، مامي تعبانة هستنى بابي لحدِّ ما يجي يشوفها..
أوووف أنا مبحبِّش ألعب لوحدي..قالتها وتحرَّكت ..استمعَ إلى بكاءِ فريدة بالداخل:
كنت عايزني أعمل إيه، لازم أحرق قلبُه زي ماحرق قلبي، واللهِ لأدَّمرُه هوَّ ومراتُه..
اخرسي بقى إنتِ إيه مصدَّقة نفسِك، إنتِ دلوقتي مراتي تفتكري هرضى إنِّك تروحي لراجل واطي زي دا، صدمتيني يافريدة، وليه جايَّة تقولي دلوقتي ليه ماقولتيش قبلِ الجواز، كنتي عايزة تضمني جوازي منِّك؟..أطبقَ على ذراعها يهزُّها كالمجنون..
رُدِّي عليَّا إنتِ اللي ضغطي على غادة علشان تخلِّيها تضغط عليَّا وأقبل أتجوِّزِك، مراتي بتموت ياهانم وإنتِ اشتغلتي بدورِ الحنيَّة والخوف على الولاد صح..
هزَّت رأسها بالنفي..هرولَ الطفلُ إلى والدتهِ يقصُّ لها
مامي مامي شوفتي طنط فريدة طلعت كذَّابة ووحشة..كانت تلفظُ أنفاسها الأخيرةَ تهمسُ باسمِ زوجها مرَّةً وباسمِ فريدة مرَّة..مسحَ عرقها وهو لا يدري ماذا يصيبُها:
مامي مالِك، ليه عرقتي كدا..وضعَ أذنهِ بجانبِ فمِها ليستمعَ إلى كلماتَها المتقطِّعة:
مصطفى إسلام، غادة..مصطفى، بكى الطفلُ على حالةِ والدتهِ ..ظل لبعض الوقت فتحرَّكَ سريعًا إلى والدهِ بعد تأخره دفعَ الباب:
بابا ماما عايزاك دلوقتي حالًا..
إنتَ إزاي تُدخل بالطريقةِ دي ياحيوان اطلَع برَّة حالًا..
اتَّجهَ بنظرهِ إلى فريدة التي يضمُّها والدهِ إلى أحضانهِ لتنسابَ دموعهِ رغمًا عنه..نهضَ مصطفى بعدما وجدَ دموعهِ واقتربَ منه:
حبيبي متزعلشِ منِّي، تعالَ معايا..أمسكت ذراعهِ تجذُبه:
مصطفى ..قالتها ببكاءٍ تنظرُ إلى وجههِ المتجهِّمَ حتى ترى هل سامحها أم لا..
استدارَ يحتضنُ وجهها يُزيلُ دموعَها:
خلاص نكمِّل كلامنا بعدين..هزَّت رأسها رافضةً وأكملت بشهقات:
لازم تسمعني..اتَّجهَ إلى ابنهِ يداعبُ خصلاتِه:
أنا جاي حبيبي..هقول لماما فريدة حاجة وجاي.
خرجَ بذيولِ الخيبةِ للمرَّةِ الثالثةِ على التوالي، طفلًا لم يتعدَّ الثانيةَ عشرَ من عُمره، توقَّفَ لدى البابِ ينظرُ لوالدهِ الذي ضمَّها يُربتُ على ظهرها:
خلاص بطَّلي عياط، خطا الطفلُ ودموعهِ تفترشُ طريقهِ إلى أن قابلَ مربيتهِ تبكي وهي تحملُ أختهِ الرضيعةِ التي لم تتعدَّى الشهر ..توقَّفت أمامِه:
باباك فين ياإلياس...قالتها بدموعٍ كالشلال، نظرَ إلى أختهِ التي ارتفعَ بكاؤها وكأنَّها شعرت بوفاةِ والدتها..رفعَ ذراعيهِ إليها:
هاتيها أخُدها لمامي هتفرَح بيها، قطعَ حديثهِ صوتُ الخادمةِ وهي تبكي وتردِّدُ اسمَ غادة، تحرَّكَ سريعًا إلى أن دفعَ بابَ والدتهِ وهو يرى الخادمةُ تحتضنُها وتبكي، فكانت جميلةُ الخُلقِ وحسنةَ المعاملة، الجميعُ يعشقُها لمعاملتِها ..هرولَ يبكي ويدفعُ الخادمة:
ماما حبيبتي فوقي بابا جي، ماما فوقي ..انحنى بجسدهِ يدفنُ نفسهِ بأحضانها يبكي بشهقات:
ماما فوقي بابا جي يسمعِك..دلفَ مصطفى على بكاءِ إلياس..توقَّفَ شاحبًا وكأنَّ روحهِ هي التي خرجت لبارئِها يهمسُ باسمها مذهولًا، هل زوجتهِ توفَّاها الله، هل لم يعدْ يراها..تحرَّكَ بجسدٍ منتفضٍ وقلبًا هزمهُ الألمَ والحزن..
إلياس ..رفعَ الصغيرُ رأسهِ يطالعهُ بدموعهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى فريدة المتوقِّفةِ على بابِ الغرفةِ تبكي بصمت..
نفضَ ذراعهِ من كفِّ والدهِ وابتعدَ عنهُ مهرولًا للخارجِ وهو يصرُخ:
أنا عايز ماما، أنطي هدى اتِّصلي بالدكتور، ماما عايزة الدكتور..
خرجَ من شرودهِ ووجههِ اختفى خلفَ شلَّالِ دموعهِ ينظرُ إلى فريدة:
مكنتُش عايزة غير بابا لحظات بس، بس إنتِ استكترتي عليها اللحظات دي، رغم إنَّها السبب في إنِّك مرات مصطفى السيوفي.. انحنى بجسدهِ رغمَ تألُمه:
رغم اللي عملتيه كنت بحُطِّلِك أعذار، لحدِّ ماعرفت حقيقتِك السُّودة، واحدة هربِت من جوزها وبعتتلُه ناس يضربوه علشان يطلَّقها بعد ماكشف خيانتها وياريت توقف على كدا، دا إنتِ بعتي ولادِك علشان اللي يدفع للمدام أكتر، لازم حياة الرفاهية ماحترمتيش جوزِك اللي مات ولعبتي على أخوه لحدِّ مااتجوزِّك على مراتُه، المدام تسكُت.. لا، تحسَّرُه بعد ماتخلِّف منُّه،ماهو شبهها اشتغل في الممنوع،تصدَّقي كان لايق عليكي،هل هروبِك بميرال علشان لو ملقتيش راجل لُقطة تضغطي عليه ببنتُه، بس اللي مش قادر أفهمُه لحدِّ دلوقتي ليه راجح بعد ماوصلِّك ماطلبشِ يشوف بنتُه وليه مراتُه بتراقب ميرال ومخبية عن جوزها..
نهضت من مكانِها تجرُّ قدميها بصعوبةٍ بعدما حطَّمَ قلبها باتهاماتهِ الشنعاء،
تفاجأ بضعفِ حركتها وجسدها الذي ارتجفَ مردِّدَةً بتقطُع:
أنا مظلومة والله يابني مظلومة.. قالتها حتى هوت على الأرضيةِ بجسدٍ شاحبٍ كشحوبِ الموتى..
تجمَّدت الدماء، وانحبست أنفاسِه، ليرتجفَ جسدهِ بعدما ازرقَّت شفتيها، هرولَ يجثو أمامها مردِّدًا:
ماما فريدة.. قالها بدلوفِ مصطفى إليهما بعد غيابها... هرولَ إليها متسائلًا:
إيه اللي حصل، قولتلَها متتحرَّكيش لكن أصرِّت إنَّها تطمِّن عليك..
أطبقَ على جفنيهِ متذكِّرًا قساوةِ حديثهِ إليها..
باليومِ التالي.. وخاصةً بغرفتهِ فتحت غادة الباب:
شوف مين اللي جِه عندنا يشوفَك، دلفت رؤى برأسِها:
ممكن أدخل ياسيادةِ الظابطِ العظيم؟..
أطلقَ ضحكةً رنَّانةً يشيرُ إليها:
تعالي ياأمِّ لسانين.. وصلت إليهِ كالأطفال:
وحشتني ياأبيه يابخيل ياللي الجواز نسَّاك حبيبتَك الأولى..
صفعها بخفَّةٍ على مؤخرةِ رأسها:
بطَّلي غلبة يابت وقوليلي إيه اللي فكَّرِك بيَّا.. احتضنت كفِّه:
كدا تتعّب من غير ماأعرف، دا وعدَك ليَّا..
ضمَّ رأسها وقُبلةً مطوَّلةً فوقَ حجابها:
آسف عارف انشغلت عليكي. دلفت ميرال تنظرُ إليهما بصمتٍ ثمَّ وضعت طعامِه:
عملتلَك شوربة خضار..
زوى مابين جبينه:
ليه هو أنا مريض، شيلي الأكلِ دا.
مفيش غيرُه قالتها وهي ترمقهُ بنظراتٍ نارية، رفعت رؤى طبقَ الشوربة:
طيب دوقُه الأوَّل..إيه رأيَك أكلِّك زي زمان..
عقدت ميرال ذراعيها وأردفت متهكِّمة:
أه ياريت ياسي رميو خلِّيها تأكلَّك زي زمان..
توقَّفت معتذرة:
مش قصدي والله ياميرال، خُدي الطبق وأكِّليه..
أرسلتهُ بعينانٍ تلتهبُ بنيرانِ الغيرةِ ثمَّ أردفت بخفوت:
مفيش داعي البيه صحتُه حديد وعندُه إيد ماشاءالله يعرَف يأكِّل نفسُه كويس..
جذبَ كفَّ رؤى وأجلسها بجواره:
أنا متعوِّد على إيد رؤى.. شوفي وراكي ايه أه المحامي أكِّدي ميعادُه..
نظراتٍ موجعةٍ كادت أن تهزمها لتسحبَ نفسها متحرِّكةً للخارج..
وضعت رؤى الطبق:
مش لاقي إلَّا ميرال وتوقّّعني معاها دي لو طايلة تموِّتني من زمان كانت عملتها، بتغير عليك بجنون ياعم..
ارتسمت ابتسامةٌ ساخرةٌ على ملامحه:
تموتي وتعرفي إيه اللي حصل صح؟..
أومأت تضحكُ ثمَّ تساءلت:
أنتو زعلانيين.. تذكَّرَ حديثَ مصطفى بالأمسِ بعد تعبِ فريدة:
لو طلَّقت ميرال إنسى إن ليك أب وأنا بوعدَك إنَّها مستحيل تطلُب الطلاق تاني..
بس أنا مش عايزها..
مش بكيفَك يابنِ مصطفى، عايز تفضح أبوك روح طلَّقها وانساني..
فاقَ من شروده؛
شوفت سيف عمل إيه؟..
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
عمل إيه؟!
حظر رقمي.. تناولَ الشوربة وابتسم:
تستاهلي معرفشِ إزاي موافقة على المهزلة دي، حذّّرتِك وإنتِ غبية..
طالعتهُ وهو يتناولُ الشوربة:
متقولشِ كدا قلوبنا مش بإيدينا.. توقَّفَ مرَّةً واحدة:
رؤى تتجوزيني.. قهقهت بصوتٍ مرتفع:
أيوة ومالُه ياحبيبي، عايز الفرح بعدِ كام ساعة؟..
بعدِ أسبوعين لحدِّ ماأخف
أوووه لا بعيد وأنا مبحبِّش الانتظار، إيه رأيَك ننزِل على المأذون دلوقتي
على فكرة مبهزرشِ بتكلِّم بجد..
إزاي يعني ياإلياس عايز تتجوِّزني بجد؟..
وأنا عُمري هزَّرت؟..
الحقيقة لا.. طالعها بغموضٍ وتابعَ حديثِه:
طيب إيه رأيِك؟..
رأيي في إيه... توافقي تتجوزيني
عايزني أتجوِّز واحد متجوِّز!..
التوت شفتيهِ يرمُقها:
على أساس البنتِ بتحبِّ واحد مش خاطِب..نهضت من مكانِها ومازالت الصدمةُ تصفعُها حتى توقَّفت الكلماتُ على أعتابِ شفتيها لترفعَ عينيها إليه:
بس بينا قصة حب..
من إمتى.. مش دا اللي رماكي وراح خطب وطردِك من المحاضرة..
إلياس أنا متأكِّدة إنِّ سيف بيحبِّني..
أشعلَ سيجارة
بتكدبي على نفسِك.. أشارت على نفسها تتحدَّثُ بضياع:
عايز تتجوِّز واحدة تربية ملجأ بتعطِف عليها ليه، وإنتَ لسة متجوِّز من كام شهر بس.
ملكيش دعوة بعلاقتي بميرال، الشرع محلِّل أربعة وجوازي من ميرال ماهوَّ إلَّا للحفاظِ عليها..ليه بعدين أقولِّك بس اللي عايز تتأكدي منُّه يُعتبر جوازنا صوري تقدري تقولي بالمعنى الأصح جواز مصلحة..
مصلحة!! زفرَ باختناق:
وبعدين بقى اسمعيني أنا مش هغصبِك على حاجة، فكَّري ورُدي عليَّا..
إنتَ بتتكلِّم جد!.
نفثَ سيجارتهِ ينظرُ لمقلتيها:
جد جدًا جدًا.. ومتنسيش ياصُغيرَة إن إلياس الحبِّ الأوَّل ولَّا يكون الدكتور سيف مسحني من حياتِك..
نظرت إليهِ بتوهانٍ فلقد ألقاها بغيباتِ الجُّب..
مرَّ أسبوعينِ إلى أن جاءَ ماحطَّمَ القلوبَ التي لن تغفرَ لمن أحرقها..
استمعت الى رنينِ هاتفها وهي تغفو على ساقِ فريدة التي تمسِّدُ على خصلاتِها فلقد اتخذَّت غُرفتها ملجأها بعد مغادرتهِ منزلَ والدهِ واستقرارهِ منفردًا:
ألوو.. قالتها بنبرةِ متألِّمة..
العربية تحت إنزلي وتعاليلي هبَّت من مكانِها:
إنتَ تعبان.. كان يقفُ أمامَ صورتها ليتابعَ حديثهِ معها:
لا.. أنا كويس بس وحشتيني وعايز أشوفِك فيه موضوع لازم نتكلِّم فيه.،
تمام.. قالتها ونهضت من فوقِ فراشها
تقبِّلُ والدتها..هروح لإلياس
رسمت ابتسامةً تومئُ لها ثمَّ تمتمت:
خلِّي بالِك من نفسِك.
بعدَ فترةِ قُبيلَ المغربِ دلفت إلى المنزلِ المزيَّنِ بطريقةٍ هادئة.. من يراهُ يظنُّهُ احتفالًا لأحدِ العشَّاق.. دلفت للداخلِ قابلتها الخادمة:
البيه مستنيكي فوق.. صعدت اليهِ وقلبها كطبولِ حربٍ وجسدها الذي يرتعشُ من حلوِ الِّلقاءِ فمنذُ أسبوعينِ تتعذَّبُ بلهيبِ الشوق.. طرقت الخادمةُ البابَ لتشيرَ إليها بالدخولِ اليه.. وجدتهُ واقفًا أمامَ النافذةِ ينظرُ للخارج.. اقتربت تهمسُ اسمِه.. استدارَ بهدوئهِ الذي جعلها كفراشةٍ تريدُ أن تطيرَ بأجنحتِها الناعمةِ لتصلَ لأحضانه.. فتحَ ذراعيهِ إليها، لتهرولَ تُلقي نفسها بأحضانهِ، همسَ بنبرتهِ الرخيمة:
وحشتيني.. رفعت رأسها تحاوطُ عنقهِ تسبحُ ببحرِ عينيهِ لتستشفَّ كذبهِ مرَّرَ أناملهِ على وجنتيها الناعمةِ لتسري قشعريرةً لكلٍّ منهما..
عايزة تطلَّقي، أنا معاكي في القرار اللي إنت..توقَّفَ عن الحديثِ عندما وضعت أناملها على شفتيه، ودنت تبعثرُ شهدَ عشقها بجانبِ شفتيهِ تهمسُ له:
مش عايزة غير حُضنَك وبس، إنسى أي حاجة قولتها في وقتِ غضبي منَّك، واعذرني مكنتُش أعرف إنَّك بتحبِّني أوي كدا..
وياترى شوية الحبرِ اللي قرأتيهم همَّا الِّلي عرَّفوكي بحبُّي؟..
رفعت أكتافها بعجزٍ عن الرَّد..ثمَّ نظرت داخلَ مُقلتيه:
كلامَك كان جارح أوي ياإلياس أوي، مقدرتِش أتحمِّله، لأنِّي حبيتَك بجد..
دا كلُّه ومحستيش بحبُّي، بعد اللحظات اللي عشناها مع بعض ماعرفتيش أدِّ إيه بحبِّك..
بتحبِّني ياااه أخيرًا قولتها..كُنت فقدت الأمل..
احترقَ داخلهِ من تأثيرها القوي.. كيفَ يتحمَّلُ إهدارها لكرامتهِ ورجولتِه، صراعٌ بين العقلِ والقلبِ إلى أن حكمَ القلبُ ليصفعَ العقل، يسحبُها من كفَّيها يفتحُ الخزانة، يشيرُ إلى ثيابها:
بعت جِبت شوية هدوم من بتوعِك، لو وافقتي تكمِّلي حياتِك معايا يبقى إنتِ تروحي تجيبي الباقي، أو تشتري غيرهُم..
أممم يعني بتحاوِل تستفزِّني؟..
أبدًا..قلَّبَ بيديهِ بين الملابسِ إلى أن تذكَّرَ خروجها بذاكَ الفستان..
الذي خرجت به..فستانًا أقلُّ ما يقالُ عنهُ برأيهِ أنَّهُ ماهو إلَّا قميصًا للنوم..
قبضَ عليهِ بكفِّهِ يجذبهُ يريدُ أن يمزقَهُ كلَّما تخيَّلَ أن أحدًا غيرهُ رأى مفاتنها ..تراجعَ خطوةَ ينظرُ إلى مفاتِنها بوقاحةٍ قائلًا:
عايز أشوف الجمال دا بالفستان.،
عايزني ألبس الفستان دا..لا متهزرشِ أكيد إنتَ سُخن..
رسمَ ابتسامةً مقتربًا منها ثمَّ جذبها من خصرِها بقوَّةٍ لتصطدمَ بصدره:
ليه هيَّ المدام مش واخدة بالها إنَّها علشان تعاندني كشفِت جسمها للكلّ..
إلياس..بترَ حديثها وهو يطبقُ على ثغرها بخاصتهِ يمنعها بالتفوُّهِ عندما فقدَ السيطرةَ على غضبِه..لحظاتٍ ربما دقائقَ وهو ينفثُ غضبهِ بها إلى أن اختنقت ليتركَها ويتحرَّكَ للخارج..
اجهزي عملِك مفاجأة هتعجبِك.
بعدَ فترةٍ انتهت من زينتها، توقَّفت أمامَ المرآةِ تنظرُ إلى نفسها، ابتسمت بعدما تورَّدَ وجهها مرَّةً أخرى، لتهمسَ لنفسها:
كنتي مجنونة ياميرال عايزة تبعدي عنُّه، دا أسبوعين موتي واندفنتي فيهُم..ذهبت ببصرِها على قميصهِ الموضوعِ على الفراشِ لترفعهُ وتستنشقَ رائحتهِ باشتياق..وضعتهُ بهدوءٍ وتحرَّكت للخارج..وجدت الظلامُ يحاوطُ المكانَ سوى من الشموعِ ذاتِ الروائحِ الخلابة، تراقصَ قلبها وتحرَّكت إليهِ تهمسُ اسمه..
نهضَ من فوقِ المقعدِ بعدما أطفأ سيجارتهِ واقتربَ متوقِّفًا أمامَ الدرج..كان ينتظرُها كعريسٍ ليلةَ زفافهِ ببذلتهِ السوداءَ وقميصهُ الأبيضَ من يراهُ يظنُّ أنَّهُ عريسٌ ينتظرُ عروسه..
وصلت إليهِ بطلّّتها الخاطفةِ للقلبِ قبل العقل..بسطَ كفَّيهِ إليها لتحتضنَ كفَّيها وتتحرَّكُ على الموسيقى متَّجهةً إلى الطاولةِ التي يُوضعُ عليها المشروبات.
توقَّفَ أمامها يحتضنُ وجهها ثمَّ طبعَ قبلةً مطوَّلةً على جبينها، ثمَّ رفعَ ذقنها بأناملهِ ينظرُ لجمالِ عينيها قائلًا:
من أوَّل ماارتبطنا ونفسي أرقُص معاكي تانجو.
جحظت عيناها بصدمةٍ تشيرُ إلى نفسها:
أرقُص تانجو إزاي معرفش...لحظاتٍ واستمعت إلى الموسيقى وكأنَّهُ أعدَّ نظامًا لحفلتهِ الخاصة، ليسحبَ كفَّيها متحرِّكًا بها قائلًا:
اتحرَّكي زي ماهعمِل، بجد نفسي أرقُص معاكي الرقصة دي، علشان لو جد في الأمور أمور يبقى فيه حاجة تفتكريني بيها..
تحرَّكت مع الموسيقى برشاقةٍ وحركاتِ ساقيهِ التي أبهرتها لتتناسى كلَّ شيئٍ سوى أنَّها بين أحضانه...خطواتٍ مدروسةٍ مع الموسيقى أشعرتها وكأنَّها تلمسُ نجمًا من السماء..
وصلَ لإحدى المقطوعاتِ الموسيقيةِ وهي تقتربُ من وجههِ ولم يفصُل بينهما شيئًا..ليهمسَ بصوتهِ الأجشِّ لأوَّلِ مرَّةٍ ليسحبَ أنفاسها:
بحبِّك ياميرال أكتر من أيِّ حاجة في الدنيا...ترقرقت الدموعُ بعيونِها وهي تفردُ ذراعيها لينسابَ كفَّها على وجنتيهِ لتكملةِ الرقصة، ليسحبها إلى أحضانهِ متراجعًا للخلفِ وعينيها تعانقُ عيناه:
بتحبِّني؟..
أكيد وكان لازم تعرفي إنِّ الحب مش مجرَّد كلمات ...قالها وهو يحملُها يدورُ بها على الموسيقى ثمَّ أنزلها بهدوءٍ ويديهِ تعانقُ خصرها، ليحرِّكها بسرعةٍ يرفعها مرَّةً أخرى ثمَّ ينحني بجسدهِ لتصبحَ بأحضانِه، وعينيها تعانقُ عيناهُ متمتمة:
ميرال بتعشَقك ياإلياس..اعتدلَ يضمُّها إلى صدرهِ مع انتهاءِ الرقصةِ يهمسُ لها:
فاكرة قولتلِك إيه عن بُعدنا..
تراجعت تنظرُ إليهِ تهزُّ رأسها بالموافقة:
مش هتبعد عنِّي إلَّا إذا أنا بعدت..
عانقَ أناملِها بأناملهِ وتحرَّكَ إلى الطاولة، يشيرُ للخادمة، هاتي حاجة للمدام تلبسَها علشان عندنا ضيوف
طالعتهُ باستفهام:
ضيوف..وصلت الخادمةُ بوشاحٍ يغطِّي جسدها بالكاملِ وهو ينظرُ للخادمةِ للتحرُّكِ للخارجِ بدخولِ المأذونِ بجوارِ إسلام ورؤى.
طالعتهُ باندهاشٍ وهتفت:
مأذون ليه...استدارَ وتوقَّفَ أمامها:
وأنا عند وعدي..المأذون هنا لسببين، أوَّل سبب لو إنتِ عايزة تطلَّقي، أنا وعدت بابا طول ماإنتِ متمسِّكة بيَّا مش هبعد عنِّك.
بس أنا مش عايزة أطلَّق أنا اعتذرتلِك..دلفت رؤى وتوقَّفت بجوارهِ بفستانِها الأبيض..تجمَّعت الدموعُ رغمًا عنها تتساءلُ بقلبٍ مفطور:
هوَّ فيه إيه، ممكن تعرَّفني ...اقتربَ منها وحاوطَ خصرها منحنيًا لمستواها:
هتجوِّز ياميرال ، علشان أمسح آثارك من عليَّا، أصلها وجعاني أوي..
صمتًا مميتًا بالمكانِ سوى حبسِ الأنفاسِ ِوهي تنظر لعيناه وعيناها تفيض من الألمِ مايغطِّي الكون، وآه حارقة بخفوتٍ انبثقت من بين شفتيها تمنَّت من اللهِ أن تلفظَ أنفاسها لبارئها، وهو يتراجعُ يشيرُ على الطاولةِ المعدَّةِ لعقدِ القران ..مازالت متوقَّفة تنظرُ إلى جلوسِهم..عيناها عليهِ فقط، نظراتٌ ماهي سوى نظرات ولكن ليتها كانت رصاصاتٍ لتخلَّصت منهُ للأبد.
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
لن نتفق !
أنتَ لا يُلفِتُكَ الحَريقُ في صدري
وأنايُثير انتِبَاهِي خَدشٌ صغِيرٌ في يدِكَ ..
عَاهَدَتني ألّا تَميْلَ مع الهوى ،
يـَ كاذباً بالعهد أنت قتلتني " 💔
أيُّ كَرَمٍ هذا حيْنَ تَرَكْتَ لِي وَجَعَاً يَكْفِينِي سَبْعِينَ عَامًاً ...
أيُّ خيبة تلكَ التي عشتها أنا ..
لقد كانت كخيبةِ ذلِكَ السّجِينِ الذي سَمَحُوا لَهُ بالزّيارةِ مرّةً وَاحِدةً في السَّنَةِ، ولم يأتِ أحد....
فـ ليتنَا مِثْلَ الخَرِيف..
نَنفِضُ أوراقَ مشاعرِنا الجافَّةِ..
وكلّ ما أتمناه
أنْ تتساقَطَ أوراقُ أوجاعِنا وذكرياتنا الحزِينة..
لكنني...صُلْبَةٌ؛ صُلْبَةٌ جِدًا وَكَأَنَّنِي أَنْتَقِمُ مِنْ أَيَّامٍ عِشْتُ بِهَا لِيِّنَةً فَسَحَقُونِي....
تسمرَّت كالجماد، وكأنَّها تنتظرُ الطلقاتَ الناريةِ بصدرٍ رحْب، تثاقلت أنفاسها وتمنَّت أن يُصيبها اللهُ بالعمى وهي تراهُ يضعُ هويتهِ وهويةَ رؤى أمامَ المأذون..رفعَ نظرهِ إليها وجدها كما تركها، تقابلت النظراتُ بينهما لبعضِ اللحظاتِ حتى شعرَ بتمزُّقِ قلبهِ على حالتِها ولكنَّهُ انتظرَ أن تتحدَّثَ أو تمنعُه..
بدأ المأذونُ بكلماتهِ المعتادة، وظلَّت هي تنظرُ بداخلِ مقلتيهِ لم تقوَ على الحركةِ أو التفوُّه، كأنَّها أُصيبت بشللٍ بكاملِ جسدِها..سحبت قدميها تجرُّها بصعوبةٍ مع كلماتِ المأذونِ التي جعلت صدرها كمِرجلٍ يغلي مع قلَّةِ مياهِه..حاولت الهدوءَ أو الهروبَ أو الصُراخَ ولكنَّها لم تقو..ذهبت ببصرِها إلى سلاحهِ الموضوعِ على الطاولة، خطت كطفلٍ يتعلَّمُ السيرَ إلى أن وصلت إلى رؤى..سحبتها من ذراعيها وبلسانٍ ثقيلٍ همست بتقطُّع:
آسفة ياعمُّو الشيخ، بس عايزة أبارِك لجوزي قبلِ ماأمشي..قالتها وعينيها جامدةً تنظرُ إلى اللاشيء..
دفعت الطاولةَ قليلًا..وتوقَّفت تستندُ بظهرِها عليها، ثمَّ حاوطت عنقهِ منحنيةً إلى خاصَّتهِ لتعقِدَ علاقةً منفردةً مع بركِ عيناها التي سمحت لها بالتَّحرُّر، لحظاتٍ أو ربَّما دقيقةٍ وهو متجمِّدٌ بمكانهِ لم يتوقَّع ما تفعلُه، ظنَّ أنَّها ستثورُ أو تطلبَ الطلاق، استندت بجبينها على جبينِه، تلمسُ وجنتيهِ بكفِّها المرتعشَ وعينيها التي عانقت عيناهُ تحاولُ إخراجَ الحروف:
حبيتَك كتير، وكِرهتَك أكتر، بس كان لازم أهاديك هديَّة فرحَك، مبروك ياوجع قلبي، هديِّتي عُمرَك ماهتنساها طول حياتَك، وكلِّ ماتيجي تحتفِل تفتكرني، قالتها وهي تجذبُ السلاحَ من جوارهِ بلحظاتٍ قليلةٍ وقامت بإطلاقِ النارَ على نفسِها، ليهبَّ فزعًا من مكانِه، يحاوطُ جسدها مذهولًا لما فعلته..افرح ياإلياس افرح أوي وإنتَ قتلتني بإيدَك، صرخةٌ شقَّت صدرهِ باسمها وهو يسقطُ معها بسقوطِ جسدِها، صرخاتٌ وصرخاتٌ إلى أن شعرَ بانقطاعِ أحبالهِ الصوتيةِ يضمُّها إلى صدره، وهو يرى موضعَ الرصاصةِ الخطير..نزل بجسده يحاوط جسدها واغروقت عيناه بالدموع مهمهمًا:
-ليه حرام عليكي..!!
مش حملِ وجعَك..رفعت كفها على موضع قلبه وهمست بتقطع
-وجعتني لحد ماموتني..قالتها لتغمضَ عينيها.. اتسعت حدقتيه بذهول مع دموعه التي انسابت رغمًا عنه، يهز رأسه رافضًا ماصار، ضم رأسها إلى صدره، وهو يشعر بإزهاق روحه
-إلياس إلحقها لسة عايشة..رددها إسلام محاولًا رجوعه إلى وعيه..ظل يهزه بينما الآخر ظل يضمها بصمت وكأن أحدهم سيخطفها من حضنه..حاول اسلام مساعدته إلى أن
هبَّ من مكانهِ يحملُها ويخرجَ بها سريعًا..ورغم سرعة تحركه، ولكن كان يترنح بمشيه، وصل إلى السيارة مع استقلال اسلام إليها بعدما فتح بابها الخلفي
جلس يضمها بقوة ينظر باكيًا
-ميرال ..ميرال، ولكن كيف تستمعُ إليهِ بعد غيابها عن الوعي بالكامل..، وضعها بهدوء، واستدار إلى القيادة، ثم جذب اسلام يخرجه من السيارة واتجه إليها
وقادَها بسرعةٍ كبيرةٍ كعاصفةٍ هبَّت فجأةً ليهربَ الجميعُ للاحتماء، دقائقَ إلى أن وصلَ إلى المشفى يحملُها كالطفلِ الرضيعِ يهرولُ بخطواتٍ كبيرةٍ إلى غرفةِ الطبيب..وضعها ينظرُ لشحوبِ وجهها،
ملَّسَ على وجهها ودمعةٌ خائنةٌ تحرَّرت من جفنيهِ يهمسُ بتقطُّع:
ميرال أوعي تقتليني كدا..دفعها المسعفُ إلى داخلِ غرفةِ العملياتِ سريعًا..ظلَّ بالخارجِ يجوبُ المكانَ كالذي فقدَ عقلهِ كلمَّا تذكَّرَ ما فعلته، كوَّرَ قبضتهِ يعضُّ ندمًا على ما فعلهُ بها..هوى بعدما شعرَ بوجعٍ يغزو أضلعهِ وكأنَّهُ طُعنَ بأبشعِ الطُّرق ..توقَّفَ عندما فقدَ السيطرةَ على نفسِه، يجذُبَ خصلاتهِ يقتلِعها..
يودُّ أن يحطِّمَ الجدارَ ويدلفَ إليها يضمُّها لأحضانِه، لا يريدُ سوى أحضانها، وصلَ مصطفى وفريدة بعد إخبارِ إسلام، تحرَّكت بعجزٍ تنظرُ إليه:
-ميرال فين؟!...تراجعَ بجسدهِ مبتعدًا عن الجميع، لا يريدُ الحديث َمع أحدٍ يريدُ الاطمئنانَ عليها فقط، لا يريدُ سوى سماعِ صوتها، أطبقَ على جفنيهِ
وداخلهِ بركانٌ ثائرَ الحممِ أوشكَ على الانفجار..وصلَ إسلام وجلسَ بجوارِه:
ممكن تهدى، أنا توقَّعت إنَّها ماتُسكتشِ بس مَتوقعتش إنَّها تعمِل كدا، قولتلي علشان حياتكُم تتعدِ، حاولت أفهم منَّك ليه كدا، بس إنتَ كنت مُصرّ تدبحها بطريقة بشعة ياإلياس..
إسلام مش عايز أسمع حاجة، قوم امشي من هنا..قالها غاضبًا..
عدَّةِ ساعاتٍ مرَّت عليهم كأعوامٍ إلى أن خرجَ الطبيبُ ليصلَ إليه بخطوة:
-العملية انتهت الحمدُلله، مخبِّيش عليكم الرصاصة كانت قريبة من القلب، هننتظر الساعات الجاية، إن شاءالله تعدِّي على خير...
-عايز أدخلَّها..قالها وعينيهِ على غرفةِ العناية ..نظرَ إليه لبعضِ اللحظاتِ بصمتٍ ثمَّ هتف:
خمس دقايق بس، استنى شوية لما يظبَّطوا أجهزِتها ..خطا إلى النافذةِ الزجاجيةِ وعينيهِ تتجوَّلُ بألمٍ فاقَ التحمُّل..توقَّفت بجوارهِ تنظرُ إليها بدموعِها تهمس:
-لو أعرف ناوي تدبحها كدا كنت منعتها تروحلَك، كانت سعيدة وبتتنطط زي الفراشة، لكن شوفها دلوقتي، شوف عمايل إيدَك، وصلَ بيها الحال تقتِل نفسها علشان فاض بيها..
استندَ برأسهِ على الزجاجِ ومازالت عيناهُ تحاكيها..
-إلياس ..استدارَ للتي تناديه، وجدها تقفُ خلفهُ بعيونٍ حزينة..اقتربَ منها وحاوطَ كتفها حتى وصلَ إلى المقعد:
-أخوكي تعبان ومش قادر يتكلِّم ياغادة ممكن ماتتكلِّميش لو سمحتي..
ربتت على ظهرِه:
-سلامتَك من التعب حبيبي، أنا متأكدة ميرال هتقوم بالسلامة..نهضَ من مكانهِ بوصولِ رؤى..
-ميرال عاملة إيه..استمعت فريدة إلى صوتِها فاستدارت ترمقُها بحدَّةٍ وهدرت بها:
-البتِّ دي بتعمِل إيه هنا، دي خانت العيش والملح إيه اللي جابها، اقتربت فريدة تدفعُها بقوَّة:
-إيه جاية تطمِّني ماتت ولَّا لسة..
طنط فريدة لو سمحتي..
اخرسي مسمعشِ صوتَك، لكمتهُ بصدره:
اخرس ياجبروت، على قدِّ حزني على اللي حصلَّها بس فرحانة فيك، عارف ليه، علشان ترتاح منَّك..دنت خطوةً وعينيها تخترقُ عيناهُ بنيرانٍ من قاعِ جهنَّم:
كنت عايز تموِّتها وتاخد حقَّك منِّي، أهي ماتت افرح بقى، سقَّف ياإلياس باشا، بنتِ عدوِّتَك بتصارِع الموت جوَّا، دفعتهُ بقوَّةٍ بكفَّيها الاثنين:
مراتك بتموت بسبب واحد ماشي بمبدأ آخد حقِّي من البرئء، ذنبها إيه...ذنبها إنَّها حبتَك، قولِّي ذنبها إيه؟...
وصلَ مصطفى من غرفةِ الطبيب، اقتربَ منها يجذُبها بعيدًا عن إلياس:
-فريدة اتجنِّنتي إنتِ مش شايفة حالتُه، اهدي علشان صحِّتِك..
أشارت إليهِ تبكي بشهقات:
-مين دا يامصطفى، دا ابني لو ابني كدا مش عايزاه..
-فريدة اتجنِّنتي،حاولي تتمالكي اعصابك شوية، الواد هيموت من غير كلامك ..ابتعدَ عنها يجرُّ أقدامهِ بصعوبة إلى أن وصلَ غرفةِ العنايةِ المركَّزة..دلفَ بساقينِ كادت أن تهوى بهِ لولا قوَّتهِ الجسمانية، خطواتٍ ضعيفةٍ هشَّةٍ وهو يراها لا حولَ لها ولا قوَّة ..وصلَ إلى فراشِها واقتربَ من رأسها وطبعَ قبلةً مطوَّلةً فوقَ جبينها،
ظلَّ يطالِعُها لفترة، ثمَّ سحبَ كفَّها يربتُ عليهِ ليرفعهُ ويقبِّلهُ بدموعِ عينيه..
نظرَ إلى وجهها الشاحب:
رباااه كم اشعر بتمزق احشائي، وددت لو أعناقها للحظات، كم اشتاق الى رائحتها الندية، وصوتها المرهف يهمس باسمي
لم يعد بقلبي اتساع لاستيعاب إحساس آخر ..!!
تؤذيني أم تحميني ،،فالحب لكِ ...
و الوجع منك العشق فيك
و الشوق إليك الفقد أنت و البكاء عليك
رسمها بعينان تنبع من الندم مايحطمه هامسًا
إيه الوجع دا، حاسس مش قادر أتنفِّس، معقول بحبِّك أوي كدا ..اقتربَ يهمسُ بجوارِ أذنها:
طيِّب لو قولتلِك افتحي عيونِك وكلِّ دقيقة هقولِّك بحبِّك..رفعَ كفَّها يضعهُ على وجنتيهِ واستطرد:
-ميرو أنا مكسور، مكسور، صدَّقيني كنت بعمِل كدا وقلبي محروق..طبعَ قبلةً بجوارِ شفتيها..
لمَّا تفوقي هعمِل معاكي أبشع حاجة تتخيِّليها علشان متعرفيش تشليها من عليكي، مسَّدَ على خصلاتِها وتمنَّى لو يزيلُ جميعَ الأجهزةِ من فوقِ جسدها، ويضمُّها لأحضانِه، ليعُلِمُها أنَّ حُضنها الوحيدُ جهازهِ لبقائهِ على قيدِ الحياة.
مرَّ اربع ايامٍ ولم يخطو خطوةً واحدةً بعيدًا عنها سوى لصلاتهِ فقط، اتَّخذَ مقعدهِ بجوارِ فراشها مسكنِه، لا يعلمُ ماذا يحدثُ بالخارج، ولا يريدُ أن يعلمَ شيئًا سوى أن يرى عينيها الجميلةِ مرَّةً أخرى..
ملَّسَ على خصلاتِها وعينيهِ تبحران فوقَ وجهها كقبطانِ سفينة..استمعَ إلى فتحِ الباب، لاحَ بنظرهِ إليها ولكنَّهُ عادَ ينظرُ إلى زوجتهِ مرَّةً أخرى..
دلفت فريدة وعيناها عليه، وصلت إليهِ بخطواتِها المتعثِّرة، توقَّفت بجوارهِ لم تشعر بنفسها حينما رفعت كفَّها على رأسهِ وأردفت بنبرةٍ ليِّنة:
-حبيبي هوِّن على نفسَك، أنا عارفة قسيت عليك بالكلام، بس غصبِ عنِّي يابني..
رفعَ نظرهِ إليها وبعيونٍ تُحجزُ عبراتها، ووجهٍ ينفجرُ لهُ براكينَ الأسى يشعرُ بجمرةٍ تحرقُ قلبه:
عُمري مااتخيِّلت إنَّها تكون بالشكلِ دا، عايزها تصحى وتعمل اللي هيَّ عايزاه.
بكت فريدة على حالِه، احتضنت وجهِه:
هتفوق إن شاءالله حبيبي هتفوق، بكرة تقول ماما قالت..
-تفتكري هتسامحني !!..هزَّت رأسها بدموعِها وابتسامةٍ تجلَّت من عينيها، تملِّسُ على وجنتيه:
بتحبَّك واللي بيحب بيسامِح..
-بس أنا مقدرتِِش أسامحها، حاولِت بس مقدرتِش مع إنِّي بحبَّها..قالها بنبرةٍ متقطِّعةٍ وعيونٍ تائهةٍ وكأنَّهُ طفلً يبحثُ عن والديه، احتضنَ كفَّ فريدة لأوَّلِ مرَّةٍ وطالعها بنظراتٍ مترجية:
-أنا مش عايز غير إنَّها تصحى وبس، قوليلها ياماما فريدة هي بتحبِّك وهتسمع منِّك.
انحنت فريدة تضمُّهُ وتزيلُ عبراته:
عيون ماما والله صدَّقني هتصحى وتقوم وتسامحَك كمان.
التفتَ إليها ونيرانُ الذنبِ تحرقُ أحشائه:
دي ميرال اللي كلَّها حيوية، إنتِ شايفة عاملة إزاي..
اقتربَ بجسدهِ منها يهمسُ لها:
افتحي عيونِك ووعدِ منِّي هسامِح ماما فريدة، ومش هقولَّها غير ماما..
شهقةٌ أخرجتها فريدة وهي تضعُ كفَّها على فمِها تنظرُ إليهِ بدموع:
ياااه لدرجة دي بتحبَّها، طيب ليه العندِ دا يابني ..
تعثَّرت الكلماتُ على شفتيهِ يهزُّ رأسهِ ولم يعد لديهِ القُدرة على الحديث، لقد أنهكت جميعَ حواسِه، وانخفضَ نبضهِ حتى شعرَ بتوقُّفهِ فأغمضَ عينيهِ بعدما فقدَ السيطرةَ على انهيارهِ يحدِّثُ نفسِه:
ضعفت وانكسَرت خلاص ياإلياس، الحب وقَّعك، وحصونَك انهارِت، فتحَ عينيهِ على صوتِ فريدة وهي تسترجيه:
قوم ناملَك ساعتين علشان تقدَر تكمِّل، بقالك أربع أيام منمتِش..
تجاهلَ حديثها واتَّجهَ بنظرهِ لزوجتهِ يداعبُ خصلاتَها وكأنَّهُ لا يوجد سواهُ بالغُرفة ..ربتت على كتفهِ بعدما شعرت بهِ ونهضت من مكانِها للخارج.
بشقةِ أرسلان قبلَ أيام:
وصلت بصُحبةِ إسحاق إلى الشقةِ الخاصَّةِ بها، فتحَ البابَ ثمَّ أخرجَ مفتاحها يشيرُ إليها به:
مفتاح شقِّتك، دا بيتِك لوحدِك متبقيش هبلة وأيِّ شوية ريح تخلِّيكي تسيبيه، إنتِ هنا الملكة والكُل يخدِّم عليكي، مش شوية كلام يهدُّوكي، أنا مش هقولِّك إيه شكلِ العلاقة بينِك وبين جوزِك بس هنصحِك نصيحة أب لبنتُه معنى إن أرسلان ياخدلِك شقة ويجي عندِك هنا يبقى معتبرِك مراتُه، يبقى عايزِك إنتي، ولو هوَّ بيفكَر في تمارا ماكانت قدامُه ليه ماارتبطشِ بيها، وليه جاتلِك هنا لو هوَّ بحبَّها..
اقتربَ خطوةً وربتَ على رأسِها بحنانٍ أبوي:
الواد متعلَّق بيكي حافظي عليه، عمرُه مااتعلَّق بحدِّ كدا..
تساقطت دُموعها وهتفت بكلماتٍ متقطِّعة:
هوَّ كان متجوِّز قبلِ كدا بنفسِ الطريقة، يعني جوازنا ماهوَّ إلَّا وقتي؟..
سكتَ هنيهةً و زفرةً حادةً أخرجها يستغفرُ ربَّه:
- أنا مش هرُّد عليكي، علشان لو رديت هرجعك بيت ابوكي للأبد، نظر إلى حزنها الذي تجلى بعينها، تنهد ثم أردف بنبرة هادئة
- أكيد محدِّش هيعرَف إذا كان بيضحك عليكي ولَّا لا..خُدي المفتاح وادخُلي جوَّا ومتفتحيش لأيِّ مخلوق،ارسلان بيحبك ودا على ضمانتي الشخصية، وعلى فِكرة تمارا سرقت منِّي المفتاح علشان كدا دخلت مش أرسلان اللي أعطاها المفتاح
يالَّه يابنتي ادخلي ربِّنا يهديكي، وأنا هكلِّمُه واعرَّفه إنِّك رجعتي لوحدِك، ومحدِّش طلب منِّك، حتى متعرَفيش حاجة عن القضية تمام؟..
أومأت له ودلفت للداخل، خرجَ يغلقُ البابَ خلفهِ وهبطَ للأسفلِ يهاتفِه:
رجعِت ولَّا لسة؟،،
اجابه على الجانب الآخر
-أنا في الطريق، لسة نازل من الطيارة، فتحَ بابَ سيارتهِ واستقلَّها:
توصل بالسلامة، مراتَك رجعت البيت، يبقى عدِّي اطَّمِن عليها، انا وقَفت قضيتَك الهبلة، هوَّ إنتَ إزاي يامتخلِّف عملتِ القضية دي، همَّا مكنشِ لمُّو الستات يالا، وإنتَ عايز ترجَّعهُم تاني بأصواتهم الشتوية..
قهقهَ أرسلان وهو يقودُ سيارتِه:
-ماأحلاه الصوت الشتوي وهو بيتكتِك من الساقعة ياإسحاقو..
أيوة يامنجِّي المهالِك ياالله، سيبَك إنتَ من أصواتِ الضفادع وقولِّي رجعت بكام عيِّل المرة دي؟..
انكمشت ملامحهِ بعبوسٍ متصنِّع:
-لا ماأنا بطَّلت نسيت أقولَّك طلع عندي عجز ومبقتشِ بخلِّف ياإسحاق..توقَّفَ بالسيارةِ مردِّدًا بذهول:
-يعني إيه، أوعى تقولِّي اللي فهمتُه صح؟..
-للأسف صح، وسلمتُه للشُرطة العسكرية، إنتَ على تواصُل بقى، لأنُّه ميعرَفنيش شخصيًا..
تمام ..انا هتصرَّف، بس نفسي أعرف إزاي الناس دي بتبيع بلدها عادي كدا..
-عادي ياعمُّو، الفلوس بتعمي النفوس.
-أووووف أخرجها متألِّمًا، ثمَّ هتف:
طمِّني لمَّا توصل..
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى منزلِه، دلفَ للداخلِ وكلَّ أعضائهِ شوقًا ولهفةً لرؤيتِها رغمَ تصنُّعهِ البرود..وجدها تغفو فوقَ الأريكة، اقتربَ بخطواتٍ هادئة، حتى لا يوقِظها، جلسَ على عقبيهِ أمامها، بسطَ كفِّهِ يمرِّرُها بهدوءٍ على وجنتيها..
فتحت عينيها مبتسمةً وكأنَّها تحلمُ به، همست اسمهِ بخفوتٍ أذابَ جبلَ جليدهِ القابعَ بصدرِه، لينحني محتضنًا ثغرها بقبلةٍ جامحةٍ خطفت أنفاسهما سويًا، لأوَّلِ مرَّةٍ يشعرُ كلاهما بتلكَ الأحاسيس، وكيف لا يشعرونَ بها وتلكَ المرَّةِ الأولى لذاكَ القربِ لتتعانقَ روحهِ بروحها ليمدَّ كفَّيهِ يحتضنُ جسدها يقرِّبُها إليهِ بحضنٍ مليئٍ بالاشتياق..
طوَّقت عنقهِ ولم تدري بأنَّ بفعلتِها تلك مازادتهُ إلَّا جنونًا واشتياقًا، ليشتدَّ حصارهِ لها وهو يحملُها بين ذراعيهِ ومازال يطوِّقُها بعشقهِ الجارف..
وصلَ بها إلى غرفتهما ليضعها بحنانٍ كأنَّها أغلى مايملك، أغمضت عينيها وارتفعت أنفاسها من هولِ الاقترابِ بينهما،
مسَّدَ بيديهِ بحنانٍ على خصلاتِها، وعينيهِ تحتضنُ عيناها بعشقٍ وكأنَّ قصةَ عشقهِ بها منذُ زمن:
وحشتيني، وعلى قدِّ ماوحشتيني هعاقبِك بس بطريقتي..
تلاحقت أنفاسُها بارتفاعِ وهبوطِ صدرِها من قُربهِ المهلِك، لم تعلم أنَّها ستضعفُ أمامهِ بهذهِ الطريقة، أينَ وعودَها التي أقسمت بها أن تُذيقهُ من الجفا ما تقدِرَ عليه..
انحنى برأسهِ مقتربًا من ثغرِها لينثرَ عليهِ عشقهِ الجارفَ فلقد أُثقلَ قلبهِ بالنبضِ ولم يعد لديهِ قوَّةَ تحمُّلِ البُعد.
همست اسمهُ بخفوت، ليرفعَ رأسهِ وعينيهِ التي أظلمت بنيرانِ عشقها الضاري، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بعدما وجدتهُ بتلكَ الحالةِ لأوَّلِ مرَّة..
انتظرَ حديثها وعيناهُ على شفتيها التي اعتبرها ملاذَ الحياةِ بعدما تذوَّقها..ارتجفَ جسدها حينما فشلت وتوقَّفت الكلماتُ على شفتيها..
نهضَ بهدوءٍ اكتسبهُ بصعوبةٍ معتدلًا واتَّجهَ إلى سجائرهِ والتقطها متَّجهًا للخارج، جلست على الفراشِ وجسدها ينتفضُ وكأنَّها تحتَ أمطارٍ رعدية..
خرجَ إلى الشرفةِ يفتحُها على مصراعيها، ليقابلهُ نسمةَ الهواءِ الباردةِ علَّها تطفئُ لهيبَ العشقِ الذي انجرفَ بداخله..
جذبَ المقعدَ وجلسَ رافعًا ساقيهِ على الجدارِ ينظرُ للخارجِ بشرودٍ يتذكَّرُها وهي بين يديه، أغمضَ عينيه حينما تذكَّرَ قبلاتهِ لها، زفرةً حارقةً برمادِ سيجارتهِ وكأنَّهُ يحرِقُها كحالِ صدرهِ المشتعل..
بالداخلِ جلست على الفراشِ تلمسُ شفتيها، ووجنتيها كتفاحٍ حانَ قطافهِ من شدَّةِ احمرارِه، شعرت بلهيبِهم لتضعَ كفَّيها عليها تهمسُ لنفسها:
-إيه اللي بيحصلِّي دا، يالهوي عليكي ياغرام ، عملتي كدا من بوسة، وفين وعودِك ياهبلة، واللهِ أنا بتِّ هبلة ومن أوِّل بوسة سلِّمت نمر، أفلتت ضحكةً تهزُّ رأسها كالمجنونة:
-دا هتعامِل معاه إزاي، يالهوي مش هقدر أبُص في وشُّه تاني، لا وفكَّرتُه مؤدب ..نهضت تُكلِّمُ نفسها:
-جنِّنتني يابنِ الجارحي، ربِّنا يصبَّرني عليك..
جذبت روبها ترتديهِ بعدما لاحظت ملابسها، له حق شايف واحدة بقميص نوم هستنى منه ايه، يقعد جنبي يقرأ القرآن
خرجت تبحثُ عنهُ وجدتهُ يجلسُ بالشرفة..اتَّجهت إلى المطبخِ وقامت بإعدادِ وجبةِ العشاء، دقائقَ وانتهت ثمَّ ذهبت إليه:
-أرسلان...أغمضَ عينيهِ من نبرةِ صوتِها الحانية، حاولَ الابتعادَ عنها حتى لا يصلَ إليها رغمًا عنها، تمنَّى أن تريدهُ كما يريدُها..ظلَّ كما هو..اقتربت منهُ تضعُ كفَّها على كتفهِ وهتفت:
أرسلان بنادي عليك، نهضَ من فوقِ المقعدِ وخطا للداخلِ دونَ أن ينظرَ إليها..تحرَّكت خلفهِ لتقبضَ على كفٍّهِ بعدما اتَّجهَ للغرفة..استدارَ يرمقُها بصمت..أشارت إلى طاولةِ الطَّعام:
جهَّزت العشا..رفع عينيهِ للمائدةِ ثمَّ أردف:
مش جعان أكلت في الطيارة، تعلَّقت بذراعهِ تنظرُ إليهِ بعتاب:
-بس أنا جعانة، وجعانة اأوي كمان ماأكلتِش بقالي كتير..قالتها بصوتٍ خافتٍ تفركُ كفَّيها وتضرَّجت وجنتيها باحمرارٍ لذيذٍ لعينيهِ المتعمِّقةِ بتفاصيلها..
رفعَ ذقنها يمرِّرُ أناملهِ على وجنتيها:
هاكُل معاكي علشان عايزِك قوية، بينَّا حساب كبير يا غرام الجارحي..
لمعت عينيها بالسعادةِ لتنظرَ لمقلتيه:
مش كافي ياأرسلان اللقب مش مكفِّيني، عايزة حاجة أهم وأقوى بكتير ..لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدِها يضمُّها بقوَّةٍ ثمَّ أجابها ونظراتهِ تحرقُ وقوفها بأحضانِه:
أكتر من قلبي ياغرام، مفتكرشِ عندي أغلى منُّه..
رفعت ذراعيها تعانقُ رقبتهِ وابتسامةً رقيقةً لتشعرهُ بقشعريرةٍ اختلجت كيانِه،لتتملَّكهُ عاطفةً قوية، مما جعلهُ ينحني لعُنقِها يدفنُ رأسِه:
المسكة دي خطيرة على صحِّتِك يامراتي الهربانة..
ارتجفت ولم يعُد لديها القوَّةَ لتحملِها ساقيها، لتستندَ بكاملِ جسدها عليه، رفعها من خصرِها وتحرَّكَ بها إلى المائدة:
تعالي ناكُل وبعدِ كدا نتحاسِب..
-لا ياجوزي لازم احاسبك الأول، علشان توصل لبيت مراتك ومتعبرهاش، ولا تأديب ياحضرة الظابط المتنكر
-اوووه، غرامي عايزة تعاتب جوزها، وكمان بعقاب
تلاعبت بزر قميصه تجذبه إليها
-أول عقاب هتروح عند بابا وتعتذر له على سوء الفهم..
اممم، وتاني عقاب ..مطت شفتيها بتفكير
-البت الصفرا دي ممنوع تكلمها تاني اصل قسم عظم...بترت القسم عندما تراجع يشير إليها
-طيب ياغرام انا مش من النوع اللي بياخد أوامره من حد، تخيلي بقى لو كانت ست
-ست..والست دي مش مراتك، اتجه إلى معطفه وارتداه
-لا مش مراتي، وخليكي مع شروطك عاقبي نفسك بيها..سلام يامراتي
توقفت مصدومة من فعلته، اتجهت إلى الفازة ثم حملتها وقامت بإلقائها عليه وصرخت به، مما جعله يستدير إليها مذهولا من فعلتها
بشركةِ مالك العمري:
دلفت برشاقتِها وابتسامتِها الجميلة:
هاي وصلت إمتى؟..
رفع عينيهِ من فوقِ جهازهِ مبتسمًا، ثمَّ أشارَ على جهازِه:
من شوية ومن وقتِ ماجيت بحاوِل أوصل لحل مع البتاع دا..
اتَّجهت إلى المقعدِ وجلست بمقابلتهِ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى تضحكُ بمشاكسة:
يعني حضرة المهندس العبقري مش عارف يتعامِل مع حتِّة جهاز آخرُه بتاع عشر سنين ياباني!..
تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ وانحصرت نظراتهِ عليها:
الكلام دا أكيد مش ليزن السوهاجي..
-واو لا متقوليش إنَّك منهم..
ضَّيقَ عينيهِ مستفسرًا:
-من مين مش فاهم؟!..
-المتكبرين...رفعَ حاجبهِ يحدجُها بنظرةٍ متهكمةٍ واستطردَ قائلًا:
وليه متُكنشِ ثقة، ليه دماغِك راحت لحتةِ الغرور؟...
مطَّت شفتيها تنقرُ بأصابِعها فوقَ المكتب:
-ممكن، بس الرَّد مايقولشِ كدا، الرَّد يقول إنُّه غرور...
نصبَ عودهِ متوقفًا، ثمَّ تحرَّكَ يجذبُ المقعدَ الذي يقابلُها وأكملَ مسترسلًا:
-حتى ولو غرور زي مابتقولي، أنا مقتنع بنفسي، فتحت فاهها لمقاطعتِه، رفعَ سبابتهِ وتابع:
مش معنى أكون واثق من نفسي يبقى مغرور، أنا عارف قُدرات نفسي كويس مش مُنتظر حد يقولِّي إنتَ مكانَك المفروض يكون فين..
تألَّقت عيناها بفخرٍ من حديثهِ ثمَّ أردفت:
-طيب المفروض أنا أكون أسعد واحدة بيك..
زوى مابينَ حاجبيهِ وطالعها بنظرةٍ مستفهمة..ارتبكت قليلًا لتتوقَّفَ قائلة:
-قصدي يعني شُغلنا مع بعض، المهم نسِّتني أنا جتلَك ليه، فيه اجتماع لمجلسِ الإدارة على الساعة اتنين الضُهر، وهيكون فيه طارق وجوز خالتو، علشان خاطري حاول تبعِد عن طارق، الاجتماع دا مابيتعملِش غير كلِّ تلات شهور تقريبًا، يعني مش هيكون فيه احتكاك...
رفعَ رأسهِ وعينيهِ مثبَّتةً عليها إلى أن تساءلت:
-مبتردش ليه؟!
توقَّفَ بمقابلتِها واقتربَ منها:
-وأنا مين علشان تُطلبي مني حاجة زي كدا، الاجتماع دا للمساهمين في الشركة يعني أنا ماليش غير كام سهم وماليش حقِّ الادارة، فارتاحي مش هنتقابِل..
كانت مشدوهةٌ مما تلفَّظَ به، فاقتربت تطالعهُ بصدمة:
-إيه اللي بتقولُه دا!!، لا طبعًا أكيد هتحضر، متنساش إنَّك طلبت تكون في الإدارة واحنا وافقنا..
تراجعَ على مقعدهِ يجذبُ سجائرهِ وأردف :
-لا دا كان الأوَّل بس حاليًا مش عايز، وقت ماأحس إنِّي أستاهل هقولِّك وأحضر..
-معقولة !!
لم يرُد ولكنهُ ظلَّ للحظاتٍ مُطيلًا بالنظرِ بها قائلًا:
-إيه الصعبِ في الِّلي قولتُه معرفش..
وليه متفاجأة كدا كأنِّي قولتِ حاجة محدِّش عملها قبلِ كدا؟،،
هزَّت رأسها قائلة؛
-لا مش قصدي، أنا بس اتفاجأت لأنَّك كنت مُصرّ..
نفثَ تبغهِ ومازالت نظراتهِ عليها، ليهتفَ بهدوء؛
-هوَّ راجح الشافعي لُه نسبة كبيرة في الشركة؟..
أومأت برأسها قائلة:
-مش أوي، هوَّ بابا مابيحبِّش الشراكة، بس خالتو اتحايلِت عليه، علشان شافت الشركة بتوسَع وأفرُعها بتزيد همَّا أقنعوا بابا واقترح عليهُم يكون فيه شراكة بعيدة عن الشركة الأُم، وكدا يكون ليهُم رصيد معانا في بعضِ الشركات بس..
-هوَّ مكنشِ ظابط إيه الِّلي خلَّاه يشتغَل في التجارة؟...
-أوووه الموضوع كبير، لمَّا تعزمني على غدا رومانسي كدا أحكيلَك.
ابتسمَ قائلًا:
غدا ورومانسي، شكلِك طمَّاعة أوي..
أفلتت ضحكةً واقتربت تستندُ على المكتب:
-أوي أوي ياحضرةِ المهندس، عاجبَك ولَّا لأ..أومأَ ضاحكًا ثمَّ أشارَ بسبباتِه:
خلِّي بالِك إنتِ بتطمعي كتير، والطمع عندي وحش..
قهقهت بصوتٍ مرتفعٍ تهزُّ رأسها حتى تحرَّكت خصلاتَها بصورةٍ ملفتةٍ فكانت بريقًا لعينيهِ التي جذبت براءتها ولكن ذهبَ ببصرهِ إلى ثيابها المكشوفةِ إلى حدٍّ ما ليكشفَ بعضًا من صدرِها، نهضَ من مكانهِ وتحمحمَ بالحديثِ معتذرًا:
-طيِّب روحي كمِّلي شُغلِك، علشان عندي شوية شُغل أخلَّصهُم وأنزِل لإيمان عندنا ميعاد مُهم..
أومأت بعدما وجدت تغيُّرَ ملامحِه:
-تمام همشي دلوقتي وبعدين نتكلِّم..استدارَ للمقعدِ ولم يكترث لبقيةِ حديثها..
جلسَ وأخرجَ زفرةً قوِّيةً بعدما شعرَ بانحباسِ الهواءِ بصدرِه، أطبقَ على جفنيهِ يهمسُ لنفسِه:
فوق دي مش سِكِّتَك، أهبل تتجوِّز واحدة زي دي ..مسحَ على وجههِ مستغفرًا ربِّه، ثمَّ اتَّجهَ إلى جهازهِ ليُنهي عملِه..
بالجامعةِ وخاصَّةً كليةِ الطُّب:
خرجت من القاعةِ تبحثُ عن صديقتها خديجة، استمعت إلى صوتِ أحدهم:
دكتورة إيلين..
استدارت لمصدرِ الصوتِ وجدتهُ أحدِ زملائها بنفسِ الفرقة، اقتربَ منها مبتسمًا:
إزيك..أومأت لهُ دونَ حديث، حمحمَ بعدما شعرَ بارتباكِه، ضيَّقت عينيها تنظرُ إليهِ بغرابةٍ ثمَّ تساءلت:
-فيه حاجة يامعتز؟..
أومأَ محاولًا الحفاظَ على ثباتهِ أمامها:
أيوة ..قصدي كنت محتاج منِّك كشكول لمحاضرة دكتور الباثولوجي..
تراجعت تُطالِعهُ بذهولٍ قائلة:
أنا بسجِّل مابكتِبش، ومُعظم الطلبة كدا، على العموم ممكن تشوف حدِّ لسة بيكتب بعدِ إذنَك..
تحرَّكت لبعضِ الخُطواتِ إلَّا أنَّهُ صاحَ باسمِها دونَ ألقاب بخروجِ آدم من مكتبِه:
إيلين استني، التفتت إليهِ ممتعضةً تهمسُ لنفسِها؛
-وبعدهالَك بقى، قالتها منتظرةً حديثِه، اقتربَ منها وحاولَ أن يتحدَّثَ معها قائلًا:
-طيِّب ممكن مُسجِّل المحاضرات..
فتحت فاهها للردِّ ولكن أوقفها صوتهِ بالخلف:
-فيه إيه واقفين كدا ليه، توترَ صديقها فتراجعَ قائلًا:
-أبدًا كنت بس..قاطعتهُ ايلين وهي تُخرجُ من حقيبتِها مسجِّلَ محاضراتها:
ولا يهمَّك ياعصام اتفضل خُد ولو محتاج حاجة تانية أنا موجودة..
لمعت عيناهُ بابتسامةٍ وهو يجذبُ منها مسجِّلِها ثمَّ تحرَّكَ مغادرًا بعدما استأذن..
أطبقَ على ذراعيها بعنفٍ يضغطُ عليها وجرَّها إلى مكتبهِ وهي تنظرُ حولها بفزعٍ خوفًا من نظراتِ الطُّلاب..
أغلقَ البابَ بقدمهِ ثمَّ دفعها بقوَّةٍ لتتراجعَ للخلفِ بدقَّاتٍ عنيفةٍ تطالعهُ بذهول..ابتلعت ريقها بصعوبةٍ وهي ترى ملامحهِ المتجهِّمة، اقتربَ منها يرمُقها بسهامٍ ناريةٍ إلى أن وصلَ إليها
وأمسكها بقوَّةٍ من ذراعها:
إنتِ عايزة توصلي لإيه، إيه..رُدِّي، فيه واحدة متجوِّزة و مُحترمة توقَف تضحك مع شاب كدا.،
دفعتهُ بقوَّةٍ وهدرت بحدَّة:
-أنا مش متجوِّزة، ولو جبتِ سيرةِ الجواز تاني هطَّلق منَّك.. أوعى تفكَّر إنَّك ذلِلني بجوازَك منِّي، أنا عندي نار مرات أبويا ولا جنِّة غدَّار وخاين زيَّك، شدَّك ليَّا بالطريقةِ الهمجيةِ دي مش هنسهالَك يادكتور، افتكِر إنَّك شدِّتني ودخَّلتني هنا وكأنِّي مغلوبة على أمري بجوازَك، لا..فوق أنا اللي باخُد قرارات نفسي، ومهما تكون مكانتَك عندي، هيفضَل بينا سد..
قالتها ودفعتهُ بقوَّةٍ ليتراجعَ بجسدهِ من شدَّةِ دفعِها وتحرَّكت للخارجِ تصفعُ البابَ خلفها..
توقَّفت بالخارجِ تحاولُ أن تُسيطرَ على أنفاسِها المرتفعةِ التي جعلت صدرها يعلو ويهبِطُ كالمضخَّة ..تحرَّكت بعدما استعادت قوَّتها واتَّجهت إلى منزلِها
وصلت بعدَ قليل ..دلفت إلى زين بعد الاستئذان:
عايزة أتكلِّم مع حضرتَك شوية..نهضَ من مكانهِ سريعًا يفتحُ ذراعيهِ إليها:
أخيرًا رضيتي على خالِك ياإيلين،
توقَّفت لبعضِ اللحظاتِ تنظرُ إلى ذراعيهِ وهناكَ صراعٌ بينَ عقلها الذي يُخبرُها أنَّهُ أحدُ من شاركَ بكسرِ قلبِها وبين قلبَها الذي يعطيهِ العذرَ لانَّهُ يعلمُ مدى حبَّها لابنه، اقتربت وألقت نفسها بأحضانهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة:
أنا تعبانة ياخالو عايزة أموت وأرتاح، ضمَّها يمسِّدُ على خصلاتِها وردَّدَ بنبرةٍ حزينة:
-بعدِ الشَّرِ عليكي يابنتي، ليه بتقولي كدا...رفعت عينيها الباكيةَ إليه:
ليه الدنيا ظلماني ياخالو، هوَّ ربِّنا بيكرهني أوي كدا، أوَّل حاجة أخد أمُّي اللي مالحقتِش أشبع من حُضنها وبعد كدا إدَّاني مرات أب كلِّ همَّها تقتِل روحي وأب ضعيف ماشي وراها، وفي الآخِر خذلان من حبيب أمِّنتُه على قلبي سنين وفي الآخِر جاي يقولِّي أصلي عشت حياتي، طيِّب وأنا، أنا حياتي فين ياخالو، طيِّب أعمِل إيه علشان ربِّنا يحبِّني، طيِّب أعمِل ايه علشان أموت وأرتاح من غير ماأزعِلُه.،
احتضنَ وجهها يزيلُ دموعها وأردفَ بيقين:
-استغفري ربِّنا حبيبتي، مفيش حاجة اسمها ربنِّا بيكرهني فيه قدر ولازم نؤمن بيه، مش إنتِ مؤمنة بربنا وعارفة أكيد أنُّه عندُه الأحسن والأحسن، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكُم، مش يمكن فيه حكمة في حياتِك وعبرة، لازم تصبري وتيقَّني إنِّ ربِّنا أحنِّ عليكي من أيِّ مخلوق..
كان واقفًا بالخارجِ يستمعُ إلى حديثها الذي اشعرَه بانشطارِ قلبهِ بعيدًا عن جسدِه، دقائقَ ظلَّت تبكي بانهيارٍ بأحضانِ خالها إلى أن اقتحمَ البابَ ودلفَ للداخلِ ينظرُ إليها بعيونٍ مليئةٍ بالندمِ تطلبُ الغُفران...
إيلين عايز أتكلِّم معاكي..مسحت دموعها ثمَّ أمالت تحملُ حقيبتها وأردفت بنبرةٍ مُفعمةٍ بالبُكاء:
-وأنا مش عايزة أتكلِّم معاك، ومن اللحظة دي ياتنزِل إنتَ تحت ياأنزِل أنا، مستحيل مكان يجمعنا تاني..استدارت إلى زين واستطردت بنبرةٍ لا تحيدُ للجدال:
لو ماعملشِ الِّلي قولتُه هسيب الدنيا كلَّها وأمشي ومش هتعرفوا مكاني ...قالتها وصعدت للأعلى...
بالمشفى عندَ إلياس:
مرَّ أسبوعين والحالُ كما هو، ميرال التي دخلت بغيبوبةٍ منذُ أكثرَ من أسبوعين رافضةً الحياة، وهو الذي اتَّخذَ جوارها سكنهِ الطاغي، ووعدهِ ألَّا يترَكها سوى أن تعودَ روحهِ بروحها ..أنهى قراءةَ بعضَ الآياتِ القرآنية، ثمَّ اتَّجهَ يضعُ أشيائهِ بمكانِها، شعرَ بألمٍ بعظامِه، فاتَّجهَ إلى المقعدِ وجلسَ عليهِ بجوارِها، ليُجذبَ مقعدًا آخر يفردُ ساقيهِ عليها، استندَ برأسهِ على فراشها وأغلقَ عينيهِ ليذهبَ بنومهِ بسببِ إجهاده، دلفَ والدهِ إليهِ في محاولةٍ منهُ أن يذهبَ للمنزلِ أو لغرفةٍ يريحُ جسدهِ الذي ظهرَ عليهِ الإرهاقَ والشحوب..
توقَّفَ بجوارِه وجدهُ مستغرقًا بنومِه، انحنى يطبعُ قبلةً على جبينِ ميرال يمسِّدُ على خصلاتِها:
كدا ياميرال إلياس هان عليكي، فوقي بقى يابنتي متعمليش فينا كدا، أمِّك هتموت عليكي، افتحي عيونِك وشوفي جوزِك اللي كان بيقول جوازِك منُّه عادي زي أيِّ جواز .. رفعَ رأسهِ إلى ابنهِ الذي لم يشعُر بشيئٍ رغمَ نومهِ الخفيف، إلَّا أنَّ إنهاكَ جسدهِ جعلهُ كالجثَّة، ذهبَ ببصرهِ لجاكيتهِ، فتحرَّكَ يجذبهُ يضعهُ فوقَ أكتافهِ ثمَّ تحرَّكَ للخارج، بدخولِ غادة، أوقفها مصطفى:
لو أخوكي صحي حاولي معاه ينام شوية على السرير، أو ياكُل حاجة..
أومأت لهُ وخطت للداخِل، تنظرُ إليهما بألمٍ شطرَ قلبها، لاحظت حركةَ أناملَ ميرال..ظلَّت تنظرُ بتعمُّقٍ لعدَّةِ لحظاتٍ حتى تتأكد..حرَّكت أناملَها مرَّةً أخرى فشهِقت تصرُخ، حتى هبَّ فزعًا من نومهِ ينظرُ إليها ..صفَّقت بيديها تشيرُ إلى ميرال:
-ميرال فاقت، فاقت ياإلياس.
اتَّجهَ ببصرهِ إليها سريعًا وجدها كما هي، ثمَّ رمقَ أختهِ بنظراتٍ متألِّمة:
-ليه تعملي معايا كدا ..أطبقت على ذراعيهِ تشيرُ إليها بدموع:
-واللهِ حرَّكِت إيدها، قالتها وهي تضغطُ على زرِّ التنبيهِ لتصلَ الممرضةُ بلحظات.. أشارت على ميرال:
فاقت ..دكتور يطمِّنا، أمَّا هو توقَّفَ بأنفاسٍ مرتفعةٍ ينظُرُ إلى جسدها بلهفةٍ ليطمئِنَّ قلبهِ من حديثِ أختِه، دقيقةً إلى أن حرَّكت شفتيها تهمسُ بخفوتٍ
وصوتٍ واهنٍ اسمِه..
هنا فاقَ الألمُ حدودَ الوصفِ حتى فقدَ مقدرتهِ على الوقوف ...
استندَ بذراعيهِ على فراشها يحاوطُها بهما وعينيهِ تخترقُ جسدها بالكامل:
حبيبتي افتحي عيونِك، وصلَ الطبيبُ قائلًا:
-ممكن أفحصها، تراجعَ بخطواتهِ وعينيهِ مازالت على عينيها المنغلقة، انتهى الطبيبُ من فحصِها، فرفعَ برأسهِ إليه:
-فاقت الحمدُ للهِ خلالَ دقايق ووعيها هيرجَع لها بالكامل..
هيَّ كويسة..قالها بثقلِ أنفاسه ..
أومأَ ومازالَ ينظرُ إلى الملفِّ الخاصِّ بها، ثمَّ اتَّجهَ إليه:
-كويسة إن شاءالله، سلامتها
قالها الطبيبُ وتحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر ..أمَّا هو فاستندَ على الجدارِ وعينيهِ تراقبُ جسدها بالكامل، وصلت فريدة ومصطفى، مع حركةِ أناملَها وهمسِها باسمه، لم يشعر بدمعتهِ التي انزلقت رغمًا عنهُ وهو يستمعُ إلى همسِها باسمِه، بأنفاسًا غير منتظمة تراجع خطوة للوراء، بعدما شعر بقشعريرة تسري بكامل جسده وعدم سيطرته على ذاته استدارَ متحرِّكًا للخارجِ بعدما استمعَ إلى فريدة:
أخيرًا ياقلبي فتَّحتي عيونِك الجميلة، ربِّنا مايحرمني منهُم يارب...قالتها وانحنت تقبِّلُ جبينها ..التفتت غادة بفرحةٍ ظنًّا أنَّهُ مازالَ مكانهِ ولكنَّها تساءلت:
إلياس مشي ولَّا ايه؟!..
التفتت فريدة تبحثُ عنهُ ثمَّ استدارت على ميرال التي ترفرفُ بعينيها وتُغلِقُها بسببِ الضوءِ الذي يُعيقُ فتحَ عينيها بالكامل ...مرَّت دقائقُ معدودةً حتى استعادت وعيها بالكامل..خرجَ الجميعُ بعدما اطمئنَّت قلوبهم، بحثت عنهُ بعينيها ولم تجدُه، أغلقت عينيها قهرًا ظنَّا أنَّهُ مع عروسِه...بعدَ قليلٍ تمَّ نقلِها إلى غرفةٍ عادية، وبدأ الجميعُ يحاوِطونها بالاشتياق، والدعاءِ بالشفاء..
لم تتفوَّه بشيئٍ، نظراتٍ فقط للجميع، خرجَ الجميعُ سوى فريدة التي جلست بجوارِها تحتضنُ كفَّيها:
-كدا ياميرو تموِّتي مامتِك عليكي، فيه حد يعمِل اللي إنتِ عملتيه، عايزة تغضبي ربِّنا وتموتي كافرة يابنتي، دا ايمانِك بربنا..
أطبقت على جفنيها متذكِّرةً ماصار، ودموعها انسابت على وجنتيها حتى ارتفعَ بكاؤها كلما تذكرت أنه مع أخرى غيرها، ارتجف جسدها من بكاؤها مما جعلها تشعرُ بآلامِ جراحِها، ربتت فريدة على كفِّها، وحاولت تهدَئتها:
-خلاص اهدي حبيبة مامي كلُّه عدَّى، والحمدُللهِ إنِّك بخير، المهم تكوني كويسة، بطَّلي عياط، عايزة أقولِّك إلياس هيموت من الحزنِ عليكي..
تركت كفَّ فريدة وأغمضت عينيها ظنًّا أنَّ فريدة تكذبُ عليها..شعرت بقبضة حادة تسحق قلبها الذي مازال ينبض له رغم خيانته
مسَّدت على خصلاتها تطالِعُها بحزن:
حبيبتي زعلانة ليه، ليه مابتتكلِّميش؟..
ظلَّت كما هي ولم تتحدَّث..
تنهَّدت بحزنٍ عليها، هي تعلمُ أنَّ إلياس خطأهُ شنيع، وتعلمُ أنَّ ميرال لا تغفرُ له ..ظلَّت لدقائقَ حتى ذهبت بنومِها مع وصولِ إلياس، نهضت تنظرُ إليهِ بعتاب:
-ينفَع تسيبها وتمشي فجأة، اقتربَ وانحنى يطبعُ قبلةً فوقَ جبينها قائلًا:
-كنت في مشوار مهمّ، كان لازم أحمِد ربِّنا أنُّه رجعهالي...قالها وأناملهِ تتحرَّكُ بحريةٍ على وجهها:
ربتت فريدة على ظهرِه:
-خلِّيك جنبها من وقتِ مافاقِت مانطقتشِ بحرف..
أومأَ لها فتحرَّكت للخارج، ليرفعَ كفَّيها يلثمُهما:
-حمدَالله على السلامة..اقتربَ بالمقعدِ منها يخلِّلُ أناملهِ بخصلاتِها، ذهبَ ببصرهِ إلى ثغرِها الذي بهت لونه، تنهد بمرارة فمازالت جروحها تحرقُ روحه، وهو يتذكَّرُ أنَّهُ السببَ فيما صارَ لها..
دنا يهمسُ بجوارِ أذنِها:
-وحشتيني افتحي عيونِك بقى..رفرفت بأهدابِها وكأنَّه يروادُ أحلامها، لتنسابَ عبرةً على وجنتيها..
كوَّرَ قبضتهِ وشعر كأنه عصفور مبتل توقف على اوتار كهربائية، لتشحب روحه وتتعرى بآلام الندم، أطلق زفرة قوية من آلامه المعتصرة، تمنى أن يزهق الله روحه من شدة شعوره القاسي بما فعله بها، نهضَ ونزعَ جاكيتَ بذلتِه، ثمَّ تمدَّدَ بجوارِها على الفراشِ يسحبُها بهدوءٍ حتى لا يصيبُها بأذى..وضعَ رأسهِا بصدرِه، ولفَّ ذراعهِ على جسدِها يودُّ لو يحطِّمُ ضلوعهِ بها ..فتحت عينيها بعدما شعرت بألمٍ من ضغطةِ ذراعيه..
وجدت نفسها بأحضانهِ من رائحتهِ التي تسلَّلت لرئتيها ..،دفنت رأسها لدقائق تسكب ألمها بين احضانه، حتى يشعر بها، حاولت الابتعادَ ولكن شعرت بصعوبة، حاولت أن تعتدلَ على جنبِها ولكنَّها لم تقو، تعالت أنفاسها لعجزها عن الابتعاد عنه، شعر بأنفاسِها رفعَ رأسَها لتُصبحَ بمقابلتِه..
تقابلت العيونُ بكثيرٍ من الحديث، رمقها بحديث عيونه المعذبة بما جنته يداه
-حبيبتي فلتغفري لي، فأني والله تالله فأني أشعر وكأنني أغرق في لجة باردة والظلام يحاوطني بلاكي، فأنتِ النور والنبض والدفى، فلتغفري لحبيبك الذي ضعف لشيطان الهوى،كالغَيثِ أنتَ قليلٌ منْكَ يكفينِي هواكَ يَسكنُ في جَنبَيَّ فيحييني
طالعته بحزن وتحدثت عيناها
-وعدت بكل برود وكل غباء بإحراق روحي ولقد فعلتها، وأعلنت الحرب على نبض قلبي الذي لم ينبض الا لمعذبه، حتى توقف النبض ولم يشعر بأنك سوى كنت فرضًا وضع على كتفي ورغم ثقله إلا أنني تحملته، فتحملت الكثير والكثير، فلا تطلب مني العفو والمغفر، فلست بصدّيقًا صديق الرسولِ
ولست برسولًا أن يغفر لمن قتله حيًا والان يقف بين يده يطلب العفو عند المقدرة
كأنه علم بما تحدثت به عيناها، ليمرر أنامله على وجهها:
-هتسامحي ياميرال متأكد حبنا هيتغلب على وجعنا
أغمضت عينيها لتبتعدَ عن مرمى بصره، فيكفي ماتشعر به من آلام تنخر عظامها، ولكنَّهُ لم يتحمَّل ما فعلتُه، ليدنو منها يحتضنُ ثغرها ينثرُ عليهِ عشقهِ وكأنَّهُ يضعُ بهِ كلَّ ماشعرَ به من فقدانها تلكَ الفترةِ العصيبةِ التي مرَّت عليهما، تركتهُ يفعلُ ما يحلو لهُ بعدما فقدت السيطرة، ظلَّ لدقائقَ يقبِّلُها بجنونِ عاشقٍ حدَّ الثمالةِ إلى أن شعرَ ببرودها وصمتها الذي أحرقُه..
-ميرال...لم تُبدي لصوتهِ أيَّ شعور، بل ظلَّت باردةً وكأنَّها لم تكن معهُ بالغُرفة..رفعَ ذقنها مبتلعًا غصَّةَ أوجاعه:
ليه عملتي كدا، ينفَع تبقي مُسلمة وتنتحري ..مسَّدَ على وجنتيها وعينيهِ مازالت تحاورُها بالكثيرِ من الأسفِ ورغمَ حزنهِ على حالتها إلّّا أنَّهُ يشعرُ بسعادةٍ بداخلِه، ولما لا ومعشوقةُ روحهِ بين يديه، لم ينقصْهُ سوى أن يرويها من ترانيمِ عشقه..
استندَ بجبينهِ على جبينها وآااه حارَّة عاشقة وهو يملِّسُ على وجنتيها:
طلعتي أغلى من روحي ياميرو، كنت هموت لو حصلِّك حاجة..رفعَ ذقنها ينظرُ لسوادِ عينيها مقتربًا من خاصَّتِها:
بحبِّك وبموت فيكي ..أطبقت على جفنيها فيكفي ما تشعرُ بهِ من تقطُّعِ قلبها على ماتوصَّلت إليه، رُغمَ اعترافهِ القويّ بالعشقِ إلَّا أنَّها مازالت تحملُ من الغصَّاتِ مايحرِقُهما..قبلةً خاطفةً لتفتحَ عينيها بعدما أغمضتهُما أمامهِ للمرَّةِ الثانية، وحاوطَهُما بكفٍّ والآخرُ بخصلاتِها تداعبها، وحاول أن تثور أو تصرخ به، ظلت عيناه متعمقة بعيناها فأردف قائلًا:
-ماهو مش هفضل اكلم نفسي كدا، ردي عليا، مش هسامحِك على فكرة، ازاي قدرتي تعملي كدا، نهضَ وانحنى بجسدهِ يحاوطُها بذراعيه:
-اللي أنقذِك منِّي إصابتِك، بس خفِّي وشوفي هعمل معاكي إيه..
اقترب من وجهها وتعمَّقَ بعينيها قائلًا:
-إنتِ هتفضلي ساكتة كدا وحرماني من صوتِك ..
ظلَّت نظراتٌ دونَ حديث، وكأنَّها تُعاقبَهُ بأشد انواع العقاب،
مسَّدَ على شعرها ورسمَ ابتسامةً رغمَ حزنِه:
-طيب ياستي مش مُهمّ، المُهمّ تكوني كويسة، خُدي راحتِك..أغمضت عينيها لتذهبَ بنومِها، مُرحِّبةً به لتبتعدَ عن نظراتهِ المشفقةِ لقلبها.
مرَّت عدَّةِ أيامٍ أخرى والوضعُ كما هو، حاولَ الطبيبُ الحديثَ معها ولكنَّها منعت الحديث، تمزَّقَ قلبهِ من قلَّةِ حيلتهِ وثباتهِ أمامها بألَّا يُحزِنُها، فحُبَّها أصابَ القلبُ والعقل، يجري بعروقهِ مجرى الدَّم، ونظراتَها العتابيةِ تغتالُ نبضهِ الهادرَ بين ضلوعِه..
مرَّت عدَّةَ أيامٍ خلف أيامٍ إلى أن وصلت لشهر كاملًا، بعد افاقتها، ظلت كما هي، لم تتفوه مع احدٍ بحرف، جلب إليها العديد من الأطباء الذين أكدوا ماهو سوى حالة نفسية، ساءَ وضعهِ وبدأَ يُخرجُ عصبيتهِ على الجميع، حتى فقدَ تماسُكهِ بالجلوسِ بجوارِها تلكَ الفترة، وحاول الابتعاد عنها لبعض الوقت كي لا يحزنها أكثر من ذلك
خرجَ من المشفى وحالهِ كحالِ المُغتربِ الذي فقدَ وطنهِ ولم يَعُد لديهِ قوَّةً للعودةِ إليه، ظلَّ يتنقَّلُ بسيارتهِ بشوارعِ القاهرةِ دونَ هدى، واغتيالًا عنيفًا يخفقُ لقلبهِ بالوصولِ إليها، أصبحت روحهِ تأنُّ بألمٍ لم يتحمَّلُه، فاتَّجهَ مرة أخرى إليها
بعدَ فترةٍ وصلَ إلى المشفى وفتحَ بابَ الغُرفةِ وهو يحملُ باقةً من الزهورِ الحمراءِ التي تعشقها، ولكنَّهُ توقَّفَ متسمِّرًا حينما وجدَ فراشها فارغًا، ويُوضعُ عليهِ تلكَ الرسالة...
"أتعلمون أكثر مايؤلم الروح: هو أن يجرحك من كان أغلى من نفسك، فمؤلم جدًا أن تجد نفسك بين قلبٍ متحطم بيدي شخص عشقته حد الجنون، وبين ذاك الشخص الذي مازال ينزف من روحك المستميتة"
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
أما القلب فهو مُتعب ، وأما الخاطر فهو مكسور ، وأما الروح ما عادت تشتهي شيء .!
وليشهد الله…
أني بذلتُ حتى ذبلت💔
وإني تغاضيتُ حتى سئمت..
وتمسكتُ بالحبال حتى تجرحت يدي💔
وإني صنتُ الوّد …
حتى نفاذ السبعين عُذرا
"هذَا أنَا..
لَا تخلُوا مِنِّي مَعركَة،
سَتجدُنِي أُقاتِل ولَو بِحُطام قلبِي، ثُمَ أَجمعُ أشلَاء أحلَامي وأقُولُ: لَا بَأس،
والبَأسُ كلهُ ' فِي قَلبي..!"
دلفَ لداخلِ الغرفةِ يبحثُ عنها، وقعت عينيهِ على تلكَ الورقة، أمسكها وبدأ يقرأُ ماتحتويه:
سلامُ اللهِ على من لايزالُ ينبضُ لهُ القلبُ رغمَ جروحِه..
سلامُ اللهِ على من غزا القلبَ وسكنه..
سلامُ اللهِ على من حطَّمَ قلبي وأذاقهُ من آلامهِ ما كفى ..أمَّا بعد:
وعدتَ بكلِّ برودٍ ووفيِّت، فسابقًا كانَ قلبي خاليًا من الآلامِ والآنَ يشقُّهُ كلَّ الآلام..عشقتُكَ بكلِّ اللغاتِ لتقدِّمهُ كلَّ معاجمَ العشقِ لمعاني الهوى ويتهادى بها العاشقينَ ويترنَّمُ بها العازفين، ولكن ماذا قدَّمت، قدَّمتَ لي قلبًا محفورًا بالثُقوب، اللعنةُ عليك َوعلى عشقكَ الذي شقَّ الصدر، وملأَ العيونَ بالدموع.،
اللعنةُ على عشقٍ أسودٍ تنفجرُ منهُ براكينُ الأسى والندم ويقتلهُ الشوقُ ويمزِّقهُ البعدَ حتى جعلني أحنُّ لماضي كان قلبي خالٍ من نبضٍ يحملُ اسمك..
"إلياس أنا مبقتشِ عايزاك، إنساني وعيش حياتَك زي ماقرَّرت، لا عمري هسامحَك، ولا عمرَك هتغفرلي، نعم عشت معاك أجمل أيام حياتي، ولكنَّك مسحت أجملها وتركت أسوأها في قلبي، أنا خرجت وللأبد..كان لازم أعرف من الأوِّل مش إنتَ الشخص اللي أقدر أقدِّم لهُ قلبي، كنت بسامحَك علشان بحبِّك، بس خلاص قلبي مات ومبقاش فيه اللي يغفرلَك، متحاولشِ تدوَّر عليَّا، أصلًا هريَّحك، ماما مالهاش دعوة ياريت تبعدها عن خلافنا
"ميرال".
كوَّرَ الورقةَ بكفِّه، حتى كادت أن تتمزَّقَ بيدِه، لحظات يشعر وكأن الغرفة تطبق على صدره حتى انقطع تنفسه، اغمض عيناه محاولًا سحب نفسًا عميقًا، ثمَّ وضعها بجيبهِ وتحرَّكَ للخارج، رفعَ هاتفِه:
-إزاي مدام ميرال خرجت من المستشفى..أجابهُ الرجل:
-مفيش حد خرج يافندم..
-سلِّم سلاحَك لرئيسَك، مش عايز أشوف وشَّك..قالها ودلفَ إلى أمنِ المشفى:
-فين الكاميرات بتاعة الدُّخول والخروج يابني..قالها وهو يشيرُ ببطاقةِ عملِه..فُتحت جميعَ الكاميراتِ ينظرُ إليها بوجهٍ متجهِّم وعيونًا تُطلقُ نيرانًا،
لحظاتٍ وكأنَّهُ فوقَ صفيحٍ ساخنٍ حتى ظهرت أمامهِ وهي تخرجُ من بابِ المشفى تضعُ فوقَ أكتافِها وشاحًا أبيضًا وبيدِها حقيبةٌ صغيرة، قرَّبَ الحقيبةَ إليهِ وظلَّ ينظرُ إليها ..طرقَ على سطحِ المكتبِ بقوَّةٍ ثمَّ دفعهُ ليتساقطَ مافوقهِ من أجهزة، وتحرَّكُ للخارجِ سريعًا كالذي يطاردُ عدوَّه، وصلَ بعدَ قليلٍ إلى مكتبهِ وجمعَ من هم تحتَ إشرافِه:
-عايز العربية دي من تحتِ الأرض، قالها وأشارَ لهم بالخروج..
استمعَ إلى رنينِ هاتفِه:
-أيوة ..إلياس ميرال معاك، مش موجودة في أوضتها؟!..
-ارجعي على البيت وإن شاءَالله بالليل هترجَع..قالها وأغلقَ الهاتف..
احتضنَ رأسهِ يتذكَّرُ كلماتَها التي صفعتهُ دونَ رحمة، مرَّ أكثرُ من ساعتينِ والوضعُ كما هو ..إلى أن فقدَ أعصابهِ فتوقَّفَ يجمعُ أشيائهِ وتحرَّكَ للخارج ..وصلَ بعدَ قليلٍ إلى المنزل، قابلتهُ فريدة:
-فين ميرال ياإلياس..قالتها بوصولِ مصطفى يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-مالكُم واقفين كدا ليه؟!..
-المدام مشيِت، مراتي سابتني ومشيت، إيه رأيكوا..
شهقةٌ خرجت من فمِ فريدة تهزُّ رأسها رافضةً حديثِه:
-يعني إيه مشيِت، لا، مستحيل بنتي متعملشِ كدا..
-وأهي عملِت، كنتي زعلانة، كأنَّها بتعيد الماضي ايه مش دي أفعال أمَّها..
إلياس اتجنِّنت..قالها مصطفى بغضب، ولكنهُ لم يهتمّ لوالدِه:
-إيه يامدام فريدة مش دي بنتِك، زمان حضرتِك عملتيها ودلوقتي بنتِك بتكرَّر فعلتِك، بس أنا مش هرحمها..
دفعهُ والدهِ بعيدًا عن فريدة التي ظلَّت تردِّدُ بهذيانٍ ولسانٍ ثقيل:
-إنتَ متعرفشِ حاجة، أنا غير ميرال، كان لازم أهرب منُّه..قالتها ببكاءٍ حتى شعرت بضعفِ جسدِها، فتراجعت للخلفِ بساقينِ هُلاميتينِ تُطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيها..اتَّجهَ مصطفى إليها يضمُّها وهتفَ غاضبًا:
-كفاية بقى ياحضرةِ الظابطِ الذَّكي، لحدِّ إمتى هتفضَل أعمى البصر والبصيرة، حاولت أفهِّمَك مليون مرَّة ولكن الباشا أصدر الحُكم حتى مرجعشِ للقاضي، اسمعني بقى ياإلياس باشا علشان من حُكمك الغلط، الستِّ دي اتظلمِت كتير، وأنا مش هسكُت على إهانتَك ليها تاني، هربت آه هربت، هربت من ظالم وجبروت، اقتربَ مصطفى منهُ وغرزَ عينيهِ بمقلتيه:
-أظُن أبوك مش غبي علشان يعرَف يحكُم على الناس، كنت مُنتظِر منها إيه بعدِ ماخطفوا ولادها، كنت مستنِّي إيه منها إيه لمَّا واحد واطي يتجوِّزها بالتهديد و..
-مصطفى خلاص اسكت..قالتها فريدة بعدما هوت على الأرضيةٍ تبكي بنحيب:
-أنا مظلومة يابني، وميرال عملِت كدا من وجعَك فيها، رفعت عينيها إليه..
ولو مش مصدَّق يبقى نصيبَك أمَّك ومراتَك كدا ولازم تتحمِّلُهم..
رمشَ بعينيهِ قليلًا محاولًا استيعابَ ماألقتْه، استدارَ بأنفاسٍ مُتسارعةٍ بعدما حاوطها مصطفى وأوقفها متَّجهًا بها إلى غُرفتها..
ساعدها في النومِ ثمَّ دثَّرها بالغطاءِ جيدًا..ظلَّت تُهمهم:
-ميرال ..رجَّعلي ميرال يامصطفى، شوفوا قالَّها إيه خلَّاها تمشي.
-اهدي علشان ضغطِك، فريدة مش عايزِك تتعبي حبيبتي، هتكلِّم معاه، بس إنتِ اهدي..
بغرفتهِ جلسَ على مقعدهِ الهزَّاز كحالِ قلبِه، ينظرُ بشرودٍ بأرجاءِ الغرفةِ كالذي يبحثُ عن شيئٍ مفقود، أطبقَ على جفنيهِ مكوِّرًا قبضتهِ حتى نفرت عروقهِ بشكلٍ مخيف، يهمسُ لنفسِه:
-مش هرحمِك صدَّقيني، أنا مراتي تهرَب منِّي، ظلَّ لدقائق، دلفَ مصطفى إليهِ وجدهُ شاردًا حتى لم يشعر بدخولِه..جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتِه:
-عجبَك حالَك كدا؟..
-مالُه حالي، صعبان عليك ولَّا مضَّايق منِّي..جذبَ المقعدَ واقتربَ منه:
-فاكر قولتلَك إيه من عشرين سنة، نهضَ من مكانهِ مبتعدًا بنظراته؛
-مُش فاكر ومش عايز افتكِر، توقَّفَ مصطفى يُطبقُ على ذراعِه:
-يابني حرام عليك هنرجع نكرَّر الكلام ونزعل من بعض..
التفتَ لوالدِه:
-مدام فريدة إزاي ولادها اتخطَفوا؟..
صدَّقتها يابابا، أنا زمان أثبتِّلَك إدانِتها ومضطَّر برضو تحاول تطلَّعني غلط..
-علشان إنتَ غلط ياإلياس، فريدة فعلًا مظلومة، ولادْها اتخطفوا يابني مش بعتْهُم..
- بابا أنا رُحت هناك غير الراجل اللي بعتُّه، مش معقول البلد كلَّها ظلماها..
-طيِّب ياإلياس ..تفتكِر ليه فريدة هتكذب عليَّا وكدا كدا أنا اتجوِّزتها، يعني مش فارق معاها أصدَّق ولَّا لأ؟..
-بابا أنا دلوقتي بدوَّر على مراتي اللي خرجت من المستشفى تعبانة ومعرفشِ عنها حاجة، مدام فريدة متهمِّنيش..
انكمشت ملامحهِ وأردفَ بامتعاض:
-فريدة تعبانة ياإلياس، وممكن في أيِّ وقت أخسرها، بلاش تقسى عليها يابني علشان متجيش في وقت تندم..
-تعبانة!..إزاي تعبانة مالها يعني؟..
-يهمَّك؟..نظرَ إليهِ بنظراتٍ حزينة:
-أكيد يابابا يهمِّني، متنساش إنَّها كانت درع حماية لأخواتي في وقتِ من الأوقات، ومهما ..رفعَ كفَّيهِ ليوقَّفه عن الحديث:
-مش عايزَك تكمِّل الأسطوانة الِّلي حفِظها، المهمّ خلِّي بالَك من كلامَك معاها، كفاية خسرِت غادة مش عايز أخسر فريدة ..قالها وتحرَّكَ للخارج..
ظلَّ متوقَِفًا لدقائقَ ينظرُ إلى سرابِ والدِه، دقائقَ ولم يشعر كم مرَّ عليهِ من الوقتِ لتسوقهُ قدماهُ إليها ولا يعلم لماذا هذا الشعور، يريدُ أن يطمئنَّ عليها، طرقَ البابَ عدَّةَ مرَّاتٍ مع خروجِ غادة من غُرفتها، وصلت إليهِ متسائلة:
-فيه أخبار عن ميرال، ماما فريدة تعبانة أوي، ومش على لسانها غير ميرال ..
-هيَّ صاحية ولَّا نايمة؟..
تحرَّكت قائلة: هشوفها كدا، لحظات وأشارت إليهِ بالدُّخول:
-تعالَ أُدخل صحيِت على صوت تخبيطَك، خطا للداخل، وجدها تعتدلُ على فراشها تنظرُ إليهِ باستغراب، اقتربَ منها وعينيهِ تحاورُها بالأسفِ والنَّدم ..
توقَّفَ عاجزًا عن الحديثِ وكأنَّهُ لايعلمُ كيف يبدأ، استمعت غادة إلى رنينِ هاتفها فتحرَكت للخارج، أمَّا هو فظلَّ واقفًا إلى أن تساءلت:
-محتاج حاجة، ولَّا عرفت حاجة وجاي تقولِّي..جلسَ على المقعدِ ينظرُ لمقلتيها:
-أنا آسف إنِّي اتعصَّبت عليكي، عارف مالكيش ذنب، لكن من خوفي وغضبي عليها قولت كلام جارح ..قالها وهو يطأطئُ رأسهِ أسفًا..
ابتسمت وهي تطالعهُ بعيونٍ حائرة:
-خايف عليها ولَّا على مكانتَك قدَّام الناس.رفعَ عينيهِ إليها متلهِّفًا
-كنتي تعرفي إنَّها هتمشي ..
هزَّت رأسها بالنفي:
-تفتكِر لو كنت أعرف كنت هسبها تمشي، زفرَ باختناقٍ وتوقَّفَ على رنينِ هاتفِه:
-إلياس أنا جاي لعندَك على المكتب، فيه موضوع مهمّ لازم نتكلِّم فيه..
أجابه:
-أنا في البيت، لو فاضي عدِّي عليَّا..
-تمام ..قالها أرسلان مع إغلاقهِ للهاتفِ ليستديرَ إلى فريدة:
-أتمنَّى متزعليش منِّي، ومتخافيش ميرال هرجَّعها خلال ساعات بس ماوعدْكيش هعاملها إزاي..
-بلاش تقسى يابني، خلِّي الحُبّ ينوَّر قلبَك بلاش القسوة اللي هتنهي حياتَك، ميرال معذورة، مابقولشِ كدا علشان هيَّ بنتي، بس صعب على أيِّ واحدة تشوف حبيبها مِلك لحدِّ تاني.
ظلَّ واقفًا متجمِّدًا يستمعُ إليها ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ دونَ حديثٍ آخر .
بعدَ قليلٍ بالأسفلِ وصلَ أرسلان..
دلفَ للداخلِ وحيَّاه..
-عامل إيه..
-الحمدُ لله، جلسَ وأخرجَ مظروفًا:
-ظابط التحريات وصل للحاجات دي، فحبيتَك تعرف قبلِ أي حاجة، يمكن تعرَف مين الشخصِ دا وليه عايز يئذيك؛ أنا كنت ممكن أدوَّر وراه بس محبتشِ غير لمَّا أرجعلَك..
أمسكَ إلياس الملفَّ وبعضَ الأوراق، ثمَّ رفعَ رأسِه:
-معرفوش، الواد دا مهندس صح؟
-أيوة وشغَّال مع شريك العُمري
-اسمه إيه شريك العُمري دا
-هشوف وأقولَّك، بس دلوقتي مصطفى باشا وصل للمعلومات دي، وطبعًا عارف هيعمِل إيه..
أومأَ له بتفهم:
-تمام أنا هتصرَّف..دلفت الخادمة بالقهوةِ مع رنينِ هاتفِ إلياس، فتوقَّفَ معتذرًا:
-آسف مكالمة مُهمَّة..أومأَ متفهِّمًا ثمَّ بدأ يرتشفُ قهوتهِ بدخولِ غادة..
-إلياسو عايزة أقولَّك خبر مهمّ من أخبارِ الجمهورية، عايزة جائزة وانا اقولك فين مكان مراتَك الحلوةو طفشِت ليه ..توقَّفت عن الحديثِ بعدما وجدت أرسلان بمكتبِه، وشعرت بتوترها وارادت أن تبتلعها الأرض، -كملي ولا كأني موجود..تورًَدت وجنتيها متراجعةً للخلفِ ثمَّ تحدثَّت معتذرة:
-آسفة هوَّ إلياس فين، أشارَ للشرفة:
-معاه تليفون..حمحمت تفركُ كفيَّها وابتلعت ريقها قائلة:
-طيِّب، قالتها وتحرَّكت سريعًا إليه تسبُّ نفسها على ماتفوَّهت بهِ أمامه..
-فين العربية، دقايق والراجل دا يكون عندي ..قالها وأغلقَ الهاتفَ وهو يتنهدُ بألمٍ كاد أن يخنقُه..التفتَ خلفهِ وجدها تقفُ ساكنة، ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-فيه إيه واقفة كدا ليه؟!..
هوَّ بس مش ..دنا وعينيهِ تتفحَّصُها ثمَّ تساءل:
-مالِك عاملة زي التلميذ المتعاقِب..
-بصراحة لبَّخت برَّة، مكُنتش أعرف فيه حدِّ معاك..
-امشي يابت من قدَّامي بدل ماأرميكي تحت، امشي ..هرولت للخارج، إلى أن وصلت لجلوسِ أرسلان فتحرَّكت بهدوءٍ للخارج، كان يراقبُها بابتسامةٍ وهو يهزُّ رأسِه؛
-طفلة أوي أختك..جلسَ يمسحُ على وجههِ بغضب، ثمَّ توقَّفَ على كلماتِه؛
-وإنتَ عرفت منين إنَّها أُختي؟!.
رفعَ فنجانهِ يطالعهُ برفعةِ حاجب:
-هوَّ أنا شغَّال على عربية فول ولَّا إيه..
تراجعَ للخلفِ يستندُ على مقعد، يحدجهُ بنظراتٍ ناريةٍ قائلًا:
-وحياة أبوك الحكاية مش ناقصة عنتظة سيادتَك..
-المدام مش موجودة وحضرتَك بدوَّر عليها..امتلأت عيناهُ بنيرانِ الغضبِ فطالعهُ بذهولٍ حتى هربت الحروفُ من مخارجِها، وشعرَ بالعجزِ عن الرَّد، ولكن هيأتهِ تجزمُ أنَّهُ سيرتكبُ أبشعَ الجرائم ..
شعرَ بهِ أرسلان، سحبَ نفسًا وزفرهُ بهدوءٍ قائلًا:
-لو سمحتلي أشوفلَك هيَّ فين، طافت عينيهِ بالمكانِ يهربُ من نظراته، فلقد وضعتهُ بموضعِ الخزي، سحبَ سيجارتهِ وأشعلها يهزُّ رأسِه:
-مين قالَّك كدا ..معلوماتَك غلط، مراتي خطِّ أحمر ومبحبِّش أتكلِّم في حياتي الخاصَّة، فياريت يبقى في حدود في التعامُل..
-آسف مقصُدش، أصلِ عندي معلومة..أشارَ لهُ بالتوقُّفِ عن الحديث:
-لو سمحت قولت مبحبِّش أتكلِّم في حياتي الشخصية...وبلاش تحسسني أن اسرار الكون في ايدك، مش شوية المعلومات اللي بتجبها كأنك عملت عظمة
رفع جانب وجه بشبه ابتسامة ساخرة
-الحال من بعضه ياحضرة الظابط
نقر إلياس على مكتبه وطالعه بنظرة اعجاب متسائلًا
-بيعجبني فيك ذكائك، هو انت عندك كام سنة
اجابه بتهكم : مية إلا سبعين..أفلت ضحكة يطالعه
-مش معقول انت..انت متأكد انك مخابراتي
ارتشف باقي قهوته:
-ولا اسمع عنها، عندي شوية أجهزة رياضية تنحف الجسم بطريقة طبية وسيبك من عمليات التخسيس دي
طالعه بذهول يريد أن يلطمه على وجهه فهو في حال لا يريد المزاح
-اضحك ..اضحك ماتكبتش في نفسك وبعد كدا تمشي على كرسي متحرك، فرك ذقنه يطالعه بغموض ثم ألقاه بسؤال:
-هو انت لو ضحكت هيدفعوك فلوس يابني ..فرك إلياس وجهه يهمس لنفسه
-ربنا يصبرني ومتحبتسش بسببك الليلة ..قهقه ارسلان عليه، فهو شعر به وحاول إخراجه من حالة حزنه
بالأعلى عندَ فريدة نهضت بتكاسلٍ وارتدت رُوبها الثقيلَ ، خرجت بخطواتٍ واهنةٍ تبحثُ عنه، وصلت للقربِ من مكتبِه، توقَّفت على صوتِ أرسلان الذي يشبهُ صوتَ زوجها كثيرًا، خفقَ قلبها بشدَّةٍ وانسابت عبراتها، فلم تشعر بنفسِها وهي تخطو وتهمسُ بصوتٍ خافت"جمال"..
فريدة.. واقفة عندِك ليه..استدارت إليهِ متسائلة:
مين الِّلي مع إلياس دا يامصطفى؟..
اقتربَ ينظرُ إليهما ثمَّ سحبَ كفَّها:
-تعالي ارتاحي، دا اللي أنقذ إلياس
وميرال يوم مانضربوا بالنار
التفتت إليه سريعًا
-إنتَ تعرفُه منين..حاوطَ جسدها وتحرَّكَ معها:
-حبيبتي ارتاحي مش الدكتور قالِّك لازم الراحة..أشارت إلى الغرفةِ وهمست:
-عايزة اطَّمن على إلياس وأخوه
-أخوه..إسلام مش هنا..
توقَّفت على الدرجِ تشيرُ إلى الغرفةِ
ووقفت الكلماتُ على أعتابِ شفتيها للحظاتٍ مع انسيابِ دموعها:
-جمال، جمال مع إلياس..قالتها وهوت ساقطةً بين ذراعيهِ فاقدةَ الوعي، بخروجِ إلياس مع أرسلان للخارج، رفعَ عينيهِ وجدَ والدهِ يحملُها ويصعدُ بها للأعلى ..شعرَ بالحزنِ على ماأصابها اعتقادًا أنَّها حزينةً على اختفاءِ ميرال.
بعد عدة ساعات بشقَّةِ أرسلان:
جلست بحديقةِ المنزل، تنظرُ حولها بابتسامةٍ على جمالِ المنظر، رغمَ عقابهِ لها ولكن بعضَ تلكَ الزهور تُنسيها آلامها الرُّوحية...أطبقت على جفنيها وبداخلِها بركانٌ كاد أن ينفجرَ من الاشتياقِ إليه، لقد قرَّر العقابَ وفعلها..
نهضت من مكانِها فالقلبُ تهيَّجَ لضمِّهِ، ولم يعد لديها قدرة التحمل على ذاك العقاب، اتَّجهت إلى بعضِ الورودِ الجوريةِ البيضاءَ تقطفُ منها، جلست على العُشبِ وجمعتها بينَ كفَّيها ترفعُها لأنفِها تستنشقُ رائحتها، وصلَ إلى المنزل، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها ولكنَّها غيرُ موجودةٍ كعادتها اتَّجهَ إلى كاميراتِ المراقبةِ وجدها تجلسُ بينَ الزهورِ بالحديقةِ الخلفية، ألقى مفاتيحهِ وتحرَّكَ إليها، توقَّفَ خلفها يستمعُ إلى دندنتها بأغنيتها المفضَّلة.. خطا وأصدرَ صوتًا ليعلِمها بحضورِه، رفعت رأسها إليهِ ثمَّ نظرت للورودِ مرَّةً أخرى..جلسَ بجوارِها ينظرُ إلى يديها التي تحملُ الورود، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى وجهها الذي اختفى خلفَ خصلاتها الحريرية..بسطَ أناملهِ يجمعها ويضعها خلفَ أذنيها:
-مفيش حمدَالله على السلامة لجوزِك..
استدارت ترمقهُ بنظرةٍ صامتة، ثمَّ تراجعت تُكملُ ماتفعلُه، أخذَ وردةً ووضعها بخصلاتها يرفعُ ذقنها يسبحُ بملامِحها البريئة..
-طيِّب مين اللي لُه حق يزعَل أنا ولَّا إنت..
أنزلت يديهِ بهدوءٍ ثمَّ أردفت:
-أنا مش قادرة أكمِّل في العيشة دي، مش حاسَّة نفسي عايشة، ياريت ننفصِل بهدوء، جوازنا كان لمصلحة، وحضرتَك خلَّصت مصلحتَك، وأنا كمان أمن الدولة رفعت إيديها منِّي، ومتأكدة أنُّهم مش هيقرَّبوا منِّي بعد مايعرفوا إنِّي طليقتَك..
حاوطَ جسدها بذراعهِ وجذبها لأحضانهِ يضعُ رأسهِ فوقَ رأسها:
-لدرجة دي مش فارِق معاكي، يعني مفيش أرسلان لغرام؟..
رفعت رأسها واختلجَ صدرها الكثيرَ من المشاعرِ المتناقضةِ من حبٍّ ونفور، اشتياقٍ وجحود...اخفض رأسه إليهِ ينظرُ لصفوِ عينيها:
-غرامي هتفضَل مراتي حتى لو إنتِ رافضة حياتنا، حرَّكَ كفِّهِ على قلبها..
دا ليَّا ودا عندي أهمِّ حاجة..
اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أفلتت من بينِ نبضِها العاشقِ له، ضمَّها بقوَّةٍ حتى اختفت بأحضانهِ وأردف:
-ممكن تكوني شايفة شخصيِّتي صعبة، بس حاولي تتعاملي معاها صدَّقيني هتكوني أسعد واحدة، أخرجَ رأسها من أحضانِه:
-بصي أنا مش هعمل زي الراجل اللي بينفُخ نفسُه قدَّام مراتُه، بس حقيقي أنا حبيتِك، أوَّل مرَّة أتعلَّق بواحدة كدا، معرفشِ ليه، يمكن طيبتِك، يمكن إيمانِك وخجلِك، وفوق دا كلُّه نصيبنا وقدرنا اللي ربِّنا هيأه لنكون في طريق بعض، من وقتها وأخدتها حكمة، إنِّك كنز وربِّنا بعتُه ليَّا، أو ممكن تكوني نقمة، في كلتا الحالتين ربنا مقدَّرلي خير فيكي أنا معرفوش..
رفعت كفَّيها على وجههِ وابتسمت كوردةٍ تتفتَّحُ وتتفرَّعُ براعمها لتفوحَ رائحتها العبقةِ هامسة:
-بتحبِّني ...أومأَ لها مبتسمًا، ثمَّ أردف:
-جدًا جدًا ولو مش بحبِّك كنت طلَّقتِك من زمان إحنا بقالنا ستّ شهور متجوِّزين إيه اللي يغصبني أعيش معاكي..
شملتهُ بنظرةِ إعجابٍ لا تخلو من عِشقها له، ثمَّ أردفت:
-وبعدِ الحبِّ دا إيه، ممكن تقولِّي
-يعني إيه ياغرام؟…
-أرسلان بجد أنا مش قادرة أتحمِّل الحياة بينَّا بتيجي زي الغريب، ساعتين وتمشي، وممكن تغيب أسبوع، ومعرفش عنك حاجة، قرارَك هوَّ اللي يمشي وبس، أنا ماليش لازمة حتى لو اعترضت تُرفض الاعتراض وتعاقبني ..قاطعها قبلَ أن تتمَّ كلماتها
ف نهضَ يسحبُ كفَّيها واتَّجهَ للداخل..
-البسي هنخُرج هنروح مشوار مهمّ وبعدها قرَّري هتكمِّلي معايا ولَّا لأ..
بشقَّةِ آدم:
توقَّفت بالمطبخِ لإعدادِ كوبَ قهوتها، استمعت إلى غلقِ بابِ الشقَّة، علمت بوصولِه..تنهَّدت بحزنٍ بعدما تذكَّرت حديثَ خالها....قبلَ قليل:
-حبيبتي مينفعشِ إنتِ تُقعدي في مكان وهوَّ في مكان متنسيش فيه شغَّالين تحت والكلام ممكن يخرُج، وأنا مستحيل أخلِّي مرات أبوكي تشمَت فيكي، ولو بتحبِّيني صحيح اسمعي كلام خالِك مش هتندمي..
-وحضرتَك لسة شايف إنِّي مندمتِش ياخالو، أنا الندم أكل من جسمي لحدِّ مبقاش فيَّا حيل ..قالتها وتحرَّكت دونَ حديثٍ آخر..
جلسَ يرمقُ ابنهِ بنظراتٍ مستاءةٍ ثمَّ أردفَ غاضبًا:
-إيه اللي وصَّلها للانهيار دا ياحضرةِ الدكتور العبقري؟!..
جلسَ يمسحُ على وجههِ بغضب، وكأنَّهُ ينتقمُ من نفسِه، ثمَّ رفعَ عينيهِ لوالدِه:
-مش مدِّياني فرصة أتكلِّم يابابا هتجنِّن منها، مش هنفضَل عايشين كدا، الهانم بتقولِّي جوازنا ماهو إلا وقتي…
طالعهُ لوقتٍ ثمَّ أردفَ بمغذى:
-ماهو دا الحقيقي، إنتَ ناسي قولتِ إيه..هبَّ من مكانهِ فزعًا:
-يعني إيه يابابا، ثارَ بضجيجِ نبضهِ الذي رفضَ حديثَ والدِه..
جاهدَ زين في إخفاءِ ما يحاولُ الوصولَ إليه، فتوقَّفَ بمقابلتِه:
-إنتَ قولت إنَّك متجوِّز، وقولت هتتجوِّزها لوقتِ معيَّن.. إيه نسيت ولَّا ايه يادكتور..
-يعني إيه؟!..تساءلَ بها بتيه..
-يعني إيلين مش هخلِّيها تعيش معاك على ضرَّة مهما يحصَل..
هوى على المقعدِ كمن تلقَّى ضربةً موجعةً يهمسُ بلسانٍ ثقيل:
-يعني حضرتَك ناوي تطلَّقها منِّي؟!..
اقتربَ زين منهُ مستطردًا:
-قصدَك ناوي أصلَّح الوضع بينكُم..وكدا بتصلَّحُه يابابا، إنتَ كدا بتجني على حياتنا مش بتصلَّح الوضع..قالها هادرًا..
-آدم متنساش نفسك، ولَّا علشان كبرت وبقيت دكتور بتعلِّي صوتَك على أبوك، أنا قولت إنَّك هطلَّقها والكلام منتهي، ولولا الظروف كنت مستحيل أوافق إنَّها تكون زوجة تانية، عندَك خيار واحد بس يادكتور..تطلَّق البنتِ التانية، مش الدكتورة إيلين اللي تعيش مع ضُرَّة دا لو حضرتَك عايزها..
خرجت من شرودِها على صوتِه:
-ممكن تعمليلي فنجان قهوة، عندي صُداع شديد ...
أومأت برأسِها وهي تواليهِ ظهرها دونَ حديث...بعدَ قليل دلفت غرفتهِ بعدما طرقت على بابِها، خطت إلى جلوسه، وجدتهُ يحاوطُ رأسهِ بين راحتيه:
-القهوة، وفيه برشام للصُّداع لو عايز..قالتها واستدارت للحركةِ إلَّا أنَّهُ أطبقَ على رسغها وجذبها بقوَّةٍ حتى هوت بين أحضانهِ حاولت التملُّصَ ولكنَّهُ كانَ الأقوى، همسَ لها:
-هتكلِّم معاكي بس، مش هعمِل حاجة، أرجوكي ياإيلين لازم نتكلِّم، أنا مبقتشِ عارف أعمِل حاجة، شُغلي واقف وحياتي واقفة أرجوكي اسمعيني..
حدجته بنظرة من فوق كتفها وهدرت معنفة إياه:
-آدم سبني لو سمحت مينفعشِ كدا، أبعدَ ذراعيهِ يشيرُ إليها بالجلوسِ بجواره، ذهبت لمقعدٍ بالغرفةِ وجلست منتظرةً حديثِه..
-قدَّامَك عشر دقايق يارب تتكلِّم بسرعة مش فاضية..نهضَ من مكانهِ يحملُ فنجانَ قهوتهِ ثمَّ ارتشفَ بعضها، واتَّجهَ يجلسُ بجوارِها ..ارتجفَ جسدها من قربهِ ابتعدت عنه ...شعرَ بألمٍ تسرَّبَ لقلبهِ وهو يراها تنفرُ منه..
-إيلين وبعدين، إحنا رايحين على فين؟..
-رايحين!! قالتها بصوتٍ مختنقٍ مفعمٍ بالبكاء، توقَّفت تدورَ حولَ نفسها تشيرُ لغرفتِهما التي من المفترضِ أن تجمعهما سويًا:
-إحنا مين يادكتور، إيه نسيت ولَّا إيه؛
إنتَ بنيت حياتَك وأنا كمان هبني حياة جديدة أوعى تجمعنا مع بعضِ تاني، قعدتنا مع بعض اتفرضِت علينا..
هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها يُطبقُ على ذراعيها وهدرَ معنِّفًا إياها:
-لو سمعتِك بتقولي كدا تاني هقطعلِك لسانِك سمعتي ولَّا لأ..وآخر كلام هقولُه ياإيلين إحنا قدرنا مربوط مع بعض من واحنا صُغيرين، يعني مفيش ليكي حياة بعيد عن آدم..
انسابت عبراتها وهي تلمحُ بنظراتهِ نظرةً قديمةً كان قد أضاعها البعدُ وجفا بها القلب، هزَّت رأسها ورغمًا عنها أخرجت شهقةَ ضعفِها بحوزته، لا تعلمُ أهو ضعفٌ بسببِ نظرةِ الحبِّ التي لمحتها بعينيهِ أم أنَّ الألمَ فاض بها ولم تعد تستطيعُ المقاومةَ أكثرَ من ذلك..
أطبقت على جفنيها وازدادَ بكاءها، ليقرِّبها إليهِ يضمُّها بقوَّةٍ لأحضانهِ وآه عاشقة أخرجها من كمِّ اشتياقهِ إليها؛
همست بضعفٍ اسمهِ حتى فاقَ قدرتهِ على الصمودِ ليخُرِجها من أحضانهِ ويحتضنَ ثغرها لأوَّلِ مرَّة، ليتهاوى جسدها بين يديهِ ويكونَ الأكثرَ مرحِّبًا؛ يرفعُها بكلِّ قوَّتهِ متراجعًا إلى الفراش، فيكفي هذا البُعد، أقسمَ أن يرويها من العشقِ مايضمِّدُ جراحها، دقائقَ وهي مسلوبةُ الإرادةِ، كانت بين يديهِ مثلَ عروسِ الماريونيت وهو يلتهمُ خاصَّتها كالغريقِ الذي وجدَ ضالَّتهِ بعدما ظنَّ أنَّهُ فقدَ الحياة..همهمت بخفوتٍ تتراجعُ بعدما عادَ عقلها تدريجيًا، لتهبَّ فزعةً بعدما وصلَ إلى نقطةِ اللارجوع..نهضت تلملمُ ذاتها الذي بعثرها بعنفوانِ عشقهِ الداخلِّي لسنواتٍ إلى أن أتتهُ الفرصة لجنيه، حاوطَ جسدها ومنعها من الخروجِ يهزُّ رأسهِ رافضًا مغادرتها، أردفَ بصوتهِ المبحوح:
-إيلين بلاش تعملي فينا كدا، حبيبتي لو سمحتي إدِّيني فرصة أداوي جروح قلبِك.
كانت هادئةً على غيرِ عادتها، حاولت الحديثَ ولكنَّها لم تقوَ فكأنَّ طاقتها نفذت، وبدأ قلبها يحرُّكها كيفما شاء..
حرَّكَ أناملهِ على جسدِها بحركةٍ أذابتها، حتى رفرفت أهدابها الكثيفةِ في محاولةِ استيعابِ ما يفعلُه، لقد تجرَّأَ وهي كالمسلوبة، لا تقوَ على الحركة، أصابها الذهول لتهبَّ فزعةً وهي تراهُ يقومُ بنزعِ ثيابها، لتدفعهُ بقوَّةٍ وأردفت بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-ابعد عنِّي، ابعددددد..قالتها وغادرت الغرفةَ سريعًا وارتفعت شهقاتها ..وصلت إلى غرفتِها وأغلقتها على نفسها تنزلُ بجسدِها إلى الأرضيةِ تبكي بنشيجٍ وخزيٍ من نفسها كيف ضعفت إلى أن وصلَ لجسدِها وشفتيها، كيف نسيت غدرهِ وخيانتِه..وضعت كفَّها على فمها تزيلُ آثارَ قبلاتهِ بعنفٍ حتى كادت أن تمزِّقَ شفتيها من قوَّةِ فركها بيديها، نهضت وبدأت تحطِّمُ الغرفةَ وتبكي بشهقاتٍ على جُبنها وضعفَ قلبها الذي هوى بأحضانه..
استمعَ إلى صُراخها، أغمضَ جفنيهِ محاولًا السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يذهبَ إليها ويحطِّمَ ذاكَ الجدارَ الذي يفصلُهما.. دقائقَ وهي تدورُ بالغرفةِ كالمجنونةِ وتحطِّمَ كلَّ ما يقابلُها حتى هوت على الأرضية، لم يعد لديه قوَّة على تحمُّلِ صراخها ونفورِها منه، نهضَ من مكانهِ ودفعَ البابَ بقدمهِ لينفتحَ على مصرعيه
دلفَ بهيئةٍ جنونية، طافَ بعينيهِ بالغرفةِ التي أصبحت شظايا متناثرة ، اقتربَ منها بعدما فقدَ سيطرتهِ واشتعلت حدقتيهِ كجمراتٍ ملتهبةٍ ينظرُ إليها:
-ليه دا كلُّه، إيه، أطبقَ على ذراعيها وأوقفها يهزُّها بعنف:
-إيه إنتِ مش مراتي، يعني من حقِّي ياهانم، ليه عايز أعرَف ليه دا كلُّه، مش أنا حبيبِك ولَّا كان كلام، أه غلطت منكرشِ بس أنا بحبِّك ومش معنى اتجوزت يبقى حبُّك مات؛ أنا اتجوزت لظروف كان لازم تعرفي لولا الظروف دي عمري ماكنت أتجوز، لأنِّك هنا،قالها وهو يضربُ على صدره ..عايزة تسمعي إيه!!
-أيوة بحبِّك وكتير كمان، واللي اتجوِّزتها مصلحة مش أكتر، ودلوقتي اسمعيني علشان تعبتِ منِّك بقالي شهرين بحاول مضغطشِ عليكي وقولت حقِّك، إنما لمَّا أقرَّب منِّك تعملي كدا ، دا مسكتشِ عنُّه، إنتِ مراتي فاهمة ومش معنى إنِّي سايبِك تزعلي شوية يبقى مش عايزِك، وناوي على الفراق، دا إنتِ بتحلمي، جذبها يضغطُ على خصرِها بقوَّةٍ ألمها وأردفَ بهسيس:
-عيالي هيكونوا منِّك، ودلوقتي أنا عايز حقِّي يامراتي، ولو اعترضتي ياإيلين هتشوفي وش مش هيعجبِك منِّي أبدًا.، عايز عيال ومنك وبس
كلماتٍ فقط ماهي سوى كلماتٍ أصابت قلبها كالطلقاتِ النارية، ظلَّت تطالعهُ بجمودٍ وكأنَّهُ سحبَ كلَّ حواسها، لتقتربَ منهُ تطوُّقُ عنقهِ وترفعُ نفسها تطبعُ قبلةً بجوارِ شفتيه:
-طبعًا يادكتور، لازم أسمع كلامك مش إنتَ وليِّ نعمتي اللي أنقذتني من مرات أبويا ...ابتلعَ غصَّةً وخزت جوفهِ بأشواكٍ حادةٍ وهو يرى تغيَّرَ حالتِها ...تراجعت للخلفِ تطالعهُ بضحكاتٍ مرتفعةٍ تضربُ يديها ببعضِهما، ثمَّ توقَّفت عن الضحكِ وأمسكت منامتها وقامت بفتحِها بقوَّةٍ لتتطايرَ أزرارها بكلِّ مكانٍ وينكشفَ جسدها العاري أمامهِ تشيرُ على نفسها:
-اتفضَل يادكتور شرَّح الجُثة، على ماأظنّ إنَّك شاطر في مجالَك ومش هتوجعني ومش هحسّ بتشريحَك، ومتنساس تدفِن روحي اللي حرقتها..
نظرَ إليها بوجهٍ شاحبٍ وكأنَّ روحهِ سُحبت إلى بارئها، وهو يراها بتلكَ الحالة ..ليقتربَ منها بخطواتٍ ثقيلة..
بشقَّةِ يزن بمكتبهِ الخاص ..دلفت إيمان بعدما سمحَ لها بالدخول:
-دكتور كريم برَّة ياأبيه، نهضَ يجمعُ أوراقهِ وأشارَ إليها:
-دخَّليه ياحبيبتي..أومأت وتحرَّكت للخارج:
-دكتور كريم، يزن جوَّا في المكتب اتفضَل..داعبَ خصلاتِ معاذ ثمَّ تحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها:
-عاملة إيه..لو فيه حاجة وقفِت معاكي في المذاكرة عرَّفيني..
نظرت للأسفلِ بخجلٍ تفركُ كفَّيها مع تورُّدِ وجنتيها تهتفُ بخفوت:
-شكرا، يزن بيراجِع معايا، مش عايزة أتعِب حضرتَك.
-حضرتي، إيه ياإيمان هتفضلي تعامليني على إنِّي غريب لحدِّ إمتى؟!..
رفعت عينيها ترمشُ عدَّةَ مرَّات:
-مش قصدي بس حضرتَك مهما كان أكبر منِّي وكمان ماينفعشِ أرفع الألقاب..
دنا خطوةً منها يريدُ أن يصفعها على وجهها، تبًا لكِ أيتها الطفلةُ كيف تتحدَّثينَ معي بتلكَ الطريقة، وصلَ حتى لم يفصلَ بينهما سوى خطوةً واحدة:
-الفرق مش كبير اوي، وحتى لو كبير انا هقربه، وقريب هحاسبِك على كلامِك، كلَّها شهرين تخلَّصي امتحانات ووقتها صدَّقيني مش هرحمِك ..بترَ حديثهِ على صوتِ يزن الذي توقَّفَ على بابِ الغرفةِ يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-كريم واقف كدا ليه، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى أختِه:
-ادخلي ذاكري وأنا هشوف كريم وجايلِك..أومأت وتحرَّكت بجسدٍ يرتجفُ من الخجل، ووجهًا تنتفضُ دمويتِه، حتى أصبحَ كلونِ التفاح الذي حانَ جنيه، كان يتابعها بعينينٍ يريدُ التهامها في الحال..
-إنتَ ياحيوان..قالها يزن، لينتفضَ إليهِ فزعًا:
-يخربيت فصلانَك يابغل، ماأنا جاي..
أطبقَ على كتفهِ بقوَّةٍ أوجعتهُ ليدفعَ يدهِ بعيدًا:
-يابني إنتَ كنت بترضَع لبن زيِّنا ولَّا بأكِّلوك لحم جمال، وجعتني..دفعهُ حتى أسقطهُ على المقعدِ وحاوطهُ بذراعهِ وغمزَ بطرفِ عينيهِ بحركةٍ تنمُّ عن ضيقِه:
-بتبُص لأختي كدا ليه، متنساش دي إيمان أختِ يزن، يعني أيِّ خيانة منَّك لصاحبَك مش هتهاون بيها فخلِّيك صريح معايا كدا وقولِّي إيه الحكاية؟..
-بحبَّها وعايز أتجوِّزها بس مُنتظر تخلص ثانوية وبعد كدا كنت هكلِّمك، اعتدلَ يزن مصدومًا، فتراجعَ للخلفِ وكأنَّهُ سحبَ طاقتهِ بالكامل، ليهوى على المقعدِ ونظراتهِ تحرقُ كريم قائلًا:
-كنت بتدخُل بيتي وبتبُص لأختي ياكريم، دي ثقتي فيك..نهضَ من مكانهِ سريعًا واقتربَ منه:
-أبدًا والله، أنا عمري ماقرَّبتِ منها ولا حاولت أخون ثقتَك ياصاحبي، واسألها أقسم بالله عمري ماكلَّمتها في حاجة ولمَّا شوفتني دلوقتي بكلِّمها علشان بتقولِّي حضرتَك ويادكتور، بقولَّها بتعامليني زي الغريب ليه، واللهِ عُمري ماكلَّمتها برَّة البيت دا، وغصبِ عنِّي ياصاحبي، القلب مالوش سلطان، وبيضعفنا علشان كدا كنت ببصُّلها بس عمري ما شُفتها بنظرات وحشة..
-قوم روح..جحظت عيناهُ مذهولًا، فأردفَ مستطردًا
-يزن اسمعني..
نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى نافذةِ غرفتهِ بعدما أشعلَ سيجارتِه:
-روح ياكريم بدل مانخسر بعض للأبد.
-يزن !!
قولت امشي من وشي..تحرَّكَ كريم مغادرًا وهو ينتفضُ حزنًا وألمًا على ماصارَ بينهما..
زفرةً حادةً أخرجها من جوفه، مكوِّرًا قبضتِه:
-ليه ياكريم كدا، يعني تطعنِّي في ضهري، استمعَ إلى صوتِ معاذ بالخلف:
-أبيه يزن فيه سؤال في العلوم مش عارفُه ممكن تساعدني فيه، إيمان مشغولة بالمذاكرة..
أومأَ لهُ ثمَّ تحرَّكَ إلى المكتبِ يشيرُ إليهِ بالدخول..جلسَ بجوارهِ وكلَّ ذهنهِ معلَّق بأختِه، هل تنظرُ إلى كريم كما هو ينظرُ لها، دقائقَ وهو شاردٌ إلى أن لكزهُ معاذ:
-أبيه بقالي كتير بكلِّمَك..نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى غرفتها..
بفيلَّا الشافعي كان يثورُ كالأسدِ الجريح:
-يعني الولد اتمسَك إزاي ومين اللي وصلُه، هوى على المقعدِ يُتمتم:
-انتهيت، مصطفى السيوفي مش هيرحمني، دقائقَ واستمعَ إلى هاتفِه:
-راجح باشا خسرنا المناقصة، وكمان فيه خبر سيئ، أسهُمنا نزلت كتير..
قاطعهُ دلوفَ طارق يصرخُ به:
-الواد اتمسك يابابا عارف دا لو اتكلِّم أنا ممكن اتعدِم، دي قضيِّة قتل..
أغمضَ عينيهِ يحتضنُ رأسِه، بينما ظلَّت تدورُ حولَ نفسها:
-داإيه المصايب دي كلَّها النهاردة، الواد دا لازم يموت أو يهرب، اقتربَ طارق قائلًا:
-فيه كمان حاجة ..رفعَ راجح رأسهِ منتظرًا حديثِه:
-العربية اللي كنَّا ناويين نتِّهم فيها يزن السوهاجي بموت مالك عملت حادثة فعلًا بالواد.
هبَّ من مكانهِ يصرُخ:
-يعني إيه دا كلُّه، لا دا كدا حد بيخطَّط يوقَّعني..اقتربَ منهُ طارق:
-بس لسة ممكن نودِّي يزن في داهية، العربية كنَّا ناويين مالك يركبها، بس محصلشِ نصيب والمهندس مات ومين اللي صلَّح العربية وفيه تسجيل لدا كلُّه..
-برافو عليك يا طارق..قالتها رانيا، اتَّجهَ يرمقُها بنظراتٍ خرساءٍ ثمَّ اقتربَ منها:
-إنتِ عارفة المهندس اللي مات دا مين؟..دا أبوه لواء في الجيش، وكان عضو منتدب، ورفض الأمن إن أي حد يركب العربية باعتبارها مملوكة لمالك دا هيخلِّي الشكوك تحوم علينا..
اقتربت منهُ طيب لو المهندس دا طلع بيشرب مثلًا أو أيِّ فيديو بسيط يخلِّي الشك يبعِد..
ضيَّقَ عينيهِ مستفهمًا:
-يعني إيه..دارت حولهِ تهمسُ له:
-يعني مثلًا طبيب تشريح بشوية فلوس يغيَّر تقرير الحادثة بسبب مخدِّر، والعربية مفهاش حاجة دا لو عايزين نبعد الشُبهة عن طارق، أمَّا بقى لو عايزين نخلص من المهندس بتاع رحيل نجيب سيرة العربية من وقتِ التصليح وهيَّ في جراج الشركة..
قاطعها طارق قائلًا:
-وممكن نضرَب عصفورين بحجر كان شارب ومعرفشِ يوقف العربية ودا أكيد ملعوب فيها، ومين دا يزن علشان يخلَص من مالك ويستفرد برحيل..
-برافووو أيوة كدا، شوفت تربيتي ياراجح..حبيب أمُّه ..ألقاها قبلةً بالهواءِ لترتفعَ ضحكاتِ أصحابِ القلوبِ الخبيثة.
عند إلياس:
اتَّجهَ إلى سيارتهِ وقادها بسرعةٍ جنونيةٍ بعدما توصَّلَ إلى سائقِ سيارةِ الأجرة. تذكَّرَ حديثه:
-أنا نزَّلتها في العاصمة ياباشا، واللهِ ماأعرف هيَّ راحت فين..
-نزَّلتها في أنهي منطقة بالظبط، قصَّ الرجلُ له العنوانَ بالتفصيل، ظلَّ يقودُ السيارةَ إلى أن وصلَ إليها بفترةٍ وجيزة، دلفَ إلى ذاكَ الكمبوند، وتوقَّفَ بالسيارةِ أمامَ أحدِ الحرسِ الخاصّ بالمكان، أخرجَ صورتها وسأله:
-المدام دي دخلت هنا من حوالي خمس ساعات تقريبًا..توقَّفَ الرجلُ يطالعهُ بريبةٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ يشيرُ بيديه:
-اتفضل ياأستاذ من هنا مش ناقصين مشاكل، وشكلَك ابنِ ناس محترم..
اقتربَ منهُ يطبقُ على عنقهِ فهو في حالةٍ جنونيةٍ الآن، همسَ إليهِ بهمسٍ أرعبَ الرجل:
-لمَّا أسألك عن حاجة ترُد وإنتَ ساكت، المدام دي في أنهي مبنى..أشارَ إليهِ بالجهةِ الخلفية، واردف برقم المنزل، تركهُ يدفعهُ بعيدًا ثمَّ أخرجَ كارت بطاقتهِ التعريفية:
-علشان تطَّمن، واللي جوَّا مراتي ..قالها ودلفَ للداخلِ دونَ حديثٍ آخر..
هوى الرجلُ على مقعدهِ يملِّسُ على عنقهِ يحمدُ ربَّهُ أنهُ مازال يتنفَّس..بالداخلِ عند ميرال كانت تهاتفُ غادة:
-وماما كويسة..تنهَّدت غادة وهي تنظرُ إلى فريدة؛
-معرفشِ أقولِّك إيه بس هيَّ تعبانة أوي ياميرال، لو تشوفيها تصعب عليكي؛ ارجعي ميرو حبيبتي واللهِ إلياس هيتجنِّن عليكي، وخايفة أقع قدامُه بالكلام، دا أنا هبلة..
أفلتت ابتسامةً حزينةً وتمتمت:
-لا إنتِ جميلة يادودي، المهم ماما خلِّي بالِك منها..صمتت غادة فأردفت:
-أنا قولت لماما على مكانِك مقدرتش أشوفها كدا الصراحة وأسكت، وهيَّ كانت رايحة تقول لإلياس بس معرفشِ إيه اللي حصل وخلاها يُغمى عليها.
-تلاقي أخوكي سمَّعها كلام زفت على راسُه ..ضحكت غادة قائلة:
-هبعتلُه الفويس بتاعِك وأخليه يشويكي على الجانبين، استمعت إلى صوتِ جرسِ الباب فهتفت:
-طيب حبيبتي هقفل علشان كنت طلبت شوية حاجات وشكلُهم وصلوا هتِّصل بيكي بعد شوية ..اتجهت تفتحُ الباب ..توقَّفت تطالعه بصدمة، و شعرت بثقل تنفسها،بأنفاسٍ حينما وجدته أمامها بنظارتهِ السوداء، خلعَ النظارةَ وابتسمَ ساخرًا:
-مش هتعزمي على جوزِك بالدخول ولَّا إيه يامدام ...شعرت وكأنَّ الأرضَ تُسحبُ من تحتِ قدميها، دفعت البابَ لإغلاقهِ إلَّا أنَّهُ كانَ الأسرعَ منها وهو يضعُ قدمهِ يدفعُ الباب، ثمَّ دلفَ للداخل:
-مش عيب تقفلي الباب في وشي..هزَّت رأسها وتراجعت للخلفِ
مع انسيابِ عبراتها تتمتمُ بنبرةٍ حزينة:
-إنتَ عايز منِّي إيه، أنا سبتلَك البيت بدَّور عليَّا ليه، مبقتشِ عايزاك، سمعتني
أنا مش عايزة أشوفَك تاني،
-ماشاء الله صوتك كروان اهو، اومال ليه شهر كامل بتتعاملي معانا على انك خرسة
اقتربت منهُ وغرزت عينيها بمقلتيه:
-مش يمكن علشان مش عايزة اتكلم معاك، حاولت أموت علشان أبعِد عنَّك، بس طلعِت لعنة في حياتي، أنا عايزة أخلص منَّك ومن كلِّ ذكرياتَك ياإلياس ياسيوفي..
كادت كلماتها أن تصيبهُ بسكتةٍ دماغية، ظلَّ كما هو واقفًا كالجبل، لا يهزه شيئاًا، تركها تُخرجُ مايؤلمُ روحها رغمَ خطأها الفادح، اقتربت منهُ خطوة أخرى بعدما أصابها الجنونَ من صمته، وبدأت تلكمهُ رغمَ آلامِ صدرها:
-عايز منِّي إيه، جاي علشان تكمِّل عليَّا وتموتني، أنا بكرهَك سمعتني بكرهك، ومش عايزاك إيه هتضربني ولَّا تحبسني ولَّا يمكن تغتصبني ماإنتَ عملت التلاتة ماشاء الله..دنت منهُ خطوة اخرى حتى اختلطت أنفاسهما تُمسكهُ من ياقةِ جاكيتِه:
-اقتلني أحسن يمكن أرتاح منَّك، وروح عيش حياتك، اتجوِّز بدل المرَّة أربعة، مش هيفرِق معايا اللي يخون مرَّة يخون مية وألف..رفعت رأسها تنظرُ لمقلتيهِ وعينيها التي أصبحت كالشلال..
حبيتَك بجنون، سنة عن سنة بيكبَر وأنا بضغط على نفسي وبحاول أتحمِّل غرورَك وتكبُرك وبهدلتك فيَّا، ورغم كدا اتجوزتك، بس إنتَ عملت إيه ولا حاجة..بدل ماتداوي جروحي فتحتها ودوست عليها بكلِّ جبروت ويوم ماغرورك ينزِل وتعترف بحبَّك تكون مجهزلي كفني، يالَّه ياميرال إنتِ مين علشان أحبِّك، أحبِّك..هوَّ إنتِ تستاهلي حبِّ إلياس باشا السيوفي اللي شايف الناس كلَّها غلط وهوَّ صح..
سدَّدت ضربات أصابت قلبهِ برمحٍ مشتعل، ليشتعلَ داخلهِ ويغلي كالمرجلِ
الذي نقصَ ماؤه، ولكن ماذا عليهِ أن يفعل، هل يفعل ماتريدُه، أم لعنةُ عشقها تغفرُ ذلَّاتها..خطا إليها كالذي يخطو فوق النيرانِ وحملَ من غصَّاتها ما يحرقُ روحهِ، ولكنَّهُ عليه التَّحلي بالصبر..ابتعدت عنه بعدما وجدتهُ يقتربُ منها وبدأت تحطِّمُ كلَّ ماتطالهُ يديها تصرخُ بقهرِ قلبها المتألِّم:
-روح اتجوِّز وعيش حياتك، وسبني أعيش مقهورة على قلبي طول حياتي، جاي لعندي ليه، ولَّا صعبان عليك الفرح اللي باظ بسبب واحدة مجنونة فاشلة زي مادايمًا بتقول عليَّا، وصلت إليه تدفعهُ وتلكمهُ بصدرِه..
-عايز تتجوِّز وبتخيَّرني، الله ياخدَك ياإلياس ويحرَق قلبك زي ماحرقت قلبي، بتخيرني ياتتجوز ياطلقني، ليه ماسك علية ذلة، ضربت على قلبها كالمجنونةِ تصرخُ ونست جرحها الذي مازالَ لم يلتئمَ كاملًا:
-عايزة أموت علشان أبعد عنَّك وعن لعنة عشقَك ..أنا بكرهَك ..هوت على الأرضِ بركبتيها بعدما فقدت طاقتها وشعرت بآلامِ صدرها، حتى أيقنت أن جروحها قد أصابها شيئًا، خطا إليها وهو يشعرُ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادهِ ثمَّ انحنى يحملُها بين ذراعيه، واتَّجهَ بها إلى الأريكةِ وهي تهمهمُ بأحضانه:
-ياريتَك سبتني أموت، أنا بموت ياإلياس، لا قادرة أبعد عنَّك ولا قادرة أقرَّب ..موِّتني وريَّحني من عذاب قلبي، ضمَّها إلى أحضانهِ وكأنَّ لفظَ الموتُ الذي انبثقَ من شفتيها سيأخذُها منه..
شعرَ بخفَّةِ وزنها، آاااه حارقة خرجت من جوفهِ ورغم وزنها الخفيف إلا أنَّ عشقها أثقل من أضخمِ جبالِ العالم، ماذا فعلت به ليصلَ به الحالَ أن يتحرَّكَ خلفَ قلبهِ اللعينَ بعشقها، أينَ قسوتهِ التي أقسمَ أن يُذيقها إياها..وضعها بهدوءٍ على الأريكةِ ورفعَ يديها التي نزفت بسببِ جروحِها وتحطيمها للأشياء، نهضَ من مكانهِ يبحثُ عن الإسعافاتِ الأوليةِ ليداوي جروحها، هل أخبرُكمواحدًا أنَّ أعمقَ الجروحُ جروحُ قلبٍ ينزفُ دونَ دماءٍ من عاشقٍ أعطيتهُ الثقةَ الكاملةَ ولكنَّهُ خذلك ..خطا عدَّةِ خطواتٍ إلَّا أنَّهُ توقَّفَ حينما أردفت:
-إلياس..أخرجت اسمهِ من بينِ شفتيها محترقًا بآلامِها ..التفتَ إليها بعدما استمعَ إلى نبرةِ صوتِها المتقطَّعة ظنًّا إصابتها بشيئ..نهضت من مكانِها واقتربت منه:
-طلَّقني، مش إنتَ قولت مش هتبعد لمَّا أطلب البعد، طلَّقني وروح اتجوِّز اللي تسعدَك وأنا هبع...بترَ حديثها حينما رمقها بنظرةٍ مميتةٍ يريدُ بها أن يلقى حتفها ، نظراتٍ خلفَ نظراتٍ قاتمةٍ كلونِ سُحبِ السماءِ بفصلِ الشتاءِ ولكن هنا أمطارٌ سوداء يرمقُها ليحرقها بلهيب شوقه القابع بصدره، اللعنة على قلبي الضعيف، تحوَّلَ وجههِ للوحةٍ من الغضبِ والألمِ الذي شقَّ صدرهِ ليشعرَ بتمزقهِ وكأنَّهُ يتمزّّقُ بآلةٍ حادة سامة، ساد صمتٌ مميتٌ بينهما ورغم ذلك إلا أنه متخمًا بالعشقِ الذي في القلوب، تراجعت خوفًا من هيئتهِ التي تحوَّلت، ارتفعت أنفاسهِ وأحسَّ بوجعٍ يغزو أضلعهِ وكأنَّها خنقتهُ بأصفادٍ حديديةٍ وقلبهِ الذي تحوَّلَ لشظايا محترقة، اقتربَ منها بخطوةٍ واحدةٍ
-عايزة ايه ؟!
أطلق!!..قالتها بقوة رغم ارتجاف جسدها، انحنى يحملُها بين ذراعيهِ فيكفي الضغطَ على قلبه المسكين، كانَ يظنُّ أنَّها تموتُ اشتياقًا لهُ مثلما يشعر..
نظرت إليه بمقلتينِ دامعتينِ تهمسُ بتقطُّع:
-إلياس واخدني فين، دفعَ بابَ الغرفةِ وأجابها بنبرةٍ هادئةٍ رغمَ الجحيمَ المستعرَ بصدرِه:
-رايح أطلَّقك ..مش عايزة تطلَّقي، حاضر هطلَّقك..ارتجفَ جسدها وهو يضعها على الفراشِ بهدوء..نظرت حولها بخوفٍ ثمَّ تراجعت على الفراش:
-إنتَ ناوي على إيه، خلعَ جاكيتَ بذلتهِ
وافترت شفتيهِ بابتسامةٍ تقطرُ وجعًا، ثمَّ انحنى يحاوطُها بذراعيه:
-مش عايزة تطلَّقي..ارتجفت شفتيها تهزُّ رأسها بجهلِ كلماته:
-بس الطلاق بيكون عند مأذون أو ترمي عليَّا يمين الط...بترَ حديثها وهو يحتضنُ ثغرها علَّهُ يُخرسُها للأبد، أحسَّ كأنَّهُ طائرًا مقصوصَ الجناحين، محبوسًا بقبرٍ لا يقوَ على التنفسِ سوى باقترابها، حاولت دفعهِ ببدايةِ الأمرِ إلا أنَّ خبرتهُ بها وحفظهِ لشخصيَّتها، النهار قلعتها المستميتة بحضورها الطاغي، وعشقه المنفرد، فالعاشق يجهل التلاعب بالمشاعر وعشقه بين يديه، ظلَّ يهمسُ لها بكلماتهِ العاشقةِ الصادقة،حتى هدأت وسكنت بين أحضانِه، ليتجوَّلَ بأناملهِ على وجهِ امرأتهِ العاشقةِ التي احتلَّت قلبهِ كاحتلالِ جنديٍ مهووسٍ بالدفاعِ عن أرضهِ حتى آخرَ نقطةٍ بدمِه، نعم احتلَّت كيانهِ وكينونتهِ ولم يعد لديها قرار آخر سوى العيشَ تحتَ جناحِ أحضانه، حتى لو كلَّفهُ الأمرَ إرغامها على ذلك.. دقائقَ شعرَ بها وكأنَّهُ بساطُ ريحٍ تجوَّلَ بالعالمِ أجمع ، فلما لا وهي السعادةُ والشقاء.. الألمُ والدواء.. والحزنُ والفرح، هي جميعهم تحتَ مسمَّى عشقهِ الأوحد حتى الممات، فأقسمَ بداخلهِ أن لا يسلمَ قلبهِ لأحد غيرهاولا يلمسَ سواها، هي أوَّلُ نبضٍ ليشعرَه بطعمِ الحياة، ولقلبهِ البرئ كانت الفرحة ومعالم السعادة، فأقسم لربه أن آخرَ نبضاته ستكون لها ..دفنَ وجههِ في حنايا عنُقها يستنشقُ رائحتها بولهِ عاشقٍ حدَّ النُّخاع؛ هامسًا اسمها كطائرٍ يشدو فوقَ الأغصان:
-ميرو حبيبي مبروووووووك الطلاق ياحبيبة الياس، قالها وهو يحتضنُ ثغرها بقبلةٍ عاشقةٍ تعزفُ بموسيقى أنينِ اشتياقهما، اعتدلَ ينظرُ لملامِحها الهادئةِ ثمَّ مرَّرَ أناملهِ على وجنتيها:
-مفيش طلاق في قاموس إلياس ياميرال هو بيتجوِّز بس، إنَّما طلاق مالوش تعريف عندي، طافت عيناه عليها وهي بين احضانه، واردف غامزًا:
-ومحستشِ إنِّك رفضاني ليه بقى المسرحية اللي عملتيها، جذبها من عُنقها يضعُ جبينه فوقَ جبينها..
-وعقابِك لسة جاي، أوَّل حاجة علشان تقتلي نفسِك حلو، والتاني علشان تهربي من جوزِك..
رفعَ عينيهِ ينظرُ إلى مقلتيها:
-قدرِك معايا لحدِّ ماواحد فينا يموت، مالكيش اختيار تاني، وبلاش شُغلِ المراهقين بتاعِك طلَّقني وبكرهَك، علشان مقلبشِ عليكي، أخدتي حقِّك منِّي في قهرتي عليكي، وأنا أخدت حقِّي منِّك، كدا مناصفة بينا، هتغلطي مش هرحمِك ياميرال ومتنسيش إنِّك مرات إلياس السيوفي ..اعتدلَ بعدما وجد صمتها ،جلبَ إليها الإسعافات لتضميدِ جروحها، دقائقَ معدودةً وأنهى إسعافها بصمتٍ مريبٍ وهي تتابعهُ بعينيها، جمعَ الأشياءَ وتوقَّفَ يطالعُها بصمت، رفعت عينيها بعدما شعرت بنظراته..
-متفكرش علشان قربت مني يبقى كدا رضيت بالأمر الواقع ..تجاهل كلماتها، واستدار يحاوط المكان بنظراته قائلًا:
-قومي بقى حبيبي علشان نرجع بيتنا
هنا مش واخد راحتي.،
هبَّت من مكانِها تدفعهُ بقوَّةٍ متناسيةٍ جسدها الذي كُشفَ أمامِه:
-مش هرجع معاك في حتة سمعتني؟..
اطلع برَّة..غمزَ بعينيهِ ينظرُ إلى جسدها الذي انكشفَ معظمِه، فدنا منها:
-بتغريني صح ..وأنا مستعد، إيه رأيِك نكمِّل الليلة ..قالها مقتربًا منها..
-آاااه صرخت فرمقُها بنظرةِ مميتة:
-صوتِك، متفكريش إنِّك في الفيلا، أغمضت عينيها تسبُّهُ بداخلِها.. وصلَ إليها بخطوةٍ واقتربَ حتى هوت فوقَ الفراشِ تجذبُ الغطاءَ فوقها وتصرخُ به:
-ابعد عنِّي بدل ماأصوَّت بحق وحقيقي..
كتمَ صرخةً بداخلهِ حينما وقعت عيناهُ على جرحِ صدرها الذي مازالت تظهرُ آثارِه، وبدأ وكأنها إصابته بحركاتها العنيفة ...بسطَ كفَّيهِ إليها:
-قومي خُدي شاور مش عايز كلام كتير، إنتِ مراتي مش واحدة جايبها من الشارع..
بعدَ قليلٍ وصلَ إلى منزلِ والده.. توقَّفت السيارةُ وظلَّا بداخلها:
-يعني إيه ممكن توضَّحي كلامِك؟..
استدارت إليه:
-عايزة أفضل وقت أرتِّب حياتي ياإلياس، عايزة أرجع أثق فيك وأحبَّك زي الأوَّل..
تنهيدةٌ طويلةٌ ومتعبةٌ ثمَّ تحدَّث بنبرة ساخرة:
-تحبيني، رفعَ عينيهِ إليها:
-إنتِ بتكرهيني!.. دنا برأسهِ يخترقُها بنظراته:
-مش قولت بلاش كلام المراهقين دا، أنا أكتر واحد أقدر أحكم إنِّك بتحبيني ولَّا لأ..
ابتعدت برأسِها عن أنفاسهِ التي ضربت وجنتيها، وهمهمت بتقطُّع:
-بلاش الغرور دا ياإلياس، ابتلعَ جمراتَ كلماتها، محاولًا ألَّا يصفعها:
-عايزة إيه ياميرال، شيفاني عيِّل صغير مش عارف أحكم عليكي.. دنت تنظرُ داخلَ مقلتيه:
-أنا دلوقتي مضَّايقة منَّك وحاسة إنَّك بتخنُقني، إيه..عايز علاقتنا دايمًا بطريقتَك بتاعةِ النهاردة، تفضَل ورايا لحتى أخضعلَك علشان أتخلَّص منَّك..
طحنَ ضروسهِ ضاغطًا على فكِّه، وزفرةً حارةً أخرجها يريدُ إحراقها بها، طالعها بنظرةِ خذلانٍ باردة:
-يعني اللي حسيتُه دا علشان تتخلَّصي منِّي؟..ابتعدت ببصرِها عنه، وتابعت بقسوةٍ ألهبت جميعَ حواسِه:
-ومضايقة إنِّي استسلمت، مش راضية بالعلاقة دي، وطول ماأنا مش راضية يبقى جوازنا باطل..
-اخرسي يابت، مش عايز أسمع نفسِك، تمام ياحضرة الصحفية المثقَّفة اللي مش واخدة من دينها غير كلمة الإسلام بس، طلاق مش هطلَّق، هتتعاملي معايا كأي زوجة محترمة هشيلِك فوق راسي، هتسوقي العوج هتعامِل معاكي بأصول أيِّ مصري أصيل بيعامِل مراتُه اللي عايزة تتربى..
البيت دا هيفضَل بيتِك إلى إن شاء الله أدفنِك، ومعنى بيتِك يعني مراتي، عايزة تموِّتي نفسِك، موتي ووعد المرَّة دي مش هنقذِك.. احترام اسمي فوقِك شخصيًا، الاحترام ثمَّ الاحترام
يامدام ميرال.. ثم حدجها بنظرة ممتعضة
-ووعد مني مش هقربلك حتى لو روحي فيكي، بس ماترجعيش تندمي وتعيطي، وهكرهك نفسك اكتر ماانت كرهها، ومن اللحظة دي انسي اي كلمة قولتها لك ، منكرش حبيتك وضعفت، بس مش إلياس اللي يطاطي لست مهما كانت هي مين، ورفضي للطلاق مش تمسك بيكي ابدا يامدام، دا علشان شكلي الاجتماعي مش اكتر، ومن اللحظة دي لو خرجتي برة البيت دا من غير حجاب ولبس محترم، وعد اولع لك في شعرك اللي فرحانه بيه، نظر إلى فتحة صدرها، ثم جذب كنزتها بقوة يشير إلى جسدها الظاهر
-أنا متعاقبش علشان واحدة بترخص جسمها، والله العظيم اشوه لك من غير مايرف لي جفن، احترمي دينك يامسلمة، ..أنهى كلماتهِ بحزمٍ وقوَّةٍ ونبرةٍ يشوبها التهديدُ القاطع ثمَّ ترجَّلَ من السيارة، واتَّجهَ لداخلِ المنزل، بخطوات تأكل الأرض، ظلَّت تتابعُ تحرُّكهِ بحزنٍ من عينيها قائلة:
-أنا عملت ايه علشان احب بني ادم زي دا، وقلبي هيفضل يضعفني لحدِّ إمتى
واللهِ لأندِّمَك ياإلياس وأعرَّفك إنَّ اللهَ حق، وإزاي تفكَّر تكسَر قلبي وتكلمني بالطريقة دي
دلف للداخل وخطا بعضَ الخطواتِ إلَّا أنَّها أوقفته:
-إلياس استنى فين ميرال؟..
صعدَ للأعلى دونَ حديثٍ ، تحرَّكت خلفهِ إلَّا أنَّها توقَّفت بعدما استمعت إلى صوتِ غادة:
-حبيبتي حمدلله على سلامتِك، كدا ياميرو، هرولت فريدة إليها، جذبتها بقوَّةٍ لأحضانها، بكت بصوتٍ مرتفعٍ وهي تحتضنُ وجهها تقبلُها على وجنتيها، ثمَّ تفحَّصت جسدها بالكامل كالأمِّ التي تتفحصُ جنينها..
-هونت عليكِ ياميرو، كدا تعملي في ماما كدا..كانت عيناها على تحرُّكهِ للأعلى، فهمست بأنين:
-ماما أنا تعبانة ممكن نتكلِّم بعدين، حاوطت جسدها تهزُّ رأسها وتحرَّكت بجوارِها قائلة؛
-غادة خلِّيهم يجهزولها الحمَّام، تاخد شاور سُخن ..أومأت غادة وتحرَّكت مبتسمة:
-هوَّ لازم ميرو تعمل هيجان في البيت والكل يخدمها، تراجعت إليها وضمَّتها ثمَّ طبعت قبلةً على وجنتيها:
-يارب ماتكوني لبختي، شكلُه بيطلَّع نار من ودانُه، عملتي إيه ياآخرة صبري؟..
ابتسمت متحرِّكةً دون حديث
وصلت بها فريدة إلى الأعلى:
-هتروحي أوضتِك ولَّا عندِ جوزك، قبل ماتقولي حاجة، الشهر دا إلياس تعب جدًا، بلاش توجعيه أكتر ماهو موجوع، سامحيه حبيبتي وهوَّ كمان سامحِك، ابدأوا حياة جديدة…
ربتت على كتفِها وتركتها تتخذُ قرارها بنفسها..
بالداخلِ جلسَ فوقَ الفراشَ ينتظرُ دخولها، استمعَ إلى حديثِ فريدة معها بالخارج، لحظاتٍ وفُتحَ البابَ نظرَ إلى دخولها وخطواتِها الهادئة، وكأنَّها تخطو فوقَ نبضهِ الضاري بعشقها، اقتربت وجلست على الأريكة، تنظرُ في اللاشي، دقائقَ والصمتُ يعمُّ المكان..
توقَّفَ متَّجهًا إلى خزانةِ الملابس وجذبَ ثيابها:
-ادخلي غيَّري، وارتاحي، أنا هنزِل جناحي القديم، خُدي راحتك، وزي مااتفقنا..
تلاشى تنفسها وضاقت عليها جدرانَ الغرفة، همست بتقطُّع:
- مش عايزة أقعد هنا..كوَّرَ قبضتِه، ثمَّ استدارَ إليها:
-انا لحد دلوقتي بحاول أكلِّمك بقلبي، بس واللهِ لو كلمتِك بعقلي لأندِّمك، قولت اتنيلي غيري، ونامي، والكلام اللي قولته تحت يتسمع من غير ولا كلمة قولت ..ولا لا
بعدَ عدَّةِ أيامٍ والوضعُ هادئًا بين الأبطال
بغرفة ميرال ..دفعت غادة الباب غاضبة:
إنتِ يابتِّ عبيطة، واللهِ عايزة أضربِك..
كانت تنظرُ للخارجِ ولا تكترثَ لحديثها، فمنذ ثلاث ايام لا تراه، يعود بوقت متأخر...لكزتها غادة ثم صرخت بها
-ميرال!!
التفتَت تنظرُ إليها بصمت:
-سلمتي جوزِك لواحدة زي دي ياعبيطة؟..هزت كتفها واردفت:
-زلط ياكُل بعضُه، خلِّيها تشبع بيه..
-يخربيت برودِك ياشيخة..ظلَّت تدور بالغرفةِ كالمجنونةِ إلَّا أنَّها هتفت:
ـ طيِّب ياستِّ الجميلة التقيلة،
الأمورة معزومة على العشا، إيه مش هتنزلي تاكلي مع مرات طليقِك مستقبلًا..
ألقتها بكوبِ المياه:
-برَّة، ربنا ياخدِك انتِ وأخوكي وأرتاح منُّكم..
-تصدَّقي صح يابتِّ ياميرو، إلهي ياخدو منِّك ويودِّيه للبتِّ أم عيون زرقة دي على الأقل يجيب عيال حلوين شبه أمهُم، مش زيِّك، دا البت ماصدقت ولزقت فيه، لو تشوفي بتتصل بيه كام مرة، ولا قزاريز البرفيوم اللي جيباها، إنما الصبح إلياس كان حاطط برفيوم ريحته تدوخ، عرفت من مصادري أن العروسة الجديدة جبتها له هدية
نهضت سريعًا وهبطت للأسفلِ غيرَ مكترثةٍ لثيابِها التي تصلُ لفوقِ الرُّكبة، بفتحةِ صدرٍ واسعة..
هرولت خلفها تتمتم:
-ياربِّ استر واللهِ البتِّ دي هت موت مقت ولة..
بالأسفلِ قبلَ قليل:
أخرجَ صورةً ووضعها أمامَه، أمسكَ الصورةَ يقلِّبها بيده:
-مين دا؟..
-راجح الشافعي،اللي اتكلمت عنه من فترة ظابط مستقيل سابقًا، رجل أعمال حاليًا، عليه علامة استفهام كبيرة
-أمم نحلَّها..رفعَ فنجانَ قهوتهِ وارتشفَ بعضًا منها، ثمَّ نظرَ إلى الصورةِ واستطردَ مفسِّرًا:
-عايز كلِّ حاجة عنُّه، من فترة عملت سيرش، لكن للأسف صدَّقت اللي كنت عايز أصدَّقه، لحدِّ مادخل حياتي صُدفة مرَّة تانية..
-قريبَك؟..تساءلَ بها أرسلان
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ أكمل:
-مش موضوع قريبي، الراجِل اللي ضرب بابا، واللي حاول يموِّتنا دا شغَّال مع شريكه، مع إن شريكُه ماليش علاقة بيه..
-علاقتَك بيه إيه؟..
-تار قديم وجِه وقتِ الحساب..
-أمم ..شكلُه أذاك كتيير؟..
استندَ على المكتبِ ونظرَ إليه:
-الراجل دا أخوه مات في حادث بحر، واتجوِّز مرات أخوه، خلِّفت بنت وهربت بيها عايز النفس اللي اتنفَّسُه في الوقتِ دا..
انكمشت ملامحهِ باستفسار:
-يعني إيه، ممكن يكون هوَّ اللي قتل أخوه؟!..
توقَّفَ إلياس بعدما أشعل سيجارته، ثمَّ جلسَ بمقابلتِه:
-مش عارف، لمَّا سألت الناس كلَّها شكرت فيه وزمُّوا مرات أخوه..
-وبعدين، مايمكن فعلًا تكون كدا..
شعرَ بغصَّةٍ تمنعُ تنفسِه، فهزَّ رأسهِ بالرفضِ سريعًا:
-كنت مفكَّر زيك كدا، لحدِّ ماظهر قدَّامي صُدفة، وبدأ تبان حقيقتُه..
-يعني إيه؟..
-دي اللي هتجاوبني عليها في أقرب وقت، عايز مصادر موثوقة، الموضوع دا مهمّ جدًا وياريت يكون سرِّي بيني وبينَك، يعني لو بابا سألَك متقولشِ حاجة.
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ نهضَ بدخولِ فريدة تخترقُ بنظراتِها أرسلان:
-حبيبي العشا جهز، يالَّه اعزم على صاحبَك يتعشَّى معانا..
توقَّفَ إلياس يشيرُ إليه:
-إيه رأيَك تتعشى معانا ويبقى عيش وملوخية..قالها مبتسمًا..
-ابتسمَ وهو ينظرُ إلى فريدة:
-كنت أتمنَّى واللهِ ياستِّ الكل، لكن النهاردة عشا عائلي وممكن ماما تتبرَّا منِّي، خليها مرَّة تانية، قالها وهو يغلقُ جاكيتهِ لتتساقطَ صورةُ راجح أمامَ فريدة، تنظرُ إليهِ بذهولٍ مع اندفاعِ ميرال ببابِ الغرفةِ تصرخُ بوجههِ قائلة:
-البت دي إيه اللي جابها بيتي تاني، مش دا بيتي اللي حضرتَك قولت ماليش غيرُه هو والقبر..جذبتها فريدة للخارجِ سريعًا ورسمت ابتسامة:
-معلشِ يابني مكنتشِ تعرف إنَّك موجود..توسَّعت حدقتيها وهرولت تختفي خلفَ فريدة بعدما وجدت أرسلان بجوارِ إلياس لتهمسَ بتقطُّع:
-آسفة ..أنا..سحبتها فريدة وخرجت دونَ حديث، نظرَ للأسفلِ وهو يكوُّرُ قبضته، انحنى أرسلان يحملُ صورةُ راجح قائلًا:
-إن شاء الله خلال ساعات هعرفلَك مين الراجل دا بالظبط..
أومأَ لهُ دونَ حديثٍ وهو يريدُ أن تنشقَّ الأرضَ وتبتلعهُ على ما فعلتُه.
تحرَّكَ للأعلى بعد مغادرةِ أرسلان من الفيلَّا كليًا..دفعَ البابَ يبحثُ عنها..
مساءَ اليوم:
بفيلَّا الجارحي، دلفت صفية إلى غرفتها تضعُ أمامها فستانًا من اللونِ الأبيض:
-غرام البسي دا وانزلي حبيبتي أخوات فاروق تحت..
نهضت مبتسمةً واقتربت منها تشيرُ على فساتينها:
-عندي كتير مكنشِ لُه لزوم.. ربتت على كتفها:
-عارفة، بس دا هديِّتي.. طبعت قبلةً على وجنةِ صفية:
-شكرًا ماما صفية، ضمَّتها صفية بحنان:
-ربنا يسعدُكم يارب، أرسو عرف يختار..تركتها صفيه وهبطت للأسفلِ
دلف يطلق صفيرا، ببذلته السوداء
حاوط المقعد الذي تجلس عليه أمام المرآة ونظر إلى انعكاس صورتها بالمرآة
-اميرة ديزني شكلها هتخطف الأنظار الليلة، ودا مش مقبول..ارتدت خاتم زواجها، ثم رفعت رأسها تنظر إليه مبتسمة
-العيلة دي فيها بنات حلوة غير طمطم ولا لا..انحنى يطبع قبلة على جيدها هامسًا:
-حتى ولو انت خلاص سكنتي القلب وشغلتي العقل..لمعت عيناها بسعادة العشق، استدار يجذب حجابها الوردي ثم أوقفها يشير إليها
-خلصي، علشان انا كمان دقيقة وهقفل الباب دا بالمفتاح، والله لو حصل انفجار تحت ماهفتح لحد..ابتسمت بخجل تتناول منه حجابها واستدارت تنظر بالمرآة
بعد قليلٍ وصلت جميعُ العائلةِ للتتعرُّفِ على زوجةِ وريثِ عرشِ الجارحي الوحيد.. دلفت أحلام والجميعُ يشدو بجمالِ غرام، إلى أن هبَّ فاروق بدخولِ والدته:
-مرات مين دي اللي بترحَّبوا بيها، الواد دا... قالتها وهي تشيرُ على أرسلان الذي يحاوطُ جسدَ غرام..هنا شعر اسحاق بتوقف تنفسه وهو يرى والدته تقترب من ارسلان تدفعه هادرة
-إنت مين !!
بشركة مالك العمري
خرجَ من الشركةِ متَّجهًا إلى سيارته، ولكنَّهُ توقَّفَ حينما توقَّفت أمامهِ سيارةَ شرطة:
-يزن السوهاجي..أزالَ نظَّارتهِ الشمسية يهزُّ رأسه:
-أيوة فيه إيه؟..
-مطلوب القبض عليك . هرولت رحيل بعدما وجدت الشرطة تجذبهُ كالمجرم..
بشقَّةِ آدم:
عادَ من عملهِ بيومٍ مليئٍ بالأشغال..بحثَ عنها، استمعَ إلى الموسيقى بالداخل، فتحَ البابَ بهدوءٍ حتى لا يُفزِعها ولكنَّهُ توقَّفَ متسمِّرًا وهو يجدُها ترتدي بدلةَ رقصٍ سوداء، تظهر منحانيتها الأنثوية بسخاء،و ترقصُ على نغمات:
-حبيبتي ترقصُ حافيةَ القدمين.. دفعَ البابَ ودلفَ للداخلِ بعدما أغلقهُ بالمفتاحِ وهي لم تنتبه لدخولِه.. كانت تتمايلُ مع الموسيقى ولكنَّها توقَّفت بعدما شعرت بكفِّهِ يحاوطُ جسدها يهمسُ بجوارِ أذنها كلماتِ الأغنية، لترتجفَ محاولةً الفكاكَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كانَ كالأسدِ الجائع..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
أميرتي الصغيرة ..
عانقيني بنظرات عينيكِ ..
دعيني أتأمل جمال الروح في محرابكِ
أتنهد هدوء النسمات من أنفاسكِ ..
أرتشف زوبعة الحب من فنجان الشفاه
ثم أحملك بأجنحتي فوق وسادة القمر ..
كالفراشة ترفرف بين أحضان الزهور ..
فإن سألوكِ يوماً ،،،
عن موطن الياسمين ،،،
فقولي :
بين شفاه من نطقوا عشقًا فكانوا له أوفياء ..
#إلياس_السيوفي
دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها، استمعَ إلى حركةٍ بغرفةِ الملابس، دفعَ البابَ وجدها تقومُ بتبديلِ ثيابها، أغلقت سحَّابَ فستانها، ثمَّ رفعت عينيها إليه.. سحبت نفسًا قويًا حينما شعرت أنَّها أوشكت على البكاء، تعلمُ أنَّها أخطأت ووضعتهُ بموضعٍ خجل، اقتربت منهُ بعدما وجدت نظراتهِ الغاضبة:
-عارفة مهما أتأسِف مش هقدر أقلِّل من غلطي الشنيع، بس واللهِ كنت مفكَّراك لوحدَك، أنا مستحيل أكون بالطريقة البشعة دي..
التوى زاويةَ فمهِ بعبثٍ يشيرُ إليها باستهزاء:
- لو معملتيش كدا هشُك يكون فيكي حاجة، عارف ومتأكد إنِّك متقصديش، علشان لو قصدتي أنا ممكن أموِّتك من غير مايرفِلي جفن، اقتربَ منها وشيَّعها بنظرةٍ مهينة، يضغطُ على ذراعها بقوَّةٍ آلمتها:
-لو أنتِ عاقلة وبتفكَّري قبلِ ماتتهوَّري مكنتيش حطتيني وحطيتي نفسِك في موقف زي دا..أنا خلاص زهقت منِّك ومن تهورِك...قالها ثمَّ دفعها بعيدًا وكأنَّها عدوى، ثمَّ أشارَ بإبهامه:
-متخلنيش أتعامِل معاكي بتعامُل إلياس الظابط، دا آخر تنبيه ليكي...
قالها وتحرَّكَ سريعًا للخارجِ يأكلُ الأرضَ بخطواتِه..مرَّت دقائقَ وهي متوقفة تنظرُ إلى خروجهِ بقلبٍ يئنُّ وجعًا تتمتمُ بخفوت:
-أنا فعلًا أستاهل ياإلياس علشان بتهاوِن في أغلاطك..
-وايه اللي يجبرك تتحمل واحدة زيي ياالياس باشا..
تسمر بمكانه بعدما استمع إليها..استدار إليها وتشابك بعيناها
-مش يمكن علشان اهبل ولسة بحبك..قالها وخرج سريعًا.. دقائق متوقفة بمكانها لا تعرف أتبكي ام تحزن من كلماته، كل ما فعلته رددت لنفسها "وانا كمان بحبك"
بفيلَّا الجارحي:
دلفت أحلام تطالعُهم باشمئزاز، وهدرت قائلة:
-عروسة مين دي إن شاءالله، عروسة الواد اللي هناك دا، أهي شبهُه..
ارتفعت أنفاسُ فاروق ينظرُ إلى اسحاق الذي وقفَ متجمِّدًا كيف وصلت إلى هنا دونَ إخبارِه، وصلَ إلى والدتهِ مع صوتِ أرسلان:
-إيه اللي حضرتِك بتقوليه دا ياجدتي؟!..
-اخرس يالا، انحنى إسحاق يقبضُ على كفِّها يقبلُه:
-جدتك بتدلَّع عليك ياأرسو، زعلانة علشان معملتِش فرح يليق بأهلِ الجارحي وعزمتهُم..مش كدا ياماما ..انحنى يهمسُ لها:
-أنا مش بهدِّد بس لو اتكلمتي بحرف يقهُر الولد وحياة رحمة أبويا هنسى إنِّك أمي ياستِ أحلام هانم..قالها وتراجع..ولكن كانت هناكَ أعين تراقبُ مايحدث، فاقتربَ بعدما تركَ كفَّ زوجته:
-كنت بتقولًَها إيه ياعمُّو؟..ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى جدته:
-هو حضرتِك زعلانة فعلًا، ولَّا إسحاقو بيحاول يخبِّي حاجة..
رسمت قناعًا باردًا رغمَ خوفها من نظراتِ إسحاق أردفت:
-أه زعلانة..اتكأَ إسحاق على كتفِها مبتسمًا يوزِّعُ نظراتهِ بين الجميع:
-أمي بتحب تتدلَّع علينا..ابتعدت وهزَّت رأسها متراجعةً إلى المقعد:
-كمِّلوا احتفالكو بالعروسة، أنا فعلًا مضايقة علشان الواد دا كان المفروض يعرَف هو تبع عيلة مين، وكمان نزل لمستوى متدنِّي، زي غيره، قالتها تنظر إلى صفية بشماتة، ثم استأنفت
- فين بنات العائلات..
-تيتا لو سمحت..ابتعدت بنظرِها قائلة:
-قولِّي أحلام هانم أنا مش كبيرة أوي على تيتا دي، هتلعب معايا ولَّا إيه..
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ يُطالعها بشك، ثمَّ ردَّد:
-هو ليه حضرتِك بتحسِّسيني إنِّي واحد من الشارع…
حاوطهُ إسحاق وأطلقَ ضحكاتٍ مرتفعة، يجذبهُ لأحضانه:
-الواد دا مشكلة، لازم يرُد كلمة بكلمة..ابتعدَ أرسلان وتسرَّبَ الشكُّ داخله، وعينيهِ على أسحاق مرَّة وعلى فاروق..ظلَّ الوضعُ على صفيحٍ ساخنٍ بينهم بعضَ الوقت.. إلى أن افتتحت الحفلة برقصةِ أرسلان وزوجتهِ ببدايةِ الأمر…
حاوطَ خصرها وتحرَّكَ مبتعدًا بها، رفضت في بدايةِ الأمرِ ولكنَّها وافقت مجبرةً بعد إصراره..
بسطَ كفَّيهِ لتعانقَ يديها واحتضنها بعينيهِ الحنونةِ لتبعثَ بداخلها قشعريرةً قويةً تسربت لعمودها الفقري، ابتعدت بنظرِها خجلةً تنظرُ بكافَّةِ الأرجاءنظرت ليديه تفرك بكفيها تهمسُ له:
-مبعرفشِ أرقص ياأرسلان، عمري مارقصت..
-حبيبتي إيدي وجعتني والكلّ عمَّال يبُص علينا، هفضَل مُنتظر كتير…
رفعت نظرها إليهِ ولمعت عينيها بخطٍّ من الطبقةِ الكرستالية:
-مبعرفشِ خايفة يضحكوا عليَّا..
-مش واثقة فيَّا...دنت ُمنه ووضعت كفَّيها بين يديه، ليحاوطَ خصرها يقرِّبها إليه، قفلت جفونها بشدَّة، وهي تحاولُ أن تسيطرَ على تلك العاصفةِ التي اجتاحت جسدها من قربهِ المهلك،
بلَّلت حلقها الذي شعرت بجفافه:
-أرسلان هعمِل إيه، خايفة..
-ارفعي راسِك وبوصيلي وبس، واتحرَّكي مع الموسيقى..
هزَّت رأسها بالنفي وتمتمت بتقطُّع:
-مش هقدر صدَّقني، هدوس على رجلَك..قهقهَ عليها وبدأ يتحرَّكُ مع الموسيقى وذراعهِ يحاوطُها يتحدَّثُ معها حتى يسحبُ رهبتها:
-ماقولتيش إيه رأيك في العيلة، من وقتِ ماجينا هنا أمي استفردِت بيكي..
ابتسمت بخجلٍ مردفة:
-اسمها أمَّك، اللي يسمع أرسلان باشا مايشوفشِ المستوى الاجتماعي..
انكمشت ملامحهِ باعتراضٍ قائلًا:
-ليه بقى إن شاءالله!!
مازالت ابتسامتها تنيرُ وجهها وتناست أنَّها ترقصُ بين ذراعيه لتردف:
-متوقعتِش تبقى غني أوي كدا، كنت مفكَّرة إنَّك من الطبقة المخملية بس الهاي كلاس دي استبعدتها..
قرَّبها إليهِ حتى اختلطت أنفاسهما وكادَ أن يلمسَ ثغرها لتبتعدَ متلفِّتةً حولها بخجلٍ من حركاتِه:
-يابنتي اثبتي أنا كنت هجاوبِك بس، لكن إنتِ اللي دماغِك شمال..
-أرسلان بس بقى والله هعيط..توقَّفت الموسيقى مع تصفيقِ إسحاق لينتبهوا للجميع..حمحمَ وسحبها متَّجهًا إلى والدتِه:
-إيه رأيك في مرات ابنِك ياصفية خانوم..سحبتها صفية وعيناها على أحلام خوفًا من انقلابِ فرحتها، ثمَّ أجلستها بجوارِها:
-أحلى عروسة ياحبيبي، ربنا يسعدُكم يارب، وأشوف ولادُكم قريب.
انحنى يقبِّلُ يدَ والدتهِ ثمَّ رأسها، رفعت رأسها تطالعهُ بذهولٍ تهمسُ لنفسها:
-هل حقًّا هذا الشخصَ هو المتجبِّر زوجها، هذا المتكبِّر الذي لا يتحمَّلُ أحد إفراضَ رأي عليه..ظل الحفل لبعض الوقت إلى أن همسَ إلى والدته:
-أنا ماليش في جوِّ العيلة الخنيق دا، كلُّهم عرفوا إنِّي اتجوزت أهو، وشايف أحلام عايزة تموِّتني معرفشِ ليه، فأنا هروح بيتي سامحيني..مش هقدَر أبات هنا ووعد زي مااتفقت كلِّ خميس هنيجي نبات معاكي، وأيِّ سفر ليَّا هجيب غرام لحضرتِك.
ربتت على كتفهِ متنهِّدةً أخيرًا فهي تريدُ أن يذهبَ قبلَ أن تتفوَّهَ أحلام، فلولا وجودِ إسحاق لانقلبت حياتهق
-خُد بالك من نفسك ومن مراتك، التفتت إلى غرام:
-خلِّي بالِك منُّه حبيبتي..توقَّفت مبتسمةً تنظرُ إلى أرسلان وهمست:
-حاضر ..سحبَ كفَّها يلوِّحُ إلى والدهِ وإسحاق الذي تنفَّسَ أخيرًا بحريَّةٍ يجذبُ فاروق إلى المكتبِ حتى يطمئنهُ خوفًا أن يصيبهُ مكروه..
هوى على المقعدِ يفتحُ ربطةَ عنقهِ يتنفَّسُ بتثاقلٍ مع دخولِ أحلام بعدَ استدعاءِ إسحاق إليها مع الخادمةِ.. دلفت كالجبروتِ تجلسُ تطالعُهم بغضبٍ وهدرت معنِّفةً إياهم:
-متفكَّروش سكتّ علشان حاجة، ممكن أخرج أفضحك يافاروق برَّة إلَّا إذا وافقت على شروطي..
-أملاكك كلَّها تتكتِب باسمِ ملك، مراتَك وابنِ الشوارع دا ماياخدوش ولا مليم
جلسَ إسحاق يشعلُ سيجارتهِ يشيرُ بعينيهِ لفاروق على أن يهدأ ثمَّ سحبَ نفسًا من تبغهِ ينفثهُ بهدوءٍ وعينيهِ على والدتهِ متمتمًا:
-أنا صبرت عليكي كتير، ودا مش حبًّا فيكي، دا علشان اسمِ العيلة اللي وعدت أبويا إننا نحافظ عليه، معرفشِ بأيِّ حق جاية تتكلِّمي، هوَّ مش حضرتِك اتبريتي منِّنا وروحتي اتجوِّزتي، راجعة وعايزة إيه..فتحت فاهها للحديث، إلَّا أنَّهُ نصبَ عودهِ بتكبُّر واقتربَ منها ثمَّ انحنى يحاوطُ مقعدها بذراعيه:
-الماضي لسة قدَّام عيوني ياأحلام هانم، ياريت نهدى ونتلَّم كدا، أنا عن نفسي متبرِّي منِّك وبحاول أضغط على نفسي وأتقبَّلك قدَّام المجتمع علشان فاروق مش أكتر، إنَّما إنتِ متهمنيش ولو حتى خطوة للباب دا، أقسم بربِّ العزة لو نطقتي كلمة واحدة قدَّام أرسلان لأطلعلِك إسحاق القديم أظن فكراه كويس ..المرة اللي فاتت فاروق أنقذِك من تحتِ إيدي، المرَّة دي مش هرحمِك، لمِّي الدور وارجعي لجوزِك وعيالُه، حقِّك وأخدتيه جاية لعندنا ليه..
-إسحاق اتجنِّنت، إنتَ ناسي بتكلِّم أمَّك..
اعتدلَ يطالعهُ بتهكُّم:
-لا مش امي ..قالها وخرجَ يشيُّعها بنظرةٍ تحملُ الكثيرَ من البُغض..
نهضت من مكانها تشيرُ على خروجه:
-شايف أخوك، شوفت بيعاملني إزاي..
-ماما إسحاق ومش هيتغيَّر، والبركة في حضرتِك..
-ليه مش من حقِّي أعيش حياتي ..نهضَ من مكانه:
-مش كلِّ مرَّة نتكلِّم في الموضوع دا..
بسيارةِ أرسلان، جلست بجوارهِ بالخلف، كان يتحدَّثُ مع أحدهم:
-لا بكرة هكون خارج القاهرة، تمام،خلِّيك وراه واعرف الواد دا آخرُه إيه..أنا هقفِل الفون أيِّ حاجة كلِّم سيادةِ العقيد وبلَّغه بالجديد..
قالها وأغلقَ الهاتفَ يتطلَّعُ للتي تنظرُ للخارجِ بشرود، تُراجعُ ذكريات منذُ أيامٍ بعدما أخذها من منزلهما متَّجهينَ إلى الفيلَّا الخاصة بالعائلة..ترجَّلَ من السيارةِ ثمَّ بسطَ يدهِ يساعدُها بالنزولِ من السيارة، تلفَّتت حولها:
-إحنا فين؟..حاوطَ كفَّها وتحرَّكَ لداخلِ الفيلَّا بعدما وقفت السيارةُ أمامَ البابَ الداخلي:
-دا بيتنا..توقَّفت متسمِّرةً وازدادَ توترُها
تسائلهُ بتقطُّع:
-يعني إيه، وليه جايبني هنا؟!..
تحرَّكَ بعدما سحبها من كفَّها:
-جه الوقت اللي الكل لازم يعرف مين هيَّ غرام الجارحي.
-أرسلان لو سمحت..استدارَ ينظرُ إليها بصمتٍ يستمعُ اليها، تركت كفِّهِ وتمتمت بتقطُّع:
-أنا مش جاهزة.. إزاي تجبني من غير ماتقولِّي، إمتى هتشاركني قراراتك..
لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدها ونظرَ لوجهها مردفًا دونَ نقاش:
-اسمعيني علشان مش هكرَّر الكلام تاني، إنتِ مراتي وكان لازم من زمان تكوني هنا، بس أنا اللي كنت بأجِّل لأتأكد من مشاعري، إنَّما آخد رأيك ليه في موضوع محسوم، وياستي لو قلقانة مفيش غير ماما اللي موجودة، وبابا على وصول والراجل مش هياكلِك هوَّ عارف أصلًا إنِّي متجوِّز هوَّ وأمي..
-إيه!! إزاي..أومال ليه مخبِّي ومين اللي ميعرفش؟..
أشارَ إلى الحديقةِ وأردف:
-إيه رأيك نفرش ونقعد هنا ونحكي ليه أنا معرَّفتش البقية، ادخلي حبيبتي ربنا يهديكي، مش كلِّ حاجة ينفع أحكيها..
تحرَّكت بجوارهِ بصمت، بعدما لمَّحَ لها ببعضِ الإشاراتِ عن هويتِه..
دلفَ للداخلِ قابلتهُ الخادمة:
-أهلًا ياباشا..نزعَ معطفها وناولهُ للخادمة، ثمَّ فعل مثلها متسائلًا:
-ماما فين؟!..أشارت إلى غرفةِ الموسيقى قائلة:
-الهانم جوا، ملك هانم لسة واصلة من شوية..سحبَ كفَّها وتحرَّكَ للداخل ..طرقَ البابَ رفعت ملك عينيها تنظرُ للذي دلفَ وبجوارهِ إحدى الفتيات،
هبَّت من مكانِها تهرولُ إليه:
-أبيه أرسلان..وحشتني، قالتها وهي تعانقه، رفعها يضمُّها باشتياقٍ مقبِّلًا وجنتيها:
-ملوكة حمدالله على السلامة..
ابتسمت لهُ تطبعُ قبلةً على وجنتيه:
-الله يبارك فيك ياحبيبي، لاحت بنظرها إلى غرام التي كانت تنظرُ إلى صفية برهبة، اقتربَ أرسلان من والدته:
-صفية هانم الدراملي وحشاني..قالها وهو ينحني يطبعُ قبلةً فوقَ رأسها..
ربتت على ظهره:
-حمدالله على السلامة حبيبي، قالتها وعينيها على غرام التي وقفت منكمشة، أشارت عليها متسائلة:
-الجميلة دي مراتك..بسطَ يدهِ إليها قائلًا:
-تعالي ياغرام، دي ماما ..ثمَّ اتَّجهَ لوالدته:
-المدام خايفة منِّك..قالها وهو يحاوطُ جسدها..تورَّدت وجنتيها تهمسُ بتقطُّع
-إزي حضرتِك..أشارت صفية إليها بالقرب..اقتربت منها وعينيها على أرسلان الذي أومأ لها ..أجلستها بجوارها ثمَّ ضمَّتها لأحضانها:
-ماشاء الله مراتك حلوة ياأرسو..قالتها صفية وهي تلمسُ وجنتيها..
جلسَ بجوارِها من الجانبِ الآخر، ثمَّ حاوطَ أكتافها غامزًا لصفية:
-دي غرام الجارحي ياصفية يعني لازم تكون ملكة جمال..
اتَّجهت تطالعهُ بغضب طفولي..ضحكَ عليها يغمزُ بطرفِ عينيه..
-إيه ياغرام مكسوفة من ماما..كانت تقفُ بعيدًا ببعضَ الخطواتِ ولكنَّها لا تعلمُ لماذا شعرت بالغضبِ من احتضانهِ لتلكَ الفتاة، رفعَ عينيهِ إليها:
-دي ملاكي الصغير ياغرام، أختي بس من بابا.. اقتربت ملك ثمَّ دفعت غرام وجلست بأحضانِه..
-حبيبي ياأبيه، ربِّنا يخليك ليَّا ياأحسن أخ، وطبعًا هفضل ملاكك طول العمر، أنا وبس مش كدا ولَّا إيه؟..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا:
-إيه يابت هتصاحبيني ولَّا إيه، علشان بهزَّر معاكي..اعتدلت تلكمهُ بصدرهِ وكأنَّهُ يحدِّثها بجدية، ونهضت باكية:
-أنا زعلانة منَّك...
ضحكت صفية وطالعتهُ بعتاب:
-الحقها دي مجنونة، ثمَّ نظرت إلى غرام:
-حبيبتي قرَّبي تعالي، متزعليش من ملك، هيَّ بتغير على أرسلان شوية..
أومأت لها:
-شكلها بتحبُه أوي..شردت صفية تهزُّ رأسها:
-وهوَّ كمان روحه فيها، حاولي متزعليش منها..
-هزَّت رأسها مبتسمة:
-بالعكس مش زعلانة، وبعدين دي أختُه..تذكَّرت صفية تمارا فطالعتها بتدقيق:
-وكمان له بنت عمته بيعاملها كأنَّها أخته، بس أديكي شايفة جيل التكنولوجيا بيعمل إيه، عايزين أخواتهم ليهم لوحدهم..خرجت من شرودها عندما لمسَ كفَّها:
-سرحانة في إيه بقالي فترة بكلِّمك..
استدارت تطالعهُ بنظراتها العاشقة:
-شكرًا على الليلة الحلوة دي..رفعَ كفَّها وقبله:
-بتشكريني على إيه دا حقِّك حبيبتي وأكتر من كدا كمان..
لفَّ ذراعيهِ وضمَّها لأحضانهِ مطبقَ الجفنينِ يستنشقُ رائحتها بوله:
-غرام عايزك دايمًا فرحانة، والابتسامة متفارقشِ وشِّك..
رفعت رأسها وهتفت:
-طول ماإنتَ جنبي أكيد هكون فرحانة..
طبعَ قبلةً فوقَ جبينها ثمَّ فتحَ بابَ السيارةِ التي توقَّفت أمامَ بابِ منزله..ترجَّلت متحرِّكةً بجوارهِ إلى أن وصلَ إلى بابِ المنزل..
-غمَّضي عيونِك، ماتفتحيش غير لمَّا أطلب منِّك..
فعلت مثلما طلبَ منها، فتحَ البابَ وانحنى يحملُها فتعلَّقت بعنقهِ تصرخ..
-أمم قولت إيه ماتفتحيش غير لمَّا أقولِّك..أنزلها أمامَ كعكةٍ متعددةُ الأدوار، وقامَ بإشعالِ الشموعِ مع إغلاقِ الإضاءة، وفتحَ موسيقى أجنبية هادئة..
-كدا كتير ياأرسلان، هفتح عيوني والله..حاوطَ جسدها من الخلف بعدما أزالَ حجابها مع غطاءِ فستانها الخارجي، لينسابَ إلى أسفلِ قدميها وتصبحَ أمامهِ بفستانٍ أبيضَ بحمَّالاتهِ الرفيعة، وطولهِ الذي يعلو الركبة، فلقد اختارهُ لها بعنايةٍ لتصبحَ عروسهِ مستعدِّةً لتلكَ اللحظة..
رجفةٌ أثارت جسدها عندما استمعت إلى همسهِ لتشعر ببرودةِ جسدها:
-دلوقتي غرامي تفتح عيونها الجميلة لحبيبها..فتحت عينيها تنظرُ لتلكَ الكعكةِ المجهَّزة، والشقَّةُ المزينة، التي من يراها يزعمُ أنَّها للعروسينِ ليلةِ زفافهما، تذكَّرت ذاكَ الجناحِ الذي استقرُّوا بهِ بعضَ الأيامِ بفرنسا..ارتخت ساقيها حتى أصبحت كالهلامِ وهي تشعرُ بيديهِ على جسدها المكشوفِ من الفستان ..استندت عليهِ وتحدَّثت بنبرةٍ أثارته:
-دا كله ليَّا أنا معقول المفاجأة دي حبيبي..
آآه عاشقة بنبضِ قلبهِ المتزاحمِ بصدره، رفعت يديها لتحاوطَ عنقهِ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-إيه رأيك في المفاجأة..رفرفرت بأهدابِها الكثيفةِ تحاولُ السيطرةَ على ارتعاشةِ دواخلها، تومئ له..رفعَ ذقنها يلمسُ وجنتيها الناعمة:
-مش هنقطَّع التورتة..أومأت تهربُ من نظراته..وضعَ كفِّهِ فوقَ كفها، وأمسكَ السكينَ ليقطعا جزءًا من الكعكة، حملت الطبقَ بيدٍ مرتعشةٍ تحاولُ أن تضعَ بعضًا له..اقتربَ يبعدُ يديها وحملهُ مكانها، وبدأ يقطِّعُ جزءًا منها يضعهُ بالطبقِ الذي بيديه، وعينيهِ عليها، أشارَ إليها:
-مين هيدوَّق التاني..أمسكَ الشوكةَ وقطعَ جزءًا صغيرًا يقرِّبهُ إلى فمها..
تورَّدت وجنتيها وهو يقرِّبها من شفتيها، لحظاتِ ولم تشعر بشيئٍ سوى اختطافهِ لتلكَ القطعةِ بطريقةٍ انهارت على خلفيتها قلاعها الحصينة، من جرأتهِ الغير المعهودة، لم يرحم ضَعفها وبخفَّةٍ حملها ومازال يعقدُ مع ثغرها علاقتهِ المنفردةِ ليتوِّجَ هذا المساءَ بنيةِ عزيمتهِ لتصبحَ زوجته، سحبها للداخلِ خاطفًا أنفاسها وروحها وهو يسكبُ لها من ترانيمِ عشقهِ ما يجعلها ملكةً متوَّجةً على قلبه، لتصبحَ زوجتهِ قولًا وفعلًا..بعدَ فترةٍ كان يداعبُ خصلاتها وهي تدفنُ وجهها خجلًا منهُ على ماصارَ منذُ قليل..ابتسمَ بحنانٍ على خجلها، دعا بسريرتهِ أن يؤلفَ اللهُ بينهم بالمودةِ والرحمةِ ويملأ حياتهما سعادةً لا تنتهي، طالبًا من المولى عز وجل أن يرزقهما بالذريةِ الصالحة..انحنى يطبعُ قبلةً حنونةً فوقَ جبينها متمتمًا بصوتٍ هامس:
-مبرووك غرامي، دلوقتي بقيتي مدام غرام أرسلان الجارحي..
عندَ يزن بقسمِ الشرطة:
دلفت إلى مكتبِ وكيلِ النيابة، وأردفت متسائلةً بعد السماحِ لها:
-ممكن أعرف يزن السوهاجي هنابتهمة إيه؟..
-حضرتِك مين..تساءلَ بها بدخولِ والدها بجوارِ آدم..
-أهلًا راكان باشا..توقَّفَ راكان يرحبُ بمالك العمري..أشارَ مالك إلى آدم:
-دكتور آدم ابنِ أختي ..ثمَّ اتَّجهَ إلى راكان:
-راكان البنداري..وكيل النيابة اللي حولوله القضية.
ابتسمَ راكان وهو يطلبُ من المسؤولِ عن مكتبه:
-تشرَب إيه ياباشمهندس؟..
-مفيش داعي لحضرتَك..إحنا بس عايزين نعرف يزن السوهاجي بتهمة إيه في القضية دي؟..
-أنا لسة واصل، والملف يادوب بفتحُه، إديني لبكرة وأقولَّك..
هبَّت من مكانها:
-لا طبعا، أكيد مظلوم ومستحيل يبات هنا، حضرتَك لازم تخرَّجُه..
اتَّجهَ بنظرهِ إلى مالك متمتمًا:
-آسف ياباشمهندس، بس دي إجراءت قانونية، مينفعشِ أخلي سبيله.،
تحرَّكت بغضبٍ للخارجِ قائلة:
-أنا لازم أقوِّم له محامي، مينفعشِ يبات هنا..
نهضَ مالك معتذرًا عن عصبيةِ ابنته:
-آسف ياراكان باشا، أصلُهم أصدقاء، وأنا بضمَن يزن على كفالتي الشخصية، هنتظر حضرتَك برَّة وتشوف موضوع القضية دي إيه..
خرجَ ينظرُ لابنتهِ بغضب
-اتجننتي دا وكيل نيابة إيه اللي عملتيه دا..
اقتربت من والدها وشعرت بدوارٍ يضربُ رأسها من كثرةِ عصبيتها:
-بابا يزن مظلوم، لازم تخرَّجه..
زفرَ بغضبٍ وأمسكَ هاتفهِ وقامَ ببعضِ المكالمات ، حتى جلسَ قائلًا:
-القضية عند راكان ومستحيل يخرَّجُه من غير مايدرسها ويحقَّق فيها كويس، كلِّ ماحد يعرف إنَّها مع راكان رافض يساعدني، علشان دا سكِّتُه معروفة مالوش في الواسطة..
-طيِّب مادا كويس ياخالو، يعني هيساعدنا ونعرف نخرَّجُه لو كان مظلوم ..توقَّفَ ينظرُ لابنته:
-الموضوع مش بالسهولة دي، دي قضية قتل، وكمان العربية هو اللي صلَّحها معرفشِ إيه اللخبطة دي..
بالداخلِ عند راكان وهو يتطلعُ على أوراقِ القضية، واستدعاءِ يزن ..توقَّفَ على بعضِ النقاط، بدلوفِ يزن إليهِ
بعد فترةٍ من التحقيقات..
قصَّ لهُ يزن ماصار، بدايةً من وصولِ الشخصِ الذي يُدعى بياسر وحديثهِ بالكامل،وبفطنةِ راكان وخبرته ..أمرَ بإعادةِ تشريحِ الجثمان وفحصِ كاميراتِ چراجِ السيارات..مع حبسِ المتَّهم أربعةَ أيامٍ على ذمةِ القضية، قالها بدخولِ جاسر الألفي..
-مساء الخير يابوص..جلسَ بمقابلتهِ مع انشغالهِ بمراجعةِ الأوراقِ التي أمامه..توقَّفَ جاسر متَّجهًا إليه:
-في حاجة ولَّا إيه؟..رفعَ رأسهِ ثمَّ نزعَ نظارتهِ الطبية:
-القضية الغبية اللي حضرتك قبضت فيها على المهندس، دا ملفِّق غبي..
-يعني إيه..دلفَ العاملُ بقهوةِ جاسر وراكان، صمتَ راكان إلى أن خرجَ ثمَّ أردف:
جاسر انت قولت دا مهندس سيارات، ومن تحقيقاتك قولت أنه عايز بيحب البنت، وانا لاحظت فعلًا البنت بتحبه
-طيب كويس، يبقى ممكن يكون عايز ينتقم زي مالتحقيقات قالت
توقف راكان يهز رأسه بالرفض غير مقتنع ثم أردف:
-إيه رأيك في واحد عايز يدَّخل واحد السجن أو ينتقم منُّه Whatever يعني هوَّ عايز منُّه إيه، بس فكَّر بغباء وتخلُّف..
ارتشفَ جاسر من قهوتهِ يستمعُ إليهِ بتركيز:
-يعني واحد راح لمهندس ميكانيكا يصلَّح عربية في حيِّ شعبي مع إن العربية دي لمالك شركة، وبعد كدا ياخُد العربية مسافة 20 كيلو وبعد كدا يركنها في چراچ لحد ما المتوفِّي ركبها وفجأة الفرامل ملعوب فيها وهوَّ كمان شارب، الموضوع أهبل بتاع عيل أهبل…
-تقصُد إيه من كدا ..نقرَ على مكتبهِ بتفكير:
-المهندس دا ياإما حد عايز يتخلَّص منُّه، ياإما كان مالك المقصود وجت في اللي مات…
-أوبااا كدا مش عيل أهبل زي ما بتقول ياحضرةِ الوكيل..
مطَّ شفتيهِ للأمام يهزُّ رأسهِ بالموافقةِ على رأيه..
-دا للأسف اللي بحاوِل استنتجُه، بس في الأوِّل والآخِر المهندس دا مظلوم ليه حبستُه؟..
-نهضَ يجمعُ أشيائه..
-مينفعشِ أخرَّجُه هوَّ المتهم الأوَّل قدَّام القانون، بعد ماللوا ابن المتوفي متهمه، وكمان عايز أعمل خدعة حلوة علشان أعرف إيه الهدف ..بس دا بعد مايشرَّحوا الجُثة لو جه اللي في بالي صح يبقى كدا مالك نفسُه المقصود..
-بس دي مش عربية مالك، دي خاصة والاجتماعات ووكلاء الشركة وكدا
-بس مالك بيركبها لما يكون فيه اجتماع خارج الشركة، ركز عربية صاحب شركة تتصلح في ورشة بحارة
المهم الواد اللي اسمه ياسر دا حافظ عليه كويس، الواد دا أساس القضية، ودا عايزك تحقق معاه تاني بطريقة تخليه يطفح اكله
قهقه جاسر متحركًا بجواره:
-قلبي ضعيف يابني انت عارفني
توقف يرمقه بسخرية ثم هز رأسه:
-أيوة عارف بدليل الواد اللي قطعت صوابعه انت وياسين دا انتوا غلابة ياجدع ..ارتفعت ضحكاته
-قلبك اسود يابن البنداري، الله يرحم عمايلك يااخويا، متمريش الناس بطوب وانت بيتك من قزاز ..تحرك الصديقان ومازالت ضحكاتهم على وجوههم ليشير راكان لنفسه
-أنا بيتي من قزاز، لا ياحبيبي بيتي غالي من الالماس
-اوووبا عليك ياحضرة المستشار..اقترب هامسًا
-راكان البنداري معاك واديني كام يوم لو مااثبتش المهندس دا برئ يبقى قعدني على عربية طماطم
-دي قضية واحد فلتت من دماغه برج الذكاء، بس على مين
أممم لا فعلًا دماغ ياراكي باشا..
قهقهَ راكان ثمَّ ربتَ على كتفه:
-يابني انا يتعملِّي كتاب ويدرَّس منُه..
اومأ جاسر برأسه:
-ليك الغرور ياحضرةِ المستشار، ماقولتِش على فين السهرة النهاردة؟.،
نظرَ بساعةِ يدهِ قائلًا:
-النهاردة عيد ميلاد كيان ودي لو محضرتِش بتقوِّم الدنيا في البيت، خلِّيها لبكرة..
-أوكيه، كلِّ سنة وهيَّ طيبة، وأكيد أحسن هدية منِّي لكوكي توصل على البيت ..توقَّفَ أمامهِ قائلًا:
-إيه رأيَك تجيب الولاد يقضُّوا عيد الميلاد مع بعض؟..
هزَّ رأسهِ وأردف:
-مش هنا عند عمِّتهُم باسكندرية من امبارح، عيد ميلاد سفيان ابنِ بيجاد هوَّ كمان، هيَّ إيه العيال الرزلة اللي كل ِّشوية ليهم أعياد ميلاد دي..
ابتسمَ راكان بمحبةٍ قائلًا:
-ياسيدي ربِّنا يبارك فيهم ويحتفلوا، المهم الصبح الاقيك محقق مع الواد دا وتعرف تطلعي بحاجة
-تكرم عيونك، توقف جاسر بعدما لاحظ شيئا
-أنما نسيت اسألك مين اللي رشحك للقضية دي، يعني كنا مع بعض امبارح وبحكي لك وماقولتش حاجة..فتح باب السيارة محاولا التذكر، ثم أردف
-معرفش مش متذكر، بس انت عارف مش شرط حد رشحني، أيوة حسن قالي اللواء مصطفى السيوفي اللي انتقل هنا من كام شهر..اومأ له واتجه إلى السيارة
-تمام بكرة هيكون عندك تحقيق كامل، انا كنت سايبها للولاد في المكتب، بس حضرتك أمرت يبقى على الأمر والطاعة، خلاص على تليفون تمام ياصاحبي..
أومأ وهو يتحرَّكُ إلى سيارتهِ ملُّوحًا بيده..
باليومِ التالي بعد مطالبةِ راكان بتغييرِ الطبيبِ الشرعي..وصلَ الأمرُ إلى المشفى الذي يعملُ بها آدم وكان هو الطبيبُ الموكَّل بتشريحِ الجثة، دلفَ إلياس إلى المستشفى يسألُ بالاستعلامات:
-دكتور آدم الرفاعي فين لو سمحتي؟..
أجابتهُ قائلة:
-آخر غرفة بالدورِ التاني يافندم..تحرَّكَ سريعًا إليهِ حتى وصلَ باستعدادِ آدم للذهابِ إلى المستشفى المحجوزة بها الجثة ..توقَّفَ أمامهِ وأخرجَ بطاقته:
-عايزك خمس دقايق ..
أومأ آدم لهُ وجلسَ يستمعُ إليه:
-طبعًا القضية دي مش تبع جهازي، بس لازم أعرف إيه سبب الوفاة، من فضلك عايز أعرف هل بسببِ الموادِ المخدرة فعلًا ولَّا حاجة تانية؟..
-آسف يافندم مقدرشِ أخون وظيفتي وأقول لحضرتَك بدل مش الجهة المسؤولة..
رغمَ إعجابِ إلياس به ووصولهِ إليهِ حتى يعلمُ مابداخله، استندَ على المكتب:
-طيِّب لو قولتلَك اللي حضرتَك تطلبه، المهم التقرير يكون عندي قبلِ مايوصل النيابة..
هبَّ آدمُ من مكانهِ وجمعَ أشيائهِ قائلًا بنبرةٍ حادةٍ إلى ٍحدٍّ
هبَّ آدمُ من مكانهِ وجمعَ أشيائهِ قائلًا بنبرةٍ حادةٍ إلى ٍحدٍّ ما:
-مش علشان حضرتَك ظابط تطلُب منِّي أخالف ضميري المهني، النيابة الوحيدة اللي ليها الحق تعرَف، معنديش تفاصيل بالباقي عايز تعرَف تروح النيابة وحضرتَك ظابط مش هيكون صعب عليك إنَّك تعرَف..
بعدَ فترةٍ أنهى آدم من تشريحَ الجثمانِ للمرَّةِ الثانيةِ، مرت عدة أيام حتى ظهر التقرير الذي أثبتَ خلوِ الجسدِ من أيِّ موادٍ مخدِّرة، وسببَ الوفاةِ ضربةً حادةً بالرأسِ بسببِ حادثِ سيارة ..
فحصَ راكان التقريرَ الذي وصلهُ بعدَ عدَّةِ أيام ..أومأ مبتسمًا بسخرية:
-كنت شاكك والله، مش معقول شاب بيصلي وأخلاقُه عالية هيكون مدمن..
بناءً عليهِ قرَّرَ خروجَ يزن من السجنِ بمحلِّ إقامتهِ إلى أن تنتهي القضية..
بمكتبِ إلياس:
منهمكًا بعملهِ في بعضِ القضايا التي تمسُّ أمنَ البلد، لاحَ بصرهِ لملفٍّ لأحدِ الشبابِ ذاتِ الجنسيةِ الأوروبية، فتحهُ وبدأ يقرأُ مابداخلِه، إذ بهِ يتراجعُ على مقعدهِ وذهنهِ شارد، متذكر مكالمة أحدا من فريقه:
قضية الباشمهندس مازن يافندم
مالها !! قالها وهو يشعلُ سيجارته، ليجيبهُ الآخر:
-تقرير الطبِّ الشرعي بيقول أنُّه كان شارب، والعربية كمان كان ملعوب فيها..
-طيِّب الظابط اللي ماسك القضية دي مش قالَّك حاجة؟..
هزَّ الرجلُ رأسهِ بالنفي ثمَّ استطردَ موضحًا:
-طبعًا أنا بحاول أتلقَّط الأخبار من بعيد زي ما حضرتَك عارف، بس اللي عرفتُه أنُّهم متهمين المهندس اللي اتعيِّن جديد ودا اللي حضرتَك قولت طارق بيراقبُه ليه، بس حضرةِ اللواء مش مُعترف بالتقرير وغيَّروا وكيلِ النيابة
ولسة التحقيقات شغالة ..خرج من شروده على رنين هاتفه:
-أيوة ..ايه الاخبار
زي ما حضرتك توقعت وفعلًا الباشمهندس موتُه حادثة مكنشِ متعاطي، ودلوقتي أفرجوا على المهندسِ المتَّهم بمحلِّ إقامتُه..
-تمام ياعزيز، تعالَ على مكتبي ..نقرَ بقلمهِ على المكتبِ وعينيهِ على شاشةِ العرضِ يتمتم:
-بردو ياراجح بتيجي قدَّامي، ياترى إيه علاقتك بالواد دا..رفعَ هاتفهِ استدعى صديقهِ بالعملِ مع وصولِ عزيز،
جلسَ الثلاثة مع فتحِ شاشةِ العرضِ التي تتناولُ صورَ ذاكَ الشاب:
-الواد دا دخل مصر بعدِ الثورة بكام يوم معاه جنسيات عديدة، شغلُه في شركةِ استيراد وتصدير لإحدى شركات الصين.. وبيتعامِل مع كذا شركة هنا في مصر، من ضُمنهم شركةِ الشافعي..
قالها إلياس وهو ينظرُ إلى شريف وعزيز ..اتَّجهَ شريف يطالعُه:
-وليه شاكك فيه، مايمكن الموضوع فعلًا أنُّه شغل ...قامَ بتقليبِ بعضِ الصُّور لذاكَ الشاب في أماكنَ مختلفةِ
لأماكنَ حيويةٍ يقومُ بتصويرها كسائح..
-طيب مايمكن بيصوَّر عادي ..نهضَ إلياس يشيرُ إلى عزيز:
- قول لشريف باشا إيه علاقتُه بالقضية..
نهضَ عزيز وقامَ بقصِّ ما وصلَ إليه:
-الواد دا كان بيراقب اللواء خيري اللي ابنُه مات في حادثةِ العربية من كام يوم، إحنا لحدِّ دلوقتي منعرفشِ إذا كان هوَّ المقصود ولَّا حدِّ تاني..
-مش فاهم..قالها شريف ..نفثَ إلياس سيجارتهِ واقتربَ من الشاشةِ يشيرُ بيدهِ على ذاكَ الشابِّ في بعضِ الأماكنِ حتى توصَّلَ إلى جلوسهِ بأحدِ النوادي واقترابِ أحد الأشخاص منهُ لدقائقَ ثمَّ اختفائه..
-اللوا دا في الجيش، ليه كان بيراقبُه، وبعدين فيه حاجة مش مفهومة إيه علاقتُه بياسر دا، شوف التلاتة هنا قاعدين، بعدها بيوم الواد ياخُد عربية من عربيات انتظارِ الشركة ، لمكان شعبي وبعد كدا تتحجِز في الجراج لحدِّ ما المهندس ابنِ اللوا دا يركبها ليه، وليه العربية دي الوحيدة اللي ماخرجتش؟!..
-أمم فعلًا كدا الموضوع فيه شك، بس إنتَ بتقول العربية تبع طقم عربيات الشركة يعني إيه اللي يخليه ياخدها ورشة عادية وهو مالوش في الشغلِ دا وفين المسؤول؟..
أشارَ إلياس بيديهِ مستطردًا:
-هنا مربط الفرس بقى ياعمِّ شريف، ياإما هددوا اللواء بابنُه وعملوا لفَّة طويلة، ياإما حدِّ تاني مقصود من الليلة دي، أنا شاكك في المهندس اللي صلَّح العربية، بس ليه، دا واحد غلبان ولسة متعيِّن بقالُه كام شهر..
قاطعهُ شريف:
-مش قولت طارق كان خطيب بنتِ مالك، ودلوقتي خروجها مع المهندس دا..يمكن الموضوع دا السبب نكاية يتخلَّصوا منُّه، رفعَ إلياس رأسه:
-طيِّب وابنِ اللوا إيه دخله، المهم الموضوع دلوقتي في إيد النيابة، بس الواد دا عايزَك تراقبوه كويس حاسُّه تبع منظَّمة، مش ناقصين دوشة..
توقَّفَ شريف قائلًا:
-تمام هنشوف أنا وعزيز الوضع ..
أومأَ لهم يشيرُ إليهم بالخروجِ ثمَّ رفعَ هاتفِه:
-مدام ميرال خرجت من البيت؟..
-أيوة ياباشا خرجت وراحت الشغل، وأنا واقف تحت مُنتظرها..
-تمام مش هقولَّك تاخد بالك كويس، مش عايز حد يئذيها بكلمة، اطلع فوق لرئيسِ التحرير وعرَّفُه الوضع، المكان جديد عليها، ولو سألك قولُّ مدير مصطفى السيوفي مش عايز اسمي..
مرَّ اسبوعٌ كاملٌ والعلاقةُ مازالت بينهما بجمود، مساءً ملبدًا بالغيومِ وكثرةِ الأمطار.. عادَ من عملهِ وجدها تجلسُ بالحديقةِ أمامَ المسبحِ تنظرُ بشرودٍ وكأنَّها الغائبةُ الحاضرةُ بالمكان، توقَّفَ يطالُعها باشتياقٍ لدقائقَ وعينيهِ تخترقُ سكونها الغير معهود، وصلت إليها غادة تحملُ كوبينِ من المشروباتِ الساخنةِ وجلست بجوارِها قائلة:
-الجو برد، وبدأ يمطَّر ادخلي جوا أنا بردت ..احتضنت كوبها ومازالت نظراتها على المسبح تجيبها:
-ادخلي إنتِ حبيبتي أنا عايزة أفضل لوحدي شوية، بفكَّر في مقال صحفي هينزل بكرة..انحنت تقبِّلها على وجنتيها ثمَّ نهضت ودلفت للداخلِ ولم ترَ ذاك الذي مازالَ متوقفًا يراقبُ سكونها..خطا بعضَ الخطواتِ للداخلِ متجاهلًا صراخَ قلبهِ ومطالبتهِ باحتضانها في التَّو والحال وإشباعِ روحهِ الضائعة من ابتعادها عنه..توقَّفَ بعدما عاندهُ قلبهِ ليتنفسَ بعمقٍ مستديرًا إليها وخطا إلى مكانِ جلوسها ..توقَّفَ خلفها شعرت بوقوفه من رائحتهِ التي تسلَّلت إلى رئتيها، ظلَّت كما هي ترتشفُ مشروبها دونَ أن تعيرهُ اهتمام ..جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتها متسائلًا:
-عاملة إيه ؟!
-كويسة..إجابة بسيطة دون أن تنظرَ إليه..استندَ على الطاولةِ أمامهِ ثمَّ طالعها ينظرُ لوجهها الذي بهت قائلًا:
-ليه خرجتي النهاردة للسجن مش قولت خلِّي معاكي حد يغطي الأخبار اللي برَّة الجريدة..التفتت إليهِ بعينيها الحزينة:
-دا شغلي ومش مسموح لحدِّ مهما كان يتدخَّل فيه، وزي ماأنا مش بدَّخل في شُغلك إنتَ كمان ابعد عن شغلي، عارفة إنَّك تتمنى تسحبُه منِّي.. لولا عمُّو مصطفى كنت خطفت منِّي الحاجة اللي بحبَّها ولاقية نفسي فيها..
جذبَ الكوبَ من يديها وبدأَ يرتشفُ منهُ وتركها تتفوَّهُ كلماتها الساذجة كما ادعى..رفعت حاجبها تطالعهُ بذهولٍ على فعلته:
-هوَّ أنا عزمت عليك بالقهوة، بتاخد الفنجان منِّي ليه!..
-بعد شوية فيه ديزاينر هتيجيلِك لو عايزة موديل معيَّن ولو مش مرتاحة في الدريسات اللي جبتها قوليلها اللي إنتِ محتاجاه، بس ممنوع الضيق زي مااتفقنا، قالها وتوقَّفَ يضعُ الكوبَ بعدما أنهى أكثرَ من نصفهِ يشيرُ إليها:
-كمِّليه بعدي بقى علشان أحبِّك أكتر..قالها واستدار ..أغمضت عينيها بعدما تحرَّكَ بجمودِ من أمامها كأنَّهُ يعاقبُها بأشدِّ العقابِ لأيِّ امرأةٍ مهمَّشةٍ أمامهِ سوى مايربطُ اسمهِ وكيانهِ فقط، ذهبت ببصرها لذاكَ الكوبِ الذي ارتشفَ معظمهِ ثمَّ دفعتهُ بكفِّها ليهوى متساقطًا على الأرضيةِ ليصدرَ صوتًا التفًّت إليها سريعًا ظنًّا أنَّهُ أصابها مكروه، وجدها تضعُ يديها على وجهها وكأنَّها تبكي، اتَّجهَ ببصرهِ للكوبِ الملقى على الأرضية ..نهضت تزيلُ عبراتها بقسوةٍ ثمَّ جمعت أشياءها وتحرَّكت للداخل، دونَ أن تعيرَ وقوفهِ أهميةً إلى أن وصلت إلى أحدِ الخدم:
-اعمليلي كوباية ينسون وهاتيها أوضتي، وكمان حاجة للصُداع، أومأت الخادمةُ بطاعةٍ قائلة:
-تحتِ أمرك يامدام ..خطت إلى غرفتها مع مراقبتهِ لتحرُّكها حتى اختفت من أمامِه..وصلت الخادمة إليه:
-الستِّ فريدة طلبت نعمل عشا لضيفة حضرتَك ياباشا فيه حاجة معينة..هنا فهم ما يدورُ بعقلها، فأشارَ إليها:
-أيِّ حاجة ..تحرَّكت فأوقفها، اطلعي للمدام واسأليها لو عايزة حاجة معينة، واهتمِّي بيها
-تحت أمرك ياباشا..
بالأعلى بغرفتها دارت بغضبٍ في الغرفة، فكلَّما تذكَّرت حديثَ فريدة بوجودِ رؤى على العشاءِ اليوم وهي تشعرُ بالجنون، قلبها يؤلمها حتى كادَ يمزِّقُ ضلوعها من شدَّةِ ماتشعرُ به ..سحبت قدرًا كبيرًا من الهواءِ عندما شعرت باختفاء الهواءِ حولها.. استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها أذنت بالدخول ..دلفت الخادمة:
-مدام حضرتِك عايزة حاجة معينة على العشا ..مسحت على وجهها بغضبٍ فهي في حالةٍ تريدُ أن تحرقَ كلَّ من يقتربُ منها، أشارت لها بالخروج:
-اطلعي برَّة مش عايزة أتنيِّل آكل..قالتها بغضبٍ وصوتٍ مرتفعٍ ورغمَ ارتفاعهِ إلَّا أنَّهُ مختنقٌ بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ به..استمعَ إلى صرخاتها على الخادمة، فتحرَّكَ متَّجهًا إليها يشيرُ إلى الخادمة:
-اعملي الأكل اللي بتحبُّه واعملي حسابي معاها ..ابتلعت ريقها تردِّدُ بخفوتٍ خوفًا من ردَّةِ فعله:
-هي بتحبِّ المحشي، حضرتَك هتاكل محشي يافندم..توقَّفَ متسمِّرًا يردِّدُ بينهِ وبينَ نفسهِ بذهول "محشي"
أغمضَ عينيهِ يهزُّ رأسهِ ثمَّ أشارَ إليها بالحركة..وصلت فريدة إليه:
-إلياس أنا اتكلِّمت مع ميرال وفهمتها الوضع بس هي مش مُتقبلة، اقتربت منهُ تمسكُ ذراعه:
-مش هقولَّك علشان خاطري، علشان خاطرها ياإلياس كفاية توجعها يابني، مراتك تعبانة أنا بضغط عليها بس خايفة يحصلَّها حاجة..
أومأَ متفهِّمًا ثمَّ تحدَّث:
-مفيش حاجة بيني وبين رؤى، بس البنت يتيمة ومش عايز أتخلى عنها وحضرتِك عارفة العلاقة بينا إزاي، وكمان هيَّ عارفة..
-بس الوضع اختلف بعد ماكنت ناوي تتجوزها ياإلياس، مش دي اللي كسرت ميرال وكانت هتموت بسببها، متعملشِ لنفسَك أعذار..
تجمَّدَ بوقفتهِ ورمقها بنظرةٍ غاضبة:
-وأنا قولت الموضوع انتهى ليه بنقلِّب فيه..
تعاظمَ الغضبُ بداخلِ فريدة وهدرت معنِّفةً إياه:
-إيه هوَّ جرح في إيدها ياحضرةِ الظابط، حضرتَك جبتِ واحدة وكنت ناوي تتجوِّز قدَّامها وتقهرها، هيَّ دي حاجة سهلة على الست..
-ماما فريدة لو سمحتِ متدَّخليش بيني وبين مراتي، أنا قولت رؤى هتيجي يبقى خلصنا، ومش معنى أنا طلبت منِّك تمهدي علشان متتهورشِ كعادتها يبقى تدخَّلي بينا ..
انكمشَت ملامحها مستنكرةً حديثهِ بغضبٍ جمّ قفزَ بعينيها ثمَّ استطردت بنبرةٍ موَّبخةٍ إياه:
-وأنا مش هتفرَّج على بنتي وإنتَ بتقهرها، الحب مش كدا ياحضرةِ الظابط وأنا لو مش متأكدة من حبَّك ليها صدَّقني كنت خليتك تطلَّقها من وقتها،فاعقل كدا وخُد مراتك في حُضنك بدل مافي يوم ماتلاقيهاش فعلًا، ربِّنا إدالك فرصة تصلَّح أغلاطك مش تمشي بمبدأ أنا وبس..
قالتها وتحرَّكت من أمامهِ سريعًا قبلَ أن تفقدَ أعصابها عليه..
وصلت للخارجِ وقامت بمهاتفةِ أحدهم:
-وصلت لإيه يابني؟..
-اسمه أرسلان الجارحي، من عيلة كبيرة أوي يامدام، فاتح نادي رياضي، وشغَّال في شركة والدُه، هوَّ مهندس الكترونيات، لُه عم عقيد في الشرطة اسمه إسحاق، وعمة ليها بنت وولد، جدتُه كانت عايشة برَّة بس رجعت من كام يوم، عرفت أنُّه متجوِّز من فترة بنت من حيِّ شعبي ومكنشِ حد يعرَف من أهلُه غير عمُّه، عملوا حفلة من أسبوع على شرفها..
تمام يابني ..قالتها وصعدت إلى سيارتها تشيرُ للسائقِ بالمغادرةِ إلى وجهتها..
بالأعلى بغرفتها:
حاولت ألَّا تنساقَ إلى غضبها وتفعلُ شيئًا تندمُ عليه ..ظلَّت تفكِّرُ لبعضِ الوقتِ فيما ستفعلهُ حتى تسيرَ هذه الليلة على مايرام ..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ هبطت درجاتِ السلَّم، تتأنَّقُ بفستانٍ باللونِ الأحمر، ضيِّقٌ من الخصرِ ينزلُ باتساعٍ للكاحل، بحجابٍ باللونِ الأبيض..لأوَّلِ مرَّةٍ يراها بتلكَ الهيئةِ عن قرب ..ظلَّت عيناهُ تتابعها إلى أن وصلت إلى مائدةِ الطعامِ وألقت تحيةَ المساءِ بهدوء، ثمَّ جذبت المقعدَ لتجلسَ عليهِ إلَّا أنَّهُ قاطعها:
-هتقعدي بعيد عنِّي ولَّا إيه ؟!
شيَّعتهُ بنظرةٍ سريعةٍ ثمَّ التفتت بنظرِها إلى رؤى التي تجلسُ بالجانبِ الآخرِ قائلة:
-هنا هكون مرتاحة أكتر..لم تعطيهِ فرصةً للحديثِ لتتابعَ حديثها مع مصطفى وإسلام:
-وحشتوني أخيرًا شفتكُم..ابتسمَ مصطفى بحنانٍ أبوي قائلًا:
-معلشِ حبيبتي مشغوليات، أنا بسأل والدتِك عليكي دايمًا، أومأت مبتسمة:
-تسلملي ياعمُّو..قاطعها إسلام:
-مبرووك الشغل في الجريدة الجديدة ياميرو.
-شكرًا ياإسلام، لسة بحاول أتأقلِم عليها، إنتَ عامل إيه في الجامعة؟..
بدأ يتناولُ طعامهِ ويتحدَّثُ معها، متجاهلةً الحديثَ معه..توقَّفت فجأةً عن الحديثِ على صوتِ رؤى:
-أنا جاية أوضَّح سوء الفهم اللي حصل بس، أنا كنت في مشكلة كبيرة وأبيه إلياس حاول يساعدني علشان كدا كنَّا عاملين موضوع كتب الكتاب دا، بس واللهِ مكنشِ زي ما أنتوا متخيِّلين، أنا عارفة حدودي كويس..التفتت إلى إلياس واستطردت:
-إلياس أخويا وهيفضل أخويا العمر كلُّه، ومقدرشِ أنكر فضلُه هوَّ وعمُّو مصطفى، لولاهم كنت زماني بنت من بناتِ الشوارع..
اهتزَّت حدقتيها تتابعُ ميرال التي أمسكت الشوكةَ وبدأت تتناولُ الطعامَ ولم تهتم لحديثها، تحدَّثت فريدة بعدما رفعت نظراتها إلى ميرال:
-الموضوع انتهى زي ما إلياس قال يارؤى، وأنا متأكدة إن إلياس مستحيل يتجوِّز على مراتُه أو يفكَّر في غيرها، قالتها وهي تغرزُ عينيها بأعينِ إلياس الذي التوى ثغرهِ بابتسامةٍ قائلًا:
-مدام فريدة شايفِك بتدافعي عنِّي مش كدا ولَّا إيه..
أكيد ياإلياس لازم أدافِع عن جوز بنتي، يعني بتحاول تسعدها وأزعلَّك..
رفعَ حاجبهِ بعدما لمحَ نبرةَ التهكُّمِ بصوتها، غرزَ الشوكةَ بصحنِ المحشي
وبدأ يتذوِّقهِ وعينيهِ على ميرال التي تأكلُ بصمتٍ إلى أن هتفت فريدة بصوتٍ انتبهَ الجميعُ إليه:
-طعمُه حلو ياإلياس أوَّل مرَّة أشوفك بتاكل محشي مش خير ولَّا إيه؟..
زمَّ شفتيهِ وعلمَ أنَّها تتلاعبُ به، رفعَ كوبَ المياهِ وارتشفَ بعضهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى ميرال التي نظرت إلى طعامهِ بذهولٍ ثمَّ أردف:
-بحاول أحب حاجة مراتي بتحبَّها مش دي من بنودِ السعادة الزوجية يامدام فريدة..
شرِقت غادة التي توقَّفَ الطعامُ بفمها، تبتلعهُ بصعوبةٍ حتى أدمعت عيناها تنظرُ إليهِ بذهول..
بينما أفلتَ إسلام ضحكة:
-البت هتموت من صباع محشي أكلتُه ياأبيه..بدأ الجميعُ بالضحكِ على غادة التي ضربت إسلام بخفَّة..بينما هو كان ينظرُ إلى ميرال بصمت، نهضت متوقِّفةً بعدما أردفت:
-شبعت ..عشا سعيد، نوَّرتي البيت يارؤى، بس مش معنى قعدت معاكي على السفرة متقبلاكي، أبدًا أنا قعدت علشان عمُّو مصطفى وماما طلبوا منِّي كدا، إنَّما إنتِ في نظري خُنتي العيش والملح، ودا جوزي ميختلفشِ المعنى عليه، أنا شايفة أنُّه خاين زيك بالظبط..
توسَّعت العيونُ بصدمةٍ من كلماتِها التي كانت كالرصاص إليهما ثمَّ استدارت وتحرَّكت للأعلى وكأنَّها لم تقل شيئًا..صمتٌ مشحونٌ بأنفاسهِ المرتفعة، حتى توقَّفَ من مكانه، هبَّت فريدة بمقابلتِه:
-منتظر منها إيه، تصقفلك، جايب واحدة من شهرين كنت ناوي تتجوِّزها وأصريت تقعد معاها على سفرة واحدة، دنت منهُ ترفعُ سبباتها بتهديدٍ واضح:
-بقولَّك قدَّام أبوك أهو، أيِّ غلط جهة بنتي مش هسكتلَك ياإلياس، وزي ماجوزناكم بالغصب نطلَّقكم بالغصب، إيه يامصطفى هصبر على عمايلُه لحدِّ ماتموِّت نفسها، إنتَ مش شايف حالتها ، دي ميرال اللي كان ضحكاتها بترنّ في البيت، ياأما قافلة على نفسها ياأما في الشغل..
كان واقعُ كلماتِ فريدة على مسامعهِ كصدى رعدٍ أصابهُ بالصمم، فتحرَّكَ للأعلى دونَ حديث..حاولت إيقافهِ ولكنَّها أخرجت جيوشَ غضبهِ ونيرانٌ متقدةٌ تخرجُ من مقلتيه، صعدَ للأعلى ورغبةٌ ملحِّةٌ تضربُ قلبهِ من الاقترابِ إليها وضمَّها إلى أحضانِه..
بدونِ مقدماتٍ دفعَ البابَ ودلفَ يبحثُ عنها بلهفة، وجدها جالسةً على الأرضيةِ تحتضنُ ركبتيها وتضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها ودموعها تسيلُ فوق وجنتيها بغزارةٍ حتى كادت وجنتيها أن تختفي خلفها..
وقف يتأمَّلُ مظهرها ببؤسٍ مزَّقَ روحهِ المحترقةِ لأشلاء، فهو يعشقُها حدَّ الجنون ولكن عنادها وتكبُرهِ أضاعَ مابينهما..
كتمَ صرخةً مهتاجةً جاشت بصدرهِ وأقبلَ عليها بخطواتٍ هادئة،
انحنى ليسحبها من خصرِها ويحتجزُ جسدها بينَ ذراعيه..ليضمُّها بقوَّةِ الاشتياقِ الذي ينبضُ بالقلوب..أزاحت يديهِ التي تعتقلُ خصرها وتراجعت تزيلُ دموعها:
-إيه اللي جابك، انزل علشان ضيوفَك مايزعلوش..
صكَّ على أسنانهِ من حديثها اللاذعِ
وبعدهالِك أنا جيت وراكي أهو، عايزة إيه..قفلت جفونها بقوَّةٍ حينما تسرَّبت الغيرةُ بداخلها كنيرانٍ تحرقُ أوردتها لتدفعهُ بعيدًا عنها بعدما شعرت بأنفاسهِ الحارةِ على وجنتيها:
-وليه جاي ورايا مكنشِ فيه داعي، متحسِّسنيش إنَّك مهتم..
حاول معها ببدايةِ الأمرِ بأعصابٍ باردةٍ ولكنَّها أخرجتهُ عن البرودِ وهتفَ بفظاظتهِ المعهودة:
-وإنتِ متحسِّسنيش إنِّك ملاك بريئ..
اقترب عاجزًا حائرًا، يريد أن يعاقبها ولكنه لا يتحمل حزنها، فمن يطرق باب العشق عليه أن يتحمل آلامه، جاهد في إخفاء حزنه ..رفعت عيناها الباكية إليه
انسابت عبراتها وارتجفَ جسدها تشيرُ بيدها وتمتمت:
-قولِّي هتفضل لحدِّ إمتى توجع فيَّا ياإلياس، ليه مُصر إنَّك تموتني بالبطيئ، عايزني أتزلل لك وأقولَّك مقدرشِ أعيش من غيرَك، ماهو من غير ماأتذلِّل وإنتَ عارف ومتأكد، ورغم كدا بدوس على قلبي..
شعرَ وأنَّها تثيرُ أعصابِه، ولكنَّهُ حاولَ السيطرةَ على نفسهِ وتركها تخرجُ قيحَ آلامها،
زفرت بيأسٍ تدورُ حولَ نفسها، بقيت أتعصَّب من أقلِّ كلمة، رغم مش دي شخصيتي، معرفشِ حاسة مبعملشِ غير الغلط وبس، ندمي لنفسي أكتر من تعظيمها، أنا تعبت وزهقت ومبقتشِ متحمِّلة، بحاول أعيش دور واحدة ساذجة بعد مالغيت شخصيتي علشان أرضي معالي الباشا..
كان مشدوهًا لما يسمعه، حتى توقف ملجم اللسان ولم يستطع التفوه، لم تحيد بصرها تطالعه بملامح جامدة:
-عايزة اعيش حياتي بشخصيتي، ليه انا بقيت كدا، فين ميرال من حياة إلياس، كل اللي بتعمله في حياتي هو العقاب وبس
قاطعها قبلَ أن تتمَّ كلماتها:
-لأنِّك طايشة ومتهورة، وبتحكِّمي لسانِك قبلِ عقلِك، نفسي تفكَّري قبل جنانِك، أنا مش مصدَّق إنِّك واحدة عاقلة وصحفية، مش إنتِ اللي تعبتي، أنا كمان زهقت من تهوِّرك، اقتربَ خطوةً يضغطُ على أسنانهٍ بغضبٍ حتى لا يُخرجهُ بها:
-هروب من المستشفى ، وقميص نوم قدَّام راجل غريب، أجيب عقل منين، قوليلي أجيب عقل منين يتحكِّم في اللي عملتيه، لو شايفة أنا السبب في استهتارِك دا وعد منِّي هخلي نفسي من حياتِك خالص، بس في مقابل أشوف ميرال بتاعة زمان اللي كانت بتسفزِّني بكلِّ برود أعصاب منها، مش واحدة مجنونة بتتعامِل كطفلة عندها عشر سنين..
اكتسى وجهها معالمَ الوجعِ والخزي بنفسِ الوقت، رفعت عينيها بعدمِ رضا عن حديثه:
-ليه دايما أنا الغلط وإنتَ الصَّح..
-علشان دي الحقيقة ..قالها مزمجرًا، ثمَّ ثم تابع بنفاذ صبر هادرًا بها:
-فوقي من هبلِك دا، إحنا مش صغيرين، عايزة توصلي لإيه، أنا مش من النوع اللي بيطبطب لأنِّك مش عيلة بضفاير، افتكري لولا الحادثة كان زمان هيبقى عندنا أطفال وهتكوني أم..
تجهَّمت ملامحها واشتعلت عينيها بغضبٍ من قسوةِ حديثه:
-بس أنا من حقِّي أحسِّ إن ليَّا قيمة عندَك، إنتَ كلِّ حياتك أوامر وبس، حتى أبسط حقوقي منعتها عنِّي..
قالتها بصوتٍ باكي مبتعدةً عنهُ وتابعت حديثها:
-كرامتَك ورجولتَك فوق كلِّ حاجة، أي كلمة أقولها تعتبرها مسخ ويوم ماأغلط تنصب لي محكمة، أمَّا الباشا لمَّا يغلط معذور لازم يدافِع عن نفسُه.
-ميرال ..صاح بها بغضب، ثمَّ دنا بخطواتهِ إليها يجذُبها من خصرها بقوَّة:
-طلاق مش هطلَّق متلفيش وتدوري عليَّا، أنا مش هطلَّقِك حتى لو عملتي إيه، فبلاش دور أمينة رزق..
رفعت عينيها تنظر إليه بذدراء :
-وأنا مش عايزة أطلَّق، أنا عايزة أحس إنَّك باقي عليَّا، عايزة أحس بحبُّك مش قسوتَك ياإلياس، رفعت كفَّيها على وجههِ ونظرت بداخلِ مقلتيه:
-عايزة أحس إنِّي حبيبتَك في كلِّ وقت مش وقت ماتقرَّب منِّي بس، دا كتير عليَّا...قالتها وعيناها تحاورُ عيناهُ برجاءٍ ثمَّ دنت تضعُ جبينها فوقَ جبينهِ تهمسُ بأنفاسِها الباكية:
-حسِّسني إنِّي مراتَك مش سلعة ياإلياس، بلاش تحجُر عليَّا بالقسوة لو سمحت..
رغمَ أنَّها كلمات ولكن اخترقت صدرهِ كالخنجرِ المسموم، ليشعرَ بتمزُّقِ روحه..
ربتَ على ظهرها ثمَّ ابتعدَ وغادرَ الغرفةَ في محاولةٍ لتهدئةِ أنفاسهِ التي شعرَ بانسحابها، جلست تبكي بشهقاتٍ بعد خروجه حتى استمعَ إلى صوتِ بكائها، توقَّفَ عاجزًا لم يعد لديهِ القدرة عن صمتهِ بعذابهما، كيف يكونُ الحبُّ بهذه القسوة، كلِّ واحد منهما يريدُ أن يؤذي الآخر وإهدار كرامته بطريقته..فكَّرَ متردِّدًا لما يفعلهُ وقلبٌ ينبضُ بجنونٍ من آلامِها وعقلٍ ينكرُ حماقةَ تصرفاتها، أحاسيس مختلفة وحربًا شعواء بداخله، استدارَ إليها مرَّةً أخرى واتَّجهَ إليها:
اقتربَ منها وضمَّها لصدره:
-خلاص اهدي، وهعملِّك اللي إنتِ عايزاه، بطَّلي عياط ، لو متأكد الطلاق هيريَّحِك كنت طلَّقتِك، مشكلتِك عايزة توجعيني وخلاص..
تملمت بأحضانهِ تلكمهُ بصدره:
-إنتَ اللي عايز تنتقِم منِّي وخلاص، علشان كنت رافض الجواز، وعمُّو مصطفى اللي ضغط عليك علشان تحميني من عمِّي صح ..اتحطيت قدَّام الأمرِ الواقع، وطبعًا الفرصة جاتلَك توجعني براحتك وتنتقم منِّي ومن ماما..قولت تتجوِّز عليَّا وزي ماقولت تتمتَّع شوية وبعدين تتطلَّقني ،قالتها مع ازديادِ بكائها..
تصنَّمَ جسدهِ يطالعُها مذهولًا يتمزَّقُ بين قلَّةِ حيلتهِ وثباتهِ على انفعالاتهِ الهوجاء واتهاماتها الشنعاء؛ مازال يرمقها بغضب محموم اندلع من حدقتاه
هزَّت رأسها وعينيها تحاورُه:
-عايز توجعني وبس ياإلياس صح، كلِّ تفكيرَك تقهر بنت الستِّ اللي قتلت مامتك زي مابتقول، المهم تقهرني وخلاص..علشان كدا رايح تعزم البنت اللي بسببها كنت زماني ميتة، ثبتت عيناها بمقلتيه وزمجرت بحزن اخنق صوتها
-ياريتني موت، اهو موت ساعة ولا كل ساعة ..قالتها بنبرة مشتتة وعينان تائهة مع قلبًا يتفتت من الألم
اغتيال عنيف هزَّ داخله، كيفَ تتَّهمهُ بتلكَ التُهم وهو الذي يموتُ بها عشقًا..
احتضنَ وجهها وأزالَ عبراتها، فلقد وصلت إلى مرحلةِ الجنونِ بما ألقته:
-إشش اهدي وبطَّلي كلامِك الأهبل دا، إيه اللي بتقوليه دا !…
رفعت رأسها بدموعِ عينيها:
-بس أنا فعلًا موجوعة ومش قادرة أتحمِّل طريقتَك معايا.
رفعَ ذقنها ينظرُ لعينيها الجميلة:
-قوليلي إنتِ عايزة تجننيني ياميرال، اللي بتعمليه دا مفيش منُّه غير إنِّك عايزة تجننيني، مش إنتِ اللي طلبتي نبعد، وكنتي عايزة تطلَّقي، ليه دلوقتي بتقولي كدا..
-تقوم تسمَع كلامي، وكمان تقهرني ترجع تكمِّل في جوازة الحيوانة اللي اسمها رؤى، مُصر إنَّك تدبحني علشان طلبت الطلاق ولَّا عايز توجعني وخلاص..
حاولَ إخفاءِ ابتسامتهِ ولكنَّهُ فشل،
لمعت عيناها باذراء بعدما رأت ابتسامته رغم إهانته لها، وحرق روحها
-بتضحك، فرحان فيّا صح
-فيه حد يفرح وروحه مجروحة، نطق اسمها بنبرة غلبت عشقها لها
-ميرال انا مش عايز اخسرك، افهمي بقى، بلاش نضيع حياتنا في الخناقات والعند
-وأنا والله نفسي اعيش حياة طبيعة معاك، إلياس لو هنفضل كدا يبقى ننفصل، انا تعبت بجد مبقاش فيا حيل كل شوية اوجع قلبي
أطلق زفرة ملتاعة بنيران تكوي كالحمم البركانية من حديثها المهلك، ثم سحب نفسًا واقترب منها قائلًا:
-مفيش طلاق ياميرال، لو بتحبيني زي ما بتقولي اثبتي
تآذر نبض قلبها تهمس بخفوت
-بحبك والله بس مش قادرة الحب مش كل حاجة ..
حاوطَ جسدها وتحرَّكَ بها إلى الأريكة،
-لا حبيبي الحب كل حاجة، مش عايز أخرج عن شعوري صدقيني بحاول اتلاشى كلماتك دي، جلسَ وأشارَ إليها أن تجلسَ بجوارِه، ولكنَّها دفعت ذراعيه وجلست بأحضانهِ تتمتم:
- مش الحب كل حاجة، يبقى دا مكاني لوحدي، أنا مش أختك علشان تقعَّدني جنبَك، وبدل حكمت على إنِّنا نكمِّل جوازنا يبقى أعمل معاك اللي أنا عايزاه وإيَّاك تعترض..لا يعلم لماذا شعرَ بالسعادةِ من كلماتها، وبدأ يتقبل أي شيئا انحنى يلفُّ ذراعيهِ حولَ جسدها يضعُ ذقنهِ على كتفها:
ميرال واللهِ أنا كدا هتجنِّن منِّك، انا مطلبتش تبعدي عني، انت اللي طلبتي
لوَّحت بيديها وهي بأحضانه:
-أه وحضرتَك ماصدَّقت..
اتَّسعت حدقتيهِ باندهاشٍ وأقسمَ بداخلِه:
-واللهِ البنتِ دي هتاخُد حقِّ السنين دي كلَّها، تراجعت بجسدِها عليهِ مردفة:
-عايزة حقِّي منَّك ومش هتنازل عن أيِّ حق من حقوقي..
-وأنا تحت أمرِك أهو، شوفي عايزة إيه وأنا أعملوهلِك..
رفعت رأسها للأعلى تنظرُ لوجهه:
-أي حاجة أي حاجة..داعبَ أنفها وابتسمَ على طفولتها:
-إنتِ عندِك كام سنة؟..استدارت تطالعهُ باستفهامٍ وأردفت بصوتٍ مرتفع:
-ليه التريقة بقى، جذبها إليهِ مرَّةً أخرى:
-وليه سميتها تريقة، أنا بقول عندِك كام سنة علشان كلامِك كلام أطفال، حبيبتي إنتِ كبرتي مبقتيش صغيرة..
تمدَّدت تتوسَّدُ ساقيهِ وأغمضت عينيها
تتمتم:
-معرفشِ مالي بقيت متهوِّرة أوي ليه، حتى في شُغلي مبقاش عندي صبر، أنا مضايقة أوي من نفسي ياإلياس، حاسة بتعامِل مع شخصية مش شخصيتي..
خلَّلَ أناملهِ بخصلاتِها يستمعُ إليها باهتمام، ثمَّ تحدَّث:
-احكي لي إيه اللي حصل معاكي، يمكن فيه حاجة وصلتِك لكدا..
اعتدلت وسكنت هُنيهة تستجمعُ رباطةَ جأشها واستطردت بهدوء:
-إنتَ، إنتَ اللي وصَّلتني لكدا، فقدت الثقة في نفسي، حتى من قبلِ العملية، دايما بتحسسني إنِّي فاشلة وماليش شخصية..قالتها بمرارةٍ والدمعُ يتساقطُ من محجريها وتابعت بصوتِ بكائها:
-كنت مفكَّرة بعد جوازنا هستقوى بيك، لكن للأسف ضعفت وانهرت، بحاول أراضيك حتى على حساب نفسي، قولت دا حبيبِك ولازم أتأقلم مع شخصيتُه، رفعت عينيها التي أصبحت كالشلال وهمست بضعفٍ مسترسلةً من ثنايا قلبها الذي يحترقُ ألمًا:
-حاولت واللهِ بس فشلت، حاولت صدَّقني..كان يستمعُ إليها بذهولٍ وملامحَ تحطَّمت كالبلورِ من فظاعةِ حديثها واتهاماتها الشعواء التي مازالت تُلقيها بها دونَ وجهِ حق كما ظن، دنا بجسدهِ وانحنى يحتضنُ وجهها بين راحتيه:
-أنا عملت دا كلُّه فيكي، أنا!..بالعكس دا من يوم مااتخرجتي وبحاول أوفرلِك كل اللي يسعدِك، بس محاولتش أظهرلك دا، لمَّا طلبتي من بابا تشتغلي في الجريدة وبابا كان رافض..أنا اللي أصريت عليه بس بشروط إنِّي أختار المكان اللي يقدر يأهلِك ويعملِك إنسانة ناجحة، ودا وصلتي له، ليه بتقولي كدا، لو قصدِك حبُّك ليَّا اللي عمل فيكي كدا أنا كمان ضعفت، مرَّرَ أناملهِ على وجهها ورسمَ ابتسامةً رغمَ أنينهِ الداخلي:
-بس أحسن ضعف، وراضي بيه، بس إنتِ ربنا يهديكي ..توسَّعت عيناها تطالعهُ بذهول، رفعت كفَّيها على جبينه:
-إنتَ سُخن ولَّا حاجة ..قهقهَ عليها يجذُبها لأحضانهِ ثمَّ دفنَ رأسهِ بحنايا عنقها:
-أوي أوي..وعايز أتعالج ..ارتجفَ جسدها من نبرتهِ المبحوحة، ومغزى حديثه، أغمضت عينيها تحاوطُ خصرهِ متناسيةً كلَّ مامرَّ بهما..ابتسمَ على حركاتها، ظلَّ الصمتُ يعمُّ المكانَ لدقائقَ وهما يحتضنُ بعضَهما البعض، اعتدلَ بعدما استمعَ إلى هاتفِه..ابتعدت عنهُ وشعرت بحمرةِ وجنتيها من نظراتهِ إليها، توقفَّفَ قائلًا:
-هرد وراجعلِك ..أومأت مبتسمةً تفركُ بأناملها ..وصلَ إلى النافذة:
-أيوة فيه إيه؟،.
--مبرووك ياباشا البيوتي سنتر بقى كوم رماد، ومفيش تأمين متخافش..
-كمِّل بقى، مش عايز غلطة ..قالها وأغلقَ الهاتفَ ليشعرَ بها تحاوطُ خصرهِ من الخلفِ تضعُ رأسها على ظهره، احتضنَ كفَّيها:
-سمعت انك اخدتي اجازة، ليه، قالها ومازالَ ينظرُ للخارج ..اعتدلت وتوقَّفت أمامه:
-مش عارفة، ماليش مزاج..
جذبَ عُنقها لصدرهِ وضمَّها بحنان:
-لا ..لازم تنزلي شُغلك وتكمِّلي طموحك، بس زي مااتفقنا عجبني لبسك وحجابك،..لو سمحتي دي فريضة، أنا عارف ماما فريدة حاولت معاكي، بس ليه كنتي رافضة معرفش.. !!
كانت تنظرُ إليهِ والسعادة تنبثقُ من عينيها بعدما أردفَ بكلمةِ ماما فريدة، لا تعلمَ أيقصدُها أم أنَّهُ أخطأ في النُّطق ..ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-مالك بتبصي ليَّ كدا ليه؟!..
أوَّل مرَّة تقول قدامي ماما فريدة.. معرفشِ إنَّك قولتها غلط ولَّا ..وضعَ أناملهِ على شفتيها ونظرَ لعينيها:
-أنا وعدتها لو قومتي بالسلامة مش هزعلها تاني..
شهقت تضعُ كفَّيها على فمها تنظرُ إليهِ غيرَ مصدٍّقةً ماتفوَّهَ به..
-معقولة!!..معقولة كانت حياتي مهمَّة كدا!..
تحرَّرَ من صدرهِ زفرةً قويةً يخلِّلُ أناملهِ بأناملِها ثمَّ رفعها وطبعَ قبلةً بداخلها:
-حاولت أفهِّمك بس إنتِ حكمتي وخلاص، حاوطت عنقهِ تقتحمُ أحضانهِ وتشدِّدُ منها مردِّدة:
-أنا بحبَّك أوي، واللهِ بحبَّك وكلِّ كلامي من ورا قلبي..ضمَّها بقوَّةٍ وكأنَّهُ آخرُ أحضانها:
-عارف ومتأكد من كدا، لو مش متأكِّد مكنتش قرَّبتلِك،رفعها من خصرها يدفنُ رأسهِ بعنقها:
-مجنونة بس بحبِّك..ارتفعت ضحكاتها بشقاوتها قائلة:
-لا كدا كتير إنتَ مش سُخن بس لا شكلك ناوي لي على مصيبة..ألقاها على الفراشِ وحاوطها بين ذراعيه
-عدِّي نص ساعة من غير لسانِك دا..
شردت بضحكاتهِ ووجههِ الذي أُنير، عاتبت نفسها عن الأيامِ التي تُسرقُ من حياتهما، من كان يظنُّ أنَّ هذا الشخصَ إلياس ..طالعها بتدقيقٍ بعدما وجدها شاردة ..رفعَ إبهامهِ يداعبُ أنفها، ممَّا جعلها تلمسُ وجههِ لتتقابلَ العيونُ بحديثِ العاشقين، حتى دنت دقَّاتُ القلوبَ لتتعانقَ حينما انحنى واحتضنُ خاصتها ينثرُ عليها ترانيمَ عشقهِ وكانت الأكثرُ ترحيبًا بذلك، قاطعهم دلوفُ غادة وهي تهتفُ بغضب:
-إنتِ يازفتة، واللهِ لو إلياس عرف إنِّي اللي ساعدتِك..بترت حديثها متراجعةً للخلف، تشعرُ ببرودةٍ اقتحمت جسدها وكأنَّ أحدهم سكبَ عليها دلوًا من المياهِ الباردة..ابتلعت ريقها بصعوبةٍ تهمهم
-أنا آسفة واللهِ ياأبيه فكَّرتها ..أصلِ مكُنتش..اعتدلَ واستدارَ إليها يطالُعها بتدقيق، شعرت هنا بحرارةِ جسدها مرَّةً واحدةً من اقترابهِ ونظراتهِ الاختراقية، وصلَ إلى وقوفِها ومازال يطالُعها ينظرُ لكفَّيها اللذانِ احمرَّ لونهما من كثرةِ فركهما، وعيناها الزائغة:
-يعني إنتِ كنتي عارفة هيَّ فين؟!..
-أه..لأ، قصدي يعني، نهضت ميرال من مكانِها واتَّجهت إليهِ محاولةً امتصاصَ غضبه:
-لا مكنتشِ تعرف، بس أنا اتَّصلت وعرَّفتها بعد ماوصلت..استدارَ يرمُقها بالصمت، كانت عيناهُ لهيبًا يريدُ إحراقَ أخته، اقتربَ يمسكها من ذراعيها يطبقُ عليها بغضبٍ جم:
-بتشاركيها تبعد عن أخوكي، بتشاركيها الغلط ياغادة؟!..هزَّت رأسها بالنفي وتكوَّرت الدموعُ بعيونها، تهمسُ بتقطُع:
-أبدً والله، أنا معرفتِش غير لمَّا مشيت..
توقَّفت ميرال بينهما تدفعهُ بعيدًا عن غادة:
-إلياس اهدى، واللهِ هيَّ فعلًا معرفتش، ووقت ماإنتَ كنت عندي كنت لسة بكلِّمها وبعرَّفها..
-بس ياكدَّابة..قالها بصوتٍ ارتجفت إليهِ جدرانَ المنزل ..دفعهما سويًا وتحرَّكَ يهدُر:
-عيال، شوية عيال بيلعبوا بيَّا..
زفرت بتنهيدةٍ مرتفعةٍ تنظرُ إلى غادة بحزنٍ عندما وجدت دموعها، ضمَّتها تربتُ على ظهرها:
-آسفة مكنشِ قصدي أسبب لك مُشكلة، رفعت عيناها إليها:
-هيعرَف البيت بتاع صاحبتي ياميرال، وقتها مش هيسامحني، ياريتني حكيت له من وقتها، إنتِ عارفة لمَّا بيقلب بيكون إزاي..فركت جبهتها فهي تعرفُ غضبه،
حاولت التفكيرَ بشكلٍ متَّزن، ثمَّ سحبت كفَّيها وأجلستها:
-اهدي واسمعي هقولِّك إيه..ظلَّت تستمعُ إليها..
-إنتِ مجنونة!..دا إلياس، عشر دقايق وهتلاقيه عرف كلِّ حاجة، مش لسة هنروح نتفق ونشتري البيت..
نهضت /
-بصي هو لو عايز يعرف كان عرف، الموضوع فات عليه وقت، وانت غبية اللي خلاكي تقولي كدا، معرفش ماما فريدة لما عرفت قالتلي ممكن تقولي لإلياس ..ربت على كتفها وزفرت قائلة:
-أنا هتصرَّف، لازم أعرَّف عمُّو مصطفى.
هرولت خلفها تتشبَّثُ بها:
-لا والنبي، بلاش بابا يعرف، كدا كدا زمان إلياس عرف
حدجتها بنظرةٍ متجاهلة:
-يعني إيه؟..دنت قائلة:
-زمانُه عمل اتصالاتُه وعرف، أنا ونصيبي بقى ..
بمنزلِ إرسلان..توقَّفت تُنهي زينتها لمقابلةِ زوجها الذي غابَ عن المنزلِ منذُ أسبوع..وضعت وشاحًا خفيفًا فوقَ أكتافها بعدما استمعت إلى صوتِ الباب، تحرَّكت للخارح، ألقى مفاتيحهِ يبحثُ عنها..التقطها بعينيهِ وهي تهبطُ درجاتَ السلَّم، ابتسمَ يفتحُ ذراعيهِ إليها لتلاقيها بصدرٍ رحبٍ وهي تُلقي نفسها بأحضانِه:
-أخيرًا ..أطلقَ ضحكاتهِ وهو يرفعُها من خصرِها يدورُ بها ثمَّ أنزلها يدفنُ رأسهِ بعنقِها..
-وحشتيني..حاوطت خصرهِ تضعُ رأسها بصدرِه:
-زعلانة منَّك قولت يومين تلاتة مش أسبوع، سحبَ كفَّها وصعدَ إلى غرفتهما:
-آسف حبيبي جالي كام سفرية داخل مصر كدا ومكنشِ ينفع أرجع غير لمَّا أخلَّص اللي عايزُه..فتحَ البابَ ودلفَ للداخلِ ثمَّ توقَّفَ ينظرُ لسحرِها الخاطفَ لقلبه، مرَّرَ أناملهِ على وجهها بعدما أزاحَ ذاكَ الوشاحَ ليتساقطَ أسفلَ قدميها.. وتظلُّ أمامهِ بذاكَ الرداءِ الشفَّاف..رفعَ ذقنها يسبحُ بجمالِ عينيها..
-رجعتي إمتى من عند ماما..
طأطأت رأسها للأسفلِ تفركُ كفَّيها تهمسُ بخفوت:
-أكيد عارف، مش السواق قالَّك ولَّا إيه..
جذبها إلى أحضانهِ متراجعًا على الفراش:
-مش يمكن عايز أسمع مراتي وهيَّ بتحكي..رفرفت بأهدابِها:
-إنتَ هتفضل تسافر كتير كدا، تمدَّدَ على الفراشِ يسحبُها لأحضانه:
-حبيبتي أنا تعبان من السفر، وجاي بالعربية يعني هلكان وعايز أنام ممكن نتكلِّم بعد ماأفوق، علشان فيه مفاجأة لمَّا أصحى..استندت على صدرهِ متسائلة:
-مفاجأة إيه دي، أوعى تقولِّي نروح الفيلَّا، أنا مش هروح في أيِّ حتة سمعتني مش بعد غيابِ أسبوع، صمتت بعدما اختنقَ صوتها بالبكاءِ ليعتدلَ ينظرُ إليها بعينيهِ العاشقةِ ثمَّ جذبها من عنقها ليذيقها من العشقِ مايشعرُ به..
بشقَّةِ آدم..كانت مشغولةٌ على جهازها، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة ثمَّ دلفَ يحملُ كوبًا من القهوةِ ووضعهُ أمامها متسائلًا:
-محتاجة مساعدة؟..
هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ أردفت:
-باقي حاجة بسيطة وأخلص مش محتاجة شكرًا..جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتِها يراقبُها بعيونهِ وهي تعملُ بصمتٍ إلى أن قطعَ الصمت:
-ناوية تتخصَّصي إيه، رفعت القهوةَ ترتشفُ بعضها ثمَّ أجابته:
-أورام..ضيَّقَ عينيهِ مستفهمًا:
-ليه أورام ..هنا ارتعشَ جسدها متذكِّرةً معاناةَ والدتها ثمَّ رفعت عينيها إليه:
-علشان أقدر أخفِّف بعضِ الألم من المرض دا على الناس، ماما اتعذِّبت أوي منُّه، حبيبتي مكنتشِ بتنام خالص وكانت تقعُد تُصرخ من شدِّة وجعُه..انسابت عبراتها تحرقُ وجنتيها وتابعت بصوتها المفعمِ بالبكاء:
-كان نفسي أساعدها أوي ياآدم بس مش عارفة إزاي، كنت بعيَّط لمَّا أشوفها ..اقتربَ منها وحاوطَ جسدها يضمُّها إلى أحضانهِ باحتواء:
-اهدي خلاص ربنا يرحمها، ادعيلَها حبيبتي..مسحت دموعها وابتعدت عنه..
تجهَّمت ملامحهِ مرَّةً أخرى فنهضَ من مكانهِ حتى لا يتعصَّبَ عليها ويخسرها للأبد..تنهَّدت بحزنٍ وذهبت بذاكرتِها لذاكَ اليومَ بعدما عادَ من عمله، وكانت تتراقص..أغلقَ البابَ بالمفتاحِ خلفهِ
فلاش باك
واقتربَ يحاوطُ جسدها لتهبَّ فزعةً تدفعهُ بعنف:
-اتجنِّنت إزاي تدُخل عليَّا من غير إذن..
جذبها بقوَّةٍ لأحضانه:
-أه اتجنِّنت بدل حضرتَك مش مدَّياني فرصة، إيلين أنا لسة مُصر على إنِّنا نكمِّل حياتنا مع بعض..
نزعت نفسها بقوَّةٍ من أحضانهِ وهدرت مستحقرةً إياه:
-واحد أناني مش شايف غير نفسُه، أنا مستحيل أكمِّل حياتي مع واحد غدر وخان..توقَّفَ مذهولًا يقاتلُ بضرواةٍ ألمها القاتل الذي يخترقُ روحه..
-يعني مابقتيش تحبيني ياإيلين..استفهامٌ انبثقَ من بين شفتيهِ بألمِ روحهِ الساكنة، لترفعَ عينيها إليهِ بكلِّ جبروتِ أنثى غُدرَ بها وهتفت بصوتٍ مرتفع:
-رميتَك من زمان يابنِ خالي، من أوَّل يوم جواز، ومبفكرشِ غير في حياتي وبس، عايزة أبني الدكتورة إيلين بعيد عن أيِّ راجل..دنت منهُ حتى اختلطت أنفاسهما تنظرُ بحدقتيه:
-أنا كرهتَك ياآدم، كرهتَك كحبيب بس إنتَ مهما يطول الزمن هتفضَل ابنِ خالي، فلو سمحت بلاش تكرَّهني في صلةِ الدم اللي بينا..
نجحت وبجدارةٍ أن تذيقَ قلبهِ أنواعَ العذابِ ومرارةِ العشق..
-يعني إيه..استدارت تمسحُ دموعها:
-يعني لو عايز تساعدني بجد، ساعدني لحدِّ ماأخلَّص جامعتي، استحمل وجودي معاك يادكتور، وأنا مش هسبِّب لحضرتَك ضرر متخافش، حتى لمَّا مراتك تيجي ممكن تعرَّفها على إنِّي أختك..
انهالت صدماتهِ تضربهُ بعنفٍ وهو يرى أنَّها تعلمُ بخبرِ وصولِ زوجتهِ الأخرى..
-إنتِ إيه اللي عرَّفك..عقدت ذراعيها:
-ممكن تطلَع برَّة تعبت وعايزة أنام، وياريت تحترم رغبتي..
استدارَ وغادرَ الغرفةَ سريعًا بخطواتٍ تأكلُ الأرض..
خرجت من شرودها على رنينِ هاتفها:
-أيوة ياخديجة..
-ابعتيه كدا لو معرفتوش هخلِّي آدم يشوفُه..
ظلت لفترة وهي تتفحَّصُ بعضَ الأشياءِ التي أرسلتها، مساءً بعدما شعرت بانهاك جسدها، نهضت متَّجهةً إلى غرفته، طرقت البابَ ودلفت تبحثُ عنهُ بخروجهِ من الحمَّامِ يلفُّ نفسهِ بمنشفةٍ وبيدهِ منشفةٍ يجفُّفُ خصلاته..توقَّفت تنظرُ إليهِ بصدمة، بينما هو تصنَّمَ بوقوفهِ وتوقَّفَ متسمرًا بمكانهِ بوجودها بغرفتهِ لأوَّلِ مرَّة..اقتربَ منها فتراجعت تشيرُ إلى الخارجِ وتلعثمت بالحديث:
-كان فيه، أصل..حاوطَ جسدها بينهُ وبينَ الجدار:
-إيه القطة أكلت لسانك..ابتلعت ريقها بصعوبةٍ من رائحتهِ التي أضعفت كيانها لتهمسَ بخفوت:
-آدم ابعد لو سمحت،
لحدِّ إمتى ياإيلين هبعد، بحاول أضغط بس مش قادر، إيلين واللهِ بحبِّك، ارحمي قلبي، أنا مقربتِش لحد، واللهِ ماقدرت.. كان حبُّك سد لأيِّ حاجة..
لمسَ وجنتيها بخاصتهِ لتنهارَ بين ذراعيهِ بضعفِ قلبها ..محاولًُا أن يقتحمَ حصونها المستميتة..
رفرفت بأهدابِها تطالعهُ بضعفٍ هامسة:
-آدم مش هقدر.. ولكنَّهُ لم يدع لها أن تكملَ حديثها ليسحبَ باقي حديثها في لحظاتِ سكونٍ وضعفٍ سوى من نبضِ القلوبِ ليتذوَّقَ لأوَّلِ مرَّةٍ عالمها الساحرَ المليئَ بالعشقِ الذي لا ينكرهُ قلبًا ولا عقلًا بتلك اللحظات..نهضت بعدَ فترةٍ ليست بالقليلةِ ودموعها كأمطارٍ رعدية، تلملم ثيابهاو تتحرَّكَ إلى غرفتها تجرُّ أقدامها بصعوبة، ولم تهتمَّ لملابسها التي لا تعلم كيف أرتدت بعضها وهي تسبُّ نفسها لذاكَ الضعفِ والمهانة..
مسحَ على وجههِ بغضب، وبدأَ يحطِّمُ كلَّ ما يقابلهُ على ماتوصلَّت إليهِ بسببِ قربه، لماذا تفعلُ ذلكَ وهي تعشقُه، نعم تعشقهُ بكلِّ جنونِ العشقِ الموجودِ بالقلوب..جلسَ بالشرفةِ وبدأ يدخنُ سجائرهِ بشراسةٍ كلَّما تذكَّرَ حالتها، تخرجُ أنفاسهِ بلهيبٍ مستعر، أغمضَ عينيهِ وابتسامةٍ لاحت على وجههِ وهو يتذكّّرُ لحظاتَ الجنةِ وهي بأحضانهِ تهمسُ بعشقه..دفعَ المقعدَ بقدمهِ وهرولَ إليها يقسمُ بداخلهِ أنَّهُ لن يتخلَّى عنها مهما كلَّفهُ الأمر..دفعَ البابَ ودلفَ للداخلِ ولكنَّهُ توقَّفَ جاحظَ العينَينِ لما رآه..
بشقةِ يزن وخاصةً بمكتبه:
-وبعدين ناوي على إيه، تسائءلَ بها كريم..كان ينظرُ إلى جهازهِ يربطُ الأحداثَ ببعضِها البعض، ثمَّ نهضَ واتَّجهَ إلى سجائره:
-كلِّ خير..اتَّجهَ يطالعهُ بغموض:
-يزن أوعى تكون ناوي تعمل حاجة..مسحَ على شعرهِ ثمَّ التفتَ إليه:
-إنتَ بتحبِّ أختي ياله من إمتى؟!
ركلهُ بقدمهِ وجزَّ على أسنانه:
-متوَّهشِ يابنِ السوهاجي، إنتَ ناوي على إيه..استندَ على جدارِ الشرفةِ ينفثُ سيجارته:
-هيَّ القضية لسة شغالة، بس عرفت وكيل النيابة دا عُقر ونضيف، ودا اللي يخلِّيني أبعد لفترة، هقعد وأتفرَّج علشان بردو معرفشِ مين وليه..
-كدا أقنعتني يعني ..ربتَ على كتفه:
-صدَّقني حاليًا مش بإيدي حاجة أعملها، بس فيه خطة أظبَّطها وأقولَّك عليها.. علشان هحتاجك ياجوز أختي..
توسَّعت عيناهُ بذهول:
-احلف يعني إنتَ موافق ..احتضنهُ بحبّ:
-أيوة هلاقي أحسن منَّك، علشان لو حصلِّي حاجة تاخُد بالك من معاذ ياله، مش موافق عليك جدعنة..
ارتفعت ضحكاتُ كريم مردِّدًا:
-واطي واطي ياصاحبي ..صخبَ الضحكَ حتى وصلَ إلى غرفتها لتزيلَ عبراتها بأناملِها الناعمةِ تمسِّدُ على رأسِ أخيها الصغير وهو يغفو متذكِّرةً تلك الأيامِ الصعبةِ بسجنِ يزن، لا تعلم لولا وجودِ كريم ماذا كانت ستفعل، شهقةٌ خرجت من فمها تهمسُ لنفسها:
-يزن ..خرجت شهقةٌ من فمها حينما تذكَّرت حياتها من غيره..ظلَّت لوقتٍ تبكي بصمتٍ إلى أن استمعت إلى إغلاقِ الباب، حينها علمت بمغادرةِ كريم، استمعت إلى صوته:
-إيمي حبيبتي تعالي اعمليلي شاي..
مسحت دموعها وتحرَّكت للخارج..
-حاضر حبيبي، أجبلك كيك ولَّا قراقيش ..
كان يتفحَّصها بحدقتيهِ ثمَّ أردفَ من خلفها:
-عملتي إيه الأسبوع اللي مكنتِش موجود فيه..سقطَ الكوبُ من يديها وأجهشت بالبكاءِ ثمَّ استدارت إليها تهرولُ لأحضانهِ تبكي بصوتٍ مرتفع:
-أوعى تعملها تاني، أنا كنت بموت في بُعدك يايزن، إياك تغلط مع حد علشان مش يبعدوك عننا..
حاوطها بذراعيهِ يربتُ على ظهرها، واختنقَ حلقهِ بغصَّةٍ يقسمُ بداخلهِ لدموعها أن يذيقهُم من دموعها ماتشتهيهِ الأعين..
صباح اليوم التالي توجه إلى مكتب راكان، دلف بعد السماح له ، وزع نظراته بينه وبين جاسر ..أشار إليه راكان بالجلوس
-بعت لك بشكل شخصي، القضية لسة شغالة، عندي كام سؤال
اومأ يزن قائلاً:
-اتفضل حضرتك..نقر راكان وعيناه على جاسر الذي اومأ له
-ايه علاقتك بطارق الشافعي، وليه طارق بيراقبك، ثم أخرج صورة ميرال وأشار له
-تعرف دي ..رفع الصورة يدقق بملامحها ثم هز رأسه بالنفي
-لا ، بس ليه طارق باشا هيراقبني..استند راكان على المكتب يطالعه بتدقيق
-ياسر اتقتل في السجن، انت عارف معنى الكلام دا ايه
بفيلا السيوفي وخاصةبغرفةِ ميرال:
كانت تجلسُ فوقَ فراشها تُنهي مقالها الذي تعملُ عليه منذُ عدَّةِ أيام ..دلفَ للداخل، توقَّفَ يعقدُ ذراعيه، يراقبها بعيونٍ مبتسمة، فمنذ ذلك اليوم لم يراها، يأتي ليلا ليطمئن عليها ثم يغادر خفيًا،اقترب منها محمحمًا، رفعت عينيها إليهِ ترمقهُ بصمتٍ ثمَّ اتَّجهت إلى جهازها دونَ حديث..جلسَ بجوارِها متسائلًا:
-بتعملي إيه..
-كنت بعمِل مقال عن الولد اللي الكلّ خايف يعمِل معاه حوار دا..
أمسكَ الورقَ يقلِّبُ به، ثمَّ نهضَ من مكانهِ يردِّدُ الاسمَ وتساءل:
-إيه اللي وصَّلك للواد دا..جذبت منهُ الأوراقَ قائلة:
-قولت مليون مرَّة دا شغلي لو سمحت متدَّخلشِ فيه..
تأفَّفَ بجزعٍ ثمَّ انحنى بجسدهِ يحاوطُها:
-انسي المقال دا، عايزك تبعدي عن القضية دي..
تراجعت بعيدًا عنهُ تتلاعبُ بقلمِها ثمَّ اقتربت من وجههِ والتوى ثغرها بابتسامة:
-ليه مش دا ابنِ الراجل اللي حاول يضرَب علينا نار ويومها اتصبت..
-ميرال ..قالها من تحتِ أسنانه، لتستندَ على كتفهِ تداعبُ وجهه:
-روح ميرال ..كظمَ غيظهِ من أسلوبها المستفزّ فأردف:
-الواد دا تبعدي عنُّه سمعتيني ومش عايز المقال دا ينزِل..استنشقت رائحتهِ المختلفة ثمَّ دفعتهُ بعيدًا عنها:
-إيه الريحة دي..إنتَ غيَّرت البيرفيوم بتاعك؟!..
اعتدلَ بعدما تملَّكهُ الغضبَ الجارفَ من حديثها ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يسبُّها..ظلَّت تجزُّ على يديها بعدَ خروجه، دقائقَ وهي تستثيرُ غضبًا حتى نهضت، متجهة اليه
دفعت الباب ودلفت وجدتهُ جالسًا على فراشهِ يحادثُ أحدهم..ظلَّت إلى أن انتهى من مكالمته، ثمَّ اتَّجهت إلى خزانةِ عطوره، وهو يتابعها بهدوءٍ إلى أن توقَّفت أمامهِ وألقتهم جميعهم على الأرضية لتتناثرَ شظاياهُم، ومضت عيناها بلمعةِ تحدِّي مما جعلتهُ يقفُ يشيرُ إلى مافعلته، اشتعلت نيرانُ الغيرةَ بداخلها:
-إيه زعلان على هدايا الزفتة بتاعتك، واللهِ أموِّتك وأموِّتها، اسمعني.. أه أنا ممكن أبعد عنَّك بمزاجي وغصبِ عنِّي كمان، بس حدِّ يقرَّب منَّك أدبحك وأدبحها معاك، حتى لو كانت الحيوانة دي، والبنتِ دي مش عايزة أشوفها تاني..ارتفعت دقَّاتُ قلبهِ من حالتها وهو ينظرُ إلى صدرها الذي يعلو ويهبطُ بسببِ حالتها الانفعالية، أقسمَ بداخلهِ أنَّها وحدها التي يجبُ أن يهتزَّ الكونُ كلِّهِ لأجلها، دنا منها وهي تتراجعُ ظنًّا أنَّهُ سيوبِّخها، ولكنَّها أذابت كلَّ الآلامِ التي بداخله، ليجذبها بقوَّةٍ إلى صدرهِ ولم يترك لها المجال وهو يضمُّها بقوَّة:
-إشش اهدي البرفيوم دا أنا اللي جايبُه، مفيش حدِّ تاني، من إمتى وأنا باخُد حاجة من حد..
-يعني ايه..ابتسم ينظر لشفتيها يشير إليها لتقبله
-اخد حاجة حلوة واقولك..ابتسمت قائلة:
-اتغيرت ياالياس ..وضع جبينه فوق خاصتها:
-عرفتي انك مهمة ارتفعَ رنينَ هاتفهِ ليخرجهُما من لحظتهما، ذهبت ببصرها إلى فونهِ لتبتعدَ سريعًا عنه، ثمَّ استدارت مغادرةً الغرفة..أمسكَ هاتفهِ متنهِّدًا:
-أيوة يارؤى..استمعَ إلى بكا ئها بالهاتفِ
لتقصَّ لهُ ماصار..
-طيِّب خلاص انا هتصرَّف وبكرة هبلَّغك، بعدَ فترةٍ ليست بالقليلة، نهضَ متَّجهًا إليها، وجدها تغفو فوقَ فراشها..
أمالَ بجسدهِ يحاوطُ نومها، فتحت عينيها تهمس:
إيه اللي جابك أوضتي في وقتُ متأخَّر كدا، روح كمل مكالمتك الغرامية ابتسمَ بخفَّةٍ عليها، ورغمَ معرفتهِ بدلالِها وبما تفكِّرُ به إلَّا أنَّهُ سايرها، ليدنو منها يهمسُ بصوتهِ الأجشِّ الذي سحبَ أنفاسها:
-مش يمكن حبيبي وحشني وعايز حُضن يريَّحني..رعشةٌ لذيذةٌ أصابت جسدها، لترفعَ أناملها تمرِّرُها على وجههِ وبصوتٍ ناعس: حياتنا هتفضل كدا لحدِّ إمتى ياإلياس عجبَك كدا كلِّ اللي بنعملُه إزاي كلِّ واحد فينا بيقتَّص من التاني..
نبرةُ الألمِ في صوتها وحدقتيها التي تخترقُه، جعلهُ لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يضمُّها بقوَّةٍ يرفعها لأحضانه…
تنهيدةٌ حارةٌ من لهيبِ الاشتياقِ أحرقت ضلوعَ كلَّا منهما..وضعت رأسها بصدرهِ تختبئُ وكأنَّهُ سيترُكها مرَّةً أخرى ..مسَّدَ على خصلاتها والصمتُ يعمُّ الغرفة، سوى من نبضاتِ قلوبهم التي تصمُّ الآذان..رفعَ رأسهِ ليزدادَ بريقُ العشقِ بعينيهِ وهو يفترسُ وجهها باشتياقٍ ثمَّ أردفَ بنبرةٍ مبحوحةٍ من كثرةِ شعورِ الاشتياقِ بداخله:
-وحشتيني فوق ماقلبِك يتخيَّل، مسَّدَ على وجهها بظهرِ كفِّهِ واخترقَ عينيها بحدقيته:
-لمَّا قولتلِك بحبِّك مكنتش بهزَّر أو بنتقم، علشان بجد إنتِ دمَّرتِ كلِّ الحصون والقلاع ولو كنت بحبِّك قبلِ الجواز فدلوقتي حبِّي عدَّى مراحل كتيرة..كانت تستمعُ إلى نبرتهِ الحانيةِ بلمعةٍ من عيونِها لشعورِها بالسعادة، نظرَ إلى ثغرها الذي يمثُّلُ أُكسيدَ الحياة، ليجذُبها من عنقها يقرِّبها إليه، ويخبرُها بأسلوبهِ أنَّ العشقَ لها وحدها وليسَ سواها من يتجرَّاُ بالقربِ منه..
لم يشعرا بالوقتِ الذي يغوصان في نهرِ العشقِ اللامتناهي لتذوبَ في حضنهِ وتستمتعُ بتذوُّقِ قربه، بعدَ فترةٍ اعتصرَ جسدها بينَ ذراعيهِ القوية لتصبحَ داخلَ حصنهِ المنيع ..تغمضُ عينيها والسعادةُ ترفرفُ بها كنبضاتِ قلبها ، مسحَ على شعرها وأطلقَ تنهيدةً جياشةً بعدما شعرَ أنَّها أصبحت كجرعةِ مخدِّرٍ ليستطعَ العيش، ولا تحلو لهُ الحياةَ سوى بقربِها ..رفعت رأسها وجدتهُ مغلقَ العينينِ وابتسامةً على وجهه، حاولت التملُّصَ من أحضانهِ إلَّا أنُّهُ منعها..
-نامي حبيبي علشان أعرف أنام..
هتبات هنا..فتحَ عينيه، ثمَّ اعتدلَ مردِّدًا:
-أنا إزاي نسيت صح، شعرت بالحزن، كانت تظنُّ أنَّهُ سيقضي ليلتهِ بأحضانِها، ابتعدت بنظرِها عنه، إلى أن شعرت أنَّها تطيرُ بالهواء، حيثُ رفعها متَّجهًا إلى غرفتهما..
-دي مش أوضتنا، علشان نبات فيها، قالها وهو يدفعُ البابَ بقدمهِ ويتحرَّكُ بها إلى الفراشِ يضعها بهدوءٍ ينظرُ إليها بابتسامةٍ لعوب:
-حلوة الملاية دي، قالها وهو ينزعها عنها لتدفعهُ صارخة.. قهقهاتٌ صاخبةٌ وكأنَّهما لم يذوقا العذابَ منذُ فترة، ظلَّت ضحكاتهما تعلو بالغرفةِ إلى أن توقَّفَ عن الضحكِ يضمُّها ويمسِّدُ على خصلاتها:
-آسف..رفعت عينيها إليه:
-أنا كمان آسفة، بس طالبة منَّك حاجة..
رفعَ ذقنها منتظرًا حديثها:
-مش عايزاك تقرَّب من رؤى تاني لو بتحبِّني بجد..صمتَ وعينيهِ ترمقُها بصمتٍ إلى أن هزَّ رأسهِ وتمدَّدَ يجذُبها لأحضانه.
بعدَ أسبوعٍ خرجَ من مكتبهِ على رنينِ هاتفِ رؤى:
-ليه كدا ياإلياس مكنشِ لُه لزوم إنَّك تفضحني كدا..
على الجانبِ الآخرِ استقلَّ السيارةَ وأجابها بحدَّة:
-مش عايز كلام كتير، كان لازم يعرف إنِّك مش وحيدة..
-بس إنتَ فضحتني، شوفت الجامعة كلَّها بتتكلِّم عنِّي إزاي صوري بقت في كلِّ مكان..صاحَ بغضب:
-لأنِّك حيوانة وتستاهلي، حذَّرتك بس إنتِ اللي هبلة يارب تكوني مبسوطة كدا..
بكت بشهقاتٍ قائلة:
-أنا حبيتُه ياإلياس..
-اخرسي علشان مجيش أموِّتِك ياحيوانة، رخَّصتي نفسِك لحيوان افرحي بقى..
شهقةٌ خرجت منها تتمتمُ بضياع:
-عندَك حق الرخيص مالوش العيشة..
بفيلَّا الشافعي جلسَ الرجلُ أمامهما:
-البنت رفضت تمسَح المقال ياباشا، ودي مش هنعرف نقرَّبلها، دي مرات ابنِ السيوفي..
حدجهُ بنظرةٍ مميتة:
-واللهِ لأحسَّرُه عليها زي ماحسَّروني على ابني..البنتِ دي تراقبوها مع جوزها وكلِّ الأخبار عندي..
دلفت رانيا إليهما هوت على المقعدِ دونَ حديث، ثمَّ جذبت سيجارة:
-مفيش تأمين ولا زفت، نفسي أعرف مين اللي ورا الخسارة دي كلَّها..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ ارتفعَ هاتفَ راجح:
-حضرةِ الظابط في شقَّةِ البنت اللي كلَّمناها ياباشا..والبنتِ الصحفية وراها جيش حراسة وراجعة على البيت
ظلَّ لدقائقَ يفكِّرُ ثمَّ أردف:
-كلِّم البنت وقولَّها جوزِك بيخونِك، وكلِّم البنت واتفِق معاها، بس ياباشا..قاطعهُ:
-مش مهم بيعمِل إيه.. المهمّ البنت توصَل لوحدها في وضعِ مش كويس وإنتَ الباقي عارفُه..
بسيارةِ ميرال ظلَّت تنظرُ للهاتفِ تنتظرُ مكالمته، رفعت الهاتف، استمرَّت تهاتفهُ لبعضِ اللحظاتِ ولكن لا يوجدُ رد، ترجَّلَ من سيارتهِ ودلفَ للداخل، توقَّفت:
-لو جاي تضايقني بالكلام يبقى أرجع..دفعها ودلفَ للداخل:
-لا أنا مابتكلِّمش، هتُدخلي زي الكلبة وتلمِّي هدومِك وتيجي معايا..
توقَّفت متخصِّرةً قائلة:
-ومين هيسمَع الكلام دا إن شاءالله..قبضَ على خصلاتِها وهمسَ بهسيس:
-هقطع لسانِك يابت، إنتِ مالكيش رأي، دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت متأوهةً وارتفعَ بكاؤها ..
بسيارةِ ميرال استمعت إلى رنينِ هاتفها، أجابت سريعًا دونَ أن تنظر:
-حبيبي فينَك..تحدَّثَ الرجل:
-حبيبِك بيخونِك ولو مش مصدَّقة هبعتلِك العنوان ..
لحظاتٍ ووصلَ إليها العنوان، علمت أنَّهُ عندَ رؤى..تنفَّست بعمقٍ ورفعت الهاتفَ تهاتفهُ مرَّةً بعدَ مرَّة ولكنَّهُ لم يجب عليها، ازدادت نيرانُ الغيرة بداخلها كالشيطانِ الذي يقتنصُ صلاةَ مؤمن..
تحدَّثت إلى السائق:
-روح على شقَّة أستاذة رؤى ..كان صدرها يعلو ويهبطُ من شدَّةِ توترها..
ترجَّلت من السيارةِ بخطواتٍ واسعة، ورغمَ أنَّها تتحركُ بخفَّةٍ إلَّا أنَّها تشعرُ بتثاقلِ أنفاسها ..طرقاتٍ على البابِ لتفتحَ الخادمة، تدفعها..
دلفت للداخلِ وجدتهُ جالسًا بجوارها وكأنَّها بأحضانه، اقتربت منهُ وهي تسحبُ نفسًا عميقًا حتى لا تبكي بضعفِها أمامِه..
شعرَ بدخولِ أحدهِم.. رفعَ نظرهِ وجدها أمامه، توقَّفَ متسائلًا:
-إنتِ إيه جابِك هنا؟!..نظرت لتلكَ التي تلملمِ خصلاتَها بصمتٍ ثمَّ اتَّجهت إليه:
-إيه قطعت القعدة الحلوة ..انكمشت ملامحهِ مستفسرًا
-يعني ايه !!ثمَّ اقتربَ إليها ، لتتراجعَ للخلف:
-إياك تقرَّب منِّي، روح كمِّل قعدتَك الحلوة.. لينا بيت نتكلِّم فيه..قالتها واستدارت متحرِّكة..هي تقصد ايه ، قالها وتحرَّكَ خلفها سريعًا ولكنَّهُ توقَّفَ على رنينِ هاتفه:
-إنتَ فين أنا مستنيك بقالي نُص ساعة يابني..ضربَ على رأسهِ متذكِّرًا ميعاده، فاتَّجهَ لسيارتهِ بعدما أشارَ لحارسه:
-واقف ليه الحقها..
-المدام رفضت ياباشا.
اتحرَّك يامتخلِّف وراها..
وصلَ بعد قليلٍ إلى المقهى الذي ينتظرهُ بهِ أرسلان، دلفَ للداخل ..توقَّفَ أرسلان يشيرُ إلى القهوة:
-شريت تلاتة قهوة ياأخي..رسمَ ابتسامةً متأسفًا:
-آسف نسيت، المهمّ وصلِت لحاجة؟..
جلسَ وأخرجَ لهُ بعضَ الأوراق والتسجيلات:
-الست مظلومة فعلًا، شوف الورق دا، بس فيه ناس خايفة تتكلِّم إيه السبب لسة بدوَّر، وصلت للستِّ بتاعةِ العين السُخنة وفعلًا زي ماقولت ليها ولدين اتخطفوا، مش باعتهم، بس ليه اتجوزت اخو جوزها معرفش، هي ماوضحتش، فيه حاجة كمان، هي مخلفتش من اخو جوزها
-ايه يعني ايه، دي معاها بنت
-هز رأسه بدون علم، ثم أكمل
-مش عايز اظلمها بس فيه ناس كبيرة في السن بيزموها ياالياس وفيه ناس مش فاكرة الحادثة خالص..كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضَّت يستمعُ إليهِ بصمت، ورغمَ صمتهِ إلَّا أنَّ أنيابَ الندمِ تحرقُ أحشائه..
-ليه راجح دا شاغلك اوي كدا،
ارتشف قهوته واجابه
-عرفت أنه شغال شمال، بس محدش عارف يوقعه ..ظل يتحادثان فترة إلى أن تسائل عن فريدة
-والدتك عاملة ايه
-كويسة..قالها بنبرة باردة ، ليتابع ارسلان
تعرف.. حبِّيت والدتك معرفشِ فيها حاجة شدِّتني يمكن علشان تشبَه ماما..
ضغطَ على شفتيهِ بغضبٍ مبتعدًا بنظرهِ عنه، يرتشفُ من قهوتِه:
حمحمَ معتذرًا:
-هوَّ أنا قولت حاجة تزعلَّك..وضعَ الفنجانَ يهزُّ رأسِه:
-لا أبدًا، المهمّ كنت عايزني ليه؟..
أخرجَ هاتفهِ ووضعهُ أمامه:
-عايزك توصَّلني بالشخصِ دا بس بطريقة غير مباشرة، على إنِّي محتاجه في النادي عندي..
رفعَ الهاتفَ يدقِّقُ النظرَ به:
-مين دا ؟!.
تراجعَ للخلفِ قائلًا:
-دا المهندس اللي صلَّح العربية..
بترَ حديثُهم اتصالَ إسحاق:
-أرسلان مرات إلياس السيوفي اتخطفِت
حاول تتعامِل مع الوضع من قبلِ مايعرف، هبعتلَك رقم العربية..
نهضَ من مكانهِ وجمعَ أشيائه:
-تمام يافندم مسافة السكة، نظرَ إلى إلياس وتحدَّثَ معتذرًا:
-لازم أمشي حالًا..أومأ لهُ دونَ حديث، غادرَ المكان ونظراتُ إلياس تلاحقهُ مع رنينِ هاتفِ إلياس:
-إلياس باشا فيه عربية خطفِت مدام ميرال..لقينا عربيِّتها في الطريق ومفتوحة..
شحبت روحهِ قبلَ جسدهِ ليتوقَّفَ يردِّدُ كلماته:
-إنتَ بتقول إيه ؟!..
أيامٌ عدَّت كثقلِ الجبالِ وهو يبحثُ كالمجنونِ عليها، إلى أن استمعَ إلى رنينِ هاتفِه:
-إلياس عرفت مكانها..هبَّ من مكانهِ يجمعُ أشيائهِ مهرولًا للأسفل:
-ابعتلي اللوكيشن بسرعة..
تمام..بس الجوِّ برَّة صعب فيه مطر شديد والمكان بعيد جدًا، دي في قرية في ...قاطعهُ بنبرةٍ لا تقبلُ النقاش:
-أنا قولت عايز العنوان وبس ..قابلتهُ فريدة:
-عرفت حاجة؟..تحرَّكَ يهزُّ رأسه:
-أيوة، رايحلَها..
-إلياس..قالتها فريدة وهي تقتربُ منه..توقَّفَ بمكانهِ يواليها ظهره، وصلت إليهِ وتوقَّفت أمامه:
-فيه موضوع مهم لازم تعرفُه
أزاحها بهدوء:
-مفيش أهمّ من مراتي دلوقتي، لو سمحتي بلاش نكرَّر الغلط تاني ..قالها وتحرَّكَ سريعًا، هرولت خلفهِ إلَّا أنَّ مصطفى عرقلَ تحرُّكها:
-بطَّلي جنان يافريدة، اللي ناوية عليه جنون، استدارت متحرِّكةً وأردفت:
-عملت التحليل يامصطفى والنتيجة ظهرت..أرسلان أخو إلياس والاتنين لازم يعرفوا في أقرب وقت، قدَّامك يومين تجمع ولادي وتعرَّفهم أنُّهم أخوات..
جحظت عيناهُ واتَّجهَ إليها:
-تحليل مين...
أخدت عيِّنة من أرسلان يامصطفى وعملتها من فترة والنتيجة ظهرت من يومين، ولازم إلياس يعرف الشخص اللي بيجيلُه كلِّ يوم بيكون أخوه..
أطبقَ مصطفى على ذراعيها بقوَّةٍ يهدرُ بعنف:
-إياكي تغلطي يافريدة، سمعتيني، الموضوع مش سهل علشان كلمتين هيسمعوهم، وزي ما الدكتور قالِّك لازم نهيَّئلُه، أنا مش مُستعد أخسر ابني..
نزعت يديها بغضبٍ وصرخت بوجهه:
أنا عايزة ولادي وبس، دلوقتي هوَّ راح يرجَّع مراتُه أنا أجِّلت لمَّا ميرال ترجع بس دلوقتي مش هسكت تاني، ياأما تقولُّه ياأنا أقولُّه..
قالتها وصعدت للأعلى ، بعد فترة ليست بالقليلة وهي تحاول مهاتفة إلياس ولكنه لم يجيبها، أتجهت مرة أخرى إلى هاتفها تهاتفُ أرسلان:
-اسفة يابني بس عرفت انك مع إلياس قولي يابني وصلتوا لميرال ..أجابها سريعًا وهو يصلُ إلى المكانِ الذي تُحجزُ به:
-أيوة حضرتِك، لازم أقفل، قالها وأغلقَ الهاتفَ بنزولِ إلياس من سيارتهِ مع فريقهِ الأمني ..أشارَ للمبنى:
-ممكن تهدى علشان ممكن يكون فيه خطر على حياتها ..دفعَ البابَ ودخلَ لذاكَ المكانِ المهجور، بحثَ الجميعُ عنها، هرولَ للداخلِ يبحثُ عنها كالمجنون، وقفَ كالذي سُحبت أنفاسهِ وهو يراها ملقيةً على الأرضِ فاقدةً للوعي ووجهها شاحبٌ كالأمواتِ بملابسها الممزقة..خطا بخطواتٍ ثقيلةٍ وجسدٍ منتفضٍ حتى جثا أمامها يضعُ أناملهِ بارتعاشٍ على عنقها ليرى نبضها إذا كانت على قيدِ الحياة أم لا..
اقتربَ أرسلان منهُ بعدما وصلَ إليها، شهقةٌ خرجت من فمهِ حينما وجدها بتلكَ الحالة، رفعها إلياس بين ذراعيهِ بعدما خلعَ جاكيتِهِ ووضعهُ على جسدها، ذهبَ أرسلان ببصرهِ إلى فمها.
-ممكن تكون مسمومة ياإلياس لازم توصَل بيها المستشفى بسرعة، لم يستمعْ إليها وكأنَّهُ لا يشعرُ بما يدورُ حولها، حملها واتَّجهَ إلى المشفى في صمتٍ مميت..
بعدَ يومين كانت تجلسُ على سجادتها تدعي ربَّها بالشفاءِ الى ابنتها، رفعت عينيها إلى الذي يجلسُ بجوارِها وعينهِ عليها ..استمعت إلى رنينِ هاتفها التقطتهُ من حقيبتها، فتحتهُ لتستمعَ إلى قهقهاتٍ مرتفعة:
-بنتِك غلطت لمَّا شوهت سُمعة ابني، وأهي أخدت جزاتها، إنَّما فين جوزِك وابنُه يامدام فريدة..قالها وتوقَّفَ يزأرُ كالأسدِ ويهتفُ بجحود:
-دا علشان تعرفي إنِّ راجح لسة زي ماهوَّ، متفكَّريش سيادةِ اللواء الحنيِّن اللي دمَّرني زمان وأنا ضعيف يقدر عليَّا لمَّا قويت، أنا قويت أوي يافريدة، وهجيبِك راكعة بعد ماأموِّتلِك سيادةِ اللوا، أه متبقيش ذكية بكلِّمك مكالمة عبر القمر الصناعي..قالها وظلَّ يقهقهُ كالأجدب، ثمّّ استمعت إلى صوتِ الموسيقى ليردفَ بفحيح:
-عامل حفلة على روح بنتِك، بقى راجح تضحكي عليه وتقولي استأصلتي الرحم علشان متجبيش منُّه عيال، وحياتِك لأخلِّي أيامِك سواد يافريدة
ظلَّت بمكانِها بعد إغلاقهِ الهاتف، وكأنَّها لم تستمعْ إلى شيئ، عيناها على ميرال التي أصبحت كالجُثة..دلفَ إسلام وغادة إليها:
-ماما فريدة قومي ارتاحي شوية، وإحنا هنفضَل هنا..أومأت تنهضُ من مكانِها ثمَّ خطت إلى ميرال وانحنت تطبعُ قبلةً على جبينها ثمَّ رفعت عينيها عليه:
-قوم صلِّي وأخواتَك عندها، وأنا هوصل البيت أجبلها شوية هدوم، الدكتور طمَّنا، والحمدُلله مفيش سم في جسمها دلوقتي..كانت عيناهُ عليها فقط لا يريدُ الحديثَ مع أحد، فاستدارت مغادرةً المكان..
وصلت بعدَ قليلٍ إلى فيلَّا الشافعي التي تزيِّنها الأنوارُ الملوَّنةُ وكأنَّهم يحتفلونَ بزفافِ أحدهم ..دلفت تبحثُ بعينيها عنهُ وجدتهُ يقفُ بيديهِ كأسًا من الخمر، ابتسامةٌ ساخرةٌ إلى أن وصلت إليه:
جيت احتفل معاك ياراجح، مش انت عزمتتي، شوفت انا سبت بنتك في المستشفى علشان اشاركك احتفالك ازاي...توقفت الموسيقى على صوتها، دارت حول رانيا مرة ثم راجح مرة إلى أن توقفت نظراتها على طارق
-دا بقى ابن سمية الغلبانة، اللي قهرتها على ابنها، ضيقت عيناها تلوح بيديها
-مراتك التالتة كان اسمها ايه، مش مهم اكيد انت فاكر انت والحيوانة اللي جنبك..اقتربت رانيا تضحك بصوت مرتفع ..بعدما أشارت للجميع بالخروج
-عارفة قلبك محروق على بنتك، كانت بتتحايل عليا علشان ارحمها وانا بحقنها، شوفتي انا كريمة ازاي ماخلتش غيري انا وطارق يقرب منها، همست بجوار أذنها
-البنت زي القمر مكنش خسارة في طارق يدوق جمال قريبته
شعرت فريدة بالقهر، بنيران تحرق جسدها بالكامل، ابتسمت رانيا بعدما شعرت بنشوة الانتصار
-مش تحكي لطنط فريدة ياطارق على جمال مرات ابنها ..لعق طارق لسانه
-قشطة..هنا انهمرت دموعها، بعدما اقنعوها بما شق صدرها على ابنها وزوجته، أقسمت أن تقهر روحهما، لتستدير توزع نظرات مشمئزة عليهما
-ابنك اغتصب البنت ياراجح
قهقه راجح بفخر، وهو يشير الى طارق
-ابن راجح يافريدة واكيد انت مجرباه، والبت شبه امها حلوة لو تنفعني مكنتش ...بترت حديثه تصرخ
-اخررررررص..انت ايه شيطان، ربنا يحرق قلبك على اغلى ماعندك ياراجح
تهكم يرفع كاسه يشير إلى رانيا
-كاس لمدام فريدة يبرد أعصابها يارانيا علشان تعيش معانا اللحظة وتحتفل ..بثقت بوجهه ثم هدرت بصوت ارتجت له جدران المنزل
افرح ياراجح، البنت اللي بعت ابنك يغتصبها و يموُّتوها بنتَك، اضحك كمان، ثمَّ التفتت إلى رانيا:
-إيه يامدام رانيا ماتكمِّلي احتفال، وقَّفتي ليه..دارت حولهُم تطالعهُم بشماتة:
-دايمًا الخسَّة والندالة في دمُّكم، ظلمتوا وافتريتوا، ونسيتوا إن فيه رب المظلومين، حبيتوا تقهروني، خطفتوا ولادي الاتنين، وبعدتوهم عن حُضني، بس يشاءُ ربُّ العالمين، أرَّبي ابني من غير ماأعرف أنُّه ابني، ويوم ماأعرف يكون متجوِّز بنتِ أكبر عدوّ لأمُّه، ياترى إلياس لمَّا يعرَف إنّّك عمُّه هيعمِل فيك إيه ياراجح، ولمَّا يعرَف إنَّك السبب في اللي وصل لمراتُه، أوعى تفكَّر موضوع إنَّها بنتَك هيشفعلَك، للمرَّة التالتة على التوالي وإنتَ بتحاول تقهرني بأولادي..فرحان ياراجح، رمقت رانيا
-ايه يامدام رانيا، كنتي بتقولي ايه بتتزل لك، وانت يابن راجح، استبحت جسم اختك، وعجباك اوي..هز رأسه بنفي سريعا متذكرًا رجائها
-أنا مقربتش والله، انا بس ..صرخ راجح يجذب فريدة بعنف
-إنت بتقولي ايه، بنت مين، البنت دي بنتك، اكيد بتلعبي بيا
دفعته بغضب وهدرت تجز على أسنانها
-أنا اللي زورت التقرير اللي بعتته مدام رانيا، علشان اللحظة دي، أيوة بنتك، ولو مش مصدق اكيد عندكم حاجة ليها خدوها وعلى معامل العالم كله واعمل تحليل..دنت منه تهمس بفحيح
-مبرووك ياراجح باشا موت بنتك بيدك ويمكرون والله خير الماكرين، ولسة اقعد واتفرج على نهايتك، انا بقول تحفر قبرك أرحم لك، نسيت اقول لمدام رانيا حاجة
-أنا فرحانة فيكي فوق ماعقلك الزبالة دا يهيألك..ثم التفتت إلى راجح تغرزُ عينيها بمقلتيه:
-حقيقي لازم أشكرَك، لولا خطفكو لأولادي مكنوش عاشوا بالمستوى دا، واحد ظابط أمنِ دولة والتاني مخابرات، إيه رأيك ياراجح…
أخرجت صوتًا اعتراضيًا:
-إيه دا هوَّ أنا نسيت أقولِّك، مش أنا لقيت جمال، وطلع ظابط مخابرات، شوفت نِعم ربنا ياراجح، رمتوه في الشارع وهوَّ لسة ابنِ شهور، وتلفِّ السنين وترجعوا تقهروني على ميرال مفكَّرينها بنتي، ولكن ربَّك عادل ياراجح باشا..وبإيدك دي بنتَك إنتَ بين الحيا والموت، الوقت اللي خسرت فيه بنتك رجع لي ولادي ، بس وحياة رقدتها بالمستشفى بين الحيا والموت لآخُد حقَّها وحق و
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
ليتني لم أرد على رسالتـك ذات يـوم
ليتنـي تركتك غريباً كالبقية لا تعرفني ولا أعرف عنك شيئا
ليتني تجاهلتك ولم أفتح لكَ نافذة فؤادي
أو على الأقل أسدلت الستارات عندما هبت رياحك..
ليتني يومها لم أسمح لك بتجاوز أسوار وطني
وأبقيتك بعيدا ..
بعيدا حيث لا قصة بيننا
ولا ذكرى قد تشق خاطري في فلك الليل ..
فـ ثمة شيء في جوفي لا يُحكى..عالقٌ بين حنجرتي وقلبي..يؤذيني ويرهق روحي..
أشعر وكأن هناك مساميرٌ تتأرجح في قلبي..
تنهكني وتزيد من ألمي..
أرقٌ حتميٌّ وصدىً عميق يصعُبُ تحملُهُ ..
أجد نفسي في تساؤل هل هذا شعور متجددٌ؟ أم علّة أصابت القلب فعطَبته؟ أفي القلب تستقر الجِراح؟؟ أم في الجسد تكمُنُ الآلام؟
بالمشفى رفرفت أهدابها مع انسيابِ دمعةٍ عبر وجنتيها، هبَّ من مكانهِ بعدما شعرَ بحركةِ عينيها، انحنى متكئً بكفيهِ بجانبِ رأسها يهمسُ بلهفة:
-ميرال سمعاني، افتحي عيونِك..فتحت عينيها تهمسُ اسمه..
دنا من وجهها وطبعَ قبلةً عميقةً على جبينها:
-أنا هنا حبيبتي، طمِّنيني عليكي..همست بخفوت:
-أشرب..عايزة أشرب
اتَّجهَ يبحثُ عن المياهِ وجذبها ثمَّ ساعدها بالجلوس..ارتشفت بعضًا من قطراتِ المياه، حاوطها بذراعيهِ يضعُ الكوبَ بمكانه..تململت محاولةً أن تستوعبَ أين هي وماذا حدث..جمعَ خصلاتَها على جنبٍ ليظهرَ وجهها يملِّسُ عليه:
-عاملة إيه حبيبتي، حاسة بإيه..رفعت رأسها بتثاقلٍ تتجوَّلُ بنظرِها بأرجاءِ الغرفة، ثمَّ تسائلت بتقطُّع:
-أنا فين…قاطعهم دخولُ فريدة التي هرولت بعدما وجدتها جالسةً بأحضانِه، جلست بجوارِها على الفراشِ تمسِّدُ على شعرها:
-حبيبتي أخيرًا فوقتي، عاملة إيه ياروح ماما ..اعتدلت تبتعدُ عن إلياس تحتضنُ رأسها بعدما شعرت بآلامِها، ومشاهد أمامَ عينيها..
فلاش باك.. قبل ثلاث ايام
خرجت من منزلِ رؤى واتَّجهت إلى سيارتها لتأمرَ سائقها بالنزول:
-انزل أنا هسوق.
ترجَّلَ الرجلُ دونَ حديثٍ لتشيرَ إلى الأمن:
-ممنوع حد يجي ورايا، عندي مشوار خاص مش عايزة مخلوق ورايا..قالتها واستقلَّت السيارةَ لتتحرَّكَ بسرعةٍ جنونية، هنا سمحت لعينيها التحرُّرَ من آلام عبراتها المحجوزة، ضربت على المقودِ تصرخُ بهستريا:
-ليه ياإلياس ليه كدا، مااحترمتش وعدك ليَّا..آاااه صرخت بها وهي تقودُ السيارةَ بسرعةٍ جنونيةٍ تريدُ أن تتلقى الموتَ بصدرٍ رحبٍ لقد فاقَ الألمُ التحمُّل، فكيف لقلبها المجنونِ بعشقهِ أن يتحمَّلَ اقترابهِ من فتاةٍ كانت ستصبحُ زوجتهِ يومًا ما، أغمضت عينيها والغيرةُ بداخلها كشجرةٍ شيطانيةٍ تفرَّعت جذورها ولم يعد لديها السيطرة ..استمعت إلى سيارةٍ بجوارِها وصاحبها يصرخ بها:
-هدِّي السرعة العربية هتنقلب فيه كاوتش هيطير..نظرت لسرعةِ السيارةِ وحديثِ ذاك الأجدب، فحاولت أن تهدِّئَ سرعةَ السيارةِ إلى حدٍ ما، ظنًا أنهُ خائفًا عليها ..ارتفعت أنفاسها عندما توقَّفت سيارةٌ تقطعُ طريقها فجأة، لتتوقََفَ رغمًا عنها وتتَّجهَ إلى هاتفها ولكن لم يعطيها فرصة ليركلَ الهاتفَ بعدما جذبها بقوَّةٍ وأخرجها من السيارة..
حاولت الصراخَ والتملُّصَ منهما و الاستعانةِ بأحدٍ من السياراتِ التي تتحرَّكُ بسرعتها على الطريق، ولكنَّها فشلت بعدما حقنها لتسقطَ بين ذراعيهِ ويحملُها ويهرولَ سريعًا إلى السيارةِ قبلَ وصولِ سيارةِ الحرسِ الخاصة بها.
بعد فترةٍ دلفَ طارق ينظرُ إليها بشهوةٍ يلعقُ لسانهِ مقتربًا منها:
-دي حلوة أوي ..أزالَ شعرها من فوقِ وجهها بعد سقوطِ حجابها ..أشارَ للرجلِ شغَّل الكاميرا، عايز أحسن فيديو طبعًا عارف إزاي تظبطوه على إنَّها صاحية، تحدَّثَ الرجلُ إليهِ أن يفعلَ معها بعضَ الحركاتِ والإشاراتِ حتى من يراهُ يظنُّ أنَّها بكاملِ وعيها، ظلَّ لبعضِ الوقتِ وهو يلتقطُ معها بعضَ الصورِ العديدة، مع دلوفِ رانيا تنظرُ إلى طارق الذي يلتهمُها بعينيه، رمقتهُ بنظرةٍ ساخرة:
-عجباك أوي ولَّا إيه..رفعَ رأسها وهو يستنشقُ خصلاتها..
-حلوة أوي والصراحة خسارة في الزفتِ الظابط..
-طارق..قالتها رانيا تشيرُ بعينيها بالابتعادِ عنها:
-متبقاش مجنون، إحنا اتفقنا على إيه، نُوهِم بس، بس أكيد مش هتلمسها، عايزين أخوك يُخرج من السجن، أي غلطة هدَّفعنا كتير، ارجع كدا واهدى، وإياك تقرَّب منها..
-إيه اللي بتقوليه دا ياماما، يعني إحنا جايبنها هنا علشان الكام صورة دول…
اقتربت منها ثمَّ جلست بجوارِها:
-مين قال كدا، ينفع بنتِ فريدة توقع تحت رجلي وأرجَّعها كدا لأمها اللي رافعة مناخيرها بالسما، دا أنا لازم أحسَّرها عليها السنين كلَّها..
صمتَ لثوانٍ يستوعبُ حديثها ثم أردفَ متسائلًا:
-يعني إيه؟!..
طافت عيناها على جسدِ ميرال ووجهها، انحنت تلمسُ وجهها بأناملِها
تهمسُ لنفسها:
-معقول فريدة تخلِّف بنت بعد ماوهمتنا أنها مش بتخلف!.. كان عندي أمل تكوني مروة..أوف وبعدهالِك يارانيا، ماإنتي عملتي التحليل وأثبت إنَّها مش بنتي، وعملتيه مرَّة منِّك ومرَّة من راجح، وكمان تقرير الدكتورة اللي وضَّح إن فريدة خدعتنا ومعملتِش استئصال للرحم، بس إزاي يوميها خلُّوا راجح يمضي على عملية الاستئصال!..
زفرت بغضبٍ تفركُ وجهها:
-طلعتي عقربة يافريدة وضحكتي علينا، وفي الآخر تتجوِّزي جوازة زي دي وكمان بنتِك تتجوِّز جوازة زيِّك، لازم أحرق قلبك، مش هقتلها بس هسيبها قدَّامِك وإنتِ بتموتي كلِّ يوم عليها، بعد ماجوزها يرميها ..نهضت بعدما أشارت للرجل:
-ابعت هات من الراجل الحُقن اللي طلبتها، ثمَّ استدارت إلى طارق:
-هتفوق بعد شوية هدومها تتقطَّع ووقت ماتفتح عيونها لازم توهمها إنَّك قرَّبت منها..
تجوَّلَ بعينيهِ على وجهها ولا يعلم لماذا نغزهُ قلبهِ فتحدَّث:
-طيب مابلاش أنا، خُدي إنتِ المهمة دي وكدا كدا لمَّا تفوق هتعرف من اللي هتشوفه في الصور..حدجتهُ بنظرةٍ صامتةٍ ثمَّ ردَّدت بعد لحظات:
-إيه الحنية دي!..من إمتى وإنتَ حنين كدا..هزَّ رأسهِ بالنفي:
-لا مش اللي وصلِّك طبعًا، أنا خايف أضعف، ووقتها واللهِ لو هدِّيتي البيت ماحد هيرحمها مني..
دفعتهُ للخارجِ تضحكُ بصخب:
-لأ ياأخويا، مش عايزين خدماتك..توقَّفَ وهو يراقبُها وهي تمزِّقُ ثيابها بطريقةٍ مدروسة، ثمَّ ابتعدت عن الغرفةِ تسحبهُ بعدما انكشفَ معظمَ جسدها أمامه:
-تعالَ ياأخويا ...استطاعَ شيطانهِ كبحَ هياجِ مشاعرهِ تجاهها، فتحرَّكَ قائلًا:
-ماما البنت مش عايزين نئذيها، متنسيش دي مرات ظابط، كفاية علينا القضية اللي لسة مش باينلها ملامح موت ياسر مش نهايتها، وخصوصًا من وكيل النيابة الجديد، فبلاش دي كمان، إحنا نوجعهم بس بطريقة خفيفة..
تخصَّرت تطالعهُ بسخرية:
-ماتجمد ياله، إنتَ ناسي مين ورانا، وبعدين مش إحنا اللي عايزين كدا، دي أوامر من فوق ياأخويا، معرفشِ ليه..بس أهي جاتلي فرصة اتشفَّى في فريدة..
-مين فريدة دي اللي مضايقة ستِّ الدلال..لكزتهُ وتحرَّكت للخارجِ تضحكُ ثمَّ أردفت:
-وبعدين إحنا تُقال، متنساش الناس التقيلة اللي ورانا..
بعدَ فترةٍ فتحت عينيها تتأوهُ من الألم ..شعرت بلمسةٍ فوقَ اكتافها، ظنَّت أنَّهُ زوجها، ولكن هبَّت من مكانها بعدما استمعت إلى صوته:
-صح النوم، دا كلُّه نوم، كان نفسي تكوني صاحية.
تراجعت للخلفِ تطالعهُ برهبةٍ شديدةٍ وهمهمت بعدما دارت عينيها بالغرفة:
-إنتَ مين وأنا فين..نظرت إلى ثيابها الممزَّقة ثمَّ رفعت عينيها إليهِ تطالعهُ بخوفٍ انبثقَ من عينيها بعدما ذهبت بعقلها إلى ماتوصَّلَ إليه..
صراخٌ هستري يصدحُ من فاهها وهي تجمعُ ثيابها، وبشهقاتٍ مرتفعةٍ كانت تبكي وتتمتمُ باسمِ زوجها ..حاولَ الاقترابَ منها بأمرٍ من رانيا المتوقِّفة تشيرُ إليهِ حتى يجعلوها تتقنُ لعبتهم الخبيثة، إلَّا أنَّها ركلتهُ بقوَّةٍ ونهضت من مكانها وتناولت ذاكَ السرفيس الذي يُوضعُ فوقَ المقعدِ وظلَّت تضربهُ بقوَّة، وتصرخُ بروحها المتألِّمة، ولكن كيفَ لأنثى ضعيفة أن تقفَ أمامَ ذلكَ الذئبَ البشري ورغمَ طعناتها وضربها إلَّا أنَّهُ يفوقها بالقوة، ليلطِمها بقوَّةٍ على وجهها لتهوى على الأرض، ودموعها تحرقُ وجنتيها تهمسُ باسمِ زوجها، انحنى يرفعُها من خصلاتها وعينيهِ تحدِقها بنظراتٍ مفترسة:
-لو سمعت صوتِك، هعمل فيكي زي اللي عملتُه وإنتِ نايمة، خلِّيكي لطيفة كدا، واسمعي منِّي بدل ماأرجع أعمل معاكي اللي نفسي أعملُه تاني..
لكمتهُ بقوَّةٍ بمنطقتهِ المحظورة ومازالت عبراتها تتساقطُ بقسوةٍ تبصقُ بوجهه؛ تناست ما فعلهُ بها وازدادَ جنونها، كلَّ ماتفكِّرُ فيه الآن زوجها، تقنعُ نفسها لم يصبها أذى ..هزَّت رأسها وتحوَّلت إلى كتلةٍ ناريةٍ واستمدت شجاعتها تشيرُ إليه بنظراتٍ كالطلقات ولم تهتم لملابِسها الممزقة:
-قرَّب منِّي وأنا أشرب من دمَّك ياحيوان، إنتَ إنسان قذر، تعالَ ووريني رجولتَك..رغم أنَّها قالتها بقوَّةٍ إلَّا أنَّ داخلها هشٌّ ممزَّقٌ على حالها، تدعو ربها أن لا يؤذيها..
استمعت إلى نقراتِ كعبٍ خلفها، استدارت سريعًا ترى فتاةً بعمرها، اقتربت منهُ وهمست بأذُنهِ بعضَ الكلماتِ ثمَّ تحرَّكت..توقَّفَ ينظرُ إليها لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ أردف:
-راجعلِك ياستِّ الصحفية..خرجَ وأغلقَ البابَ خلفه، دارت بالغرفةِ تبحثُ عن حقيبتها ولكنَّها لم تجدها، تذكَّرت ماصار، هوت على الأرض، ضمَّت ركبتيها إلى صدرها تبكي بحرقة، وتهزُّ رأسها بعنف:
-لا مستحيل دا معملِّيش حاجة، أمسكت خصلاها وبدأت تجذبُها وتصرخُ كالذي مسها جن:
-لا لا ..أكيد أنا في كابوس ..كانت رانيا تتابعُها من كاميراتِ المراقبة وهي تنفثُ سجائِرها، ثمَّ رفعت عينيها إلى البنت:
-ادخلي اديلها أوَّل حُقنة معندناش وقت، جذبَ طارق المقعدَ متسائلًا:
-الحقنة دي إيه، إحنا مش قولنا بلاش علشان مانروحشِ في داهية..
-الحُقن دي تاري أنا، لازم أحسَّر أمَّها عليها ..نهضَ من مكانهِ وأردفَ ممتعضًا أسلوبها:
-إحنا لينا نخطفها ونرهبها علشان تبعد عن القضية، ويكون طُعم نعرف نخرَّج هيثم مش تار بينِك وبين أمَّها..
-ممكن تخرس شوية، إيه مش وراك سهرة ولَّا الستِّ مها بتاعتَك حرَّمتك تشوف غيرها..
زفرَ باختناقٍ وتحدَّثَ بعنف:
-وبعدهالِك بقى، ليه مش طيقاها، شدَّدت على ذراعهِ تهتفُ بغل:
-لأنها واطية، دي جريت وراك وباعت خطيبها، اسمع منِّي الواحد بيبُص لأعلى مش لتحت، رحيل أحسنلَك غير أنَّها الوريثة الوحيدة، وقربك منها هيكون سهل نتخلَّص من مالك.
اكتسى وجههِ الغضبَ وأردفَ مزمجرًا:
-حاضر بس تفتكري هتوافق ترجع بعد ماشفتني بخونها؟..غير المزيِّت بتاعها اللي بتجري وراه في كلِّ حتة..
بغرفةِ ميرال دلفت الفتاة يجاورُها رجلان ذاتِ بنيةٍ ضخمة، نهضت مبتعدةً تهمسُ بألم:
-إلياس إنتَ فين..قالتها ببكاء، دفعها الرجلَ بقوَّةٍ على الفراشِ وهي تحاولُ أن تتخلَّصَ بقوِّتها الهشة إلَّا أنَّهُ أطبقَ على عنقها بسببِ محاولاتها الهروب..
أشارَ للفتاةِ لتحقُنها بمادةٍ مخدِّرةٍ تساعدُ على تدميرِ الأعصاب..
عندَ إلياس قبلَ ساعاتٍ بعدما وصلَ إلى سيارتها، بالوقتِ الذي تحرَّكَ فيه أرسلان خلفَ السيارةِ التي تمَّ تبديلها بأحدِ الأماكن، ليصلَ إليها تقفُ بإحدى جوانبِ الطريق..
ترجَّلَ يبحثُ بالسيارةِ عن أيِّ شيئ، ولكن أيقنَ أنَّهم ذاتَ خبرةٍ فائقة، قامَ بمهاتفةِ إسحاق
-مين دول وعرفت إزاي؟..
إنتَ ماوصلتِش ولَّا إيه..ركلَ السيارةَ بقدمهِ يمسحُ على خصلاته:
-العربية على طريق زراعي في مكان مقطوع مفهوش كاميرات..توقَّفَ إسحاق واتَّجهَ إلى قسمِ الكاميرات..ثمَّ هاتفه:
-تعالَ على مكتبي، إلياس وصلُّه خبر، أنا كنت مفكَّر موضوع سرقة، بس شكلُه كبير.
اتَّجهَ أرسلان إلى سيارتهِ متسائلًا:
-مش فاهم ..جلسَ إسحاق وأجابه:
-تيجي وبعد كدا نتكلِّم..أغلقَ معهُ وقامَ بمهاتفةِ شركةِ الاتصالات:
-وصَّلني بالمسؤولين يابني ضروري.
دقائقَ ووصلَ إلى آخرِ مكالماتِ ميرال وإلياس بعد فترة وصل أرسلان:
-وصلت لحاجة؟..تساءلَ بها أرسلان وهو يجذبُ المقعد..
-لا مفيش تهديد..أنا كنت مراقبها بعد المقال اللي نزِّلتُه، بس قولت ممكن يهدِّدوا ولَّا حاجة، مهتمِّتش أوي، وخصوصًا بعد ماشوفت فيه أمن معاها كفؤ، يعني جوزها كان موفَّر الحماية كويس، آخر الأخبار أنَّها كانت عند البنت اللي جوزها متولي رعايتها دي، وبعد كدا جالي اتصال إنَّها اتخطفت، والغبي عربيتُه اتعطَّلت علشان كدا اتَّصلت بيك، والواد ماقلِّيش تفاصيل..
مسحَ على وجههِ بغضبٍ قائلًا:
-تفتكِر دول بتوع القضية اللي هيَّ شغَّالة عليها ..تراجعَ بجسدهِ مجيبًا
-بتمنَّى ميكنشِ هُم، لأنَّهم دول مجرمين ومنعرفشِ ممكن يعملوا إيه..
زفرةٌ قويةٌ خرجت من أرسلان حتى توقَّفَ يدورُ بالغرفةِ وعقلهِ يعملُ بكلِّ الاتجاهات:
-لا همَّا أكيد، دي مرات ظابط وكمان حماها لوا، يعني تخطيط ناس فوق، ممكن يكون قرصة ودن، وممكن يكون تحذير..معرفشِ عقلي واقف..
استدارَ ووصلَ إلى إسحاق وانحنى يستندُ على المكتب:
-عمُّو أنا هتجنِّن، فتخيَّل إلياس هيكون عامل إزاي، ولَّا والدتها لمَّا تعرف، لازم تتصرَّف، لازم آخر الكاميرا اللي لقطت العربية تُلقط العربية التانية..
-أشارَ إلى جهازِ التتبُع قاىلًا:
-قدَّامك كلِّ حاجة شوف، وأنا مش ساكت عملت مكالمتي، مش عايز أظهر في الصورة
عندَ إلياس توقَّفَ أمامَ سيارتها، وترجَّلَ من سيارته، بخطا ثقيلةٍ ورغمَ أنَّهُ يتحرَّكُ على الأرضِ إلَّا أنَّهُ شعرَ كأنَّهُ بقبرٍ لا يستطيعُ التنفسَ أو التحرُّك، جثةٌ فقط بروحٍ مسحوبة، وصلَ إلى سيارتها بابتعادِ الجميعِ عنها، نظرَ بعيونٍ تغشاها الدموعُ إلى الداخلِ يتخيَّلُ ضحكاتها وإشارتها إليه..
ضغطَ على شفتيهِ مع تكويرٍ لقبضتهِ التي ابيضَّت مفاصلها من شدَّةِ شعورهِ بالعجز، استقلَّ السيارةَ يبحثُ بأركانِها عن أي شيئ، وقعت عيناهُ على هاتفها، التقطهُ يفتحهُ لتقابلهُ صورتهِ تنيرُ شاشتها، دمعةٌ تحرَّرت على وجنتيه، مع شعورٍ باحتراقِ روحهِ بالكامل، قلَّبَ بالهاتفِ وجدها قامت بمهاتفتهِ بالعديدِ من المرَّات، فتحَ هاتفهِ الخاص الذي نسيَ أنَّهُ بوضعِ الصامت..
آاااه خرجت حارقةٌ متألِّمةٌ لشعورهِ بكمِّ الألمِ الذي يسكنُ داخله، وكأنَّهُ بأسوءِ كوابيسه، ليتهُ كابوس حتى يفيقَ منه..
لم يستطع كبحَ قلقه، رفعَ هاتفهِ وتحدَّث:
-بابا ..ميرال فيه حد قطع طريقها وخطفها
انتفضَ مصطفى من مكانهِ يشيرُ للذي أمامهِ بالخروج:
-إنتَ بتقول إيه!..خرجَ من السيارةِ يدورُ حولَ نفسهِ بضياع، وشعورُ الذنبِ يقتلُه، فخرجَ صوتهِ شاحبًا ممزوجًا بنبرةِ الانكسارِ والعجز:
-بقولِّك مراتي اتخطفِت يابابا، مش لقيها، ميرال مش لقيها يابابا..نطقَ بها بصوتٍ اختنقَ كالذي يُوضعُ بقبرٍ وصراخهِ منقطعٌ عن من بالخارج..
قبضةٌ مميتةٌ أصابت مصطفى واهتزَّ داخلهِ من حالةِ ابنهِ ليردفَ بصوتٍ كادَ أن يخرجهُ متَّزنًا:
-حبيبي إنتَ فين، وهبعتلَك قوة ..اتَّجهَ إلى سيارتها واستقلَّها يشيرُ إلى أحدِ رجاله:
-رجَّعوا عربيتي ، قالها واستقلَّ السيارةَ ومازال يتحدَّثُ بالهاتف:
-لا يابابا، مش عايز خبر خطف مراتي يطلَع برَّة، هدخُل على إدارةِ المرور وأشوف الكاميرات، أكيد هعرف أوصل لحاجة..
بعد فترةٍ دلفَ لإدارةِ المرور، وبحثَ في معظمِ الكاميرات المتوجِّهة إلى الطريقِ الذي تمَّ اختطافَ ميرال به، وصلَ لإحدى السيارات التي تحرَّكت بنفسِ توقيتِ السيارةِ التي خرجت من محطَّةِ الوقود ..كوَّرَ قبضتهِ ونفرت عروقه وعقلهِ كادَ أن يُصابَ بسكتةٍ دماغية، قرَّبَ السيارةَ حتى يلتقطَ لوحةَ أرقامها ولكنَّهم ذاتَ خبرة، لتختفي السيارةَ أمام السيارةِ التي قامت باختطافِ ميرال، أشارَ لأحدِ الرجال:
-ارسم الراجل دا، وكمان العربية دي وحاول توصَل لرقمها.
ساعاتٍ مرَّت عليهِ كسبعينَ خريفًا وهو يدورُ حول نفسهِ كالأسدِ الجريحِ إلى أن فقدَ السيطرةَ واتَّجهَ إلى مكتبِ والدهِ علَّهُ وصلَ لشيئ..
بفيلَّا السيوفي انتهت من صلاتها بدلوفِ غادة تفركُ أناملها، رفعت عينيها إليها متسائلة:
-مالك حبيبتي..جلست بجوارها قائلة:
-أنا بحبِّك أوي ياماما فريدة، ابتسمت تمسِّدُ على خصلاتها ثمَّ رفعت رأسها واحتوت وجهها:
-مش هقولِّك غير إنتي وإسلام كنتوا النور اللي ربنا بعتُه بعد عذاب سنين ليَّا..
انسابت عبراتها وتابعت حديثها:
لو عايزة تسأليني ليه، هقولِّك لولاكم مكنتِش بقيت هنا وعيشت كدا..
-طيِّب وإلياس ياماما فريدة، واللهِ هوّّ بيحبِّك أوي، بس ..وضعت كفَّيها على فمها وآااه حارقة خرجت من قسوةِ ما شعرت به من أيامِ عذابها:
-إلياس دا النُّور اللي جالي بعد عتمة الظلم والقهر، دا قطعة من روحي دا لو مكنشِ روحي ياغادة..
ارتجفَ جسدُ غادة تغمضُ عينيها فهتفت بتقطُّع:
-طيِّب لو عمل حاجة في ميرال هتسامحيه..ضيَّقت عينيها وتراجعت بجسدِها للخلفِ ونظراتٍ متسائلة:
-مالها ميرال، وإلياس عمل إيه؟!..
نهضت من مكانها وتجوَّلت بعينيها بالغرفةِ بعيدًا عن أعينِ فريدة قائلة:
-ميرال راحت لرؤى وكان عندها وهيَّ خرجت ومحدِّش عارف مكانها فين، بيقولوا اتخطفت..
شهقةٌ خرجت من فمِ فريدة، لتهبَّ من مكانها فزعة:
-مين قالِّك كدا!!
رفعت عينيها إليها وأجابتها بتشتُّت:
-رؤى ياماما، كلِّمتني بتسأل عن ميرال وحكتلي اللي حصل.
أمسكت هاتفها بأيدي مرتعشة تهمسُ بخفوت:
-لا مستحيل، مين ممكن يعمِل كدا..ظلَّت لعدَّةِ لحظات محاولةً الوصولَ إليه ولكنَّهُ لم يجب..هرولت إلى ثيابها وارتدتها سريعًا..توقَّفت غادة أمامها:
-رايحة فين ياماما بس..
دفعتها بغضب وهدرت بعيونٍ باكية:
-رايحة أشوف بنتي فين، بدل أخوكي مابيردِّش، لازم أعرف عمل فيها إيه..
توقفت أمامها وحاولت تهدئتها
-ماما فريدة لو سمحتي، إلياس مش ناقص ضغط، حاولت أكلمُه ماردِّش، وإسلام كلِّم بابا وقال هوَّ عندُه وحالته وحشة جدًا..
هرولت للخارج، ورغمَ حزنها عليه، إلَّا أنَّها هتفت بقلبٍ محترق:
-أنا عارفة هيفضل وراها لحدِّ مايموتها، أخوكي قادر ومحدِّش قادر عليه، جه الوقت اللي لازم أوقَّفه عند حدُّه..
-ماما فريدة ..صاحَ بها إسلام وخطا إليها بخطواتٍ سريعةٍ يشيرُ إلى غادة:
-حبيبتي أدخلي إنتِ وأنا هروح مع ماما فريدة عند بابا، علشان ترتاح.
أومأت ودلفت للداخل بسكون، بينما اقتربَ إسلام منها:
-ممكن تهدي عارف إنِّك مضايقة على ميرال بس متنسيش إن إلياس ابنك، وكمان مراتُه اللي مخطوفة، اقتربَ خطوةً أخرى وهتف بعدما التفتت حوله:
-كلِّمي أرسلان وعرَّفيه، وأرجوكي تتحكِّمي في نفسِك، أنا مش قادر أخبِّي على بابا لحدِّ دلوقتي، اتصلي بيه وكأنِّك بتسألي على إلياس معاه ولَّا لأ ووصلوا لميرال، هو هيتصرَّف، وزي ماقولت لحضرتك، دا واصل أوي، ومحدِّش يعرَف أنُّه مخابراتي، فلو سمحتي بلاش تحطِّيني في موقف محرج مع إلياس لأنُّه هيعرَف أنا اللي قولتلِك.
ربتت على كتفهِ وتحرَّكت بجوارِه، متمتمةً بحزن:
-هكلِّمُه ياإسلام، وعارفة إنَّك مضايق علشان طلبت منَّك تخبِّي على بابا، بس صدَّقني هقولُّه لمَّا يرجع وهفهِّمه أنا اللي طلبت منِّك كدا.
أشارت إليه قائلة:
-اتِّصل بإلياس الأوَّل ..هزَّ رأسهِ بعدما لم يجاوبه..رفعت هاتفها بأيدي مرتعشة وعيونٍ زائغة على إسلام متمتمةً بعد لحظات:
-إزيك يابني عامل إيه، أنا فريدة والدة إلياس جبت رقمك من إسلام، بتِّصل بإلياس مابيرُدِش، كنت عايزة أعرف وصولتوا لمراتُه ولَّا لسة؟..
نهض مبتعدًا عن إسحاق وشعرَ بالحزنِ على صوتِها الباكي..
اهدي وأنا هنزلُه حالًا، عرفت الخبر، كلُّه هيكون تمام، المهم بطَّلي بكى..
حاولت التحدُّثَ ولكنَّها لم تقوَ على النطق، تمنَّت أن يكونَ أمامها وألقت نفسها بأحضانه..ربتَ إسلام على كتفها يعيدُها للواقع، أزالت عبراتها تهزُّ رأسها:
-ربنا يحميك يابني قالتها وأغلقت الهاتفَ سريعًا، بعدما سمحت لعينيها بالتحرُّر، لترتفعَ شهقاتها، فيكفي ماتشعرُ به..فتحَ إسلام بابَ سيارتهِ يشيرُ إليها بالجلوس:
-طيِّب اهدي حبيبتي، إن شاءالله كلُّه هيعدي، إلياس مش هيسكُت غير لمَّا يرجَّعها..تراجعت برأسِها على المقعدِ ومازالت عبراتها تحرقُ وجنتيها لتنظرَ إلى إسلام:
-كلِّمُه ياإسلام دلوقتي حالتُه حالة، احتضنَ كفَّيها وقبلهما:
-ماما حاولت أكلمُه، ممكن تهدي علشان قلبِك مش متحمِّل، إيه مش عايزة تقابلي ولادك بصحتِّك ولَّا إيه..
احتضنت وجههِ بين راحتيها مبتسمةً من بينِ دموعها:
-وإنت ابني وحبيب روحي، أوعى تفكَّر إن إلياس وأرسلان بس ولادي، أنا صح مخلفتَكش، بس إنتَ روحي واللهِ مابكذِب..ضمَّ رأسها وطبعَ قبلةً فوقَ جبينها..يربتُ على ظهرها:
-وأنا معرفتِش أم غيرك، مش محتاجة تحلفي، زي مابابا مصطفى أبويا حضرتك أمي، شوفي القدر ياماما ابنك الحقيقي كان بيعاملِك إنِّك مرات أبوه، وابنِ جوزك تمنَّى إنِّك أمُّه، الواد دا عايز ينضرب..فيه حد تبقى أمُّه عسل كدا ويتبرَّى، معرفشِ الهبلة بتحبُّه على إيه..
ابتسامةٌ تصفعهُ بخفَّةٍ قائلة:
-بس يالا، دا أخوك الكبير مفيش حاجة اسمها ابنِ جوزي ومرات أبوه..
أفلتَ ضحكةً بعدما أخرجها من حالتها، ثمَّ استدارَ إلى القيادةِ وتحرَّكَ بالسيارة.
بمكتبِ مصطفى جلسَ مع أصدقائهِ المقرَّبين وحاولَ الوصولَ إلى تلكَ السيارةِ بعد انكشافها عن التقاطِ آخرَ الصورِ لها ...دلفت فريدة بجوارِ إسلام بعد خروجهما وتحديدِ المهام لكلٍّ منهما..توقَّفَ مصطفى يقابلُها حينما دلفت:
-فريدة إيه اللي جابك..نظرت إلى إلياس الذي يتابعُ أحدِ الأجهزة ولم يكترث لدخولها فهمست بتقطُّع:
-فين ميرال يامصطفى، بنتي فين..حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ بها إلى الأريكةِ وعينيها مازالت على إلياس الحاضرِ الغائبِ الذي يبحثُ عن طريقِ الأجهزةِ الإلكترونيةِ ومحادثتهِ لبعضِ الأشخاص:
اتَّجهت إليهِ بعدما تركت ذراعَ مصطفى:
-مابترُدش عليَّا ليه، إزاي مراتك تتخطف وإنتَ بمركزك دا؟!..
رفعَ رأسهِ عن جهازهِ للحظاتٍ ثمَّ عادَ يفعلُ مايفعله، أصابها الذهولَ من ردِّهِ البارد.. طاحت بيديها الجهازَ من أمامه:
-لمَّا أكلِّمَك توقف وترُد عليَّا باحترام، اقتربت وكلَّ ما تراهُ أمامها الآن بكاءَ ميرال وخوفها وهي لا تعلمَ من اختطفها..أمسكتهُ من تلابيبهِ تصرخُ فيه:
-حذَّرتك كتير وكالعادة اللي في دماغك بتعملُه، أهو مبسوط مراتك مش موجودة معاك، ياترى اللي خطفها دا بيعمل فيها إيه دلوقتي..
تراجعَ للخلفِ بعيدًا عنها بعدما شعر بنارٍ سوداءَ تحرقُ داخله، ولا يريدُ أن تطالَ إليها..ابتعدَ بصمتٍ فهو الآن كالبركانِ القائظِ الذي أوشكَ على الانفجار، أسرعَ مصطفى يجذبُها بعيدًا عن إلياس بعدما رأى حالته، مدَّ يدهِ وخطفَ هاتفهِ متحرِّكًا للخارجِ دونَ حديث ..خطواتٌ واسعةٌ تأكلُ الأرضَ ولكنَّها مترنحةٌ بالضعفِ والعجز..وصلَ إلى سيارتهِ مع رنينِ هاتفه، نظرَ بشاشتهِ وجدهُ أرسلان أغلقَ بوجهه، لا يريدُ أن يتحدَّثَ مع أيِّ أحدٍ ولا يرى سوى زوجته، الآن هو كالشجرةِ الضعيفةِ التي تقفُ في مهبِّ الريح، لم يكلَّ أرسلان من مهاتفتهِ ولكنَّهُ ككلِّ مرَّةٍ لم يجبهُ مما جعلهُ أن يصلَ بمعرفتهِ إلى مكانهِ من خلالِ هاتفه..
عندَ فريدة جلست تحتضنُ رأسها:
-يعني إيه، مش عايزين تبلَّغوا الشرطة أومال هتوصلوا إزاي؟!..
-فريدة وإحنا مش شرطة، أنا كلَّمت كذا حد قريب منِّي بيدوَّروا، مش عايز كلام يطلَع هنا ولَّا هنا، وإلياس عندُه حق وهوَّ حُر ياستي..
-حُر !..لا مش حُر أنا مش هستنى لمَّا يجبوها مقتولة..
-وبعدهالِك بقى يافريدة ماتهدي شوية، أنا مش ساكت، وبدل مانتي عمَّالة تجلدي فيه خدي في حضنك، مش شايفة حالتُه، أنا إلياس صعبان عليَّا ومش هقعد أتفرَّج عليه، خدي إسلام وارجعي وأنا من هنا للصبح لو مرجعِتشْ هاخد إجراء قانوني وهحاول أوصلها..
-إيه اللي بتقولُه دا يامصطفى، إنتَ هتفضل ساكت للصُّبح، يعني بنتي مع ناس مجرمين ومعرفشِ حالتها إيه وإنتَ بتقولِّي للصبح!.
زفرَ بحدَّةٍ وشعورُ الذنبِ يحتلُّ عقله، يريدُ أن يتخذَ إجراءًا قانونيًا ولكن ابنهِ رافضٌ رفضًا قاطعًا، اقتربَ منها وحاوطَ كتفها وحاولَ امتصاصَ غضبها:
-حبيبتي لمَّا نبلَّغ هيعملوا إيه، أنا اللي بدِّي التعليمات زي دلوقتي، اهدي كدا مش يمكن عايزين ديَّة أو أيِّ حاجة،
نستنى لمَّا نشوف آخرتُهم إيه..
بعدَ فترةٍ وصلَ إليهِ أرسلان، وجدهُ بمحطَّةِ الوقودِ ينظرُ لتلكَ الكاميراتِ بالقربِ من موقعِ السيارةِ التي تمَّ التبديلَ بها، دلفَ للداخلِ بعدما سألَ عنه ..توقَّفَ بجوارهِ ينظرُ للشاشةِ التي يصبُّ اهتمامهِ عليها، ربتَ على ظهرهِ لينتبهَ إليه..رفعَ رأسهِ ينظرُ إليه بصمت، ثمَّ اتَّجهَ إلى الشاشةِ التي التقطت ثلاثةَ أرقامٍ خلفية، أدارَ الشاشةَ من الجانبِ الآخر حتى التقطَ الأرقامَ والحروفَ الناقصة، أطبقَ على جفنيهِ يدعو اللهَ أن يكونَ ذلكَ أوَّلَ طرفٍ يصلُ إلى زوجته..تحرَّكَ للخارجِ وخلفهُ أرسلان متسائلًا:
-هتعمل إيه ؟..
إنتَ مين عرَّفك؟!..
اقتربَ منهُ وعينيهِ تشعُّ من الأسى مايؤلمُ روحهِ على حالته، ليهتفَ مقتربًا حتى توقَّفَ أمامهِ مباشرة:
-مكنتش عايزني أعرف، على العموم قلقت عليك علشان بتَّصل بيك ومابترُدش، اتصلت بوالدتك حكتلي وأنا عرفت مكانك بطريقتي..
شعورٌ مميتٌ بداخله، وهو ينظرُ إليهِ بعجز، يريدُ أن يصرخَ ويبكي ولكنَّهُ لم يقو على ذلك، ضعفهِ على حافَّةِ الهاوية، هزَّ رأسهِ وتحرَّكَ لسيارتهِ دونَ حديث، تحرَّكَ خلفهِ متسائلًا:
-طيب عرَّفني ناوي على إيه؟.،
توقَّفَ متسمرًا يواليهِ ظهرهِ وردَّ بصوتٍ ثقيلٍ وكأنَّ لسانهِ رُبطَ قائلًا:
-أنا عارف إنَّك صديق ويُعتمد عليك بس دي حياتي الخاصة، لو سمحت بلاش نتكلِّم في كلام ممكن يزعلَّنا من بعض ..أمسكهُ من ذراعهِ ولم يكترث لحديثه:
-أنا مش بتعامل معاك على إنَّك صديق، أبدًا واللهِ أنا حزين وزعلان، أنا جيتلك لمَّا حسيت إنَّك محتاج لسند، ومقدَّر إنَّها حياتك الخاصة، وحاسس بالألم جواك، اعتبرني أخ، ولَّا بلاش تعتبرني..أنا اللي أعتبرك أخويا ياسيدي وحسيت إنَّك محتاج مساعدتي هترفض، وبعدين نسيت انا مديون لك ... وقبلِ ماترفض أنا ماليش أخوات يعني بفرض الأخوية عليك معندكشِ اختيار..
تحرَّكَ يشيرُ إلى سيارته:
-طيَّب تعالَ ورايا، هنروح المرور ونشوف العربية دي وقفت فين ..تحرَّكَ كلٍّ منهما إلى سيارتهِ ليصلَ إلى إدارةِ المرورِ العامِّ حتى يلتقطَ جهازَ الرادارِ السيارةَ التي يبحثون عنها..
مرَّ يومًا آخر والحالُ كماهو، لم يتم العثورَ على شيئ..حبسَ نفسهِ بمكتبهِ كطيرٍ بُترت أجنحتهِ عندما شعرَ بالعجز، يأكلهُ الندم وتحرقُ أحشائهِ بنيرانِ الألم..
احتضنَ رأسهِ ينظرُ لهاتفها بعينينٍ مغروقتين بالدموعِ يودُّ لو يراها أمامهِ لو دقيقةٍ واحدةٍ لدفنها داخلَ أعماقه حتى لا يستطعَ أحدًا الوصولَ إليه، توقَّف عقلهِ عن التفكير وسحبتهُ دوامةُ العجزِ فنهض يترنَّحُ بوقوفهِ محاولًا التفكير لماذا تمَّ خطفها ومن خلفَ هذا الخطف، بعدما لم يساومونه
عند فريدة ارتدت ملابسها بهدوء، وتحرَّكت تاركةً غادة تغطُّ بنومها، ثمَّ اتَّجهت إلى قسمِ الشرطة:
-لو سمحت عايزة أبلَّغ عن اختطافُ بنتي..
-لحظة يافندم هبلَّغ حضرةِ الظابط .. دقائقَ ودلفت إليهِ كان منشغلًا بأحدِ القضايا بجلوسِ جواد حازم بمقابلته، نهضَ من مكانهِ يشيرُ إلى جواد:
-شوف المدام عايزة تعمل إيه لحدِّ ما أخلص ..اتجهَ جواد إليها يشيرُ بالجلوس..
ظلَّت نظراتها على جاسر المنشغل بعمله، ثمَّ اتجهت إلى جواد بعد صمتٍ دام للدقائق
-بنتي اتخطفت وهي راجعة من الشغل وبقالها يومين، انتظرنا حدِّ يكلِّمنا بس مفيش أخبار..قالتها بصوتٍ مكتومٍ بالبكاء ..أعطاها جواد كوبًا من المياهِ
ثم أشارَ للكاتب:
-اكتب للمدام محضر يابني ..
توقَّفَ جاسر بعدما نطقت:
-ميرال السيوفي..رفعَ نظرهِ إليها سريعًا
وتساءل:
-حضرتك مرات سيادةِ اللوا..هزَّت رأسها تنظر للأسفلِ بدموعٍ تحجَّرت بعينيها، فرغمَ منعِ مصطفى من البلاغِ إلَّا أنَّها لم تستمع إلى حديثه..
نهضَ من مكانهِ وجلسَ بمقابلتها يشيرُ بعينيهِ إلى جواد الذي تساءل:
-ليها عدواة مع حد أو ممكن يكون مضايقة وحبِّت تقعد بعيد عن الكل..
هزَّت رأسها بالنفي:
-لا ..عمرها ماعملتها، لمَّا بتحبِّ تقعد بتقولِّي أو بتقول لأختها، وجوزها بيكون عندُه علم..
-جوزها.. هيَّ متجوزة؟..
هنا فاقَ الألمُ وهي تتخيَّلُ ردةِ فعله، تعلمُ أنها أخطأت ولكن قلبها يؤلمها عليها فهمست بتقطُّع:
-أيوة متجوزة إلياس السيوفي..
ضيَّقَ جاسر عينيهِ ونظراتهِ تخترقُ حركاتَ وجهها ثمَّ تساءل:
-هيَّ متخانقة مع جوزها..أطبقت على ثيابها متذكِّرةً حديثَ غادة عن رؤى ولكنَّها رفعت عينيها إلى جاسر تهزُّ رأسها بالنفي..اردفت :
-ممكن جوزها يكون له أعداء وعايزين يساوموه ..هيَّ شغالة ؟! وجوزها شغال -إيه..هكذا تساءلَ بها جاسر..
ابتلعت ريقها بصعوبة قائلة:
-إلياس السيوفي ظابط أمنِ دولة..
زفرةٌ قويةٌ من فمه، هنا علمَ ربما يكونُ اختطافها بسببِ عمله..
-هوَّ ميعرفشِ إنِّك جاية تعملي بلاغ؟..
أومأت له ومازالت عيناها تنظرُ للأسفل..
-جواد إعمل محضر وشوف العربية اللي كانت راكباها ..قاطعتهُ قائلة:
-ممكن الموضوع مايخرجشِ للصحافة والإعلام..
-من غير ماتقولي يافندم، نهضَ من مكانهِ وأردفَ بتساؤل:
-هي شغالة ايه؟..
-صحفية، كانت نزِّلت مقال عن الجماعة الإرهابية من أسبوع، ودا اللي جوزها شاكك يكون همَّا ورا خطفها.
تراجعَ جاسر إلى مقعده، بعدما شعرَ بالأسى عليه، يشيرُ إلى جواد حتى يتحرَّك بإجراءِ القضية،
-أحنا هنتصرَّف متقلقيش، وحالًا هنحوِّل القضية للنيابة وهيَّ هتتعامل مع الموقف، علشان نعرف نوصل لمراقبة العربية..
-هوَّ لازم النيابة تعرف، أنا مش عايزة الموضوع..قاطعها جواد حينما توقَّفَ يشيرُ إليها بالاتجاهِ إلى وكيلِ النيابة:
-لازم يافندم، حضرتِك هتيجي معايا، ودا علشان سيادةِ اللوا مصطفى ووعد الموضوع مش هيخرج، ومتخافيش هنعرف نسيطَر على الأخبار..
أومأت وتحرَّكت متَّجهةً خلفهِ إلى مكتبِ راكان..
بعدَ فترةٍ خرجت من مكتبهِ تشعرُ بالراحةِ قليلًا، تحرَّكت بخطواتٍ واهنةٍ تختفي خلفَ نظارتها السوداءَ من أن يراها أحدٌ من معارفِ زوجها اصطدمت بأحدهم ..ربتت على ظهرهِ وهتفت معتذرة:
-آسفة يابني لا تؤاخذني ..قالتها وتحرَّكت سريعًا، بدخولهِ إلى مكتبِ راكان، ولكنَّهُ توقَّفَ بعدما لاحت صورتها مخيلَته، فاستدارَ سريعًا يهتفُ بصوتٍ مرتفع:
-طنط فريدة..توقَّفت واستدارت تنظرُ على من يناديها، ولكنهُ دلفَ بعدما تأكدَ أنَّها ، يااه معقولة هي، طيب بتعمل إيه، وشكلها هانم مش زي ماامي حكتلي، دلفَ يزن وعقلهِ يعملُ بكافةِ الاتجاهات.
وصلت إلى المنزل وجدت مصطفى يدورُ كالمجنونِ يبحثُ عنها واتصالاتٍ عديدةٍ ولكنها كانت هاتفها مغلق، قابلها وتساءلَ بلهفة:
-كنتي فين..رفعت عيناها إلى إلياس الذي ينزلُ سريعًا من الدرجِ فتساءلت:
-إلياس رجع إمتى؟..
-لسة راجع جه يغيَّر هدومه، استمعت إلى حديثه..
-أيوة ياأرسلان، أنا جاي خمس دقايق أه عرفت مكانها، لا مالوش لازمة معايا الطقم بتاعي..ابتسمت مقتربةً منه:
-إلياس وصلت لميرال ..أومأ لها وتحرَّكَ سريعًا، صاحت باسمهِ بعدما علمت بوجودِ أرسلان معه، شعرت بالخوفِ عليهما فنظرت إلى مصطفى:
-إلياس لازم يعرف إنِّ أرسلان أخوه، قالتها وتحرَّكت خلفهُ سريعًا:
-إلياس ..توقَّفَ يواليها ظهرهِ وكلَّ خليةٍ بجسدهِ تنتفض، هو لايريدُ أن يتحدَّثَ ولا أن يرى أحدًا الآن ..وصلت إليه:
-فيه موضوع مهم لازم تعرفه، ألقاها بنظرةٍ صامتةٍ وأردف:
-مفيش دلوقتي حاجة أهم من إنِّي أرَّجع مراتي..قالها وتحرَّكَ سريعًا، لم تستطع إخفاءَ خوفها عليهما فتحرَّكت إلَّا أن أوقفها مصطفى:
-وبعدهالِك مش هتسيبِك من الجنان دا، قولتلك مليون مرة مستحيل اللي بتقوليه دا، فريدة مش معنى إلياس ابنك يبقى أيِّ حد شبهُ يكون أخوه..
نزعت نفسها من بينِ ذراعيهِ وهتفت بقوة:
-مش الشبه بس يامصطفى، الواد نسخة تانية من أبوه، كلِّ حاجة جمال صوتُه شكلُه كلِّ حاجة..
-مش شرط يافريدة، ماهو إلياس كان ابنك وانتي قعدتي معاه تلاتين سنة ومعرفتيش، اهدي يافريدة عيلة الولد دي كبيرة أوي، مستحيل يكون ابنك..
-ابني أرسلان ابني يامصطفى، انا عملت التحليل وطلع ابني..
توقَّفَ ينظرُ إليها بصدمةٍ وأردفَ بتقطُّع:
-مستحيل أكيد اتجننتي ..قاطعهُ إسلام من الخلف:
-ماما فريدة بتقول الحقيقة يابابا، اقتربَ وتوقَّفَ أمامهِ وتابعَ مسترسلًا:
-أنا ساعدت ماما فريدة وعملنا التحليل، أخدت منُّه شعرة مع شعرِ إلياس وعملنا التحليل من عشرِ أيام..
-إيه..يعني إيه، الولد يجي هنا بكلِّ ثقة وأنتو تخططوا انُّكم ..بترت فريدة حديثهِ وصرخت باكية:
-حرام يامصطفى، حرام عليك إنتَ مش حاسس بالنار اللي جوايا، ولادي الاتنين قدَّامي ومش عارفة آخد حدِّ فيهم في حضني..اقتربت منهُ بعدما تحرَّرت عيناها بالبكاءِ ترفعُ يديها وتشيرُ بأناملها ببكاء؛
-الاتنين يامصطفى، الاتنين قدامي ومش قادرة أقول لحدِّ فيهم أنا أمُّكم، بكت حتى انهارت..
-فكرت انا بحسِّ بإيه والياس قدامي طول الوقت وهوَّ بيقولي يامدام ولا حتى طنط، حسيت وهوَّ لمَّا بيكون تعبان ولَّا زعلان ونفسي أطبطب عليه وأقولُّه معلش ياحبيبي هتعدي، ولَّا لمَّا أرسلان قالي ياستِّ الكل، عارف الكلمة دي عملت فيَّا إيه..رفعت عيناها إليه وأردفت بصوتٍ خافت:
-إحساس صعب يامصطفى ياربِّ ماحد يجرَّبه يامصطفى..
-فريدة واللهِ أنا حاسس بيكي، تراجعت بعيدًا عنهُ وقطعت حديثهِ بصوتٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-لا محدش حاسس بالنار اللي جوايا، الاتنين دلوقتي مع بعض وميعرفوش أنُّهم روح واحدة، داخلين النار مع بعض ومحدش منهم عارف أنهم اخوات، تفتكر لو واحد حصلُّه حاجة أنا ممكن أعمل إيه ..هزَّت رأسها بجنونٍ كلَّما تخيلت أن أحدَهم يصيبهُ مكروه، لتقتربَ منه:
-يومين بس يامصطفى والولاد يعرفوا أنهم اخوات..قالتها وتحرَّكت للأعلى..
نهاية الفلاش
بفيلَّا الشافعي بعد خروجِ فريدة..
تحرَّكَ راجح سريعًا إلى المشفى بعد إخبارهِ بموتِ هيثم ابنهِ المسجون، تحرَّكَ كالمجنونِ يهتفُ اسمَ ابنه، بينما رانيا التي سقطت مغشيًا عليها بعد علمها بما صارَ لابنها ..
يومينِ آخران والحالُ كما هو، انهيارَ رانيا وحبسها بغرفتها بعد محاولتها الخروج للوصولِ إلى ميرال، وراجح الذي شعرَ بالهوانِ بعدما علم أنهُ السببَ بقتلِ ابنهِ بعدما خالفَ أوامرَ من يعمل معه، ووصولِ إلياس إلى زوجته، بعد تحذيرِ راجح بقتلها..
توقف الرجل أمامه
-والله ياباشا عملنا كل اللي نقدر عليه، ومكناش نتوقع أنهم هيوصلوا قبل اسبوع
تذكر بعد علمه من الوصول إلى ميرال بذاك اليوم الذي يقيم به حفلا حتى يغطي على جريمته النكراء بقتل ياسر، ولكن شاء القدر أن إلياس يصل إلى ميرال بنفس توقيت قتل ابنه
-اعرف مين الخاين اللي بلغهم بمعرفة مكان البنت، وصلت رانيا إليه
-يعني كلمناها علشان نقهرها ورغم احنا اللي كنا مقهورين علشان وصلوا
-كويس أنهم وصلوا يارانيا، توقف بمقابلتها وهدر بها بحدة:
-لو ماوصلوش كان زمان الحقن اللي حضرتك كنتي فرحانة انك بتديهلها موتتها، احمدي ربنا، المهم انها عائشة والجاي سهل
اقتربت منه ترمقه بنظرات حارقة
-هتسيبها لفريدة ياراجح، بعد قهرتنا السنين دي كلها، مش كفاية ابني، يبقى ولا بنت ولا ولد، رجعلي مروة ياراجح عايزة بنتي
جلس يزفر بغضب واردف
-بحاول اعمل اللي اقدر عليه كلمت جماعتنا وقالوا هيتصرفوا
-راجح البنت مش هتيجي بسهولة، اخطف الظابط وساوم مصطفى عليه
-الظابط..مش دا ابن فريدة اللي بتقول عليه..توقفت عن الحديث تضرب على رأسها
-يعني دا ابنها اللي تقصده، الظابط اللي جه هددنا هنا يكون ابنها، لا وكمان بعد إصابته جالك هنا وقالك البادي اظلم، يعني عارف انك عمه
هز رأسه بالنفي متمتمًا:
-لا أكيد، لو عارف مكنش سكت، وشكل فريدة مكنتش تعرف بدليل قوتها دي
احتضنت ذراعه
-طيب هاتلي بنتي، بدل مااقلب عاليها واطيها سمعتني
قالتها وتحركت وهي تردد
-فريدة يطلع عندها ولدين وانا ابني يموت وبنتي تربيها وتقولها ياماما، والله لاحرقك يافريدة
كان يستمع إليها بغضب، يريد أن ينقض على عنقها ولا يلقيها سوى وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة
بعد ساعات استمع الى رنين هاتفه
-رانيا لازم تبعد عن مصر الفترة دي، مش عايزين غلط، وانتظر مني الأوامر
بالمشفى بعد إفاقتها وتذكرِ ما صارَ لها، ظلَّت تصرخُ مبتعدةً عن الجميع، ولكنهُ كان المسيطرُ الأقوى عليها وأبعدَ الجميعَ من الاقترابِ إليها، احتواها بحنانٍ بين أحضانه، وظلَّت تحتَ العلاجِ لمدةِ أربعةِ أيامٍ إلى أن تمَّ علاجَ جزءٍ كبيرٍ من حالتها بعد حقنها ببعضِ الموادِّ السامةِ التي تسيطرُ على خلايا الأعصاب، هذا ماتوصلَ إليهِ الأطباء من خلالِ التحاليل ..أربعةُ أيامٍ ولم يتحرَّك من جوارها سوى لصلاتهِ فقط، فتحت عينيها وجدتهُ غافيًا على المقعد، اعتدلت على الفراشِ تنظرُ إلى ملامحهِ المرهقة، نهضت من فوقهِ واتَّجهت إلى ملابسها بهدوءٍ حتى لا توقظه، قامت بتبديلِ ثيابها ورفعت عينيها إلى أشيائهِ لتتحركَ ببطئٍ تلتقطُ مفتاحَ السيارةِ والكريد كارت،
ثمَّ استدارت للمغادرةِ ولكنَّها وجدت نفسها بين ذراعيه يهمسُ إليها:
-رايحة فين؟!..ارتجفَ جسدها وانسابت عبراتها:
-ابعد عني ياالياس انا مابقتش أنفعك، خلاص أنا بقيت واحدة مغت..بترَ حديثها يبتلعُ كلماتها يعاقبها ويعاقبُ نفسهِ بما تفوَّهت به، لحظات ربما دقائق يقبِّلها بطريقةٍ جنونيةٍ كأنَّهُ يريدُ أن يقتصَّ بما نطقت به، اختتقت باكيةً ليرفعها بين ذراعيهِ بعدما ارتفعت شهقاتها، ثمَّ اتَّجهَ للخارج، بوقوفِ فريدة وإسلام، ولكنهُ تحرَّكَ بها وهي تعانقُ رقبتهِ تدفنُ نفسها، وكأنَّها تختفي من أن يراها احد،
حملها وخرجَ بها من المشفى، أوقفتهُ فريدة:
-كنت سبها ياماما كمان يومين ترتاح..
وضعها بالسيارةِ بهدوء، ثمَّ طبعَ قبلةً فوقَ رأسها:
-مرتاحة كدا ..أومأت وهي تضعُ يدها على بطنها..
-بطني بتوجعني أوي..
-هنروح وتاخدي العلاج وتبقي كويسة، قالها وهو يقومُ بعقدِ حزامِ الأمان..
-يعني بكلِّمَك ومابتردش عليَّا..
استدارَ إليها بعدما أغلقَ بابَ السيارة
-بقالي أربع أيام منمتش، مش قادر أقف على رجلي، عايز أرتاح وبعد كدا نتكلِّم ممكن تروحي مع إسلام..
-وليه ماروحشِ معاك، ولَّا مش عايز عزول..
تحرَّكَ للقيادةِ قائلًا:
-مش راجع البيت، هروح مكان هادي علشان تخفِّ بسرعة، لمَّا أوصل هكلمِك
هرولت إليهِ تقفُ أمامه:
-إنتَ عايز تخرج برَّة القاهرة بشكلك دا، لا طبعًا، إنتَ لسة قايل مش قادر تتكلِّم..
-ماما فريدة لو سمحتي..
ترقرقت عيناها بالدموع..
-علشان خاطري ياحبيبي، ياتروح طيران ياأما تاخد السواق معاك..
هزَّ رأسهِ وفتحَ بابَ السيارةِ هروح المطار..قالها وتحرَّكَ بالسيارةِ سريعًا دونَ كلماتٍ أخرى.
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ كانت تغفو بأحضانهِ بإحدى الشاليهاتِ بمدينةِ شرم الشيخ..
تململت بنومها تفتحُ عينيها لتجدَ نفسها محاصرةً بجسده،
ابتعدت محاولة التسلل كعادتها ولكنه احتواه يضمها بحنان إلى صدره
-ميرال انت كويسة ممكن لو سمحتي ماتزعلنيش منك ..كانت تبكي بصمت فقط، كأن لسانها ربط ولم يعد لديها قدرة على النطق..ظلت عدة أيام بذلك الوضع ..قام برعايتها مثلما أشار إليه الطبيب، بالصباح جولة إلى البحر الذي تعشقه، وبالليل يحتويها داخل أحضانه أمام المدفأة، يقص لها عن طفولتهما، محاولا ابعاد ذهنها عن التفكير
اسبوع اخر منعزلًا بها عن الجميع، لا يريد سوى عودة روحها الغائبة، عادت برائتها وضحكاتها مرة اخرى، ولكن مازال وجهها الشاحب يزين بعيناها الحزينة ..
ايه رأيك نعمل نسكافيه انتِ كنتي من هواته ايام الجامعة
وضعت رأسها على كتفه
-لسة فاكر!! جمع شعرها ينظر إليها بحب
-طبعا جنانك كله لسة فاكره، رفعت رأسها تنظر إلى عيناه
-بس مكنتش بتخليني اشربه، فاكر ولا لا ..وضع وجهه بعنقها يستنشق رائحتها
-علشان كنتي بتتعبي بعد ماتشربيه، وهبوط ودوخة، نسيتي
-يعني مكنش علشان الأوامر منك وخلاص
ابتسم يداعب وجنتيها
-وحتى ولو فيها ايه لما أمرك بحاجة
تبعدي عنها علشان بضرك
تنهدت قائلة:
-عايزة انام ياالياس ممكن ..نهض يسحب كفيها متجهًا بها إلى الفراش، نزع ثيابها الثقيلة وساعدها بالتمدد، والته ظهرها وانفجرت عيناها بالبكى، بعدما شعرت بنفورها من الاقتراب منها بعد خطفها..احس باهتزاز جسدها ليجذبها لأحضانه
-ليه العياط دا بس..
-طلقني ياالياس، طلقني علشان ترتاح وتريحني ..أدارها إليه وحاول كبت مشاعره المأسوية، ورفع كفيه يداعب خصلاتها
-تقدري تعيشي بعيد عن حضني..هزت رأسها بالنفي مع دموعها، اقترب منها يزيل دموعها بخاصته يهمس بنبرته الأجش
-وأنا مقدرش ابعد عنك، ومتحاوليش تزعليني، انا هعديها المرة دي علشان تعبك بس، لكن غير كدا كنت عاقبتك عقاب يليق بقلبي اللي وجعتيه
-ليه ترضى على نفسك انك..بتر حديثها بقبلة شغوفة بث فيها كل عشقه، لحظات بل دقائق وهو يقتنص من شهدها مايروي روحه الجافية
بعد عدة ساعات فتحت الجميلة عيناها
بعدما شعرت بشيئا صلبًا تحت رأسها
ابتسمت وهي تغمضُ عينيها، ثمَّ رفعت رأسها إلى أن أصبحت بمقابلةِ وجهه، تطبعُ قبلةً على وجنتيهِ تدفنُ نفسها بأحضانه، تستنشقُ رائحتهِ بولهٍ تهمسُ لنفسها:
-يااه مكنتش مصدَّقة هرجعلَك تاني وأشمِّ ريحتك وأنا في حضنك تاني، رغم كنت مقررة اهرب منك علشان اريحك مني
شعرت بكفِّهِ يرفعُ ذقنها لتغمضَ عينيها تهربُ من نظراته، إلَّا أنَّهُ اقتربَ يعانقُ خاصَّتها بكلِّ اشتياقٍ ولهفة..
-كنتي عايزة تهربي منِّي تاني وبعدهالِك فين عقلك ياميرال، طيِّب قلبك اللي طول الوقت بحبَّك بحبَّك..
لفَّت ذراعيها حولَ خصره:
-كنت خايفة ليكون حد..وضعَ أناملهِ على شفتيها:
-ممكن تسكتي، أنا اتأكِّدت مفيش حد قرَّب منِّك..
اتأكدت إزاي ياإلياس إنتَ بتحاول تقنع نفسك ولَّا بتضحك عليَّا..هتقدر تنسى أن ..لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يقومُ بتمزيقِ ثيابها وتحوِّلِ حالتهِ الجنونية:
-عايزة توصلي لإيه، قولتلِك مفيش حد قرَّبلك، دقائقَ حجيمُ من جهنمَ العشق على الاثنين، هو الذي يتخيَّلُ أحدهم اقتربَ منها ورغمَ حديثِ الطبيبةِ له، ولكنَّ وجودها بتلكَ الحالةِ وأنَّ أحدهم رأى مايخصُّه، جعلهُ يفقدُ عقله، أمَّا هي تريدُ أنَّ ماتشعرُ به ليسَ سوى كابوسًا وستفيقُ منه، تركت نفسها مع دموعها التي انسابت من شدَّةِ ماشعرت به..
شهقةٌ خرجت من فمها من شدة آلامها، لينهضَ بقلبٍ مهشَّمٍ وعينًا ماتت بها الحياة، وهو يبتعدُ عنها ، رفعت عينيها بنجومها التي انسابت على وجنتيها، فأدركَ نتيجةُ فعلتهِ النكراء، هزَّ رأسهِ متراجعًا بعنفٍ لما أوصلهُ إليها، ليهرولَ إلى المرحاض، يصفعُ البابَ خلفهُ بقوَّة، دارَ حولَ نفسهِ كالأسدِ الحبيس، يحطِّمُ كلَّ ما يقابله، حتى برزت عروقهِ وتحوَّلت عيناهُ لشظايا من جحيمِ جهنَّم ليشقَّ جوفهِ صرخةٌ كادت أن تزهقَ روحه، انتفضَ جسدها على إثرها تبكي بصمت، دقائقَ وهي عاجزةٌ حائرةٌ لتتوقَّفَ بساقينِ مرتعشة تجذبُ روبها وخطت بضعفٍ من شدِّةِ آلامها متَّجهةً إليهِ تدعو الله بسريرتها، أن يخفِّفَ عليهما تلكَ المحنة، وصلت إليهِ ودلفت للداخلِ بأقدامها الحافيةِ تبحثُ عنه، وقعت عيناها على المكانِ الذي أصبحَ شظايا متناثرةً من البلور، همست اسمهِ بعدما وجدتهُ جالسًا على الأرضيةِ الباردةِ كالطفلِ الذي فقدَ والديه..خطت إليهِ غير عابئةً لتلكَ الشظايا التي غرزت قدمها، ليخرجَ أنينها.. رفعَ عينيهِ إليها، فنهضً فزعًا، بعدما وجدَ دموعها التي شعرَ وكأنَّها تشحذُ صدره كالبلورِ الذي اخترقَ قدميها، تشبثت بذراعهِ وهي تطالعهُ بدموعِ عيناها..انحنى وحملها متجهًا للخارج، وضعها برفقٍ على الفراش، وجثى أمامها على ركبتيهِ يرفعُ قدمها يتفحَّصه، ثمَّ أخرجَ منها بعضَ الشظايا التي انغرزت به..شهقةٌ أخرجتها تضعُ كفَّيها على فمها لشعورها بالألم، انحنت تضعُ رأسها على كتفهِ وهو ينظِّفُ جروحها، رفعَ كفَّها وقبَّلهُ هامسًا بنبرةٍ معتذرة:
-آسف..رفعت رأسها تنظرُ لعينيه:
-على إيه ..احتضنَ يديها الاثنينِ وقبَّلهما مرَّةً أخرى:
-على أيِّ حاجة..متزعليش منِّي، محستشِ بنفسي، أنا عصبيتي وحشة وكلِّ مرَّة بأذيكي من غير ما أحس..
انحنت تضعُ جبينها فوقَ خاصته:
-إلياس أنا بحبَّك أوي، مقدرشِ أعيش من غيرك، نفسي تحس بحبُّي وتثق فيه..ومش بزعل منَّك على عصبيتك علشان خلاص أخدت عليها أو ممكن تقول اتربيت عليها..
مسَّدَ على خصلاتها:
-ربنا يخليكي ليَّا..ابتسامةٌ باهتةٌ تردِّد:
-ربنا يخلِّيني وتتعصِّب عليَّا كمان وكمان ..احتواها بين ذراعيه:
-تقدري تمشي ولَّا أشيلك علشان تاخدي شاور..
تمدَّدت على الفراشِ بعدما ابتعدت عنه:
-لا أنا تعبانة وعايزة أنام، لمَّا أفوق هاخد شاور ..جلسَ بجوارها واستندَ على ذراعيهِ يمسِّدُ على خصلاتها، ذهبَ ببصرهِ إلى علاماته..أطبقَ على جفنيهِ يريدُ أن يحرقَ نفسهِ على ما فعلهُ بها..ارتفعت أنفاسهِ حتى لفحت عنقها لتشعرَ به:
-ممكن تاخدني في حضنك، بردانة ومفيش هدوم تقيلة ..تمدَّدَ بجوارها يمدُّ ذراعيهِ ثمَّ رفعَ رأسها وسحبها برفقٍ يضمُّها لأحضانهِ بحنانٍ كأنَّها طفلتهِ ثمَّ أخرجَ صوتهِ حانيًا على غيرِ عادته:
-هدوم تقيلة وأنا موجود، بتغلطي في جوزك..ابتسمت تدفنُ نفسها بأحضانه:
-جوزي أحسن راجل في الدنيا ..ابتسمَ عليها وهو يتلاعبُ بخصلاتها هامسًا لنفسه:
-وإنتِ الهوا اللي بتنفسُه، تذكَّرَ بعدما شعرَ بقلبهِ ينبضُ لها وهو يعاملها بقسوةٍ بعدما أحسَّ أنَّها احتلَّت كيانهِ وسيطرت على شخصيتهِ بالتفكيرِ بها، ذهبت ذاكرتهِ إلى إحدى أعيادِ ميلادِ إسلام وغادة؛ وهي تتراقصُ مع إسلام بتنورتها القصيرة وشعرها الذي رفعتهُ لأعلى ليظهرَ عنقها وفتحةَ صدرها من ذاكَ الرداءِ الأبيضِ الذي يصلُ إلى فوقِ الركبة ويضيقُ بمنطقةِ الخصر، حقًا حينها تخيَّلها كحوريةٍ نزلت من السماءِ والجميعُ ينظرُ إلى جمالها، شعرَ بنيرانٍ تكوي أوردتهِ وجميعُ أصدقاءِ إسلام وغادة ينظرونَ إلى رقصها مع أخيه، ليُخرجَ حممهِ البركانيةِ ويغلقَ الموسيقى ناهرًا إياها أمامَ الجميعِ ولولا تدخُّلِ مصطفى لألقاها صريعةً بذاكَ الوقت..لن ينسى تلكَ النظرةَ التي ألقتهُ بها كأنَّها رصاصةٌ اخترقت صدرهِ وحينها قررَّرَ الابتعادَ عنها ومعاملتها ببرودهِ وجفائهِ الذي أتقنهُ بحرفيةٍ لتشعرَ بكرههِ إليها..غفت بأمانٍ بأحضانه، لينهضَ من فوقِ الفراشِ بهدوءٍ بعدما دثَّرها، وأمسكَ هاتفه وسجائرهِ متحرِّكًا للشرفة..لحظاتٍ وأجابهُ شريف؛
-إنتَ فين يابني؟..
-إيه الجديد عندك؟..
-مفيش جديد، لسة التحريات بتحاول توصل للبيت دا، بس دا بيت قديم صاحبه مسافر بقالُه أكتر من عشرين سنة..
-مالوش قرايب..أجابهُ شريف بالنفي:
-لا..طيب ياشريف شوف أقرب كاميرات للمكان، إن شاءالله تفتِّش في كلِّ البيوت، لازم أعرف مين اللي اتجرَّأ ووصل لمراتي..
-طيب ياإلياس متنساش إننا بنتحرَّك من غير القانون، يعني ممكن ..قاطعهُ بنبرةٍ جافة:
-إحنا القانون ياشريف نسيت ولَّا إيه..
-متهزرشِ ياإلياس الموضوع مش سهل..
نفثَ سيجارتهِ ينظرُ للخارج:
-وأنا مابهزرشِ ياحضرةِ الظابط، أنا هعمل قانون لإلياس السيوفي وملخَّصه اللي يقرَّب منِّي هدفنه حي، تخيَّل بقى اللي يخطف مراتي دا أعمل فيه إيه..
-تفتكر الجماعة الإرهابية اللي كانت بتكتب عنُّهم؟..
-مفيش غيرهم، المهم إنتَ حاول تعرف توصل لحاجة، أنا قدَّامي أسبوع لحدِّ ماأرجع..
-آه نسيت أقولَّك راكان البنداري بعتلَك وعايزك في مكتبه..
قطبَ جبينهِ بتساؤل:
-مين راكان البنداري دا؟!
-وكيل نيابة مصر الجديدة..
-ودا عايز إيه منِّي، تمام وقت ماأنزل يبقى أعدي أشوفُه عايز إيه..
-أكيد بتهزَّر بقولَّك وكيل نيابة يعني ممكن فيه قضية وعايزك فيها..
إيه يعني وكيل نيابة هو أنا متَّهم علشان أروح لعندُه وقت مايبعت، قولت لمَّا أنزل.. أنا برَّة القاهرة ومش هسيب مراتي تعبانة علشان حضرتُه بعتلي، ياله سلام..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينفثُ سيجارتهِ بغضب، إلى أن تذكَّرَ شيئًا فاتَّجهَ يهاتفه..
بمنزلِ أرسلان:
تململَ بنومهِ على رنينِ هاتفه، جذبهُ ومازالَ مابينَ النومِ واليقظة، رفعهُ على أذنه:
-أيوة...على الجانبِ الآخرِ ابتسمَ على صوتهِ النائم:
-كمِّل نومك ولمَّا تصحى هكلِّمَك.
-تمام ..قالها وأغلقَ الهاتف، لينيرَ وجههِ بابتسامةٍ وهو يتذكَّرُ أوَّلَ لقاءاتهما..
بحث عن زوجته، نهض يبحث عنها وجدها تجلس بأرضية المرحاض تقوم بإخراج مافي جوفها..ذهل من حالتها فتحرك سريعًا يرفعها من فوق الأرضية
-غرام مالك حبيبتي
استندت تشير إلى الفراش
-نومني ياارسلان مش قادرة اقف..حملها واتجه بها إلى الفراش يدثرها ثم انحنى يطبع قبلة فوق جبينها
-هعملك حاجة سخنة
عند إلياس
مرَّت بعضَ الدقائقَ ومازالَ بالشرفةِ رغمَ برودةِ الطقس، ولكنَّ شرودهِ بالتفكير لم يشعرْهُ بشيئٍ سوى على صرخاتها باسمهِ بالداخل..استدارَ سريعًا:
-اشش اهدي أنا هنا خلاص ..احتضنتهُ تبكي بصوتٍ مرتفعٍ كلَّما تذكَّرت ماصارَ لها..ظلَّ يقرأُ إليها بعضَ آياتٍ من الذكرِ الحكيم حتى غفت مرَّةً أخرى ليتسطَّحَ بجوارها ويجذبها لأحضانهِ ذاهبًا بنومهِ.
بمنزلِ آدم ..قبلَ أيام:
دلفَ للداخلِ بعدما حدثَ بينهما الاقتراب، دفعَ البابَ يبحثُ عنها، دارَ كالمجنونِ بعدما وجدَ خزانتها مفتوحة ..دارت بهِ الأرضُ يهزُّ رأسهِ غير مصدِّقٍ ماصار، لم يستطع كبحَ هياجِ غضبهِ ليهرولَ للأسفلِ يصيحُ باسمِ مريم:
-مريم فين إيلين، بدَّور عليها مش فوق..
خرجَ زين من مكتبه:
-مالك ياآدم فيه إيه يابني..رفعَ عينيهِ يطالعهُ بحزن:
-إيلين مش فوق يابابا..
إيه..قالها زين بقلبٍ منتفض، ثمَّ اقتربَ منهُ وعينيهِ تخترقهُ بتساؤل:
-إيه اللي حصل..اتَّجهَ إلى سيارتهِ دون حديثٍ وهو يأكلُ الأرضَ بخطاويه..وصلَ إلى بابِ السيارةِ ورفعَ هاتفه:
-ألو أيوة بقولِّك وصَّليني بالظابط اللي ماسك قضية يزن بسرعة يارحيل..
-فيه إيه؟!
-رحيل بسرعة قبلِ ماتخرج من القاهرة لو سمحتي ..
-مش لمَّا أفهم إنتَ عايزه ليه، وبعدين دا مش ظابط، دا وكيل نيابة ومعرفة خالك مش أنا..
تمام ..قالها وأغلقَ الهاتفَ وهو يحاولُ الاتصالَ بها ولكن لا يوجد رد ..وصلَ إلى قسمِ الشرطة، ولكنَّهُ توقَّفَ متراجعًا يهمسُ لنفسه:
-هروح أقولُّهم إيه..استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة يابابا فيه أخبار ..ارجع ياآدم بلاش بلاغ يابني هي اللي مشيت
تنفَّسَ بعمقٍ وتحرَّكَ واستدارَ مغادرًا المكان.
عندَ إيلين:
ناولتها رؤى كوبَ مياهٍ ثمَّ جلست بجوارها:
-كويسة..أومأت لها تزيلُ عبراتها، ثمَّ رفعت عينيها إليها:
-قولتي إيه يارؤى مكنشِ قدامي حد ألجأله غيرك..
ربتت على كتفها:
-حبيبتي متقوليش كدا، الصراحة مقدرشِ أكلِّم إلياس في الوقت دا، وزي ماإنتِ شايفة عامل حصار عليا ومنعني من الخروج، خليكي معايا يومين لحدِّ مالدنيا تروق بينا وأفهِّمه، إنَّما أتصل بيه دلوقتي دا لو طالني هيموِّتني..
ابتسمت إيلين عليها رغمَ حزنها:
-اعذريه مراته برضو وأنا حاولت أفهِّمك إن سيف دا بتاع مصلحته..
-أعمل إيه في قلبي بس ..مكنتش أعرف هيكون بالقذارة دي..
ربتت على كفِّها ثمَّ أردفت:
-متزعليش، بس واللهِ فرحانة فيه من اللي عمله فيه إلياس يستاهل.
ابتسمت رؤى بحزنٍ قائلة:
-ماأنا انضرِّيت كمان..
-مفيش ضرر ولا حاجة، إنتِ مش قولتي سحب ورقك من الجامعة، يعني لمَّا تروحي جامعة تانية محدِّش هيعرف ..أومأت لها تشيرُ على قلبها:
-ودا أعمل فيه إيه..تذكَّرت إيلين آدم فابتعدت بنظراتها تهمسُ بخفوت:
-دا عايز ينضرب للأسف، قلوبنا الخائنة حبِّت أشخاص غلط..
استمعت إلى رنينِ هاتفها فالتقطته:
-دا إلياس ..أجابتهُ سريعًا:
-مين عندك، وإزاي تدخَّلي حد من غير إذني ..توقَّفت مبتعدةً عن إيلين تهمسُ حتى لا تستمعَ إليها:
-دي صحبتي إيلين في كلية طب أكيد ناسيها ..
-عارف إنَّها صاحبتك، عارفة لو الواد الحقير دا هوَّ اللي بعتها هولَّع فيكي من غير مايغمضلي جفن..
-خلاص بقى يالياس ، قولتلك دي صحبتي مش تبع سيف متخافشِ هيَّ زيك مابتحبوش..
-بتعمل عندك إيه وكليَّاتكم مختلفة؟..
-بعدين لمَّا أشوفك هقولَّك، إنتَ هتيجي إمتى؟..
حاوطَ جسدَ ميرال وتحرَّكَ للخارجِ ثمَّ أجابها:
-يومين كدا أنا برَّة القاهرة، البنت دي داخلة بشنطة هتقعد معاكي ولَّا إيه؟..
-يعني حاجة زي كدا..المهم فيه حاجة مهمَّة كان لازم تعرفها..
-بعدين..خلِّي بالك من نفسك..قالها وأغلقَ الهاتف..
توقَّفت تطالعهُ بألمٍ انبثقَ من عينيها:
-تأكدي كلِّ علاقتي بيها ماهيَّ إلّّا العطف، دي بنت في عالم مليان ذئاب بشرية، مقدرشِ أسيبها غير لمَّا أطَّمن عليها.. وإنتِ عارفة العلاقة بينا من زمان، من أوَّل ماجبتها على البيت..
-بس كنت هتتجوِّزها ياإلياس.
حاوطَ جسدها بين ذراعيه:
-لازم تشكريها على فكرة ..
لا والله أشكرها على وجع قلبي، ولَّا على إيه..
ضمَّها لأحضانهِ يحرِّكُ كفِّه بحنانٍ على ظهرها:
-لا، علشان من وقتها وأنا مجنون بيكي وبقيت خايف أخسرك ..عرفتني قدِّ إيه تعنيلي، وقدِّ إيه حياتي مالهاش لازمة من غيرك..
خرجت من أحضانهِ تنظرُ إليهِ بابتسامة:
-إن كدا لازم أشكرها تصدَّق..
رفعَ حاجبهِ متمتمًا:
-دي تريقة ولَّا إيه..هزَّت رأسها بالنفي:
-أبدًا مش تريقة، فعلًا حسيتك اتغيَّرت من يوميها..
وصلَ إلى الشاطئِ وجلسَ وأجلسها بأحضانهِ ينظرُ للبحر:
-ميرو عايزك تحكيلي كلِّ حاجة حصلت معاكي من وقتِ ماخرجتي من بيت رؤى كلِّ تفصيلة، مين اللي كلِّمك وقالولك إيه، وفيه حد اتكلِّم قدَّامك بحاجة..
رفعت رأسها للخلفِ تطالعهُ من فوقِ عينيها:
-مين الناس دي ياإلياس، وكانوا عايزين منِّي إيه؟..
اتقدَّ الغضبِ كالنيرانِ المشتعلة وعينيهِ التي أصبحت ثورة من الانتقام، حتى لم يشعر بنفسهِ وهو يضغطُ على خصرها بقوَّةٍ آلمتها..أطبقت على جفنيها تحاولُ كتمَ آهاتها الصارخة ..لحظات وهي تضغطُ على شفتيها وتطبقُ جفنيها، إلّّا أنَّها لم تعد تحتمل ضغطهِ لتنتفضَ من بينِ أحضانهِ بعيونٍ باكية، نكسَ رأسهِ بأسفِ وحاولَ الضغطَ على غضبهِ الذي أخرجهُ عن سيطرته،فهتفَ بصوتٍ مهتزٍّ كالخطوطِ المتعرجة:
-آسف ..قالها ونهضَ ينفضُ ثيابهِ متحرِّكًا للداخل، تنهيدةٌ عميقةٌ تنظرُ بشرودٍ على آلامها التي مازالت تنزف، تعلمُ أنَّهُ قاسٍ بردودِ أفعالهِ ولكنَّها تعشقهُ بكلِّ حالاته، حاولت تغييرهِ بحالاتهِ المتقلِّبة، ولكنَّها عجزت ..لمست شفتيها التي مازالت آثارُ هجومهِ عليها منذُ الأمسِ وتذكّّرت حديثه:
-حضني هيئذيكي، علشان كدا كنت ببعد ..زفرةٌ حارقةٌ على نبضها المتقطِّع من مجرَّدِ تفكيرها بالبعدِ عنه..نهضت متَّجهةً إليه، دلفت تبحثُ عنه وجدتهُ يقومُ بعملِ قهوته، تحرَّكت تقفُ خلفه:
-دا رابع فنجان قهوة من غير أكل ..
التفتَ إليها للحظاتٍ ثمَّ عادَ يكملُ ما يفعله:
-بلاش أسئلة غبية ياميرال، دا تقوليه لوحدة مش متربية معايا، حاولت جذب فنجانهِ ولكنَّها لم تقو، رفعهُ لفمهِ يرتشفُ منهُ ثمَّ أشارَ إليها:
-اقعدي كلي علشان الدوا، وأنا هخرج أعمل كام تليفون..
احتضنتهُ من الخلفِ تضعُ رأسها على ظهره:
-إحنا لازم نتكلِّم، مش هتروح في حتة، من وقت ماجبتني هنا وإنتَ بتهرب منِّي ..استدارَ إليها يطالعها بعيونٍ متسائلة:
جذبت فنجانَ قهوتهِ ووضعتهُ على الطاولةِ ثمَّ سحبت كفِّه وتحرَّكت بهِ للخارج:
-مش عايز تقولِّي حاجة ياإلياس، ليه مش عايز تقولِّي مين اللي خطفني، وعايزين إيه؟..
رفعَ ذقنها يسبحُ بعينيها:
-عارف إنِّك بتحبيني، ومقدرشِ أمنعك عن حلمك وحياتك، بس أنا مش مرتاح لشغلك دا، ياأما تغيَّري القسم، اكتبي في حاجة تانية بلاش السياسة..
حاوطت عنقهِ ترفعُ نفسها ثمَّ طبعت قبلةً سريعةً على خاصته:
-خايف عليَّا ولَّا خايف على اسمِ إلياس السيوفي؟..
-إنتِ شايفة الاتنين يفرقوا ياميرال..هوَّ إيه ميرال و إيه إلياس إنتِ مراتي يعني شايلة اسمي..
تراجعت للخلفِ تهزُّ رأسها:
-أيوة صح الاتنين زي بعض..رفعت رأسها وغرزت عيناها بمقلتيه:
-بدل الاتنين زي بعض يبقى لازم لميرال كيان زي إلياس مش كدا ولَّا إيه، ينفع أقولَّك سيب شغلك علشان خايفة يعملوا فيك حاجة، مش دول اللي كنت بتحقَّق معاهم وحوَّلتهم السجن العادي علشان تعرف تخطَّط حلو، الواد كان مذنب أو بمعنى أصح دخل لعبة غصب عنُّه ومن قلِّة خبرتُه اتمسك، تقوم تعمل إيه علشان توقَّعهم تنقلُه سجن عادي فيحصل زيارات وتعرف توصل هوَّ وراه مين، رغم إنَّك برَّأته من تهم السياسة بس تفكيرك في حاجة تانية..
نظراتٌ مذهولةٌ لما ألقتهُ عليه، كيف علمت بما يخطِّطُ له ..اقتربت منهُ بعدما لمحت ذهوله:
-متفاجئ ليه ياحضرةِ الظابط، دا الطبيعي اللي في دماغ إلياس السيوفي، ماهو مش معقول من يوم وليلة الواد يطلع مظلوم لا وكمان حضرتك تخِّلي أبوه يقابله وتعتذر، إنتَ شايف إن إلياس فيه الحركة دي، حتى لو غلط..
جذبها من خصرها وأفلتَ ضحكةً عاليةً رغمَ ما مرَّ به إلا أنها أخرجته ببراعتها
-لا ذكية ياميرال هانم
-أكيد مش مرات حضرتك لازم اكون ذكية، انا متجوزة اي حد
مرَّرَ أناملهِ على وجهها ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً بجانبِ ثغرها:
-لا اتجنني ولازم أخدك تحت فريقي ..طالعتهُ برفعِ حاجبٍ تشيرُ إلى نفسها بتكبُّر:
-تحت فريقك، أنا فريقك كلُّه ياحبيبي، يعني كلِّ إلياس السيوفي ليَّا لوحدي ماهو مش هتحمِّل أحضانه المؤذية ببلاش..
دفنَ رأسهِ بعنقها وبانفاسهِ الحارَّة همس:
-كلِّي ملكك ياحياة إلياس كلَّها ..لفَّت ذراعها حولَ خصرهِ وشعرت بالسعادةِ من مجردِ كلماتٍ تهمسُ له:
-جعانة وعايزة آكل سمك وأسهر معاك..
رفعَ رأسهِ محتضنًا وجهها:
-أنا هنا علشان إنتِ تكوني سعيدة وبس، كلِّ اللي نفسك فيه أطلبيه وهتلاقيه متنفِّذ.
-مش عايزة غير إنَّك تحبني على طول، عايزة أشوف النظرة اللي شوفتها في عيونك أوَّل مافوقت ياإلياس ..حسيت وقتها إنِّي أهم مخلوق عندك..
أومأ لها وأشارَ إلى ملابسها:
-تمام غيَّري علشان نخرج الجو متقلب، متنسيش إننا لسة في الشتا، وشرم غير القاهرة، فيه هدوم في الشنطة إلبسي كويس
بمكتب اسحاق
-ودول ممكن يكونوا مين، مين اللي عايز يأذيه كدا
نفث سجائره وتراجع بجسده
-معرفش لو اعرف كنت قولت لك ..استمع الى رنين هاتفه
-أيوة ياملوكة ...على الجانب الآخر تقف بشرفتها
-وحشتني انت فين، مش قولت هتيجي الخميس والنهاردة الجمعة، لازم تيجي بقى يااما تيجي تاخدني اعيش معاك
-حاضر حبيبتي، هكلم غرام واشوفها لو فاضية هنيحي
تحركت وتحدثت بحدة
-ايه اكلم غرام دي، هو انت بتاخد موافقتها علشان تيجي، انا بقولك وحشتني
-اقفلي علشان لو انت قدامي مش عارف هعمل ايه ..قالها واغلق الهاتف
رفع اسحاق رأسه متسائلًا:
-مالها دي كمان ..توقف يجمع اشيائه
-قولت لك مليون مرة ياعمو ملك مش عجباني حياتها، نٓانٓا مدلعها بطريقة اوفر، بس على مين والله لاجبها واظبطها
هب من مكانه يشير إليه
-ماترحش عند جدتك سمعتني..توقف مستديرا
-ليه، ايه اللي مخبيه يااسحاق ..اقترب منه وحاوط ذراعيه
-اللي مخبيه اني بحبك اكتر من اي حاجة في الدنيا
-كذاب يابن احلام، شوية وهتقولي هات حضن، روح لمراتك يااخويا مش ناقص تلزيق رجالة فاضية ..قالها وتحرك مغادرا..نظر إلى مغادرته بذهول
-يخربيتك، الواد قال ايه ..قالها ثم أطلق ضحكاته، متجهًا إلى هاتفه ليحادث زوجته
عند راجح بمكتبه وضع الرجل بعض الصور
-دي البنت اللي طلبنا منها أنها توقعه، بس البنت رفضت، وهددتنا تقوله، لولا هددنا أننا هنقتله، شكله معجب بيها بس بيداري، كانت في ملجأ وهربت وهي عندها خمس سنين وهو اتولاها، اخدها عند والدته لحد ماتمت 18 سنة ودخلت الجامعة، جبلها بيت وخدم، كانت بتحب معيد في الجامعة بس المعيد مرتبط وشكلها مزقوقة بحبه، ضحك عليها بورقة عرفي بس إلياس عرف ومسكتش وراح للمعيد وخلاه يكتب عليها غصب عنه وبعدها طلقها، المشكلة أنه ماسكتش ونزل صوره معاه وأثبت للجامعة أنها بتجري وراه كتحدي لالياس، بس إلياس عزله من وظيفته بفضيحة بوضع مخل
-ايه الواد القادر دا، دا ابن فريدة مستحيل ..تابع حديثه
-وصل لصاحب البيت اللي كنا خاطفين فيه مراته واشتراه وولع فيه ياباشا
-نعم يااخويا .قالها مزمجرا ودفع المقعد..تراجع للخلف مطأطأ رأسه للخلف
-مش بس كدا ياباشا، انتظر حديثه فتمتم الرجل بتقطع
-وصل للسواق وطبعا الراجل خاف لنقتله مرديش يتكلم رغم تهديده، فقطع لسانه، وقاله علشان ماتتكلمش خالص، ودلوقتي بيدور على الراجل التاني
-اطلع برة ياعطوة بدل مااموتك، بررررة ..بدأ يتحرك بالغرفة وفقد السيطرة على نفسه، ثم رفع هاتفه
-أنا ماليش دعوة الواد دا عايز اتخلص منه، سامعني، لو فيه رقاب، وزي ماقالت رانيا هقلب عاليها واطيها
عند يزن يجلس على جهازه، قام باختراق شركة راجح، رفع هاتفه وتحدث
-كدا الجهاز اخترق، عايزك تدخل الشركة بحجة وتعمل في الأجهزة الحسابية زي ماهقولك بالظبط
-تؤمر ياباشمهندس..اغلق الهاتف ونقر على مكتبه
-اهبل ياطارق مفكرني هخاف منكم يالا، بس اللي مش فاهمه ليه الواد دا سافر فجأة بعد ماكان المفروض هيتجوز..دلفت ايمان تعقد ذراعيها
-مها برة وعايزة تشوفك
-تشوفني انا ليه؟!
-معرفش!!..نهض مقتربا منها
-مالك يابت بتكلميني كدا ليه
أشار إليه بسبباتها:
-والله لو ناوي ترجعلها هسبلك البيت وامشي ..امسك سبابتها وغمز إليها
-طيب بلاش الصلاه دا ممكن تهددي بالصباع التاني ..افلتت ضحكة تلكمه بصدره
ابتسم يحاوط جسدها وتحرك بها للخارج
عند إلياس
بعدَ فترةٍ كانا يجلسان بالمطعمِ يتناولانِ الطعام ..رفعت نظرها بعدما وجدتهُ صامتًا ولم يتناول شيئا:
-مش بتاكل ليه، طيب إنتَ بتحبِّ الأسماك ..تراجعَ بظهرهِ يهزُّ رأسه:
-شبعان كلي إنتِ..تركت الشوكةَ والسكينَ وتناولت محرمةَ الطعامِ قائلة:
-وأنا شبعت خلاص..نظرَ للطعامِ ثمَّ رفعَ عينهِ إليها:
-بس مأكلتيش حاجة ..ابتعدت بنظرها متمتمة:
-شبعت ..اقتربَ يجذبُ السكينَ وبدأ يقطعُ لها الأسماك ويضعها أمامها:
-طيب ياله كلي، وهاكل معاكي أهو، اتَّجهت إليه:
-يعني طفل علشان أتحايل عليك علشان تاكل ياإلياس، بقالك يومين ماأكلتش حاجة، هتفضل كدا..
بدأ يتناولُ الطعامَ بهدوءٍ محاولًا ألَّا يتعصَّبَ عليها، أشارَ بعينيهِ إلى طعامها:
-طيِّب كلي علشان عاملِّك مفاجأة..
ابتسمت كالطفلةِ متسائلة:
-إيه هيَّ حبيبي..توقَّفَ عن الطعامِ بعدَ نطقها بتلكَ الكلمة التي تجعلُ قلبهِ معذوفةٌ موسيقية..أشارَ للطعامِ ولمعت عيناهُ بالسعادة:
-طيِّب كلي، هيَّ تبقى مفاجأة إزاي؟!
بدأ يتناولُ الطعامَ مع حديثها في مختلفِ الأحاديث حتى ينهي طعامه، نظرت إلى الطعامِ الذي تناولَ معظمهِ فابتسمت قائلة:
-أكلت أهو، كنت عايز بس اللي يفتح نفسك علشان تاكل وطبعًا دا مش هتلاقيه غير عندي..
بسطَ كفَّيهِ يحتضنُ أناملها ثمَّ توقَّفَ يسحبها إلى ساحةِ الرقص، تلفَّتت حولها:
-إنتَ حاجز المطعم كلُّه..لفَّ ذراعيهِ يحاوطُ خصرها ثمَّ أومأ برأسه:
-مش قولتي عايزة تكوني أهمِّ واحدة عندي ..ارتعشَ فؤادها بدقَّاتهِ تومئُ برأسها ولمعت عينيها بنجومها:
-بس مش قصدي دا، طالعها بعيونٍ ساحرةٍ كغيماتِ المطرِ التي حجبت الضوءَ يتراقصُ على أنغامِ الموسيقى..
-فاهم قصدك كويس، وبحاول أترجمه بكلِّ الطرق اللي بتحبِّيها، مكان على البحر وإنتِ في حضنِ حبيبك، وموسيقى بتحبيها وشموع حواليكي..
انحنى بصوتهِ الأجشِّ يهمسُ لها:
-مفيش أغلى منِّك صدَّقيني، وتأكدي حبِّي مش بيترجم بالكلمات، مفيش في قاموس الحب اللي يعبَّر عن اللي بحسه وإنتِ في حضني..
-إلياس قولِّي مش بحلم، ولا كابوس وحياتي..
اقتربَ بخاصتهِ من وجهها الذي يشعُّ بهاءً ونبضاتهِ التي تخترقُ داخلَ صدره..
"أنتِ نبضةُ عشقٍ امتلكت قلبي، حتى أصبحتي بكلِّ حرفٍ أكتبه وكلِّ نفسٍ أتنفسه، فبعدكِ الشوقُ يقتلني والحنينُ يمزِّقني وأشعرُ بوهجٍ يعتصرُ فؤادي، فلا تبتعدي عن محيَّاي"
تلاشت قدماها حتى أصبحت كالهلامِ ليرفعها ويدورُ بها وضحكاتها بالارتفاعِ وهي تعانقهُ وتهمسُ كلمةً من أربعةِ حروفٍ فقط ولكنَّها تزنُ بقلبهِ الآلاف ثقلَ الجبال:
"بحبَّك..بحبَّك"
مرَّ أسبوعينِ حتى نجحَ في إخراجها مما مرَّت به، وتناست ماشقَّ صدره..
وصلَ إلى القاهرةِ ودلفَ بسيارتهِ بصحبةِ إسلام إلى ساحةِ الفيلا، كانت فريدة تنتظرُهما بلهفة، هرولت إليها تضمُّها بحنانٍ أمومي:
-عاملة إيه ياروح ماما؟..
-كويسة حبيبتي، استدارت إليه:
-مش هتدخل..لوَّحَ بيديه:
-عندي شغل، ادخلي ارتاحي من السفر، وكلِّميني لمَّا تفوقي..
أومأت فتحرَّكَ مغادرًا، كانت فريدة عيناها خلفهِ تنظرُ إليهِ بحزنٍ على شعورها بالندمِ من حديثها القاسي معه..
وصلَ بعد قليلٍ إلى مكتبه، تحرَّكَ فريقهِ خلفهِ متَّجهينَ إلى غرفةِ الاجتماعات بناءً على طلبه:
-إيه أخر الأخبار..فتحَ جهازهِ وأشارَ لأحدهم بالحديث:
-بعد الولدِ مااتقتل مالهمشِ صوت، وكمان عملنا كذا حملة على الأماكنِ المشبوهة..
-أبو الولد إيه أخباره؟..
تحدَّثَ شريف:
-مش عارف ياإلياس، بس تصدَّق بعد موت ابنه بأسبوع سافر مع مراته لبنان..
-سافر..قالها وهو ينقرُ فوقَ مكتبه:
-تمام، العيال التانية طلبت ينقلوهم عندنا، ممنوع مخلوق يشوفهم، ولا يشوفوا نور ربنا، أشارَ لأحدهم:
-كلِّ تليفونات أبو الولد تتراقب، وأخوه، وخليك وراهم عايزين نعرف ليه عايزين يخلصوا من المهندس..
وإنتَ، شركةِ العامري يكون فيها عين لينا هناك، لازم أعرف الناس دي بتخطَّط لإيه..
-معقول تكون شاكك في العمري ..نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ إلى ثلاجته:
-مش العمري بالظبط، الناس اللي دخَّلهم راجح حاسس أنُّهم واجهة مش أكتر، وخصوصًا بعد مابنته استلمت الشركة، البنت معندهاش خبرة، عايزين نعرف بيخطَّطوا لإيه، مش يمكن تمويل إرهابي..
مطَّ شفتيهِ يهزُّ أكتافه:
-ممكن كلِّ شيئ جائز ..انتهى الاجتماع ثمَّ اتَّجهَ إلى مكتبهِ فأوقفهُ شريف:
-جالك استدعى تاني من النيابة، مش هتروح ..نظرَ بساعةِ يدهِ يومئُ له:
-هعمل كام حاجة وأعدي عليهم، بس مش غريبة عايزيني في إيه؟!..
-ممكن علشان خطف مدام ميرال..
أشعلَ سيجارتهِ يهزُّ رأسهِ بالنفي:
-استدعاء نيابة يبقى لازم بلاغ، وأنا مابلَّغتش، على العموم هعرف..
بعدَ فترةٍ اتَّجهَ إلى مكتبِ راكان، توقَّفَ أمامَ مكتبهِ يتحدَّثُ مع مسؤوله:
-عندي ميعاد مع سيادةِ المستشار.
دلفًَ العسكري وخرجَ بعدَ لحظاتٍ يأذنُ لهُ بالدخول، دلفَ ملقيًا التحيةَ ثمَّ اقتربَ من مكتبه:
-أهلًا بحضرتك..أومأ راكان مشيرًا إليهِ بالجلوسِ ثمَّ أردف:
-راكان البنداري..ابتسمَ إلياس وأجابه:
-عارف حضرتك مش محتاج تعرَّف عن نفسك..
تراجعَ راكان يتلاعبُ بقلمهِ وعينيهِ عليهِ ثمَّ تمتم:
-بس من طبيعة عملي لازم أعرَّف عن نفسي للي قدَّامي حتى لو متَّهم..
شعرَ إلياس بغرورِ حديثه، وكأنَّهُ يلقيهِ بحديثٍ ذاتَ مغذى:
-سامع حضرتك، عرفت إنِّ حضرتك طلبت تقابلني..
اقتربَ راكان يستندُ على مكتبه:
-حمدالله على سلامةِ المدام، مش المدام كانت مخطوفة ليومين بلياليهم ولَّا إيه..
دقيقة استغرقها ليستوعبَ معنى حديثه، حتى اشتعلَ داخلهِ بنيرانٍ حارقةٍ اتَّقدت كالبنزينِ الذي يزيدُ اشتعالًا، ورغمَ ذلك حدقهُ بنظرةٍ ثابتة، وحاولَ النطقَ بصعوبة:
-دا محصلش..
ثارت أعينُ راكان بلهيبِ الغضبِ والعجزِ معًا:
-يعني إيه، فيه بلاغ متقدِّم إن مرات حضرتك كانت مخطوفة ليومين..
كان جامدًا صلبًا كالجبلِ أمامه، ورغمَ ذلك رفعَ عينيهِ وأجابهُ بنبرةٍ ثابتة:
-وأنا جوزها وبقولَّك محصلش، وكنَّا بنتفسَّح، وحضرتك وكيل نيابة وتعرف أنا كنت فين بقالي أسبوعين..
دقَّقَ راكان النظرَ بعينيهِ الجامدةِ وصفعتهُ الذكرياتِ العاتيةِ ليتراجعَ بنبرةٍ لينة:
-عارف إن حياتنا بتكون على المحك، لو سمحت ساعدني علشان نجيب حق مراتك..
نهضَ من مكانهِ يغلقُ حلَّتهِ السوداءَ وأجابهُ بحزم:
-شايف إن حضرتك بضيَّع وقت..
هاجت جيوشُ غضبِه الذي تجلَّى بعينيه، فألقاهُ بنبرةٍ ساخطة:
-إنتَ هنا مش ظابط، إنتَ هنا جوز المجني عليها..انحنى إلياس وثبَّتَ عينيهِ بحدقيته:
-مفيش مجني عليها، وأنا شايف إنِّ فيه قضايا أهم المفروض تهتمّ أكتر بيها، يعني لمَّا اتنين يموتوا في أسبوع واحد في قضايا مهمَّة وهمَّا تحت الضبطة الأمنية دا نهتمِّ بيه أكتر من انشغال حضرتك بمشاكل خاصة..
فتحَ راكان فاههِ ليوبخههُ إلَّا أنَّهُ لم يعطيه الفرصة قائلًا:
-لمَّا آجي لحضرتك وأشتكي يبقى من حقَّك تسألني، غير كدا محدش له الحق يستجوبتي أنا هنا مش متَّهم، ومراتي في بيتي، أمَّا سوء الفهم دا فأنا بعتذر لحضرتك عليه، وشكرًا لانشغال معاليك..
-بعد إذنك ...قالها واستدارَ للخروجِ بدخولِ جاسر الذي أومأ لإلياس ثمَّ
رفعَ نظرهِ إلى راكان ينظرُ إليه متسائلًا بعدما وجدهُ عيناهُ تلاحقُ إلياس الذي توقَّفَ على بابِ مكتبه:
-عندي حفلة بكرة هكون سعيد لو حضرتك نوَّرتنا، بس أهمِّ حاجة عندي حاليًا تعرف سبب الاتنين اللي ماتوا في قضايا تمسِّ أمنِ البلد وآسف لحضرتك مرَّة تانية ..قالها وغادرَ مغلقًا البابَ خلفه..
زفرةٌ حادةٌ خرجت من جوفه:
-مالك فيه إيه وماله ابنِ السيوفي، مش دا ابنِ السيوفي، شوفته مرَّة مع والده..
مسحَ على وجههِ بغضب:
-الواد دا لازم تراقبُه أربعة وعشرين ساعة، شكلُه مش ناوي على خير، مراته تتخطف، ياخدها فسحة وبعد كدا جاي يعمل حفلة، شكله مش مريَّحني غير أنُّه متهوِّر زيك..
-نعم ياأخويا، هو علشان ابنِ السيوفي حرق دمَّك تاخدني في طريقه، أنا مالي ومالكم إنتَ ودانك بطلَّع نار منُّه.
أنا مالي أنا..جزَّ على شفتيهِ ينظرُ إليهِ بغضب:
-الواد دا واخد في نفسه مقلب..
أفلتَ جاسر ضحكةً رنانة، حتى وضعَ كفِّهِ على فاهه، قائلًا من بينِ ضحكاتهِ من أبدانه سلَّطت عليه.
-يعني إيه ياستِّ أمِّ عزة..
توسَّعت عيناهُ يشيرُ إلى نفسه:
-أنا الستِّ أمِّ عزة، وإنتِ إيه تيتا أمِّ عزة ..توقَّفَ من مكانهِ يجمعُ أشيائهِ يتمتمُ بغضب:
-لا وبيعزمني ابنِ السيوفي على حفلة، واللهِ نفسي أروح أدفنه في حفلته دي..
أطلقَ جاسر ضحكاتٍ مرتفعةٍ يصفعُ كفَّيهِ ببعضهما:
-لا دا شكله مضايقك أوي ياكبير..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ على طاولةِ العشاءِ بفيلا السيوفي:
-مين اللي عمل بلاغ بخطفِ ميرال؟..
ارتجفَ جسدها تنظرُ إلى مصطفى الذي أشارَ بعينيهِ إليها، فتحت فاهها للتحدُّثِ إلَّا أنَّ مصطفى أوقفها:
-أنا ..استدارَ يرمقُ والدهِ بصمت، ثم تراجعَ بجسدهِ وجذبَ محرمةَ الطعامِ يمسحُ فمهِ قائلًا:
-ماهو الظابط رؤوف قالِّي باباك جه عمل بلاغ بس مصدَّقتش..
زاغت أبصارُ مصطفى وعلمَ أنَّهُ يراوده، فأومأ بصمت..توقَّفَ إلياس بعدما ألقى محرمتهِ هاتفًا بنبرةٍ حادة:
-حياتي انا ومراتي مش مسموح لحد يدخَّل فيها، أنا عارف إنَّها بنتك وحضرتك خايفة عليها بس أكيد مش قدي، ياريت تفكري كويس قبل ماتعملي حاجة ..ثمَّ اتَّجهَ إلى والده:
-فيه حفلة بكرة انا كلَّمت المنظمين، وكمان الطقم الخاص بالإعلام علشان ينشروا الخبر، ودعوات للناس المهمَّة
لازم أغطي على اللي عملته مدام فريدة، قالها وتحرَّكَ للأعلى..
تابعتهُ بعينيها فأشارت إليها:
-قومي ورا جوزك..نهضت من مكانها وصعدت خلفه..
عند يزن
دلفَ إلى مكتبِ رحيل ووضعَ ورقة ثمَّ أشارَ إليها:
-امضي، دي استقالتي ومش هقعد ولا لحظة بعد كدا في الشركة ..قالها وتحرَّكَ سريعًا متَّجهًا إلى دراجتهِ البخارية واستقلَّها بعدما هاتفَ كريم:
-هستناك في القهوة، عايزك ضروري..
وصلَ بعد قليلٍ جلسَ بمقابلته:
-خير قلقتني..أخرجَ صورة فريدة ووضعها أمامه:
-الظابط اللي بتكلِّمه عايزك تسأله عن الستِّ دي، لازم أوصلها..
بمنزلِ إسحاق كانت تغفو على الأريكة، استمعت إلى رنينِ الباب،تحرَّكت ببطءٍ بعدما رحلت الخادمة، فتحت الباب وإذ بها تتوقَّفُ متسمِّرة تهتفُ بهمس:
-مدام احلام ..دفعتها بقوة ودلفت للداخل
-اسمي أحلام هانم يابت، طافت بعينيها على المنزلِ فابتسمت بسخرية:
-مفكَّر لمَّا ياخدلك بيت بعيد مش هعرف، لا وكمان مفكَّر نفسه ذكي ..سقطَ بصرها على بطنها البارزة فتوسَّعت عيناها بغلٍّ متسائلة:
-إنتِ حامل من مين إسحاق !!
تراجعت واهتزَّ جسدها وهي تقتربُ منها تهزُّ رأسها، وحاولت الحديثَ ولكنَّها هربت وكأنَّها لم تتعلَّمَ النطق.
اقتربت منها تجذبها من خصلاتها:
-بقى أنا ياحيوانة بعتاكي تتجسِّسي عليه، مش تتجوِّزيه وتحملي منُّه، لا وكمان شريلك بيت، طيب واللهِ لأحسَّرك عليه، قالتها وهي تدفعها بقوةٍ حتى سقطت على ظهرها تصرخُ بذهولٍ وهي تحتضنُ أحشائها، جنَّت أحلام كلَّما تذكَّرت أنَّ ابنها سيُرزقُ بمولودٍ من تلكَ الشمطاءَ كما ادَّعت..
-دا إنتِ يابت مأجَّراكي تلعبي عليه، تقومي ترفعي عينك على سيدك..قالتها وهي تركلها ببطنها..
مساء اليومَ التالي:
دارَ حولَ نفسهِ كالمجنونِ وبدأ يحطُّمُ كلَّ ما يقابله..
-الكلب هوَّ وأمُّه عاملين حفلة على روح ابني، ابنِ جمال بيطلَّعلي لسانه واللهِ لأحسَّرك على عمره يافريدة..
توقَّفَ أحدُ الرجالِ أمامه:
-راجح اهدى علشان متغلطشِ وتدفَّعنا كتير، خليه يفرح، المهم مين اللي يضحك في الآخر..
استدارَ إليه:
-إنتَ عارف بتقول إيه، يعني إنتَ تسفَّر رانيا علشان متغلطشِ وجاي بتقولِّي أهدى، قتلوا ابني وخطفوا بنتي وأهدى
راجح اخرس، لازم تفكَّر دلوقتي إزاي ننفِّذ العملية، عمليتنا هيَّ الأهم مش ابنك بس اللي مات ودفع التمن..
بفيلَّا السيوفي دلفَ إلى غرفتهما وجدها تنهي زينتها أمامَ المرآة..اقتربَ يعانقها بعينيه، ثمَّ حاوطَ خصرها وانحنى يطبعُ قبلةً فوقَ رأسها:
-إيه الجمال دا، أمنعك من النزول..ابتسمت لهُ وطالعتهُ من خلالِ انعكاسِ صورتهما:
-ميرسي، أخيرًا شكرت فيَّا..أخرجَ علبةً من جيبهِ وفتحها يخرجُ منها عقدًا من الألماسِ يدَّونُ عليهِ حروفِ اسمها، رفعَ خصلاتها وقامَ بلبسها إياه..
-الهدية دي غالية عليَّا أوي أتمنَّى مش تخلعيها أبدًا، على فكرة مش غالية..
-يعني إيه غالية عليك ..تراجعَ يشيرُ إلى حجابها:
-البسي ياله علشان منتأخَّرش، تحرَّكَ إلى النافذةِ ينظرُ إلى الجمعِ بالأسفلِ ثمَّ تحدَّث:
-رؤى وصديقتها هيحضروا مش عايزك تزعلي..توقَّفت عمَّا تفعلُه وطالعتهُ بعتابٍ قائلة:
-البنت دي مبحبَّهاش..اقتربَ منها، ثمَّ احتضنَ وجهها:
-ميرال بلاش شغل الأطفال دا، أنا جوزك إنتِ وإنتِ مراتي، وبدل قولت بحبِّك عايزك تثقي في الكلمة اللي قولتها مش مجرَّد حروف وخلاص، دنى من ثغرها ولمسهُ بخاصتهِ هامسًا:
-وبعدين انا مش شايف غيرك، ولا في قلبي غيرك، مستحيل أفكَّر في حدِّ تاني.. يعني أسيب الجمال دا كلُّه وأروح أبص برَّة، طيب ماكنت اتجوِّزت من زمان يابايرة ..ضحكت متراجعة:
-طيِّب وسَّع ياحضرةِ الظابط علشان ننزل..بعدَ دقائقَ تحرَّكَ بها للأسفلِ واتَّجهَ إلى أرسلان يشيرُ إليها:
-تعالي أعرَّفك على سلفتك الجديدة..
سلفتي ..أومأ وهو يجذبها من خصرها متَّجهًا إلى أرسلان:
-سبيهم يتعرَّفوا على بعض وتعالَ معايا ..كانت فريدة تتابعهم بنظراتها.. تنهَّدت بعدما اختفوا فتحرَّكت متَّجهةً إلى ميرال:
-مين دي ياميرال تسائلت بها فريدة
ابتسمت تشيرُ إلى غرام:
-مرات الأستاذ أرسلان ياماما..دي ماما، وبتكون مرات عمُّو مصطفى أبو الياس..
-أهلًا بحضرتك ..توقَّفت فريدة تنظرُ إليها بتدقيق:
-مرات مين ..جمال..قالتها هامسةً لتسألها ميرال:
-ماما مش هتسلِّمي على غرام ..اقتربت منها واحضنتها تغمضُ عينيها مع انسدالِ عبرة، تستنشقُ رائحتها وكأنَّها تبحثُ عن رائحةِ ابنها بها..
بعدَ فترةٍ ليست بالقليلة..انتهى الحفل الذي غابَ به إلياس لمدَّةِ ساعتين مع اعتذارهِ بإصابةِ أرسلان لوعكةٍ صحيةٍ فاتَّجهَ للمشفى:
كانت تجلسُ أمامَ المرآةِ تتذكَّرُ اقترابهم وضحكاتهم مع بعضهما وكأنهما يعرفانِ بعضهما منذُ سنوات، فردت المرطبَ على كفَّيها ونظرت بشرودٍ مبتسمةٍ على اقترابِهما دونَ علمهما بهويِّتهما الحقيقة..استمعت إلى هاتفها، رفعتهُ تنظرُ إلى الاسمَ الذي لم يظهر فأجابت
-أيوة مين؟..
-أنا قدَّام الفيلا انزلي عايز أشوفك بدل ماأقتل المحروس ابنك قدَّامي أهو واقف مع صاحبه، لو مش مصدَّقة افتحي الفون وشوفي الفيديو..
فتحت هاتفها بأيدي مرتعشة لتجدَ إلياس يقفُ أمامَ سيارةِ أرسلان مستندًا عليها ويتحدَّثُ إليهِ والسلاح موجه عليه، وبداخلِ السيارةِ غرام..
-إياك تقرَّب منه ياراجح هموِّتك بإيدي..
-انزلي من غير كلام، وهاتي الفيديو معاكي ولو عليه مش يهمِّني يافريدة، ابني مات مقتول في السجن وابنك اللي قتله يعني أموِّته وما يرفليش جفن..
-جاية إياك تلمسُه..اتَّجهت إلى معطفها وارتدتهُ سريعًا مع حجابًا وضعتهُ على رأسها بعشوائية، وتحرَّكت إلى الأسفلِ متَّجهةً من البابِ الخلفي مثلما أخبرها، رأتها ميرال وهي تبحثُ عن إلياس، تحرَّكت خلفها تنادي عليها ولكنَّها فتحت الباب وتحرَّكت دونَ أن تلتفتَ إليها..
-ميرال..قالها مصطفى مقتربًا منها:
-رايحة فين ..ابتلعت ريقها قائلة:
-بدَّور على إلياس ..أشارَ إلى الحديقةِ قائلا:
-واقف برَّة..قالها وصعدَ إلى غرفته، تحرَّكت ميرال خلفَ فريدة تنادي عليها
وجدتها تقفُ أمامَ سيارةٍ سوداء، تحرَّكت إلى أن وصلت إليها:
-ماما..التفتت فريدة إليها منتفضة، تطالعها بصدمة:
-ميرال ارجعي على البيت جوزك زمانه بيسأل عليكي..
تؤتؤ..مش عيب يافريدة تبعدي البنت عنِّي، مش تعرَّفيها عليَّا..
ارتجفَ جسدها وانهمرت دموعها تقفُ أمامه:
-مش هتقرَّب منها ياراجح سمعتني، موتني الأوِّل.. بنتي محدش هياخدها منِّي..جذبها بقوةٍ يدفعها لتسقطَ على الأرضِ واقتربَ من ميرال التي صرخت باسمِ والدتها بعدما وجدتها ملقيةً على الأرض..
-ماما .
↚
لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
تعالي لنقتل القسوة بالحب..
والآلام بالقبلات..
..
تعالي لنلتقي..
في أحضان الحلم أو بين أمواج البحر
او على غيوم الخيال..
أو في لوحةٍ فنيه بعيداً عنهم حيث لا يكون سوىٰ انـا وانتي.. تعالي لتسكني كل تفاصيلي واقتحم كل خلاياكي
تعالي لاموت بكِ عشقاً و جنونا.. تعالي لنتلقي..
فأنتَ وَحدَكَ منْ أرضَاهُ لي وَطَنًا
و أنتَ وَحدَكَ دونَ النَّاسِ يكفينِي
و أنتَ وَحدَكَ في ليلي أُسَامِرُهُ
و أنتَ وَحدَك تجري في شَرَاييني
#الياس_السيوفي
دفعَ راجح فريدة بقوَّةٍ حتى هوت على الأرض، فصرخت ميرال باسمِ والدتها، قبلَ دقائق، كان متَّجهًا إلى غرفته، فقابلهُ مصطفى:
-بابا رايح فين..تحرَّكَ للخارجِ دون أن يجيبهُ فهو وجدَ هاتفَ فريدة وجد هاتفها ملقي وكأن احدهم هاتفها، تذكر مناداة ميرال عليها ونظراتها ، هرولَ كالمجنونِ للخارجَ يلاحقهُ إلياس بصراخِ ميرال باسمها..
جُنَّ حينما استمعَ إلى صرخاتها، فلم يشعر بنفسهِ وهو يهرولُ كالمجنونِ يدفعُ البابَ الخارجيَّ باقترابِ راجح الذي لم يكتشف وجههُ بالظلامِ يسحبها من يديها، دفعتهُ بقوَّةٍ مع وقوفِ فريدة مترنِّحة:
-ميراااال..صاحَ بها بصوتٍ كالرعد، ليتركها راجح ويتَّجهَ إلى السيارة قائلًا:
-بسرعة اتحرَّك..لتنطلقَ السيارةُ بسرعةٍ جنونية، وصلَ إليهم بأنفاسٍ لاهثةٍ مع وصولِ الحرسِ الذي يحاوطُ الفيلا، كانت تحتضنُ فريدة التي ارتعشَ جسدها بقوَّة، أردفَ بصوتٍ متقطِّعٍ بسببِ لهاثه:
-ميرال أنتو كويسين..تساءلَ بها بوصولِ مصطفى الذي يرمقُ فريدة بنظراتٍ عتابية، اتَّجهَ إليها يحاوطُ جسدها ثمَّ تحرَّكَ قائلًا:
-إزاي الكهربا تقطع في الجزء دا، أنتوا بقيتوا نايمين ولَّا إيه، الصبح مش عايز أشوف حدِّ فيكم سلِّموا أسلحتكم لرئيسكم..قالها وهو ينظرُ إلى الحرسِ ثمَّ سحبَ فريدة وتحرَّك..بينما الآخرُ توقَّفَ متخصِّرًا وعينيهِ مازالت على الطريقِ الذي غادرت منهُ السيارة..اقتربت تختبئُ بأحضانهِ وجسدها ينتفضُ بالارتعاشِ
حاوطها بذراعيهِ يربتُ على ظهرها:
-اهدي حبيبتي، بس قوليلي إيه اللي جابكم هنا؟..رفعت رأسها إليه:
-إلياس أنا مش قادرة أمشي، انحنى وحملها يضمُّها إلى صدرهِ وتحرَّكَ بها للداخل، صعدَ إلى جناحهم وعقلهِ يفكِّرُ فيما صار، وضعها بهدوءٍ على الفراشِ ثمَّ جلسَ بجوارها يضمُّها تحتَ حنانِ ذراعيه:
-قوليلي إيه اللي حصل وليه خرجتوا..قصَّت لهُ ماصار..
-طيِّب ومين دا، وليه كان عايزك..تذكَّرَ راجح فتوقَّفَ يهمسُ لنفسه:
-طيِّب لمَّا هو مش أبوها، جاي ياخدها ليه بالغصب، خلَّلَ أناملهِ بعصبيةٍ ثمَّ استدارَ إليها:
-نامي وارتاحي، وأنا هخرج مشوار وراجع..نهضت فزعة:
-رايح فين، لا مش هتسبني وتخرج..اقتربَ منها، وساعدها بالتمدد وجلسَ بجوارها:
-طب إهدي أنا كنت هشوف الكاميرات وراجع، حاوطت خصرهِ تضعُ رأسها بأحضانه:
-لا، بعدين خليك معايا..
همسَ بهدوءٍ حازمٍ بالرغمِ من تفاقمِ الغضبِ داخلهِ من تجرؤِ أحدهم من التسلِّلِ لمنزله، ظلَّ يمسِّدُ على خصلاتها وذهنهِ شاردٌ بما حدث..، حاول إخراجها من الخوف الذي تجلى بعينها، بدأ يحدثها عن ماصار في الحفلة إلى أن بدأت تشاركه الحديث، وتقص له عن غرام وغادة إلى أن توقفت عن الحديث متسائلة:
-إلياس ..اتَّجهَ ببصرهِ إليها منتظرًا حديثها، اعتدلت على الفراش:
-مين البنت اللي كانت مع رؤى في الحفلة؟..
قطبَ جبينهِ مستفسرًا عن سؤالها، جلست على ركبيتها أمامه:
-كان فيه فيه بنت لابسة فستان أزرق بحجاب أبيض، الحلوة دي مشفتهاش إزاي!..
ابتسمَ بخفَّةٍ عليها يهزُّ رأسهِ حتى أفلتَ ضحكةً رجوليةً يمسحُ على وجهه:
-مشفتش ست بتقول لجوزها شوفت الستِّ الحلوة..
التوت معدتها بقسوةٍ من حديثهِ الغير متوقَّع لتلكزهُ ناهرةً إياه:
-إيه اللي بتقوله دا، أنا بسأل عليها، أوَّل مرَّة أشوفها مع رؤى مقصدشِ إن عينك تبص عليها..
سحبها دونَ حديثٍ يعانقها عناقًا ساحقًا متملِّكًا على تلكَ العاشقةِ للروح؛ لتدفنَ وجهها بأحضانهِ تهمسُ بأنفاسها الناعمة:
-عارف لو لمحتك بتبصّ لواحدة هعمل إيه..رفعَ خصلاتها من فوقِ وجهها لتخرجَ رأسها من أحضانه، وتابعت حديثها:
-هموِّتك وأشرب من دمَّك، علشان مش أحبَّك الحبِّ دا كلُّه وفي الآخر عينك تزوغ برَّة..
كم كان حديثها ذو أثرٍ قويٍّ على نبضهِ العنيفِ بصدره، تمنَّى أن يزرعها داخلَ ضلوعهِ لتحيا بالقربِ من ذاكَ النبضِ الذي بدا يؤذيهِ من كثرةِ خفقاته، علَّ قربها يجعلهُ يسكن ..
انحنى إليها بعدما استسلمَ للهفةِ وصالِ قلبهِ المترنِّمَ بعشقها، فكم كان اعتناقَ أفئدتهم عشقٌ أضناهُ الشوقُ واللوعة، ليسطرهُ بما يحتويهِ من الهمساتِ والنبضاتِ الممزوجةِ بنظراتِ حديثِ العشاق..
بعدَ فترةٍ كانت تغطُّ بنومٍ عميق، وكيف لها لا تغفو كالطِّفلِ الذي حاوطتهُ والدتهِ بحنانها؛ لينامَ هنيئًا بعد رحلةِ عذابٍ من بكاءٍ لم يفصلها سوى الحنان والأمان،
من قالَ إنَّ الحبَّ كافٍ للحياة، بل الحبُّ يحتاجُ للاكتمالِ الروحي الذي يعانقهُ الأمان ويغلِّفهُ الحنان..
الحبُّ ليس كلماتٌ تنطق، أو أشعارٌ تكتب، الحبُّ أن تزيلَ مايعذبَّ فؤادي، أن تشعرني أننَّي ملكة متوَّجة وليست كلمة معبَّرة..
تسلَّلَ من جوارها بهدوء، يدثُّرها جيدًا، نظرةٌ خاطفةٌ على ملامحها الساكنة، وبركانُ أشواقهِ بها مازالت قابل للانفجار، ظلَّ لدقائقَ ونظراتهِ ترسمها، إلى أن تحرَّكَ بصعوبةٍ بعدما فقدَ سيطرته، بعدما تذكَّرَ ماحدثَ بينهما منذ فترةٍ وجيزة، فكانت كالمجلد الشامل لقصةِ عشقهِ الممزوجةِ بآلامهِ التي مازالت تنزفُ بداخله، حرَّكَ ساقيهِ بصعوبةٍ مبتعدًا عن الفراش ومازالت نظراتهِ عليها، قبضةٌ اعتصرتهُ مما جعلهُ يشعرُ بالنفورِ من ضعفهِ بعد سيطرتها الطاغية على شخصيته، ولكن صفعهُ قلبهِ يعنِّفه:
-هل تصدِّق ماتشعره، بعدما شعرتَ بالاكتمالِ بجوارها، ألم تكن تلك التي جعلتكَ تشعرُ بلذَّةِ الحياة، هيَّا اهدأ وعُد لرشدكَ إنَّها حبيبتك وملكةَ الفؤاد، فلقد وعدتها ووعدتني أنَّكَ لن تتنازلَ عنها حتى لو توقَّفت أمامكَ جيوشُ العالم..ابتسمَ على حوارِ قلبهِ ليستديرَ متَّجهًا إلى حمامه، لينعمَ بحمَّامٍ دافئٍ كي يُخرجَ هواجسَ حربهِ الشعواء..
بغرفةِ مصطفى:
جلست بجسدٍ منتفضٍ وهي تراهُ يدورُ حولِ نفسهِ كالأسدِ الحبيس، محاولًا الضغطَ على أعصابهِ حتى لا ينفثَ بها غضبه، نهضت من مكانها واتَّجهت إليه:
-خوفت يامصطفى، واللهِ خوفت يئذي إلياس، هدِّدني بيه..
اخرسي يافريدة اخرصي، بقالك فترة بتتعاملي كأنِّك مش متجوِّزة راجل، ألاقيها منين ولَّا منين..
توقَّفت بقلبٍ يئنُّ ألمًا وقهرًا، وتمتمت بصوتٍ خافت:
-ماهو إنتَ مش مكاني، مش حاسس بقلبي اللي مولَّع نار، أنا دلوقتي بعدِّ الدقيقة اللي أشوف فيها حدِّ فيهم، بقيت عاملة زي الطفلة اللي بتستنى أبوها يرجع من الشغل، حسيت في مرَّة بيَّا وأنا ابني جنبي وبيقولِّي ياطنط، ولَّا يامدام، عارف الكلمة دي بتعمل فيَّا إيه، ولمَّا واحد منهم يعرَّف عن نفسه بكنيته، أوعى تفكَّر سهل عليَّ أقول إلياس كدا ودا مش اسمه، ولَّا لمَّا اشوف جمال في أرسلان، الواد نسخة مصغَّرة من أبوه، كأن جمال اللي واقف قدَّامي يامصطفى، إنتَ مش حاسس بمعاناتي، كلِّ اللي بتحاول تعمله إنَّك تأجِّل وبس..
-اسكتي يافريدة، اسكتي إنتِ مفكَّرة الموضوع هيِّن، أنا بتمنَّى أموت ولا أوقف قدَّام إلياس وأقولُّه آسف ياحبيبي أنا مش أبوك، ولقيتك وربِّيتك، وسرقت حياتك ونسبتك ليَّا، زوَّرت يافريدة بدل المرَّة اتنين، فاكرة هيتقبَّل الفكرة، واحد بعد تلاتين سنة لاقى نفسه عايش كدبة وحياة كلَّها مبنية على الكدب، تهوُّر بس كل اللي بتعمليه إنِّك بتحطيه قدَّام المدفع.
رفعت رأسها تنظرُ لعينيهِ تهتفُ بخفوتٍ ونبرةٍ ضائعة:
-أنا عايزة أضيَّعهم، دا كلُّه علشان أخدهم في حضني، إنتَ أهمِّ حاجة عندك إنِّ إلياس ميشفكش مزور..
أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ وهدرَ بها بعنف:
-إنتِ مش حاسة إنِّك بتغرَّقينا معاكي، ابنك ظابط أمن دولة ياهانم، جريتي على راجح ورمتيلُه طُعم قبل ماتفكَّري في العواقب، رحتي رفعتي قضية باختفاءِ ميرال وخلِّيتي زمايله يبصِّوله باستعطاف، والمصيبة رايحة لأكبر عيلة في البلد.. اتجننتي وعايزة تروحي تهدِّدي وتقولي ابنك، غبية يافريدة غبية وبتتحرَّكي بتهوُّر، مفكَّرتيش في لحظة اللي مقدرشِ راجح عليه زمان ممكن يقدر عليه دلوقتي، دا كان عايز يقتله من فترة قبل مايعرف بحقيقته..
دارَ حولَ نفسهِ بالغرفةِ يمسحُ على وجههِ بعنفٍ مرَّة ويرجعُ خصلاتهِ للخلفِ يريدُ أن يقتلعها مرَّةً أخرى، أفلتَ سيطرتهُ الكامنة وتحوَّلَ لكتلةٍ من الغضبِ وهو يهدرُ بها:
-إلياس دا أوَّل فرحتي متفكَّريش أنُّه ابنك بس،عارفة لو حصلُّه حاجة أنا ممكن يحصلِّي إيه، دول مجرمين تبع منظَّمات وقرف، ومش عارفين نمسك عليهم حاجة، وأهو خطفوا البنت في عزِّ النهار ومقدرتش أوصلَّها، يعني كان ممكن تيجيلِك ميتة، دا قبل مايعرف..
أقعدي واتفرجي ياهانم، دا وصل لحدِّ بيتي..هوَّ مش موضوع أنُّه جاي يهدِّد بميرال، لا جاي يأكِّدلك أنُّه قدر يوصلِّك وإنتِ في بيتك وسط الحماية اللي مفكرَّها بتقويك..
ظلَّت صامتةٌ بوقوفها، جامدةٌ بجسدٍ على شفا الانهيارِ بالدموعِ التي زُرفت رغمًا عن ضعفها، لا أحد يشعرُ بكمِّ جراحها النازفة، إنَّها تحترقُ شوقًا وعطفًا، كيف يلومها على أمومتها، كيف لا يعطيها الحقَّ في احتضانِ أحدًا من أولادها، ألا يحقُّ لها الاعترافَ بأمومتها بعد تلك السنواتِ الجافية..
تحرَّكت بخطواتٍ ثقيلةٍ تجرُّ ساقيها إلى خارجِ الغرفةِ ودموعها تفرشُ الأرضَ أمامها حتى شعرت بضبابيةِ رؤياها، خطت مترنِّحةً على الدرج وشهقةٌ خرجت من فمها وهي تتذكَّرُ حديثهِ اللاذع، هل كما وصفها حقًا جُنت، أم أنَّها أنانيةٌ ولا تراعي سوى شعورها بأمومتها..
كادت أن تسقطَ على الدرج، فهوت جالسةٌ بعدما خانتها ساقيها، قبضةٌ قويةٌ اعتصرت فؤادها كلَّما تذكَّرت حديثُ راجح "فلاش قبل وصول ميرال":
-متفكَّريش اللوا بتاعِك والواد اللي بتقولي عليه ابنك دا هيرحمِك منِّي، أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ ينظرُ لمقلتيها بعيونٍ عاصفةٍ وأردفَ بنبرةٍ هستيرية:
-هذلِّك يافريدة، الله بسماه لأذلِّك وأجيبك لعندي مكسورة، علشان أعرَّفك مين هوَّ راجح الشافعي اللي تفضَّلي عليه أشباه رجال..قرَّبها إليهِ بعنفٍ وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-غبية وجيتي تحتِ ضرسي مش هرحمك، وزي مادفنت ابني هدفن ولادك الاتنين، ومش بإيدي بإيدك إنتِ وبكرة تقولي راجح قال، لو مخلتكيش إنتِ وبنتي تدفنوهم يبقى لبِّسيني طرحة..قاطعَ حديثهم صوتُ ميرال ماما ..فاقت من شرودها على صوتِ إلياس:
-طنط فريدة!!..نهضت من مكانها فزعةً تزيلُ عبراتها، وتمتمت بحروفِ الألم التي تشقُّ صدرها:
-نعم يابني..اقتربَ منها ينظرُ لشحوبِ وجهها ثمَّ غمغمَ بصوتٍ خافت:
-مين الِّلي كان برَّة دا، رفعت رأسها وارتجفت شفتيها، تهزُّ رأسها عاجزةً عن الرَّد..
سحبها برفقٍ من ذراعها وتحرَّكَ إلى الأريكةِ التي توضعُ بالرُّدهةِ أمامَ الدرج..
أجلسها ثمَّ جلسَ بجوارها، جذبَ هاتفَ المنزلِ من جوارهِ وهاتفَ الخادمة:
-اعمليلي قهوة وماما فريدة ليمونادا.
تشابكت عيناها الباكيةِ مع نظراتهِ المركَّزةِ عليها، أومأ لها بالحديث..
-عايزة أحضنك ينفع..قالتها بلمعةِ انكسارٍ من عينيها ..نظراتٌ فقط يحدجها بها ولم يعد لديهِ قدرةُ التفوُّهِ سواءً بالرفضِ أو الايجاب، هاجت مشاعرهِ بداخلهِ في تلك اللحظة، وكالعادةِ لعجزهِ عن تفسيرها، أهيَ مشاعرَ خوفٍ أم حنان أم إشفاقٍ على حالتها..
أجابَ بصوتٍ هادئٍ رغمَ رعشته:
-مش قبل ماأعرف مين أبو ميرال؟..
لم تجبهُ ولم تزحزحْ عيناها عن ملتقى نظراته، بقيت تحدجهُ بنظراتٍ لم يعلم ماهيَّتها..
سحبَ عينيهِ بعيدًا عن تجمُّدِ عيناها يزفرُ بعمق، حاولَ استنشاقَ كمِّ من الهواءِ عن طريقِ الشهيقِ والزفير، حتى لا يسرعَ بالحكمِ والغضبِ عليها..
ودَّت لو تطلقُ السراح للسانها والتفوَّهَ بما يعتري فؤادها، ولكنَّها ستموتُ بالتأكيدِ إذا حدثَ مالايُحمدُ عقباهُ من ردَّةِ فعله..
آاااه متحشرجة أخرجتها بنيرانِ صدرها التي كوت ضلوعها..
-راجح أبوها..راجح الشافعي.
-تاني..بتكدبي تاني..قالها ونهضَ من مكانه، ولكنَّها تشبَّثت بكفِّه، وطالعتهُ بعيونٍ انسابت نجومها بهوانِ ماتشعرُ به الآن..
-واللهِ دي الحقيقة يابني، ميرال تبقى بنتِ راجح الشافعي، وهيَّ متعرفش، هيَّ مفكَّرة إنَّها بنتِ جمال..
توقَّفَ لدقيقةٍ يستوعبُ حديثها مع شرودهِ بحديثِ أرسلان:
"البنت اللي خطفتها مش بنتها، هيَّ مجبتشِ أطفال منُّه"
أطبقَ على جفنيهِ وصراعاتٍ عنيفةٍ تأكلُ دواخله..خطا لبعضِ الخطوات، ولكنَّهُ توقَّفَ على شهقاتها، استدارَ إليها وعيونُ الخذلانِ تتابعها ليهمس:
-ليه قولتي إنَّها بنتِ جوزك الأوَّلاني، ليه خبيتي إنَّها بنتِ راجح؟..
بملامحٍ شاحبةٍ وروحٍ فارقت الجسد، نصبت جسدها واقتربت مترنِّحةً كالمخمورة:
-راجح انسان جشع ومفتري، خطف ولادي هوَّ ومراته، حبيت أحرق قلبه، لمَّا هربت خطفت ميرال، وكنت ناوية أرميها زيِّ مارموا ولادي الاتنين..
شهقةٌ أخرجتها بصوتٍ متقطِّعٍ كالخطوطِ المعوَّجة
ظلَّ صامتًا يستمعُ إليها ودقاتُ قلبهِ تتقارعُ داخلَ صدرهِ وهي تقصُّ عليهِ كيف وصلت إلى والده..
نهضَ من مكانهِ شاردًا حزينًا، ثمَّ أردفَ:
-ميرال متعرفش صح؟..
أومأت برأسها وعيناها تذرفُ من الدموعِ مايحرقها..
استدارَ متسائلًا:
-ليه اتجوزتيه، بدل خطف ولادك زي ما بتقولي..قاطعهم وصولُ مصطفى ينظرُ إليها بأسى من حالتها التي وصلت إليها، تحرَّكَ إليها وانحنى يرفعها من أكتافها:
-ياله علشان تاخدي الدوا وتنامي، رمقَ إلياس بنظرةٍ جانبيةٍ ثمَّ تحرَّكَ دونَ حديث..ظلَّ يتابعُ تحرُّكهم حتى اختفوا من أمامِ عيناه..
-وبعدهالِك يامدام فريدة، إيه حكايتك معايا، وليه قلبي وجعني عليكي..
سحبَ نفسًا وزفرهُ يقنعُ نفسه:
-متنساش هيَّ اللي ربيتك فطبيعي تكون حزين عليها، استندَ على سياجِ الدرجِ يهمسُ بخفوت:
-راجح كدا ميعرفشِ ميرال بنته، أو ممكن عارف وبيخطَّط لحاجة..
ملسَ على ذقنهِ بعلامةِ تفكيرٍ وجلسَ وهو ينفثُ سيجارته:
-يبقى هوَّ اللي كان برَّة، ودا مالوش غير معنى أنُّه بيهدِّد..
مطَّ شفتيهِ للأمام وحركةٍ استخفافيةٍ أطلقها من بين شفتيه:
-بتلعب معايا ياراجح وماله نلعب إحنا ورانا إيه..هنا تذكَّرَ مافعلهُ هو وأرسلان اليوم..
فلاش قبلَ ثلاث ساعات:
توقَّفَ أرسلان بجوارِ غرام بالحفلِ يوزِّعُ نظراتهِ على الجميع قاطعتهُ غرام:
-إيه الحفلة الضخمة دي أنا عمري ماحضرت حفلات كدا..استدارَ مبتسمًا
وأردفَ قائلًا:
-اتعوِّدي ياروحي، علشان يعتبر فاروق باشا حفلاته مبتخلصش، دا لو طايل يعمل كلِّ يومين حفلة هيعملها.
ابتسمت ثمَّ رفعت كأسها ترتشفُ منهُ بعضَ العصير، ثمَّ رفعت عينيها إليه:
-شكلك بتحبِّ الحفلات..رفعَ ذراعيهِ يحاوطُ أكتافها وعينيهِ على إلياس المتوِّقف مع والدهِ ثمَّ أجابها:
-أبدًا ولا ليَّا فيها، أنا جيت بس علشان أعرَّفك على مدام ميرال، بما أنُّكم مالحقتوش تتعرَّفوا في إيطاليا.
-هوَّ إلياس صديق مقرَّب للدرجة دي علشان تعرَّفني على مراته..قطعَ حديثها وصولُ فريدة:
-عامل إيه يابني..قالتها وهي تطوفُ بعينيها على وجههِ باشتياق..
ابتسمَ بمحبةٍ وأجابها:
-كويس الحمدلله، حضرتك عاملة إيه، نسيت أعرَّفك...أشارَ إلى غرام قائلًا:
-غرام مراتي..اقتربت من غرام وربتت على ظهرها:
-اتعرَّفنا ياحبيبي، نظرَ لزوجتهِ التي أومأت برأسها بالايجاب، ثمَّ أردفت:
-طنط فريدة كانت معايا لمَّا رحت مع حضرةِ الظابط عند والده..
أومأ متفهِّمًا، ثمَّ رفع عينيهِ إلى فريدة:
-إن شاء الله في يوم أعرَّفك على والدتي، ماتختلفشِ عنِّك، أوعدك قريب هيكون فيه لقاء بينكم..شعرت بالقهرِ يأكلُ أوجاعها، وتغرغرت عيناها بالدموع، وطأطأت رأسها دونَ حديثٍ تحاولُ كبحَ دموعها وكأنَّ اللهَ ربطَ على قلبها ليصلَ إلياس إليهما:
-ارسلان تعالى عايزك..استئذنَ وتحرَّكَ معهُ بعدما قال لزوجته:
-خمس دقايق وراجعلك، خليكي مع طنط فريدة..
وصلَ إلى مكتبهِ وانتشلَ بعضَ الاشياء قائلا:
-ياله علشان قدَّامنا وقت بسيط..أومأ وتحرَّكَ من البابِ الخلفيِّ متَّجهينَ إلى وجهتهم بانتظارِ أحدِ الأفرادِ الذين يساعدونهم بالدلوفِ إلى شركةِ العامري..نظر لتلك السيارة، فأشار إلى سيارة ارسلان
-هنروح بعربيتك، سيادة وكيل النيابة بيراقبني، شك في حاجة
-ضيق عيناه متسائلًا
-ليه..تحرك بالسيارة للخلف واجابه:
-طنط فريدة بلغت عن اختفاء ميرال
-اممم..قولت لي ..طيب مالراجل خايف
-ماقولتش حاجة وكمان نضيف جدا، يعني مش بتاع اشخاص، بتاع حقوق
-فعلا سمعت عنه ..وصل إلى الشركة وأشار إليه
-حلوة فكرتك ياحضرة الظابط، بس الواد المهندس دا ضامنه
-جدا متخفش، على ضمانتي اومال طلبت منك أوصله ليه ..هكذا قالها ارسلان وهو يترجل من سيارته
دقائقَ وتمَّ زرع الأجهزة التنصتيَّة ببعضِ المكاتبِ الخاصةِ بالاجتماعات، ثمَّ تحرَّكَ إلى شركةِ الشافعي وفعلَ بها مثلما فعل بشركةِ العامري، بزيِّهم المتنكِّر بعد تعطيلِ أحدهم لجميعِ الكاميرات لمدَّةِ ساعتينِ رغمَ أنَّهم لم يستغرقوا في كلِّ شركةٍ سوى بعضَ الدقائقَ وذلك لنجاحِ أحدهم بتوجيهم إلى الأماكنِ المدروسةِ من قبل..
خرجَ الثلاثةُ بعد انتهاءِ مدَّةِ عملهم..تركهم يزن وقادَ دراجتهِ البخاريةِ بينما تحرَّكَ أرسلان إلى المشفى مع إلياس لبعض الفحوصاتِ الطبية..جلسَ أمام الطبيبِ الذي قامَ بالكشفِ عليه، بتوقُّفِ إلياس أمام النافذةِ ينظرُ للخارجِ قائلًا:
-ماله يادكتور، ليه بيشتكي من جنبه، تساءلَ بها وهو يواليهِ ظهره..
كتمَ أرسلان ضحكاته، ينظرُ للطبيبِ يشيرُ إلى بطنه:
-هو نسي إنِّ بطني كمان وجعاني..استدارَ يرمقهُ بنظراتٍ نارية، حتى ارتفعت ضحكاتهِ يهزُّ رأسهِ يرفعُ يديهِ إلى إلياس:
-قلبي كمان وجعني..اقتربَ منه يلكزهُ بصدره:
-هتفضحنا يامتخلِّف، أنا اللي أستاهل اعتمدت عليك..
الله أعمل إيه دخلت المستشفى جسمي كلُّه وجعني مستخسر فيَّا أكشف..
أشارَ إلياس للممرض:
-عايزك تديله حقنة شرجية، علشان يحرَّم يدَّلع..نهضَ من مكانهِ يضعُ يدهِ على بطنهِ من كثرةِ ضحكاته، حتى وصل إلى إلياس:
-عمِّي هينفخني واللهِ لو موجود لأمر ذاك الطبيب بتلكَ الرشوتة..
لكزهُ بقوَّةٍ حتى سقطَ على المقعدِ خلفهِ بعدما أخرجهُ من بروده:
-اسكت ياحبيبي، اسكت يابابا خلِّينا نخلص..استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ فأشارَ إليه وضحكاتهِ مازالت مرتفعة:
-قولتلك عمِّي هينفخني، أهو اسمع:
-بتعمل إيه في المستشفى وفين مراتك؟..
حاولَ أن يتماسك، ابتعدَ إلياس عنهُ يزفرُ بسخطٍ على أفعالهِ الطفوليةِ ثمَّ ردَّد:
-مخابرات إيه دا، دا أخره عسكري نحطُّه على مدفع رمضان..
-أيوة إسحاقو..كان يقودُ سيارتهِ متَّجهًا إليه:
-حبيبي بتعمل إيه في المستشفى، إنتَ تعبان؟..
أومأ مبتسمًا وعينيهِ على إلياس الذي يرمقهُ شزرًا وأجابه:
-مفيش ياعمُّو، حسيت بشوية ألم في جنبي، خوفت الألم يزيد فقولت أعدي على الدكتور، وبعدين حضرتك بتراقبني ولَّا إيه؟..
-لا مش براقبك بس اتصلت بيك لقيت تليفونك مقفول عرفت إنَّك في مكان مش عايز حدِّ يعرف، ولمَّا التليفون اتفتح عرفت إنَّك في المستشفى..توقَّفَ أرسلان بعدما انتهى قائلًا:
-لا ياحبيبي تلاقي شبكة سقطت ولَّا حاجة، وأنا خارح أهو وهعدِّي أجيب غرام وأرجع على البيت..
-عمَّك هيصدَّق بس إسحاق المخابراتي مش مصدَّق يابنِ فاروق هستناك تحكيلي سلام..
زفرَ بارتياحٍ واتَّجهَ إلى إلياس:
-إسحاق عرف كنَّا فين على فكرة..
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-بس إحنا أخدنا احتياطاتنا كويس، إزاي عرف وليه شكِّيت..قالها إلياس..
تحرَّكَ بجوارهِ بعدما نزعَ من الطبيبِ
المدوَّن إليه..
خرجَ من شرودهِ متوقِّفًا واتَّجهَ إلى جهازهِ المحمول وبدأ يتفحَّصُ مابهِ لبعضِ الدقائقَ مع عدَّةِ مكالماتٍ مرتبطةٍ بعمله..
عندَ أرسلان قبلَ قليل:
وصلَ إلى منزلِ والده، فاليوم الخميس، الذي وعدَ بهِ والدتهِ أن يقضيانهِ مع بعضهما، دلفَ للداخلِ قابلتهُ ملك تصفِّقُ بيديها واتَّجهت تهرولُ إليه:
-حبيبي أخيرًا جيت وحشتني، ضمَّها بحنانٍ أخوي ثمَّ طبعَ قبلةً فوق جبينها:
-وحشتيني حبيبتي، نزعت يديهِ من أيدي غرام وتحرَّكت بهِ إلى غرفةِ الموسيقى:
-تعالَ معايا علشان أسمَّعك اتعلِّمت إيه، أختك هتسبقك، وتكون أشطر Pianist في الدنيا ..أشارَ إلى غرام:
-هتلاقي ماما جوَّا حبيبتي، شوية وراجعلك..قالها وتحرَّكَ مع ملك التي لم تهتم بوجود غرام..
دلفت للداخلِ تبحثُ عن صفية، أشارت إليها الخادمة:
-المدام في ركنها المخصَّص للعبادة..أومأت لها وتحرَّكت، طرقت البابَ ثمَّ دلفت حتى لا تفصلها عن قراءةِ القرآن ..رفعت صفية رأسها وجدتها تقفُ تفركُ أناملها، أغلقت المصحف ووضعتهُ بمكانهِ الخاصَّ به، تفتحُ ذراعيها الى غرام التي وصلت إليها وانحنت تحتضنها:
-عاملة إيه ياماما..أخرجتها تحتضنُ وجهها وأردفت:
-أنا كويسة ياستِّ البنات تعالي جنبي هنا ..نزعت حذاءها وخطت إلى جلوسها توزِّعُ عينيها على المكانِ الذي به الكثيرَ من كتبِ الفقهِ والمصاحف..
.ربتت صفية على كتفها بعدما وجدت نظراتها على الكتب:
-فيه حاجة عايزة تقرأيها؟..
هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ احتضنت كفَّيها
واقتربت بجسدها قائلة:
-ماما فيه موضوع عايزة أقوله لحضرتك، أرسلان ميعرفشِ بس حبيت أعرَّفك الأوَّل..طالعتها منتظرةً حديثها،
وضعت كفَّيها على أحشائها ولمعت عينيها بالسعادةِ مردِّدة:
"ماما أنا حامل"
شهقةٌ خرجت من فمها تضمُّها إلى صدرها وارتفعت ضحكاتها:
-ماشاء الله يابنتي ربِّنا يتممِّلك على خير يارب، اللهمَّ لك الحمد ولك الشكر يارب..قالتها وهي تسجدُ للهِ شكرًا على نعمه..احتضنت وجهها وقرَّبتها إليها تطبعُ قبلةً حنونةً على جبينها قائلة:
-ربنا يبارك فيكي وفي مولودك يابنتي يارب..
انسابت عبراتها من شدَّةِ حبورها بخبرِ حملِ زوجةِ ابنها، قاطعهم دلوفُ فاروق قائلًا:
-مصدقتش لمَّا قالوا أرسلان جه..ابتسمت بدموعها تشيرُ إليه:
-تعالَ يافاروق فيه خبر هينطَّطك ويخلِّيك ترجع شباب..
نظرت للأسفلِ بخجلٍ من حديثِ والدة زوجها، وبدأت تفركُ بأناملها، فتوقَّفت صفية عن الحديث قائلة:
-لا بلاش تعرف قبل أبوه، لازم أبوه يعرف الأوَّل مش كدا ياغرام ..رفعت ذقنها وأشارت إليها:
-ياله حبيبتي قومي علشان نتعشى، وخبَّري جوزك..أومأت ونهضت متَّجهةً للخارج..
عندَ أرسلان جلسَ بجوارِ أختهِ وهي تعزفُ مقطوعتها التي تدرَّبت عليها إلى أن انتهت..صفَّقَ يقبلُ وجنتيها:
-أحلى Pianist ياروحي..استدارت إليه:
-بجد ياأبيه عجبتك..ضمَّها بحنانٍ يمسِّدُ على خصلاتها:
-بجد ياروح أبيه، بس نهتم بمذاكرتنا شوية علشان نتخرَّج مش كدا ولَّا إيه..
-يااااه لسة بدري دا أنا لسة في أولى..
قرصَ وجنتيها وتوقَّف:
-ماهو علشان عايز تقدير كلِّ سنة يالمضة، سحبها من كفَّها واتَّجهَ بها للخارج:
-تعالي نشوف صفية عملت إيه في مراتي شكلها استفردت بيها..توقَّفَ بعدما وجدها أمامهِ تنظرُ إليهِ بحب، تركَ كفَّ ملك وخطا إليها يدقِّقُ النظرَ بملامحها، رفعَ ذقنها وأشارَ برأسهِ مردفًا:
-إيه الورد الأحمر اللي عايز يتاكل على الخدود دي..دفنت رأسها بكتفه
-بس بقى عيب أختك ورانا، لفَّ ذراعيهِ حولَ جسدها وهمسَ بأذنها:
-أنا تعبت من المشوار ماتيجي أقولِّك كلمة سر علشان محدِّش يسمعه.
لكزتهُ قائلة:
-أرسلان بس إيه اللي بتقوله دا..أطلقَ ضحكةً رجوليةً جذابة، مما جعلها ترفعُ رأسها إليهِ وتهمسُ بصوتٍ خافت:
-هتكون أب يجنِّن..توقَّفَ عن الضحكِ بعدما استمعَ إلى رنينِ هاتفه، أخرجهُ ولم يسمع بما تفوَّهت به:
-أيوة يابني فيه إيه..مش قولت مش عايز ازعاج ..
-آسف ياباشا، بس بكلِّم إسحاق باشا وتليفونه مقفول، الستِّ هانم الكبيرة عند دينا هانم، لسة طالعة من شوية، حاولت أخبَّر الباشا معرفتش أوصلُّه
-أنا جاي ...قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان سريعًا دونَ حديث...هرولت غرام خلفه
-أرسلان رايح فين..استقلَّ سيارتهِ وتحرَّكَ سريعًا يقطعُ المسافةَ بدقائقَ معدودة..
عند دينا:
حاوطت جسدها تبكي بعدما اشتدَّت آلامها، وصاحت بأحلام:
-ابنك عارف كلِّ حاجة، أنا قولتله، وهوَّ أصلًا كان شاكك فيَّا من الأوَّل بحكمِ إنِّي كنت شغَّالة معاكي..ازدادَ الألمُ تبكي تحتضنُ بطنها بقوَّة، بعدما وجدت نظراتها الجحيمية، فانحنت تجذبها من خصلاتها تسبَّها:
-أه ياحيوانة وقَّعتي بيني وبين ابني، وأنا اللي استأمنتك على سري، واللهِ لأدفَّعك التمن غالي..سيطرت على آلامها وزحفت للخلفِ تنظرُ إليها باحتقار:
-اسحاق مش هيسكت، وأكيد عنده خبر دلوقتي، هيجي ينقذني منِّك..قالتها ببكاءٍ مرتفع..
قهقهت أحلام ثمَّ جلست تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى:
-هوَّ أنا معرَّفتكيش إنِّي مخطَّطة علشان أوصلك، تفتكري أنا معرفشِ ابني حويط قدِّ إيه، وكنت متأكدة أنُّه مراقبك ياواطية، ارتاحي، إسحاق زمانه في سابع نومة، بس ممكن تكلِّميه ينقذك..نزعت الهاتفَ من يديها سريعًا وحاولت الوصولَ إليه..
توقَّفت أحلام تضحكُ بصوتٍ مرتفع ، ثمَّ انحنت تغرزُ عينيها بمقلتيها:
-الخاين لازم يموت..ودلوقتي هقتلك إنتي واللي في بطنك، ولو على الحراسة اللي برَّة، متخافيش هظبَّطهم كويس، مش حتِّة شحاتة تملك إمبراطورية الجارحي يابت...قالتها وركلتها للمرَّةِ الثانيةِ بقوَّة، ليخرجَ صوتها كالرعدِ مع فتحِ أرسلان البابَ على مصراعيه، ووصلَ إليها بخطوةٍ واحدة..توقَّفَ جاحظَ العينينِ على ذاك المشهد..جدَّتهُ تحاولُ قتلَ دينا، اتَّجهَ إليها سريعًا ولم يفعل شيئًا سوى أنَّهُ انحنى يحملُها ويغادرَ بها المكان دون أن يكترثَ لوجودِ أحلام..
بكت دينا بين ذراعيهِ تهتفُ بتقطُّع:
-أرسلان ودِّيني للدكتور هموت قالتها وأغمضت عيناها فاقدةً الوعي.
وصلَ في غضونِ دقائقَ إلى المشفى يهرولُ إليها ويحملها للداخلِ مع صرخاته بعدما وجد ملابسها لُطِّخت بالدماء..حملها المسعفونَ سريعًا واتَّجهوا بها إلى غرفةِ الكشف..
ظلَّ يجوبُ المكان ذهابًا وإيابًا وعقلهِ يكادُ أن ينفجرَ مما رآه..كيف لجدَّتهِ أن تفعلَ بروحٍ تلك الفعلةَ الشنعاء، خرجت الممرضةُ تشيرُ إليهِ بالدخولِ إلى الطبيب، دلفَ يبحثُ عنها بعينيه..
جلسَ بمقابلةِ الطبيبِ منتظرًا حديثه:
-المدام تعرَّضت للهجوم ودا واضح.
أشارَ أرسلان إليهِ بالصمت:
-عايز أعرف حالتها إيه، والجنين، دا اللي منتظره، مش منتظر تقولِّي عندها إيه..
-بس دي جناية ولازم ..توقَّفَ بعدما فقدَ صبرهِ وانحنى على مكتبه:
-أنا مبحبِّش أعيد كلامي المدام والجنين كويسين ولَّا لأ.
طالعهُ الطبيبَ بتدقيقٍ ثمَّ أردف:
-أخدت أدوية تثبيت ولسة الحالة مش واضحة، يعني لسة فيه خطورة على وضعِ الجنين..اعتدلَ ناصبًا جسدهِ ثمَّ أشارَ إليه:
-مش عايز الِّلي حصل يخرج برَّة الأوضة دي تمام يادوك، ولَّا نقول مع السلامة وشكرَ اللهُ سعيكم.
هزَّ الطبيبُ رأسهِ بالموافقة، فتحرَّكَ للخارج يسألُ الممرضة:
-فين المريضة الِّلي كانت هنا؟..
أجابتهُ برقمِ الغرفة، فتحرَّكَ متَّجهًا إليها، دلفَ بهدوءٍ وجدها تغفو بسببِ الأدوية، أشارَ للمُّمرضة:
عينِك عليها، إياكي تتحرَّكي من جنبها، ومش عايز مخلوق يدخل لعندها، أدويتها محدِّش يدِهالها غيرك، أيِّ غلط هنسفك..نصِّ ساعة وأكون هنا، تراقبيها ممنوع تتحرَّك من مكانها.
قالها وتحرَّكَ مغادرًا المشفى بأكمله، وصلَ إلى منزلِ إسحاق دلفَ للداخلِ يبحثُ عنه:
-الباشا فين..ارتبكت وابتلعت ريقها بصعوبة:
-نايم يابيه..
-نايم!..تمتمَ بها مستغربًا، ثمَّ صعدَ إلى غرفته، دلفَ للداخلِ إلى أن وصلَ فراشهِ ينظرُ إلى نومهِ الساكن..كوَّرَ قبضتهِ يسبُّ جدَّته:
-وصلت ياأحلام هانم تستخدمي الخدامة علشان مؤمراتك، طيِّب دا لمَّا يعرف هيعمل إيه غير حاجتين طلقة في راس أمُّه وطلقة في راس الخدَّامة.
استدارَ واتَّجهَ للأسفلِ ينادي عليها.. توقَّفت بجسدٍ مرتعش:
-استغنينا عن خدامتك، كلِّمي يحيى تاخدي مستحقَّاتك وتسيبي البلد دا لو عايزة تعيشي..
-ليه يابيه هو أنا عملت حاجة..اقتربَ يحدجها بنظراتٍ كالأسدِ المفترس:
-أنا هراعي خدمتك لإسحاق السنين دي كلَّها، علشان كدا هخلِّيكي تمشي سليمة، أمَّا بقى لو زهقتي من الدنيا وعايزة تموتي، خلِّيكي لحدِّ مايصحى ويقرَّر يعمل فيكي إيه..قالها وتحرَّكَ مرَّةً أخرى متسائلًا وهو يصعدُ الدرج:
-المنوِّم مهمِّته قدِّ إيه، هيفوق إمتى؟..
انسابت عبراتها متمتمة:
-هدُّدوني بابني واللهِ يابيه، قالوا هيموَّتوه لو معملتش كدا، وأنا قولت دا منوِّم بس يعني مش مُضر على الباشا..
أشارَ بيديهِ وهو يواليها ظهره:
-برَّة مش عايز أشوف وشك..استدارَ برأسهِ ومازالَ على وضعه:
-دي خيانة، بلاش أكمِّلك..
عندَ يزن عادَ إلى منزلهِ ودلفَ بهدوءٍ حتى لايُوقظَ أخوته، اتَّجهَ إلى غرفتهِ يضعُ أشيائه، استمعَ الى طرقاتٍ على بابِ غرفته، علمَ باستيقاظِ إيمان:
-ادخلي حبيبتي..دلفت مقتربةً منه:
-اتأخَّرت ليه كدا، قلقت عليك..
وضعَ الأشياءَ بداخلِ درجِ مكتبه، وأغلقهُ قائلًا:
كان عندي شُغل كتير، دقَّقت النظرَ بعينيهِ ثمَّ تسائلت:
-مها كانت عايزة منَّك إيه، وقفت معاها شوية وبعدين مشيت ومتكلِّمناش.
رفعَ رأسهِ وطالعها للحظاتٍ بصمت، ثمَّ أردف:
-عايز أنام حبيبتي وبكرة نتكلِّم تمام..
أومأت واستدارت للمغادرةِ ولكنَّهُ أوقفها متسائلًا:
-فيه حاجة واقفة معاكي في أيِّ مادة، لو محتاجة حاجة..
هزَّت رأسها بالنفي وتحرَّكت للخارج..
زفرةٌ حادةٌ أخرجها متألمًا يمسحُ على وجههِ بعنف، ثمَّ تذكَّرَ كريم الذي هاتفهُ عدَّةِ مرَّاتٍ ولم يستطع الردَّ عليه..
-أيوة نمت ولَّا إيه؟!.
اعتدلَ كريم على فراشهِ ينظرُ بساعته:
-إنتَ لسة صاحي، فيه حاجة ولَّا إيه؟..
اتَّجهَ إلى فراشهِ وتسطَّحَ عليهِ قائلًا:
-مفيش حاجة كنت قلقان ومجليش نوم..
-نعم أنا رنيت عليك..تنهَّدَ مجيبًا:
-كريم التليفون كان صامت ماخدِّتش بالي.
تمام هعمل مصدَّقك، المهمّ مها كانت عايزة منَّك إيه، عرفت إنَّها جاتلك.
أفلتَ ضحكةً ساخرةً وأجابه:
-عايزة تسيب خطيبها وبتقنعني نرجع لبعض..
-لا ياراجل، وإنتَ أكيد ضربتها قلمين على وشَّها..
لا وافقت قولتلها لمَّا تسبيه نتكلِّم.
هبَّ من نومهِ معتدلًا:
-أكيد بتهزَّر يايزن، أوعى ياصاحبي اللي في دماغك، يزن إنتَ عندك أخت..
-كريم أنا تعبان وعايز أنام بكرة نتكلِّم..قالها وأغلقَ الهاتفَ وجذبَ الغطاءَ وشبهِ ابتسامةٍ ساخرة:
-بتعشقني الهبلة، أهو نستفيد منِّك، وأنا مخلص عملت إيه بإخلاصي، ذهبَ ببصرهِ على هاتفه، تناولهُ ينظرُ بمحادثاتِ رحيل الغاضبة لاستقالته..
-شكلك كيوتي بس لازم أصطادك في سكِّتي، الكلِّ لازم يدفع التمن..حدِّ قالُّكم تحبُّوني..
رفعَ الهاتفَ على أذنه..أجابتهُ خلالَ لحظاتٍ تهدرُ معنفةً إياه:
-بكرة أشوفك على مكتبك يايزن، سمعتني..انحنى يجذبُ سجائرهِ يستمعُ إلى صرخاتها بصدرٍ رحبٍ حتى هدأت..أخذَ نفسًا ثمَّ زفرهُ بهدوءٍ ينظرُ بشرودٍ قائلًا:
-لمَّا تكلِّمي يزن السوهاجي يبقى تكلِّميه بصوت واطي، مش أنا اللي أقبل بنت تعلِّي صوتها عليَّا مهما كانت هيَّ مين، ثانيًا بقى أنا حر محدِّش له يجبرني على حاجة، أنا مبشتغلشِ عند حد وبالنسبة للكام سهم اللي معاكي أكيد نسبهم هتوصلني ماهو مش هتقبلوا تاخدوا حاجة من عرق حد، إلَّا إذا كنتم بتاكلوا حقوق الناس.
صدماتٌ ألهبت حواسها تهزُّ رأسها رافضةً حديثهِ المهين الذي اخترقَ صدرها كالرصاصات، ابتلعت غصَّةً أحكمت جوفها وأردفت:
-آسفة لحضرتك ياباشمهندس..
ولا يهمِّك ياأستاذة رحيل..قالها وأغلقَ الهاتفَ ولم يعطها فرصةَ الرَّد.
عندَ إيلين بشقةِ رؤى:
كانت تجلسُ بشرفةِ غرفتها تحتسي مشروبًا، فتحت جهازُ رؤى المحمولِ وقامت بمهاتفةِ خالها:
-خالو حبيبي..هبَّ من مكانهِ يجيبها بعتاب:
-كدا ياإيلين، دي مكانة خالك عندك يابنتي، تسبيي بيت خالك كدا؟..
ارتفعت شهقاتها قائلة:
-مش هرجع غير لمَّا آدم يطلَّقني، لو عايزني بجد أرجع لعندك خلِّيه يطلَّقني، مبقتشِ قادرة اتحمِّل وجوده جنبي.
-طيِّب حبيبتي تعالي ووعد منِّي هخلِّيه يطلَّقك..
أطبقت على جفنيها، وبصوتٍ مفعمٍ بالبكاءِ ورعشةٍ أصابت جسدها تمتمت:
-يطلَّقني الأوَّل ياخالو، لو سمحت، وعايزة من حضرتك تشوفلي شقَّة أقعد فيها؛ علشان أنا قاعدة مع صاحبتي ومينفعشِ أقعد معاها أكتر من كدا.
نهضَ متحاملًا على نفسه، بعدما أصابتهُ وعكةٌ صحيةٌ من اختفائها:
-كدا ياإيلين تسيبي بيت خالك وتروحي للغرب..
أجهشت روحها بالبكاء وهي تقصُّ لهُ معاناةَ قلبها:
-إزاي عايزني أصبر على وجع قلبي، ابنك استضعفني ياخالو، أنا كرهت نفسي بسببه، أنا بكرهه وبكره كلِّ حاجة بتعلَّقني بيه..تعالت شهقاتها تخرجُ قيحَ آلامها..
-طلَّقني منُّه ياخالو لو عايزني أرجع بجد..قالتها وأغلقت الهاتف.
ظلَّ بمكانهِ ينظرُ إلى الهاتفِ الذي أُغلقَ للتو، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يبحثُ عن ابنه.. قابلتهُ مريم:
-خالو مفيش أخبار عن إيلين؟..
مسَّدَ على وجهها مجيبًا:
-هترجع بكرة، اجهزي حبيبتي علشان تسافري لجوزك، كفاية عليكي كدا.
فتحت فاهها للاعتراضِ ولكنَّهُ أوقفها:
-إيلين هترجع، متخافيش عليها..
باليومِ التالي دلفَ إلى شقتهِ يبحثُ عنهُ وجدهُ جالسًا بالشرفةِ ينظرُ للخارجِ بشرودٍ وكأنَّهُ لم يشعر بما يدورُ حوله، نظرَ إلى سجائره الذي استهلكها، ثمَّ اقتربَ منهُ وجذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلته
-جاهز؟..رفعَ عينيهِ المتألمةِ إلى والده:
-مفيش حل غير دا؟.،
-آدم إنتَ كنت رافض الجوازة من الأوَّل، وبدل مراتك مُصرِّة تيجي مصر، يبقى لازم تطلَّق إيلين، وتبعد مراتك عن القاهرة أنا مش عايز أتعرَّف عليها، وزي ما اتجوزت من غير علمِ أبوك، ميهمِّنيش أعرفها أو أشوفها..
نهضَ من مكانهِ وأشارَ إليه:
-قوم اجهز.. إيلين هتستنَّانا عند المأذون، ومش هنبِّه عليك إنِّك تعمل حاجة، وقتها هتبرَّى منَّك يابنِ زين.
بعدَ فترةٍ كانت تقفُ بجوارِ رؤى أمامَ المكتبِ الذي سيتمُّ بهِ الخلاصَ من معذِّبَ قلبها..
وبعدهالك ياإيلين، ليه مُصرَّة على الطلاق، إدِّيله فرصة..
زفرت الهواءَ المكبوتَ بصدرها علَّها تتغلبُ على نوبةِ البكاءِ التي تُحتجزُ تحتَ أهدابها، ابتعدت عنها قائلة:
-لو قريبك الظابط وافق يخرَّجني برَّة مصر كنت هفضل على ذمِّته فترة كمان، بس دا رفض وكمان هدِّدني أنُّه يبلَّغ جوزي، رفعت عينيها إليها:
-تصدَّقي محبتوش، واخد في نفسه مقلب، لا وإنتِ أقنعتيني أنُّه هيوافق وهيكون سهل يخرَّجني..
تصلَّبت تعابيرُ وجهها وتابعت حديثها:
-الرجالة كلُّهم كدا، عايزين الستِّ الطيبة اللي تطبطب، معرفشِ ليه أخد منِّي موقف عدائي، علشان طالبت بحقوقي..
اقتربت رؤى منها تربتُ على ظهرها:
-إلياس مش زي ماإنتِ مفكَّرة، هوَّ رافض فكرة هروبك من جوزك، قال مينفعشِ أساعد على الغلط وهوَّ عنده حق ياإيلين، ومتنسيش أنُّه راجل مش هيقبلها على مراته..
بترَ حديثهم وصولُ سيارةِ زين التي توقَّفت بجوارهم..كان بالسيارةِ طالعها بصمتٍ وهناك حربٌ من النظراتِ بينهم.. ترجَّلَ من السيارةِ ومازالت عيناهُ تحرق وقوفها، سحبت بصرها متهرِّبةً من نظراتهِ الاختراقية، تحرَّكَ من جوارها دون حديثٍ أرادَ أن يرضي غرورهِ الذكوري الذي دعست عليهِ بكلِّ جبروت:
-دكتور آدم..توقَّفَ على صوتِ صراخها باسمه..ظلَّ كما هو واقفًا صلبًا متجمِّدًا لا يلتفتُ إليها حتى وصلت وتوقَّفت بمقابلته، ورفعت رأسها بعنفوانٍ وتمتمت بنبرةٍ جافة:
-عايزة طلقة بائنة، ومتنازلة عن جميعِ حقوقي كأنَّك مامرتشِ في حياتي.
كلماتٌ كأشواكٍ غُرزت في جدارِ قلبه، رفعَ عينيهِ حتى تقابلت الأعينُ بحديثِ أنينِ القلوبِ فهتفَ قائلًا:
-إنتِ طالق ياإيلين، وورقتك هتكون عندك في أقرب وقت، قالها ورفعَ عينيهِ لوالده:
-هدخل للمأذون ووثَّق الطلاق، يارب أكون أدِّيت المهمَّة على أكملِ وجه ياباشمهندس..
أحسَّت ببرودةٍ تتسرَّبُ لجسدها من نيرانِ كلماته، وتلاشى تنفُّسها وكأنَّ تلك الكلمةُ طلقةٌ أصابت قلبها حتى سُحبت روحها لبارئها، حاولت التمسُّكَ أمامهِ حتى لا تذرفَ دموعَ ضعفها على حبٍّ قُتلَ قبلَ أن يحيى.
مرَّ أسبوعًا على أبطالنا:
عندَ إسحاق دلفَ إلى المشفى لرؤيةِ زوجتهِ التي حُجزت بالمشفى لمخاطرِ الحمل..دفعَ البابَ وابتسامةٌ واسعةٌ على وجهه..
-أنا جيت، ولكنَّهُ توقَّفَ عندما وجدَ فراشها خاليًا، دلفَ إلى المرحاضِ يبحثُ عنها ولكنَّها غيرُ موجودة، خرجَ خارجَ الغرفةِ يستدعي الممرضة:
-مدام دينا فين؟!
مدام دينا تعبت بالليل يافندم والجنين نزل، وهي عملت مغادرة من المستشفى من نصِّ ساعة..
لطمةٌ قويةٌ على وجهِ الممرضة، وبدأ يصرخُ بالموجودين، هرولَ إلى كاميراتِ المشفى، ليصلَ كيف خرجت من المشفى، ولكنَّها أخذت احتياطاتها.. غادرت دونَ أن تتركَ خلفها مايساعدهُ بالوصولِ إليها.
ساعاتٌ جحيميةٌ مرَّت عليهِ وهو يبحثُ عنها بجميعِ الأماكنِ التي تستهدفها...دلفَ أحدُ الرجالِ وجسدهِ يرتعشُ من حالةِ اسحاق، جالسًا على مقعدهِ يحتوي رأسهِ بين راحتيه:
-مفيش أي أخبار ياباشا، وصورتها باسمها عند كلِّ المداخل والمخارج.
-شوف أرسلان رجع من السفر ولَّا لسة..
أومأ وتحرَّكَ هاربًا من قبضتهِ الفولاذية.
اعتدلَ بعد خروجهِ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-أحلام هانم خرجت؟..
-لا ياباشا، زي ما حضرتك طلبت..أغلقَ الهاتفَ وعينيهِ تحوَّلت لكتلةٍ ناريةٍ يهمسُ بفحيح:
-كنت عارف مش هتشكي، بس متوقعتش إنِّك لسة بالخسة دي ياأحلام هانم..استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة يافاروق..
-عدِّي عليَّا ياإسحاق، عايزك ضروري.
-بعدين يافاروق، عندي شغل في الإدارة وكمان في الجهاز.
-أنا مستنيك ياإسحاق، نُص ساعة وتكون عندي..قاطعهُ دلوفَ المسؤولَ عن مكتبه:
-فيه هانم برَّة عايزة تقابل حضرتك ياباشا.
أشارَ بيديهِ ينظرُ إلى بعضِ الأوراقِ يهربُ بها من ضعفه..
-مش فاضي مش عايز أقابل حد..
ارتجفَ الرجلَ قائلًا:
-هيَّ مصرَّة حضرتك، وبعدين دي مرات الباشا مصطفى السيوفي..
رفعَ عينيهِ يطالعهُ مستفهمًا:
-ودي عايزة إيه..أشارَ لهُ بالموافقة.
-دخلَّها وقولَّها الباشا عنده اجتماع بعد عشر دقايق، دلفت فريدة وعينيها على جلوسهِ المهيب رغمَ صغرِ سنَّه..
ألقت التحيَّةَ وحاولت أن تسيطرَ على ارتعاشةِ جسدها..
-أهلًا مدام فريدة ..قالها وهو ينظرُ بالبطاقةِ الخاصَّةِ بها.
جلست بمقابلتهِ تومئُ برأسها:
-أهلًا بحضرتك..آسفة أخدت من وقتِ حضرتك، بس الموضوع مهم.
تراجعَ بجسدهِ يضغطُ على زرِّ مكتبه:
-تشربي إيه ؟..
هزَّت رأسها بالنفي:
-ولا حاجة..أنا بس عايزة من حضرتك حاجة مهمَّة..طالعها بتدقيقٍ منتظرًا حديثها..
رفعت رأسها لتتقابلَ بعينيهِ التي تختلطُ بالحزنِ والألمِ لكليهما، حمحت وحاولت النطق، ولكن لم تقوَ على مخارجِ الحروف..أطبقت على جفنيها تسحبُ نفسًا وهو يراقبُ تعابيرها،ثمَّ نهضَ من مكانهِ وجذبَ كوبًا من المياه، وبسطَ يده:
-اتفضلي، شكل الموضوع اللي حضرتك قصداني فيه صعب أوي.
أبعدت عن ذهنها خواطرها المؤلمة وجمعت شتاتَ نفسها هاتفةً دونَ تردُّد
-الموضوع يخصِّ ابني...
-ابنك!! ردَّدها ومازالَ يتابعها بعينيهِ الصقرية، استندَ بذراعيهِ على المكتب متسائلًا:
-قصدك إلياس؟..
تأملتهُ لبعضِ اللحظات ثمَّ نطقت كلماتها التي حوَّلتهُ إلى بركانٍ كادَ أن يحرقها حينما أردفت:
-أرسلان..
صدمة..ذهول يطالعها وكأنَّ أحدهم صعقهُ بصاعقٍ كهربائيٍّ لينتفضَ جسدهِ من شدَّةِ ما أصابه..انعقدَ لسانهِ وتاهت المفرداتُ وكأنّهُ فقد جميع حواسه، لحظات مرَّت كسبعينَ خريفًا، ظلَّت تتابعهُ بعينيها ثمَّ استطردت:
-أرسلان الجارحي ابني، بيكون اسمه: جمال جمال الشافعي.
كلمات اخترقت أذنهِ كصدى صوتِ عويلِ رعدٍ ممَّا أصابهُ بالصمم ..تجمَّدَ جسدهِ وهي تتابعُ كلماتها التي سحبت أنفاسه:
-ابني اتخطف من تلاتين سنة، معرفشِ حضرتك لقيته فين، بس كلِّ اللي أقدر أقوله لحضرتك، إنَّك ربيت راجل ومتشكرة جدًا جدًا ومهما أشكرك مش هقدر أرد جميلك، بس كنت عايزة أعرف حضرتك اتبنيته زي ماغيرك اتبنى أخوه ولَّا إيه ولمَّا أنتوا اتبنتوه ليه نسبتوه لعيلتكم..رغم أنُّه عاش حياة بمستوى راقي بس هويته الحقيقة اندفنت معاه..قالتها بمرارةٍ والدمعُ يتساقطُ من عينيها..
شحبَ وجههِ بالكاملِ كالجُثة التي زهقت روحها..لم يعلم بما يجيب، كم هو مؤلمٌ هذا الشعورُ الذي تعجزُ عن وصفِ مابداخلكَ أثناءَ سرق كلَّ ماتمتلك..نعم اعترافٌ بداخلهِ أنَّ أرسلان امتلاكهِ الخاص حتى ولو نُسبَ إلى أخيه، ولكنَّهُ ابنهِ هو فقط، سنينَ حبٍّ وحنانٍ واحتواءٍ كيف بتلك السهولة أن يتخلَّى عنه، هل جُنَّت هذه المعتوهةُ لتأتي إلى هنا لتسرقَ فرحةَ قلبه..
رسمَ ابتسامةً باردةً وطالعها بأعينٍ خاليةٍ من أيِّ شعورٍ قائلًا:
-هو حضرتك مريضة ولَّا إيه، أرسلان مين اللي ابنِ حضرتك، مع احترامي لسيادةِ اللواء إلَّا مش من حقِّك تيجي وتوقفي قدَّامي وتتبلِّي على ابني، لو سمحتي يامدام أنا هعذرك علشان شكلك مضيَّعة ابنك بس حقيقي كان نفسي أساعدك..
هبَّت من مكانها كالملسوعة، وضربت بقوَّةٍ على مكتبهِ حتى تناثرت أشيائه:
-حضرتك متفكَّرش إنِّي هصدَّق كلامك دا، أنا عايزة ابني..وجيت لحضرتك قبل ماأتكلِّم مع أرسلان، فياريت حضرتك تحترم عقلي وتعرف أنا مش هجي وأقف قدَّامك إلَّا إذا كنت واثقة من كلامي..
أحسَّ بقبضةٍ قويةٍ تعتصرُ فؤاده، وتسلَّلت الريبةُ من حديثها الواثق، ابتلعَ ريقهِ الجافَّ بصعوبة، ونهضَ من مكانهِ ثابتًا وكأنَّ حديثها لا يهمُّه، ثمَّ دسَّ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ وتحرَّكَ إلى أن وصلَ إليها:
-أنا لسة بتكلِّم معاكي بهدوء احترامًا لسيادةِ اللواء وغير إنِّ أرسلان صديق للعائلة..
غرزت عينيها بمقلتيهِ بعدما علمت بأسلوبهِ الماكرِ واقتربت منهُ خطوةً حتى لم يتبقَّ بينهما سوى خطوةً واحدةً وأردفت:
-أنا عملت تحليل DNA ياسيادةِ العقيد وأرسلان ابني، متخلنيش أخده بالغصب،
أشارَ إليها على بابِ الغرفة:
-روحي خديه، مش إنتِ واثقة أنُّه ابنك وجاية تسبِّي في شرف عيلةِ الجارحي، عايزك تروحي لأكبر قسمِ شرطة وبلَّغي علينا وقولي إحنا خطفنا ابنك يامدام، واثبتي براحتك..اقتربَ الخطوةَ التي تفصلهما وانحنى يهمسُ بصوتٍ خافت:
-احمدي ربِّنا إنِّك مرات سيادةِ اللوا، غير كدا مكنتش خلِّيتك واقفة على رجلك، ودلوقتي الزيارة انتهت يامدام..قالها وهو يضغطُ على زرِّ مكتبهِ ليدلفَ الرجل ، فأشارَ إليه:
-وصَّل المدام شكلها تاهت في الطريق.
اشتعلت حدقتيها كجمراتٍ ملتهبةٍ فأشارت بسبباتها:
-جيتلَك ياسيادةِِ العقيد بس حضرتك طلعت ظالم مش زي ماأرسلان قال، ياخسارة مش هقول غير حسبيَ الله ونعمَ الوكيل..بس أنا مش هتنازل عن ابني..قالتها وتحرَّكت تأكلُ الأرضَ بخطاويها تهمسُ لنفسها:
-اجمدي يافريدة، لازم ترجَّعي ولادك محدش هيساعدك كلُّه هيقول يارب نفسي، حتى مصطفى اللي فكَّرتي إنِّك بتتسندي عليه طلع وهم..
اصطدمت بأرسلان الذي دلفَ من بابِ المكتب، ليتوقَّفَ مذهولًا:
-طنط فريدة !!
وصلَ إسحاق إليهما بخطوةٍ واحدةٍ بعدما استمعَ إلى صوتهِ بخارجِ الغرفة:
-أرسلان، عايز دينا من تحتِ الأرض ياله بسرعة مفيش وقت..رفعَ نظرهِ الى فريدة:
-طنط فريدة عندنا ليه خير، وأنا بقول المكتب منوَّر ليه.
ربتَ على كتفهِ ينظرُ إلى فريدة التي تطالعهُ باشتياق، بعيونٍ مترقرقةٍ بالدموع..قاطعَ وصلةَ نظراتها حينما أردف:
-ياله حبيبي عايزك تجيب دينا من تحتِ الأرض..قالها وعينيهِ مازالت على فريدة التي اتَّجهت ترمقهُ شزرًا..
-حاضر ياعمُّو بس أعرف طنط فريدة مالها..حضرتك كنتي بتعملي إيه هنا، لو عايزة أي مساعدة ..فتحت فاهها للحديثِ ولكنَّ إسحاق صاحَ بغضب:
-أرسلان أنا مع فريدة هانم، كانت جاية لمشكلة ولقيناها تافهة مش محتاجة مساعدة، لأنَّها ممكن تخسر كتير..
سحبت أقدامها وتحرَّكت بأنينٍ دونَ حديثٍ لأنَّها علمت أنَّها أمامَ رجلٍ لا يستهانُ به..
-عمُّو في إيه..
-بيت السيوفي وابنِ السيوفي تنساهم ودا آخر علاقتي بيك، ياهمَّا ياأنا..قالها وتحرَّكَ للخارج..توقَّفَ يراقبُ تحرُّكهِ الجنونيّ بصدمةٍ يكرُّرُ كلماته:
-يعني عايز يقطع علاقتي باإلياس..معقولة، وليه، ياترى طنط فريدة عملت إيه يخلِّيه ياخد موقف عدائي كدا..لا لا لازم أعرف.
اتَّجهَ إلى سيارتهِ سريعًا، واستقلَّها وقامَ بمهاتفةِ إلياس:
-إنتَ فين؟..كان واقفًاا أمامَ المرآةِ يتجهَّزُ لسهرتهِ الخاصَّةِ مع زوجتهِ فأجابه:
-ليه فيه حاجة ولّّا إيه؟!
عايز أشوفك دلوقتي..أمسكَ زجاجةَ عطرهِ ونثرَ بعضها ينظرُ بالمرآةِ قائلًا:
-لا الليلة مش فاضي، ممكن بكرة تعدِّي عليَّا..
بس عايزك في موضوع مهمّ وضروري.
قطبَ مابين جبينهِ متسائلًا:
-خير حاجة بخصوص إيه..نظرَ أرسلان إلى اسمِ زوجتهِ الذي أنارَ شاشةَ هاتفهِ فأجابَ إلياس:
-تمام بكرة هعدي عليك.
عند غرام كانت تحتضنُ أحشاءها تبكي بشهقاتٍ حينما فقدت القدرةَ على النهوضِ رفعت هاتفها للاتصالِ به:
-حبيبتي أنا هنا في مصر، شوية وأكون في الفيلا وحشتيني.
-بسرعة ياأرسلان، انا تعبانة، وبنزف ..
كنت حامل الحقني..
توقَّفَ بالسيارةِ فجأةً حتى اصطدمَ بالمقودِ يتساءلُ بصدمةٍ شلَّت أعضائه:
-حامل ونزيف..تمام تمام ..ارتجفَ جسدهِ بالكاملِ وفقدَ السيطرةَ على خوفه، أمسكَ الهاتفَ بيدٍ مرتعشةٍ وهاتفَ والدته:
-ماما.. غرام اطلعي عندها بتنزف وبتقولِّي كانت حامل، إزاي مراتي تتعب ومحدِّش يحسِّ بيها ياماما..
نهضت صفية متعجلِّةٌ بخطواتها:
-حاضر ياحبيبي،أنا طالعة أهو، بعتلها ملك قالت عايزة تنام..
صرخَ بالهاتفِ وهو يقودُ السيارةَ بسرعةٍ جنونية:
-الحقيها ياماما، الحقي ابني لحدِّ ماأوصل، وهبعت للدكتور..
عند إلياس انتهى ممَّا يفعله، جذبَ ساعةَ يدهِ وارتداها متحرِّكًا إلى زوجته، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها:
-ميرال خلَّصتي..خرجت من غرفتها بأناقتها بردائها الأحمر الفضفاض وحجابٍ باللونِ الأبيض، ولمساتٍ تجميليةٍ خفيفةٍ على وجهها الناعم، خطا إلى أن وصلَ إليها..رفعَ ذقنها بأنامله:
-كنت عارف إنِّ الحجاب زينة الست، بس مكنتش أعرف أنُّه هيخليها ملكة متوجة كدا..ابتسمت وتورَّدت وجنتيها..
-ميرسي ياإلياس..حرَّكَ أناملهِ على شفتيها المطليةِ باللونِ الأحمرِ القاني، الذي جعلها أيقونةً للتذوق، لينحني بعدما فقدَ قدرتهِ على التَّخلي عن تذوِّقها، لحظاتٌ مرَّت ناعمة وهو يتذوقُ شهدها ثمَّ تراجعَ برأسهِ يزيلُ الباقي بابهامه..
-كدا أحسن، ليه الروج ونكون ملفتين لغيرنا، دا يتحط ليَّا بس غير كدا لا..
ضربت قدمها بالأرضِ تشيرُ على شفتيها:
-كدا بوظت الدنيا، إزاي أخرج من غيره بس..وصلَ إلى المرآةِ وتناولَ إحدى المحرمات الورقية المبللة وقامَ بإزالتهِ بالكامل
-كلمة كمان وهضربك بالقلم على وشك، دا يتنيل يتحطّ في البيت، وياله ولَّا أرجع في كلامي
طالعتهُ بنظراتٍ متلألئةٍ بالدموعِ ثمَّ تحرَّكت من أمامهِ دونَ حديث..
ركلَ المقعدَ يسبَّها بداخله، قابلتهما فريدة التي دلفت بعيونٍ حزبنة، توقَّفت أمامَ ميرال حينما وجدت عيناها تلمعُ بالدموع
مالك حبيبتي..عانقَ كفَّها ورسمَ ابتسامةٍ أمام فريدة:
-هبات في بيتنا الليلة، متعملوش حسابنا..قالها وسحبها متحرِّكًا للخارجِ
توقَّفت تراقبُ تحرُّكهم متمتمة:
-ربنا يهديك يابنِ جمال، شكلك عنيف وتاعب البنت معاك، معرفشِ جايب القسوة دي منين..
-كنتي فين ؟!.
تساءلَ بها مصطفى الذي خرجَ من مكتبه..طالعتهُ بصمتٍ لدقيقةٍ ثمَّ اقتربت منه:
-طلَّقني يامصطفى، الولاد كبروا ومبقوش محتاجيني، عايزة أرجَّع ولادي لحضني، إلياس لازم يعرف أنا أمُّه وإنتَ خايف على نفسك، أنا بقى مفيش حاجة أخسرها، عايز تعرف كنت فين ولَّا الأخبار عندك..
أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ يهزَّها بعنف:
-مفيش حد هيموِّت ولادك غيرك يامدام فريدة، إلياس من وقتِ مارحتي لراجح وبغباءك سلِّمتيه ابنك على طبق من دهب، باعت ناس ماشيين وراه في كلِّ مكان،افرحي بقى لحدِّ ما يرجعلِك مقتول، حاولت أفهِّمك دول تبع تنظيم ارهابي عالمي محدِّش قادر عليهم وفي أقرب وقت حدِّ فينا هيصفوه علشان مدام فريدة ترتاح.
-أنا عايزة أطلَّق يامصطفى، كلامك مبقاش مأثَّر معايا..طلَّقني وبس..شهقةٌ خرجت من أحدهم وسقطَ مابين يديهِ حتى تناثرَ محدثًا صوت، لتستديرَ للخلفِ لتجدَ غادة تتراجعُ بجسدها الذي ارتجفَ بشدَّةٍ وعينيها التي أصبحت كالشلال، مما جعلها تفقدُ الحركة لتهوى على الأرضية تحتضنُ ركبتيها وتهزُّ رأسها بعنف..
عند إلياس
ترجَّلَ من السيارةِ واتَّجهَ إليها يساعدها بالنزول،لمحَ أحدهم من خلالِ المرآة، ابتسامةٌ ساخرةٌ وهو يسحبُ كفَّيها ودلفَ للداخلِ يعرِّفُ عن نفسه ورقمَ حجزه..كانت تتحرَّكُ بجوارهِ لا تعلمُ اتسعدُ على اهتمامهِ أم تحزنُ على قسوته..
حاوطَ خصرها وتحرَّكَ إلى طاولتهم المحجوزةِ بمكانٍ هادئٍ على النيل، جذبَ المقعدَ وأشارَ إليها بالجلوس، لاحت نظرةٌ سريعةٌ بالخارج ..رفعَ هاتفه:
-ممنوع حد يقرَّب من العربية، اللي يقرَّب منها أقتله..قالها وأغلقَ الهاتف..
ضيَّقت عينيها واقتربت تستندُ على الطاولة:
-دا إيه الدم الشربات دا، علشان حد يقرَّب من عربيتك تقتله، أومال لو خطفها هتبعته جهنم..
جزَّ على أسنانهِ قائلًا:
-ميرو حبيبتي، خلِّيكي في أخبارك الفاشلة، هيَّ عربيتي ولَّا عربيتك..
وصلَ النادلَ لطلبِ الطعام ..غمزَ إليها:
-إيه عايزة محشي..كبحت ضحكاتها مبتعدةً بنظراتها عنه..طلبَ الطعامَ ثمَّ أشارَ إليها:
-هتاكلي إيه..ابتسمت قائلة:
-من اللي إنتَ هتاكله..أشارَ للنادلِ بالتحرُّك..ثمَّ تابعها بعينيهِ وهي تنظرُ إلى النيل..بسطَ كفَّيهِ يلمسُ كفيها التي تضعهُ على الطاولة..طالعها بابتسامةٍ قائلًا:
-الليلة هكون ملكية خاصة لحضرة جنابِ الصحفية، أيِّ حاجة نفسك فيها تحتِ أمرك.
انفرجَ ثغرها الرقيقُ بابتسامةٍ كوردةٍ ندية:
-أيِّ حاجة أيِّ حاجة..أومأ بعينيه:
-ملكك واللي تؤمري بيه.
نبرةٌ شجيَّةٌ ذبذبت كيانها لتجيبهُ بصوتها الرقيق:
-بس إنتَ ملكي من زمان..استمعَ إلى الموسيقى وتوقَّفَ يغلقُ حلَّتهُ ويبسطُ كفَّيهِ إليها يسحبها للرقص..حاوطَ خصرها ورفعَ يديها لتعانقَ رقبته، وباليدِ الأخرى تضعها على موضعِ نبضه
ويتحرَّكا على الموسيقى الهادئة..
-عايزة أرقص معاك كدا للصبح..
-أمم للصبح بس دا في بيتنا، علشان أعرف أخدك في حضني واستمتع بيكي كويس..
خدَّرَ جسدها بكلماتهِ التي أسكرتها كالخمرِ الذي يغيِّبُ العقل، فاقتربت تضعُ رأسها على صدرهِ موضعَ نبضهِ وأغمضت عينيها تستمتعُ بنبضِ قلبهِ تحت رأسها..حاوطَ خصرها والسعادةُ ترفرفُ حولهِ كالفراشة..دقائقَ من الصمتِ وهما يتراقصان على النغماتِ الرومانسية..
همسةٌ ضعيفةٌ أخرجتها من حالتها..لتعتدلَ يشيرُ إليها بالتوَّقف:
-الرقصة خلصت والأكل جه..تحرَّكت إلى الطاولةِ وقلبها يتراقصُ بحبورٍ من السعادة..
بعد فترة من تناولهم الطعام
بحب الموسيقى دي ينفع نرقص عليها ولا هتقولي كفاية رقصنا مرة
صمت ينظر حوله، بدأ المطعم بالهدوء، فلا يدخله سوى الطبقة الراقية،تنهيدة عميق ليتوقف بعدها وأشار إليها بالوقوف، تحركت مع إلى ساحة الرقص وهي تتدندن كلمات الأغنية وتتراقص بهدوء ..ابتسم عليها
-متجوز عيلة ..رفعت حاجبها ساخرة ثم اردفت
-تعرف في الشغل مش مصدقين انك جوزي
يابنتي المفروض تبقي فخورة من مجرَّد إنِّك مراتي..ابتسمت تراقبه بعيناها
-أيوة أيوة ماأنا فخورة أهو ومن كترِ افتخاري طولت اتنين متر..
-تريقة دي، شامم ريحة تريقة.
استدارت وهو يلفُّ بها، ثمَّ جذبها إليهِ مرَّةً أخرى:
-لا ياحبيبي مش تريقة هو في حد يعرف يتريق معاك، انتَ أخرك ابتسامة صفرة، توقَّفَ عن الرقص، وتقدَّمَ بخطواتٍ ثابتة، يسحبُ كفيها
-طيِّب ياله مفيش سهرة، وهعرَّفك الضحكة الصفرة، خطا بخطواتهِ الواسعةِ يسحبها خلفهِ وهي تنهرهُ محاولةَ الفكاكَ من قبضته، ولكنَّ قبضتهِ كانت كالأصفاد الحديدية، توقَّفَ على صوتِ أحدهم:
-ميرال..التفتت إلى مصدرِ الصوت الذكوري، تركَ كفَّها مع اقترابِ أحد الأشخاصِ الذي ابتسمَ يبسطُ كفِّه:
-مصدقشِ عيوني، مين ميرال لبست حجاب، لا الصراحة، صاعقة كبيرة ..قالها وهو يعانقُ كفَّها وتابعَ حديثه:
-فينك يابنتي وحشتيني زعلت لمَّا عرفت إنِّك سيبتي الجريدة..
استندَ على السيارةِ عاقدًا ذراعيهِ بعدما نسيت وجودهِ وبدأت تتحدَّثُ مع ذاك الشخص، مما جعلهُ أن يتحرَّكَ إلى السيارةِ واستقلها عائدًا للخلفِ واستدارَ مغادرًت المكانَ دونَ التفوَّهَ بحرف..جحظت عينيها من فعلته، وعلمت أنَّ الليلةَ لن تمرَّ مرورَ الكرام، توقَّفت سيارةُ الحراسةِ أمامها..
-استقلَّتها بصمتٍ تام ، وهي تحاولُ مهاتفتهِ عدَّةِ مراتٍ ولكنَّهُ لم يجب عليها، هتفت إلى السائق:
-وديني للباشا..
بسيارةِ إلياس ..نظرَ للطريقِ بغضبٍ جحيمي، وعينيهِ تخرجُ نيرانٍ يريدُ أن يحرقَ مايقابله، كلَّما تذكَّرَ اقترابَ أحدهم ولمسها، لمحَ السيارةُ التي تراقبهُ منذ فترة، طرقَ على المقودِ وعقلهِ يتحرَّكُ بكافةِ الاتجاهات، حتى غيَّرَ مساره واتَّجهَ إلى مكتبه..
-الباشا مش راجع البيت ياهانم، تروحي ولَّا..قاطعتهُ قائلة:
-وديني عنده..بعدَ دقائق َوصلت إلى مكتبهِ تبحثُ عنه .كان متوقِّفًا أمامَ النافذةِ ينظرُ للخارجِ وهو ينفثُ سيجارتهِ بهدوءٍ رغم ضحيجهِ الكامنِ بصدره...استمعَ إلى خطواتها بالخلف، ظلَّ كما هو، اقتربت منهُ تعقدُ ذراعها أمامَ صدرها:
-حلو الموقف اللي حطتني فيه..التفتَ إليها وثبَّتَ مقلتيهِ على عينيها للحظاتٍ حتى شعرت برعشةِ خوفٍ من تلك النظرات..اقترب وسحبها دون حديثٍ حتى وصلَ لإحدى الغرف ووضعها بها:
-خلِّيكي هنا للصبح يمكن تترَّبي وتعرفي قيمة الراجل اللي إنتِ متجوزاه، وتحترميه قدام الناس، خلِّي شوية كلام الحب ينفعوكي..قالها وأغلقَ البابَ خلفهِ متحرِّكًا للخارجِ يجذبُ سترتهِ متِّجهًا إلى الأسفلِ في وسطِ ذهولِ كل الموجودين..استقلَّ سيارتهِ وعادَ إلى المنزل..
كانت بالحديقةِ تنظرُ أمامها بحزنٍ على ماصارَ اليوم، فاليومَ خسرت أحدَ أبنائها ولولا تدخلِ إسلام لكانت فقدت مصطفى للأبد، قفلت جفونها وبكت بصمتٍ كيف ستواجهُ الجميعَ حتى تعودَ إليها كلمة الأمومة التي سلبوها دون رحمة، استمعت إلى هاتفها نظرت إليه وتركتهُ يصدحُ بعدما تيقَّنت أنهُ راجح...ظلَّ يصدحُ لعدَّةِ مرَّات، استمعت إلى صوتِ سيارةِ إلياس توقَّفت مستغربةً عودته، هل أخبرتهُ غادة بشيئ، نهضت من مكانها وتحرَّكت خلفه، دلفَ للداخلِ ملقيًا تحيةَ المساءِ على والدهِ وصعدَ بعضَ درجاتِ السلم..
أوقفتهُ فريدة متسائلة:
-ميرال فين..صعدَ بطريقهِ وأجابها:
-محبوسة، توقَّفَ مستديرًا لوالده:
-مراتي عايزة تتربَّى، أتمنَّى من حضرتك ماتدخلش بينا...لم يعيرهُ مصطفى الذي لم يستمع إليهِ فكان شاردًا بما صارَ اليوم ..
-اتجننت حابس مراتك وفخور أوي ..رمقها بنظرة غاضبة:
-وبعدهالك بقى، متخلنيش أقلب عليكي.. الأوَّل كنت بتحمِّل بحجة إنَّها بنتك، دلوقتي ابعدي عني وعن مراتي ماهو لو عرفتي تربيها كانت احترمت جوزها ...توقَّفت مصدومةً لما استمعت إليه، اتَّجهت ببصرها لمصطفى الذي أفاقَ على صريخِ إلياس ..ابتسمَ ساخرًا ثمَّ توقَّفَ وتحرَّكَ إلى وقوفه:
-ربيها علشان متفكرشِ إنَّك ضعيف وبعد كدا تستهبلك..ألقى كلماتهِ كالقنبلةِ الموقوتةِ لتنفجرَ أمامهما، مما جعلَ إلياس متيبسًا بوقوفه، ذهبَ ببصرهِ سريعًا إلى فريدة يرمقها بنظراتٍ كالسهامِ الناريةِ حينما لمحَ الانكسارَ والضعفَ بنبرةِ والده:
-إيه اللي حصل؟..
ربتَ على كتفهِ وتحرَّكَ من جوارهِ دون حديث..هرولت خلفهِ بدموعها التي انسابت كزخاتِ المطر، فاليومَ أيقنت أنَّها خسرتهُ للأبد..
-أسبوعٌ مرَّ على الجميعِ كالعاصفةِ التي اقتلعت كلَّ ماقابلها..
بغرفتهِ نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الغرفةِ المجاورة، وقفَ على أعتابها:
-قدامك عشر دقايق تجهزي فيهم علشان الطيارة ..نهضت بسكونٍ غير معتاد عليه، واتَّجهت إلى خزانتها وارتدت ثيابها المكونةِ من بنطالٍ واسعٍ باللونِ الأسودِ وكنزةٍ باللونِ الأبيضِ وحجابٍ يجمعُ اللونين، خرجت متجهةً إلى غرفةِ غادة الحاضرة الغائبة منذ أسبوع ولا تعلمَ بماذا أصابها، لقد ماتت حيويتها وأصبحت جسدًا بلا روح ..انحنت تقبِّلها قائلةً بنبرةٍ هادئة:
-مسافرة مع أخوكي، فين معرفش، قرَّر وحكم، هتوحشيني أتمنَّى لمَّا أرجع تحكيلي أنا حزينة ومعرفشِ إيه اللي حصلِك..
دلفَ إلياس إليها يشيرُ بعينيهِ إلى ميرال بالمغادرة ..انحنى يضمُّ وجهها يلمسُ وجنتيها بحنانٍ أخوي:
-زعلانة علشان ميرال مش كدا، طيب لو قولتلك عملت دا علشان أحميها هترجعي تضحكي تاني، إيه رأيك تيجي معانا، مع إنِّي مش عايز عزول، مراتي عايز أستفرد بيها وأدلَّعها شوية..
كانت تنظرُ إليه بدموعِ عيناها التي تنسابُ بصمت...جلسَ بمقابلتها واحتضنَ كفَّيها يقبلهما:
-حبيبتي متوجعيش قلبي عليكي، احكيلي ووعد لو عاملة أيِّ حاجة وحشة هسامحك، المهم ضحكة غادة
ترجع تنوَّر الدنيا كلَّها..ارتجفت شفتيها وكثرت دموعها حتى أصدرت شهقات، ضمَّها إلى أحضانه:
-غادة دموعك بتقتلني، نفسي أعرف إيه اللي حصل لدا كلُّه، مين مزعلِّك أوي كدا ..ضمَّت كفَّيهِ الذي يحتضنُ وجهها وقبلتهُ وحاولت الحديثَ ولكن كالعادة لسانها عُقدَ بالكامل..دلفت فريدة تحملُ طعامها وجذبت المقعدَ تجلسُ بمقابلتها ..ابتعدت عن الياس ونظرت للخارج مبتعدةً عن نظراتِ فريدة..
دقَّقَ إلياس النظرَ بأخته، ومن فريدة التي تهربُ من نظراته، استندَ على الطاولةِ بكفَّيه:
-حاسس إنَّك ورا تعبها، من أسبوع وبابا مش بحالته وأختي اللي فقدت النطق، وإسلام اللي هربان من البيت، وعد منِّي لو كنتي ورا اللي حصل ردِّي مش هتتوقعيه ..شهقةٌ خرجت من غادة تضعُ كفَّيها على وجهها تبكي بنشيجٍ أدمى القلوبَ مما جعلَ فريدة تقتربُ منها وتحتويها بين أحضانها ..احتضنتها بقوَّةٍ مع بكائها الذي أصمَّ أذنه، فغادرَ مهرولًا المكانَ بأكمله..
.بعد عدَّةِ ساعاتٍ بأحد الجزرِ الإيطالية، أفاقَ من نومه يبحثُ عنها، ذهب ببصرهِ لجلوسها على الشاطئ تتلاعبُ برمالهِ وتذهب بشرودها للبحر..اعتدل يجذبُ ملابسه ثمَّ رفع هاتفه:
-إيه الاخبار؟.،
-مفيش جديد ياباشا، بيراقب البيت كالعادة.. والساعي أخباره ايه؟..
-من الليلة إياها وهو مختفي.
-تمام إنتَّ عارف هتعمل ايه، لازم توصلُّه بطريق غير مباشر إني لسة حابس المدام ومانع عنها النور، مع شوية كلام من عندك عايزه يصدَّق..
-أوامرك ياباشا..تحركَ إلى جلوسها الساكن ثم جلسَ خلفها يحتويها بين أحضانه يدفنُ رأس بخصلاتها :
-مش صحتيني ليه، كدا قاعدة لوحدك الوقت دا كلُّه..
ارتفعت دقاتُ قلبها بعنف وهي تنفرُ من نفسها من عشقه الذي يزداد، ليته ينقص بما يفعله بها قرَّبها إليها بحنان وحاوط جسدها حتى اختفى بالكامل داخل أحضانهِ وقبلةٌ على عنقها:
-وحشتيني..ظلت ساكنة سوى من نبضها العنيف، مما جعلهُ يحركُ أنامله على جسدها لتردف:
-مبسوط باللي بتعمله معايا ياالياس، يعني دا حب ولا عذاب..
أدارها إليها :
-لو عليا فأنا سعيد جدا بوجودك في حياتي المهم تكوني في حضني..
-بالعذاب..أكون في حضنك بعذابي ودموعي، مفيش غلطة بتعديها..
-وأعدي غلطك ليه، مش اللي بيغلط المفروض يتحاسب؟..
-طيب لو قولتلك العلاقة دي بتأذيني
هتصمِّم برضو..
ابتسم يداعبُ وجنتيها:
-طيب لو قولتلك عملت كل دا علشان أجيبك هنا وتفضلي في حضني..
-مش عايزاه الحضن دا.
-بجد ياميرال ..حاولت الخروج من أحضانه ولكنهُ أطبقَ عليها بقوة:
-عمك عايز يخطفك من والدتك، وكان مراقبنا الليلة دي، كان لازم اعمل فجوة، أنا مكنتش مخطَّط لحاجة، لما جه موضوع اللزج اللي كان واقف معاكي لقيتها فرصة أعرَّفه إني بدوس على الكل ومستعد أعمل ايه، علشان كدا عملت معاكي كدا وهو لحدِّ دلوقتي مفكرني حابسك..
-ايه اللي بتقوله دا ..نهض ينفضُ ثيابه وانحنى يحملها:
-لا دا مش موضوعنا، انا مش جايبك هنا علشان أحكي عن مرمطة عمك ورايا، وحياتي عندك لأخليه يقول حقي برقبتي، عايز يخطفك من حضني، يرضيكي يبعدك عن حضنِ المسكَّر.
-بس عمي ليه عايزني، مش الحق مع ماما..ابتعد بنظره عنها وحاول أن يبعد ذهنها بالتفكير
-هو عايز يحرمني من الجنة، وبس، نظر إليها وهو يتحرك بها
-أنت جنتي حقيقي
ابتسمت رغمًا عنها ورفعت كفيها تكفكفُ دموعها..داعبَ أنفها المحمرَّة بأنفه:
"مش مسموح لأي مخلوق ياخدك من حضني إلا إنتِ اللي مسموح لك تبعدي وقت ماتحسي إنك بتكرهيني أو أنا بكرهك"
أنزلها ببطئٍ محاوطًا جسدها، رفعت عيناها تعانق عيناه اللامعةِ بعشقها:
-إنت عملت دا علشان عمي مايوصلنيش فعلا..حاوطَ جسدها بذراعه:
-ومستعد أقتله كمان، لو مش مصدَّقة خليه يقرب منك وشوفي هعمل ايه..
أفلتت ضحكةً ناعمةً حتى تحولَ وجهها للوحةٍ مرسومةٍ من البهجة..لمس وجنتيها ونزل بجانب أذنها:
-وحشتيني أوي حبيبي مش ناوي تروي قلبي اللي أصبح صحرا وجفا من البعاد
همست بشفتينِ مرتجفتين:
-وحشتني أوي ..خطف روحها ليغيب عن الدنيا بدقاتهما العنيفة ويرتوي بنهرِ العشق، وهو يحركُ شفتيهِ مغردًا كالطائر بحبها ليتوقفَ كل مايحاوطونه، حتى توقفت عقارب الساعة بزمنها من حولهما من عذوبةِ اللقاء الذي أحرقهُ الشوق،
وآهة طويلة كانت أبلغُ من أي شعور عما يشعر به، أسبوعًا جافيًا منها حتى شعر وكأنَّها ألقتهُ بسعير جهنم ..إلى أن جمعهما عزف قلوبهما مرة أخرى ، لتعانقَ روحه روحها وتهتزُّ أوتار قلوبهما ..لتلهب حواس العشق جميعها ولا تنطفئُ سوى بالقرب ِالذي لا ينطفئُ نيرانهِ دون وصال..
دقائق ربما ساعات مرت ناعمةً بينهما كاالترانيم التي تشدو بأعذبِ الألحان
ورغم الشعور بالهدوء الذي غلَّفَ المكان واستكانت الأرواح باللقاء إلا أنَّها مازالت رغبةُ العشقِ متأججة بداخلهما، قرَّبها بحنانٍ يزيل خصلاتها من فوق وجهها واعتصرها بأحضانه، لتذوبَ به كأنهُ أول مرة يقتربُ منها، داعبت وجههِ بأناملها وهي تردُّدُ كلمات الأغنية التي تصدحُ بصوتها الهادئ بالمكان..
تنهدَ بصوتٍ عالٍ حتى ارتفع صدره وتنفس بهدوء..اعتدلت مستندةً على كفَّيها
-التنهيدة دي علشان بغنِّي ومضايق من صوتي ولَّا..
ومضت عيناه وهو يحاورها بعينه للحظات، حتى انحنت تطبع قبلة على خاصته هامسة
-لا مش هتفضل ساكت كدا وأنا أكلم نفسي زي المجنونة..
ابتسم بعذوبةٍ يقبُّلُ كفيها:
-مش يمكن التنهيدة دي بعد رجوع روحي لجسمي تاني..
توردت وجنتيها بعدما علمت بمغذى حديثه، وذابت كل آلامها لتقتربَ منه:
-كنت متأكدة إنك بتحبني، وقولت مستحيل تبعد عني.
شعر وكأنهُ طائرٌ يرفرفُ ويشدو كالبلبل، ليجذبها من عنقها:
-زي ماأنا متأكد إني مدفون هنا..ماهو مش ادفنك هنا وأنتِ تدفيني برة، قالها وهو يضع كفيها على قلبهِ ثم انحنى يعزف لها بخبرتهِ أعذب الألحان يقطف شهدها ويخبرها أنها وحدها من تربعت على عرشه، مرَّةً أخرى، لم يستطع إبعادها أو تلاشيها كأنهُ عريسٌ ليلة زفافه، دقائق كاللحظات شعرت بها متنهدةً بجمالِ النبض، ليفوق الجمال وهو يدندنُ بكلماتِ الأغنية مداعبًا خصلاتها، وهي تراقب كل إنشٍ ينطقهُ وعيناه التي تحكي الكثير والكثير حتى لم تقو على الصمت؛ لتنطقَ كلمات جعلتهُ يشعر وكأنَّ الكون توقف من حوله ليكتفي بها وحدها ولا يريد أن يرى سوى جمالها الطاغي، ويسمعَ نبضها الذي يعزف اسمه..
ظل صامتًا يرددُ ما ألقته:
-بتقولي ايه ..سحبت كفهِ وضعتهُ على أحشائها
-حبيبي هنا بذرة حبنا، حامل في شهرين ..
ساد صمتٌ عميقٌ بنظرات العشق وارتسمت فوق محيَّاه ابتسامةٍ عذبةٍ وهو ينظر إلى كفيه التي تضعه على بطنها وكلمة الحمل تخترق سمعه..
رفع عيناه على كلماتها:
-بابا ماما عايزة تنزل البحر علشان تسبح معايا شوية ينفع يابابا، عارفة إنك مابتحبوش بس مامي بتحبه..
كلمات ماهي سوى كلماتٍ ولكن بأحرفٍ من الذهب حتى ارتجف جسده بالكامل يردد "بابا"..انقضَّ على شفتيها ينهل من عسلها ما يطفئُ نيرانه المتأججة التي أشعلتها بداخله من ذاك الخبر..
بعد عدة دقائق وكفيه يتجول على احشائها
-هيكون عندي ولد
اتسعت ابتسامته وبدأ يقهقهُ بصوت مرتفع ينظر لوجهها الذي أشعَّ ضياءً وبهجةً وعينيه تعترفُ لعينيها بالكثير من المشاعر قبل لسانه ورددَ بولهٍ من جمال تلك اللحظات:
"بحبك وبعشقك وبموت فيكي، حطي دول كلهم على بعض وهاتيلي ميرال الصغيرة..
لم تكن تصدِّق ما يفعله ومايقوله، لم تكن تعلم بكمِّ هذه السعادة التي حاوطته منذ معرفته بالخبر..
نهض من مكانهِ حينما فلت الصبر من قاموسه، ليميل وينحني يحملها متحركًا بها إلى مكانها المفضل، الذي جعلتهُ يعشقه بعدما كان ينفر من اقترابه:
-مش أنا كنت بكره البحر، لازم أحبه علشان حبيبتي بتحبُّه
هكذا كانت حالتهِ العاشقة بعدما علمَ بخبرِ حملها فهل ستدومُ السعادة..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
"وكانت تناديه حين يُبكيها : يا ندبة القلب، يا جُرحي الذي لن يندمل، وحين يُضحكها : يا لون السماء إذا أتىٰ ربيعها، وبهجة الأرض بالمطر! كان رجلاً واحداً؛ وتحوَّلت في حبِّه لأكثر من امرأة كي تجاريه، كي تحتمل وتستقبل سعادتها به وحزنها منه في آنٍ واحد..
فـ كم هي قاسية التراكمات التي تجعلنا نقسو رغمَ حنانِنا وننطوي على أنفسنا رغمَ حاجتنا للآخرين ونصمُت رغمَ تَكَدُّس الكلمات في صدورنا
كم هي قاسية التراكمات التي تُجبرنا على أن نبدو غير حقيقتنا
لا عُذرَ يقنعُني ... بأنّك … مُجبَرٌ
في الحُبِّ لا تجدي معي الأعذارُ
دارت بنا الدُنيا وأنت تركتني
وغـداً بها تتـبدل ... الأدوار
رفرفت بأهدابها الكثيفة، ثمَّ فتحت عيناها بتمهُّل، لتقعَ على وجههِ القريب وهو يغفو بنومهِ الثابت، كالذي لم ينم منذ فترةٍ طويلة..ظلَّت تطالعهُ لبعضِ الوقتِ وذكرياتُ ليلةِ الأمسِ تمرُّ أمامَ عيناها..ابتسامةٌ خجلةٌ حينما تذكَّرت تحرُّرهِ لأوَّلِ مرَّةٍ معها ليظهرَ الشخصُ العاشقُ الذي تمنَّتهُ منذُ سنوات..رفعت أناملها تمرِّرُها على وجههِ بهدوء، وكأنَّها نحَّاتٌ ليرسمَ ملامحه..دنت تستنشقُ رائحةَ أنفاسهِ بتلذُّذٍ مغمضةَ العينين.
فتحَ عينيهِ حينما شعرَ بحركةِ أناملها فوقَ وجهه، ابتسامةٌ أنارت وجهه، ليمرَّرَ أناملهِ على جسدها، تراجعت فزعةً مع قهقهاتٍ وهو يجذبها لأحضانه:
-إيه دا ياإلياس خضِّتني..قرَّبها إليهِ بحنانِ ذراعيه:
-سلامة قلبك من الخضَّة ياميرو.
لمعت عيناها بالسعادةِ تتمتم:
-أوَّل مرَّة من وقتِ مااتجوِّزنا، يبقى صباحنا حلو كدا، تعرف اتمنِّيت تكون كدا من وقتِ مااتجوِّزنا، أصحى من النوم وتقولِّي صباحك ورد ياحبيبي.
مرَّرت أناملها على وجههِ وتابعت حديثها:
-عايزة ولد يكون شبهك..ابتسمَ على مداعبتها وأردفَ مجيبًا:
-مابلاش شبهي، علشان لمَّا يكبر مايلقيش اللي يزهَّقه في عيشته، وكلِّ شوية تتنطَّط عليه وخصوصًا لو كانت حلوة زيك..
جملةٌ أشعلت قلبها بعشقه، ليزدادَ النبضُ داخلَ صدرها، دنت منهُ ودفنت رأسها بأحضانهِ تتمتم:
-حرام عليك ياإلياس بجد، ليه تعمل فيَّا دا كلُّه، يعني أقول فيك إيه دلوقتي مش قادرة أزعل منَّك..سنين عذاب وفراق وبس ليه علشان حضرتَك قرَّرت تعاقبني وتعاقب نفسك لأوهام في عقلك..لو بس إدِّيت لقلبك فرصة وجيت ووقفت قدَّامي وسألتني، حتى لو مسألتش، لو بصيت في عيوني كنت عرفت قدِّ إيه بموت من نظراتك اللي بتقهرني، لو كان بإيدي كنت رميت نفسي في حضنك وقولتلَك كفاية وجع وفراق..
مسَّدَ على ظهرها فلقد فتحت كلماتها أبوابَ قلبهِ الموصدة التي أتقنَ بإخفائها لسنوات..
-ميرال عندي أسبابي، وبعدين كنت إتجوزي حد قالِّك تستني دا كلُّه..
اتسعَ بؤبؤُ عينيها، وشعرت بصقيعٍ بكافةِ أجزاءِ جسدها..
-بجد يعني مكنشِ هيفرق معاك؟!..
-يفرق معايا، ليه..واحدة كلِّ شوية تتنطَّط من هنا لهنا مع واحد شكل، أزعل عليها ليه وهي دايسة بالقوي..
رفعت رأسها واغروقت عينيها بماءِ الندمِ قائلة:
-مكنتش قاصدة أزعَّلك أو أقلِّ منَّك أبدًا، أنا كنت طالبة منَّك تديني أهمية حتى لو بسيطة، بس إنتَ كنت قاسي أوي، وكلِّ اللي عليك إنِّي متخلفة ومبفهمش، تعبت أوي وتعبتني معاك،
كنت مفكَّرة لمَّا أعمل كدا أحرَّك قلبك، بس كنت غلطانة..
اعتدلَ على الفراشِ يجذبُ ثيابهِ ورمقها بنظرةٍ جانبية:
-ميرال إنتِ جاية تتكلِّمي في الماضي ليه، إحنا اتجوزنا دلوقتي، وإنتِ حامل، ادفني الماضي، علشان لو فتحته هضايقِك صدَّقيني وهتطلعي خسرانة، مش عايز أفتكر غير إنِّك مراتي وحبيبتي وبس دلوقتي..نهضَ من فوق الفراشِ واتَّجهَ إلى الحمامِ قائلًا وهو يواليها ظهره:
-قومي اجهزي علشان هنخرج..
تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجتها بحزن، فمهما يحدث سيظلُّ كما هو، وضعت كفَّيها على أحشائها تكلِّمُ جنينها:
-شوفت بابي دايمًا قاسي على مامي، يمكن لمَّا تيجي قلبه يحنِّ شوية..
استمعَ إلى حديثها بابتسامةٍ عريضة، ليلتفتَ ينظرُ إليها وهي تكلِّمُ جنينهما، هزَّ رأسهِ ومازالت ابتسامةٌ تُرسمُ على محيَّاه، تحرَّكَ دون حديث..
بعدَ فترةٍ انتهت من ارتداءِ ثيابها، دلفَ يبحثُ عنها وجدها ترتدي حذاءها، أوقفها وهو يحملُ صندوقٌ ورقيٌّ مزيَّن،
ضيَّقت عينيها متسائلة:
-إيه دا..سحبَ كفَّها واتَّجهَ بها إلى المقعد:
-اقعدي علشان أشوفه كدا ..نظرَت للذي بيديهِ وهو يقومُ بفتحها، دقيقةٌ وانتهى من فتحها ليخرجَ حذاءً رياضيًا خفيفًا، جلسَ أمامها على عقبيه، ثمَّ رفعَ قدمها وألبسها إياهُ وسطَ ذهولها..رفعَ رأسهِ مبتسمًا:
-شكله حلو على رجلك، بلاش من الكعب علشان ميتعبكيش في الحمل..
استندت على كتفه، للحظات ثم توقَّفت تنظرُ إلي خطواتها تضحكُ بصوتٍ مرتفع، وأشارت على نفسها:
-ألبس أرضي، عمري ما فكَّرت فيها..
مطَّ شفتيهِ يطالعها بنزق، ثمَّ اقتربَ يجذبها من خصرها:
-مش عايز تريقة، كعب مش هتلبسيه، ممكن يتعبك أو توقعي وإنتِ ماشاء الله عارف حركاتك الهبلة..
ابتعدت عن أحضانهِ وزفرت بغيظ من كلماتهِ وأردفت ممتعضة:
-لا متخافش على ابنك هحميه ومش هأذيه أكيد، الأرضي دا معرفشِ أمشي بيه ومتحاولشِ تقنعني..
اتَّجهَ إلى نظارتهِ وهاتفهِ وسحب َكفَّها متَّجهًا للخارج:
-مين قالِّك إنِّي بقنعك، أنا بقولِّك البسيه، مش باخد رأيك..توقّّفت تسحبُ يديها، وحرَّرت نفسًا ناعمًا، وهي متخصِّرة:
-وبعدهالك ياإلياس، إنتَ كدا هتكرَّهني في الحمل، لسة يادوب عرفت إمبارح، وبدأت تحطّ قوانين أومال لمَّا يعدي كام شهر هتعمل إيه، أنا مش عايزة أغيَّر حياتي علشان الحمل..
انعقدَ لسانهِ من حديثها، فاستدارَ متحرِّكًا للخارجِ قائلًا:
-مش هنتظر كتير، العربية وصلت برَّة، ياإما نرجع مصر، توقَّفَ واستدارَ إليها:
-متخلنيش أندم على حبِّك ياميرال، وأنا مستحيل أذيكي، ومفيش حدِّ هيخاف عليكي قدِّي، ياريت تفهمي دا..
وصلَ إلى السيارة يتوقَّفُ مع الرجل الذي قامَ باستئجارها له..استقلَّها وجلسَ ينتظرها، فتحت البابَ وجلست بجوارهِ دون حديث، وصلَ إلى أحدِ المطاعمِ المشهورةِ بذاك المكان لتناولِ الطعام، ثمَّ توقَّف:
-قومي نتجوَّل شوية فيه أماكن كتير حلوة هنا، وشلالات هتغيَّر مزاجك..
نهضت دون حديثٍ وتحرَّكت بجواره، ووجهها عبارةً عن لوحةٍ من الألمِ والحزن..حاوطَ جسدها يضمُّها إلى صدرهِ ثمَّ طبعَ قبلةً فوق رأسها:
-متزعليش مني، بس أنا بعمل الصح، وتعرفي لبس الكعب اللي بيعمل صوت حرام أصلًا، ..رفعت رأسها قائلة:
-إزاي يعني حرام، عادي دا بيكون للأناقة؟!..
ابتسمَ وضمَّها بقوَّةٍ قائلًا:
-حبيبي اللي مش عارف حاجة في دينه غير أنُّه مسلم بس، أعمل فيكي إيه، دا حتى لبس الحجاب جنِّنتي أبويا نفسه فيه.
-واللهِ عمُّو مصطفى عاقل إنتَ اللي مجنون مش هوَّ..
قهقهَ بصوتٍ مرتفع، ونظرَ حولهِ يجذبُ رأسها إلى صدرهِ ولفَّ ذراعهِ حولها:
-واللهِ لو مش في الشارع كنت عرفت أحاسب لسانك العسل اللي بيضرب طوب دا..
لكمتهُ بصدرهِ بقوَّة:
-أنا مضايقة منَّك بجد، وإنتَ بتضحك، شوية شوية هتلبِّسني ملحفة..
أخرجها من أحضانهِ ورفع ذقنها ينظرُ لعينيها:
-ياريت، واللهِ نفسي، وياسلام لو تسيبي الشغل وتقعدي تستنِّي جوزك كدا لمَّا يرجع من الشغل، دا هيكون أحسن خبر منِّك.
رفعت حاجبها وطالعتهُ ساخرة:
-بتلفِّ على إيه يابنِ السيوفي، شغلي مش هسيبه، ومتخافشِ على ابنك، دا أغلى من روحي، مش علشان حضرتك أمرت، لا علشان إنتَ حبيبي ومتمنِّتشِ غير كدا..
نظر لعينيها التي قابلتهُ بعشقها الجارف الذي خُلقَ لها وبها، ليقرِّبَ جبينهِ فوق خاصَّتها وأظلمت عيناهُ برغبةٍ حارقةٍ لها وحدها، ولما لا وهي التي زلزلت كيانهِ وأخرجتهُ عن شخصيته، حتى أوصلتهُ إلى العجزِ أو البوحِ بكلماتٍ تعبِّرُ عن سردِ مشاعرهِ التي فاضَ بها قلبهِ لها..
لمست وجنتيهِ فضربت أنفاسهِ الحارَّة وجهها مما شعرت بإذابةِ ضلوعها وهو يلفُّ ذراعيهِ حولها بتملك؛ يريدُ أن يخبئها داخل ضلوعهِ لشدَّةِ طوفانِ عشقهِ الجارف..
-إلياس ..همست بها بصوتها الناعم، بعدما انفلتت سيطرتهِ ليميلَ إلى ثغرها المترنِّمَ بعشقه، لينهلَ من شهدها ولم يهتمَّ لأحدٍ سوى تذوِّقه..قبلةً رقيقةً أروت روحهِ وروحها، ليبتعدَ عنها يسحبُ كفَّها ويتحرَّكَ بعدما فقدَ اتزانه..
وصلَ إلى أحدِ الأماكنِ المشهورةِ بتلك المنطقة التي تسمى سيردينيا..منطقة تتمتَّعُ بالجمالِ تجمعُ الكثيرَ من المظاهرِ الطبيعية..جلست كعادتها بأحضانهِ متمددةَ الساقين..
-إيه لسة مش مرتاحة بالشوز؟..
نظرت إليهِ تحرِّكُ ساقيها وابتسمت ترفعُ رأسها لتنظرَ إليهِ من فوقِ رأسها:
-معرفشِ إزاي الفكرة الجنونية دي جاتلك..
مين قال.. أنا كنت منتظرك تحملي، بعد مالبستي الحجاب فكَّرت في كدا.
اعتدلت واستدارت إليه، سحبت نفسًا تحتضنُ كفَّيه:
-إلياس بلاش تخنقني حبيبي لو سمحت..لحظاتٌ من الصمت بينهما ونظراتهما التي تعلَّقت ببعضهما البعض،
ثمَّ رفعَ كفَّيها وقبَّلهما:
-ميرو قلبي فيه حاجات مينفعشِ نتهاون فيها، طيِّب هقولِّك على حاجة وإنتِ قرَّري..مش إحنا مسلمين، الإسلام مش كلمة وخلاص، ولا إنِّك تصلي وتصومي وبس، لا فيه سنن لازم نعملها، حاجات مينفعشِ نتهاون فيها.
ربِّنا أمر حبيبتي ينفع نتهاون بأمرِ ربِّنا
يعني لمَّا يقول في كتابهِ العزيز:
قال تعالى: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ"
أنا ببقى في أوضتي وسامع صوت الشوز بتاعك، طيب ليه نلفت الأنظار، أنا بحبِّك وعايزك تفهميني، مبحترمشِ الستِّ اللي بتخرج بزينة أو أيِّ حاجة تلفت النظر، ربِّنا خلقكم ملكات ليه ترخَّصوا نفسكم..
طوَّقت عنقهِ تخبئُ محيَّاها في حناياه، متحاشيةً النظرَ إليهِ حتى لايصطدمَ النقاشَ بينهما، هي تتمنَّى أن تتغيرَ ولكنَّها متردِّدةً لا تعلم ماذا عليها فعله..أخرجها ينظرُ إلى الأماكنِ التي تحاوطهم يشيرُ إليها:
-خدي نفس وغمَّضي عيونك، وشمِّي الريحة واسمعي صوت الميَّة كدا..
-ينفع أطلع فوق الجبل اللي هناك دا؟..
هزَّ رأسهِ بالرفض وهو يستمعُ إلى رنينِ هاتفه، أشارَ إليها:
-هرد على الفون وراجعلك، استمتعي..
قشعريرةٌ اختلجت كيانها وإحساسًا صادقًا بنبضِ قلبها له، بعدما ابتعدَ وهي تحاصرهُ بعينيها، تنظرُ إلى بعضِ الفتياتِ اللاتي ينظرنَ إليه بنظراتِ إعجاب، ظلَّت نظراتها عليهِ حتى تحرَّكت إحداهنَّ إليهِ وهي تحملُ كوبينِ من العصير، وابتسامةً على وجهها مقتربةً تضعُ كفَّها على كتفهِ وهو يواليها ظهره، ظلَّ يتحدَّثُ بهاتفهِ دون أن يردعها عمَّا تفعله..نهضت بهدوءٍ متَّجهةً إليه..توقَّفت عاقدةً ذراعيها أمامهِ تشيرُ بعينيها على تلك اللزجة، اتَّجهَ بنظرهِ بعدما وجدها أمامه، ينظرُ لتلك التي تلتصقُ به..ابتعدَ عنها بعدما كان يظنُّها زوجته:
-عفوا..ابتعدي !!
قالها وهو يجذبُ ميرال التي تُلقيها بنظراتٍ كالسهامِ النارية، تحرَّكَ بجوارها ولم ينبت بحرف..ظلَّ يتجوَّلُ جوارها بصمت..توقَّفَ بعدما وجدَ صمتها:
-مالك، إيه اللي حصل ؟!
-إزاي محستشِ بالبنت؟..
تحرَّكَ يدسُّ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله:
-حسيت، بس فكرَّتها إنتِ علشان كدا مهتمِّش..قالها وهو يركلُ الحصى بقدمه..
-ياسلام، يعني لو أنا مكانك كنت..توقَّفَ أمامها يليقها شزرًا، وتلاحقت أنفاسهِ الحارقةِ التي عصفت قلبهِ بنيرانٍ تريدُ أن تحرقها:
-إنتِ حامل، دا اللي شافعلك عندي دلوقتي، ومش معنى كدا هعدِّي كتير، بلاش ترمي الكلمة بكلمة، دنا منها وأطبقَ على فكَّيها يقرِّبها إلى وجههِ يتعمَّقُ بعينيها:
-بحبِّك ويمكن بعشقك، بس دا ميمنعشِ إنِّي أدوس عليكي لو حاولتي تستضعفي رجولتي، وأنا لو جيت في وقت استضعفت حبِّك، أو نزلت بكرامتك دوسي عليَّا وإنتِ مغمَّضمة، تمام..أنا مبكررشِ كلامي ياميرال، الحاجات دي مش تافهة علشان نهزَّر فيها..تراجعَ خطوةً وعانقَ ذراعها متحرِّكًا بجوارها وكأنَّهُ لم يفعل شيئًا..
وصلَ بعد قليلٍ إلى الشاليه، ألقى أشيائهِ بغضب، يفركُ وجههِ ودارَ حول نفسهِ من أفعالها..
دلفت خلفهِ بخطًا مرتعشة، وبملامح شاحبةٍ وروحٍ تبدو وكأنَّها سُلبت منها، وصلت إلى وقوفهِ متخصِّرًا:
-هتفضل حياتنا كدا، أنا مش مجبرة أتحمِّل عصبيتك الغير مبرَّرة دي، أنا بتكلِّم معاك بهدوء، إنتَ عملت منها مشكلة..
لم يلتفت إليها بل جذبَ سجائرهِ وتحرَّكَ إلى الشرفة، وكأنَّها هوى لم يشعر بها..جلست مكانها فلقد فاضَ بها غرورهِ القاسي، جلست تنظرُ بجمودٍ بأنحاءِ الغرفةِ لدقائق، ثمَّ نهضت متَّجهةً إلى بارئها ليزيلَ همومَ قلبها من زوجها القاسي..
ظلَّ بالشرفةِ ينفثُ رمادَ سجائرهِ بغضب، حتى فاقَ الغضبُ ليشعلَ صدره، لينهضَ من مكانهِ متَّجهًا إليها ومازالت كلماتها تحرقُ أذنه، وكأنَّها ألقتهُ بصوتِ رعدٍ أصابَه، دفعَ البابَ بقوَّةِ غضبهِ منها ومن نفسهِ الضعيفة أمامَ حبَّها، توقَّفَ لدى الباب بعدما وجدها تسجدُ ويهتزُّ جسدها بالبكاء، زفرةٌ بقوَّةٍ وتراجعَ للخارج، قامَ بنزعِ ثيابهِ متَّجهًا للمرحاضِ علَّهُ يزيلُ كتلةَ غضبهِ الناريًَّة..
خرجَ بعد دقائقَ معدودة، ودلفَ إليها بعدما وجدها مازالت بالداخل.. كما هي جالسةٌ على سجادةِ الصلاةِ تحتضنُ ركبتيها وتستندُ برأسها عليها، انحنى وحملها بين ذراعيهِ متَّجهًا بها إلى فراشهما، نزعَ إسدالَ صلاتها وجذبَ تلك المنامةِ التي تُوضعُ على الفراش وألبسها إياها، وعينيهِ تراقبُ خجلها منه، لم تتوَّقع منهُ ذلك، لملمَ خصلاتها وجمعها بربطةِ شعرها مبتسمًا بعدما أنهى فعلته:
-على آخرِ الزمن إلياس يجمع شعرك ويغيَّرلكِ الهدوم، ولا عمري فكَّرت فيها،
ناقص تعملي فيَّا إيه ياستِّ الصحفية..
كانت متجمِّدةً بوقوفها، فالقلبُ مازال يئنُّ من أفعاله، سحبها وجلسَ يجذبها لأحضانهِ بعدما وجدَ جمودها:
-ممكن أعرف إنتِ زعلانة ليه، إيه اللي عملته يدعو لنكد مدام ميرال..
استدارت ترمقهُ بعينانٍ جريحتان وأردفت:
-أنا زي ماإنتَ قولت بحبَّك أه بس مستحيل أقبل على نفسي الإهانة، أنا عدِّيت موضوع رؤى ياإلياس علشان عرفت أنُّه عقاب على اللي حصل بينا، مع إنِّ مفيش عقاب بين الستِّ والراجل يوصل للجواز، بس إهانة تانية ليَّا مش هسكت، حتى لو بعدت واتنازلت عن قلبي دا، الحبِّ اللي يكسرنا بلاش منه ياإلياس صح ولَّا إيه؟..
تجمَّدَ جسدهِ وصمتَ بطريقةٍ مقلقةٍ لقلبها، حتى تسلَّلَ الانهيارُ إلى قلبها الذي ينهرُها بما تفوَّهت بهِ إليه، تيقَّنت من صمتهِ أنَّهُ لن يمرِّرَهُ مرورَ الكرام..
تراجعَ بعدما كان يحاوطها بذراعه، ورفعَ هاتفه، يطلبُ طعامَهم، ثمَّ نهضَ متَّجهًا إلى خزانةِ الملابسِ ليرتدي ثيابه، ارتعشت شفتيها وهي تحاوطهُ بنظراتها متسائلة:
-إيه هنرجع مصر؟!..
أغلقَ زرَّ قميصه، واقتربَ منها فمهما بلغت قسوةُ الرجلَ للعقاب، ولكن يظلُّ ذاكَ النبضُ ينبضُ لمن يعشق..
-أنا طلبت الأكل، شوية ويجي، أنا خارج قدَّامي ساعتين عندي مشوار مهم..قالها وانحنى طابعًا قبلةً فوق جبينها ورسمَ ابتسامةً وهمَّ بالمغادرةِ إلَّا أنَّها أوقفتهُ متمتمة:
-هستناك لحدِّ ما ترجع..أومأ برأسهِ وهو يواليها ظهرهِ قائلًا:
-براحتك، مش هغصب عليكي.
أحيانًا تعجزُ الكلماتُ عن الردِّ بما يؤلمُ داخلنا..تحرَّكَ سريعًا من أمامها حتى لا يحدثَ بينهما مالايُحمدُ عواقبه..
عندَ أرسلان قبلَ يومين:
جلسَ بجوارها يحتضنُ كفَّيها وهي تغفو بنعيمٍ بأحضانه، ربتَ على خصلاتها برفقِ وحنانِ أناملهِ مرَّرها على وجهها منحنيًا يطبعُ قبلةً مطوَّلةً على وجنتيها..فتحت عينيها بتململ، ثمَّ همست بصوتٍ حاني:
-أرسلان إنتَ لسة منمتش؟..ابتسمَ ممسِّدًا على خصلاتها راسمًا ابتسامة:
-حبيبتي المهم إنِّك نمتي ومرتاحة، أنا مجاليش نوم، دسَّت نفسها بحنانِ أحضانهِ تهمسُ بخفوت:
-حبيبي متزعلشِِ أكيد ربِّنا هيعوَّض علينا المهم تكون جنبي..
تمدَّدَ يجذبها إلى صدره، وحاوطها بذراعه:
-مش زعلان، المهمِّ إنِّك بخير وسلامة، بس ليه مقولتليش ياغرام؟..
استندت بذقنها على صدره، ورفعت كفَّيها لوجههِ تنظرُ إليهِ بملامحها التي شحبت:
-كنت هقولَّك بس وقتها إنتَ خرجت لمَّا كنَّا في الفيلا، ولقيتك اتَّصلت وقولت إنَّك مسافر وخلِّيكي في الفيلا لمَّا ترجع، مكنشِ ينفع خبر زي دا يتقال في التليفون، كنت عايزة أفرَّح حبيب قلبي بس محصلشِ نصيب..قالتها بدموعِ الألمِ التي أنهكت روحها..
انحنى ملتقطًا ثغرها لبعضِ اللحظاتِ إلى أن خطفَ أنفاسها، لا يعلمُ لماذا يقبِّلها بتلك الطريقةِ الموجعة، هل بسببِ مايشعرُ بما يعتري قلبه، أم أنَّهُ يُخرجُ طاقتهِ المؤذيةِ حتى لا يُخرجَ أذيتهِ لأحدٍ بعدما علمَ من الطبيبِ أنَّ هناكَ جسمًا غريبًا بدمائها، ليصل به الشك أنَّ لها يدًا بعد إخفائها خبرَ حملها..
ابتعدَ منتفضًا بعدما تذوَّقَ دموعها واتَّجهَ للخارجِ سريعًا، وامتلأت عيناهُ بنيرانِ الغضبِ التي لو اقتربت من أحدهما لأحرقته..
هوى على الأريكةِ ومازالت النيرانُ تأكلُ أحشائه، بالداخلِ ظلَّت دموعها تنسابُ على خدَّيها لفترةٍ من الوقت، ثمَّ اعتدلت تجذبُ روبها وخطت إليه بالخارج ..وجدتهُ جالسًا ينفثُ سيجارتهِ بطريقةٍ انتقاميةٍ حتى اختفى خلف رمادها..اقتربت بخطواتٍ بطيئةٍ وهي تسعلُ من رائحةِ الدخان، رفعَ عينيهِ الحزينةِ التي خطَّها دموعُ الألم فلماذا يطعنهُ أحدهم بتلك الطريقةِ البشعة، وصلت إلى جلوسهِ وألقت نفسها بأحضانهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، بكاءًا بدموعِ الألمِ التي حاولت أن تخفيها حتى لا تحزنه، ولكنَّ الألمَ فاقَ قوَّةَ الاحتمالِ لتنفجرَ بركَ عينيها..
حاوطها بذراعيهِ يربتُ على ظهرها:
-اهدي أنا آسف مكنشِ قصدي أوجعك..
وضعت كفَّها على فمه:
-مش زعلانة منَّك، أنا بس موجوعة..
طالعها لدقائقَ بصمتٍ وهي تختفي بأحضانهِ كأنَّها تريدُ الهروبَ ممَّا يحيطها، رفعَ ذقنها يلمسُ وجنتيها:
-قومي إلبسي هنسافر.
هزَّت رأسها بالموافقةِ ليتوقَّف يسحبُ كفَّيها متجهًا للداخل..
عندَ آدم دلفَ إلى القاعة..صمتٌ تام بين الحضورِ بعد إلقاءهِ تحيَّةَ الصباح..
ذهبَ ببصرهِ إلى جلوسها الساكن وهي تمرِّرُ أوراقها تنظرُ بدفترها ولم تكترث لدلوفه..رفعت عينيها إليهِ بعدما تحدَّثَ قائلًا:
-فيه كام كورس هنراجع عليهم سريعًا علشان الناس اللي مش فاهمة أو اللي محضرتش، قبلِ الاختبارات..
طالعتهُ بنظراتها التي تحكي الكثير، وكأنَّها تحاورهُ بعينيها، كنتَ الشخص الذي أحببتهُ وتعلَّقتُ به حتى عشقتهُ حدَّ الوجع، كيف أغفرُ لقلبك الذي أشعرني بالخذلان، قلبكَ الذي غدرَ بقلبي الضعيف ليصلَ الحزنَ والألمَ إلى الشريان..
وضعت كفَّيها على وجهها بعدما فقدت سيطرتها على دموعها فلقد خانتها رغمًا عنها، وانزلقت تتدحرجُ بكمِّ ماتشعر به.
انفرجت شفتيهِ يضغطُ عليهما بعدما شعرَ بنغزةِ قلبه وبمغادرتهِ من بين ضلوعهِ على وضعها، تمنَّى لو يصلَ إليها ويسحقَ ضلوعها حتى يذيبها بين ذراعيه..لحظاتٌ ربما دقائق والنظراتُ بينهما تحكي الكثيرَ من الخذلانِ والعتاب..
سحبَ بصرهِ إلى كافةِ القاعةِ ولم ينظر إليها، رسمَ قناعًا باردًا فوق ملامحه،
وبدأ يشرحُ بطريقتهِ السلسة كعادتهِ ولكن ليس ككلِّ مرَّة، روحٌ غائبةٌ وملامحَ شاحبة، حاول الابتعادَ بنظرهِ عنها طيلةِ المحاضرةِ إلى أن انتهى وبدأت الطالباتُ بالتوجُّهِ إليهِ لمناقشتهِ ببعضِ النقاط، ظلَّت كما هي..ربتت خديجة على ذراعها:
-هتفضلي قاعدة كدا..نظرت إليها بشرودٍ وتمتمت:
-أااه، توقَّفت خديجة تسحبُ كفَّها:
-ياله حبيبتي، قولتلك بلاش تحضري بس إنتِ اللي أصرِّيتي..
-كان لازم أحضر ياخديجة، لازم أتعوِّد، هفضل لحدِّ إمتى هربانة اللي حصل حصل..قالتها والألمُ يحرقُ ضلوعها..رفعت ذراعها تساعدها على الوقوف:
-طب ياله حبيبتي الكلِّ بيبص علينا، ياله علشان كدا بيكون ضعف ليكي..
نهضت بتخبُّطٍ متحرِّكةٍ بروحها الضائعة، سارت بخطواتٍ واهنةٍ إلى أن وصلت إلى وقوفه..اعتذرَ وهمَّ بالمغادرة:
-بعد إذنكم ..قالها وتحرَّكَ إليها، اقتربَ منها وتوقَّفَ أمامها:
-عاملة إيه يابنتِ عمتي؟..
-كويسة..أجابتهُ بشفتينِ مرتجفتين..اقتربَ منهما بعضُ الطالباتِ ينظرن إلى توقفُهما بأعينٍ متسائلةٍ
ليستمعوا الى حديثه:
-لو احتجتي حاجة أكيد ابنِ خالك موجود..شهقةٌ من بعضِ الفتياتِ يطالعوهما، تسائلت إحداهنَّ:
-إيلين دكتور آدم قريبك ومخبية..رفرفت بأهدابها الكثيفة، تطالعهُ بأسفٍ على مانطقَ به أمام الطالبات، سحبَ كفَّها بعدما شاهدَ دموعها المتحجِّرة تحتَ جفنيها قائلًا:
-تعالي أوصَّلك في طريقي..تحرَّكت بهدوءٍ بجوارهِ بعدما فهمت لعبته، لقد كشفَ قرابتهما أمامَ الطلبة حتى يفعلُ ما يحلو له..وصلت إلى سيارتهِ وتوقَّفت متمتمةً بخفوت:
-مش مسموح لك تلمسني بعد كدا ولو مفكَّر إنِّي مشيت معاك برضايَ تبقى غلطان، أنا مشيت مضطرة يادكتور..
قالتها والخذلانُ يتفجَّرُ من عينيها كرصاصاتٍ مصوَّبةٍ إليه..
فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ إليها بعينيهِ ثمَّ أردف:
-اركبي، بدل ماأقول للكلِّ قرابتنا الأهم..
خطت إليهِ حتى لم يفصلَ بينهما سوى خطوةً ورفعت سبَّابتها تشيرُ إليه بتهديد:
-اسمعني كويس يادكتور، أنا مابتهدِّدش، وهقول حقيقة جوازنا، أنا مش طيقاك أصلًا، وأنا لو مكانك أتكسف، إزاي ليك عين توقف قدامي وتتبجَّح، إيه نسيت إنَّك خاين..
جذبها بقوَّةٍ لترتطمَ بصدرهِ في حالةٍ من الذهولِ أصابتها تتلفَّتُ حولها بخوف، انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها ولم يكترث لرجفةِ جسدها:
-بس لمَّا كنتي بين إيديَّا محستشِ بكدا، احمدي ربنا إنِّنا في الجامعة، متفكَّريش ورقة الطلاق هترحمك منِّي، بالعكس صعَّبتيها أكتر وأكتر ياإيلين آدم الرفاعي، اقعدي ردِّدي الاسم دا علشان مش هتخلَّى عنُّه..
توسَّعت حدقتها وانحبست أنفاسها داخلَ صدرها بعدما طغى برائحتهِ الرجوليةِ عليها، حتى تسلَّلَ إليها شعورُ استنشاقِ رائحتهِ أكثر وأكثر..
تراجعَ بعدما استمعَ لإحدهن:
-إيلين!!..ابتعدت بجسدٍ ينتفض، وكأنَّهُ كان يحاوطها بدفءِ ذراعيه، تحرَّكت بخطواتٍ واهنة، وعيناها تدفعُ الدمعَ بالدمع، ووجهها الذي سطرَ الحزنَ ملامحه..
فتحت بابَ سيارةِ رؤى برعشةِ يديها، ثمَّ أردفت بتقطُّعٍ وشهقاتٍ مرتفعة:
-رؤى ابعديني عن هنا بسرعة، بكاءًا مرتفعًا حتى شعرت رؤى أنَّها أصيبت الجنون..ظلَّت تتحرَّكُ بها إلى أن وصلت مكانًا هادئًا على النيل، لتتوقَّفَ بالسيارة، استدارت تلقي نفسها بأحضانها وتبكي بصوت مرتفع متمتة بتقطع
"هموت ، انا هموت يارؤى، آدم بيقتلني بكل حاجة، لا بعده مريحني ولا قربه مريحني
ربتت على ظهرها وحاولت تهدئتها:
-طب اهدي حبيبتي كلِّ حاجة وليها حل، حاولت أفهِّمك ياإيلين إنِّك مش هتقدري تعيشي بعيد عنُّه..
هزَّت رأسها تضربُ على صدرها بقوَّة:
-لازم أحرق دا، ليه لسة مصر يحبُّه بعد اللي عمله ليه يارؤى…
آااااااه صرخت بها تضربُ على صدرها بقوَّة، حاولت رؤى أن تخفِّفَ من آلامها ولكن كيف لقلبٍ أن يهدأ من احتراقِ حبيبه..
عندَ يزن:
خرجَ من منزلهِ وهو يُخرجُ دراجتهِ البخارية، استمعَ إلى صوتِ مها خلفه:
-يزن أنا كلِّمت طارق وقالِّي هيجي من السفر بكرة وكلُّه ينتهي، ارتدى خوذتهِ يهزُّ رأسهِ ثمَّ قامَ بتشغيلِ محرِّكِ الدراجة:
-لمَّا يجي هقولِّك تقوليلُه إيه، لازم أمشي دلوقتي عندي شغل..اقتربت من الدراجةِ ووضعت أناملها على كفِّهِ الذي يتشبثُ بالدراجة:
-إنتَ مش اتفقت معايا إنَّك هتسيب الشركة، ليه رايح هناك، بتضحك عليَّا..
ابتسمَ يسحبُ كفِّهِ ثمَّ رفعهُ فوق رأسها يغازلها بعينيه:
-إنتِ أمرتي يامها، ولازم أعمل اللي طلبتيه، هعدِّي أجيب حاجتي، وأعدي على عمِّي إبراهيم علشان نتحاسب على إيرادات الورشة وأشوف الدنيا..
اقتربت منهُ حدَّ الالتصاقِ تحتضنُ ذراعه:
-طيب مش هتعزمني على الغدا، أو نخرج نروح السينما..
حدجها بنظرةٍ مميتةٍ ثمَّ أردف:
-عايزة تخرجي معايا وإنتِ لسة لابسة دبلة غيري، ليه حدِّ قالِّك عليَّا إنِّي مش راجل وقليل الأصل..وبعدين كنَّا رحنا سينما قبلِ كدا علشان نروح دلوقتي..
قالها وقامَ بتشغيلِ دراجتهِ وتحرَّكَ سريعًا..استمعت إلى حوارهما إيمان فهرولت سريعًا ترفعُ هاتفها:
-دكتور كريم إيه اللي يزن ناوي عليه، وإياك تضحك عليَّا، أنا مش عيِّلة، أخويا بيغرَّق نفسه بالانتقام..
نهضَ من مكانهِ مبتعدًا عن أصدقائه:
-مش فاهم قصدك؟..بكت بالهاتف:
-يزن بقى متوحِّش وأنا مستحيل أقعد أتفرَّج عليه، علشان خاطري ياكريم فوَّق يزن قبلِ مايخسر نفسه، لو فعلًا صاحبه وبتحبُّه فوَّقه..
-طيب ممكن تهدي وتقوليلي إيه اللي حصل؟..صرخت بالهاتف:
-بقولَّك أخويا بيخسر نفسه، قالتها وأغلقت الهاتفَ تجلسُ على الأرضِ تبكي بصوتٍ مرتفعٍ تتمتم:
-ليه يايزن، ليه تعمل في نفسك كدا..
عندَ راجح:
-البنت لسة محبوسة ياباشا، الواد الظابط دا شخصيُّته صعبة، معرفشِ ليه عمل كدا، بس وأنا بتجسِّس كدا، عرفت إنِّ جوازه بيها إجباري، وكمان كان هيتجوِّز بنت قريبته والبنت دي ضربت نفسها بالنار..
هبَّ من مكانهِ وتساءلَ بفحيح:
-هوَّ فين دلوقتي؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
-منعرفشِ ياباشا، محدِّش بيعرفلُه اتجاه سير..
أشارَ إليهِ بغضب:
-عايزك تجبلي قراره، والبتِّ اللي كان عايز يتجوِّزها دي موِّتوها وارموها قدَّامه، علشان يعرف إزاي يتجوِّز على بنتِ راجح الشافعي، ولو هوَّ لحمه مر أنا لحمي علقم، استنى مني إشارة ..قالها وأشار إليه بالخروج
-كدا انت لسة متعرفش انك ابن جمال، تمام يابن جمال وعلى الموعد نلتقي
عندَ إسحاق فتحَ بابَ شقةٍ صغيرةٍ وأشارَ إليها بالدخول ..دلفت بساقينِِ مرتعشتينِ تردفُ بتقطُّع:
إسحاق إنتَ جايبني هنا علشان تموِّتني، هتموِّت أمَّك ياإسحاق!..
اتَّجهَ إلى مقعدٍ قديمٍ والغبارُ يملأه، ثمَّ قامَ بمسحهِ بمحرمتهِ وجلسَ عليهِ يضعُ ساقًا فوقَ الأخرى:
-دا بيتِك ياأحلام هانم إيه نستيه، بيت أبو أحلام هانم اللي اتربِّت فيه، هتعيشي فيه بعد كدا..
اندفعت إليه وصرخت بوجهه:
-إنتَ شكلك اتجنِّنت يالا، إنتَ نسيت نفسك ولَّا إيه، دا أنا..نفث سيجارتهِ يهزُّ رأسهِ يشيرُ بيديه:
-أيوة كمِّلي إنتِ ايه..أه نسيت آسف ماهو حضرتِك تقولي للشيطان ارتاح وأنا أقعد مكانك..أخرجَ بعضَ الأوراقِ وألقاها على الأرضِ المتربة:
-أوَّل ورقة طلاقِك من رجل الأعمال اللي أصغر منِّك بعشر سنين، تاني ورقة تنازلك عن كلِّ حقوقك له حتى بنتك، تالت ورقة ودي الأهم..
تنازلِك عن كلِّ ماأخدتيه منِّي ومن فاروق، وكمان نصيبك في أملاك بابا، نصبَ عودهِ وتوقَّفَ ورسمَ ابتسامةٍ ساخرةٍ بعدما تحوَّلَ وجهها للشحوبِ تهزُّ رأسها بالنفي:
-مستحيل، أنا مش موافقة..اقتربَ منها وانحنى لمستواها:
-هوَّ أنا باخد رأيك ياأحلام هانم، كلِّ حاجة اتمضت واتكتبت باسمِ مين؟..ظلَّ يدورُ حولها حتى أرعبَ جسدها، ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها:
أرسلان فاروق الجارحي، أووووه أوبس مدام أحلام كلِّ ثروتك اللي بالمليارات اتكتبت باسمِ أرسلان الجارحي، علشان إيه ياترى ياإسحاق، تراجعَ إلى المقعدِ وجلسَ يضعُ ساقًا فوقَ الأخرى مشبكًا أناملهِ يطالعها بنظرةٍ مستحقرةٍ واسترسل:
-كان نفسي أموِّتك وأريح الناس من شرِّك، بس أعمل إيه اسمك متنيِّل جنبِ اسمي في شهادةِ الميلاد، أشارَ بسبباتهِ عليها مستخِّفًا:
-تخيَّلي اللي رحمك منِّي وعدي لفاروق، وكمان اسمي اللي مرتبط بواحدة زيك، وأنا مضطر أعصر على نفسي مزرعة ليمون وأتقبِّلك قدَّام الناس، هبَّ من مكانهِ وتحوَّلت ملامحهِ حتى نفرت عروقهِ مقتربًا منها متناسيًا أنَّها والدته:
-فرصك خلصت من زمان، وأنا اللي أستاهل العذاب دا كلُّه، بس وعد من إسحاق الجارحي لأدفَّعك القديم والجديد ياأحلام هانم..
تحرَّكَ خطوةً يشيرُ إلى الشقة:
-هتعيشي هنا ولولا خايف من الفضايح كنت رميتك في أقلِّ دار مسنين، بس ياله كلُّه علشان خاطر أرسلان، أمالَ بجسدهِ وغرزَ عينيهِ بمقلتيها:
-لو أرسلان مات كلِّ أملاكه هتروح للجمعيات الخيرية، وخُدي أكبر قلم لأحلام هانم، فاروق اتنازل عن كلِّ أملاكه لأرسلان، ومش بس هوَّ وأنا كمان بس بعد طبعًا ماكنت كتبت حقِّ ابني اللي حاولتي تموِّتيه، أوعي تفتكري لعبتك إنتِ ودينا دخلت عليَّا، أنا إسحاق الجارحي لو نسيتي أفكَّرك يا هانم..أي أذى هتحاولي توصَّليه لأرسلان، الله في سماه هدفنك حية، ماهو إنتِ عملتيها قبلِ كدا، وابنِ البطة عوَّام ولَّا إيه ياستِّ أحلام..
تراجعت للخلفِ تبكي وحاولت استعطافه:
-بلاش ياإسحاق مقدرشِ أعيش هنا..
قهقهاتٌ مرتفعةٌ يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
-يااااه أخيرًا دموعك نزلت..أشارَ على الشقةِ بالكامل يطالعها بنظرات غامضة واردف بنبرة جافة:
-مفيش خدامة هتيجي غير يوم واحد بس، ودا علشان صلة الرحم مش أكتر، عايزة حاجات، السوق تحتِ البيت تنزلي تشتري حاجاتك بنفسك، في آخرِ الشارع عربية فول وطعمية جرَّبيها هتنفع صحتِك وتخلِّيكي تعرفي تنضَّفي الشقة حلو..
توسَّعت عيناها بذعرٍ تنظرُ إلى المكانِ لتشهقَ قائلة:
-لا ياإسحاق مش هتعمل في أمَّك كدا، أنا معرفشِ أعمل حاجة..
ارتدى نظارتهِ وجذبَ مفاتيحَ سيارتهِ وأجابها متهكِّمًا:
-اتعلمي ياأحلام هانم، دي كانت حياتك في الأوَّل والمفروض تشكريني علشان هخلِّيكي تموتي هنا..
فتحَ بابَ الشقةِ واستدارَ برأسهِ إليها:
-متحاوليش تهربي علشان أنا مش عبيط، ياله مش عايز أعطَّلك علشان تلحقي تخلَّصي اللي وراكي..تشاو يامدام ..قالها وأغلقَ البابَ لتهرولَ إلى البابِ وتفتحهُ تصرخُ به:
-مش هتقدر تسيبني هنا وتمشي ياإسحاق سمعتني..لو سمعت صوتِك هبعت ظابط يحبسِك وأكيد عارفة ليه، وبدل المرَّة مرتين ..ادخلي واقفلي الباب وتأكدي خروجك من الباب دا لمكانين بس السجن والقبر..قالها وتحرَّكَ سريعًا..
بعدَ أسبوعٍ هادئٍ على بعضِ أبطالنا،
دلفَ يزن إلى الشركة وصعدَ إلى غرفةِ مكتبها، طرقَ على بابِ المكتبِ وفتحَ بعضه:
-ممكن أدخل ولَّا ألفِّ وأرجع ..
هزَّت رأسها تشيرُ بيديها:
-أكيد مش قليلة ذوق ياباشمهندس، هتيجي وأرجَّعك..
خطا وهو يدسُّ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله:
-عاملة إيه؟!
خلعت نظارتها الطبيَّة وأغلقت جهازها تستدعي السكرتارية:
-قهوة الباشمهندس، وقهوتي.
-تحتِ أمرك ياأستاذة..تراجعت على المقعدِ قائلة:
-سمعاك، أكيد بدل جيت يبقى حاجة مرتبطة بأسهمك في الشركة..
ظلَّت عيناهُ متعلقةً لهيئتها، لا يعلم لماذا ارتجفَ قلبهِ من ملامحها الحزينة، أفاقَ على صوتها:
-يزن!! ابتعدَ عن ناظريها وكأنَّ نطقها لاسمهِ بتلك الطريقةِ أخرجت ذاك النبضَ الذي دُفن..
-إنتَ جاي علشان تقعد وتسكت، أنا عندي شغل.
وضعٌ بغيضٌ شعرَ به وهو يستمعُ إلى نبرتها الحزينة..
-أنا آسف مكنشِ قصدي أزعَّلك منِّي، أو..
أشارت بيدها وتوقَّفت متَّجهةً إليه، جلست بمقابلتهِ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى ونظراتها تحاصره:
-وياترى أسفك دا أنا المفروض أقبله، لا ياباشمهندس، مش من حقِّي تتأسفلي، ممكن أكون غلطت لأنِّي اعتمدت على الشخصِ الغلط..
-رحيل..أمالت تنظرُ إلى مقلتيه:
-أستاذة رحيل ياباشمهندس، أستاذة رحيل اللي رمتها أسبوع وهيَّ كانت في أمسِّ الحاجة، دلوقتي جيِّتك مالهاش داعي..قاطعهم دلوفُ الساعي يضعُ مشروباتهم..
اصطدمَ بعينيهِا المحدَّقتينِ به قائلًا:
-الكلام دا ليَّا، رفعت قهوتها ترتشفُ بعضها ثمَّ أشارت على الغرفة:
-هوَّ فيه حدّ غيرك موجود في المكتب..
زمَّت شفتيها ومرَّت بعينيها على ملامحهِ المصدومة ثمَّ نطقت بصوتٍ هادئٍ كعمقِ البحر قائلة:
-نوَّرت الشركة ياباشهمندس..قاطعهم دلوفَ طارق كالأسدِ المفترس:
-إيه اللي عملتيه دا، إنتِ اتجنِّنتي، إزاي تحذفيني من مجلسِ الإدارة، لا فوقي أنا طارق الشافعي محدِّش له يشيلني..
توقَّفت متَّجهةً إلى مكتبها إلَّا أنَّهُ عرقلَ تحرُّكها يطبقُ على ذراعها بقوَّة:
-لمَّا أكلِّمك توقفي..دفعتهُ وأشارت بكفِّها تهدرُ بتهديد:
-احترم نفسك، إيه نسيت إنَّك بعت أسهم من بتوعك، مبقاش ليك كلمة، رمقت يزن قائلة:
-اتساويت بالباشهمندس يزن، أنتوا الاتنين شوية الأسهم بتاعتكم مالهاش إنَّها تحضروا الاجتماعات..
ثارت جيوشُ غضبهِ واقتربَ كالمجنونِ إلَّا أنَّ يزن أوقفهُ بدفعهِ بعيدًا عنها:
-مش عيب تمدِّ إيدك على بنت، ولَّا أبوك مش علَّمك العيب..
قست عيناهُ وهو يطبقُ على تلابيبه:
-إنتَ مين يالا علشان تمسكني كدا، حاولَ دفعهِ إلَّا أن يزن دفعهُ بقوَّةٍ حتى هوى على الأرض..شهقةٌ خرجت من فمها محاولةً الفصلَ بينهما، ليرتجفَ جسدها بعد اقترابِ طارق منهُ وعيناهُ كالجمرتينِ الحارقتين:
-هموِّتك ياحيوان..توقَّفت أمامَ يزن واحتُجزت الدموع تحتَ أهدابها:
-ابعد عنُّه علشان خاطري..ثمَّ استدارت إلى طارق:
-وإنتَ امشي اطلع برَّة بدل مااتصل بالأمنِ يطلَّعوك..
يطلَّعوا مين يابت، دي كلَّها أملاكي اتجنِّنتي ولَّا إيه..دارت معركةٌ عنيفةٌ بينهما لتتَّصلَ بالأمنِ لفضِّ الاشتباك مع دخولِ راجح ليتوقَّفَ بين يزن وطارق..
لطمةٌ قويةٌ على وجهِ يزن حينما وجدهُ يكيلُ الضربات إلى طارق..
توقَّفَ متسمرًا يضعُ كفِّه على خدِّه..دفعهُ راجح يشيرُ إلى الأمن:
-الواد ارموه للشرطة، قولوا اتهجِّم على صاحبها علشان السرقة وأنتو شاهدين ياله..
-عمُّو راجح إيه اللي بتقوله دا؟!..
-اخرسي أنا استحملت دلعك كتير، بالليل هكتب كتابك على طارق ودا آخر كلام ..أشارَ إلى طارق بالخروج:
-روح جهِّز نفسك..اقتربَ منها:
-إيه ناوية على إيه يابنتِ مالك بعد ماأبوكي عجِّز ..اسمعيني علشان مبقاش فيه وقت للدلع أنا اتكلِّمت مع مالك وبالليل كتب الكتاب ومبقاش ليكي مكان هنا ..ثمَّ استدارَ يصرخُ بالأمن:
-الواد دا لسة واقف هنا ليه، صرخَ بها بقوَّة..رفعَ حاجبهِ بترفُّعٍ متظاهرًا بالقوَّة:
-بالراحة على نفسك ياباشا، سرقة إيه ياراجل، مش لمَّا أشوف ابنك راجل علشان أسرقه، دفعَ رجلَ الأمنِ واقتربَ من راجح وحدجهُ بنظراتٍ مشمئزة:
-أنا قدرك الحلو بس حضرتك مش واخد بالك، رفعَ نظرهِ إلى رحيل التي تكوَّرت الدموعُ بعينيها ثمَّ اتَّجهَ إلى راجح:
-هدفَّعك تمن القلمين غاليين أوي، ووعد من يزن السوهاجي..قالها وهو يدفعُ رجلَ الأمنِ وتحرَّكَ للخارجِ متمتمًا: اللي هيقرَّب منِّي هموته..
التفتَ راجح إلى رحيل:
-شوفتي مصايبك، علشان تروحي تلملمي من الشوارع...توقَّفَ يزن بعدما استمعَ إلى حديثهِ واستدارَ إليهِ بكاملِ جسده:
-الحق مش عليك، الحق على أبويا اللي ربَّاني أحترم الناس الواطية...قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكانَ بالكامل..
رفعَ هاتفهِ وقامَ بمهاتفةِ مها:
-عملتي إيه يامها...كانت متوقِّفةً أمامَ خزانتها تقيسُ بعض الفساتين..
-خلاص الراجل اللي اشترى الأسهم هيقابلنا بعد نصِّ ساعة علشان يسلمهالك ..هقابلك فين؟.
توقَّفَ وابتسامةُ انتصارٍ على وجهه:
-برافو مها، بعد مااستلم الأسهم ليكي غدا في أيِّ مكان تطلبيه، وكمان هنروح سينما..
توقَّفت تدورُ حولَ نفسها:
-بجد يايزن..نظرَ أمامهِ بجمودٍ مردِّدًا:
-بجد ياروح يزن..
عندَ أرسلان:
-سؤال واحد وعايز إجابته، سبتَك وقت كافي، مدام فريدة السيوفي كانت عايزة إيه وليه بتبعدني عنهم؟..
أشارَ إليهِ بالمغادرة:
-أرسلان بعدين صدَّقني أنا تعبان ومش قادر أتكلم..
جذبَ المقعدَ وجلسَ بجواره:
-عمُّو إنتَ مخبي عليَّا إيه، انا مش هقدر أبعد عن إلياس حاولت بس مقدرتش..
رفعَ رأسهِ ينظرُ إليهِ بصمت:
-حتى لو خيَّرتك بيني وبينه؟..
صدمهُ حديثهِ وكأنَّهُ ألقاهُ برصاصةٍ بصدرهِ ليردف:
-للدرجة دي وصلت إنَّك تُحط نفسك في خانة مقابلة لحد!..
-أرسلان أنا وإلياس واختار إنتَ..نهضَ من مكانهِ يهزُّ رأسهِ بجمودٍ من عينيهِ ثمَّ استدارَ يخطو كالطفل الذي يتعلمُ السير، ماذا يحدث، هل جُنَّ إسحاق بما يقوله، لم يفعلها طيلة حياته..
-أرسلان ...ردَّدها إسحاق ليتوقَّفَ بملامح جامدةٍ وأعينٍ أظلمت بالأسى..
نهضَ من مكانهِ واقتربَ منه يربتُ على ظهرهِ ولكنَّهُ ابتعدَ وكأنَّ كفِّهِ أشواكٌ تغرزُ بلحمه، استدار مغادرًا بخطواتٍ ناريةٍ تحرقُ قدميه ولم يعرف لماذا كلَّ ذلك من مشاعرهِ الممزوجةِ بالخوفِ والألم..
عندَ آدم وخاصةً بمعاملِ إحدى الفرق الطبية، حاوطَ الطلابُ جثةً وضِعت أمامهم ليقوموا بالتدريبِ عليها، بعد عدَّةِ فحوصاتٍ لبعضِ الحيواناتِ والطيورِ ليصلَ بهم نهايةَ المطاف إلى جثةِ انسان ..توقَّفت إيلين مترنحةً تشعرُ بألمٍ يغزو جسدها، وتقلُّبٍ بمعدتها..
توقَّفَ آدم بينهم وخاصةً بجوارِ إيلين التي حاولت الابتعادَ عنه، ولكنَّها لم تستطع، تسلَّلت رائحتهِ إلى رئتيها هدأت قليلًا ظلَّت متوقفةً بجواره، وداخلها شعورٌ بالاقترابِ منه، نفرت من نفسها على ذاك الشعور، بدأ يشرحُ إليهم كيف يتعاملونَ مع الفحصِ التشريحي، كانت تتابعه بصمت وألمًا بجسدها إلى أن شعرت بدورانٍ وغمامةٍ تدورُ بها ولكنَّها تماسكت، تنظرُ إلى يديهِ وهو يتعاملُ مع الجثة، تلاشت الرؤيةُ ولم تعد ترى يديه، تشبثت بذراعهِ تهمسُ اسمه، قفزَ قلبهِ من ضلوعهِ ورغمَ همسها الضعيف إلا أنَّهُ اخترق قلبه قبلَ أذنه، ليلتفتَ إليها سريعًا وهي تترنَّحُ وكادت أن تسقطَ لولا ذراعيهِ التي تلقفتها بلهفةٍ يردِّدُ اسمها بفزع:
-إيلين..تراجعَ الطلابُ ظنَّا من خوفها من الجثة التي توضعُ أمامهم، رفعها وضمَّها إلى صدرهِ متحرِّكًا بها سريعًا من المعمل، إلى أن وصلَ إلى غرفةِ الكشف، ارتجفَ جسدهِ ولم يعد لديه القدرة للتماسك، كلَّما تذكَّرَ همسها باسمه، أمسكَ يدها ليقيسَ ضغطها، ولكنَّهُ توقَّفَ يردِّدُ بلسانٍ ثقيل:
-حامل ..معقول!..هبَّ من مكانهِ سريعًا متَّجهًا إلى طبيبةِ النساءِ الموجودةِ بالكليةِ قبل إفاقتها..
قامت الطبيبةُ بالكشفِ عليها، ابتسمت له لأنَّها تعلمُ بزواجهِ منها:
-مبرووك يادوك، مبدئيًا فيه حمل، بس لازم شوية فحوصات علشان نتأكد أنُّه في مكانه السليم..
كانت نظراتهِ عليها، يفترسها بعينيه، بدأت تتململُ وترفرفُ بأهدابها.. اقتربَ منها بعدما أومأ للطبيبة،وحملها متَّجهًا بها للخارجِ وقلبهِ ينبضُ بعنفٍ من السعادةِ التي حاوطته..
بفيلَّا السيوفي:
الجميعُ يلتفُّون حولَ طاولةِ العشاء، مسَّدَ إلياس على خصلاتِ غادة وابتسمَ قائلًا:
-عندي خبر حلو لدودي..ظلَّت عيناهُ متعلقةً بأعينِ أختهِ مرَّةً وبأعينِ إسلام مرَّة ثمَّ هتف:
-غادة هتكوني أجمل عمِّتو في الدنيا، وإسلام عمُّو إسلام الحنين
سقطت الشوكةُ من يدِ فريدة ثمَّ رفعت عينيها التي تزيَّنت بطبقةٍ كرستالية:
-ميرال حامل!..قالتها وهي تستديرُ تنظرُ إلى ميرال التي نزلت بعينيها إلى طعامها خجلًا..حمحمَ إلياس وأومأ برأسه:
-أيوة إن شاءالله ربنا يتمِّم حملها على خير وتجبلنا مصطفى الصغير، مش كدا يابابا..هنا أطبقت على جفنيها لتنسابَ عبرةً حارقةً لوجنتيها، حتى ارتجفت شفتيها تهمس:
-هكون نانا..ابتلعَ مصطفى غصَّةً مريرةً بطعمِ العلقمِ من حالتها ليردفَ بصوتٍ خافتٍ كاد أن يصلَ للجميع:
-مبرووك ياحبيبي، يتربَّى في عزَّك وبين إيدك..بسطَ كفِّهِ إلى فريدة التي شحبَ وجهها بالكامل وضمَّهُ ينظرُ لعينيها الباكية:
-مبرووك يانانا ...هتكوني أجمل نانا في الدنيا..ابتسامةٌ حزينةٌ لتهمسَ له:
-يوسف ..يوسف هيكون أب يامصطفى باسمِ مش اسمه..هبَّ من مكانهِ وانحنى يحاوطُ جسدها:
-تعالي معايا عايزك في موضوع مهم..
اتَّجهَ إلياس إلى ميرال:
-مامتك مالها، رجعت تاني تقول كلام مش مفهوم ليه؟..
-إلياس ..تمتمت بها غادة بلسانٍ ثقيلٍ ليلتفتَ إليها يومئُ لها برأسهِ منتظرًا حديثها:
-أيوة حبيبتي عايزة تقولي حاجة..
سمِّي البيبي يوسف، ابتسمَ بحنانٍ عليها ثمَّ رفع كفَّها يقبِّلهُ وأردفَ مازحًا:
-أوعي يابتِّ تكوني بتحبِّي حد اسمه يوسف ..ضمَّت ذراعهِ تدفنُ رأسها به:
-بحبُّه أوي أوي..
-نعم ياختي، متفكَّريش علشان إنِّك تعبانة هسكت لغلطك..
بترَ حديثهم إسلام وهو يهتفُ بسعادةٍ مرسومةٍ بإتقان:
-ألف مبروووك يا أبو يوسف، بدل غادة أمرت يبقى خلاص، لازم نسمِّيه يوسف، وعلى فكرة يوسف دا اسمِ طفل كان في الدار وجم ناس اتبنوه، وكان حلو أوي وغادة كانت متعلَّقة بيه مش كدا يادودي...أومأت برأسها مع بكاءِ عيناها..
ظلَّ يدقِّقُ النظرَ بينهما إلى أن توقَّفت ميرال:
-هطلع أشوف ماما وأقعد أشتغل شوية، بعد إذنكم..
-ميرال اتصلي وخدي أجازة لحد الولادة علشان ماترهقيش نفسك
رمقتها بنظرات صامته، تعشقه حد الجنون ولكنه متملك حد القسوة، لا تنكر أنه أهداها حياة أبدية بالعشق والحنان، ولكنه يسرقها بتحكمه، ويقتل أحلامها التي تسعى تحقيقها، كيف وعدها بالسعادة، وهو يخنقها بتحكماته، تنهيدة مرتجفة افلتتها قائلة بخفوت
-مقدرش اسيب شغلي ياإلياس، ومتحاولش تقنعني..تمتمت بها وغادرت
عند رحيل خرجت من الشركة، وجدت أحدهم يقف أمامها
-استاذة رحيل الباشا قال لازم نوصلك لحد البيت، لو سمحتي اتفضلي على عربيتك ..توقفت تطالعه بذهول، فهدرت به غاضبة:
-انت اتجننت ..أشار إلى سيارتها
-تحركي لو سمحتي بلاش اخد موقف انا عبد المأمور ..تحركت بأنفاس مرتفعة إلى أن فتحت باب السيارة، ليجذبها أحدهم قائلًا:
اربطي الحزام بسرعة، اومأت مبتسمة عندما وجدته بمكان القيادة، لحظات وهرول بالسيارة بسرعة جنونية مما جعل الاخرون يصرخون وهما يتجهون سريعًا إلى السيارة
نظرت للخلف تنظر إليهم والسعادة لمعت بعيناها تضع كفوفها على صدرها:
-يااااه كابوس، شكرا بجد ..ظل يسير بالسيارة إلى أن توقف أمام أحد العقارات نظرت تقرأ مايدون فوق اللوحة الإلكترونية
-ايه دا انت جايبني هنا ليه، أغلق السيارة وتوجه بجسده إليها
-مفيش حل غيره، بس لو رافضة انسي أنا بحاول اساعدك ..نظرت إليه ثم إلى اللوحة واغمضت عيناها ولا تشعر بتلك الدمعة التي تدحرجت على وجنتيها، ليقترب يزيلها بابهامه
-خلاص انسي ولا كأننا جينا هنا، انا حاولت اساعدك وبس
عند إلياس
تحركت ميرال بعدما ألقت حديثها الذي اغضبه، ورغم ذلك ظلَّت نظراتهِ تتابعها إلى أن اختفت من أمامه، شعرَ بأناملِ غادة على ذراعه:
-إلياس ..التفتَ إليها ورسمَ ابتسامة:
-أيوة حبيبتي..وضعت رأسها على كتفهِ قائلة:
-ليه مزعَّل ميرال..رمقها من فوقِ كتفهِ ثمَّ حملَ كوبهِ يرتشفُ منه:
-غادة من إمتى بتدَّخلي في حاجات خاصة، حياتي أنا وميرال خاصة بينا، نهضَ بعدما وضعَ فنجانهِ ينظرُ إلى إسلام الذي يتفحَّصُ هاتفه:
-عايزك في المكتب..
أومأ له فتحرَّكَ متَّجهًا إلى مكتبه، اقتربَ من غادة:
-حبيبتي متزعليش منُّه، هو عنده حق مينفعشِ ندَّخل في حياته الخاصة..
-أغمضت عينيها حتى لا تذرفَ دموعها تهزُّ رأسها..نهضَ وانحنى يقبُّلُ رأسها:
-قومي ارتاحي في أوضتك، وسيبي كلِّ حاجة ماشية زي ماهي، إلياس بيحبِّ ميرال متخافيش مش هيئذيها مهما حصل، وتأكدي عمره ماهيتخلَّى عنَّنا حتى بعد مايعرف الحقيقة، المهمِّ ياغادة إلياس يفضل أخوكي الكبير اللي له احترامه، أوعي تفكَّري علشان مطلعشِ أخونا يبقى نقلِّل من احترامه، أنا عن نفسي هيفضل أخويا الكبير لحدِّ ماأموت، ماشي حبيبتي..
أومأت مبتسمةً ثمَّ تساءلت:
-ماما فريدة خلاص مش هتتطلَّق من بابا هي وعدتني مش هتسبنا..
نصبَ عودهِ ومسَّدَ على خصلاتها قائلًا:
-أكيد مش هتقدر تستغنى عننا، نهضت تتشبثُ بكفَّه:
-حقيقي أرسلان بيكون أخو إلياس الكلام دا حقيقي؟..
حاوطَ جسدها وتحرَّكَ معها إلى الأعلى:
-دا موضوع كبير بس مينفعشِ نتكلِّم فيه، أوعديني متقوليش لحدِّ حاجة مهما حصل، عايزك تنسي اللي سمعتيه..
قبَّلتهُ على وجنته:
-أوعدك مش هقول لأيِّ مخلوق، أنا وعدت بابا كمان، بس برضو مش قادرة أتقبَّل إن إلياس مش أخونا..
تراجعَ خطوةً للخلفِ يهزُّ رأسهِ مستاءً وأجابها بنبرةٍ حادَّة:
-إلياس مصطفى السيوفي ياغادة، ياله بقى اطلعي أوضتك، عايز أنزل لأخوكي..
وصلَ بعد قليلٍ إلى غرفةِ المكتبِ وجدهُ متوقِّفًا أمامَ النافذةِ ينظرُ للخارج، وحديث ميرال يصم اذنه ..حمحمَ مقتربًا منه، استدارَ يشيرُ إليهِ بالجلوس، ثمَّ توجًَّهَ إلى مقعدهِ وجلسَ متراجعًا بظهرهِ وعينيهِ تخترقه:
-سامعك، قولِّي مخبِّي عليَّا إيه؟..
ضيَّقَ عينيهِ ورسمَ استنكارًا لعدمِ معرفته:
-مش فاهم حضرتك ياأبيه؟..اقتربَ مستندًا على المكتبِ وحدجهُ بنظرة:
-إسلام معنديش طولة بال، ليه سبتِ البيت وليه غادة وصلت للحالة اللي كانت عليها قبلِ ماأسافر؟،،
اقتربَ مثلهِ وطالعهُ مجيبًا:
-أنا مسبتشِ البيت أنا كنت في تدريب عملي أسبوع مع فريقي، وكمان كان عندي تدريب في النهائي اللي حضرتك نسيته، أمَّا غادة عادي تكون حالتها متقلِّبة ياحضرةِ الظابط نسيت إنَّها بنوتة وعندها تغيُرات يعني ممكن حالة عاطفية، ممكن حالة صداقة فاشلة، أو حالة نفسية عادية..
تراجعَ ينظرُ إليهِ ساخرًا، وردَّدَ حديثهِ مستهزئًا:
-هعمل مصدَّق ياإسلام، بس لو عرفت غير كدا هزعل منَّك، ياله قوم شوف مذاكرتك..
نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ للخارجِ دون تعقيب..
ظلَّ لبعضِ الوقتِ يراجعُ على بعضِ أعماله، تراجعَ ينقرُ هامسًا:
-الواد دا فين بقاله فترة مش باين، رفعَ هاتفهِ وحاولَ الوصولَ إليهِ ولكن كالعادة الهاتفَ الذي تريدُ الوصولَ إليهِ ربما يكون مغلقًا..اتَّجهَ مرَّةً أخرى:
-أهلًا بحضرتك ياأفندم..معاك إلياس السيوفي..
حمحمَ إسحاق: عارفك أكيد ياحضرةِ الظابط..توقَّفَ متراجعًا إلى الشرفة:
-بسأل عن أرسلان بقاله فترة مش باين..
-أرسلان برَّة في عمل، مضغوط في الشغل الأيام دي، لمَّا يفضى أكيد هيكلِّمك..
هزَّ رأسهِ متفهمًا:
-لا أنا كنت بطَّمن عليه، شكرًا لحضرتَك، وآسف لمعاليك..
-ولا يهمَّك، إن شاءالله يخلَّص شغله وأخلِّيه يتواصل معاك...
بعدَ فترةٍ صعدَ إلى غرفتهِ وجدها تستندُ على الفراشِ وكأنَّها تقرأ شيئًا، استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة..أذنَ بالدخول، دلفت الخادمة بكوبٍ من اللبن..أشارَ إليها:
-حُطيه عند المدام ...اقتربت لتضعه، ولكنَّها أوقفتها:
-لا خديه مش هشربه، أنا مبحبِّش اللبن.
أشارَ للخادمة:
-حُطيه واطلعي...أومأت له:
-تؤمر بحاجة تانية؟..
-شكرًا..خرجت الخادمة، اقتربَ من جلوسها:
-ميرال اشربي اللبن وهوَّ سخن، مفيد للحامل، وكمان ..قاطعتهُ بعدما ألقت مابيديها واتَّجهت بأنظارها إليه:
-بس أنا مبحبوش، إيه هتغصب عليَّا في دي كمان..
نزعَ تيشرته، واتَّجهَ إلى غرفةِ الملابسِ هاتفًا:
-مش عايز دلع إنتِ مش طفلة علشان أغصب عليكي، اللبن يتشرِب صحتِك أهم ..
تعاظمَ الغضبُ بداخلها من ردوده، وهاجت كوحشٍ كاسر:
-بقولَّك إيه ياإلياس متخلِّنيش أكره حملي سيبني براحتي، عايزني أحبِّ حاجة وأنا مبحبهاش..ارتدى ثيابهِ واقتربَ منها:
-إيه الهبل اللي بتقوليه دا، علشان خايف عليكي يبقى أخلَّيكي تكرهيه..
فوقي من حركاتِ العيال دي، مش كلِّ شوية هقولِّك إنتِ مش صغيرة، بعدِ كام شهر هيكون عندك طفل..
أشارَ بعينيهِ على كوبِ اللبن:
-دا أهمِّ حاجة في يومك، وعلى ماأظنّ مش هيموِّتك..
شعرت بنيرانٍ هوجاء بداخلها لتدفعَ الكوبَ بعنفٍ حتى هوى على الأرضية، بعدما تحوَّلَ غضبها لنيرانٍ حارقةٍ وهدرت بعنف:
-أنا تعبت من حياةِ الأوامر بتعتك دي، مش علشان بحبَّك أستحمل أوامرك، لا فوق ياحضرةِ الظابط، حياتي وأنا حرَّة فيها..قالتها ونهضت من مكانها بعنفوان، وهمَّت بالمغادرةِ ولكنَّهُ أطبقَ على ذراعها بقوَّةٍ واشتبكت عيناهُ الناريةِ بعينيها:
-إيه اللي عملتيه دا..نزعت عينيها مبتعدةً عن أعينهِ الصقرية التي تحرقها ..ضغطَ بقوةٍ على ذراعيها حتى شعرت بآلامها وهتفَ يشدِّدُ على كلِّ حرفٍ ينطقهُ مع نظراتهِ القويَّة:
-مالكيش حياة لوحدك، حياتك هيَّ حياتي وبس، هتعيشي زي ماأنا عايز، بدل مابقلِّشِ منِّك وبتعامل معاكي بكلِّ ود ومحبة وواخدة حقِّك يبقى دي حياتك..
-حياتي!! هيَّ فين دي، كلِّ حاجة ضيَّعتها منِّي، مكان شغلي وحرمتني منُّه وأجبرتني على مكانِ تاني، لبسي كلُّه غيَّرته، خروج وأصحاب حرمتني منُّه، حتى التعبير عن رأيي في كتاباتي وحرمتني منه..اقتربت تغرزُ عيناها بمقلتيه:
-إنتَ موتني من يومِ مااتجوزتني ياإلياس، لغيت هويتي، رغم حاولت أتأقلم على عصبيتك، بس لحدِّ كدا وكفاية..
-يعني إيه...تساءلَ بها بجمودٍ بعدما تحرَّكَ مبتعدًا عنها:
-يعني عايزة أرجع لحياتي ياإلياس، ابعد عنِّي مالكشِ دعوة بأيِّ حاجة، بدل مابدَّخلشِ بشغلك متدَّخلشِ بشغلي، مين
-يبقى مفيش شغل ولا خروج ياميرال لحدِّ ماتولدي وبعد كدا هقرَّر أعمل إيه..
قالها ودلفَ إلى الغرفةِ الأخرى يصفعُ البابَ خلفهِ بقوَّة..
صدمها بردِّهِ العنيف، فنهضت متَّجهةً إليهِ بخطواتٍ مستاءة، دفعت البابَ ودلفت للداخلِ وجدتهُ يستعدُّ للنوم، توقَّفت تنظرُ إليهِ بذهول ..
-إيه جاية تكمِّلي خناق، أنا عايز أنام عندي شغل، لو جاية تتخانقي هطردك برَّة الجناح خالص وتروحي أوضتك، والمرة دي مش هرحمك سمعتيني، متفكريش علشان بحبك هعدي غلطك
في لحظة احرق قلبي حتى لو اضطريت انزعه من صدري
تأرجحت عيناها بالألمِ من قسوةِ حديثه، تحاورهُ بسيلٍ متدفقٍ من العتاب، ظلَّت بينهما حربُ النظراتِ التي تُدعى بالكبرياء، إلى أن استدارت وأغلقت الباب خلفها، كتمت دموعها تحتَ جفنيها، آااه بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ بهِ داخلَ صدره، من عادتهِ بعقابهِ كلَّما اختلفوا يلجأ إلى نفيها من حياته..
خطت مجبرةٌ إلى خارجِ الجناحِ متَّجهةً إلى غرفتها، دلفت تغلقُ البابَ خلفها، ثمَّ تحرَّكت إلى فراشها لتتمدَّدَ عليه تحتضنُ نفسها كالجنين..
مرَّت الليلةُ ثقيلةٌ على قلبها تنظرُ بالساعةِ مرَّةً والى البابِ مرَّةً أخرى ظنًّا أنَّهُ شعرَ بخروجها ولكن ابتسامةً حزينةً رسمتها على وجهها تهمسُ لنفسها:
-مش دا اللي حبيته ورخَّصتي نفسك بدل المرَّة عشرة اشربي وهيني نفسك وكرامتك كمان وكمان..
أتى صباحٌ جديدٌ محمَّلٌ بالأملِ للبعضِ والألمِ للبعض، ولكنَّهُ صباحٌ من عندِ اللهِ يرزقُ عبادهِ بما لا يعلمون..
خرجَ من الغرفةِ يبحثُ عنها، ثمَّ اتَّجهَ إلى حمامهِ ليخرجَ بعد قليلٍ بروتينهِ اليومي متَّجهًا للأسفلِ يبحثُ عنها بعينيهِ على طاولةِ الطعام..ألقى تحيةَ الصباحِ على الجميع ثمَّ جذبَ مقعدهِ للجلوسِ إلى أن قاطعتهُ فريدة:
-ليه ميرال خرجت بدري على الشغل، وكمان من غير فطار، رفع عينيهِ يطالعها بذهولٍ ولم يشعر بسؤاله:
-هيَّ خرجت بعد مامنعتها، توقَّفَ مصطفى عن تناولِ الطعام:
-منعتها عن شغلها ليه..دفعَ المقعدَ للخلفِ واتَّجهَ إلى أشيائهِ متحرِّكًا للخارج ..وصلَ إلى السيارة:
-مين خرج ورا المدام؟..
-الحراسة بالكامل ياباشا زي ما حضرتك أمرت..استقلَّ سيارتهِ وحاولَ مهاتفتها ولكنَّها لم تجب عليه، ألقت الهاتفَ بالسيارةِ تتمتم:
-شوف مين هيرد عليك..
-أيوة ياباشا ...قالها أحدُ حراستها..
-لفِّ وارجع..ولو المدام نزلت من العربية هفضِّي مسدسي في دماغك..
-أوامرك ياباشا..كانت تتصفَّحُ الأخبارَ من الهاتفِ ولم تشعر بعودةِ السيارة، ضيَّقت عينيها بعدما رأت عدمَ عودتهِ بالاتصالِ مرَّةً أخرى..تنفَّست الصعداءَ تنظرُ من الخارج، نظرت من النافذة قائلة:
-هوَّ إنتَ رجعت ولَّا إيه..لم يُجب عليها وظلَّ يقودُ السيارةَ بعدما أشارَ إليه الرجل الذي يجاوره..جذبت ستارةَ السيارةِ وصاحت معنِّفةً إياه:
-أنا مش بكلِّمك، وقَّف العربية بقولَّك..
دقائقَ إلى أن توقَّفت السيارة، ليترجَّلَ منها الرجلينِ ينظرانِ لذاك الذي توقَّفَ بالطريقِ يستندُ على سيارته..أشارَ إليهم بالتحرُّك..نزلت تصيحُ إليهما إلى أن توقَّفت عن غضبها بعدما وجدتهُ أمامها..
فتحَ باب سيارتهِ يشيرُ إليها بالركوب، ثمَّ أخبرَ الحراسة:
-ارجعوا على البيت، تحرَّكت إليهِ بصمتٍ ثمَّ استقلَّ السيارةَ بجوارها دون حديث...قطعت السيارةُ بعضَ الكيلو مترات، فاتَّجهت بنظرها تنظرُ إلى الطريقِ متسائلة:
-إنت واخدني فين؟..استمعَ إلى رنينِ هاتفه مجيبًا:
-إنتَ فين يابني، بقالي فترة مش عارف أوصلك..
-إلياس عربيتك متراقبة، نظرَ بالمرآة، ثمَّ أردف:
-تمام ..رفعَ هاتفه وقام بمهاتفة الحراسة:
-هبعتلك لوكيشن، الحقوني عليه..
نظرت خلفها بعدما وجدت سرعتهِ ينظرُ إليها:
-نزِّلي راسك ...قالها وهو يغلقُ جميعَ نوافذِ السيارة..
وآدي آخرة اللي يجري ورا الستات،
إلياس فيه إيه ومين دول..توقَّفت السيارةُ بعدما توقفت إحدى السيارات أمامهِ على بعدِ بعضِ الأمتار، نظرَ للخلفِ وجدَ سيارتهِ محاصرةً من جميعِ الجهات ..انحنى يجذبُ سلاحه:
-انزلي بالكرسي ياميرال مترفعيش راسك..
إلياس مين دول، أوعى يكون عمِّي؟.،
أغلقَ السيارةَ وطافَ بعينيهِ على السيارات التي حاصرتهما...
-إلياس..قالتها بتقطِّعٍ وهي تتشبثُ بذراعه، استدارَ برأسه:
-متنزليش من العربية تمام، جذبَ سلاحه، فتشبَّثت به تهزُّ رأسها ببكاء:
-لا متسبنيش..أمالَ برأسهِ وهمسَ إليها بعض الكلماتِ ثمَّ ابتسمَ قائلًا:
-"بحبك"، ولازم أحاسبك على اللي عملتيه، بس نرجع بيتنا..
-لا والنبي متنزلش..
جفَّ حلقهِ من شدةِ خوفهِ عليها بعدما استمعَ إلى أحدهم:
-هتنزل ولا نفجَّر العربية بيكم..لم يستطع مقاومةِ النغزةِ التي أصابته، ليقتربَ يجذبَ رأسها ثمَّ طبعَ قبلةً على جبينها:
.. ياله هنزل وإنتِ اتحرَّكي بالعربية لو بتحبِّيني زي مابتقولي..
-خليني أتكلِّم معاه ياإلياس أشوفه عايز منِّي إيه..
-ميرال قولت اتحرَّكي..
تساقطت الدموعُ من عينيها وأخرجت كلماتها ببكاء:
-مش هسيبك وأنا هنزلُّه..التفتَ إليها بعيونٍ تشعُّ بنارِ الانتقام:
-ميرال ابني لو حصلُّه حاجة إنتِ هتكوني السبب، لازم تمشي وأنا هتصرَّف..ارتفعت شهقاتها تهزُّ رأسها بالنفي ..إلَّا أنُّهُ فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ بيديه:
-نزلت أهو ابعدوا عن العربية، مراتي مالهاش ذنب...
ترجَّلَ راجح من سيارةٍ سوداء وحولهِ بعضُ البودي جارد:
-إنتَ ليه مفكَّرني هعمل فيك حاجة يابني ..أنا بس عايز اطَّمن على بنتي، إيه يابنِ أخويا، حرام لعمَّك يطمِّن على بنته..قالها بمكرٍ يشيرُ لرجاله:
-أنتوا اتجنِّنتوا رافعين سلاحكم على ابنِ أخويا، اقتربَ من إلياس الذي يطالعهُ بغموض، ثمَّ أشارَ على سلاحه:
-إيه يابنِ جمال عايز تموِّت عمَّك، هيَّ فريدة مش عرِّفتك إنَّك ابنِ جمال الشافعي ولَّا إيه ياحضرةِ الظابط ثمَّ أشارَ على ميرال التي بالسيارة ومراتك تكون بنت عمَّك..
ذهولٌ صدمةٌ وعينانٍ تشعُّ بتجاهلِ مايلقيهِ ذلك الرجل..اقتربَ راجح حتى توقَّفَ أمامهِ وسحبَ سلاحهِ من يدهِ مقهقهًا بصوتٍ مرتفع:
"أهلًا يا يوسف يابني تعالَ في حضنِ عمَّك أنا النهاردة الدنيا مش سيعاني، رغم لعبة أمَّك الخبيثة مع مصطفى، واتفقوا يبعدوك عن عمك، وخططت وبعتتك عنده، وبعد كدا هربت مني لما عرفت بلعبتها القذرة، وغيرت اسمك علشان ماوصلكش، بس عرفت وتأكدت إنَّك ابنِ جمال أخويا، ولو مش مصدَّقني ياحبيبي افتح الظرف دا وإنتَ تعرف ازاي الست دي ضحت باولادها علشان اغراضها الدنيئة هي ومصطفى القذر، وزي ماعرفتك، هدور على جمال اخوك واجيبه ..
هل شعر بخروج الروح من شخصًا عصى ربه ولم يفعل بما أمره الله بل تجبر وعصى في الأرض، وحانت قبض روحه، لتخرج إلى بارئها بكم الآلام على ما فعله من فساد في الأرض ..هذا ماشعر به إلياس..بل شعر وكأن أحدهم سحبه ليدفنه حيًا بقبره، ويتركه وسط الظلام ويرحل، ورغم قوة صرخاته، إلا لا أحد يشعر به"
دقيقة اثنان ثلاثة، وهو واقفًا بجسد كالجبل صامد ثابت ولا يشعر بشيئًا، سوى شريط ذكريات حياته الذي تحرك أمام عيناه
إلى هنا تبدأ شظايا ابطالنا المحترقة، فكل سيسعى جاهدا للأخذ بالثأر من كل من سولت له نفسه
↚
"اللهم انك عفوا كريم تحب العفو فاعف عنا"
لقد بَكيتُ كثيرًا ، أكثرَ مِمَّا يجبُ ، أكثر مِن كميةِ الدموع المُخصصة لِحياتي .
دقيقةٌ واحدةٌ استغرقها راجح في تشتُّته، ليقتربَ أكثر ويحتضنه، متمتمًا بنبرةٍ خبيثةٍ كالحرباء:
-ابني حبيبي من ريحة أخويا الغالي..
أحسَّ بالأرضِ تدورُ به وكأنَّهُ تلقَّى ضربةً قويةً بعصا غليظة، وكأنَّ الأرضَ تبدَّلت غيرَ الأرض، والزمان غير الزمان، هل هو بإحدى كوابيسه، أم هذا الشيطان يتلاعبُ به..
ابتعدَ عنهُ كالملدوغ، ورفع عينيهِ التي تحوَّلت إلى لهيبٍ من قاعِ جهنم، وهو يردفُ من بين أسنانهِ بنبرةٍ مشمئزَّة:
-هعمل نفسي مسمعتش حاجة، وأقسم بربِّ العزة لو حاولت تستفزِّني لأفرَّغ سلاحي في راسك، تاريخك الو..سخ كلُّه عندي، وعارف كلِّ بلاويك، دنا إلياس بخطوةٍ منهُ وحدجهُ بنظرةٍ يريد أن يحرقهُ ويحوِّلهُ إلى شظايا محترقة؛ وبلحظةٍ أطبقَ على عنقهِ يهمسُ بفحيح:
-هتقرَّب منِّي ومن مراتي هدفنك حي، ألعابك القذرة دي تلعب بيها بعيد عن محيط إلياس السيوفي..اقتربَ منهما البودي جاردات ووجَّهوا السلاح على رأس إلياس، لم يكترث إليهم وظلَّ يضغطُ عليهِ وعينيهِ تطلقُ نظراتٍ نارية، لم يتذكَّر سوى حديثهِ الذي ألقاهُ كالسمِّ الذي سرى ببدنه، دفعَ رجلا إلياس ووضعَ السلاحَ برأسه، مما جعلها تترجَّلُ من السيارةِ تهرولُ إليهِ وتدفعُ الرجلَ بعيدًا عنه:
-إلياس سيبه علشان خاطري، إلياس هيموت في إيدك..
جذبَ الرجلَ ميرال وأردفَ بنبرةٍ تهديدية:
-هنموِّتها، اختنقَ راجح وتحوَّلَ وجههِ للشحوبِ حتى كاد أن يلفظَ أنفاسهِ الأخيرة، بكت ميرال تستعطفهُ وهي ترى أنَّهُ يتلفظَ أنفاسهِ الأخيرة، ليدفعهُ بعيدًا عنهُ كالعدوى، ولم يكتفِ بذلك بل لكمةٌ قويةٌ بصدرهِ اخترقت عظامهِ وهو يسعلُ بقوَّة..
التفتَ إلى الرجلِ الذي يحتجزُ ميرال ولم يفكِّر كثيرًا، إذ جذبَ سلاحهِ بقدمهِ من فوقِ الأرضِ ورفعهُ لتنطلقَ الطلقة تخترقُ رأسه..
حدثَ هرجٌ ومرجٌ بالمكانِ والكلُّ يقتربُ منهُ بأسلحتهم مع وصولِ حراسةِ إلياس، ليتوقَّفَ بالمنتصف بين راجح وحراسه:
-خلِّي كلب واحد يقرَّب منِّي أو من حدِّ من عيلتي، وأنا أحرقك وأحرق بيتك كلُّه..أمالَ بجسدهِ لمستواه:
-احفر قبرك ياراجح علشان راجعلَك قريب، مش علشان الهبل اللي قولته، لا علشان وقفت قدَّام عربية إلياس السيوفي وخوَّفت مراتي اللي هي بنت أخوك..قالها يشيرُ إلى حرسه:
-خدوا المدام على العربية ..تحرَّكت بصمتٍ متجهةً إلى السيارة وعيناها على راجح الملقى على الأرض، تعلَّقت عيناهُ بعيونِ الألم التي ألقاها بها، ثمَّ صاحَ بصوتٍ مرتفع:
-مروة وحياة وجعي عليكي السنين دي كلَّها لأحرق قلب فريدة وولادها الاتنين..
نهضَ منتصبًا يقفُ أمام إلياس وهتفَ مزمجرًا:
-ماهو إنتَ لو متربِّي مكنتش عملت كدا في عمَّك..اقتربَ منهُ يشيرُ إلى ميرال التي جلست بالسيارةِ وعيناها عليهما:
-بنتي هخدها منَّك يابنِ جمال، وأمَّك هجبها راكعة لعندي، واللي معملتوش زمان هعمله دلوقتي ، وصَّل لفريدة الكلمتين دول يابنِ جمال..قالها واستدارَ إلى سيارتهِ وخلفهِ حرسه، بينما ذاك الذي توقَّفَ على كلماتهِ التي سقطت فوق مسامعهِ كسقوطِ نيزك، يهزُّ رأسهِ ينفي مااستمعَ إليهِ هامسًا:
-بيحرق دمِّي علشان ميرال، لا أنا ابنِ مصطفى السيوفي الراجل دا حقير ياإلياس..لا لا..ظلَّ يردِّدها وعينيهِ على سيارتهِ التي اقتربت من وقوفهِ ليخرجَ رأسهِ قائلًا:
-مش موَّتك النهاردة ضعف منِّي يابنِ جمال، لا..أنا سايبك علشان تجيب حقِّي من أمَّك الحقيرة اللي باعتك إنتَ وأخوك، عايزك تقتلها زي ماقتلت سمعة أبوك في تربته..قالها وأشارَ للسائقِ بالتحرُّكِ سريعًا، وهو يطلقُ ضحكةً خشنةً ساخرةً بعدما وجدَ حالته..
رجفةٌ كهربائيةٌ تسرَّبت إلى جسده، ولم يشعر بدمعتهِ الخائنة التي انساقت على وجنتيهِ يتمتم:
-مستحيل يعملوا كدا، بابا مستحيل يكون مزوِّر وحقير، وفريدة..همسَ بها بتقطُّعٍ وآااه حارقة ألهبت حواسِّهِ يهزُّ رأسهِ كالمجنون ..نارٌ سوداءٌ داخلهِ تهتزُّ لها القلوب، من يراهُ الآن يزعمُ أنَّهُ ماردٌ من نار..
خطى بخطواتٍ مترنِّحةٍ كالمخمور، إلى أن وصلَ إلى السيارةِ وهوى على المقعد، يسحبُ نفسًا طويلًا يخرجُ على هيئةِ حممٍ بركانية.. ارتجفَ جسدها على إثرها..وضعت كفَّيها على كتفهِ بعدما وجدت حالته:
-إلياس الراجل دا قالَّك إيه مخلِّيك كدا؟..
طالعها بنظراتٍ جامدةٍ وشعورٌ بداخلهِ يريدُ أن يلقي نفسهِ بأحضانها ويخرجُ تلك الصرخة التي تطبقُ على عنقه..
أطبقَ على جفنيهِ وجسدهِ يرتجفُ كدقَّاتِ قلبهِ وحديثُ راجح كصدى عويل بأذنه، ممَّا جعلهُ يضعُ كفِّيهِ على أذنيهِ يغمضُ عينيهِ بألم، يهمسُ بخفوتٍ وهو يضعُ رأسهِ على مقودِ السيارة:
-دا شيطان أكيد شيطان، بيعمل كدا عايز يحرق فريدة وبس، أكيد شيطان.. ظلَّ يردِّدها كالذي فقدَ عقله..ضمَّت وجههِ بيديها واغروقت عيناها بالدموعِ على ماصار له..
-حبيبي إيه اللي حصل الراجل دا قالَّك إيه عمل فيك كدا..
حاولَ النطقَ وعينيهِ شاردةً عليها، توقَّفَ عقلهِ بالكامل ولم يدرك سوى بعض الحروف لينطقَ بها:
-انزلي للعربية التانية..استدارت بكاملِ جسدها إليهِ وجذبت عنقهِ تضمُّهُ بقوَّةٍ إلى أحضانها:
-أنا آسفة، أنا اللي وصلَّتك لعنده، مكنشِ قصدي والله..
دموعهِ هبطت بغزارةٍ بأحضانها، ولا يعلم لماذا تلك الدموع التي أيقنَ أنها عاصفةٌ ستأكلُ روحه، تراجعَ بجسدهِ ينظرُ من النافذةِ حتى لا ترى ضعفهِ وانكسارهِ وهتفَ بتقطُّع:
-انزلي روحي مع الحراسة عندي شغل، أو روحي شغلك زي ماكنتي مقرَّرة.
-مش هسيبَك كدا..همست بها بخفوت..
أزالَ دموعهِ ومازالت نظراتهِ الباردة من النافذة:
-رايح شغلي لو سمحتي ممكن تنزلي..
إلياس..قالتها ببكاءٍ ودموعٌ انذرفت على وجنتيها ندمًا ثمَّ أخرجت شهقةً تضعُ كفَّها على فمها متمتمةً بنبرةٍ متحشرجةٍ بالبكاء:
-آسفة معرفشِ مالي بقيت عصبية، وعايزة اهتمامك ورفضاه في نفسِ الوقت..
تنهَّدَ بمرارٍ فهو في حالةٍ لا يريدُ السماع إلى شيئ، يكفي ماشقَّ صدرهِ من غوغاءِ ذاك الشيطان ..رفع رأسهِ من فوق المقودِ وطالعها بأعينٍ خاوية، ورغم شدَّةِ آلامه:
-ميرال ممكن نتكلِّم بعدين، أنا ..قاطعتهُ تضعُ أناملها على شفتيهِ مقتربةً منه وسلَّطت عينيها بمقلتيهِ بقوَّةٍ هامسةً بنبرةٍ أثارتهُ لتخرجهُ ممَّا أثارَ ريبتهِ قائلة:
-محتاجة منَّك تحضنِّي أوي ياإلياس، مش عايزة غير حُضنك وبس، بجد أنا حاسة إنِّي ضايعة وبخبَّط في كلِّ حاجة، محتاجة حنانك وبس، طلبي صعب..
اهتزَّ داخلهِ بعنفٍ وعينيها تتوسَّلهُ بضعف، تنهَّدَ بأنفاسٍ لفحت وجهها ثمَّ جذبها لأحضانهِ متناسيًا كلَّ مايؤذي روحه..دفنت رأسها بصدرهِ وارتفعَ صوتُ بكاءها حتى ارتجفَ جسدها بأحضانه، ذُهلَ من حالتها، ربتَ على ظهرها، وحاولَ سحبَ مايؤذيها قائلًا:
-إيه دا بقى، هغيَّر فكرتي عنِّك وأقول البتِّ كبرت وبقت بتحس، عارف إنِّك زعلانة علشان أنا زعلان منِّك مش كدا؟..
رفعت رأسها إليهِ ولم تكترث لشيئٍ غير أن تحتضنَ خاصته، لا تعلم مابها وماهذا الذي تفعله، تريدُ أن تبكي وتضحك، تريدُ وتريد..مشاعرَ متخبطة بحالةٍ من الجهلِ لما تشعرُ به
تجاوبَ معها بقبلتها بل تمادى إلى أن فقدَ سيطرته، كأنَّهُ يبتعدُ عن كلِّ خواطرهِ التي تتأجَّجَ بذهنه..فصلَ قبلتهِ يضمُّ وجهها بين راحتيهِ قائلًا:
-خايف عليكي أكتر من تحكُّمي فيك، عمري ما فكَّرت أتحكِّم فيكي قدِّ ما فكَّرت إنِّي أخبيكي جوَّا قلبي..
ابتسامةٌ لمعت بعينيها بخطٍّ من الدموعِ لتهمسَ بخفوت:
-أنا بحبَّك أوي ياإلياس ودايمًا عقلي بيوسوس بحاجات مخيفة، معرفشِ ليه..
سحبَ نفسًا وزفره:
-استعيذي بالله ياميرو، متخليش الشيطان يأثَّر عليكي، وفيه أصعب من الشيطان بمراحل..نفسنا، النفس أمارة بالسوء، دايمًا تاخدنا للشيطان، حبيبتي عايزك تهتمِّي بأمور دينك وسيبك من المظاهر الكدَّابة دي..
طبعت قبلةً على وجنتيهِ وألقت نفسها بأحضانهِ تدفنُ نفسها تريدُ أن تختفي بين ذراعيه..حاوطها بحنانِ ذراعيهِ ولسانَ حالهِ يردِّدُ مبتسمًا:
-هدخل بسببِك مستشفى المجانين..
قامت بتشغيلِ السيارة، تضعُ يدها على كفِّه:
-اخطفني النهاردة مش عايزة حاجة غير إنَّك تخطفني..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا من طريقتها الطفولية:
-أخطفك، وبعد كدا فريدة هانم تولول عليكي..لكزتهُ بصدرهِ ثمَّ عانقتهُ تداعبُ أنفه:
-ميهمنيش بدل هكون معاك ميهمنيش حاجة..انحنى مقبلًا عليها بثورةٍ من القبلاتِ وهو يروي روحهِ التي تسلَّلت من جسدهِ منذ فترة،
ابتسمت برضا بعدما أخرجتهُ من حالتهِ تشيرُ إلى الطريق:
-ياله اخطفني بقى علشان كدا لو حدِّ مسكنا ممكن يعملونا قضية آداب..
أفلتَ ضحكةً رجوليةً وكأنَّ الذي يضحكُ ليس الذي كان يحترقُ منذ قليل..قادَ السيارةَ بذراعٍ وضمَّها بالآخرِ يستندُ برأسهِ فوق رأسها..رفعت رأسها متسائلة:
-نفسك في بنت ولَّا ولد؟..رفرفَ قلبهِ بالسعادةِ من تلفُّظها لذاك السؤال، ممَّا جعلهُ يعتدلَ وهو يوزِّعُ نظراتهِ بين الطريق وبينها، ولم يشعر بكفِّهِ وهو يمرِّرهُ على أحشائها مبتسمًا:
-أيِّ حاجة مش هتفرق، بابا عندي تكفِّيني وبس، على ماأظن مفيش اختلاف بين الجنسين..
داعبت وجنتيهِ وهي تستندُ على كتفهِ بذراعها وناظرتهُ بتفحُّص:
-نفسي في ولد ويكون شبهَك بجد..
توقَّفت السيارةُ أمامَ منزلهما ليغلقها ثمَّ استدارَ إليها يستمعُ إلى أمنياتها،
دنا يطبعُ قبلةً على وجنتيها:
-كلِّ اللي يجيبه ربِّنا كويس ياميرو، المهم تقوميلي بالسلامة، وتربيه كويس سواء بنت ولَّا ولد مش فارقة معايا أهمَّ حاجة عندي إنِّك تكوني أمُّه..
قشعريرةٌ لذيذةٌ دبَّت بسائرِ جسدها من كلماتهِ الندية:
-ربِّنا مايحرمني منَّك حبيبي..
فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ إليها بالنزول، مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه، أشارَ إليها لتقتربَ منهُ يحاوطها تحتَ ذراعيهِ يجيبُ على هاتفه:
-إلياس اتأخَّرت ليه ؟! تساءلَ بها شريف..
تحرَّكَ وهو يضمُّها مجيبًا:
هجي بعد الضهر..توقَّفت معترضة، ابتسمَ وهو يجذبها مرَّةً أخرى وتحرَّكَ للداخلِ ومازال يتحدَّثُ بهاتفه:
-معلش ياشريف، عارف تقَّلت عليك بقالك أسبوعين شايل الشغل لوحدك..
توقَّفَ شريف من مقعدهِ مبتعدًا عن الذي يجلسُ بمقابلتهِ وأجابهُ بصوتٍ خافت:
-سيادة العقيد إسحاق الجارحي منتظرك في المكتب، أنا خبَّرته إنَّك في الطريق...توقَّفَ قائلًا:
-عايزني أنا ليه، فيه حاجة؟!..
-معرفشِ..إيه هتيجي ولَّا..قاطعهُ ينظرُ إلى ميرال التي عقدت ذراعيها فوق صدرها ثمَّ أردف:
-عشر دقايق وأكون عندك..قالها وأغلقَ الهاتفَ يضعهُ بجيبه، واقتربَ يحاوطها بين ذراعيه:
-آسف لازم أروح الشغل، إحنا بقالنا أسبوعين مع بعض، وشريف شايل الشغل، غير فيه حدِّ مهمّ منتظرني..إيه رأيك نتعشى برَّة لمَّا أرجع؟..
أومأت بعينيها مبتسمة، هي كانت تريدُ أن تسيطرَ على غضبهِ الذي تجلَّى عليه بعد حديثهِ مع راجح وقد نجحت بذلك، ضمَّت نفسها إليه:
-انا كمان هروح اخلص شغل متعلق، وهستناك متتأخَّرش، هنتعشى في بيتنا مش برَّة..
طبعَ قبلةً على جبينها واستدارَ إلى سيارتهِ يشيرُ إلى حراسته:
-خلِّيكم مع المدام ممنوع حدِّ يدخل من غير ماأعرف..قالها واستقلَّ السيارةَ متجهًا إلى عمله..
بمنزلِ زين الرفاعي:
نهضت من مكانها بجسدٍ ضعيفٍ تأوَّهت حينما شعرت بالترنُّح، دارت بعينيها بالغرفة، تتنهدُ بألمٍ فمنذ مجيئها بالأمسِ وهي تغلقُ البابَ على نفسها؛ ولا تريدُ أن ترى أحدًا وخاصةً ذاكَ الذي وهبتهُ حياتها ولكنَّهُ سلبها دون حق..
استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، أذنت بالدخول، دلفت الخادمةُ تحملُ طعامها:
-جبتلِك الغدا يادكتورة، اقتربت منها حينما وجدت ضعفها، وساعدتها بالجلوس:
-ارتاحي يابنتي شكلك دايخ، احتضنت رأسها قائلة:
-عندي صداع يادادة ممكن تعمليلي قهوة..ربتت على كتفها وهدَّأت من وجعها حينما ضمَّت رأسها بين راحتيها تردِّدُ آياتٍ من الذكرِ الحكيمِ ثمَّ أردفت:
-بلاش قهوة في أوَّل حملك حبيبتي، هعملِّك كوباية حليب دافية كمان شوية المهم تاكلي من إمبارح مأكلتيش حاجة..
وكأنَّ كلمةِ حامل فتحت أبوابَ الجحيمِ على قلبها الذي بدأ يتعافى رويدًا رويدًا..طافت عيناها بالمكانِ تبتعدُ عن نظراتِ الدادة متسائلةً بخفوت:
-حرام عليَّا لو نزَّلتوا يادادة؟..
ضربت على صدرها مع خروجِ شهقةٍ اعتراضيةٍ من فمها تضمُّها إلى أحضانها:
-بعدِ الشَّر عليه يابنتي، ليه ياحبيبتي تعملي كدا، دي نعمة غيرك بيحفر بالتراب علشان ينولها، أوعي تقولي كدا تاني..
هربَ اللفظُ من بين شفتيها وهي تنظرُ إليها بعيونٍ مكدَّسةٍ بالدموع، تهزُّ أكتافها بعجزٍ وبلحظةٍ لا إراديَّةٍ منها أفلتت شهقةً مليئةً بالأسى:
-بس أنا مش عايزاه، أنا مش عايزة ولد يربطني بآدم ..
وقفَ متجمِّدًا على بابِ الغرفةِ يستمعُ إلى حديثها الذي زرعَ أشباحًا سوداءَ على نبضِ قلبهِ المتعذِّبَ بعشقها..
دلفَ إليها بخطًا مرتعشةً من قسوةِ حديثها، ونظرةٌ خاليةٌ من أيِّ مشاعر، تفحَّصها وهو يهتفُ للدادة:
-انزلي يادادة بابا عايز قهوة..أومأت متفهِّمةً فخرجت بعدما رمقتها بنظرةٍ جانبية..اقتربَ وجلسَ بجوارِها..
التفتت بنظرها إلى الشرفةِ بملامحَ شاحبةٍ وروحٌ كأنَّها قُتلت ودُفنت بالقبور..
-عايزة تقتلي ابني ياإيلين..هكذا ردَّدها بلسانٍ مرتجفٍ لتجيبهُ بانكسارِ روحها:
-وعايز منِّي أتقبَّله إزاي وأنا مش متقبِّلة فكرة إزاي جه..دي مكنتشِ حالة حب يادكتور، دي كانت حالة من ضعفِ قلبي لانتظارك لسنوات وفي الآخر راجع بكلِّ جبروت تدفنه..استدارت تحدجهُ بنظرةِ خالية من أي مشاعر، واستطردت معاتبة:
-استغلِّيت ضعفي يادكتور، لتاني مرَّة زي مااستغلِّيت قذارة مرات أبويا في دعوى الحماية، ودلوقتي أنتوا الاتنين للأسف في خانة واحدة، هي بحقارتها وإنتَ بغدرك..الولد دا مش عايزاه ياآدم ودا آخر كلام.
قبضةٌ مميتةٌ اعتصرت فؤادهِ ولم يستطع كبحَ دموعهِ التي انسابت على خدَّيه، ليتمتمَ بخفوت:
-مقدرشِ أشيل ذنب في قتلِ روح..قالها وتوقَّفَ ومازالت نظراتهِ عليها حتى استدارَ للمغادرةِ إلَّا أنَّها أوقفته:
-أوعى تفكَّر إنِّي هتنازل عن الطلاق، حتى لو الولد دا جه، أنا هتنازلَّك عنُّه مش عايزاه، بس مستحيل فيه حاجة تربطني بيك غيره سوى اسمك في شهادة الميلاد.
خطى بخطواتٍ سريعةٍ يأكلُ الأرضَ ليشعرَ بتزلزلها تحتَ قدميه..ليتوقف بعدما استمع إلى رنين هاتفه
-آدم فينك، أنا وصلت المطار، ألتفت سريعًا إلى غرفة إيلين ثم استدار مبتعدًا يجيبها:
-خليكي عندك انا جايلك ..
بمنزلِ أرسلان:
أنهت تجهيزَ طاولةَ الطعامِ واتَّجهت إلى نومه، اقتربت منهُ تمرِّرُ أناملها على وجههِ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً على وجنتيهِ تهمسُ بجوارِ أذنه:
-حبيبي ياله، هتفضل نايم، فتحَ عينيهِ بتململ، وضعت ذقنها على صدرهِ تبتسمُ على هدوئهِ إلى أن فتحَ عينيهِ كاملًا:
-الساعة كام حبيبتي..رفعت عينيها للساعةِ مردفة:
-الساعة عشرة، قوم بقى الأكل هيبرد..ابتسمَ يجذبها لأحضانهِ يرفعُ خصلاتها من فوقِ وجهها:
-الأكل هيبرد..بردو وقفتي في المطبخ، مش قولت هنشوف طباخ وسُفرجي علشان غرامي ترتاح..
حاوطتهُ بذراعيها تضعُ رأسها على صدره:
-بكون فرحانة وأنا بعملَّك الأكل بنفسي، أرسلان مالوش لازمة الطباخ..
رفعَ ذقنها من فوقِ حضنه، ثمَّ جذبَ عنقها ليتذوَّقَ شهدَ عسلها وينثرَ قبلاتهِ على كرزيتها..لحظات بل دقائقَ يهمسُ إليها بعض الكلمات، لتختفي بأحضانهِ خجلًا من حديثه، تهمسُ له بخفوت:
- عيب وقوم علشان ناكل أكلِ البني أدمين مش أكلك اللي مابيشبَّعشِ دا..
قهقهَ بصوتٍ مرتفعٍ معتدلًا وهو يحملُها غامزًا:
-كدا بتعيِّبي في الصقرِ ياستِّ البنات، والصقر زعلان، لازم يخرَّج حتة دهب من المحيط..هزَّت ساقيها وهو يحملُها متَّجهًا إلى غرفتهما:
-أرسلان بس بقى نزِّلني..قالتها بضحكاتٍ مرتفعةٍ بعدما دفعَ البابَ بقدمه:
-واللهِ لازم تصالحي الصقر، أصل زعلُه وحش..
بعدَ فترةٍ على طاولةِ الطعام، كان يتناولُ طعامهِ بصمت، رفعت عينيها:
-أرسلان..اتَّجهَ إليها بأنظارهِ منتظرًا حديثها:
-إيه مش هنروح الفيلا النهاردة، دا تالت أسبوع منعزلين عنُّهم..
تركَ طعامه، ورفعَ محرمتهِ يمسحُ فمهِ مجيبًا:
-لا ..عندي شغل وهرجع متأخَّر وبكون تعبان، اجهزي أعدِّيكي على والدك وأنا راجع أخدك..
نهضَ من مكانه، تشبَّثت بكفِّهِ ترفعُ رأسها إليه:
-إنتَ مخبِّي عليَّا حاجة، يعني زعلان مع والدتك أو والدك؟..
انحنى لاثمًا جبينها ثمَّ رسمَ ابتسامةً قائلًا:
-حبيبتي مفيش زعل ولا حاجة، بس أنا بين هنا وهناك بكون تعبان، والأيام دي فيه شغل كتير في النادي وكمان الشركة، وأنا دماغي وجعاني من دوشةِ الفيلا..
توقَّفت بمقابلتهِ وتعمَّقت بالنظرِ إليه:
-يعني مش علشان عمِّتك استقرِّت عندكوا هيَّ وتمارا؟..
تراجعَ للخلفِ بعدما نزعَ يدهِ بهدوءٍ واستدارَ للداخلِ مردفًا:
-منكرشِ إنَّها سبب، بس مش الوحيد، المهم اجهزي علشان لازم أكون في النادي الساعة اتناشر.
قالها ودلفَ للداخلِ يزفرُ بهدوءٍ محاولًا السيطرةَ على أعصابه، كلَّما تذكَّرَ حديثَ عمِّهِ وإجبارهِ بالرضوخِ لوجودِ عمَّتهِ وابنتها بمنزلِ والدهِ يُصاب بالجنون، رفعَ هاتفه:
-صباح الخير ياعمُّو..
-أهلًا حبيبي، معدتشِ عليَّا إمبارح ليه؟..
مسحَ على خصلاتهِ يدورُ حول نفسهِ بالغرفةِ متسائلًا:
-عملت إيه في الموضوع اللي قولتلَك عليه؟..
أشعلَ إسحاق سيجارتهِ ينظرُ لشريف الجالسَ بمقابلتهِ ثمَّ أجابه:
-أنا في المكتب عند إلياس، لمَّا أقابلك نتكلِّم..سلام دلوقتي.
قالها وأغلقَ الهاتفَ بدخولِ إلياس ..
-صباح الخير معالي الباشا، وأنا بقول المكتب والجهاز كلُّه منوَّر ليه..
ابتسمَ إسحاق متوقِّفًا يحييه:
-أهلًا ياحضرةِ الظابط..
أهلًا بيك ياسيادةِ العقيد، ليَّا الشرف طبعًا بنورِ حضرتك، اتَّجهَ إلى شريف متسائلًا:
-ضيَّفت سيادةِ العقيد يابني ولا يقول علينا بخلة..
أفلتَ ضحكةً خشنةً يهزُّ رأسهِ قائلًا:
-صاحب واجب ياإلياس باشا والله..
خلعَ جاكيتهِ يضعهُ على ظهرِ مقعدهِ مع ثني أكمامهِ بدلوفِ الساعي بقهوتهما،
مرَّرَ نظراتهِ على إسحاق ونطقَ بنبرةٍ رجولية:
-كلِّي آذانٌ صاغية ياباشا، وجودك هنا كبير مش من فراغ..
حكَّ إسحاق ذقنهِ وعينيهِ تفترسُ جلوسَ إلياس، فأشار إلى ذراعهِ ضاحكًا:
-قعدتك دي بتخلُّوهم يظنُّوا بيكم السوء ياجدع..
قهقهَ إلياس متراجعًا بجسده:
-ودا المطلوب ياباشا..
أممم..أخرجَ ورقةً ووضعها أمامه:
-عايز المطلوب هنا..
رفعَ الورقةَ ينظرُ إليها ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ متسائلًا:
-هو حضرتك مش عقيد شرطة برضو ولَّا معلوماتي غلط؟..
ابتسامةٌ عابثةٌ يحدجهُ قائلًا:
-سمعت إنَّك ذكي، وتفهمها وهيَّ طايرة..
-أه يبقى معلوماتي ناقصة مش غلط..
دقَّقَ النظرَ إليه:
-محبِّتشِ أبعت حد وجتلك لمَّا عرفت إنَّك المسؤول الأوَّل..
-بس دا خطر ياإسحاق باشا، يعني لازم طلب رسمي..
لم تتحرَّك عضلة من وجههِ ومازالت نظراتهِ تخترقهُ متمتمًا:
-واعتبر جيِّتي طلب رسمي، مش كفاية؟..
توقَّفَ إلياس واستدارَ متَّجهًا إلى المقعدِ الذي يقابله:
-جيِّتك على راسي طبعًا، وأنول الشرف، لكن أعذرني الموضوع دا مينفعشِ يخرج إلَّا بإذنِ رسمي، متزعلشِ منِّي ياباشا دا أمنِ بلد وإنتَ أكتر العارفين..
هزَّ رأسهِ وتابعَ مستطردًا:
-أتمنَّى تتفهَّم الوضع ..نهضَ من مكانهِ يغلقُ حلَّتهِ وبسطَ كفِّهِ يصافحه:
-أكيد طبعًا، بالليل الطلب هيكون عندك، بس أتمنَّى الموضوع يمشي سري ميخرجشِ برَّة المكتب..
-ولا كأنِّي شوفت حضرتك.
عندَ أرسلان بعد إغلاقه، أنهى تجهيزهِ بدخولِ غرام إليه:
-خلَّصت لو هنمشي، أومأ بصمت.. اقتربت منهُ بعدما وجدت صمته:
-بقالي فترة حاسة إنَّك مخبِّي عليَّا حاجة، أرسلان أنا مراتك يعني المفروض تشاركني في كلِّ أسرارك..
ضمَّ أكتافها ثمَّ رفعَ كفَّها وطبعَ قبلةً رقيقةً بداخله:
-حبيبتي إرهاق من الشغل مش أكتر، مضغوط ياغرام من كلِّ الجهات، غير عندي سفرية مهمَّة وهغيب فيها أسبوعين على الأقل ودماغي مشغولة بيها.
حاوطت عنقهِ ورفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه:
-أوعى تكون ناوي تتجوِّز علشان تعرف تدخل حفلة من حفلاتك الغامضة دي..
داعبَ أنفها مقهقهًا وأردفَ غامزًا:
- لا ياحبيبي كلِّ مرَّة بغيَّر الفكرة، يعني ممكن أتجوِّز بس بطريقة تانية..
لكزتهُ بجنبهِ وأشارت بسبباتها تهدرُ معنِّفةً إياه:
-طيِّب يبقى إعملها وشوف هعمل فيك إيه..هاجت بغضبٍ واقتربت تلكمهُ بقوَّةٍ حتى شعرت بتجمُّعِ الدموعِ بعينيها كلَّما خُيِّلَ لها تلك الفكرة الهوجاء..جذبها يضمُّها لأحضانه:
-إشش اهدي، أنا بهزَّر، تفتكري ممكن أعمل كدا..عانقتهُ وأردفت ببكاء:
-مهووسة أوي ياأرسلان، عايزة أخرَّج الأفكار الشيطانية دي بس مش قادرة، كلِّ سفرية بتجنِّن..عارفة أنُّه شغل وشغل مهمّ بس..قاطعها يضعُ أناملهِ على شفتيها:
-غرام إيه اللي بتقوليه دا، مش معنى إنِّنا اتجوِّزنا بالطريقة دي يبقى كلِّ شغلي جواز، أبدًا دي كانت فكرة من الأفكار وبيكون فيه كذا بديل..
تأجَّجَ صدرهِ من بكائها وحزنها، شدَّدَ من احتضانها وأضافَ بنبرةٍ عاشقة:
-من حسنِ حظي وقتها مفكَّرتش ببديل علشان أحبِّك وأتمسِّك بيكي، نزلَ بجبينهِ لجبينها يردفُ بنبرةٍ أثارت دواخلها:
-ثقي في حبيبك إنِّك عنده أغلى وأجمل حاجة في الدنيا ومستحيل أتنازل عنها..قبلةٌ بجانبِ شفتيها:
-إنتِ غرامي، عايزك تترجمي الكلمة دي لأنَّها تعني الكثير ياحبيبي..ربتَ على كتفها يشيرُ إلى حقيبتها:
-ياله علشان اتأخَّرنا.
بمنزلِ يزن نهضَ من نومهِ على صوتِ طرقاتٍ قوَّيةٍ على بابِ منزله، انتفضَ الجميعُ فاتَّجهَ إلى البابِ يفتحه..دفعَ طارق البابَ دالفًا إلى الداخلِ يجاورهُ أحدِ الظباط، وصل إلى الغرف كالمجنون، يردد
-هي فين، فزعت ايمان صارخة، مما ألهبت مشاعر يزن بغضب ودفعه ليتراجعَ خطوةً، جن جنونه متَّجهَا إليه:
-فين رحيل يالا، الكاميرا لقطتك وإنتَ بتخطفها بالعربية..أنزلَ يديهِ بقوَّةٍ يدفعهُ بعيدًا عنه:
-إنتَ إزاي تتهجِّم على بيتي، وتدخل بالطريقة دي وتنتهِك حُرمة بيتي، استدارَ للظابطِ وأردفَ بصوتٍ قوِّي:
-مش من حقِّ حدّ يهجم على بيوتِ الناس المحترمة كدا ياحضرةِ الظابط، أنا مش متَّهم وممكن أرفع قضية سبّ وقذف وهجوم كمان، بأيِّ حق تدخلوا بالطريقة دي وبيتي فيه بنات…
اقتربَ طارق كالمجنون وحاولَ ضربهِ إلَّا أنَّ الضابطَ توقَّفَ بينهما:
-اهدى ياطارق، استدارَ يطالعُ يزن باستخفافٍ وأردفَ ساخرًا:
-تعمل إيه ياحيلة أمَّك ترفع قضية سبّ وقذف..دفعهُ بقوَّةٍ يشيرُ بيده:
-ماتتظبَّط ياله وتعرف بتتكلِّم مع مين، فين رحيل العامري اللي خطفتها..
هاجت عيناهُ بالغضبِ المحموم، وهو يرمقُ الضابط:
-معاك أمر بالتفتيش والهجوم على بيتي كدا؟..
-ولا..فوق بدل ماأخلِّيهم يفوَّقوك بالسجن..اقتربَ يزن وغرزَ عيناهُ بمقلةِ الضابط:
-الشرطة في خدمةِ الشعب ياباشا، مش في سحلِ الشعب..علشان واحد مايساويش ربعِ راجل له واسطة توقف وتتِّهمني وتهجم على حرمة بيتي، بلاش نصدَّق اللي بيتقال ياباشا علشان في نماذج كتيرة محترمة، وفيه نماذج..
رفعَ الضابطُ سلاحهِ يجزُّ على أسنانه:
-دا أنا أدفنك هنا يالا قدَّام حرمة بيتك اللي قارفني بيهم، صرخت إيمان وهرولت تقفُ أمامَ أخيها تبكي قائلةً بشهقات:
-سامحه ياباشا والنبي ماتئذيه..
جذبها يزن بقوَّةٍ وأبعدها ينظرُ إليها بعتابِ ثمَّ اتَّجهَ إلى الضابط:
-اقتلني أنا واقف أهو، خرجت رحيل وتوقَّفت أمامَ الضابط:
-أنا اللي هعرَّفك إزاي تهاجم على بيوتِ الناس مستغلّ سُلطتك ياحضرةِ الظابط..
جُنَّ طارق يشيرُ إليها:
-شوفت أهي عنده، كنت عارف أنُّه واطي وهو اللي خطفها..
طالعَ يزن وارتفعَ جانبَ وجههِ ساخرًا:
-وعملِّي فيها محامي وصوتك وهعمل وإنتَ مخبِّيها جوَّا، ثمَّ ألقى نظرةً على رحيل واستطرد:
-وإنتِ يارحيل خايفة منُّه ليه ماسك عليكي إيه ولَّا مهدِّدك بإيه؟..أشارَ للشرطي:
-هاتوا الواد دا ..اتَّجهت إلى الضابطِ تحدجهُ بغضبٍ وهدرت بهِ بنبرةٍ عنيفة:
-هوَّ فيه حد بيخطف مراته ياحضرةِ الظابط..
صدمةٌ أذهلت طارق حتى شعرَ بصاعقةٍ كهربائيةٍ تضربُ كاملَ جسده، تحرَّكت رحيل إلى يزن وتوقَّفت بجواره:
-أنا رحيل يزن السوهاجي اللي حضرتك دخلت بيتي وهجمت عليه حتى من غير إذنِ نيابة، ودلوقتي أنا اللي هرفع قضية عليكم ياحضرةِ الظابط إنتَ وابنِ خالتي المحترم…
كلمات، رغم أنَّها كلمات ولكنَّها أشعلت فتيلَ نيرانهِ ليقتربَ محاولًا جذبها ولكن، دفعةٌ قويةٌ من يزن ثمَّ انهالَ عليهِ باللكماتِ يُخرجُ كلَّ مايؤذي نيرانَ صدرهِ منه، لولا دخولِ الضابطِ لكان ألقاهُ صريعًا..
بعدَ قليلٍ ثارَ حولَ نفسهِ كالمجنون ثمَّ اتَّجهَ إلى الغرفةِ ورفع هاتفهِ دقيقةً واحدةً بعد محاولاتٍ من الرنينِ ليجيبَ راكان:
-أيوة..أجابهُ بأنفاسٍ لاهثة:
-سمعت عن حضرتك العدل ياباشا، لمَّا بيتي يتهاجم كالمجرمين وانتهاك لحرمة بيتي دا يكون إيه في عرفِ القانون؟.،
على الجانبِ الآخرِ ظلَّ يستمعُ إلى حديثه، ممَّا أثارَ غضبَ راكان:
-تمام ..تعالَ قدِّم شكوى وأنا هتصرَّف.
دلفت إليهِ رحيل:
-ممكن تهدى كنَّا متوقعين حاجة زي كدا..رفعَ بصرهِ إليها بعيونٍ كجمراتٍ نارية:
-لا متوقَعتش أنُّهم يهجموا على بيتي ويدخلوا على أختي وعليكي وأنتوا نايمين..كوَّرَ قبضتهِ يعضُّ عليها بغضب..دنت منهُ حتى لم يفصل بينهما سوى أنفاسهما ولمست وجنتيهِ لأوَّلِ مرَّة:
-ممكن تهدى، أنا آسفة إنِّي حطِّيتك في موقف زي دا..
أغمضَ عينيهِ محاولًا سحبَ أنفاسٍ منتظمةٍ بعدما شعرَ بنوبةِ غضبه..تراجعَ على الفراشِ وجلسَ يضمُّ رأسهِ بين راحتيه:
اتَّجهَ ببصرهِ إليها قائلًا:
-متخرُجيش من البيت لوحدك، هعمل مشوار سريع وآجي معاكي تزوري باباكي..خطت إلى جلوسهِ وجلست بجواره:
-عايزة أروح أشوف خالو زين، هوَّ الوحيد اللي يقدر يوقَّفهم..
اتَّقدَ الغضبُ كالنيرانِ بداخلهِ وثارت عيناهُ بثورةٍ غاضبة:
-ليه مش متجوِّزة راجل علشان تروحيهم يحموكي، توقَّفَ وهدرَ بصوتٍ مصبوغٍ بالقوَّة:
-لمَّا أموت يبقى روحي استنجدي بيهم، قالها ونهضَ متَّجهًا للخارج..
بفيلَّا الشافعي:
جلسَ بأريحيةٍ ينفثُ تبغهِ وعلامةُ انتصارٍ على وجههِ وهو يتحدَّثُ بفخر:
-كان نفسي تشوفي ملامحه لمَّا عرَّفته.،
نهضت من مكانها وجلست بجواره، تجذبُ سيجارةً ثمَّ سحبت نفسًا وزفرتهُ بوجههِ متحدثةً بغنج:
-ضربة معلِّم يارجحوتي، بس إيه اللي خلَّاك متأكِّد أنُّه مكنشِ يعرف، وليه شكِّيت في الظابط أنُّه ابنها.
قهقهاتٌ مرتفعةٌ ثمَّ توقَّفَ وعقَّبَ على حديثها:
-يوم ماجالي المكتب وهدِّدني، لفت نظري نظرات جمال، حسِّيت الواد دا فيه من جمال، بس قولت يمكن وجود فريدة فكَّرني بجمال وربطت بكدا، تاني مرَّة لمَّا اتقابلنا وهدِّدني ولهفة فريدة ونظراتها عليه؛ وكان من ضمنِ الكلام إلياس هينتقم، غير أنَّها قالت واحد ظابط أمن دولة، ربطت الأحداث بعمايل مصطفى فينا زمان عرفت إنِّ الولد دا ابنِ جمال، وكمان اللي أكِّدلي كلام عطوة أنُّه حطُّه في الملجأ، ولمَّا روحنا للملجأ عرفت أنُّه خاص بعيلةِ السيوفي، ولمَّا جماعتنا أصدروا أمر قتلِ مصطفى وطلبت منهم حياته كلَّها علشان أعرف نقطة ضعفه، عرفت أنُّه قعد خمس سنين متجوِّز من غير عيال، وفجأة بقاله ولد وبعد عشر سنين تانيين يجيب توأم، انحنى ينظرُ لمقلتيها:
-أخوه مش شبهه خالص يارانيا، لو شوفتي الاتنين تقولي واحد من الشمال وواحد من الجنوب..
توقَّفت ومازالت علاماتُ الاستفهام تبدو على وجهها لتلتفتَ متسائلة:
-بس الولد فعلًا مش شبه جمال، ولمَّا جه هنا وهدَّدنا ماشكِّتشِ أبدًا أنُّه شبه جمال..حكَّ ذقنهِ وذهبَ بشرودهِ متمتمًا:
-لأنُّه شبه أمُّه أوي، لو ركَّزتي فيه هتقولي أنُّه فريدة بس عايز اللي يتعمَّق في ملامحه..
افترت شفتيها ابتسامةٌ ساخرة، متَّجهةً إلى مقعدها تجلسُ عليهِ تضعُ ساقًا فوق الأخرى:
-لسة فريدة معلِّمة ياراجح، مش ناوي تعقل وتشيلها من دماغك، دا إنتَ اتجوِّزت بدل المرَّة أربعة، وبرضو مصرّ تقهرني..
رمقها بنظرةٍ حادَّةٍ وهدرَ من بينِ أسنانه:
-هتفتحي الموضوع تاني هندِّمك، قومي شوفي طارق عمل إيه مع الميكانيكي خلينا ننتهز فرصة مرض مالك قبلِ ما زين يعرف..
-إيه اللي حصل معاك ياطارق..تساءلت بها رانيا؟..
أجابها على الجانبِ الآخرِ وهو يصرخُ بهاتفهِ يقصُّ لها ماصار..
سقطَ الهاتفُ من يديها تنظرُ إلى راجح بذهول:
-الواد اتجوِّز البنت، دا أكيد اتجنِّن..هبَّ فزعًا وتمتمَ بهسيس:
-واللهِ حفر قبره بإيده المشحَّم دا..
قالها وهمَّ بالمغادرةِ وهو يهتفُ كالمجنون:
-بنت مالك الحقيرة عملتها واللهِ لأخلِّيها تبكي دم..
عندَ إلياس بعدَ فترةٍ من متابعةِ عمله، استندَ على مكتبهِ يحاوطُ رأسهِ بكفَّيه، وذهبً شاردًا بحديثِ راجح، نهضَ من مكانهِ يجمعُ أشيائهِ وغادرَ المكتبَ وهو يهاتفُ إسلام:
-إسلام إنتَ فين؟.
كان متوقِّفًا أمامَ كليَّتهِ بانتظارِ أختهِ فأردفَ مجيبًا.
-مروَّح منتظر غادة فيه حاجة..
-أه تعال ليَّ على المستشفى عايزك ضروري..
-مستشفى ليه إيه اللي حصل إنتَ تعبان..قالها سريعًا فأوقفهُ إلياس:
-لا ياحبيبي مفيش حاجة، Check عادي بس حاسس بدوخة وحبِّيت أطمِّن، خوفت مقدرشِ أرجع بالعربية..
-تمام هوصَّل غادة وأكون عندك..
-متعرَّفشِ حد وخصوصًا بابا علشان ميقلقشِ على الفاضي..
تمام حبيبي إدِّيني نص ساعة وأكون عندك إن شاءالله..
بعدَ فترةٍ وصلَ إليه وجدهُ جالسًا بانتظاره، خطى إلى جلوسه:
-إنتَ كويس ياأبيه..أومأ مبتسمًا، ثمَّ أشارَ إلى الممرضة:
-حجزتلَك إنتَ كمان علشان عارف إنَّك مهمل، أهو يا سيدي نطمِّن مع بعض..جلس مقهقهًا:
-ليه بتحسِّسني إنَّك ماما فريدة كلِّ ماتشوفني، يابني خاف على نفسك وبطَّل إهمال، فيه واحد بيلبس نص كُم في الشتا..
رسمَ ابتسامةً حزينةً يربتُ على كتفه:
-علشان بتحبَّك أكيد مش أنا اللي هقولَّك بتحبَّك أدِّ إيه..سحبت الممرضة عيِّنةً من الدماء، فرمقها إلياس بنظرةٍ علمت محتواها، ثمَّ اتَّجهت إلى الداخل..
نهضَ من مكانهِ يبسطُ كفِّه إليه:
-إيه مش هنمشي ولَّا عجبتك المستشفى، أنا اللي تعبان على فكرة..
نهضَ متحرِّكًا بجوارهِ لبعضِ الخطواتِ ثمَّ توقَّف:
-هوَّ إنتَ جايبني هنا ليه، علشان أعمل تحليل ولَّا إيه بالظبط!..
حاوطَ أكتافهِ وتحرَّكَ بجوارهِ وبدأ يقصُّ عليهِ مختلفَ الأحاديثِ حتى يُلهيهِ عمَّا فعل، إلى أن توقَّفَ قائلًا:
-ليَّا صديق أخوه تعب إمبارح واكتشفوا أنُّه مصاب بلوكيميا، من وقتها خوفت عليك وعلشان كدا سحبتك لهنا أطمِّن عليك، وبكرة كمان هجيب غادة بس أوعدني محدِّش يعرف حاجة، إنتَ عارف بابا وماما فريدة ممكن دماغهم تودِّي وتجيب..
كان ينظرُ إليهِ بنظراتِ اعجابٍ يحدِّثُ نفسه:
-كيف أنعمَ اللهُ عليهِ بأخٍ مثله، خرجَ من حديثهِ لنفسهِ على صوته:
-هبات في بيتي، عرَّفهم في البيت، وزي ماقولتلَك هعتمد على راجل..
أومأ مبتسمًا ثمَّ أجابه:
-وأنا أوعدك مستحيل أقول حاجة إنتَ طلبتها مني..ربتَ على كتفه:
-بكرة عليك تعمل مع غادة كدا، علشان بضعف قدَّامها وممكن تعيَّطني، فإنتَ راجل ولازم تتصرَّف علشان لو جه وقت أنا مش موجود فيه تلاقيك حماها وسندها..
دنا منه يطالعهُ بذهولٍ متمتمًا بنبرةٍ اعتراضية:
-أوعى تقول كدا تاني، إنتَ مش أخونا بس، إنتَ أبونا كمان ربِّنا ما يحرمنا منَّك ودايمًا تكون سندنا..
ارتدى نظارتهِ مربتًا على كتفه:
-ولا يحرمني منَّك ياحبيبي..ياله امشي زمان ميرال قلقانة..
وصلَ بعد قليلٍ إلى منزله، بحثَ عنها وجدها تقفُ بالمطبخِ تتحدَّثُ مع الخادمة:
-جهِّزي السفرة، زمان البيه على وصول، قالتها واستدارت وجدتهُ واقفًا بالقربِ منها..تحرَّكت إليهِ كالطفلةِ التي عادَ والدها من العمل، عانقته:
-حمدالله على السلامة..حاوطَ جسدها وتحرَّكَ بها للأعلى:
-مصرَّة متُخرجيش..قالها وهو يصعدُ بها إلى غرفتهما..
هزَّت أكتافها قائلة:
-ماليش مزاج، دلفت للداخلِ بجواره، وقعَ بصرهِ على أشيائها التي تُوضعُ فوقَ الفراش:
-إيه دا هو إنتِ مرحتيش الشغل ولَّا إيه..
جذبت جاكيتهِ تساعدهُ بخلعهِ وأردفت بابتسامةٍ بريئة:
-لا مروحتش ومتسألشِ ليه علشان مش هعرف أجاوبك..
انحنى لمستواها يتفحَّصُ وجهها، التقت بعينيهِ تطالعهُ بتساؤل:
-في إيه ؟!..
نظراتٌ فقط إليها متسائلةً عن تغيُّرها، تحرَّكَ حائرًا من تغييرها السريع قائلًا:
-أصلي طلبت منِّك تقعدي ورفضتي، ورغم معارضتي حضرتك خالفتي كلامي ونزلتي من غير إذني، وخلِّيتي واحد زبالة زي راجح ينزع يومي، وكان ممكن ينزع حياتي كلَّها..توقَّفَ يشيرُ إليها مستطردًا:
-الراجل دا تلغيه من حياتك ومش عايز أسمع كلمة عمِّي دي تاني مهما صار، إحنا منعرفوش، ومتفكَّريش أخدتك عنده قبل كدا علشان تتعرَّفي عليه، لا علشان أعرَّفه إنِّي مش هتهاون لو قرَّب منِّك
قالها واستدارَ متحرِّكًا إلى الحمام..
جلست متذكرة ذاك اليوم
وصل إلى فيلا الشافعي، ترجل وبسط كفيه إليها ، تشبست بكفيه وترجلت تتلفت حولها، ثم تحركت متسائلة
-أحنا فين؟!..تحرك دون حديث إلى أن وصل وتوقف يطالع رجل الأمن المسؤل عن فيلا الشافعي، تنقل ببصره ينظر بكافة الاتجاهات على كثرة الأمن المحاصر للفيلا..فتح الباب بخروج راجح الذي يطالعه بغموض
-شايف رجلك اخدت على الفيلا بتاعتي ياحضرة الظابط..دفعه بوهن ودلف للداخل بجواره ميرال، وصل لبهو الفيلا ومازالت نظراته تتجول بالمكان، جلس يشير إلى ميرال
- اقعدي حبيبتي ...احتضنت ذراعه تنظر إليه بحب، هل ناداها حبيبتي
-مش كنت تقول انك عايز تموتنا ياراجل
-أموتك انت بتقول ايه ياحضرة الظابط..اقترب وهو يضع كفيه على جرحه وغرز عيناه بمقلتيه:
-عايز ايه ياراجح، بتقلب في القديم ليه، جت لك قبل كدا واتكلمت معاك بالحسنى ومنفعش قولت لك هتقرب من ماما فريدة مش هسمح لك، وبرضو عمال تحفر وراها، ايه اللي عايزه منها، أشار على ميرال
-لو علشان دي تبقى غلطان، دي ميرال إلياس السيوفي، اللي يقرب منها مش هرحمه..
دقق النظر بميرال الواقفة تطالعه بتيه، فتسائل
-وأنا مالي ومال مراتك، ..دنى يهمس إليه
-مراتك بتراقب مراتي ليه ياراجح، لو مبعدتش عن مراتي ماتلومش نفسك
.انا جيت علشان اقطع عليك العابك القذرة، واقولك لو حاولت تقرب مني أو من مراتي هنسفك، والصراحة مش لسة هنسفك...عشر دقايق والاخبار الحلوة هتوصل لك، شركاتك كلها اتشمعت بالشمع الاحمر، والدولة اتحفظت على اموالك، ومن اين لك هذا، أيوة عارف شركائك بس متخفش هفضل وراك لحد ماألبسك الغوايش ...قالها وسحب كف ميرال التي مازالت تحت الصدمة وغادر المكان بالكامل
خرجت من شرودها متوقفة ثم اقتربت منه وأوقفتهُ تفركُ كفَّيها:
-إلياس ..استدارَ إليها كان يعلمُ أنَّ بها شيئًا، اقتربت منهُ قائلة:
-عايزة أعرف إيه اللي عمُّو قالوهلَك، وليه كنت مضَّايق وليه..وضعَ أناملهِ على كفَّيها وتعلَّقَت عيناهُ بنظراتها، يُطبقُ على ذراعيها بقوَّةٍ وحديثُ راجح يتردَّدُ بأذنه:
أنا لسه بقولِّك إيه، مش عايز أسمع حاجة عنُّه، عايزك تعرفي إنِّ الراجل دا أقذر مخلوق قابلته على وشِّ الكرة الأرضية، وإياكي ياميرال تتواصلي معاه، وقتها هرميكي للأبد من حياتي من غير ماأفتكرلِّك حاجة كويسة..
أغرورقت عيناها بالدموع من تحوُّلهِ المفاجئ:
-إلياس سيب إيدي..تراجعَ للخلفِ واستدارَ متحرِّكًا للحمَّام..
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن جاءَ اليومُ الذي شطرَ القلوبَ وانطفأت الروحُ بأشباحِ الرماد..
استلمَ الظرفَ الذي به ستنقلبُ الحياةَ رأسًا على عقب..ألقاهُ ودقَّاتٌ عنيفةٌ بداخلِ صدرهِ حتى شعرَ بتوقُّفِ النبض.
ألقى نظرةً عليهِ وهو ملقىً على المقعد، ثمَّ قادَ السيارةَ وتحرَّكَ بها إلى مكانٍ هادئ، وصلَ بعد قليلٍ بمكانٍ بعيدٍ عن البشر، ظلَّ لعدَّةِ دقائقَ بسيارتهِ ساكنًا شاحبَ الملامح، ولكن هناك أنفاسًا كأجراسِ حرب، تخرجُ على هيئةِ نيرانٍ صديدة..رمشَ عدَّةِ مرَّاتٍ وبسطَ كفِّهِ يتناولُ الظرفَ بهدوءٍ مميت، حرَّكَ أناملهِ المرتجفة، ينظرُ إلى المدوَّنِ فوقه:
-إلياس مصطفى السيوفي..لا يعلم لماذا شعرَ بتلك القبضةِ التي اعتصرت فؤاده..
أخرجَ تلك الورقة التي اعتبرها شهادة وفاته..بعيونٍ كالشلَّالِ يقرأُ مابها..
دموعٌ حارقةٌ أنزلها على تلك الورقة وكأنَّها حروفُ الألمِ والانهيار، يردِّدُ بشهقاتٍ وانهيارٍ بجوفه:
Nqegative
آااه خرجت من صدرهِ بصراخٍ متألِّمٍ يردِّدُ بهسيس:
-مش ابنه، يعني كلام راجح صح، يعني أنا ابنِ فريدة..نظرَ إلى تحليلهِ مع فريدة متذكِّراً حديثهِ لإسلام:
-حبيبي عايز منَّك كمان تشوف حالة ماما فريدة من غير ماتحس، بابا بيقول موضوع ضغط وأنا حاسس أنُّه مخبِّي حاجة، عايز أطمِّن ياإسلام، بس إنتَ عارف العلاقة بينا مش أحسن حاجة، إيه رأيك تاخد منها عيِّنة وتقولَّها إنَّك عايز تطمِّن عليها إنتَ وغادة، وكمان هيَّ مش هتقول حاجة لمَّا تعرف إنَّك هتعمل التحليل لغادة، بس أهمِّ حاجة إياك تعرَّفها أنا اللي طلبت..
-خلاص ياإلياس هعمل اللي إنتَ عايزه، بس خايف ترفض..
شردَ قائلًا:
-لا هتوافق لمَّا تشوفك مهتمِّ بيها..
خرجَ من شرودهِ ينظرُ إلى نتيجةِ التحليلِ مع فريدة..
فتحَ زرَّ قميصهِ وكأنَّهُ يختنق..نزلَ من السيارةِ مترنحًا، حتى هوى بجسدهِ على الأرضِ يضربُ عليها بقوَّة..وآااااه أخرجها من جوفهِ لتفزعَ الطيورَ من حوله..جلسَ على الأرضيةِ الترابيةِ يحاوطُ ركبتيهِ ودموعهِ خيرُ دليلٍ على مايشعرُ به ..لقد سُلبت حياتهِ بالكاملِ وهو يشعر بكمِّ الألمِ الذي يتفاقمُ بصدرهِ وكأنَّ أحدهم غرزهُ بسكينٍ باردٍ ليجعلهُ يتعذَّبُ بهذا الألم..
مرَّت ساعاتٌ وهو بمكانهِ لا يشعرُ بشيئٍ حوله، ارتفعَ رنينُ هاتفهِ عدَّةِ مراتٍ ولكنَّهُ كان الحاضرُ الغائب، وكأنَّهُ ليس بالمكان..ولجَ الليلُ بظلامهِ وقسوةِ برودتهِ الطاغيةِ بذاك الشهرِ الذي يمتازُ ببردهِ القارس..لقد دقَّت الثانيةَ عشر منتصفَ الليل ومازال بمكانهِ من يراهُ يظنُّ أنَّ روحهِ خرجت من جسدهِ لشحوبهِ وبرودةِ جسده، ناهيك عن سكونهِ كالجثة..مرَّت دقائقَ أخرى إلى أن وجدَ ضوءَ سيارةٍ يضربُ بعينيهِ التي ذبلت..ترجَّلَ أرسلان من سيارتهِ متَّجهًا إليه ..شهقةٌ خرجت من جوفهِ وهو يراهُ بتلك الحالة، هرولَ إليهِ حتى وصلَ بخطًا معدودة..
-إلياس!!ردَّدها جاحظَ الأعين..لم يرُّف جفنهِ وظلَّ كما هو ..جلس على ركبتيهِ أمامهِ يعدلهُ من فوقِ التراب:
-إلياس سامعني..حاولَ مساعدتهِ على الوقوفِ ولكنَّهُ كان صلبًا جامدًا كالجبل..
ضمَّ وجههِ يفركهُ بقوَّة:
-إلياس فوق..
عينان خاويتان وقلبٌ مفتَّتٌ بالألم، انصهرت دموعهِ مرَّةً أخرى يردِّد:
-أنا مين..أنا هنا !! لا أنا هناك، أنا كذبة
قالها وهو ينظرُ إلى أرسلان بضياع..
ارتفعَ رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى لقد تجاوزت الواحدة صباحًا حتى شعرت بالضياعِ والخوفِ من عدمِ ردِّه، اتَّجهت إلى ارسلان تهاتفه لعله يبرد نيران قلبها المتأججة بغيابه، شعورها أن اصابه مكروه قد كان
أطالَ النظرَ بعينيهِ إلى أرسلان كالجندي الذي فقدَ وطنهِ وسُحبت قواهُ أمامَ العدو..
-إلياس فوق، عامل في نفسك كدا ليه!!
إلياس ..تتردَّدُ بداخلِ أذنهِ حتى شعرَ وكأنَّهُ صاعقة من السماء كصوت رعدٍ أصابهُ بالصمم، فأشعلَ النيرانُ الموصدة مرَّةً أخرى ليقفَ من مكانهِ وجسدهِ يأبى الثباتَ ليهوى مرَّةً أخرى..دقائقَ مرَّت عليهِ وهو فاقدُ الإحساس والشعورِ كالذي فارقت الروح جسده..توقَّفَ مذهولًا لما أصابه، اقتربَ يساعدهُ ولكنَّهُ دفعهُ بعيدًا عنهُ وزمجرَ بعنف:
-إياك تقرَّب منِّي ابعد عنِّي..لم يهتم لصراخهِ وحالتهِ المتدهورة، فاتَّجهَ مكتِّفًا ذراعهِ بقوَّة:
-اهدى معرفشِ إيه اللي حصل، ياله علشان الكلّ مشغول باله عليك..
طالعهُ بأعينٍ متسائلةٍ يتمتمُ بتقطُّع:
-الكل بيسأل عليَّا، مين أوعى تقولِّي مصطفى باشا السيوفي..
هنا ظنَّ أنَّ هناكَ خلافٌ بينهِ وبين والده، سحبهُ إلى سيارتهِ واتَّجهَ يقودها مع رنينِ هاتفه..تحرَّكَ إلى السيارةِ ليلتقطَ الهاتف، ولكن وقعت عيناهُ على ذاك الظرف، والأوراقُ المتناثرةُ بالسيارة، بسطَ كفِّهِ ليلتقطهُ ولكن ارتفعَ رنينُ هاتفِ إلياس مرَّةً أخرى..
-أيوة مدام ميرال، إلياس معايا وزي ماقولت لحضرتِك كان في مكان مفهوش شبكة، شوية ويرجع على البيت..قالها وأغلقَ الهاتف..
بعد فترةٍ وصلَ إلى فيلا السيوفي، استدارَ يساعدهُ بالنزول..كانت تنتظرهُ بشرفةِ غرفتها، ارتدت وشاحًا ثقيلًا وهرولت إليهِ بعدما وجدت سيارة أرسلان تدلف من البوابة الرئيسية ، ترجل يساعده..فتحت البابَ تنظرُ إليهِ بصدمة، وزَّعت نظرها بينهُ وبين إلياس:
-إيه اللي حصل؟!. سلَّط َعينيهِ على ميرال وكأنَّ صوتها أعادهُ لأرضِ الواقعِ ليبتعدَ عن أرسلان يشيرُ بيده:
-أنا كويس خلاص، شكرًا، قالها وخطا للداخلِ يستندُ على الجدار، كان يتابعهُ بأعينٍ حزينة، نغزهُ قلبهِ بشدَّةٍ عليه، تمنَّى لو يضمُّهُ ويهوِّنَ عليه، سحبَ بصرهِ من متابعتهِ عندما تحدَّثت ميرال:
-شكرًا لحضرتك، وآسفة إنِّي أزعجتك، بس هوَّ قالِّي هيعدِّي عليك وهتروحوا مشوار، الكلام دا من حداشر الصبح والساعة دلوقتي عدِّت واحدة بالليل..
هزَّ رأسهِ متفهِّمًا وحاولَ أن يهدئَ من روعها:
-هوَّ فعلًا كان معايا بس بعدها معرفشِ راح فين، هسيبك علشان الوقت متأخَّر وبكرة هطمِّن عليه..
أومأت لهُ فتحرَّكَ مغادرًا إلى سيارته، أمَّا هي فهرولت صاعدةً إليه..وجدتهُ واقفًا على بابِ الغرفة ينظر حوله بضياع
-إلياس!! استدارَ برأسهِ ينظرُ إليها لعدَّةِ لحظاتٍ إلى أن اقتربت منهُ تعانقُ ذراعه:
-كدا موِّتني خوف عليك، ينفع كدا تقلقني، طيِّب أنا دلوقتي لازم أعاقبك..
دفعَ البابَ وتحرَّكَ إلى الداخل، ألقى نفسهِ فوق الفراشِ ينامُ على ظهرهِ نصفهِ فوق الفراشِ وساقيهِ على الأرض.،
نظرت إلى ثيابهِ التي يملأها الغبار، ثمَّ تحرَّكت إليه..حاوطت جسدهِ بذراعيها:
- مالك إيه اللي حصل معاك مش هتحكيلي؟..
تعلَّقت عيناهُ بمقلتيها دون حديثٍ حتى دنت برأسها تقبلُه:
-وحشتني على فكرة..ظلَّ كما هو وكأنَّها لم تكن..تراجعت بعدما شعرت بأنَّهُ يعاني من شيئ، اتَّجهت إلى الخزانةِ وأحضرت ثيابهِ ثمَّ عادت تجذبهُ من ذراعيه:
-ياله علشان تاخد شاور وتنام..شكلك تعبان..رفعت رأسهِ لتصبحَ بأحضانها،
قامت بنزعِ قميصهِ وهو يطالعها بنظراتٍ جامدةٍ وكأنَّها عدوته، أغمضَ عينيهِ عندما سيطرَ عليهِ شيطانهِ فتوقَّفَ يشيرُ إليها:
-أنا هكمِّل..قالها وتحرَّكَ إلى الحمَّام..
تنهيدةٌ متألمةٌ وهي تنظرُ إليهِ تهمسُ بخفوت:
-ياترى إيه اللي حصلَّك ياإلياس..بعدَ فترةٍ خرجَ يلتفُّ بالمنشفة، ظلَّت تراقبُ تحرُّكهِ حتى دلفَ إلى غرفةِ الملابسِ ليخرجَ بعد دقائقَ معدودةٍ متَّجهًا إلى الفراشِ بصمت..تمدَّدَ على ظهرهِ يضعُ كفَّيهِ تحتَ رأسه، جلست بجواره، مستندةً على ذراعها، تمسِّدُ على وجنتيه:
-إلياس إيه اللي حصل حبيبي معاك؟..
استدارَ يواليها ظهره:
-اطفي النور عايز أنام، ولَّا أخرج.. !!
استندت بذقنها على كتفهِ وحاولت إخراجهِ من حالته:
-مش قبل ما تقولِّي إيه اللي حصل معاك..
-ميرال...أردفَ بها بخفوت ونبرة متعبة
-لو سمحتي عايز أنام..داعبت وجههِ بأنامِلها:
-هتنام وإنتَ مدِّيني ضهرك، يعني مش هتاخدني في حضنك..أطبقَ على جفنيهِ محاولًا السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يغضبَ عليها..استدارَ إليها بصمت، فردت ذراعهِ وتوسَّدته، مرَّت أكثرَ من ساعةٍ وهو مستقيظ، وكأن جفاه النوم وحرم عليه، ظل مستيقظا يتقلب بالفراش وكأنه يتقلب على جمرات من نار، مرة ينظر إلى نومها ومرة أخرى ينظر إلى سقف الغرفة، إلى أن ارتفعَ أذانُ الفجر ، فنهضَ متَّجهًا إلى الصلاةِ دونَ حديث..
صباحٌ جديدٌ ينيرُ بضيائهِ أرزاقُ العباد… بغرفتهِ ظلَّ مستيقظًا وعينيهِ على تلك التي تغفو بجانبه..ظلَّت نظراتهِ مسلَّطةً عليها إلى أن تململت بنومها لتفتحَ عينيها ببطئ، وجدتهُ ينظرُ إليها بصمت..مرَّرت أناملها على وجهه:
-صباح الخير..اعتدلَ على الفراشِ يومئُ برأسهِ دون حديث، استمعَ الى رنينِ هاتفهِ التقطهُ مجيبًا:
-الستِّ جبتها ياإلياس، نهضَ من مكانهِ منتفضًا وخلالَ دقائقَ خرجَ من الغرفةِ متَّجهًا إلى وجهته..
تنهيدةٌ حزينةٌ أخرجتها بعدما أغلقَ الباب..مرَّت عدَّةِ ساعاتٍ إلى أن عادَ إلى المنزلِ وجدها تجلسُ على الفراشِ تعملُ على جهازها..ألقى بمفاتيحهِ ثمَّ طالعها بأعينٍ تبوحُ بكمِّ الألمِ الذي بداخله..أغلقت جهازها وأردفت:
-إلياس رجعت بدري ليه فيه حاجة؟..
-تعبان ياميرال..قالها وهو يتمدَّدُ على الفراشِ متَّخذًا ساقيها وسادته، وجسدهِ ينتفضُ كالذي أصابهُ حمَّى، لم تستطع كبحَ عبراتها، من حالته التي لأول مرة تراه بها، مسَّدت على خصلاتهِ الناعمة:
-إنتَ بردان، أجبلك حاجة تدفِّيك؟..
احتضنَ ساقيها وكأنَّهُ يستمدُّ منها الدفَء يهمسُ بصوتِ متقطِّع:
-أنا بغرق، بغرق ..ردَّدها عدَّةِ مرَّاتٍ
بعيونٍ تائهةٍ شاردة..انسابت عبراتها ولم تقوَ على ضعفهِ بتلك الطريقةِ لتهبطَ برأسها لمستوى نومه:
-إيه اللي حصل لدا كلُّه، من إمبارح وإنتَ متغيَّر، وحياتي عندك قولِّي إيه اللي حصل معاك حبيبي إحكيلي مش أنا مراتك حبيبتك..
احتضنَ كفَّها يضعهُ تحتَ خدِّهِ يبعدُ وساوسهِ التي تخترقُ أذنه..يهمسُ بخفوت:
-مالكيش ذنب، مستحيل..أنا في كابوس..لا دا كابوس، أنا في كابوس..
وضعت رأسها على رأسهِ تستمعُ إلى خفوتهِ وكم تتألَّمُ وجعًا على ما أصابه:
-كابوس إيه حبيبي، فيه حاجة حصلت معاك في الشغل، قولِّي إيه اللي حصل؟..
حاولَ السيطرةَ على رعشةِ قلبه، الذي أصبحَ ينزف..
-إلياس!!..ردَّدتها مرَّةً أخرى ليقطعها طرقاتُ الباب، تسمحُ بالدخول، دلفت فريدة تبحثُ عنهُ بلهفة:
-مالُه إلياس ياميرال، غادة بتقول شافته جاي تعبان..اعتدلَ برأسٍ ثقيلٍ كالمخمورِ يطالُعها بأعينٍ جامدة، ورغمَ جمودها إلَّا أنَّها عاصفةٌ بحممٍ بركانية..
ظلَّ ينظرُ إليها بصمت..إلى أن اقتربت منهُ تحاوطُ وجههِ بين راحتيها:
-حبيبي إيه اللي واجعك، مرَّرت بكفَّيها على جسدهِ بالكاملِ تتفحَّصهُ كالأمِّ التي تتفحَّصُ رضعيها، ولمَ لا وهو الذي سُلبَ من بين يديها عنوة...تابعَ لهفتها وشريطُ حياتهِ ومعاناتها معه..رفعَ كفَّيهِ على كفَّيها الذي وضعتهُ فوق رأسه:
-أهمِّك تعرفي مالي؟..
أومأت مؤكِّدةً دون أن تحيدَ ببصرها عن عينيهِ المتألمة، ثمَّ أردفت متسائلة:
-عندك شك إنَّك تهمِّني ياإلياس؟..
ابتسامةٌ ملتويةٌ بشراسةٍ ساخرةٍ وعينيهِ تخترقُ مقلتيها، ليردِّدَ بعجزٍ أصابَ قلبه:
-إلياس!! أنا ابنك صح مش أنا زي ابنك ياماما فريدة برضو ..ابتسمت بعيونٍ لامعةٍ بالعبرات:
-إنتَ روحي ياإلياس، عندك شك في حبِّي ليك يابني؟.،
بلحظةٍ أطلقَ ضحكةً صاخبةً متوقِّفًا يترنَّحُ بوقوفه:
- الصراحة كان نفسي أعرف الجواب دا من زمان، ليه بتعامليني كدا، رغم قسوتي معاكي بس كنتي دايمًا بتراعيني باهتمامك..
هزَّت رأسها بدموعٍ انسابت على وجنتيها قائلة:
-ومهما تعمل يابني لازم ...قاطعها متراجعًا للخلف:
-مش عايز أسمع حاجة ، سمعت مافيهِ الكفاية يامدام فريدة..
-إلياس اسمعني..
خنجرٌ غُرزَ بجدارِ روحهِ وكأنَّ صوتها واسمهِ يمزُّقهُ إربًا لشظايا، التفتَ إليها بعيونٍ كالحممِ البركانيةِ وهتفَ بشراسةٍ انتفضت على أثرها:
مين إلياس فريدة هانم، بتسألي عن مين ..أشارَ إلى نفسه:
-قصدك أنا..ثمَّ تحرَّكَ إلى ذاكَ المظروفِ وجذبهُ يرفعهُ بعينها:
-ولَّا دا..أنهي فيهم ...قالها وهو يلقي الورقَ أمامها مردِّدًا:
-إلياس مصطفى السيوفي، ولَّا إيه..
دارَ حولها وهزَّ رأسهِ وأصابتهُ نوبةً من الضحكِ المتواصلِ حتى توقَّفت أمامهِ تضغطُ على ذراعه:
-إلياس إنتَ اتجنِّنت !!
دلفَ مصطفى على صرخاتها..
-إيه اللي بيحصل، ماله إلياس؟..
تركَ فريدة واتَّجهَ إلى مصطفى:
-أهلًا بسيادةِ اللواء، المشترك مع المدام بدفني وأنا حي..
طالعتهُ بنظراتٍ مستفهمة، تحرَّكَ إلى ميرال الواقفةُ بصمتٍ ثمَّ جذبها من خصرها يوزِّعُ نظراتهِ بينهما:
-إيه ياحبيبي مش عايزة تعرفي جوزك حبيبك يقربلِك إيه، ولَّا مش عايزة تعرفي سبب جنان والدتك باسمِ يوسف، صمتَ قليلًا وعينيهِ تحرقُ وقوفُ فريدة ثمَّ أردفَ بصوتٍ زُلزلَ له جدران المنزل:
-آسف يابنتِ عمِّي أصلِ مرات عمِّك طلعت أكبر مزوِّر هيَّ وسيادةِ اللوا، ماهو نسيت أقولِّك أنُّهم سرقوا حياتك زيي..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
وكم تمنيت لو أنّ الحياة اختبرت صبري في أشياء أخرى غير قلبي ..
وكم تمنيت لو أن أحدهم يرى ذلك الجدال المكتوم في عيناي...
تمنيت طويلا ..
أن يكون لدي شخص كلما هزمتني الحياة ..أذهب اليه..
لقد ظنَنّا أنَّ العِتاب هوَ الحَل.. ولكن خابَ الظّن وفهِمنا مُؤخّراً أنّ الصَمتُ أقوَى والعين تَنطُِق مَا يعجَز اللِسان عن وصفِه.. فَلا عِتاب لِمن اسَتباحَ أذِيّتَنا ، اليوم وبَعدَ تِكرارَ الأذى ، كتَمنا كل الجراح في قلوبنا و مضَينا مُثقَلين بما لم نَستَطِعُ البَوح بِهِ والتحدّث عنهُ أمام مَن حولِنا.. المُحزِن في كل ما مضَى أنّنا كنّا نَتَباهى بِهم ، والآن نُخفي كل خيباتنا خوفاً مِن شامِت أخبرناهُ مِراراً أنّهم مُختلفين..
-مش كدا ياحضرة اللوا، سرقتوا حياتنا، عيشتونا كدا، انت ومدام فريدة
توقَّفت فريدة تنظرُ إليه بعيونٍ جاحظة،
لم تشعر بعبراتها التي انسابت بقوَّةٍ كالشلال، اقتربَ منها بعينيهِ الخاوية، التي تشبهُ صقيعَ الشتاء:
-إيه يامدام فريدة، مالك مصدومة كدا ليه؟! ولَّا أقول ياماما..همسَ بها بجوارِ أذنها لينتفضَ جسدها بشهقاتٍ مرتفعة، اقتربَ مصطفى محاولًا السيطرة على غضبه:
-إلياس حبيبي ممكن تهدى..
تراجعَ مفزوعًا من لمسته، وانفجرَ كبركانٍ ثائرَ الحمم، وكأنَّهُ يترنَّحُ فوق حقلِ ألغامه:
-أهدى، أهدى إيه ياسيادةِ اللوا، ليه حضرتك دوست على رجلي، ولَّا ضربتني قلم..لكمَ الحائطَ وبقدمهِ دفعَ الطاولةَ لتهوى متناثرة:
-بيقولِّي أهدى، عايز منِّي أهدى..اقتربَ منه بعيونٍ حمراء يجزُّ على أسنانهِ حتى نفرت عروقهِ بالكامل، ورفع كفِّهِ مكورهُ بعنف:
-أنا طلعت مش أنا ياحضرةِ اللوا، ماليش وجود، حياتي بقت على الهامش، أنا مين إيه، قولي أنا مين، ابنِ حضرتك ولَّا ابنِ الستِّ اللي هناك دي؟!..
-تراجعَ يهزُّ رأسهِ ولم يستطع مقاومةِ طوفانِ العبراتِ التي كانت كالنيرانِ تحرقُ داخلهِ قبل وجنتيه..أزالها بعنفٍ كارهًا ضعفهِ بتلك الحالة..دفعَ إسلام الذي توقَّفَ على بابِ الغرفةِ ينظرُ إليه بألمٍ يشطرُ قلبه، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يأكلُ بخطاويه الأرض…وكأنَّ أقدامهِ زلزالٌ لتنشقَّ له الأرضَ بسببِ قوَّةِ إعصارِ غضبه..مرَّت دقائقٌ من الصمتِ المميتِ سوى من شهقاتِ فريدة، طالعتهم ميرال بنظراتٍ ضائعةٍ جاهلةٍ لتتساءلَ بتقطُّع:
-إيه اللي حصل، هوَّ إلياس ماله، وإيه الكلام اللي بيقوله دا أنا مش فاهمة حاجة..
-إلياس طلع ابنِ ماما فريدة ياميرال، مش شقيقي..
غمغمت بعقلٍ ينكرُ حماقةَ ماتفوَّهَ به إسلام:
-إلياس مين ابنِ ماما فريدة، إلياس جوزي، قالتها وهي تشيرُ على نفسها بحالةٍ من التشتُّتِ يعني أنا متجوِّزة أخويا!..شهقةٌ أخرجتها تضعُ كفَّيها على أحشائها..
-يانهار إسود، أنا متجوِّزة أخويا..اقتربَ منها إسلام بعدما شعرَ بضياعها قائلًا بنبرةٍ هادئة:
-ميرال ممكن تهدي متنسيش إنِّك حامل، إلياس بس اللي ابنِ ماما فريدة وإنتِ بنتِ عمُّه..
طافت بعينيها على مصطفى وفريدة تشيرُ إلى مصطفى:
-إسلام بيقول إيه، هوَّ اتجنِّن ولَّا إيه؟!..
اقتربَ مصطفى منها وحاوطَ أكتافها:
-حبيبتي تعالي معايا، هفهِّمك كلِّ حاجة..تركت يديهِ واقتربت من فريدة التي مازالت واقفةٌ بجسدٍ شاحب، وعينيها على المكانِ الذي خرج منه..
-ماما، إيه اللي حصل وليه إلياس بيقول الكلام دا؟..
شهقةٌ خرجت ملتاعةً من أعماقِ روحها بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ به،
ثمَّ فتحت ذراعيها إليها تهزُّ رأسها لتحتضنها، اقتربت تلقي نفسها بأحضانها، لتأخذها وتتحرَّكُ بها على فراشها، ذهبت ببصرها لقميصِ إلياس الملقى على السرير، لتجذبهُ وتستنشقهُ بدموعٍ تنسابُ كالمطر، ثمَّ احتضنتهُ تبكي بصوتٍ مرتفع، ضمَّها مصطفى إلى أحضانه:
-فريدة ممكن تهدي علشان ضغطك، إحنا كنَّا متوقعين رد زي دا..
انحنت بجسدها تضمُّ ميرال التي بكت قائلة:
-أنتوا بتخوِّفوني ليه، هوَّ إيه اللي حصل..احتضنت وجهها بين راحتيها:
-ميرو قلبي عايزة أقولِّك على حاجة بس مش عايزاكي تقاطعيني، وكمان سامحيني واعذريني..
أومأت لها مع دموعها التي لم تستطع إيقافها..قصَّت لها فريدة كلَّ ماصار منذ زواجها من راجح الى أن تزوَّجت من مصطفى..دقيقة اثنتان ثلاثة تردِّدُ بذهول:
-أنا مش بنتك، وإلياس..إلياس يكون ابنك، إيه الحكاية الهبلة دي، أكيد أنتوا مجانين، وسَّعوا كدا..قالتها ونهضت منتفضةً فوق الفراش تردِّدُ كالذي أصابها الجنون:
-قال إلياس ابنها وأنا لا، إلياس!!طب إزاي، أخرجت ضحكةً ساخرةً تصفِّقُ بيديها:
-فيلم هندي..أكيد ماما عايزة تبقى مؤلِّفة، لا بس تتعلِّم على وجع قلوبنا، توقَّفت عن الحديثِ فجأةً وكأنَّها استوعبت ماقصَّتهُ فريدة، لتستديرَ إليها:
-إنتِ عارفة أنتو عملتوا فينا إيه..
توقَّفَ مصطفى واتَّجهَ إليها:
-حبيبتي ماهي وضَّحت لك ليه عملت كدا..
وضَّحتلي!! قالتها بنبرةٍ اعتراضيةٍ تهزُّ كتفها قائلة:
-توضيح إيه دا، طيِّب قولوا ازاي أستوعب اللي حصل،،ثارت غاضبة
-أكيد بتهزروا، لا لا دا مش هزار، دا جنان، تأوهت بصوت مرتفع بعدما تذكرت حالته منذ ايام، وحديث راجح، شعرت بنار سوداء تحرق حياتها
-أنا بنت الراجل دا، بنت الراجل اللي بيكره جوزي، يعني إلياس وراجح وأنا قرايب، بس انا كدا فهمت حالة إلياس ياحبيبي دا هيتجنِّن، دلوقتي عرفت ليه بقاله فترة مش طبيعي..
تنهَّدت بمرارٍ تهزُّ رأسها رافضةً ماتستمعُ إليه،
-لا أنا مش عايزة، انا عايزة ميرال جمال، مش عايزة الحياة التانية حتى لو ماليش وجود، عجباني أيوة عجباني، لا حياتي فين، انا بنت عدو جوزي، يعني كدا حياتنا انهارت، لا لا ..ظلت تصرخ بها إلى أن فقدت وعيها ولا تعلم كيف سيواجهون تلك العاصفة..
بفيلَّا الجارحي على طاولة الطعام،
كان الجميعُ يتناولُ الطعامَ بصمتٍ إلى أن تحدَّثت ملك:
-بابي مش المفروض أرسلان يجي يقضِّي اليوم النهاردة؟..
-جاي في الطريق..قالها إسحاق وهو يتناولُ طعامهِ بصمت..
-بجد ياعمُّو، يعني أرسو جاي، قاطعهم دلوفهِ ملقيًا تحيَّةَ المساء:
-مساء الخير، هرولت إليهِ كالطفلةِ الصغيرةِ وتعلَّقت بعنقه:
-أرسو حبيبي وحشتني، رفعها من خصرها مبتسمًا:
-حبيبة أرسو عاملة إيه..طبعت قبلةً على وجنتيه:
-وحشتني وزعلانة منَّك أوي، أسبوعين وحضرتك مبتسألش، ومش عايز تعرف أخبار أختك حبيبتك، شوفت داد نقل جامعتي هنا خلاص ومبقتشِ أرجع أمريكا تاني..
وصلَ إلى والدته:
-صفية هانم وحشتيني..ابتسمت بمحبَّة:
-عامل إيه ياحبيبي..أومأ لها قائلًا:
-تمام الحمد لله، نظرت لبابِ الغرفةِ وأخرجت تنهيدةً حزينة:
-لسة غرام مش عايزة تيجي برضو، البنت وحشتني ياأرسلان..
أومأ لها وعينيهِ على عمَّته:
-عاملة إيه ياعمِّتو، إزيك ياتمارا؟..
-أهلًا..قالتها تمارا ولم تستطع رفعَ عينيها إليه، قاطعت حربَ النظرات والدتها:
-عامل إيه ياحبيبي وحشتنا والله، جلسَ بجوارِ ملك قائلًا:
-شغل، ضغط شغل واللهِ ياعمِّتو، ثمَّ التفتَ إلى والدته:
-غرام متعرفشِ إنِّي جاي أصلًا ياماما، لسة خارج من الشغل، وإسحاق كلِّمني علشان اجتماع مهم فقولت أعدِّي عليكي وأطَّمن على السريع..
أشارت للخادمة:
-هاتي طبق لأرسلان يابنتي..هزَّ رأسهِ بالرفض وأردف:
-لا مش جعان، هاكل مع مراتي، نظرَ لوالدهِ الصامت:
-بابا عملت التحاليل اللي الدكتور طلبها ولَّا كسلت..توقَّفَ إسحاق يمسحُ فمه:
-ياله ياأرسو علشان منتأخرش.
رفعت عينيها تنظرُ إليهِ بذهول:
-لسة جاي ياإسحاق، خليه لمَّا تشرب القهوة، مالحقتش أشبع منُّه..انحنى يقبِّلُ رأسها:
-حبيبتي عندنا شغل مهم هخلَّصه وأعدِّي عليكي علشان عايزك في موضوع..
أومأت تربتُ على ظهره:
-هستناك ياحبيبي متتأخَّرش..
تحرَّكَ مغادرًا خلف إسحاق الحاضرَ الغائب ولم يفعل سوى نظراتهِ الغاضبة لفاروق..وصلَ إلى سيارةِ إسحاق، استندَ على بابها وغمغمَ متسائلًا:
-زعلان من فاروق ليه ياإسحاقو؟..
قامَ بتشغيلِ السيارة، يشيرُ لسيارته:
-هنتأخَّر بطَّل دلع الحكاية مش نقصاك.
استدارَ إلى البابِ الآخرِ واستقلَّ السيارة بجواره، اتَّجهَ بجسدهِ إليه:
-من شهرين تقريبًا وإنتَ متغيَّر ومش على بعضك، حاسس واحد تاني بتعامل معاه، هتفضل على طريقتك دي صدَّقني هزعَّلك منِّي، أنا مخنوق ومش طايق نفسي، متجيش إنتَ كمان تكمِّل عليَّا..
أشعلَ سيجارةً وتحرَّكَ بالسيارةِ وعينيهِ للخارجِ قائلًا:
-وإيه اللي خانقك، إلياس السيوفي، ولَّا طمطم..تراجعَ بجسدهِ وأغلقَ عينيهِ متألمًا:
-بمسك نفسي بالعافية ياعمُّو، واللهِ عايز أخنقها بس مش قادر، ليه عملوا كدا في مراتي علشان إيه؟..
ظلَّ يقودُ السيارة وعينيهِ شاردةً على الطريقِ وأجابه:
-ناوي تعمل إيه، بعد ماعرفت بالخدَّامة الخاينة، التفتَ يرمقهُ قائلًا:
-أرسلان مش عايزك تغلط غلط وترجع تندم عليه، البنت كانت غيرانة وطبيعي حدِّ مكانها يعمل كدا..
رفعَ كفَّيهِ يرجع خصلاتهِ للخلفِ بغضبٍ حتى شعر أنَّهُ يقتلعها ليهمسَ بفحيح:
-واللهِ لأندِّمها وأخلَّيها تعرف إنَّ اللهَ حق، غيرانة إيه الحيوانة دي..
توقَّفً أسحاق فجأةً وأشارَ بتهديد:
-حاولت أفهِّمك من زمان تحطِّ لها حدود بس إنتَ كنت متساهل، والبنت حبِّتك بجد وحضرتك عامل من بنما، متجيش دلوقتي تعاتبها، واحدة شافت حبيبها فضَّل واحدة تانية أقلِّ منها عليها، لا وكمان حامل منُّه، كنت منتظر منها إيه قولِّي؟..كويس أنُّه جه على سقوطِ الجنين، أنا لو مكانها كنت قتلت مراتك.
-واللهِ ياعمُّو حضرتك اللي بتقول كدا!..
أجابهُ بقلبٍ فاضَ به الألم:
-متزعلشِ منِّي ياأرسلان، بس دي الحقيقة اللي إنتَ بتهرب منها، من يوم ماعرفت إنِّ تمارا بتحبَّك ماحاولتش تفهِّمها أو توقفها وتعرَّفها حقيقة مشاعرك، ودي في الأوِّل والآخر بنتِ عمِّتك، أه منكرشِ أنُّهم طمعانين فيك هيَّ وأبوها، بس فيه حقيقة متنكرهاش البنت بتحبَّك بجد، وأنا حاولت أفهِّمك آخر حبَّها هيكون فيه خسائر، إنتَ رديت وقولت إيه..
-بطَّل هزار ياعمُّو، ولمَّا هوَّ هزار، ليه كنت بتاخدها كلِّ الحفلات وهيَّ فرحانة بيك، إنتَ عارف ومتأكد هي متهمنيش زيك، بس محبتشِ إنَّك تظلمها، عارف إنَّها غلطت وغلطها كبير..
بس هيَّ عملت كدا من غيرتها حبيبي، اتجنِّنت من وقتِ ماعرفت ودا اللي فهمته من ملك، ونظرات البنتِ عليك، أنا مش عيِّل علشان أعرف البنت بتحبَّك ولَّا بتلعب عليك، علشان كدا بقولَّك بلاش تعمل حاجة باباك يزعل منَّك عليها..
حكَّ ذقنهِ ينظرُ أمامهِ على الطريق وردَّدَ بذهنٍ شارد:
-علشان كدا أمرت يجوا الفيلا عندنا؟..
استفهمامٌ مؤلمٌ ردَّدهُ وهو ينظرُ بضياع..
أجابهُ سريعًا يهزُّ رأسهِ بالنفي:
-لا مش علشان كدا، جوز عمتك مش موجود، وجدِّتك كمان، محبتشِ يقعدوا لوحدهم، وأنا دايمًا بعملها لمَّا أكون مشغول، متنساش بيت فاروق بيت العيلة، وكمان علشان تمارا تكون تحتِ نظري ومتحاولشِ تعمل حاجة في غرام، إنتَ بتسافر أكتر مابتقعد في البيت..
ثقُلت أنفاسه، فاستدارَ ينظرُ من نافذةِ السيارة، ورغمَ برودةِ الجو إلَّا أنَّهُ يشعر بنيران تصهرُ صدره:
-أرسلان متزعلشِ مني، إنتَ عارف إنَّك أغلى من روحي، ولازم وقت الغلط أوقَّفك ياحبيبي علشان ماتغرقشِ في الظلم..استنكرَ حديثه وزفرةٌ حارةٌ أخرجها من ثقلِ آلامِ مايشعرُ به، ليتراجعَ بجسدهِ قائلًا:
-خلاص ياعمُّو، مش هعمل حاجة لتمارا، بس جوِّزها في أقرب وقت، أنا مش قادر أتحمِّل ذنبها أكتر من كدا، أنا واللهِ كنت بعاملها على أنَّها زي ملك، وقولت مشاعرها مشاعر مراهقة ومع الوقت هتنسى..أومأ متفهِّمًا وتحدَّث:
-خلاص ياأرسو انسى..
بعد فترةٍ من الصمتِ تساءلَ إسحاق:
-إلياس السيوفي ماله؟..
طالعهُ بنظرةٍ مؤلمة، ولم يستطع تجاوزَ نغزةِ قلبهِ حينما ذكره، ليجيبهُ بحروفِ الألمِ الذي يشعرُ بها:
-معرفشِ ماله، بس حاسس فيه مشكلة كبيرة بينه وبين والده، استمعَ إليه باهتمام، ليتشدَّقَ بسؤاله:
-إزاي مشكلة بينه وبين والده مش فاهم وليه قولت كدا، إيه اللي يخلِّيك تروح لعنده رغم تحذيري يبقى الموضوع كبير..
ارتسمت ابتسامةٌ ساخرة، ورغم أنَّها ساخرة إلَّا أنَّهُ شعر بمرارةِ الألمِ بها وهو يجيبه:
-قسيت أوي ياإسحاق، وأنا مستحيل أنسى قسوتك دي، رفع سبابتهِ وتابع مستطردًا:
-مش إسحاق اللي يعمل في أرسلان كدا، بس صدَّقني دماغي تفوق وهعرف الموضوع كلُّه، ولو الموضوع فيه شك صدَّقني زعلي هيكون وحش، أرسلان مش طفل ياإسحاق علشان تعمل فيه كدا..
سحبَ نفسًا وزفرهُ بهدوءٍ حينما شعرَ بغصةٍ تعيقُ تنفسه، وهناك حربًا غوغاءَ بداخلهِ على منعهِ من إلياس، حاولَ تشتيتهِ فانبثقَ سؤالًا من بين شفتيه:
-ماقولتش إيه اللي حصل لإلياس، وبطَّل كلامك الأهبل دا...غيرت عليك ياأخي، حسيته سحب البساط من تحتِ رجلي، الأوَّل كنت بتجري عليَّا، دلوقتي حضرة الظابط واخد جزء كبير من حياة ابني
أضافها بلهجةٍ مقنعة..
واللي زوَّدها كمان طلب فريدة أنَّها تعزمكوا على العشا والغدا، وووو، الصراحة اضَّيقت فكان لازم أقولَّك كدا..
رفعَ حاجبهِ الأيمن دون النظر إليه، وأجابهُ بعبث:
-أيوة صح، وشوية لعب برمل، ونركَّب مع بعض مكعبات..توقَّفت السيارةُ عند وجهتهم، فاستدارَ يطالعهُ مستفسرًا:
-قصدك إيه يالا؟..
فتحَ بابَ السيارةِ وهمهمَ باستخفاف:
-إسحاق عيب اللي قدَّامك عنده تلاتين سنة، دنا منهُ وهمسَ له:
-وظابط مخابرات، عارف الكلمة ولَّا حضرتك تترجمها بعقلية إسحاق، شكل غياب دينا فلسع العقلية الفذَّة، وحوَّلها لعقلية سوكة العبيطة..
قالها وترجَّلَ من السيارة، سبَّهُ إسحاق متمتمًا:
-كنت عارف يابنِ فاروق مش هتسكت، طيب دا أقولُّه إيه..توقَّفَ فجأةً متذكِّرًا موضوعَ إلياس ليترجَّلَ سريعًا مناديًا عليه:
-أرسلان..استدارَ متوقِّفًا، ينظرُ بساعةِ يدهِ يشيرُ إليه:
-الاجتماع بدأ يابوص..وصلَ إليهِ وتحرَّكَ بجواره:
-ماقولتش إيه موضوع إلياس صح، أصل كنت عنده من كام يوم وكان طبيعي...قصَّ له ماصارَ من حالته وكلماته، ليتوقَّفَ مصدومًا، ويشعرَ بالدورانِ متمتمًا بذهول:
-إلياس السيوفي ممكن يكون أخوك، اقتربَ أرسلان يحملقُ بالنظرِ إليه:
-عمُّو مالك، واقف كدا ليه؟!
تراجعَ يهزُّ رأسهِ بعنف، ثمَّ أشارَ إلى المبنى:
-ادخل وانا جاي بعدك، هعمل تليفون..استدارَ إلى المقعدِ الموجودِ بحديقةِ المبنى، وقامَ بفكِّ ربطةَ عنقهِ ووجههِ الذي تحوَّلَ الى كتلةٍ نارية:
-مش معقول، إيه دا، معقول القدر يكون كدا، لا لا مستحيل..
توقَّفَ يدورُ حول نفسهِ كالذي أصابتهُ نوبةٌ من الجنون:
-ياربي أعمل إيه في المصيبة دي، إلياس وأرسلان، إيه دا، إزاي يحصل دا!..
مسحَ على وجههِ بعنف وكاد عقلهِ أن يخرجَ من رأسه، لقد ذهبَ العقلُ بالكاملِ وهو يردِّد:
-مصطفى السيوفي مش هيسكت، أووف، لا لازم أتصرَّف، الاتنين دول لازم يبعدوا عن بعض بأيِّ طريقة، بس إزاي..استمعَ الى رنينِ هاتفهِ ليرفعهُ صارخًا:
-عايز ايه؟!
-أحلام هانم أُغمى عليها ياباشا ونقلناها بعربية الإسعاف::
-تمام ساعة وأكون عندك، خلِّي بالك منها..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ اتَّجهَ إلى هاتفه:
-جبت اللي قولتلك عليه يابني؟..
-أيوة ياباشا، التقرير على جهاز حضرتك..
قولِّي المختصر..
-اسمها فريدة الرفاعي، مواليد السويس، اتجوِّزت واحد قريبها بس مات من زمان، وكان عندها ولدين بس اتخطفوا..اتجوِّزها راجح الشافعي أخو جوزها المتوفي ..قصَّ له كلَّ شيئ..
كوَّرَ قبضتهِ وهو يستمعُ إلى حديثه ليهتفَ بهسيس:
-راجح دا عينك مش تنزل من عليه، واعرفلي ليه خطف بنته، وكان يعرف ولَّا لأ، وكمان مراقبة إلياس كلِّ ثانية، عايز النفس اللي بيتنفسه يكون عندي، غلطة بعمرك سمعتني..
قالها وأغلقَ الهاتفَ متحرِّكًا للداخلِ يتمتمُ بينهُ وبين نفسه:
-كدا كل حاجة هتتكشف ياإسحاق، واللي دفنته من تلاتين سنة هيتفتح وطبول الحرب على الكلّ..
بكليةِ الطبِّ وخاصةً بتلك القاعةِ التي تُعرفُ بالمشرحة، كان متوقِّفًا يشرحُ بكلِّ دقَّةٍ وعنايةٍ عن كيفيةِ الوصولِ إلى سببِ الوفاة، واتَّجهَ إلى جثمانٍ وبدأ يشرحُ عليه بعضَ الأشياءِ من لونِ الجثة، ومن بعضِ الأعضاءِ التي تظهرُ بها إذا كان سببُ الوفاة قُتلَ عمدًا بأنواعه..ساعتينِ كاملتينِ إلى أن أُنهكت وهو يراقبها بحذر، تراجعَ إلى مقعدهِ يشيرُ إليهم بأخذِ راحةٍ والعودةِ إلى قاعةِ المحاضرة..
بعد أقلِّ من ثلاثينَ دقيقةٍ من الراحة، جلسَ جميعُ الطلبةِ بأماكنهم، إلى أن توقَّفَ مرَّةً أخرى وبدأ يكملُ محاضرتهِ مع نظراتهِ من الحينِ والآخر، أخرجَ بعض الصورِ وأشارَ إليها على بروجكتور، وبدأ بالشرح:
Origin and insertion of muscle..الأساسيات التي من المفروض تثير الشك لدى الإكتشاف لبعض النقاط، ظل يتحول بالقاعة ويشرح بطريقته السلسة
إلى أن انتهى حتى تنفَّست الطلبةُ بعمق..ظلَّت بمكانها، استدارت إليها خديجة صديقتها:
-إيلي إيه هتفضلي قاعدة؟..أغمضت عينيها متألِّمة:
-تعبانة أوي ومش قادرة أقف على رجلي، كان يجمعُ أشيائه، رفعَ بصرهِ إلى جلوسها، فاتَّجهَ إليها:
-قاعدة كدا ليه، ياله علشان أوصَّلك..ظلَّت بمكانها ونظراتها شاردة بنقطةٍ وهمية، إلى أن اقتربَ وجلسَ بجوارها، نهضت خديجة محمحمة:
-همشي أنا، وبدل تعبانة روحي مع الدوك، رفعَ نظرهِ إلى خديجة متسائلًا:
-هيَّ تعبانة؟..أومأت سريعًا قبلَ ردَّها وتحرَّكت مغادرةً المكان.استدارَ إليها:
-عارف طوِّلت النهاردة في السيكشن، وعارف الوقوف كان غلط عليكي، الأيام الجاية كلِّ المحاضرات هتكون بالطريقة دي، ومتنسيش المواد التانية لو عايزة تأجِّلي، توقَّفت تجمعُ أشياءها:
-مش هأجِّل حاجة ياآدم، ومتفكرشِ أنا هجيب الولد دا، أنا مش معترفة بيه أصلًا، رمقتهُ وأشارت ِإليه بعدما فتحَ فاههِ للحديث:
-لأنَّك أبوه، مش عايزاه، ولو ضغطت عليَّا أكتر من كدا صدَّقني همشي ومش هتعرف مكاني..فياريت تحترم خصوصياتي.
توقَّفَ بمقابلتها ونظرَ بعمقِ عينيها، رغم شعورهِ بالألمِ الذي ينخرُ العظام:
-امشي قدَّامي بدل ماأشيلك قدَّام الجامعة، أطبقَ على ذراعها واقتربَ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-ابني ياإيلين لو حاولتي تعملي فيه حاجة مش هرحمك، عارفة ليه؟..
تقابلت النظراتُ القريبةُ بالكثيرِ من الحديثِ بها العتاب والأسى والندم إلى أن جذبها من خصرها بقوَّةٍ حتى أصبحت بأحضانهِ متمتمًا:
-ممكن أموت ياإيلين واللي في بطنك لا، الواد دا أغلى من روحي علشان إنتِ أمُّه، ومش هتهاون معاكي لو حاولتي تقرَّبي منُّه..
لكمتهُ بعنفٍ بعدما تسلَّلت رائحتهِ وشعرت بضعفها بين يديه، تمنَّت أن تلقي نفسها بأحضانه، تمنَّت أن تستنشقَ رائحتهِ التي شعرت بانسحابِ روحها من افتقادها..
تحرَّكت سريعًا من أمامهِ حينما خارت قواها بالكامل، انسابت عبراتها رغمًا عنها تزيلها بعنف، إلى أن وصلت إلى سيارةِ أجرة لتستقلَّها مغادرةً المكان بالكامل..
عند يزن:
دلفت إلى غرفتهِ تبحثُ عنه وجدتهُ غارقًا بنومه، اقتربت منهُ وجلست بمقابلتهِ على المقعد، ابتسمت على نومهِ الملائكي، تمنَّت لو تلمسَ خصلاته، ضعفت إلى أن انحنت تخلِّلَ أناملها داخل خصلاته، ظلَّت للحظاتٍ وهي تشعرُ بفراشاتٍ تدغدغُ معدتها، أغمضت عينيها وابتسامةٌ رائعةٌ على ملامحها الجميلة إلى أن شعرت بتململه، فنهضت مبتعدةً عنه، ابتلعت ريقها تغمغمُ بصوتٍ هادئ:
-يزن ..كرَّرتها عدَّةَ مرَّاتٍ إلى أن فتحَ عينيهِ وأغمضها ليهبَّ بمكانهِ بعدما شعرَ بوجودها..
-إنتِ هنا من زمان؟!..هزَّت رأسها بالنفي تفركُ كفَّيها ثمَّ اقتربت منه:
-عايزة أروح أشوف بابا في المستشفى وخايفة لعمُّو راجح ..قاطعها عندما توقَّفَ يشيرُ إلى الباب:
-اجهزي وأنا هجهز وأحصَّلك..ابتسمت بعرفانٍ قائلة:
-شكرًا يايزن، مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه..
توقَّفَ بعدما خطا بعض الخطوات، واستدارَ بنصفِ جسده:
-معملتش حاجة للشكر، أنا اللي لازم أشكرك..خطت إلى وقوفه:
-تشكرني !! على إيه بقى؟..
تعلَّقت عيناها بغابةِ الزيتونِ التي تتمتعُ بها عيناها وهمسَ دون وعي:
-جيتي في وقت كنت بدأت أفقد الأمل في كلِّ حاجة..سحبَ كفَّيها يضمُّهما بين راحتيه:
-راحيل إحنا الاتنين بنكمِّل بعض، كان لازم نكون مع بعض علشان نقوِّي بعض، على قد ماإنتِ محتاجاني أنا كمان محتاجك وأوي كمان..
فتحت فاهها للحديثِ إلَّا أنَّهُ وضع أناملهِ على شفتيها يمنعها من الحديث:
-مش عايز أسئلة لو سمحتي، كلِّ اللي عايزه منِّك عايزك تعذريني وتسامحيتي لو جيت عليكي في وقتِ من الأوقات...قالها وتحرَّكَ سريعًا للمرحاض..
بعدَ فترةٍ توقَّفت السيارةَ أمامَ المشفى، نظرت إلى رجالِ راجح المنتشرين حول المشفى، ثمَّ أشارت إليه:
-دا ممكن يمنعني أشوف أبويا..
ترجَّلَ من السيارة، يشيرُ إليها بالنزول:
-انزلي حبيبي وخلِّي حد يقرَّب منِّك..
طالعتهُ بأعينٍ مذهولة، هل هو نطقَ حبيبي، لا تعلم لما ابتسمت وخاصةً حينما بسطَ كفِّهِ إليها، لتتشبَّثَ بها..
تحرَّكت بجوارهِ ليغمزَ بعينيهِ على ذراعه:
-فيه عروسة برضو تمشي جنبِ جوزها من غير حضن..أفلتت ابتسامةً وهتفت بضحكةٍ ناعمة:
-رايق أوي..
-وليه ماروقش، لفَّ ذراعهِ حول خصرها وتحرَّكَ بجوارها وهو يرتدي نظارتهِ السوداء يخفي بها نظرةَ الغلِّ والحقدِ التي تربَّعت بقلبه، توقَّفَ أحدُ رجالِ راجح أمامهما:
-ممنوع حدّ يدخل هنا، دي أوامر الباشا..
حكَّ أنفهِ يتجوَّلُ بأنظارهِ بالمكانِ إلى أن وصلت سيارةُ الشرطة وتوجَّهت إلى وقوفِ يزن، ترجَّلَ جواد حازم بجهازهِ اللاسلكي يشيرُ إلى الرجالِ الذين حاوطوا يزن وراحيل، ليشيرَ جواد إلى قوَّته:
-لمُّو العيال دي في البوكس، شكلهم عيال خارجين على القانون، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى يزن:
-هتنقلوه فين؟..
توسَّعت أعينُ راحيل بذهولٍ مردِّدة:
-إنتَ عايز تنقل بابا من المستشفى؟..أومأ لها وتحرَّكَ بجوارِ جواد حازم قائلًا:
-عندك مستشفيين ودول مفيش غيرهم تثقي فيهم، مستشفى الألفي ودي مديرها دكتور غزل الألفي ومستشفى البنداري، ودي مديرها دكتور يونس البنداري، توقَّفَ أمامها:
-راحيل متثقيش في أيِّ مخلوق مهما كانت درجة القرابة، حتى أنا متثقيش فيَّا أوي، لازم والدك يكون في إيد أمينة فهمتني؟..
أومأت بعيونٍ متلألئة..تمَّ تجهيزُ سيارةِ إسعاف لنقلِ مالك العمري إلى مستشفى الألفي..دلفَ للداخلِ وهي تجاورهُ يسألُ عن مكتبِ دكتور غزل الألفي، بعدَ قليلٍ قابلتهم غزل، توقَّفوا أمامها لتحيَّتها معرِّفًا عن نفسه:
-يزن السوهاجي جاي عن طريق حضرة الظابط جاسر الألفي..
أشارت إليهم بالجلوس:
-أهلًا يابني اتفضل، انتقلت بعينيها لراحيل فأشارَ عليها:
-أستاذة راحيل السوهاجي، باباها تعبان، جلطة أدِّت لتوقُّف أعضائه..عنده أعداء من كلِّ حزب ولون، فكنَّا محتاجين الحماية، علشان كدا حضرة الظابط نصحنا نجي لحضرتك..
تراجعت بجسدها ووزَّعت عينيها عليهما قائلة:
-اعتبريه في أمان بدل جاسر قالِّك هيكون هنا في أمان فثقي يابنتي، انا باجي يومين بس في الأسبوع وساعات يوم واحد، بس متخافيش الدكاترة هنا على الثقة التامة، يعني لو جيتي في يوم ومكنتش موجودة ماتخفيش، أيِّ دكتور هنا غزل الألفي لو مش واثقة في كلامي اسألي برَّة عن غزل الألفي..
حمحمَ يزن مجيبًا:
-طبعًا حضرتك مش عايزة سؤال، وكمان حضرتك عن طريق المستشار راكان البنداري، يعني مستحيل يرشَّح حد مش واثق فيه..
-خلاص أنا هعدِّي على المريض، وأرشَّح لك أفضل الدكاترة عندنا..
بعد فترة خرجت من المشفى وجدت زوجها ينتظرها بالسيارة، ترجل مبتسمًا، رفع نظارته الشمسية على خصلاته المختلطة بالشعر الأبيض
-حبيبتي اتأخرتي ليه ..قالها وهو يحتضن كفيها بين راحتيه
-بقالك كتير
فتح باب السيارة، لتستقلها مع استدارته لمحل القيادة
-لسة واصل من ربع ساعة بس، حتى لو من زمان مستعد استناكي العمر كله ياغزالتي
افلتت ضحكة ناعمة
-مش هتتزهق يعني ياجواد..رفع كفيها يلثمها
-تعتقدي جواد ممكن يزهق ياغزل، انت بس اللي مفكراني كبرت ومبقتش نافع
اقتربت تعانق ذراعه
-فشر ياحضرة اللوا مين دا اللي كبر، انت هتفضل جواد الظابط الصغير اللي
خطف عقل وقلب غزل بنت سبعتاشر سنة ..قاطعهم طرقات على باب السيارة
فتحت زجاج النافذة لترتفع ضحكاتها، انحنى بجسده
-مش عيب ياسيادة اللوا توقف قدام المستشفى بفعل فاضح كدا، اتصل بالاداب
-امشي ياحيوان من هنا، ايه اللي جاب الجربوع دا هنا
قهقهت تضع كفيها على وجنة جاسر
-بس ياجواد دا جربوع، دا عسل
سبها بداخله
-عسل اسود على دماغك ودماغه يادكتورة، وانا اللي ابن..ارتفعت ضحكات جاسر يشير إليه بالتحرك
-خلاص خلاص هسامحك المرة دي
أشار إليه بغضب
-الواد دا جاي هنا ليه، خرج برأسه من نافذة السيارة
-وٓلا ولا روح شوف مراتك فين بدل مانت ماشي تلف زي العاطل كدا..قالها وقاد السيارة ليطالعه جاسر جاحظ العينين مرددا
-أنا ولا وعاطل...كله بحسابه ياحضرة اللوا..وصل إليه يزن، استدار متسائلًا
-كله تمام ..اومأ له بالايجاب، تحرك معه للداخل قائلًا
-علشان تطمن اكتر هنحط كاميرا، ودا تصريح من راكان البنداري يعني قانوني
بفيلَّا الجارحي، دلفَ إسحاق إلى غرفةِ مكتبه، توقَّفَ فاروق يطالعهُ باستفهام:
-مالك فيه إيه؟..قولتلي عايزك ضروري..
أشارَ إليهِ بالجلوس، فتح زرَّ حلَّتهِ وجلسَ يسحبُ نفسًا، ثمَّ زفرهُ بهدوءٍ بعدما شعرَ بالاختناق..فركَ جبينهِ يهزُّ رأسهِ بعنف:
-مصيبة يافاروق..تأرجحت أعينُ فاروق بقلقٍ من حالتهِ التي يراها به لأوَّلِ مرَّة، مما جعلهُ ينهضُ من فوق مقعدهِ واتَّجهَ يجلسُ بجواره:
-مالك فيه إيه؟!
مسحَ وجههِ بعنفٍ يضعُ كفوفهِ بنصفِ وجهه، ينظرُ أمامهِ بشرود:
-أرسلان..
ارتفعت دقَّاتُ قلبَ فاروق يرمقهُ بطرفِ عينيهِ بنظرةٍ زائغة، وأردفَ بلسانٍ ثقيل:
-ماله أرسلان، أوعى تقولِّي عرف حاجة؟!..
هبَّ من مكانهِ يدورُ حولَ نفسه بالغرفةِ وأنفاسهِ بالارتفاع:
-قريب، كلِّ حاجة هتنكشف قريب، أنا عاجز ومش عارف أفكَّر، لازم تفكَّر معايا، إنتَ عارف أنا عند أرسلان أعجز ودماغي بتوقف..
شعرَ برجفةٍ قويةٍ تعتصرُ فؤادهِ ليتساءلَ بحروفٍ ممزوجةٍ بالألم:
-دا وعدك ليَّا ياإسحاق، فضلت تقول أنا عندي استعداد أعمل وأعمل وجاي دلوقتي تقولِّي عاجز!..
اقتربَ منهُ وغرزَ عينيهِ بأعينِ أخيه:
-دا قبل ماأعرف أنُّه ابنِ مرات مصطفى السيوفي، والمصيبة الأكبر أنَّها عرفت أنُّه ابنها، التقطَ الملفَّ الذي كان بين يديهِ وألقاهُ إلى فاروق:
-بص شوف صورة الراجل دا وركِّز فيها أوي..فتحَه بأيدي مرتعشة، نظرَ إلى الصورةِ المحفوظةِ بداخلِ الملف، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى أخيه:
-مش فاهم حاجة، دي صورة طفل وصورة ستّ وراجل..
ضربَ على الملفِّ بقوَّةٍ أصابت عقلَ فاروق بالجنونِ حينما انبثقت أحرفهِ التي شعرَ حينها بتمزُّقِ روحهِ وهو يردف:
-ركِّز يافاروق في صورةِ الراجل، الولد نُسخة تانية من أبوه الحقيقي، وخد المفاجأة الكبيرة الطفل التاني دا بيكون إلياس السيوفي..
تشتَّتَ حيرةً بنظراتٍ ضائعةٍ يهزُّ أكتافه:
-أنا مش فاهم حاجة، مال السيوفي بأرسلان والراجل اللي في الصورة؟..
ثارت جيوشُ غضبِ إسحاق وفقدَ السيطرةَ حتى أرجعَ خصلاتهِ للخلفِ وكاد أن يقتلعها وهو يشيرُ إلى الملفِّ مرَّةً وإليهِ مرَّة:
-أرسلان بيكون ابنِ الراجل اللي في الصورة، والطفل دا أخوه، لأنَّهم اتخطفوا الاتنين وطبعًا إحنا لقينا أرسلان، ومصطفى لقي إلياس، إيه يافاروق أومال لو مااشتغلتش مخابرات، الدماغ دي فين، ركِّز ودقَّق في ملامحِ الولد، أمُّه جاتلي من شهرين ووقفت قدَّامي وهدِّدتني، ورغم كدا حاولت وقطعت كلِّ السبل اللي تقدر تثبت فيها أيِّ حاجة تخصُّه، ومنعته عن بيتِ السيوفي، لكن المصيبة الولد مقدرتشِ عليه، الدم بيحنِّ يافاروق ولأوِّل مرَّة أرسلان يعارضني..
عدَّت دقائق من الصمتٌ المميتٌ بالغرفةِ بعد إلقائهِ قنبلةَ حديثه، التي جعلت فاروق يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ وكأنَّ الهواءَ سُحبَ من المكانِ بأكمله..
تراجعَ يفتحُ زرَّ قميصه، وارتجفَ جسدهِ بالكامل، هرولَ إسحاق إليهِ بكوبٍ من الماءِ الموضوعِ على سطحِ المكتب:
-فاروق اشرب، خُد نفس، زاغت أبصارهِ يردفُ بتقطُّع:
-متخلُّهمش ياخدوه ياأسحاق أنا هموت لو حاولوا يبعدوه عن حضني..
ربتَ على كتفهِ وأظلمت عيناهُ بالأسى على أخيه، سحبَ بصرهِ بعيدًا عنهُ وأطرقَ رأسهِ خجلًا وعينيهِ تحوًَّلت لجليد..
-هوَّ ميعرفشِ حاجة، كنت بسأله عن حالةِ إلياس، من وقتِ مامراتِ السيوفي جاتلي وأنا براقبهم كلُّهم، عرفت فيه مشكلة عندهم بس معرفشِ إيه هي، أرسلان حكى شوية كلام عن حالةِ إلياس، بس هو ميعرفش، ربطت الكلام مع التقرير، وجمعت الأخبار كلَّها، ودلوقتي أنا شاكك 99% أنُّه أخوه، منتظر التحليل، كلام إلياس اللي أرسلان قاله بيوحي بكدا..
رفعَ رأسهِ يتمتمُ بتقطُّع:
-ممكن يكون مشكلة تانية ومش أخوه..
هزَّ رأسهِ بالنفي وأجابه:
-فاروق راجل زي إلياس، لمَّا يوصل به الحال للتدهوُّر دا يبقى اعرف الموضوع كبير، وتخبطُّه بالكلام، وكمان أنُّه يروح مستشفى هوَّ وأخوه دا مش طبيعي، أنا كلَّمت المستشفى علشان أعرف هوَّ كان بيعمل إيه، وبكرة الصبح الأخبار هتكون عندي، بس أنا من خبرتي بقولَّك الاتنين دول أخوات، ولو كدا يبقى إلياس مش هيسكت علشان البلاوي اللي ورا دا كلُّه عمُّهم، ودا أخباره كلَّها بتقول أنُّه مجرم، وفيه شكّ كبير يكون له علاقة بمنظَّمات، أنا وراه، كان لازم أعرَّفك، علشان نفكَّر إزاي نبعد الشك عن إلياس أو ..صمتَ للحظاتٍ ثمَّ تابعَ حديثه:
-نزوَّر التحليل اللي هيحاولوا يعملوه، نحاول بكلِّ الطرق مايوصلوش لحاجة، بس طبعًا دي هتكون مغامرة كبيرة جدًا ولو أرسلان عرف ممكن نخسره للأبد..
توقَّفَ مترنحًا يشيرُ بيديه:
-لا لا..إياك تعمل حاجة زي كدا، أنا لازم أقابل أمُّه الحقيقة..
توسَّعت أعينُ إسحاق بذهولٍ ولم يشعر بنفسهِ وهو يهتف:
-تبقى مجنون!..
مرَّت عدَّةَ أيامٍ ولم يعرف مكانه، حتى شعرَ مصطفى بالعجز، رغمَ سلطتهِ والبحثِ عنه، بينما فريدة التي التزمت الفراش ولسان حالها يردِّدُ اسمه..
جلسَ بمكتبهِ مع أحدِ الضباط المقريبين إليه:
-مفيش مكان إلَّا ما دوَّرنا فيه، مش عايزين ننزِّل صورته للجهاز، تليفونه مقفول وعربيته هنا..
قاطعهُ إسلام:
-طيب نشوف المستشفيات يابابا، يمكن..هبَّ من مكانهِ مفزوعًا وشعرَ بتوقُّفِ نبضه:
-متكمِّلشِ يابني الله لا يسيئك، دارَ بالمكتبِ محاولًا أخذَ نفس، استمعَ إلى هاتفه.. رفعهُ وأجابَ سريعًا:
-إيه ياأرسلان مفيش جديد؟..
أجابهُ قائلًا:
-للأسف ياسيادةِ اللوا مفيش أيِّ أخبار، لو يفتح تليفونه هيكون سهل نوصلُّه، لكن مفيش أيِّ أمل نمشي عليه، وكمان العربية..
تنهيدةٌ عميقةٌ غادرت ضلوعهِ ليجيبهُ بأسى وقلبٍ محفورٍ بحروفِ الألم:
-تمام يابني، ربِّنا يرد الغائب..
بالأعلى بغرفتها متمدِّدةً على فراشها تحتضنُ نفسها بوضعِ الجنين، تضمُّ قميصهِ لأحضانها، دلفت إليها غادة تحملُ طعامها، اتَّجهت إلى فراشها بعدما وضعت الطعامَ على الطاولة:
-ميرال..قومي حبيبتي علشان تاكلي، بقالك يومين ماأكلتيش، حرام عليكي متنسيش إنِّك حامل، قاطعهم طرقاتٌ على بابِ الغرفة، دلفت رؤى تطالعُ ميرال بعيونٍ حزينة، كأنَّها جثةٌ على فراشِ الوداع..
-مفيش جديد ياغادة..هزَّت رأسها بالرفضِ وترقرقت عيناها بالدموع:
-مفيش بابا بيحاول يوصلُّه، أنا خايفة على ماما فريدة..
نهضت ميرال من مكانها بعدما استمعت إلى حديثِ غادة، تحرَّكت بخطواتٍ واهنةٍ تستندُ على الجدارِ بأقدامٍ حافية، دفعت البابَ ودلفت للداخل، وجدتها تغفو وبكفِّها إبرةٌ مغروزة، يبدو أنَّها مهدئ أو مغذي، لم تكترث لذلك اتَّجهت إليها وجلست بجوارها على الفراش، مع متابعةِ غادة ورؤى إليها، توقَّفتا على بابِ الغرفةِ يطالعونها بأعينٍ ينبثقُ منها الحزن، مسَّدت على خصلاتِ فريدة:
-ماما ..كرَّرتها عدَّةَ مرَّاتٍ لتفتحَ فريدة عينيها بوهن، دقيقةٌ تطالعها بعيونٍ تحملُ من الألمِ ماينشقُّ له الصدر، اختلجَ صدرها بقبضةٍ كادت أن تزهقَ روحها، كيف تلومها على ما فعلتهُ بهما، وهي تحملُ من الغصصِ مالا يتحمَّلهُ أحد، انسابت دموعها كغزارةِ المطرِ تشهقُ بصوتها الباكي:
-أنا عايزة جوزي ياماما، ليه عملتوا فينا كدا، قلبي وجعني ومش قادرة أتنفِّس..كانت دموعها تنصهرُ على خدَّيها من حديثِ ميرال المؤذي لروحها، هل اقتصَّ ربَّها بما فعلتهُ بالماضي، ظلَّت عيناها متعلقةً بأعينِ ميرال التي ارتجفَ جسدها وهي تحتضنُ أحشاءها:
-عايزاه يرجع ياماما وهاخده ونهاجر من هنا خلاص مبقاش ينفع نقعد هنا، خلِّي عمُّو مصطفى يرجَّعلي جوزي لو سمحتي، هسامحك والله..
أزالت عبراتها تهزُّ رأسها مقتربةً من فريدة تحتضنُ كفَّيها ثمَّ انحنت عليهما تقبلهما:
-أبوس على إيدك مش قادرة أتنفس ياماما..رفعت كفَّيها على رأسها وأردفت بتقطُّع:
-هيرجع حبيبتي، أنا متأكدة أنُّه هيرجع، مش هيقدر يبعد كتير..
عندَ إلياس قبلَ عدَّةِ أيام، بعدَ حديثهِ مع فريدة، خرجَ من المنزلِ سيرًا على الأقدام، حاولَ حرسهِ أن يتابعَ سيرهِ ولكنَّهُ رفض، ظلَّ يتمشى بالشوارعِ دون هدى، اختلى بنفسهِ مثلَ الطفلِ التائه، جلسَ أمامَ النيلِ ينظرُ إليه بدموعٍ تخطُّ على وجنتيه، كالفتاةِ التي فقدت والديها وهي بعمرِ العاشرة، ظلَّ لبعضِ الوقتِ ومازالت دموعهِ تنسابُ بصمت، انهارت حصونه، وهو يتذكَّرُ ذكرياتَ طفولته، هنا شعرَ بخناجرَ تُغرزُ بصدره..
آاااه..خرجت بقيحِ جروحه، ومازالت ملامحهِ لوحةً من الألمِ والحزن، ابتسامةٌ حزينةٌ يهمسُ لنفسهِ بحروفِ الألم، حياتي ضاعت، بقيت مهشَّم، ماليش وجود، لا حصَّلت إلياس السيوفي ولا حصَّلت يوسف الشافعي..
إنتَ مهشَّم ياإلياس مالكش وجود، تحمل ماضي مشوَّه وبقايا لحياتك اللي مش عارف هتكون إزاي، إنتَ ضعت، لا إنتَ مت، موِّتوك وإنتَ عايش..
آااه صرخةٌ توغّّلت صدرهِ يحرِّكُ كفِّهِ عليه علَّهُ يزيلُ كمَّ الألمِ الذي يشعرُ به..
دقائق بل ساعات مرَّت وهو مازال جالسًا ينظرُ بشرودٍ للنيل..قاطعهُ رنينُ هاتفه، عينًا ممزوجةً بالدموعِ والوجعِ العميق، يمرِّرُ أناملهِ على صورتها التي أنارت شاشةَ هاتفه..
قلبه يحنو إليها ويتعاطفُ لنبضها باسمه، ولكنَّ عقلهِ وآهٍ من عقلهِ وتخبُّطه، ليجعل شيطانهِ يتلوَّنُ به، ولكن كيف للعقلِ أن يتغلَّبَ على القلبِ وهو الذي لا يشعرُ بالحياةِ سوى بقربها، رغم قساوتهِ معها، إلَّا أنَّه يتنفسُ عشقها، رفعَ الهاتفَ وأجاب:
-أيوة..استمعَ إلى شهقاتها التي شقَّت صدره، ناهيكَ عن دموعها التي شعرَ وكأنَّها شظايا تشحذُ جلدَ صدره:
-إلياس ..إلياس ..كرَّرتها عدَّةَ مراتٍ مع بكائها المستمر، قول إنِّنا في كابوس مستحيل اللي سمعته دا، إلياس قولِّي إنِّك بتحلمي وهتفوقي منُّه، ماما فريدة مستحيل تعمل فينا كدا، مستحيل، أنا بنتها ياإلياس، أنا بنتها…
كرَّرتها ببكاءٍ صارخةً حتى انهارت حصونهِ بالكامل..لتصرخ:
-مستحيل أكون بنتِ الراجل دا، إنتَ سامعني، أنا ماليش ذنب ياإلياس أنا معرفوش، لا أنا مش هيَّ لا أنا بنتِ مدام فريدة صح كدا، مش إنتَ كنت بتقولِّي كدا، صرخت :به
-إنتَ ساكت ليه، أوعى تقولِّي إنَّك مصدَّق، أنا موافقة تقولِّي يابنتِ مدام فريدة بس متقولِّيش بنتِ الراجل دا،
صرخةٌ بآهةٍ عاليةٍ خرجت من جوفِ شعورها بكمِّ الألمِ وكأنَّ عظامَ صدرها تنصهر..
-حياتنا كدا خلاص، يعني إحنا مابقاش ننفع نكمِّل مع بعض، أنا بنتِ الراجل اللي سرق حياتك، وإنتَ ابنِ الستِّ اللي سرقت حياتي..
توقَّفت تدورُ بالغرفةِ بترنُّحٍ كشجرةٍ مكسورةِ الأغصانِ تدفعها الرياحَ لتهوى على الأرضيةِ وترتفعُ شهقاتها..
إنتَ فين حبيبي ارجعلي لو سمحت، إلياس إنتَ فين..ظلَّت تردِّدُ اسمهِ بلسانٍ ثقيلٍ إلى أن أغلقت الهاتف..
هنا شعرَ وكأنَّ أحدهم ألقاهُ بضربةٍ موجعةٍ قسمت ظهرهِ لنصفين، وهشَّمت عمودهِ الفقري ليشعرَ بالعجزِ وعدمِ القدرةِ على النهوض..حديثها كصاعقةٍ أصابت قلبهِ الممزَّق، أمسكَ هاتفهِ وظلَّ يقلِّبُ به إلى أن تذكَّرَ مقابلتهِ لإسراء:
-نعم ياباشا، واللهِ ما عملت حاجة..أشارَ إليها بالجلوسِ يستدعي ساعي مكتبه:
-اعملي قهوة والمدام ليمونادا..
-تحتِ أمرك ياباشا، أخرجَ سيجارتهِ وأشعلها وعينيهِ تحاصرُ جلوسها، ابتلعت ريقها خوفًا من نظراته، ورغم هدوئهِ إلَّا أنَّ تلك النظراتِ المميتةِ جعلت قلبها يسقطُ بين أقدامها، نفثَ رمادَ سيجارتهِ وعينيهِ على تحرُّكِ أعضاءِ جسدها، ظلَّت تفركُ بكفَّيها مبتعدةً عن نظراتهِ الافتراسية، وصلَ الساعي بالقهوة، أشارَ إليه:
-ادِّي المدام ليمونادا، هزَّت رأسها رافضةً ثمَّ أردفت بتقطُّع:
-شكرًا ياباشا، أنا عندي بنت زمانها على وصول من الجامعة وهتقلق عليَّا لو ..قاطعها متوقِّفًا ثمَّ اقتربَ وجلسَ بالمقعدِ الذي يقابلها ثمَّ دنا بجسدهِ للأمامِ هامسًا بسؤال:
-فريدة الشافعي فكراها ..توسَّعت عيناها بذهول، تهزُّ رأسها مرَّةً بالرفض ومرَّةً بالإيجاب، زفرَ بغضبٍ وصاحَ قائلًا:
-وبعدين معاكي، جاوبي أه ولَّا لأ؟..
-أيوة ياباشا، فريدة كانت جارة وصديقة، بس انقطعت أخبارها بعد جوازي، آخر مرَّة شوفتها فيها بعد جوازها من أخو جوزها بكام شهر، صمتت للحظاتٍ تلتفتُ حولها:
-حضرتك عايز منها إيه، أنا ماليش دعوة، أنا ستّ على بابِ الله ماليش غير بنتي وابني، أشارَ بإصبعهِ أن تصمت:
-ردِّي على قدِّ السؤال وبس، وعايز الصدق، هتكذبي ..هزَّت رأسها سريعًا بالنفي:
-هوَّ كلِّ شوية حد يجي يسألني عليها ليه، واللهِ ماأعرف مكانها ولا أعرف أنَّها عايشة ولَّا لأ..قبضةٌ قويةٌ اعتصرت فؤادهِ متسائلًا بخفوت:
-احكيلي تعرفي عنها إيه، ووعد منِّي مش هعملِّك حاجة..قصَّت لهُ كلَّ شيئٍ من موتِ جمال إلى زواجها ومعاناتها مع راجح..
انحبست أنفاسهِ بصدره، ولم يشعر سوى بالألمِ الحادِّ الذي تسلَّلَ إلى جسدهِ بالكاملِ ليرفعَ كفِّهِ وبأناملهِ المرتعشةِ محاولًا فتحَ زرَّ قميصه، بعدما أشارَ للعسكري قائلًا بصوتٍ متقطِّع:
-رجَّعوها مكان ماجبتوها..خرجت وعيناها عليه إلى أن توقَّفت على بابِ مكتبه:
-يمكن تموِّتوني بس راجح دا شيطان وربِّنا ينتقم منُّه، أنا مش خايفة منُّه ولا منَّك، الراجل اللي يذلِّ ست يبقى مش راجل، واطي راجح وبدل مايلملم ولاد أخوه ضيَّعهم هوَّ والزبالة مراته، ولو حضرتك عايز توصل لفريدة علشان تكمِّل انتقامك منها بأوامره أنا معرفشِ وحتى لو أعرف مش هقولَّك، الربِّ واحد والعمرِ واحد يابني، شكلك ابنِ حلال وربِّنا منحك وظيفة علشان تدافع عن حقِّ المظلوم متعملشِ زي أهلِ البلد اللي رموها بالباطل، فريدة أشرف ست، كانت أم وأخت وجارة، والناس اللي خافت من راجح زمان بسبب تجبُّره روح شوف حالتهم إزاي، ربِّنا عمره مايسكت على الظالم بيسلَّطه على نفسه، ربِّنا يكفينا شرُّكم يابني..ربِّنا يكفينا شرُّكم، قالتها وتحرَّكت للخارجِ تدعو عليهم ليخترقَ صوتُ دعائها أذنيهِ وهي تبوحُ بمرارة:
-ربِّنا على الظالم والمفتري، ربِّنا على الظالم والمفتري...خرجَ من شرودهِ على رنينِ هاتفهِ مرَّةً أخرى، أغلقهُ واعتدلَ
ينهضُ بتخبُّطٍ يشيرُ إلى سيارةِ أجرة، استقلَّ السيارةَ قائلًا:
-ودِّيني السويس ...بعدَ فترةٍ وصلَ إلى الحيِّ الذي كان يسكنهُ والديه، نزلَ من السيارةِ ينظرُ حولهُ بضياع..
تحرَّكَ إلى عدَّةِ أماكن يتفحَّصها وجلسَ مع بعضِ الأشخاصِ الذين بعمرِ فريدة أو أكبرَ منها بسنواتٍ معدودة، ظلَّ يتنقَّلُ هنا وهناك إلى أن جلسَ أمام البحرَ ينظرُ إليهِ بضياع، مرَّ يومينِ وهو بالسويس إلى أن خطرَ في ذهنهِ الذهابَ إلى قبرِ والده، تحرَّكَ يبحثُ عن المقابر، سألَ المسؤولَ عن المقابر:
-لو سمحت فين مقابر عيلة الشافعي هنا؟..دلَّهُ الرجلَ على مكانِ قبرِ والده، سحبَ قدمهِ بصعوبةٍ يتحرَّكُ بتثاقلٍ يحملُ على ظهرهِ الكثيرَ من الألمِ الذي علمهُ بما أخبرهُ به البعض، وصلَ إلى المقبرة، ينظرُ إليها بتوهان، هل هنا دُفنَ والده، هل هنا دُفنت ذكرياتَ حياته، فيومَ وفاةِ والدهِ هو يومَ دفنهِ حيًّا، ظلَّ لدقائقَ معدودةً ينظرُ إلى القبرِ بعيونٍ خاوية، لقد جفَّت دموعه من كثرةِ بكائها، كم صعبٌ أن أخبركَ عن ماأشعرُ به، هنا كُتبت عليه حياةُ الضياع، هنا دُفنت أحلامهِ وهويَّته، ليتهُ ظلَّ لبعضِ السنواتِ كي يعلمهُ كيف يكونُ الحضنُ الحامي، هل ماشعرَ به بأحضانِ مصطفى كانت سراب، هوى أمام القبرِ بركبتيهِ عندما تلاشت ساقيهِ وأصبحت هلاميتين، بسطَ كفَّيهِ بارتجافٍ على قبرِ والده، ظل يمرِّرُ يديهِ على المقبرةِ يعاني من قيحِ نزيفهِ الداخلي ..لم يشعر بنفسهِ وهو يستندُ برأسهِ عليها وتساقطَ الدمعُ مرَّةً أخرى يتمتمُ بخفوت:
-با...با ..أخرجها بثقلٍ وتقطُّع، شهقةٌ من جوفهِ يغمضُ عينيه:
-موتنا من بعدك يابابا، شوفت الراجل اللي المفروض يكون حمانا ويكون أبونا التاني عمل إيه، هوَّ للدرجة دي الدنيا بقت وحشة، هوَّ ممكن عم يعمل في ولاد أخوه كدا..بكاءً حارقًا وصرخاتٍ يتبعها لكمةً بالأرض، وكأنَّهُ يزيحُ الألمَ الذي غزا حياته، ليجعلهُ ميتًا وهو على قيدِ الحياةِ من غدرٍ بلا شفقةٍ من الأقربونَ إليه..
-ليييييه، ليه كلِّ الغلِّ والحقدِ دا، إيه اللي حصل يوصَّل العم يقتل ولاد أخوه وهمَّا على وشِّ الدنيا، ياريتك أخدتنا معاك يابابا، على الأقلِّ كان هيكون لينا شهادة وفاة واحدة، حرمونا منَّك وحرموك منَّا، أنا ضايع يابابا، هويِّتي فين، مقسوم نصين لا عارف أكون يوسف ولا عارف أكون إلياس، وأخويا اللي معرفشِ عنُّه حاجة…
ياترى عايش ولَّا لأ، ياترى حياته إزاي؟..
ظلَّ لعدَّةِ ساعاتٍ لم يشعر بالوقتِ الذي مرَّ عليهِ وهو جالسٌ بتلك الحالةِ إلى أن استمعَ إلى صوتِ مصطفى:
-كدا ياإلياس باباك هان عليك تعمل فيَّا كدا..
-بابا..قالها متوقِّفًا بمقابلته بجسد واهن، ضمَّهُ مصطفى لأحضانهِ بقوَّةٍ وكأنَّهُ سيذهبُ ويتركه..
-حبيب بابا، ينفع تعمل فيَّا كدا يابني، طفل إنتَ علشان تتوِّهني وراك…
آسف..أخرجها بصوتٍ خافت، وعيونٍ تلمعُ بالانكسار، ضمَّ وجههِ يفركهُ بكفَّيه:
-فين إلياس مين اللي واقف قدَّامي دا..
قالها وهو يطوفُ بنظراتهِ عليه، وهاتفهُ بنبرةٍ منكسرة:
-فين إلياس ابني، إنتَ مستحيل تكون ابني..ابتعدَ عن محاوطةِ كفَّيهِ ورفع عينيهِ الجريحتينِ بمياهِ الألمِ قائلًا:
-لسة مصرّ تقول ابنك ياسيادةِ اللوا، مش كفاية سرقك لهويِّتي..
شعرَ مصطفى بالذنبِ من ضعفهِ وانكسارِ روحه، ليقتربَ يحاوطُ أكتافه:
-تعالَ حبيبي مراتك بتموت وأمَّك كمان بلاش تعمل كدا لو سمحت يابني، افتكرلي حاجة كويسة..
لم يستطع كبحَ هياجِ مشاعرهِ بذكرهِ لأغلى اثنينِ على قلبه، شعرَ بالخوفِ والقلقِ ليجذبهُ من ذراعهِ يتحرَّكُ به عائدًا إلى القاهرة.
وصلَ إلى فيلَّا السيوفي، كانت تغفو كعادتها تحتضنُ نفسها، دلفَ للداخلِ وعينيهِ تتعمَّقُ بملامحها التي اشتاقها حدَّ الجحيم، خطا خطوةً إلَّا أنَّ أحدهم دفعَ البابَ يصيحُ باسمه:
-إلياس ..قالتها فريدة وهي تهرولُ تضمُّهُ بأحضانها وتبكي بصوتٍ مرتفع:
-كدا ياإلياس، هنَّا عليك يابني..
هبَّت من نومها بعدما استمعت إلى بكاءِ فريدة، لتعتدلَ فوق الفراشِ تتابعهُ بعينينٍ جريحتين من كثرةِ الحزن، تقابلت النظراتُ بينهما في عتابٍ طويل، جذبَ مصطفى فريدة قائلًا:
-سبيه حبيبتي خلِّيه ياخد شاور ويرتاح شوية، ربتَ على كتفه:
-حبيبي خد شاور هنستناك نتعشَّى كلِّنا مع بعض، أخواتك قافلين على نفسهم وزعلانين، بترجَّاك يابني بلاش توجع قلبي عليك، أنا مش هسمحلك تتكسِر كدا، أنا ربِّيت راجل أسد ومش هتنازل عن كدا…
كانت عيناهُ عليها وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثِ مصطفى الذي سحبَ فريدة وتحرَّكَ يغلقُ البابَ خلفهِ بهدوء..
جلسَ على المقعدِ يحتوي رأسهِ بين راحتيه، ظلَّت تتابعهُ بصمتٍ إلى أن توقَّفت مترنحةً وبجسدٍ مرتعشٍ همست اسمه بتقطُّع، ليرفعَ عينيهِ الذابلة إليها:
-كنت فين، نسيت إنَّك سايب واحدة حامل وراك، نزلَ بعينيهِ على بطنها ثمَّ نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الحمَّامِ دون حديث..
انسابت عبراتها على حياتهما التي انهارت وأصبحت شظايا، خرجَ بعد قليلٍ يلفُّ نفسهِ بمنشفة، اقتربت منهُ تضعُ كفَّيها على كتفهِ العاري، تراجعَ كالملسوعِ يشيرُ إليها:
-ماتلمسنيش ولا تقرَّبي منِّي، دلفَ لداخلِ غرفةِ ثيابهِ وخرجَ بعد دقائق، متَّجهًا إلى غرفته، هرولت خلفهِ تتشبثُ بكفِّه:
-رايح فين ياالياس..نزعَ كفِّهِ ورفعَ عينيهِ إليها:
-مش عايز أكرهك، لو سمحتي ابعدي عنِّي، متخليش غضبي يحرقك بذنب ابوكي
دنت منه تضم وجهه بين راحتيها، وعيناها التي تكورت بها خط من الدموع، ناهيك عن ذبولها قائلة
-إنت اللي متقولش كدا علشان مكرهكش ياإلياس،، مش بكفيك ياحضرة الظابط، انا بنت قلبك يابن السيوفي، رفعت نفسها وطبعت قبلة على خاصته تضع رأسها بحناياه، تحاول أن تفيق من اسوء كوابيسها وخرج صوتها متقطع
-احنا قدرنا واحد، لا انت مسموح لك تبعد وانا مسموح لي ابعد عنك ..رفعت عيناها المتلألئة بنيران الألم
-
-انا اسمي ميرال جمال الدين، اللي هي مرات إلياس السيوفي ماليش دعوة باللي اتقال
تراجعَ بعيدًا وغادرَ المكانَ وهو يردِّد:
-أبوكي هقتله ياميرال، سمعتيني موته هيكون على إيدي، بس مش هموِّته موت عادي، ياريتك تنسحبي من حياتي..قالها وتحرَّكَ يغلقُ البابَ خلفهِ دون أن ينظرَ إليها، لتهوى على الأرضِ تبكي بشهقاتٍ وهي تحاوطُ بطنها...مرَّ يومينِ وهو حاليًا نفسه بغرفتهِ لم يختلط بأحد..
دلفَ مصطفى إليهِ وقلبهِ يتمزَّقُ على حالته، اقتربَ منهُ وجدهُ جالسًا بالأرضيةِ وحولهِ صور مراحلهِ منذ الطفولة، ربتَ على كتفه:
-إلياس..رفعَ رأسهِ وليتهُ لم يرفعها، هل هذا إلياس السيوفي، ابتلعَ آلامهِ وهتفَ بتقطُّع:
حبيبي قاعد كدا ليه، قوم ياإلياس..مينفعشٍ اللي بتعمله في نفسك دا، إنتَ كدا بتموِّت نفسك يابني..
ابتسمَ بسخريةٍ يهزُّ رأسهِ بجمود:
-إلياس ابنك!! طيب إزاي، إيه دا ياسيادةِ اللوا العظيم الموقَّر صاحبِ الأخلاق لسة مصرّ إنِّي إلياس، ارتفعت ضحكاتهِ وتمدَّدَ على الأرضِ كالذي فقدَ عقله:
-تلاتين سنة وأنا عايش في كدبة، أب غير الأب وأم غير الأم ...أم اعتدلَ ينظرُ إلى مصطفى:
-هوَّ أنا بحلم ..هزَّ رأسهِ يتجوَّلُ بنظراته:
-أيوة أنا بحلم، أيوة بحلم مستحيل دا يكون حقيقي، دا مش حلم دا كابوس..مراتي تطلع بنتِ أسوأ راجل، وكمان حامل بابني، نظرَ للخارج:
-ابني، ياترى هختار ابني ولَّا أختار أبويا وسيرته، ولَّا أمي...أه وأمي تطلع أكتر شخص كرهته، نظرَ لأعينِ مصطفى:
-تفتكر دا عدل يامصطفى باشا؟..
-إلياس فوق بقى، مكنتش أعرف إنَّك ضعيف كدا..
انحنى بجسدهِ إلى مصطفى:
-إلياس مين ياباشا، حضرتك مش واخد بالك، إلياس بح بح يامصطفى باشا..
حاوطهُ وحاولَ أن يهدِّئَ من روعه:
-حبيبي اسمعني، أنا مكنشِ قصدي أدمَّرك زي مابتقول، ولا قصدي أسرق حياتك..
-عارف مكنشِ قصدك، وكمان عارف اللي أخد أخويا برضو مكنشِ قصده، بس ياترى هيكون عايش ولَّا لأ، تعرف
خايف أخويا التاني يطلع مجرم، ولو ربِّنا بيكرهني أكتر أكون دمَّرت حياته من اللي حكمت عليهم وأنا معرفش، صح يابا..توقَّفَ عن الحديثِ واتَّجهَ بنظرهِ إليه:
-بابا إزاي وإنتَ مش أبويا، يعني أمّي مش أمّي وأبويا مش أبويا، ولا إلياس طلع إلياس...توقَّفَ بجسدٍ متخبِّطٍ لم يستطع الثبات، ترنَّحَ كالمخمورِ يردِّدُ إلياس طلع مش إلياس..
حياة كلَّها كدبة، وأمي طلعت مش أمي..إنتَ مش أبويا..وأنا مش أنا..
إلياس السيوفي طلع وهم لا، طلع كدبة، ظلَّ يردِّدُها وهو يغادرُ الغرفة..
وصلت إليهِ ميرال:
-هتسيبه كدا، لازم تتصرَّف ياعمُّو، أنا خايفة عليه دا ممكن يعمل حاجة في نفسه،أحسَّ وكأنَّ أحدهم طعنهُ بمنتصفِ ظهرهِ ليشعرَ بعدمِ قدرتهِ على الحركة، وانسابت عبراته:
-حاولت ومش عارف، مش مهمّ اللي بيعمله المهمّ يفضل في البيت ومرجعشِ أدوَّر عليه تاني..
يومٌ آخر محمَّلٌ بالأحزانِ التي شطرت القلوب، نهضت من نومها باكيةً بصوتٍ مرتفع، لقد اشتاقت إليهِ حدَّ الجنون، اشتاقت إلى ضحكاتهِ إلى همساتهِ حتى إلى صوتهِ البارد..
نهضت بعدما شعرت بالحزنِ فكلَّما تذكَّرت حالتهِ تشعرُ بآلامٍ تفوقُ قدرتها، نهضت متسلِّلةً وقامت بتبديلِ ثيابها لمنامةٍ سوداءَ اللون، ثمَّ جذبت روبها وارتدته، بعدما أنهت زينتها، وتحرَّكت للخارجِ متَّجهةً إلى غرفته، بعدما قامَ بتبديلِ الغرف ..فتحت البابَ بهدوء، وتحرَّكت بحذرٍ حيث كان الظلامُ يحاوطُ الغرفة سوى من انعكاسِ ضوءِ القمرِ المتسلِّلِ من النافذة، تحرَّكت تجذبُ ستائرَ النافذةِ وعينيها على نومهِ المستكين، ذهبَ بصرها لتلك الأدويةِ التي توضعُ على الكومودينو، رفعتهُ تقرأُ ماعليه، أصابها الألمَ أضعافًا مضاعفةً على حالتهِ التي وصلَ إليها ..قامت بنزعِ روبها وتمدَّدت بجوارهِ تندثرُ داخلَ أحضانه، شعرَ بها ولكنَّ ثقلَ رأسهِ جعلهُ لم يحرِّك ساكنًا، مرَّرت أناملها على وجههِ تهمسُ له:
-دقنك طولت ياإلياس، رغم مبحبَّهاش كدا بس بكلتا الأحوال بحبَّك بكلِّ حالاتك..
فتحَ عينيهِ بتملُّلٍ وكأنَّها تراودُ أحلامه، شعرَ بملمسِ أناملها على وجههِ ابتسمَ قائلًا:
-أكيد مش بحلم صح..دفنت نفسها بأحضانهِ وأردفت بخفوت:
-لا مش حلم أنا هنا..أغمضَ عينيهِ مرَّةً أخرى مبتسمًا، رفعت رأسها تهمسُ اسمه:
-عايزة أقولَّك خبر حلو، بس لازم تفوق مستحيل أقولَّك وإنتَ كدا..
رفع ذراعيهِ يشدِّدُ على احتضانها:
-مفيش أجمل من إنِّك تكوني جوَّا حضني..لمعت عيناها بالسعادةِ من كلماتهِ حتى فرَّت دمعةٌ بطرفِ جفنيها رغمًا عنها لتصلَ لشهقة، فتحَ عينيهِ ولكنَّه غير مسيطرًا على حالته، دنا برأسهِ من وجهها:
-أنا كويس، المهم إنِّك كويسة..
لمست وجنتيهِ واحتضنت عينيه:
-حبيبي أنا هجبلك ولد، عرفت نوع الجنين، ربِّنا بيعوَّض أهو، شوفت حب يربُط على قلبك فرزقك بمولود، قالتها وهي تضعُ كفَّيهِ على أحشائها:
-هنا فيه قطعة منَّك..نظراتٌ فقط يطالعها بارتفاعِ أنفاسه، حتى شعرَ بقبضةٍ تعتصرُ فؤادهِ ليعتدلَ على فراشهِ بجسدٍ مترنِّح:
-مش عايزه، الحمل دا لازم ينزل..قالها وتوقَّفَ كالمخمورِ يترنَّحُ يردِّد:
"لا مش هقدر أكون أب، لازم ينزل"
↚
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
سيبقى كسر قلبي في ذمتكم للأبد..
ف ليت الحزن لم يُخلق ولم يسكن داري..
حزينة مدني وأريافي..
وكل ليلة تشيّع جنائز سكاني..
صرتم اليوم ضربةً كسرت قلبي.
فأصبحت قلب مقطوع الشريان
فؤاد معتل فيه الأبهران
كلام يغطيه كتمان
ونار دون دخان
بركان يوشك على الغليان
سفينة شرد عنها القبطان
ثم بعد
فوالله رأيتك كطفل يبحث عن ملجأ يحتمى فيه وحين أصبحت الملجأ لك كنت انت الزلازل الذى هدم أركاني
والآن ترحلُ بعدما استعمرتني
وتقول عذراً إنَّها الأقدارُ
ارتجفَ جسدها بانتفاضةٍ تطالعهُ مذعورة، ولم تشعر بعبراتها التي انسابت بغزارةٍ فوق وجنتيها، لتجذبَ روبها بأيدي مرتعشةٍ مع شهقاتها التي لم تقوَ على توقُّفها، ثمَّ تحرَّكت بخطواتٍ بطيئةٍ لخارجِ الغرفة، وكأنَّها تساقُ إلى غرفةِ إعدامها، دلفت غرفتهما، وأغلقت البابَ خلفها بهدوء، ومازال جسدها يرتعشُ كالتي أصابها حمَّى، خطت تستندُ على الأشياءِ التي تقابلها حتى وصلت إلى فراشها، وتمدَّدت تحتضنُ نفسها كالجنينِ في محاولةٍ لكتمِ شهقاتها ولكنَّها فشلت، إلى أن اعتدلت جالسةً تضعُ كفَّها على صدرها محاولةً أخذ أنفاسها..
عند إلياس بعد خروجها، جذبَ مفاتيحهِ مع جاكيتهِ واتَّجهَ مغادرًا للخارج، قاد السيارةَ ذاهبًا إلى منزله..دلفَ للداخلِ يلقي أشيائه، ثمَّ جلسَ على الأريكةِ يحتوي رأسهِ بين راحتيه..
قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-إلياس إنتَ فين؟!.
أشعلَ سيجارتهِ يستمعُ إلى حديثه:
-أنا في البيت فيه حاجة ولَّا إيه؟.
كان يقودُ السيارةَ عائدًا إلى منزله، فأردف:
-عندك وقت، عايزك في موضوع مهمّ..نفثَ تبغهِ وأجابهُ بشرود:
-وأنا كمان عايزك، تعالَ على بيتي، فيه موضوع مهمّ محتاجك فيه..
-تمام عشر دقايق وأكون عندك.
بعدَ فترةٍ وصلَ إليه، دلفَ للداخل:
-مساء الورد ياجدع، فينك بقالك فترة مش ظاهر؟..
أشارَ إليهِ بالجلوسِ وتحدَّثَ بتهكُّم:
-مش عيب تستصغر عقلي ياحضرةِ الظابط..
مطَّ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ مبتسمًا:
-هعمل مصدَّقك ومحاولتش تدوَّر عليَّا، ثمَّ عقَّبَ على حديثه:
-كنت في إجازة حبيت أبعد شوية عن دوشةِ الشغل..
-تبعد ودوشة شغل ياإلياس وهمَّا هنا هيتجنِّنوا عليك.
مسحَ على وجههِ بعنفٍ ثمَّ تنهَّدَ متسائلًا:
-تشرب قهوة ولا هترغي؟..
أومأ دون حديث، نهضَ إلياس إلى ماكينةِ القهوة، ليعدَّ قهوتهما قائلًا:
-مفيش حدِّ هنا، مااتصلتش بالخدامة، استحمل قهوتي واشربها بدون تريقة..
توقَّفَ أرسلان يتحرَّكُ بالمنزل، طافت عيناهُ على بعضِ الأركان:
-هوَّ إنتَ مش مستقرّ هنا ولَّا إيه، استدارَ إليهِ وهو يحملُ فنجانينِ من القهوة، ثمَّ اقتربَ منهُ مجيبًا:
-باجي هنا تلات أيام، وعند با..توقَّفَ عن نُطقها ثمَّ حاولَ تغييرَ الحديثِ قائلًا:
-كنت بتقول عايزني، في حاجة ولَّا إيه؟..
-المهندس يزن السوهاجي اللي ساعدنا في دخول شركات العمري..
ارتشفَ بعضًا من القهوةِ يستمعُ إليه باهتمام، إلى أن استطردَ أرسلان قائلًا:
-المهندس دا حاطينه في لستةِ الناس اللي عايزين يصفُّوها، فبقول لو قرَّبت منُّه وحاولت تشوفله شغل بعيد عن شركةِ العمري يكون أحسن.
دقَّقَ النظرَ إليهِ متسائلًا:
-مش فاهم، وليه عايزين يموِّتوه، وإنتَ تعرفه منين علشان خايف عليه؟..
تراجعَ بجسدهِ للمقعدِ وبدأ يحرِّكُ فنجانهِ لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى إلياس قائلًا:
-دي أسرار شغلي مينفعشِ أخرَّجها حتى لأبويا، بما إن إسحاق قدَّام الكلّ عقيد شرطة ودي لأسباب مينفعشِ نتكلِّم فيها، بس كشف نفسه قدَّامك، فبعتني نتفق، الواد نضيف جدًا، بس اتجوِّز بنتِ العمري اللي عايزين يكوِّشوا على شركاتها من تحتِ لتحت..
فركَ جبينهِ عندما شعرَ بالصداع، رفعَ رأسهِ وطالعهُ بتشتُّت:
-مش فاهم همَّا مين دول؟..أخرجَ بعض الصورِ ووضعها أمامهِ واسترسل:
-إلياس اسمعني كويس، عارف اللي بطلبه منَّك صعب بس لازم نربط الأحداث، دلوقتي الأجهزة اللي حطناها مش لاقطة حاجة..
أومأ متفهِّمًا حتى يُنهي الحديث، فأردف:
-هشوف موضوعه بعدين، المهم الولد اللي اتقتل في السجن دا، هوَّ السبب في حادثة ابنِ اللوا، عايزك تجيب حياة الواد دا، أكيد له علاقة براجح الشافعي.
قطبَ أرسلان جبينهِ متسائلًا:
-مش فاهم قصدك، ايه اللي حصل ومال راجح بالولد..جذبَ سجائره:
-عايز كل اللي راجح بيتعامل معهم، دفتره كلُّه ياأرسلان، شغله، حياته، النفس اللي بيخرَّجه، مش هوَّ بس، ومراته وابنه..
طالعهُ بتساؤلٍ خرجَ من عينيه، منتظرًا الإجابة، حينما علمَ أنَّها مسألة شخصية،
أشعلَ سيجارة اخرى وأردف:
-تار قديم زي ماقولت لك قبل كدا، وزي ماقولت أنُّه من فترة انسحبت كلِّ أملاكه منُّه، وخرج من الوظيفة بفضيحة، منين الفلوس اللي شارك بيها مالك العمري، عايز كلِّ حاجة ياأرسلان، وياريت يكون سرِّي هكون شاكر، حمحمَ وابتعدَ بنظره:
-وأتمنَّى عمَّك مايعرفش..أومأ له ثمَّ أشارَ على الصور التي بيديه:
-طيِّب كنت عايزك تاخد الصور دي لمدام ميرال تشوفها، عايز أعرف لمَّا اتخطفت شافت حدِّ منهم، أنا عارف الموضوع صعب، بس لازم علشان العيال دي نزلت قبلِ الحادثة بكام يوم، وفيه كاميرات جابتهم وهمَّا قريبين من الجرنال اللي شغَّالة فيه مدام ميرال..
أمسكَ الصور بين يديه، ثمَّ رفعَ نظرهِ قائلًا:
-آسف مقدرش، أنا مصدَّقت أنَّها نسيت الحادثة، مقدرشِ أرجع أخليها تفتكر، الموضوع صعب ياأرسلان، مراتي حامل دلوقتي.
ابتسمَ له قائلًا:
-ألف مبروك، أنا كنت بعمل محاولة بس، علشان العيال دي اتمسكوا عندك من كام يوم، أكيد لسة شريف مخبَّركش، كنت مفكَّرك عارف، فأنا بربط الأحداث..توقَّفَ يغلقُ زرَّ جاكيتهِ قائلًا:
-هعمل اللي طلبته، بس مش الأسبوع دا، مش هكون موجود بالقاهرة..
أومأ متفهِّمًا ليتوقَّفَ بمقابلته:
-وقت ماتفضى، عارف إنَّك مشغول ربِّنا يوفقك..
أومأ مبتسمًا وسحبَ نفسهِ مغادرًا وهو يهتف:
-على تليفون بقى، متتخبَّاش تاني..
ارتفعَ رنينَ هاتفهِ فاستدارَ بعدما أشار له أرسلان:
-رد أنا مش غريب عارف الطريق كويس..قالها وتحرَّكَ مغادرًا، اتَّجهَ إلى هاتفه:
-أيوة ...شهقةٌ متألمةٌ من حناياها وأجابتهُ بصوتٍ مفعمٍ بالبكاء:
- إنتَ فين يابني؟..
تنهيدةٌ عميقةٌ وآلامٌ محفورةٌ بنيرانِ الغضبِ ليجيبها:
-عايز أفضل لوحدي، مش عايز أأذي حد، لو سمحتي سبوني براحتي..
قاطعتهُ باكية:
-مراتك اللي هتموت وراك دي، طيِّب أنا خلاص اتعوِّدت هيِّ ذنبها إيه، إنتَ ناسي إنَّها حامل، ولَّا مش فارق معاك..
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسده، فقلبهِ لم يعد يتحمَّلُ الفراق، ولكن كيف له الاقترابَ وهي التي تزيدُ من التهابه..
لم يعد يشعر سوى بنيرانٍ سوداء تمنعُ تنفُّسهِ ليردفَ قائلًا:
-خلِّيها بعيد عنِّي، مش عايز أأذيها، قاطعته سريعا تزيل عبراتها
-مالهاش ذنب يابني، بلاش وحياتي علشان عارفة ماليش أهمية عندك، بس علشان ابنك ياحبيبي بلاش تاخدها بذنوبنا، هي مالهاش ذنب
-وعلشان هي مالهاش ذنب يامدام فريدة انا بعدت عنها، صدقيني لو قرينا من بعض دلوقتي هنأذي بعض، خليني بعيد بدل ماادمرها بانتقامي، قالها واغلق الهاتف
-استدارت إلى مصطفى بدموعها
-عنيد اوي وقاسي يامصطفى ..حاوط كتفها وتحرك إلى الفراش
-تعالي يافريدة، ارتاحي، أنا شايف أنُّه هوَّ صح، خليه يرتِّب أفكاره، مش سهل اللي مرِّ بيه، لو سمحتي بلاش نضغط عليه..
مرَّت عدَّةَ أيامٍ والوضعُ كما هو، سوى من تغيُّرِ ميرال التي نزلت عملها وبدأت تعملُ بنشاط، دفنت حياتها بشغلها حتى تتجرَّدَ من ذكرياتها المأساوية، لا تعلم عنهُ شيئًا سوى أنَّهُ يريدُ الانعزال عن الجميع، مرَّت ساعاتٍ وهي تعملُ إلى أن شعرت بالألم، فتراجعت بجسدها وأغمضت عينيها تحتضنُ أحشائها، استمعت إلى صوتٍ ارادت أن يصيبها اللهُ بالعمى والصممِ ولا أن تراهُ ولا تسمعَ صوته:
-إزيك يابنتي عاملة إيه..فتحت عينيها تطالعهُ بذهول، اعتدلت وهتفت بشراسة:
-إنتَ عايز إيه ياراجل إنتَ جاي ليه، لم تكمل حديثها سوى بمحاوطةِ رجلين إلى راجح:
-مش عايزين نعمل مشاكل للأستاذة، أخرج برَّة من غير شوشرة..قالها أحدهما وهو يجذبهُ من ذراعه، طالعهم بغضب، فلم يكن يتوقَّع بمراقبةِ إلياس لميرال، تحرَّكَ بصمتٍ على أن يعودَ مرَّةً أخرى..
خرجت سريعًا خلفه، ولكنَّهُ قادَ سيارتهِ وتحرَّك، توقَّفت أمامهم تصرخُ بوجههم:
-اللي مشغلكم فين؟!.
-معرفشِ يامدام ..سحبت سلاحهِ بلحظةٍ ووضعتهُ على رأسها:
-لو منطقتش هموِّت نفسي، ويبقى خليه يسامحكم..
-في بيت أستاذة رؤى، قالها سريعًا، تجمَّدَ جسدها لتشعرَ بالبرودة، ولم يعد لديها القدرة على الوقوفِ حتى ترنَّحَ جسدها، ليقتربَ أحدهم محاولًا مساعدتها:
-إنتِ كويسة ياأستاذة..أشارت إليه تهزُّ رأسها ثمَّ تحرَّكت بتخبُّطٍ ودموعٍ تنساب على خديها:
-روحت عندها ياإلياس، للدرجة دي شعوري مش فارق معاك..قادت سيارتها واتَّجهت إليه، وصلت بعدَ قليلٍ
وتوقفت تضغطُ على الجرسِ بأناملٍ مرتعشة، لحظاتٍ وفُتحَ الباب، توقَّفت تطالعها بصدمة:
-ميرال، إيه اللي جابك، جذبتها بقوَّةٍ للخارجِ ثمَّ دلفت للداخلِ بعدما أغلقت بابَ المنزلِ عليها بالخارج، ودلفت بساقينِ هلاميتين، تبحثُ بعينيها عنه، وجدتهُ جالسًا على أحدِ الأرائكِ يعملُ على جهازه، تعمَّقت بملامحه، طولت ذقنهِ بعض الشيئ وفقدَ بعضًا من الوزن، اقتربت تنظرُ إلى ثيابهِ البيتية، وأغمضت عينيها تريدُ أن تُزهقَ روحها..زوجها مع أخرى بملابسٍ منزلية، رفعَ رأسهِ عن جهازهِ بعدما تسلَّلت رائحتها أنفه:
-ميرال..لم تعد ساقيها تحملها لتهوى بركبتيها تحتضنُ بطنها وبكت وكأنَّها لم تبكِ من قبل.
طالعها كالطفلِ الضائع، داخلهِ يحترقُ بقوَّةٍ كبركانٍ ثائر، يضغطُ بقبضته ،حتى كاد أن يمزِّقَ أوردته، أطبقَ على جفنيهِ وصوتُ شهقاتها يصمُّ أذنيهِ إلى أن انتفضَ من مكانهِ واتَّجهَ إليها، اقتربَ منها حينما وضعت كفَّها تدلكُ صدرها ووجهها الذي شحبَ شحوبَ الموتى،، اقتربَ دون كلامٍ يعانقها عناقًا ساحقًا، لحظاتٍ ولم يقوَ السيطرةِ على حزنها وبكائها، جذبَ كوبَ المياهِ ثمَّ جلسَ محاوطًا جسدها:
-اشربي ياميرال، خدى نفسك بالراحة، قالها وعينيهِ على تفاصيلِ وجهها..
ارتشفت بعضَ المياه، ثمَّ همست من بين شهقاتها:
-بتعمل إيه هنا..نهضَ من مكانهِ وحملها بين ذراعيه، وضعها بهدوءٍ على الأريكة، ثمَّ دثَّرها بغطاءٍ خفيف، وأمالَ بجسده:
-إيه اللي جابك هنا، عانقت عينيهِ تهمسُ ببكاء:
-جاية أدوَّر على جوزي، وأقولُّه وحشتني، أعرَّفه ماليش دعوة..
جلسَ بجوارها وحرَّرَ خصلاتها من الحجاب:
-اتكلِّمنا في الموضوع دا ياميرال، ممكن مش تفتحيه تاني..
أغمضت عينيها عندما شعرت بوهن، وهمست مبتعدةً عنه بنظراتها:
-عايزة أنام ويارب ماأقوم تاني..قالتها وهي تتمدَّدُ تحتضنُ نفسها، تمدَّدَ بجوارِها حينما وجدَ حالتها ليست على مايُرام، رفعَ رأسها إلى صدرهِ وبدأ يمسِّدُ على خصلاتها:
-ماتنميش وإنتِ معيطة لو سمحتي، عايزك تسمعيني كويس وبعد كدا اختاري براحتك، أنا مستحيل أغضب ربِّنا مهما كان، بس أنا عاجز ياميرال وخايف من بكرة، إحنا دلوقتي مش زي الأوَّل، إنتِ شخص تاني وأنا كمان، رغم القرابة اللي جمعتنا، بس القرابة دي هتكون نار بينا، رفعَ وجهها وسبحَ بملامحها التي شحبَ لونها، مرَّرَ أناملهِ على وجهها يزيلُ عبراتها بإبهامه:
-لو حد قالي إيه اللي ممكن تتخيَّله أنُّه مايحصلش، عمري ماكنت أتوقع صلة القرابة اللي بينا، ولا عمري كنت أحلم حتى لو بكابوس إنِّي أكون غير الشخص اللي حياتي كلَّها عليه..
مالَ بجسدهِ يستندُ بجبهتهِ فوق جبهتها وسحبَ رائحةَ أنفاسها، مطبقَ الجفنينِ يهمسُ بنبرةٍ ممزوجةٍ بالعشق:
-أنا بختار بين حياتي وبين موتي ياميرال، لأنِّي اكتشفت انك حد مهم بالنسبالي، بس دا قدرنا، لازم ننفصل مفيش قرار غير دا..
شهقةٌ تمنَّت أن يأخذَ اللهُ بها أنفاسها:
-بتموِّتني ياإلياس، إنتَ بتدبحني بإيدك..
رفعها حتى أصبحت بأحضانهِ يدفنُ رأسهِ بحناياها:
-وأنا بموت قبلك لو سمحتي بلاش تصعَّبيها، مش هنقدر نكمل حياتنا مع بعض، أنا عرفت حاجات صعب تتحمِّليها ياميرال..رفعَ رأسهِ يطالعها بعيونٍ فاضت من الألم:
-كلِّ ماأبصّ في وشِّك هفتكر أبوكي اللي فرَّقنا، عارف أنُّه مالكيش ذنب، وضعَ كفِّهِ على أحشائها يمرِّرها:
-ابني هيكون جدُّه اللي خطف أبوه، جدُّه اللي عذِّب جدِّته ويتِّم ولادها، رفعَ كفَّيهِ يضمُّ جانبَ وجهها ودمعةٌ غادرةٌ انسابت على وجنتيهِ تحرقه:
-أبوكي كان بيغت...صب فريدة ياميرال،
شهقةٌ خرجت منها بصوتٍ مرتفعٍ تهزُّ رأسها بعنفٍ وعبراتها تتدحرجُ بغزارةٍ كالمطرِ تهتفُ بتقطُّع:
-لا لا..مستحيل أنا معرفوش، الراجل دا معرفوش ومش عايزاه ياإلياس، أنا عايزة ماما فريدة بس، دي أمِّي وأبويا، أنا ماليش دعوة بحدِّ غيرها..
قالتها ببكاءٍ مرتفع، ممَّا جعلهُ يضمُّها لأحضانهِ يربتُ على ظهرها:
-عندي الأصعب والأوجع، أنا جوايا نار ياميرال، ومش عايزاها تطولك، علشان أنا حبِّيتك، حبِّيتك أوي، وكنت أسعد راجل علشان هيبقى عندنا أطفال، بس حياتي اتهدِّت كلَّها، ماليش وجود ولا هوية، أنا مش أنا ولا إنتِ بقيتي بنتِ الستِّ اللي هيَّ في الأصلِ أمي، اللي طول الوقت كنت مفكَّرها أكبر عدوة..
خرجت من أحضانهِ تضمُّ وجههِ وأردفت:
-تعالَ نسافر أيِّ مكان ياإلياس، وننسى اللي حصل، نستقر برَّة مصر، ونربِّي ابننا وناخد ماما فريدة معانا، أنا مش عايزة حاجة غيركم أنتوا الاتنين.
-ميرال لازم تفهمي..وضعت كفَّها على فمهِ..تهزُّ رأسها قائلة:
-مش عايزة أسمع حاجة، إنتَ اللي لازم تسمعني وبعدِ كلامي دا مفيش كلام تاني، الراجل دا مفيش حاجة تُربطني بيه ولا أعرفه، معرفشِ غير بيت عمُّو مصطفى اللي هوَّ أبوك ماليش أهل غيركوا، إنتَ جوزي وأبو ابني وبس، الباقي ميهمِّنيش حتى لو هوَّ جه وقالي إنتي بنتي أنا مش معترفة بيه، أنا ماليش أب، أبويا مات غرقان في البحر ياإلياس واسمي ميرال جمال الدين وأمِّي اسمها فريدة، وجوزي إلياس السيوفي، غير كدا محدِّش له حاجة عندي.
تجاهلَ صراخَ قلبهِ بسحقها بين ضلوعهِ وارتوائها من العشقِ مايشعر، وتابعَ حديثه:
-يعني مش هتيجي في يوم تلوميني عملت في بابا كدا ليه، مش هتيجي وتقولي أنا مستحيل أفضل مع راجل بيعذِّب أبويا..
دنت منهُ ووضعت خاصَّتها تحتضنُ خاصَّتهِ حتى يصمتَ عن الحديث، كيف يخيِّرها بين الحياةِ والموت، تولَّى قبلتها بخبرتهِ علَّهُ يخرُجا ممَّا عليهِ هما الاثنين، دقائقَ ولم يشعر بما حولهما، يرتوي من لذَّةِ عشقها، بعد فترةٍ كان يضمُّها لأحضانه:
-متجيش في وقت توقفي قدامي ياميرال وتعاتبيني، بعد موافقتك مستحيل اغير كنيتك، أما لو انت عايزة الإنفصال
اعتدلت تستند على صدره
-إلياس بلاش تخيرني بين الموت والحياة لو سمحت، انا حياتي كلها كانت هنا، ومش ناوية أتنازل عن ميرال السيوفي، ومهما حصل ولو حاولت تعمل علشان تضايقني انسى مش هديلك فرصة لدا، إلا إذا انت كرهتني ومش عايزني في حياتك
ابتسامةٌ من بين أحزانهِ يمسِّدُ على وجهها، ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها بعض الكلماتِ لتلكمهُ بصدره، حتى أفلتَ ضحكةً رجوليةً ورغم أنَّها ضحكةٌ ولكنَّها باهتةٌ لم يشعر بها، أشارت إلى حجابها:
-ياله بقى علشان نرجع بيتنا، بدل ماأتعصَّب وأعمل مجنونة زي زمان..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا وتهكَّمَ قائلًا:
-تعملي مجنونة، يعني إنتِ مش مجنونة، استندت على ركبتيها تطالعهُ بعيونٍ هائمةٍ تخصُّهُ وحده:
-أنا مجنونة بيك وإنتَ عارف دا كويس..
بسطَ يديهِ يجذبها لتصبحَ بأحضانه:
-متأكِّدة من قرارك ياميرال، هتقدري تواجهي راجح، ولَّا..وضعت أناملها فوقَ شفتيهِ تنظرُ لعينيه:
-أنا منكرشِ إنِّي اتأثرت أوي، وأكيد إنتَ حاسس باللي أنا حسَّاه، بس مش معنى كدا أنا عايزاه في حياتي ياإلياس، ماما فريدة حكت لي كلِّ حاجة، منكرشِ اضَّيقت منها في الأوِّل إنَّها عملت كدا، بس لمَّا قعدت مع نفسي قولت دا قدري، كفاية إنَّها حافظت عليَّا، يعني لو كنت معاهم ممكن حياتي تكون مختلفة عن كدا..
سحبت نفسًا وابتعدت عنه:
-أنا تايهة أوي ياإلياس، أوي، بس اللي متأكِّدة منُّه، مش هقدر أعيش بعيد عن ماما فريدة، وأخواتك، إزاي يعدِّي يوم من غير مااتجنِّن مع غادة وأشاكس إسلام..
صمتَت وطالعتهُ قائلة:
-إزاي هقدر أبعد عنَّك بعد الحبِّ اللي بينا..احتوى كفَّيها بين يديه، ثمَّ رفعهما يقبِّلهما:
-حاسس باللي إنتِ بتقوليه، وعاذرك أكيد، علشان كدا بقولك فكَّري كويس، إنتِ قبل ماتكوني مراتي، انت جزء من العيلة اللي اتربِّينا وكبرنا فيها..
أومأت وحاولت تغييرَ الحديث قائلة:
-طيب مش هتقوم نرجع ولَّا بيت الزفتة دي عاجبك، وبعدين تعالَ هنا، ليه جاي هنا، إنتَ مش كنت في البيت التاني، ولَّا تنطيط الستِّ رؤى عجبك..
نهضَ من مكانهِ يشيرُ إلى حجابها:
-اظبطي حجابك علشان حدِّ من الشباب يوصَّلك.
هبَّت من مكانها تصرخُ بوجهه:
-إنتَ إيه ياأخي أنا جيت لك وبقولك نرجع بيتنا، وبرضو حضرتك مصرّ تحرق دمِّي..
رمقها غاضبًا، وأشارَ بسبَّباته:
-اتجنِّنتي، صوتك عالي ليه، وأنا قولت عندي شغل لمَّا أخلَّصه هرجع، مش مُنتظر مراتي تقولي أعمل إيه..
دفعتهُ بغضبٍ ووضعت حجابها بعشوائيةٍ تبحثُ عن هاتفها وهي تلقيهِ ببعضِ الكلماتِ القاسية..
بالخارجِ قبل قليل،
بعد دخولِ ميرال، وإغلاقها البابَ خلفها، أمسكت رؤى هاتفها:
-عمُّو مصطفى الحقني ميرال عرفت إنِّ إلياس عندي، ودخلت وقفلت الباب أنا خايفة يعمِل فيها حاجة..
نهضَ من مكانهِ يشيرُ إلى أحدِ الضباط:
-ابعت دا للواء نشأت يابني، ثمَّ جمعَ أشيائهِ واتَّجهَ إلى سيارته:
-تمام يارؤى نصِّ ساعة وأكون عندك، أنا في ستة أكتوبر، قدَّامي شوية، بس متخافيش هوَّ مش هيئذيها، هوَّ عايز ياخد قرار في حياته، بلاش نضغط عليهم، شوية وأكون عندك.
فتحت ميرال البابَ وجدت مصطفى أمامها:
-عمُّو مصطفى فيه حاجة..بسطَ كفَّيهِ إليها:
-تعالي حبيبة عمُّو بتعملي إيه هنا، رفعت عينيها إلى رؤى وأجابته:
-كنت عند جوزي ولَّا مش من حقِّي، ذهبَ ببصرهِ للداخلِ متسائلًا:
-إلياس جوا؟..خطت متَّجهةً إلى السيارة:
-هيكون فين، الأستاذ عاجبه القعدة هنا.
دلفَ للداخلِ بعدما أشارَ للحرس:
-ورا المدام ، قابله إلياس على بابِ المنزل:
-بابا فيه حاجة؟!..
دفعهُ لداخلِ الغرفة،توقَّفَ يضعُ كفوفهِ بخصره:
-فيه إنِّي كنت مربِّي عيِّل كلِّ شوية أدوَّر عليه، أنا مبقتشِ هتكلِّم تاني، اللي مصبَّرني عليك إنَّك نزلت شغلك، استدارَ للمغادرة، ولكنَّهُ توقَّفَ مستديرًا:
-اسمع أنا مش هطبطب عليك، علشان لو طبطبت يبقى كنت بربِّي بنت، سواء رضيت ولَّا لأ ياله إنتَ إلياس ابنِ مصطفى السيوفي، أنا مكنتش خاطفك، إنتَ القدر كان رحيم بيك، وبدل ماتحمد ربِّنا وتشكره ياللي بتصلِّي ومؤمن بالقضاء والقدر، احمده إنَّك مطلعتش ابنِ شوارع أو بلطجي، أنا لقيتك على باب ملجأ غادة، يعني مش حرامية، هتفوق وتصلب نفسك يابنِ مصطفى ولَّا تمشي وتثبت للناس إنِّ مصطفى السيوفي قذر وحرامي وخطفك من أمَّك و أبوك زي مالزبالة فهِّمك..اقتربَ يغرزُ عينيهِ بعيني إلياس:
-اسمعني كويس علشان وربِّ المشارق ياإلياس يابنِ السيوفي، وحُطّ تحتِ السيوفي دي مليون كلمة، لو مافوقتش من التوهان اللي إنتَ فيه دا، لآخد أمَّك وأغادر البلد ومش هتعرف مكانَّا، لأنِّي تعبت من عنادك، أنا مكنتش أعرف إنَّك ابنِ فريدة غير بعد كتب كتابك من ميرال، يعني مكنتش عارف أهلك، ولا فريدة كانت تعرف يابنِ مصطفى وخلِّيك كدا لحدِّ ما تروح تدفنها..لكمهُ بصدرهِ صارخًا به:
-فوق ياله دول عايزين ينتقموا من أمَّك عن طريقك ياغبي، واللي متعرفوش أنا زمان دمَّرت راجح من قبلِ ماأعرف إنَّك ابنِ فريدة، خرَّجته بفضيحة من وظيفته، ومش بس كدا خلِّيته على الحديدة، وكلِّ أملاك أبوك حتى بيته أنا اشتريته وأجَّرته للناس هناك، علشان قهرة أمَّك وهيَّ كلِّ يوم تخترف باسمِ ولادها، أمَّك كانت بتقوم تتفزِع من النوم على اللي كان بيعمله فيها،
سنة وإحنا عايشين مع بعض زي الأخوات وأكيد فاهم كلامي ياحضرةِ الظابط، كانت بتترعب منِّي كلِّ ماأقرَّبلها، وتصرخ من عمايل الحيوان فيها، إيه أكمِّل ولَّا كفاية كدا..
تفوق وتدوَّر على أخوك ولَّا تهرب علشان هوَّ يعرف يلعب..
حاوطَ ذراعيهِ يضغطُ بقوَّةٍ عليهما، وهتفَ من بينِ أسنانه:
-إلياس مصطفى السيوفي، طول ماإنتَ كدا محدِّش هيقدر يكسرَك، أمَّا هتَّاطي للموج هيغرَّقك يابنِ مصطفى..
تنهَّدَ بمرارةٍ وأردفَ بنبرةٍ منكسرة:
-بحاول أتماسك صدَّقني، بحاول بس صعب، بحاول واللهِ يابابا علشان مراتي وابني، اقتربَ منهُ وبعينينِ تجمَّعت بها غيومَ الدموع:
-أنا طلبت من مراتي تنزِّل ابني يابابا، شوفت أنا عملت إيه…
لكمة قويةٌ من مصطفى بصدره يطالعهُ بذهول:
-فين إيمانك يالا، مستحيل تكون الشخص اللي ربيته وعملت منُّه راجل يسندني وقتِ ماأقع، دفعهُ بقوةٍ مرة
حتى تراجعَ بجسدهِ للخلف:
-فين قوِّة إيمانك، فين الرجولة اللي فيك على حمايتك لإخواتك وأمَّك لو أنا مت، تطلب من مراتك تنزِّل روح، علشان إيه، قولِّي علشان إيه..
-عارف غلطت بس مكنشِ قصدي أغضب ربِّنا، ولا عمري فكَّرت في كدا، حُطّ نفسك مكاني، بس هو جده
ضربَ مصطفى على صدره:
-أنا جدُّه، ومفيش حدِّ تاني، وزي ماربِّيت أبوه هربِّيه لو ليَّا في العمرِ بقية ياحضرةِ الظابط، اقتربَ منهُ وأمسكهُ من تلابيبه:
-ميرال مش بنتِ راجح ولا عمره هيوصلَّها، فريدة ومصطفى اللي ربُّوا ميرال، والبنتِ قالتها أنا بنتكم أنتوا، ومراتك، عايز أكتر من كدا إيه…
-بابا لو سمحت..قالها متراجعًا للخلف..
ابتعدَ مصطفى وصدرهِ يعلو ويهبط من كثرةِ الانفعالِ مردِّدًا:
-إنتَ قولتها ياحضرة الظابط، بابا، يعني هفضل أبوك حتى لو عقلك مش مُعترف بدا، أنا حاولت بكلِّ الطرق متعرفشِ حاجة، ورغم إصرار فريدة رفضت، علشان ماتوقفشِ قدامي كدا وأشوف لمحةِ الإنكار في عيونك..
-إنكار!!..أنا بنكر حضرتك!..
استدارَ مصطفى وخطا إلى أن وصلَ إلى بابِ الغرفةِ وتوقَّفَ عليه:
-أنا مبقتشِ هغصب عليك إنتَ كبير وواعي ومش محتاج لحدِّ يعرَّفك الصح من الغلط، استدارَ برأسهِ وتابعَ حديثه:
-فريدة مالهاش ذنب يابني، حاول تعاملها على إنَّها أمَّك مش مرات أبوك زي زمان..قالها مصطفى وغادرَ المنزل بأكمله..جلسَ على المقعدِ بعد خروجِ والدهِ وشريطَ ذكرياتهِ منذ الطفولةِ إلى أن عرفَ حقيقةِ نسبه، تراجعَ على المقعدِ وأغلقَ عينيهِ وكلماتها تتردَّدُ بأذنه، معاملتهِ القاسيةِ لها، كلَّ أفعالهِ بها جعلَ صدرهِ كتلةً ناريةً كادت أن تنفجر، دلفت رؤى تطالعهُ بصمتٍ لدقائق، ثمَّ اقتربت منه:
-إلياس..
اعتدلَ ينظرُ اليها للحظاتٍ ثمَّ نهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الغرفةِ التي اتَّخذها مسكنًا، رفعَ هاتفه:
-شريف فيه جديد في موضوع المهندس؟..
-لسة بندوَّر وراه ياباشا، الناس كلَّها بتشكر في أخلاقه..
بعد عدة أيام
عند راجح:
أنهت زينتها وتوقَّفت تنظرُ لنفسها بالمرآة، أوقفها راجح متسائلًا:
-رايحة فين بالشياكة دي؟..
حملت حقيبتها واقتربت منهُ تطبعُ قبلةً على وجنتهِ تهمسُ له بجوارِ أذنه..
رايحة لفريدة، لازم أباركلها برجوع ولادها، أفلتت ضحكةً شيطانية:
-ضربة معلِّم يارجحوتي، الولد صدَّقك وكره أمُّه، ودلوقتي عند عشقيته، وبكدا نعرف نكرَّه البتِّ فيهم ونجذبها بنفسِ الطريقة اللي خلِّينا الولد ينفر منهم، نفسي أشوف فريدة وأفرح فيها زي ماجت هنا وفرحت فينا..
شيَّعها بنظرةٍ خبيثة، وهتفَ بفظاظته:
-سلِّميلي عليها يارانيا، وسلِّميلي على حبيبة أبوها، وقولي لها أبوكي جايلك قريب..ارتفعت جفونهِ وتابعَ حديثهِ بغلّ:
-أمَّا بقى حبيب أمُّه اللي وقف وعمل راجل عليَّا، بكرة أجيبه زاحف على رجله، هخلِّيه يبوس رجلي كمان..
سحبت نفسًا قويًّا، ثمَّ أخرجتهُ قائلة:
-أنا عايزة بنتي وبس، وإنتَ وابنِ أخوك أحرار، توقَّفت مستديرة:
-اعرفلنا بس الولد التاني فين، كانت بتقول ظابط مخابرات، دا هيكون صعب توصلُّه خلِّي بالك..
بمنزلِ أرسلان:
أنهت زينتها تنظرُ بساعةِ يدها، توقَّفت متأفِّفة، لقد تأخَّرَ الوقتُ كثيرًا ولم يعد إلى الآن، أمسكت هاتفها لتحاكيه، ولكنَّها فشلت بسببِ تلك الرسالةِ الغبية..
اتَّجهت إلى المطبخِ كي تُلهي نفسها بإعدادِ المائدة، دقائقَ واستمعت إلى فتحِ الباب، هرولت إلى أحضانه:
-أرسلان، واللهِ زعلانة منَّك، دا كلُّه غياب، رفعها إلى مستواه، يستنشقُ رائحتها بهيام:
-وحشتيني ياروحي، قالها وهو ينظرُ إلى ملامحها الجميلةِ باشتياق، تحرَّكَ بها إلى الأريكةِ ليجلسها بأحضانه:
-وحشتيني كنتي بتعملي إيه،
لاتريدُ شيئًا سوى أن تطمئنَّ أنَّها بين ذراعيه..
خبَّأت آهاتها المؤلمة، وظلَّت بأحضانهِ دون حديثٍ حتى شعر بأنَّها أصابها شيئًا..تأجَّجَ صدرهِ من صمتها، ليُخرجَ رأسها يحتوي وجهها:
-غرام إيه اللي حصل؟..خرجَ صوتها بأنينٍ ودَّت لو أطلقت العنانَ لدموعها أمامهِ، كي تُخرجَ وجعها المكبوتِ بداخلها..
-مفيش ياأرسلان، بتوحشني بس..
هوى قلبهِ بين قدميهِ من حالتها، وتسرَّبَ بداخلهِ شعورٍ قاسٍ بأنَّهُ أصابها مكروهٌ بغيابه..
-معقول دا من غيابي عنِّك كام يوم ولَّا فيه حد أذاكي؟..
تآذر الوجعُ لتشعرَ بأنَّهُ ثقيلٌ مثل ثقلِ الجبل، ورفعت عينيها الغائمةِ بالدموع:
-هوَّ فيه أوجع من إنِّي أكون محتاجة لحضنَك لأحس بالأمان ياأرسلان..
حروفٌ بسيطةٌ خرجت من بين شفتيها، ولكن توحي بكمِّ الألمِ الساكنِ بثنايا روحها، ممَّا شعرَ وكأنَّ كلماتها وقودًا حارقةً تلهبُ قلبه، رغم محاولتها إخفاءَ حزنها، شدَّدَ من عناقها حتى كادَ أن يذيبَ ضلوعها، مطبقَ الجفنينِ يستنشقُ أكبرَ قدرٍ من رائحتها ليجعلَ رئتيهِ مكتظَّةً بعبقها، أخرجها من أحضانهِ وأقبلَ على ثغرِها ينثرُ ترانيمَ عشقه، لم يكتفِ بذلك، ليحملها ويتَّجها بها إلى غرفتهما، ومازالت هناك علاقةٌ منفردةٌ تخصُّ ثغرها الذي جعلهُ أيقونة حياته..
بعد فترةٍ غطَّت بنومٍ عميقٍ وكأنَّها لم تنم منذ شهور، نهضَ بهدوء، يجذبُ هاتفه، ثمَّ اتَّجهَ للخارج:
-أيوة ياعمُّو، عامل إيه، أنا وصلت الحمدُ لله، وبعتِّلك الداتا، يبقى احفظ كلِّ اللي عليها..
أجابهُ على الجانبِ الآخر:
-مال صوتك حبيبي..أرجعَ خصلاتهِ للخلفِ وزفرةً قويةً أخرجها من أعماقهِ الحزينةِ قائلًا:
-مفيش، لمَّا تشوف اللي على الداتا هتفهم، المهمّ لازم نكون مصحصحين الفترة الجاية، ياريت يبقى فيه علم بكلِّ كبيرة وصغيرة بتدخل البلد، متنساش الدولة مش مستقرِّة، وكلِّ من هبَّ ودبَّ عايز يثبت نفسه للشعب..
-عُلم ياحضرةِ الظابط، اسمعني فيه خبر لازم تعرفه..
استمعَ إليه باهتمامٍ إلى أن تحدَّثَ إسحاق:
-أنا استقلت من الشرطة، خلاص مبقاش ينفع شغلي هناك، أكيد فاهم قصدي..
-تمام..أنا هنام دلوقتي وبالليل هخرج أتعشَّى برَّة مع مراتي، بلاش شغل حراسة الجيش دا، انا بتخنق.. قاطعه اسحاق:
-لازم أطمِّن عليك، ومش عايز دوشة، ياله روح ارتاح ونتكلِّم بكرة، سهرة سعيدة، سلِّملي على غرام..
عند يزن:
وضعت إيمان الطعامَ على الطاولة، ثمَّ اتَّجهت إلى أخيها، طرقت البابَ ودلفت للداخل:
-حبيبي العشا جاهز، قوم علشان نتعشى، هروح أصحي راحيل..
اعتدلَ يمسحُ على وجهه، ثمَّ جذبَ ساعتهِ ينظرُ بها:
-لسة بدري على العشا، ليه بدري كدا؟..
استدارت قائلة:
-راحيل مااتغدِتش، معرفشِ أكلنا مش عاجبها ولَّا إيه، خليت معاذ يجيب شوية فواكه من عمُّو غالي وشوية جبن منزوعة الدسم، شكلها مابتكلشِ الزيوت دي..
نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى حمامه:
-يبقى شوفيها بتحبِّ إيه وعرَّفيني أجيبه لها..
-لا بجد!! قالتها باعتراضٍ ثمَّ اقتربت منه:
-دي مراتك يايزن، يعني إنتَ أولى إنَّك تسألها ليه تدخَّلني في حواراتكم..
رمقها بنظرةٍ ثابتة، ثمَّ التوى ثغرهِ بابتسامةٍ عابثة:
-لا والله، على أساس إنِّك مش عارفة طبيعة جوازنا، عيب يامنمن، هزعل منِّك وأستغباكي..
نفخت بضجرٍ واستدارت مغادرةً الغرفة، تهمهمُ بكلماتٍ غيرُ مفهومة، خرجت متَّجهةً إلى غرفتها التي تشاركها مع راحيل، بسطت كفَّها لتفتحها، ولكن قابلتها راحيل على بابِ الغرفة:
-كنت لسة داخلة أصحِّيكي..ابتسمت لها تضعُ كفَّها على بطنها:
-أنا فعلًا كنت جعانة أوي، كنت هسألك طابخة إيه بس مكسوفة..
قهقهت إيمان تجذبها من يديها واتَّجهت إلى المائدةِ تشيرُ على أنواعِ الطعام..
-بصِّي ياستي، دا رز معمَّر بالسمنِ البلدي، واللي جنبه دي بطاية، ودي سلطة، ودي طحينة، ودا لسان عصفور..
أمَّا بقى اللي في الجنبِ دا، جبن منزوعةِ الدسم وعملت لك سلطة كمان، وشوية خُضار بدون سمن وزيوت، ولحمه مشوية، عارفة إنِّك بتحبِّي الأكل الصحِّي..
اتَّجهت تجذبُ المقعدَ وجلست تنظرُ إلى البطةِ مبتسمةً كالطفلة:
-بطة يعني إيه، قصدك فرخة..قهقهت تضربُ كفَّيها ببعضهما بخروجِ يزن، أشارت إليه:
-تعالَ شوف مراتك بتقول إيه، بتقول يعني ايه بط..
ردَّدَ بينهِ وبين نفسه:
-مراتي، وكأنَّهُ نسيَ ما تعنيهِ الكلمة، خطا إليهما وعيناهُ تحاصرُ جلوسها، نقيةٌ مثلَ المياه، لامعةٌ مثل الذهب، بريئةٌ مثل الطفلة، تقابلت نظراتهما للحظاتٍ ممَّا تورَّدت وجنتيها تسحبُ عينيها عن ملتقى عينيه، انسدلت خصلاتها الناعمةِ حول وجهها، لتغطِّى عينيها الساحرة، حمحمَ وجلسَ على رأسِ الطاولةِ الصغيرة، ورغم صغرها إلَّا أنَّها تشعرهُ بأنَّهُ ملكٌ لتلك العائلة، بحثَ بعينيهِ عن أخيهِ الأصغر ثمَّ تساءل:
-فين معاذ، مش هياكل؟..
سحبت إيمان المقعدَ قائلة:
-جه من الدرسِ ونام، جسمه كان سُخن، إديتله خافض وغطِّيته ونام..
هبَّ فزعًا من مكانه:
-اتجنِّنتي إزاي مش تعرَّفيني، قالها وتحرَّكَ سريعًا إلى غرفته، دفعَ البابَ ودلفَ إليه ينظرُ إلى نومهِ الهادئ، يتلمَّسُ وجههِ كالأبِ الذي يفحصُ طفله..وصلت إليه تربتُ على ظهره:
-دور برد عادي ياحبيبي متخافش، هوَّ أصلًا كان مرهَق، صحي بدري وراجعنا مع بعض قبلِ الامتحان، وطبيعي أنُّه عايز ينام..
استدارَ إليها يطالُعها بعتاب، ويشعرُ بتأنيبِ الضميرِ قائلًا:
-يعني كان عنده امتحان ومتعرَّفنيش ياإيمان، للدرجة دي مابقاش ليَّا أهمية..
احتضنتهُ تهزُّ رأسها بالنفي:
-أبدًا ياحبيبي والله، أنا شوفتك مشغول محبتشِ أضغط عليك، وبعدين هوَّ كان عنده إنجليزي وهوَّ شاطر فيه ماشاءالله متعبنيش..
احتوى وجهها بين راحتيه:
-بعد كدا إياكي تفصليني عن حياتكم، حتى لو كان فوق دماغي همومُ الدنيا.. أنتوا عندي أهمِّ من أيِّ حاجة..
كانت تقفُ على بابِ الغرفة، انسابت دموعها من مشهدهما، تمنَّت لو لها أخًا لحماها من غدرِ الزمن، آه وألفِ آه عن بنتٍ بدونِ سند، فالأخ السند هو القوة..
فإذا سألوكَ عن النقاءِ قل هو قلب أخت، واذا سألوكَ عن الأمانِ قل هو عطفُ أخ.
وكما قال أحدُ الشعراء:
أخاك أخاك إنَّ من لا أخًا له كساعٍ إلى الهيجا بغيرِ سلاح..
ماأجملَ الأخوَّة التي تُبنى على المحبةِ والسلامِ وطيبةِ النفسِ ونقاءِ القلب،
تراجعت إلى الطاولةِ تزيلُ دموعها، لمحَ تحرَّكها فجذبَ كفَّ أختهِ وتحرَّكَ للخارج، وجدها جالسةً تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهمية، حمحمَ قائلًا:
-بقى مش عارفة البط، كدا تضحَّكي إيمان علينا، رسمت ابتسامةً تنظرُ إليهِ ثمَّ أردفت:
-معرفشِ واللهِ يايزن أوَّل مرَّة أشوفه هوَّ البتاع دا..
ارتفعَ صوتُ ضحكاتهِ الرجوليةِ يشيرُ إلى الأرز قائلًا:
-اسمه البتاع دا، جذبَ الصحنَ وسكبَ لها بعضهِ يشيرُ إليها:
-طيِّب ممكن تدوقي البتاع دا، ومتخافيش همشِّيكي كتير يعني مش هتتخني.
نظرت إلى الملعقةِ التي يرفعها أمامَ عينيها لتأخذها من يديه، ثمَّ إلى الطعام، أشارت إيمان إليها:
-ياله ياحبيبتي دوقي حاجة بسيطة، الأكل اللي بتاكليه دا مالوش فايدة..
أمسكَ البطَّةَ وقامَ بتقطيعها، كانت تراقبُ تحرُّكاتهِ مبتسمةً وهي تهزُّ رأسها كالطفلة:
-أوعى تقولي هتاكلي منها دا كلُّه..
-أششش، اسكتي إنت، لازم نزغَّطوكي مثل البطَّة دي، ضحكت تضعُ كفَّها على فمها قائلة:
-إيه نزغَّطوكي، يعني إيه، لم يستطع التوقُّفَ عن الضحكِ حتى تضجرَّ وجههِ بالدموية، ينظرُ لأخته:
-عارفة بتفكَّريني بمسرحيةِ المتزوجون، بس أنا مش أهبل علشان أجبلها فرخة تطبخها، ممعيش فلوس الفرخة اللي هتبوظ..
ارتفعت ضحكاتهما إلى أن قاطعهم طرقاتٌ على بابِ المنزل، اتَّجهت إيمان لفتحه، وجدت مها تقفُ أمامها بدموعِ عينيها:
-يزن اتجوِّز ياإيمان، يعني كان بيتلاعب بيَّا..
بمنزلِ الرفاعي وخاصةً بغرفته، جالسًا على جهازهِ يشاهدُ بعض الفيديوهات التي تخصُّ عمله، استمعَ إلى طرقاتِ الباب، دلفَ والدهِ بفنجانِ قهوته، نهضَ من مكانه:
-بابا حضرتك اللي جايب القهوة بنفسك، وضعها أمامهِ وأشارَ إليهِ بالجلوس:
-اقعد ياحبيبي، فيه موضوع مهمّ عايز أتكلِّم معاك فيه..
تابعهُ بنظراتهِ منتظرًا حديثه، سحبَ نفسًا وأخرجهُ يشعرُ باختناقه:
كلَّمت أخوك ومراته وابنِ عمِّتك النهاردة، ابنِ عمِّتك قال قدامه كام شهر كمان لمَّا يخلص، وأخوك قالي بيخلَّص شوية شُغل واحتمال ينزل على آخرِ الأسبوع..
عقدَ مابين حاجبيهِ متسائلًا:
-مش فاهم حضرتك، ماينزلوا وقتِ ماظروفهم تسمح..
رفع عينيهِ إليه قائلًا:
-متعرفشِ إنِّ إيلين بعتت لأخوها وأختها علشان تسافرلهم، وأنا خلِّيت أخوك ينزل علشان يقطعلها السفر..
نهضَ من مكانهِ وولى والدهِ ظهرهِ متَّجهًا إلى شرفةِ غرفته، فتحها وعينيهِ شاردة، قاطعهُ والده:
-إزاي مش قادر تاخد مراتك في حُضنك وتخلِّيها تتمسِّك بيك يابنِ زين، للدرجة دي البنتِ كارهاك ومش طايقة قُربك، طيب لو مش..استدارَ مقاطعًا والده:
-بابا لو سمحت خلِّيك عند كلمتك، حضرتك قولت مش هتتدَّخل بينا، توقَّفَ واتَّجهَ إليه:
-كنت قولت كدا على أساس اعتمدت على راجل، بس دلوقتي البنت هضِّيع منَّا، استمعوا إلى صوتٍ بالخارج، تحرَّكَ زين بعدما علمَ مصدرَ الصوت، توقَّفَ ينظرُ إليها:
-خير ياسهام، دفعت الخادمة من أمامها، واقتربت من زين وعينيها على آدم:
-عايزة بنتنا ياباشمهندس، إيه ينفع البنت تفضل في بيت طلقيها ولَّا كنتوا مفكَّرين إنِّنا مش هنعرف أنُّكم مقدرتوش عليها، تطلَّعت على آدم وتبسَّمت متهكِّمة:
-إيه يادكتور، صدَّقتني لمَّا قولتلك إنَّك مش قدَّها، أهو البنت طلعت..بترَ حديثها صائحًا بنبرةٍ غاضبة:
-متنسيش نفسك يامدام سهام، إنتِ بتتكلِّمي على مراتِ آدم الرفاعي..
جلست تضعُ ساقًا فوق الأخرى وتابعت حديثها ساخرة:
-بالرَّاحة يادكتور، مراتك منين، أبوها جاي بكرة من السفر وقالي أنزل ألقيها في بيت أبوها، ماهو لازم يربِّيها، البنت محدش قادرها، ثارت جيوشُ غضبهِ وتوهَّجت عيناهُ مقتربًا منها ممَّا جعلها تتراجعُ بجسدها، أوقفهُ زين مقتربًا منها:
-أنا اتحمِّلتك كتير ياسهام، تدخلي البيت وتهيني مرات ابني دا مش مسموح لك أبدًا، لو قصدك على موضوع الطلاق، فدا مالكيش دخل فيه، بنتِ أختي في بيت خالها، هبَّت من مكانها وأردفت بنبرةٍ قاسية:
-يعني البنت اطلَّقت فعلًا يازين، ابنك طلَّق البنت حتى قبل ماتكمِّل سنة، ليه إذا كانت معيوبة..لطمةٌ قويةٌ فوق وجهها ثمَّ جذبها من خصلاتها:
-اتحمِّلتك مافيه الكفاية، واللي كان مصبَّرني إيلين، إنما تيجي وتهينيها في بيتها دا أدفنك ياسهام، فوقي وشوفي اللي بتكلِّميه مين، ومش معنى سكت زمان هسكُت دلوقتي، بنات أختي تحت إيدي دلوقتي يعني إنتِ وجوزك على الشوز بتاعي، وياله برة، وإياكي تقرَّبي من البيت دا تاني..قاطعهم دلوفُ الخادمة تنظرُ بارتباكٍ لآدم ثمَّ إلى زين مع وقوفِ إحداهنَّ بجوارها:
-مرحبا كيفكم، نظرت إلى آدم ثمَّ اقتربت من وقوفه:
-ايه يادكتور نسيتني ولَّا إيه، رحت لك الجامعة وسألت عليك هناك قالولي إنَّك إجازة، وحدِّ وصَّلني لعندك، استدارت سهام تطالعها بغموضٍ لتقتربَ منها:
-إنتِ مين؟..ابتسمت تنظرُ لآدم بوصولِ إلين لتجيبها بابتسامة:
-أنا حنين مرات آدم...هزة عنيفة أصابت جسدها، ناهيك عن شعورها بالدوران وهي تنظر لتلك الفتاة التي تعتبر أيقونة من الجمال الاوربي بعينها الزرقاء وخصلاتها الصفراء، ترتدي تنورة قصيرة باللون الاسود تصل لفوق الركبة، وكنزة بيضاء من الستان الابيض الناعم يعكس جمالها، ولا يخلو وجهها من اللمسات التجميلية الناعمة، لتصبح انثى متفجرة، يقف أمامها أعتى الرجال يوقرون بجمالها ورغم لمساتها التجميلية الا جمالها الرباني ملفت لمحط الانظار، دارت الأرض بأيلين بعدما استمعت إلى صوت سهام
-كدا عرفت ليه طلقت ايلين عندك حق حد يشوف الحور ويسيبه ويروح للماشطة ..نظرت إلى ايلين بعيون شامتة
-ليك حق يادكتور تغيب بالسنين، لم تشعر سوى بالألم الذي افتك احشائها لتطلق انين بخروج سائل دافئ من بين ساقيها
فيلَّا السيوفي:
خرجت إلى سيارتها، توقَّفَ أحدُ الحرسِ أمامها:
-مدام ميرال لو سمحتِ بلاش تئذينا في شغلنا، الباشا مانع سواقتك..
تأفَّفت ممتعضة، ثمَّ اتَّجهت إلى البابِ الخلفي ليفتحهُ لها، استقلَّت السيارةَ تهاتفهُ بغضب، كان منهمكًا بعملهِ استمعَ إلى رنينِ الهاتفِ بنغمتهِ الخاصة بها، ابتسمَ يجذبه:
-دا إيه الصباح الحلو دا، هدأت رغمًا عنها، استمعَ الى أنفاسها في بدايةِ الأمر، تراجعَ بجسدهِ على المقعد:
-سامعك..سحبت نفسًا محاولةً السيطرةَ على غضبها وأردفت بتقطُّع:
-ليه مانعني من السواقة، متقولشِ خايف عليَّا؟..
نقرَ بأناملهِ على المكتبِ وأجابها بنبرةٍ هادئة:
-جدًا عندك شك؟ فتحت فاهها لتوبِّخهُ ولكنَّها توقَّفت عندما شعرت بنبرتهِ الحزينةِ ليتابعَ حديثه:
-سايبك براحتك علشان بعد قرارك مفيش رجوع للخلف، لو زعلانة من قعدتي عند رؤى عندي أسبابي، ولو مش واثقة فيَّا وفي حبُّي يبقى مالوش لازمة نكمِّل مع بعض، معاكي وقتك فكَّري كويس، وحطِّي في عقلك إنِّك في الأوَّل والآخر:
"ميرال راجح الشافعي في الحقيقة، زي ماأنا في الحقيقة يوسف جمال الشافعي، واللي حوَّل حياتنا للجحيم دلوقتي هوَّ راجح الشافعي اللي هوَّ أبوكي يابنتِ عمِّي، أنا معاكي في أيِّ قرار وصدَّقيني مهما يكون قرارك هعذرك، لأنِّك مالكيش ذنب، ذنبك الوحيد إنِّك وقَّعتيني في شباك ميرال مرات إلياس وبس..
انسابت دموعها تضعُ أناملها على الهاتفِ تبتعدُ عنه؛ حتى لا يستمعَ إلى شهقاتها ولكن كيف لم يستمع وقلبهِ الذي ينبضُ إليها بجنون، همسَ بنبرتهِ الرخيمةِ اسمها:
-ميرال بلاش أشوفك ضعيفة، إنتِ قوية ويمكن إنتِ أقوى منِّي حاليًا..همست بشفتينِ مرتجفتين:
"هترجع إمتى لحضنِ مراتك ياإلياس"
توقَّفَ عمَّا يفعله، وهمساتها التي تسلَّلت إلى قلبه، ممَّا جعلهُ يرتجفُ لأوَّلِ مرَّةٍ بتلك الطريقة، ليشقَّ ثغرهِ بابتسامة، فقد فاضَ الشوقُ وطغى الوجدانُ؛ مما جعلهُ يردفُ بنبرةٍ هادئةٍ بعدما راقَ له حديثها:
-في أقرب وقت صدَّقيني، المهم تكوني مقتنعة بردِّك، ومترجعيش تندمي..حاوطت بطنها قائلة:
-ابنك بدأ يتحرَّك ياإلياس، وعايزة أروح للدكتور اطَّمن عليه، مش عايز تشوفه؟..
أظلمت عيناهُ بنيرانِ رغبتهِ بسحقها بين ضلوعهِ الآن، ممَّا جعلهُ يتوقَّفُ يجمعُ أشيائه:
-تمام بعدين نتكلِّم عندي شغل مهمّ دلوقتي..ابتلعت غصَّتها من برودِة ردِّه، وأغمضت عينيها تعودُ برأسها إلى النافذة، أمَّا هو فقامَ بمهاتفةِ السائق:
-هتجيب المدام على المستشفى، وتأكَّد مفيش حدِّ بيراقبك من غير ماهيَّ تحس..
-تؤمر ياباشا...لم تشعر بشيئٍ وهي غارقةٌ بأحزانها لانقلابِ حياتها وتذكَّرت حديثهِ وحديثُ فريدة، تهمسُ لنفسها:
-معقول أكون بنتِ الراجل الواطي دا، لا أنا عجبني ميرال جمال الدين، قلبت صور هاتفها لتجدَ العديدَ من صورها في مراحلها العمرية، إلى أن توقَّفت على صورةِ زفافها وهو يحتضنُ خصرها وينظرُ لعينيها بعشق، مرَّرت أناملها على ملامحِ وجهه قائلة:
-الموضوع مش حبَّك بس اللي خلَّاني آخد القرار دا، الموضوع الحنان والأمان اللي حسِّيتهم معاك، رغم قسوتك بس جوَّاك طفل ياإلياس، بتحاول تقنعني إنِّي بنته وجوَّاك تتمنَّى رفضي له، رفعت رأسها ومازالت تحدِّثُ نفسها:
-هعرَّفك ياإلياس مين هيَّ ميرال السيوفي..
بعد قليلٍ وصلت السيارةُ إلى المشفى، ترجَّلت تنظرُ حولها، ثمَّ رفعت عينيها إلى السائق:
-إنتَ جايبني هنا ليه؟..تراجعَ بالسيارةِ مع وصوله، يحاوطُ أكتافها، استدارت مفزوعة، تضعُ كفَّها على صدرها:
-خضِّتني، فكَّرتك حدِّ تاني، ضمَّها لأحضانه، يدفثُ وجههِ بحجابها يستنشقُ رائحتها بولها، مردِّدًا بنبرتهِ المبحوحة:
-مراتي وابني وحشوني، بلاش أطَّمن عليهم..
تسابقت أنفاسها مع دقَّاتِ قلبها الهادرةِ من أنفاسهِ الحارَّةِ التي تضربُ عنقها رغم ارتدائها الحجاب، ارتجفَ جسدها على إثرها لتهمسَ بتقطُّع:
-إلياس بتعمل إيه؟..اعتدلَ محمحمًا، لأوَّلِ مرَّةٍ يضعفُ بتلك الطريقة، أمسكها من رسغها بعدما ارتدى نظَّارتهِ وتحرَّكَ للداخل، وكلهِ لهفةٍ واشتياقٍ أن يطمأنَّ عليهما، كانت تحتضنهُ بنظراتها، كيف يتقلَّبُ بتلك الطريقة، خربشَ الشكُّ جدرانَ قلبها من حركاتهِ الغيرِ معهودة لتتوقَّفَ أمامه:
-ممكن أعرف إنتَ ناوي على ايه، ماهو ماتجنِّنيش، ازاي هاجرني ودلوقتي ملهوف علينا بالشكلِ دا؟!..
راقَ له غضبها فالتمعت عيناهُ بابتسامة:
-مش قولتي وحشت ابني، كان لازم آجي أشوفه، إيه مش عايزة أشوف ابني، قالها وهو يحاوطُ أحشاءها بكفِّه..
جزَّت على أسنانها تتلفَّتُ حولها:
-تقوم تجبنا الساعة حداشر علشان تشوفه، مش متعوِّدة أروح لدكاترة الصبح..
-ليه همَّا الدكاترة الصبح بيكونوا أغبيا، وبالليل بيكونوا ولاد ناس، امشي مش عايز غباء..
بفيلَّا السيوفي:
وصلت رانيا إلى الفيلا، أوقفها الحرس:
-ممنوع يافندم، خلعت نظارتها قائلة:
-قول لمدام فريدة رانيا الشافعي بنتِ عمِّك عايزة تشوفك.
بعد قليلٍ دلفت إلى الداخل، تطوفُ بعينيها على المكان، نزلت فريدة بأناقتها، من يراها يظنُّ أنَّها ابنةُ الخمسةَ وعشرونَ عامًا، رغم مرضها، وصلت إلى وقوفها:
-أهلًا يارانيا، التفت تطالعها بنظرةٍ شامتة، ثمّّ دنت إليها:
-إزيك يابنتِ عمي، تراجعت فريدة تجلسُ على المقعدِ تضعُ ساقًا فوق الأخرى..
-جاية ليه يارانيا، عايزة إيه؟..
جلست بمقابلتها وفعلت مثلها، تنظرُ إلى مقلتيها:
-جاية أشوف بنتي يافريدة، وبارك لك على ولادك، إيه مش من حقِّي، تراجعت فريدة بجسدها وتقابلت نظراتُ الحربَ بينهما:
-بنتك..قالتها متهكِّمة رغم ارتعاشةِ قلبها..ثمَّ رمقتها بسخريةٍ وأجابتها بثقة:
-بنتك مين يارانيا، أنا مش حرامية سرقت بنتك، ولو مش مصدَّقة قومي دوَّري عليها، أما عن اولادي مالكيش دخل مباركتك مش مقبولة
ألقت كلماتها التي أشعلت صدرَ رانيا، فهبَّت من مكانِها واقتربت من مقعدِها:
-بنتي هاخدها يافريدة، وهترجعي زي ماكنتي مالكيش ضهر، فرحانة فيكي
ابنك سابك ومش مصدَّقك، وبنتي بكرة تعرف أدِّ إيه إنِّك قذرة حقيرة..
لم يرفَّ لها جفنٌ وظلَّت كما هي صامدةً شامخة، وكأنَّ ثرثرتها لم تعنيها، شبكت أناملها تهزُّ أقدامها وهاتفتها مستهزئة:
-أيوة هيَّ مين بقى اللي حقيرة إنتِ أكيد، الناس الواطية يارانيا مفكَّرة الناس كلَّها زيها..
انحنت بجسدها تحاصرُ مقعدها بيدها
وتعمَّقت تسبحُ بعينيها:
-أوعي تفكَّري مش عارفة إنِّ ابنك الباشا اتصدم ياحرام، وساب البيت وراح لعشيقته، تخيَّلي فيديو حلو لبنتي كدا وهو في حضنِ عشيقته هتعمل إيه..
رفعت فريدة حاجبها باستهزاء:
-هتعمل إيه، إنتِ عارفة؟! ، لو عارفة ياريت تقوليلي، أهو يمكن أساعدك..
أثارت حنقها فجزَّت على أسنانها تضغطُ بقوَّةٍ وهي تهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-ابنك هيطلَّق البنتِ يافريدة، وغصب عنُّه ياإما..توقَّفت فريدة تتحرَّكُ بخطواتٍ بطيئةٍ إلى أن وصلت إلى طبقِ الفواكهِ وتمتمت وهي تواليها ظهرها:
-ياأمَّا إيه يارانيا، هتقتلوه، ولَّا هتخطفوه زي زمان..احتوت التفاحةَ تنظرُ إليها ثمَّ استدارت إليها:
-فاكرة الكارتون بتاعنا المفضَّل يارانيا، رفعت التفاحة إليها:
-هأكلِّك التفاحة دي، زي ماإنتِ أكَّلتهالي زمان، أنا أخدتها منِّك بطيب خاطر، مكنتش أعرف إنِّ أمِّنا الشريرة مسمَّمة التفاحة، اقتربت من رانيا ومازالت التفاحةُ بيدها:
-هبلة متعرفشِ مهما تأكِّلني من تفاح مسموم هفضل ملكة في قلبِ الكلّ..اقتربت تهمسُ بجوارِ أذنها:
-فاكرة جنان راجح بيَّا يارانيا وكلامه اللي زي السم، ورغم كدا كنت بفرح فيكي أوي علشان النَّار اللي بتحرق قلبك..وهوَّ مش شايف غير فريدة وبس، وهلوسته وهو عندُّه حمَّى باسمي، علشان كدا اتجنِّنتي وخطفتي جمال، بس هبلة أهو اتجوِّزني ياغبية وبقيت ضرتك
مرَّرت أناملها على صدرِ رانيا:
-وانحفرت انا هنا، ماهو أنا فريدة، واسم على مسمَّى، وزي ماجنِّنت جمال زمان وخطفته منِّك وقهرتك جنِّنت راجح، دارت حولَ رانيا وتابعت حديثها بكبرياء انثى:
-عارفة راجح مجنون ليه يارانيا وبيخدعك أنُّه عايز ينتقم منِّي ومن ولادي، علشان يرجَّعني تاني له، ماهو جالي هنا وقالي كدا، قالي اتجوِّزت كتير يافريدة ومحستشِ بستّ غير معاكي، أفلتت ضحكةً هازئةً تضربُ كفَّيها ببعضهما:
-شوفتي الهبل، رغم إنِّي مدتلوش وش وكنت بتقزِّز منُّه واتجنِّن كدا، تخيَّلي بقى لو رجعت تاني..
قهقهت تجلسُ مرَّةً أخرى:
-أنا شيفاه مش راجل أصلًا..اختتمت جملتها تشيرُ إلى الحرسِ الذي توقَّفَ على البابِ وأشارت إليه:
-خد الزبالة دي إرميها برَّة، البيت دا نضيف، أنا بس حبيت أوصَّلها هيَّ وجوزها رسالة، توقَّفت تقتربُ من رانيا المصدومة:
-أنا عندي أربع رجَّالة يارانيا يدفنوا جوزك في المجاري، إنتِ عندك مين، ابنِ سمية، هه أخرجتها مستهزئة، وتحرَّكت بعض الخطواتِ لتوقفها رانيا:
-هندِّمك على كلِّ كلمة يافريدة، ورحمة جمال اللي بكَّاني بدل الدموع دم لأجيبك ذليلة ليَّا..
التفتت فريدة ونظرت إليها باستخفاف
-اتكلمي على قدك يامدام رانيا، انت وجوزك اللي خافوا على نفسكم مني ومن ولادي
عند إلياس:
توقَّفَ بجوارها، تشبَّثت بكفِّهِ والطبيبةُ تضعُ السائلَ على بطنها وهي تنظرُ إلى الشاشةِ بتمعُّن، لحظاتٍ واستمعوا إلى نبضِ الجنين، التمعت عيناهُ بخطٍّ من الدموع، حاولَ السيطرةَ على نفسهِ والطبيبةُ تشيرُ إلى الجنينِ الذي لم يكتمل أعضائه بعد، ابتسمت الطبيبةُ تطالعها:
-زي ماقولت لك قبلِ كدا ياميرال، البيبي ولد، المرَّة دي واضح أوي، استدارت تنظرُ إلى إلياس وأشارت إلى بعضِ أعضائه، كدا باقي عشر أيام وندخل الخامس أهو، فيه أجزاء مكملتش طبعًا، علشان كدا مش واضح، بس المفروض المدام تهتمّ شوية بأكلها، علشان الوضع يكون أحسن.
-تمام ..قالها وهو يساعدها بالاعتدال، بعد رفضهِ للممرضةِ أن تقتربَ منها، جلست لبعضِ الدقائقِ للحديثِ عن الضرورياتِ الموجبِ فعلها أثناءَ فترةِ حملها..
خلَّلَ أناملهِ بأناملها وتحرَّكَ بجوارِها متَّجهًا إلى السيارة، توقَّفت تطالعه:
-رايحين فين..أشارَ إليها بالركوبِ مجيبًا:
-هوصَّلك على الشغل، وأنا عندي شُغل مهمّ هخلَّصه ونتقابل بالليل عند بابا، فيه موضوع مهمّ لازم نتكلِّم فيه..
أومأت له مقتربةً منه، تعانقُ ذراعه:
-هترجع البيت النهاردة، حاوطَ كتفها ينظرُ لعينيها:
-ميرال هتكمِّلي معايا مش عايز أسئلة في أيِّ حاجة، كلِّ اللي عايزه إنِّك تثقي فيَّا وبس، وقبلِ أيِّ حاجة،
مش هرحم راجح لو انتِ عايزة تروحي لعنده هوصلِّك وأنا عند وعدي..
-هتقدر تعيش من غيري ياإلياس..سؤال خرج من بين شفتيها تتمنى أن يبرد قلبها، استدارَ إلى بابِ السيارةِ ينظرُ إليها من تحتِ نظراته:
-ماأنا كنت عايش من غيرك ياميرال ماممتِّشِ ولا حاجة ..
توسَّعت عيناها باتساعِ مابين السماواتِ والأرض، غمزَ لها يشيرُ إلى الباب:
- اركبي حبيبتي ربِّنا يهديكي، وبلاش كلامك العبيط بتاع أشعار الجاهلية، هموت من غيرك ياعنترة..
-كلماتهِ كفيلةٌ لتحطيمِ فكِّه، ليصمتَ عن الحديث، سبَّتهُ بسرِّها واستقلَّت السيارةَ بصمت، داخلها نارٌ تريدُ أن تصفعهُ على فمهِ الذي يبتسمُ به.
بعدَ عدَّةِ ساعات:
جلسَ على طاولةٍ دائريةٍ يتناقشونَ في قضيَّتهم الهامة، التي تمسُّ أمنَ البلد، وقامَ بوضعِ خطَّةٍ للهجومِ عليهم دون خسائرَ من أرواحهم، خرجَ الجميعُ وظلَّ هو جالسًا، لايعلمُ أيُّ جرمٍ ارتكبهُ ليبتليهُ بشخصٍ مثل راجح، فبعدَ حديثِ أرسلان إليه، يبدو أنَّهُ متورِّطًا مع القضايا التي يشاركها الجماعات الإرهابية..
دلفَ المسؤولُ عن مكتبهِ ووضعَ كارت أمامه:
-دا عايز يقابل حضرتك ياباشا..
رفعهُ بين أناملهِ وابتسمَ بسخريةٍ يشيرُ إلى الرجل:
-دخَّله المكتب أنا جاي وراك، بعد قليلٍ دلفَ إليه، توقَّفَ راجح على دخوله:
-أهلًا ابنِ أخويا..ثنى أكمامهِ وجلس مجيبًا عليهِ بنبرةٍ باردة:
-مش أهلًا ولا سهلًا، عايز إيه ياراجح، اللي بدَّور عليه مش هنا، استندَ راجح على المكتبِ مقتربًا منه:
-إلياس ياسيوفي، أنا ممكن أودِّيك في داهية، إنتَ وأمَّك.
حرَّكَ رقبتهِ يمينًا ويسارًا، محاولًا السيطرةَ على غضبه:
-لو غلطت مش هرحمك، أقف عوج واتكلِّم عدل، متنساش نفسك.. ثار راجح ونفرت عروقه مرددًا بنبرة استيائية:
-بتكلِّم عمَّك ياله نسيت نفسك، نصبَ عودهِ وتوقَّفَ مستديرًا:
-يالا دي تقولها لابنك، مش لإلياس السيوفي، جذبَ سجائرهِ مستندًا على مكتبهِ وعينيهِ تحاصرُ جلوسَ راجح:
-جاي وعايز إيه ياراجح؟..
-بنتي..ارتفعت ضحكاتُ إلياس:
-هيَّ بنتك عندنا في قضية ولَّا إيه؟.،
-إلياس ..قالها من بين أسنانه، أمالَ بجسدهِ يردفُ بخفوت:
-إلياس باشا ياراجح متنساش نفسك، ولو أنا رضيت إنَّك تقعد فدا كرم أخلاقي اللي اتعلِّمته من أبويا ومراته اللي حضرتك بتقول عليها أمِّي، يعني أنا المفروض أوزَّع فلوسي كلَّها لله إنِّي اتربيت على أيديهم مش على إيدين راجل واطي.. هب من مكانه، يرمقه بنظرات نارية وتمتم بنبرة حادة:
-اتجنِّنت يالا، إزاي تكلِّمني كدا، دا أنا أودِّيك ورا الشمس..
استدارَ لمقعدهِ وأردفَ بنبرةٍ محذِّرةٍ وهو يشيرُ بسبَّباته:
-صوتك ولسانك هقصُّه متنساش نفسك، جلسَ على مقعدهِ وتراجعَ بجسده:
-روح دوَّر على بنتك بعيد عنِّنا، مش ناقص صداع..قالها وهو يلوِّحُ بكفِّه..
إنتَ أهبل يالا، مفكَّر معرفشِ أخدها منَّك، دي بنتي ياغبي، أقلِّ حاجة قضية نسب، أودِّي فيها أمَّك ورا الشمس..
هترجع تطول لسانك مش هسكت، انا بحاول امسك نفسي، اصلي لو قومت من مكاني هطيرك عند رانيا بتاعتك، وياريت تروح تدور عليها بدل ماانت مش لاقي شغل
استند راجح على المكتب ونظر لعيناه
-هخرج من هنا على القسم وهفضحك يابن فريدة، هجرسك بين زمايلك، واعرفهم انك مش ابن السيوفي
ارتفعت ضحكات بطريقة جنونية، ثم دنى برأسه:
-منتظر يارجوح، منتظر اشوفك هتعمل ايه، لو عايز تاخد عينة دم مني ومن وسيادة اللوا الشريف اللي ليا الفخر أنه رباني اتفضل، بس خايف دمي متقدرش تشيله، أصله تقيل، ولسة هيتقل ياراجح لما يطلبوا مني اتبرعلك بالدم، اااه معلش نسيت اقولك، اصلي ناوي اصفي اعضائك، وابيع كل عضو في دولة علشان ميعرفوش يلموها
ضرب راجح على المكتب:
-إنت مش قدي يابن السيوفي، ولو خرجت من هنا على القسم يعتبر كتبت شهادة وفاتك:
-يا شريف ..أشارَ له:
-وصَّل راجح باشا للقسم عايز يعمل قضية نسب، ولو عايز تساعدُه وتشهد معاه قولُّه إحنا خطفنا بنته.
نصبَ عودهِ بعدما أطفأ سيجارته، واستندَ بكفوفهِ على المكتب:
-راجح باشا أنا مش هسجنك، عارف ليه، علشان لو سجنتك ببقى برحمك منِّي، وإنتَ عارف أنا راجل قانون ومينفعشِ أدخل في سلطةِ القضاء، هسيبك برَّة علشان انا وانت نكون احرار،. اه وخد دي علشان تعرف أنا ديمقراطي ومتقولشِ سلطة ومش سلطة، استقالتي ناقصة الإمضاء، كدا عداني العيب وقزح لعندك، ماهو إنتَ العيب كلُّه..استدارَ مبتعدًا عن مكتبه:
-زمان كنت بشوف أشرار الكارتون مقتنعتش بيهم بس إنتَ عدِّيت سكار، ومراتك الحيزبونة الأم جاثويل، بس مش هتعرف تقول لميرال دلدلي شعرك، لأنَّها مش غبية ولا عبيطة، وياله اطلع برَّة أخدت من وقتي وسحبت الهوا من المكتب، روح كل اقسام مصر ولو عايز محامي أكبرهم هيكونوا عندك، أما شهادة وفاتي اللي بتقول عليها، توقف مائلا بجسده يرمقه بنظرة حادة
-أنا كدا كدا ميت ومش باقي على حاجة، وحياة بكى امي كل ماكنت بترعبها بقربك، لاخليك تتمنى الموت ومتلقهوش، واسأل عن الياس السيوفي، انا مش بتاع كلام ياراجح، ولو سمعتك في مرة بتقول كلمة عمي دي هفصل راسك عن رقبتك، لو جالي نفس استهزئ هقولها، ياله اطلع برة مبقاش غير المجرمين اللي ياخدوا من وقت إلياس السيوفي
صمتًا مريبًا بالمكتبِ لم يخلُ من حربِ النظراتِ القتالية، ليقتربَ راجح منه:
-بتعلن الحرب عليَّا يابنِ جمال، طيِّب شوف مين اللي هيضحك في الاخر.
عند أرسلان توقَّفَ أمام أحدِ الفنادقِ المشهورة بالعاصمة، وهناك ما يريدهُ أن يوصلَ مابجبعته، توقَّفَ ينظرُ بذهولٍ لتلك التي دلفت أمامهِ بجوارِ أحدهما، لحظة فقط لالتقاطِ صورة، ليرسلها إلى مصدرها، ثمَّ صعدَ إلى واجهته، دقائقَ إلى أن انتهى من عملهِ متَّجهًا للخارج، ولكن لسوءِ حظِّهِ وحسنِ حظِّها أن تصطدمَ به، رجعَ معتذرًا، لتتوقَّفَ مصدومةً تطالعهُ وتهمسُ اسمًا جعلهُ يطالعها بغموضٍ ثمَّ أردفَ بنبرةٍ هادئةٍ معتذرًا:
-آسف ماأخدتش بالي، قالها وتحرَّكَ سريعًا من جوارها كالزئبق، تركت الواقفَ بجوارها وتحرَّكت سريعًا خلفهِ تبحثُ عنه بلهفةٍ ولكنَّهُ لم يكن له أثر..
-رانيا فيه حاجة، واقفة كدا ليه؟،،
بعد اسبوع:
بفيلَّا السيوفي دلفَ إليها وجدها تغطُّ بنومٍ هادئ، انحنى يطبعُ قبلةً على جبينها يمسِّدُ على خصلاتها بحنان، نزعَ جاكيت بذلته، وتمدَّدَ بجوارها يدفنُ رأسهِ بصدرها، تململت تفتحُ عينيها وتغلقها، شعرت به، تراجعت تبتعدُ عنه وجلست على الفراش:
-لسة فاكر حضرتك إنِّ ليك ست وكمان حامل، حاوطَ جلوسها بذراعيهِ وجذبها إلى أحضانه:
-وحشتيني على فكرة، وأنا مفهَّمك انِّي كنت مشغول، ليه زعلانة دلوقتي
اندلعَ الغضبُ من حدقتيها، وأشارت إليهِ بالابتعاد:
-ابعد عنِّي علشان مطلَّعشِ الجنان عليك، ياله روح للستِّ رؤى بتعتك..
ثبَّتَ عينيهِ يطالعها بنظراتٍ باردةٍ رغم توَّهجِ صدرهِ بنيرانه:
-اسمعيني ياميرال علشان أنا معنديش خلق للكلامِ الكتير، هنروح لراجح وتوقفي قدَّامه وتقولي الكلام اللي إنتِ عايزة تقوليه، عايز أشوف ميرال مرات إلياس السيوفي، أكيد فاهمة كلامي..
ارتسمَ الألمُ داخلَ مقلتيها، أردفت بنبرةٍ حزينة:
-أنا الراجل دا مش عايزة أقابله ياإلياس، اقتربت بركبتيها منهُ واحتضنت كفَّيه:
-أنا عرفت الراجل دا بلاويه كتيرة ياإلياس، تعرف أنُّه بيراقبنا، أنا شوفت عربية بعد ماوصَّلتني على الجريدة، حدِّ مشي وراك، يعني عايز يئذيك، تعالَ نهاجر ياإلياس، أنا خايفة منُّه أوي، أنا مستحيل أعترف به أب، مش بعد هجومي للمنظَّمات الإرهابية، يكون الراجل دا أبويا..
احتضنَ وجهها ولثمَ جبينها، ورسمَ ملامحها بعينيه:
-حبيبتي اسمعيني كويس، طول ماإنتِ متمسِّكة بميرال جمال الدين، واللهِ لو جابلي مين محدِّش يقدر يقرَّب منِّك..
مرَّرَ بأناملهِ على وجهها وعينيهِ تسطرُ وجهها:
-جوزك مش ضعيف ولا هيِّن علشان يهرب من واحد ضعيف زي دا..
هشوف بابا تكوني جهزتي، الزيارة دي مهمَّة أوي ياميرو، وعندي خطط عليها، لازم اغلطه ياميرو، بس خايف عليكي، خايف تضعفي
-لا متخافش، انا معرفوش ومش عايزة اعرفه، انتوا اهلي
-مش اسمها انتوا ياميرال، اسمها انت اهلي وحياتي
رفرفت اهدابها تنظر إليه بذهول
-حبيبي انت متقلب ليه، جننتني وراك
-أنا عايزك تتجنني كمان ..قالها وهو يطبعُ قبلةً بجانبِ شفتيها هامسًا:
-حبيبتي يامرمر...دفعتهُ وهي تضحك:
-منتهز زعلي عارفة..نهضَ متَّجهًا إلى الباب:
-نصِّ ساعة ونمشي...إلياس…
-توقَّفَ مستديرًا إليها:
-عدِّي على ماما فريدة، مبقتشِ تخرج من أوضتها..أومأ واستدارَ يفتحُ البابَ إلَّا أنَّهُ توقَّفَ على صوتها:
-بحبَّك يابنِ عمِّي..تجمَّدَ بوقوفه، وشعرَ ببرودةٍ تجتاحُ جسدهِ حتى فقدَ القدرةَ على الحركةِ لدقائق، نهضت واقتربت منهُ تضعُ كفَّها على كتفه:
-حقيقة ومينفعشِ ننكرها، التفتَ قائلًا:
-إنتِ مراتي وبس ياميرال، مش عايز كلمة تاني..خرجَ متجهًّا إلى جناحِ والده، طرقاتٍ هادئةٍ على البابِ إلى أن أُذنَ له بالدخول..
بالداخلِ كانت جالسةً على سجَّادتها وبيدها مسبحتها تردِّدُ الذكر، رفعت عينيها المغيَّمةِ بالسُحبِ بعدما استنشقت رائحته، توقَّفَ للحظاتٍ وهو يرسمها بعينيه، نهضت من مكانها تستندُ على المقعدِ تهتفُ بتقطُّعٍ وبكاء:
-يو..سف، ردَّدتها عدَّةِ مرَّات..اقتربَ منها بعدما وجدها تترنَّحُ بخطواتها، وصلَ إليها ولم يعد بينهما سوى خطوةً واحدة، توقَّفت تنظرُ إليهِ باشتياقٍ وكأنَّهُ غائبًا منذ سنوات، ارتجفَ جسدها تتمتم:
-عامل إيه ياحبيبي، دقائقَ وهو ينظرُ إليها دون حديث، هربت حروفهِ وكأنَّهُ لم يدرك نُطقها، دقيقةٌ اثنتان وهو متوقِّفٌ ينظرُ إليها حتى أخرجَ آااه من جوفِ قلبه:
-استحملتيني السنين دي كلَّها إزاي، إزاي قدرتي تتحمِّلي قساوة قلبي وجحودي عليكي، انسابت عبرةً غادرةً عبر وجنتيهِ يضربُ على صدره:
-قلبي مرحمشِ ضعفك وإنتِ بتترجِّي فيَّا إنِّك تحضنيني، وأنا حيوان ومعرفشِ إنِّي بأذي أقرب الناس لقلبي..
شهقةٌ أخرجتها وهي تجذبهُ لأحضانها:
-متقولشِ كدا ياحبيبي، أنا كنت راضية، واللهِ كنت راضية يابني، إنتَ نور عيوني ياإلياس، عمري ماأزعل منَّك..حاوطَ جسدها وبكى لأوَّلِ مرَّةٍ بشهقاتٍ قائلًا من بين بكائه:
-أنا كرهتِك علشان خُنت ماما غادة، كان دايمًا يجيلي إحساس انِّي بحبِّك أكتر منها، علشان كدا فكَّرت إنِّي بخون امي، وأنا معرفشِ إنِّي بخونك إنتِ ياماما..
آااه وآااه من كلمةٍ تعني الكثيرَ من الآلام، كلمةٌ تمنَّتها منذ سنواتٍ أنَّ أحدًا من أولادها ينادونها بها، بكت وهي تضمُّهُ إلى صدرها، لتهوى على الأرضِ وهو يحاصرُ جسدها مع صوتِ بكائها مردِّدةً
"أحمدك وأشكر فضلك يارب، أحمدك وأشكر فضلك يارب"
ظلت الدموعُ تهطلُ كزخَّاتِ المطر، دموعٌ غسلت قلوبهما من كمِّ الألمِ الذي مرَّا بهما، دموعٌ بسنينِ فراقهما، شدَّدت من عناقهِ خوفًا من الابتعادِ عن أحضانها كأنَّهُ سيهربُ ولن يعود، أخرجت وجههِ وظلَّت تقبِّلُ كلَّ إنشٍ بوجهه..رفعَ كفَّها وقبَّلهُ ثمَّ رفعَ وجههِ إليها:
-سامحيني ياأمِّي..جذبتهُ لأحضانها مرَّةً أخرى:
-مسامحاك ياحبيبي، عمري ماأزعل منَّك ياإلياس..لم تشعر سوى بالتي تدثَّرت بينهما:
-احضنيني أنا كمان ياماما، علشان ابنك البارد دا محضنِّيش..قالتها ميرال لتخرجَ حزنهما الذي سكنَ بروحهما، ضمَّتها فريدة بذراعٍ وضمَّت إلياس بذراعها الأخرى:
-عمري ما فكَّرت إنِّك تتجوِّزي حدِّ من ولادي ياميرال، تعرفي أوَّل ما مصطفى قال نجوِّزكم كنت زعلانة، اتمنِّيتك ليوسف، مكنتش أعرف إنِّ ربِّنا ربط على قلبي..
نهضَ يمسحُ دموعه، وابتعدَ عنهم:
-كدا يامدام فريدة بكيتيني، ابتسمت تطالعهُ بحب، وحشتني مدام فريدة منَّك ياحبيبي..
انحنى يجذبُ كفَّ ميرال:
-طيب هنروح مشوار، ولازم نقعد مع بعض، كان لازم نقعد من زمان، بس مشوار النهاردة هيحطّ النقط على الحروف، قالها وعينيهِ على ميرال..أومأت له فتحرَّكَ يجذبها وغادرَ المكان...وصلَ بعد قليلٍ أمامَ فيلَّا الشافعي، دلفَ للداخلِ بعدما أخرجَ هويته، دقائقَ وكان بداخلِ البهو، لحظاتٍ وتوقَّفَ راجح ورانيا أمامه، أسرعت رانيا تجذبُ ميرال لأحضانها، إلَّا أنَّها توقَّفت متجمِّدةً كلوحِ الثلج، ضمّّت وجهها:
-مروة حبيبتي أخيرًا جيتي لماما..ابتعدت عنها وعانقت ذراعَ إلياس ..وزَّعَ نظراتهِ عليهما بشماتة:
-انا جبتلك بنتك أهو ياراجح لحدِّ عندك، علشان تعرف تاخد راحتك بالقضية.. مش عايز ترفع قضية نسب، بنتك معاك أهي، أشارَ إليها:
-إيه ياروحي مش عايزة تسلِّمي على باباكي؟..
-دي مروة بنتي؟!..
اقتربَ وعلى وجههِ ابتسامةً لعوب ثمَّ غرزَ عينيهِ بعينينِ راجح:
-معاك دلوقتي كلِّ الأسلحة وأنا قدامك أعزل أهو، أشارَ على الفيلَّا بيدهِ وتابع:
-وهيلمان عيلةِ الشافعي كلُّه تحتِ رجلك، أنا لسة مجتشِ عنده، إنتَ ناسي انا ليَّا مِلك عندك ياراجح..استنكر راجح حديثه قائلًا:
-بس معنديش حاجة من بتاعة أبوك يابنِ جمال..
حكَّ ذقنهِ يدورُ حولهِ وتمتم:
-أممم، قولت لي ماليش حاجة، طيِّب أومال من أين لكَ هذا ياراجح، إيه كسبت ورقة اليانصيب ولَّا إيه؟..
-عايز إيه يابنِ جمال؟..
-روحك ياراجح، بس مش هاخدها بسهولة..
-ميرال صاحَ بها مستديرًا برأسه:
-ردِّي زيارة المدام، واشربي قهوتها..
اقتربت من رانيا وتعمَّقت بالنظرِ إلى عينيها:
-إنتِ والراجل دا أنا مش معترفة بيكم،
معنديش غير أم واحدة بس وهيَّ فريدة السيوفي، وأب واحد وهوَّ جمال عز الدين، أنتوا في نظري ناس واطية سلبوا حقوق ناس بريئة، ابعدوا عنِّي بدل ماأعملُّكم قضية السبِّ في شرفي،
ولو الدنيا كلَّها فارقتني ومابقاش غيركم مستحيل أقرَّب منكم، ماما أشرف ستِّ في الدنيا، حتى لو أنا بنتكم فليَّا الشرف إنَّها خطفتني وربِّتني، لفَّت إلى إلياس وتابعت حديثها وعينيها تطالعهُ بهيام:
"والراجل دا أغلى من روحي"ولو حاولتوا تقربوا مني، هحكي كل حاجة يامدام رانيا، وعندنا أدلة كتيرة، توقف إلياس بينهما
-سواء حاولت تقرب مننا ولا لا، انا هقرب واخد روحك وروح الحيزبونة مراتك، اقتربت ميرال منه
-طول عمري بمشي براس مرفوعة قدام الكل، ليا حسب ونسب وسيرة طيبة، وربنا انعم عليا بزوج وام يجننوا، مش على اخر الزمن تبقوا انتوا اهلي..دلف طارق يوزع نظراته بينهم متسائلًا:
-ايه اللي بيحصل هنا، تقابلت نظرات ميرال معه، ولم تشعر سوى بتلك الرجفة التي انتابت جسدها، ورغم ذلك اقتربت منه تنظر إليه
-إنت!! يعني انت ابن الراجل دا، حاول تذكرها لتقترب رانيا تحاول نزع فتيل الغضب بينهما، ولكن قرب إلياس إليها متسائلًا:
-تعرفيها منين ياميرال؟!
لطمة قوية على وجهة طارق، ثم بصقت بوجهه واردفت بتقطع:
-هستنى ايه من أب وأم عديمي الاخلاق إلا أنهم يخطفوا بنت، نظرت باشمئزاز وتراجعت إلى إلياس قائلة:
-خدني من المكان المقرف دا ياالياس،
-يبقى تموتي أحسن يابنتِ راجح ..قالها وهو يُخرجُ سلاحه يتوجَّهُ إليها وأطلق طلقةٍ نارية اخترقت أحدهم
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض "
هو حكاية قدر جميله ...
تصادفك مرة واحدة في حياتك ولن تستطيع تكرارها ..
وتبقي أجمل حكاية إن استمرت ..
او حتي إن انتهت ..
تبقي ساكنة في أعماق روحك كعطر ورد ..
ان غفوت ايقظتك ..
وإن اخمدت مشاعرك ستنعشك ذكرياته ..
و تسالني ماذا أريد منك ؟
دعني أفسر لك :
أريد منك أمانا" و حنانا" و وطنا"
و بيتا" و ظلا" و دفئا"
أريد منك حياة
ماضي و حاضر و مستقبل
نظرة عين تخبرني أني حبيبتك
لمسة يد تعيد الأمان لقلبي
دموعا ﻻ تسيل إلا من شدة الفرح
و آلاما تزول بمجرد رؤياك
أريدك أنت فحسب
ثم ماذا بعد..!!
قلبك لقلبي لينصاع له طوعا
ويعقد معه صفقة العمر ..
اقتربَ راجح وهو يجذبُ سلاحه، وهتفَ بهسيسٍ أعمى:
-بدل أنكرتي وجودنا يابنتِ راجح يبقى الموت حلال عليكي، قالها وهو يوجِّهِ سلاحهِ لتخرجَ طلقتهِ باستدارةِ إلياس الذي يَبعدهُ بخطوة، ودفعهُ بقدمهِ لتخترقَ الطلقةَ كتفَ رانيا، ثمَّ انحنى وبدأ يلكمهُ كالمجنونِ كلَّما تخيَّلَ أنَّهُ سيصيبُ زوجته، شعرت ببرودةٍ تجتاحُ جسدها لتتسمَّرَ بوقوفها وكأنَّها أصيبت بشللٍ كامل، كلَّما تذكَّرت أنَّ والدها هو الذي حاولَ قتلها، حاول طارق إزاحةَ إلياس من فوق راجح ولكنَّهُ لم يقوَ إلا بتدخُّل أمنِ الفيلا، ابتعدَ يبصقُ عليه:
-حيوان، شوفت الحيوانات ظلمتها لأنَّك متستهلشِ تكون أب..قالها واستدارَ إلى زوجتهِ التي ارتعشَ جسدها بالكامل، وانهارت قواها وكأنَّها الحاضرة الغائبة بهذا المكان، وهي تنظرُ إلى رانيا التي سقطت بالأرضِ تمسكُ ذراعها صارخةً باسمها:
-ماتمشيش يامروة، مستعدَّة أفديكي بحياتي ياحبيبتي، ابنِ فريدة بيضحك عليكي يابنتي..عيونًا خاويةً بنظراتٍ باردةٍ تطالعها بها، توقَّفَ إلياس يتعمقُ بنظراتهِ إليها، احتلَّ الضيقُ ملامحهِ وهو يرى ضعفها، واشتعلت حقولُ النيرانِ داخلهِ ظنًّا أنَّها ستحنُّ إليهما، وقفَ كالمشاهدِ ولم يتحرَّك من مكانه، توقَّفت رانيا بمساعدةِ طارق تحتضنُ ذراعها واقتربت منها وعينيها تذرفُ الدموع، تراجعت للخلفِ تحتضنُ ذراعَ إلياس تهتفُ بنبرةٍ قويةٍ عكسَ حالتها:
-إلياس خدني من هنا، اقتربَ و حاوطَ جسدها وتحرَّكَ بعض الخطوات، مع وقوفِ راجح وتناولهِ السلاحَ الذي ركلهُ إلياس بعيدًا عنه، وزمجرَ غاضبًا:
-هموِّتك يابنِ جمال، قالها بإطلاقه الرصاصة، ولكن لم تصب أحدًا سوى اختراقها للجدار، بعدما دفعهُ طارق:
-بابا لو سمحت..قالها طارق ممتعضًا، توقَّفَ إلياس مستديرًا بعدما تعاظمَ غضبه، وغلت الدماءَ بعروقهِ يشيرُ إليهِ بتهديد:
-مش هرحمك، احفر قبرك واستناني.. النهاردة كنت عندك بصفتي إلياس السيوفي راجعلَك بصفتي يوسف الشافعي، ياراجح ياشافعي، قالها وغادرَ المكان..
وصلَ إلى سيارتهِ فتحَ بابها وساعدها بهدوء، ثمَّ أغلقَ الباب واستدارَ متَّجهًا ليستقلَّ السيارةَ بجوارها، أغمضت عينيها وهي تشعرُ بألمٍ يشحذُ جسدها بالكامل، استدارَ إليها بكاملِ جسدهِ وحاوطَ وجهها يزيلُ دموعها بإبهامه:
-ميرو اهدي خلاص، طالعتهُ بتشتُّت:
-مين دول ياإلياس، الناس دي مجرمة..قالتها بشهقاتٍ مرتفعةٍ مع ارتجافةِ جسدها ليضمَّها بحنانٍ هامسًا لها بعضَ الكلمات، ظلت فترةً إلى أن استكانت بأحضانه، ليقودَ السيارةَ بذراعٍ والآخرُ يضمُّها به، وصلَ بعد فترةٍ قليلةٍ فيلا السيوفي، ترجَّلَ متَّجهًا إليها، كانت جالسةً بجسدٍ خاوي، وروحًا مسلوبة، وهناك مايوسوسُ لها، ترجَّلَ واتَّجهَ إليها، ساعدها بالنزولِ وحاصرها بين ذراعيه..
-ياله حبيبتي ، نظرت للمنزلِ بعيون مكدَّسةٍ بالدموع، ثمَّ اتَّجهت بأنظارهاٍ إليه، وأحست بأنها طفلة تائهة، دنى يحاوط جسدها متمتمًا بنبرة حنونة:
-يالة ياميرال أنا معاكي..انهارت باكية ببقهرٍ لسنوات وتركت عبراتها التي عبرت عن كم آلامها، سكت هنيهة تاركًا إياها بإخراج قيح مايخنقها من جروحٍ تنغز بالقلب كالسكين البارد
ظلت لفترة واقفة كالطائر الذي تركه سربه بموطن غير موطنه، شعر بها ليضمها لأحضانه:
-ليه الضعف دا، من إمتى وأنتِ ضعيفة كدا ..عانقت نظراته واخترق صوتها الباكي جدران قلبه المدمي قائلة:
-كان ممكن تكون راجع بيَّا ميتة صح، الراجل كان هيموِّتني ياإلياس، هوَّ فيه واحد ممكن يقتل بنته!..يعني كنت زماني ميتة دلوقتي؟!..
كلمات ماهي سوى كلمات ولكن كادت أن تُزهقَ روحه، لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يضمُّها بقوةٍ لأحضانه، كاد أن يذيبَ ضلوعها مع ارتجافةِ جسدهِ ذعرًا وخوفًا من حديثها، مما جعلهُ يهمسُ بنبرةٍ عاشقةٍ متنحيًّا عن كبريائهِ وصموده، فهنا مفترقَ المعنى بين العشقِ والكبرياء:
-ليه بتقولي كدا،وأنا روحت فين، بكت بشهقاتٍ مرتفعةٍ عاجزةٍ عن تحمُّلِ الألمِ الذي اخترقَ روحها
-مش هتبعد عنِّي ياإلياس مش كدا، مش هتاخدني بذنبهم؟.
احتضنَ وجهها بين راحتيه، وتجوَّلَ بعينيهِ فوقَ ملامحها بشغف، وهتفَ بنبرةٍ خشنةٍ ممزوجةٍ بالعشقِ الدفين:
-مقدرشِ أعيش من غيرك، مش إلياس اللي ياخد حد بذنبِ حد، تخيَّلي بقى لو الحدِّ دا روحهِ وعشقه..
ابتسمت من بين دموعها تطالعهُ بنظرةٍ هائمة:
-روحه وعشقه!!
ارتجف جدران قلبه، فابتسمت عيناه قبل شفتيه، وعانقها بنظرة ممزوجة بالعشق الضاري، ليردف بنبرة تخصها وحدها
-عندك شك في كدا..كم مرة اتكلمنا في الموضوع دا
ارتفعت يديها تحتضن وجهه بحنان وعشق متمتمة بنبرة ممزوجة بالعشق
-ممكن تضمِّني اوي، هزَّ رأسهِ بالنفي وانحنى يحملُها بين ذراعيهِ دالفًا بها للداخل، وقلبهِ عبارةٍ عن مضخَّةٍ من دقات عنيفة، قابلتهُ غادة وهي تراهُ يحملها..
توقَّفت تطالعهما واستفهمت عمَّا بها:
-مالها ميرال ياأبيه؟!
تحرَّكَ قائلًا:
-كويسة، هرولت خلفهِ وتساءلت مرَّةً أخرى:
-طيب شايلها ليه..التفتَ لها:
-غادة خفِّي عن دماغي، قالها وصعدَ للأعلى دون حديث..توقَّفت وعينيها على تحرُّكهما إلى أن اختفيا، دلفَ لجناحهما، وأغلقَ البابَ بقدمه، اتَّجهَ إلى فراشهما ووضعها بهدوء:
-ميرو حاولي ترتاحي وتنسي أيّ حاجة تمام ..تشبَّثت بذراعه:
-متسبنيش، أنا محتاجاك أوي، ربتَ على كفِّها:
-أنا معاكي، هغيَّر هدومي وأجبلك حاجة تلبسيها..
هزَّت رأسها بالرفض، مبتلعةً غصَّتها التي بطعمِ مرارِ ماشعرت به:
-متسبنيش ياإلياس مش عايزة أغيَّر، عايزاك تاخدني في حضنك وبس، أنا خايفة..
كان وقعُ كلماتها عليهِ كبيرًا ليشعرَ بالعجزِ أمامها، حينها عاتبَ نفسهِ على ما فعلهُ بها، تمنَّى أن يدفنها بين ضلوعه، حرَّكَ أناملهِ على وجهها يرسمها بحنو..يحفرُ كلَّ إنشٍ بها داخل قلبهِ بعشقٍ هامسًا لها بنبرةٍ مبحوحة:
-تخافي وحبيبك معاكي، كدا تزعَّلي المسكَّر منِّك..ابتسمت وهي تضعُ كفَّيها على وجهه، قاطعهم طرقاتٌ على بابِ الغرفة، سمحَ بالدخولِ لتدخلَ غادة متسائلة:
-هيَّ ميرال كويسة ياأبيه، استدارَ يرمقها بغضبٍ يشيرُ إليها:
-غادة، ميرال كويسة، ممكن تسيبيها ترتاح شوية، اقتربت من نومِ ميرال:
-حبيبتي إلياس عمل فيكي حاجة، تحرَّكَ من أمامها متَّجهًا إلى غرفةِ الملابسِ يسبُّها بداخله، بينما ابتسمت لها ميرال:
-أنا كويسة ياغادة بس عايزة أنام، انحنت تطبعُ قبلةً على جبينها:
-قلقت عليكي، وبعدين ماله أبيه إلياس ، لسة متأثَّر باللي حصل؟..
هزَّت ميرال رأسها بالنفي وأجابتها:
- لا حبيبتي هوَّ بس مرهق، جلست بجوارها وتساءلت:
-ماما قالتلي إنِّك بنتِ عمِّ إلياس صح؟.. وقالت اسمه راجح، وكمان شوفت والدتك كانت هنا، بصراحة متزعليش منِّي دي ستّ كنت عايزة أشتمها، كلِّمت ماما فريدة بقلِّة ذوق، معرفشِ إزاي واحدة جميلة زيك بنتها، ياريتك كنتي بنتِ ماما فريدة، هموت..إزاي الستِّ دي تخلِّف واحدة قمر وطيوبة زيك، لا ياميرال الستِّ دي اتبرِّي منها، بترت حديثها عندما رفعها إلياس من ذراعها، وتحرَّكَ بها إلى خارجِ الغرفةِ ثمَّ أغلقها خلفها يسبَّها، متَّجهًا إلى زوجته:
-ميرال ياله علشان تغيَّري، مينفعشِ تنامي كدا، قالها وهو يضعُ ملابسها فوقَ الفراش، ثمَّ انحنى وساعدها بتبديلِ ثيابها، كانت كالجثَّةِ بين يديه، شعرَ بالحزنِ عليها، وذهبَ بذاكرتهِ ماذا كان سيفعلُ لو كان أهلهِ مثلها، أو أنَّ أحدًا غير مصطفى أخذه، وأصبحَ شخصًا غير سويًا، ارتفعَ تنفُّسهِ وهو يساعدها حتى انتهى ممَّا يفعله، ضمَّها لأحضانهِ يمسِّدُ على خصلاتها ثمَّ هتف:
-يعني طلعنا في الآخر ولاد…
-عارفة المفروض تحمدي ربنا إنِّ ماما فريدة خطفتِك منهم، علشان لو فضلتي هناك مكنَّاش هنتقابل ولا كنتي هتكوني مراتي دلوقتي..
اكتفت برسمِ ابتسامة، ودفنت رأسها بصدرهِ تبتعدُ عن نظراته، لأوَّلِ مرَّةٍ تشعرُ بصقيعٍ بكافةِ جسدها، دسَّ أناملهِ بخصلاتها يرفعها لتنظرَ إليهِ حينما شعرَ بدموعها، أزالها بإبهامهِ وسبحَ بجمالِ عينيها..
-طيِّب ليه العيون الحلوة دي تبكي، أكيد زعلانة علشان أنا طلعت ابنِ عمِّك صح؟..
-حياتنا كلَّها طلعت سراب ياإلياس، الأم اللي طول حياتي بفتخر بيها طلعت مش أمِّي، وبابا اللي رسمته بأحلامي مطلعشِ بابايا.
رفعَ ذقنها وعاتبها بعينيهِ قائلًا:
-طيب مش كفاية أنا حلمك واتحقق، دا لوحده المفروض تحمدي ربِّنا عليه، يابنتي إنتِ متجوزة أحسن راجل في مصر..
أفلتت ضحكةً من بينِ شفتيها، حتى التمعت عيناها، دنا من شفتيها يلمسها بخاصته:
-طيب واللهِ المسكَّر زعلان من البايرة ولازم تراضيني، ياإما..قابلت عيناها عينيهِ القريبة منها هامسةً بنبرةٍ متقطَّعةٍ على غير عادتها:
-المسكَّر ممكن يتخلَّى عن روحه، مش أنا روحك، زي ماإنتَ روحي ياإلياس؟..
لم يظلّ هنا لشفتيهِ حديثًا سوى أن تسكبَ عشقًا يروي به قلوبهما الظمآنة، لقد فاضَ القلبُ وارتفعت دقَّاتهِ وأُلهبت المشاعرَ بنيرانِ العشقِ الجارف، ليظلَّا فترةً لم يشعرا بما حولهما ولم يعلما كم سرقَا من الزمنِ من تلك اللحظاتِ والهمساتِ التي تُعتبرُ ميزانَ الحياة، دقائقَ ربَّما ساعاتٍ وغرفتهما مغلقةً عليهما كأنَّهما انعزلا عن العالمِ، بهروبهما من كابوسهما الواقعيّ الذي سيقلبُ حياتهما..بعد فترةٍ كانت عيناهُ تغازلُ ملامحها المستكينةِ فوق ذراعه، نظراتٌ تقطرُ عشقًا ضاريًا، تمنَّى أن يعودَ به الزمن لقبلِ سنواتٍ حتى يُشبعَ روحهِ من قربها، مرَّرَ أناملهِ على ثغرها الذي يشبهُ عنقودَ العنب وابتسمَ كلما تذكَّرَ لحظاتهِ السعيدة بقربها، لقد دغدغت قلبهِ وانهارت حصونهِ ودوافعهِ بحبِّها الذي زلزلَ أركانهِ بالكامل ..
فتحت عينيها على حركةِ أنامله، لترفعَ رأسها تدفنهُا بحنايا عنقه، لتضربَ أنفاسها الناعمةِ جلده، ليرتجفَ جسدهِ بنيرانِ الرغبة، فلقد فاضَ الشوقُ
جلسَ وقامَ باعتدالها، محاوطها بذراعيه، وضعت رأسها على كتفه، ثمَّ مدَّت كفَّها لتتشابكَ أناملها بأنامله، لديها شعورًا بداخلها أنَّ هذا الرجلَ فاقَ حدودَ الروعة التي فقدت المعاجمَ في سردِ صفاتهِ وحنانه، من يراهُ يقسمُ أنَّهُ هالةٌ من الغرورِ والكبرياء، ولكنَّ الكبرياء هنا كبرياءَ العشق، لأوَّلِ مرَّةٍ ترى بعينيهِ بريقُ الحنان، وكأنَّهُ يضعُ قلبهِ بين راحتيها لتفعلَ به ماتريد، فجميعُ لمساتهِ يمتلكها ذراعَ الحنان، ليثبتَ لها أنَّ قلعتهِ حصنها الآمن وليس سواه..
-بقيتي كويسة؟..رفعت رأسها:
-زهقت ولَّا إيه؟..
-هزهق من إيه بس، أنا بطَّمن عليكي، هتفضلي حبساني كدا، عايز أشوف شغلي، وحضرتك عاملة زي الأطفال، اللي محتاجة والدتها..
-مش يمكن بعتبرك أكتر من كدا..
-وأنا مش عايزك طفلة، عايزك ميرال الواعية، مبحبش ضعفك دا..
أجابتهُ بعبث:
-عايزة أقعد في حضنك، مستكتر عليَّا حضنك شوية..ثبَّتَ نظراتهِ عليها لبعضِ اللحظات ثمَّ أردف:
-وبعدِ ماتقعدي شوية في حضني هيحصل إيه؟..هنفضل طول اليوم في تبادل الأحضان، ميرال عندي شغل، فوقي مش عايز أيِّ حاجة تأثر عليكي..
-دا كلُّه علشان قولتِ لك عايزة أفضل في حضنك ياإلياس، علشان محتاجاك..
زفرَ بحنقٍ ووضعَ كفَّيهِ بخصره:
-خلاص أقعد دادة لسيادتك، ولَّا أقولك نحكي حواديت إيه رأيك؟..
طالعتهُ بتذمُّرٍ قائلة:
-لو رديت زي أيّ راجل بيحبِّ مراته هيدفَّعوك ضريبة مثلًا؟..
رفعَ حاجبهِ وأجابها بتخابث:
-الراجل اللي بيحبِّ ياميرال، هبَّت معتدلةً بمقابلتهِ وأشارت ملوِّحةً بيديها متمتمة:
-متستفزِّنيش ياإلياس، إنتَ بتقلب بسرعة ليه؟..حرام تقعد ساعتين حبيب من غير ماتقلب لبرودك دا ياأخي، نفسي تسلِّفني منهم شوية..
زوى مابين حاجبيه، مستنكرًا حديثها:
-تقصديني بكلامك دا ولَّا حدِّ تاني؟.،
جزَّت على أسنانها متراجعةً تستندُ على سريرها تهمسُ لنفسها:
-يالهوي لو ابنه طلع ببروده، هيدخَّلوني مستشفى المجانين، يارب مايطلع زيه يارب، أنا غلبانة عليهم..
دنا يتنصَّتُ على حديثها، ثمَّ وضعَ كفِّهِ على جبينها
-إنتِ سخنة، صح هعتبر دا هلوسة حمى..أغمضت عينيها حتى لا تطبقَ على عنقه:
-امشي من قدَّامي، اطلع برَّة وسبني بدل ماأقلب عليك..
توقَّفَ قائلًا:
-أنا هطلع بس مش علشان المجنونة طلبت علشان لو قعدت هزعل وأنا زعلي وحش..
رفعت إحدى حاجبيها ساخرة:
-تزعل، هوَّ إنتَ بتفرح أصلًا، نفسي تضحك، أشارت على بطنها:
-حبيبي في هنا بيبي، وإنتَ أبوه اضحك شوية الولد هينزل يشتمنا..
راقَ له دلالها، فتراجعَ يهزُّ رأسهِ مبتسمًا، ودلفَ إلى الحمَّامِ دون حديثٍ آخر..
بفيلَّا الجارحي:
خرجت ملك من غرفتها متَّجهةً إلى الحديقة، قابلها إسحاق:
-ملوكة عاملة إيه ياعمُّو؟.،اتَّجهت إليهِ بعيونٍ حزينة:
-الحمدُ لله ياعمُّو، هوَّ أرسلان مش هيجي النهاردة كمان؟،،حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ إلى أرجوحتها وأجلسها وبدأ يحرِّكها بهدوء:
-طيِّب عمُّو مينفعشِ بدل الولد أبو غمازات دا، أه أنا كبرت شوية بس برضو لسة حليوة.،
ابتسمت كالطفلة، ثمَّ تشبَّثت بأرجوحتها واستدارت برأسها تطالعه:
-لا حضرتك زي القمر، معرفشِ الستات أغبية علشان سايبينك سينجل إزاي..
قهقهَ عليها بصوتٍ رجولي، وحاوطَ جسدها قائلًا:
-أخوكي مشغول جدًا، أنا كمان مبقتشِ أشوفه حبيبتي، وهمَّا ساعات اللي بيكون موجود هنا في مصر، مش معقول هنقولُّه تعالَ وسيب مراتك بظروفها دي، متنسيش أنَّها كانت حامل..قاطعَ حديثهما صوتُ الحارس:
-أسحاق باشا، نصبَ عودهِ يطالعهُ باستفهام، اقتربَ منهُ قائلًا:
-فيه واحد طالب يشوف حضرتك والباشا، ودا الكارت بتاعه..
أمسكَ الكارت مابين أناملهِ يردِّدُ ماعليه..
اتسعَ بؤبؤُ عينيهِ متحرِّكًا للداخل سريعًا، ارتسمَت ابتسامةٌ عريضةٌ على محيَّاه، واقتربَ بتحيَّته:
-أهلًا وسهلًا سيادةِ اللوا، مصدَّقتش لمَّا قالولي إن حضرتك شرفتنا..
أومأ له قائلًا:
-أهلًا بيك سيادةِ العقيد، يارب تكون بخير..
أشارَ إليهِ بالجلوسِ مجيبًا:
-ليَّا الشرف طبعًا يافندم إنِّ حضرتك تنوَّرنا..قاطعهم دخولُ فاروق يوزِّعُ نظراتهِ بينهما، ورغم تخبطِ مشاعرهِ إلَّا أنَّهُ ابتسم:
-أهلًا وسهلًا بسيادةِ اللوا، الفيلا نوَّرت..
توقَّفَ مصطفى وحيَّاهُ بنبرتهِ الرخيمةِ والوقورة:
-أكيد بأهلها وناسها، ليا الشرف بمقابلتك..بعد التحية، وزَّعَ فاروق نظراتهِ بين إسحاق الذي صمتَ ومصطفى وتساءل:
-تحت أمرك يامصطفى باشا..تراجعَ مصطفى بجسدهِ ووزَّعَ نظراتهِ عليهما قائلًا بنبرةٍ هادئة:
-عندكم أمانة تخصِّنا ياإسحاق، فتحَ فاههِ للتحدُّثِ إلَّا أنَّهُ أشارَ بيده:
-قبل أيِّ حاجة أنا مش جاي أعاتبكم أو آخد ابنكم، عارف إنِّ ليكم فيه أكتر مننا، بس متنسوش إنِّ دي أم، ومهما السنين مرِّت عليها عمرها ماهتتنازل عن ابنها، أنا جاي نتِّفق وطبعًا تحتِ أمركم، وزي ماقولت أنتوا ليكم فيه أكتر مننا، هسيبكم تفكَّروا بالأبوَّة اللي ربتوه بيها، عارف الموضوع صعب، ويمكن مؤلم أوي، لكن قبلِ أيِّ حاجة مفيش حاجة هتفضل متخبية، حاولت قبلكم وللأسف جه الوقت اللي اتكشفت فيه كلِّ الحقايق، أرسلان كدا كدا هيعرف، فلو عرف منُّكم هيبقى أفضل بكتير أنُّه يتصدم من حدِّ تاني..
-حضرتك بتهدِّدنا ياسيادةِ اللوا..هكذا تساءلَ بها إسحاق؟..
هزَّ رأسهِ باعتراضٍ على حديثه:
-أبدًا لا سمحَ الله ولا ليا حق ولا عين أقف وأطالب بحاجة كان ليكم الفضل الأكبر فيها، بس أنا بناشد قلوبكم وعارف ومتأكد اللي يربي واحد زي أرسلان عمره مايكون أناني، وبكرَّر كلامي للمرَّة التالتة، الولد ليكم فيه أكتر مالينا، الأب هوَّ اللي ربَّى مش اللي خلِّف، بس من حقُّها إنَّها تاخده في حضنها، حقَّها ومنقدرشِ ننكره، وطبعًا أكيد هوَّ مش صغير وهيتفهَّم جدًا، وخاصةً لما يعرف إنِّ إلياس أخوه اللي حضرتك حاولت تبعده عنُّه ياسيادةِ العقيد..
صمتَ للحظاتٍ وتابعَ حديثهِ عندما وجدَ تغيَّرِ وجوههم:
-كان لازم أعرف انقطاع أرسلان بعد زيارة والدته..مسح اسحاق بكفيه على وجهه كي يهدأ من ارتفاع أنفاسه المرتجفة، ورغم ذلك توقّّفَ أخيرًا بعدما فشل في محاولَ تهدئةَ نفسه، ساحبًا نفسًا عميقًا ثم أشار بسبباتهِ
بعدما فقدَ تحكُّمه بالكامل:
-متقولشِ أمُّه دي ياسيادةِ اللوا، أرسلان مالوش غير أم واحدة، أنا مقدَّر مجية حضرتك اللي أكيد اتشرَّفنا بيها، بس حضرتك جاي في بيتنا وبتقول عايز ابننا، الولد مالوش غير أب واحد وأم واحدة ودا آخر كلام عندي..
توقَّفَ فاروق مع ارتجافةِ جسدهِ وهو ينظرُ لأخيهِ بعتاب، ثمَّ التفتَ إلى مصطفى وحاولَ الحديث، إلَّا أنَّ لسانهِ ثقلَ ولم يعد لديهِ قدرةً على التفوُّه، شعرَ به مصطفى فنهضَ من مكانهِ واقتربَ منه محاولًا تهدئته:
-واللهِ أنا ماجاي علشان أحرمكم منُّه، وأطالب بحقِّنا فيه، لأنِّنا مالناش حق فيه غير أنُّه أخو إلياس، اللي مهما الحقيقة اختفت هتظهر، وأكيد إسحاق عرف إنِّ إلياس أخو أرسلان، فبلاش نضحك على بعض يافاروق، أقعد مع نفسك وحطِّ نفسك مكان والدته، دي أم خطفوا ولادها تلاتين سنة ويوم ماتلاقيهم نحرمهم منها، حاولت قبلك أبعده مايعرفشِ حاجة، بس عرف، وإلياس غير أرسلان، خايف عليه من الصدمة، هيكون صعب صعب أوي..
قالها متنهِّدًا بحزنٍ ثمَّ استأذنَ وتحرَّكَ إلى أن وصلَ إلى بابِ الغرفةِ يطالعهم قائلًا:
-أنا جيت قبلِ ماإلياس يعرف، عنده عم سم وبيحفُر في كلِّ مكان علشان يوصلُّه قبلنا، وأكيد إنتَ عارف ياإسحاق دا ممكن يعمل إيه، ياريت تتفهِّموا الوضع..قالها وغادرَ المكان بأكمله، ليهوى فاروق على المقعد، بعدما فقدَ اتزانهِ يتمتم:
-يعني كدا النهاية، الولد مبقاش ابني، ابني اللي بكبَّره بقالي سنين علشان يكون سندي هيروح لحدِّ تاني، رفعَ عينيهِ الخاويةِ إلى إسحاق الذي يدورُ بالغرفةِ مثل الأسدِ الجريح:
-أنا كنت عارف أنُّه جاي يهدِّدنا، لازم ألاقي حل، لا لازم يكون فيه حل، أنا لمَّا دوَّرت ورا إلياس من أوَّل ماعرفت أنُّه ماسك قضيةِ الخلية قبل ماعرَّفته بأرسلان عرفت أنِّ رأسه سم، متأكِّد مش هيسكت، دا راح السويس يوم ماعرف أنُّه مش ابنِ مصطفى وراجع على شغله وكأنّ ماحصلشِ حاجة، الولد دا بيخطَّط لحاجة وخاصةً أنُّه معرَّفشِ أرسلان بأيِّ حاجة..
نهضَ فاروق وتحرَّكَ بخطواتٍ بطيئةٍ وكأنَّهُ طفلًا يتعلَّمُ المشي يستندُ على الجدار، إلى أن وصلَ بابَ الغرفةِ وسقطَ فاقدًا الوعي..
عند أرسلان بأحدِ مدنِ المعمورةِ التي تجمعُ بين التاريخِ والطبيعة، خرجَ من إحدى الكنائسَ لينهي ماوصلَ إليه، استقلَّ سيارتهِ مع رنينِ هاتفه:
-أيوة حبيبتي، قدَّامي ساعتين تلاتة وأكون عندك بإذنِ الله..
كانت تجلسُ بجوارِ أخيها، نهضت مبتعدةً عنه:
-أرسلان أنا عند بابا لمَّا تيجي عدِّي عليَّا هناك، كنت زهقانة فقولت أعدي عليهم علشان أطَّمن عليهم..
توقَّفَ بالسيارةِ وصمتَ لبعضِ اللحظات، ورغم صمتهِ إلَّا أنَّ أنفاسهِ صمَّت أذنها:
-يعني جاية تعرَّفيني بعد ماروحتي ياغرام ولَّا إيه، مالكيش راجل تاخدي الإذن منُّه؟..كلِّمتك الصبح ولَّا لأ، ليه مقولتيش إنِّك رايحة لباباكي؟..
-أرسلان…
-مش عايز أسمع حاجة...قالها وأغلقَ الهاتفَ متحرِّكًا من المكانِ ولم يشعر بتلك السيارةِ التي تراقبه..
بمنزلٍ بإحدى الأماكنِ المتطرِّفةِ بضواحي القاهرة، نهضت من مكانها تشعرُ بوهن، وجسدها الذي أصابهُ الخمول، نادت على خادمتها، فهرولت إليها:
-نعم يامدام..أشارت إلى هاتفها:
-هاتي التليفون، واعمليلي كوباية لبن..
أومأت لها بطاعةٍ واتَّجهت إليها بالهاتفِ قائلة:
-الغدا جاهز يامدام أجبهولك الأوَّل ولَّا تشربي اللبن؟..
تراجعت بجسدها على الفراش تشيرُ إليها بالخروجِ قائلة:
-هاتي اللبن وأخَّري الغدا لحدِّ ماالبيه يرجع..أومأت وتحرَّكت إلى الخارج، رفعت هاتفها تهاتفه:
-إسحاق إنتَ فين اتأخرت ليه؟..
أجابها وهو يتطلَّعُ إلى الطبيبِ الذي يقوم بالكشفِ على فاروق قائلًا:
-دينا بعدين أكلِّمك...قالها وأغلقَ الهاتف..
زفرت بحنق، ونهضت متعثِّرةً بخطواتها تحتضنُ أحشاءها تهمسُ لنفسها:
-هنفضل عايشين لوحدنا حبيبي، باباك اللي كان بيقولِّي هرسملك الدنيا ورد، معبرناش، ياله ناخد شاور لحدِّ ما نشوفه هيرجع ولَّا لأ..
عند إسحاق توقَّفَ أمامَ الطبيبِ الذي هزَّ رأسهِ بأسى وهو يقطعُ تلك الورقة التي يدوِّنُ بها الأدوية:
-حذرتك قبل كدا ياإسحاق، للأسف جلطة ولازم يتنقل مستشفى ومتقولشِ مينفعش، جذبَ إسحاق تلك الروشتة وأشارَ لأحدِ رجالهِ عليها، فالتقطها وخرجَ دون حديث، ثمَّ اتَّجهَ إلى الطبيب:
-متسألشِ في حاجة إنتَ عارفها يادكتور، عايز ممرِّضة ثقة تكون تحتِ رجله أربعة وعشرين ساعة وتكون عندها خبرة كافية، وتقولِّي خلال أسبوع هيرجع يقف، دا اللي عايز أسمعه مش حاجة تانية..
بمنزلِ يزن:
قبلَ ساعاتٍ دلفت مها تنظرُ إلى جلوسهم، ثمَّ اقتربت ودموعها تنسابُ على وجنتيها:
-ضحكت عليَّا يايزن، أخدتني انتقام علشان تشتري أسهم الشركة وتتجوِّزها؟..توقَّفت راحيل تطالعهم باستفهامٍ تجلى بنظراتها، دنت منها وأشارت عليه:
-اتجوِّزتيه، ياترى قالك أنُّه استخدمني علشان يشتري أسهم الشركة ويدخل شريك معاكم؟..تركتها واقتربت منهُ وتوقَّفت تنظرُ إليه:
-ليه عملت كدا، أنا إزاي مفهمتش إنَّك عايز تنتقم منِّي ومن طارق، دارت حولهِ وهمهمت بكلماتٍ غير مفهومةٍ إلى أن رفعت عينيها إليه:
-إزاي مسألتش نفسي عن فلوسِ الأسهم دي، مش معقول تكون بعت نصيبك في الورشة، دي روحك، وياما اتحيلت عليك تبيعها علشان نتجوز اقتربت ورمقتهُ بنظراتٍ ناريةٍ وصاحت تهدرُ بغضب:
عملت فيَّا كدا ليه، عملت لك إيه يايزن؟..
-إيمان خدي راحيل وادخلوا جوَّا..قالها وهو ينظرُ إلى مها نظراتٍ جليدية..
تغضَّنَ وجهها بعبوسٍ ثمَّ ضحكت باستخفاف:
-ليه ياعريس مش عايز المدام تعرف إنَّك رجعتلي؟..
-إيمان، صاحَ بها بصوتٍ صاخبٍ لتجذبَ راحيل من كفِّها، إلَّا أنَّ رحيل نزعت يدها واقتربت منهُ تطالعهُ بترجِّي:
-إيه اللي بتقوله البنتِ دي، وأسهم إيه اللي بتتكلِّم عنها، أطلقت مها ضحكةً صاخبةً تلطمُ كفَّيها ببعضهما:
-كنت عارفة ومتأكدة أنُّه ماقلكيش حاجة، أصله واطي..لطمةً قويةً على وجهها حتى شعرت بتخدُّرِ خدِّها، ثمَّ سحبها من ذراعها بقوةٍ وألقاها بالخارجِ لتهوى على الأرضيةِ متأوهةً تبكي بشهقات، ثمَّ أشارَ بسبباته:
-أنا فعلًا واطي إنِّي ضيَّعتِ وقتي مع واحدة زيك، واحدة زي الكلبة بتجري للي يدفعلها أكتر، عايزة تعرفي عملت فيكي إيه، انحنى مستندًا على ركبتيهِ وغرزَ عينيهِ بمقلتيها:
-أه استخدمتك علشان أشتري الأسهم، علشان أعرَّفك أنا بقيت إيه والكلبِ اللي بعتيني علشانه بقى إيه، ضحكت عليكي.. أه ضحكت عليكي زي ماإنتِ ضحكتي عليَّا قبلِ كدا، اقتربَ يدفعُ رأسها بأنامله:
-عبيطة يابت علشان يزن يرجع لواحدة باعِته، فوقي ياماما، دا أنا كنت بقرف من نفسي من كام دقيقة بكون معاكي فيها علشان أوصل للي أنا عايزه، ودلوقتي حبيبِ القلب فلِّس ياحلوة، ماهو مش الأسهم بس، فيه واحدة رخيصة زيك لفِّت عليه وسحبت كلِّ اللي حيلته، وهوَّ كلب بيجري على أيِّ حتِّة لحمة معفِّنة،
ودلوقتي لو شوفتك في يوم من الأيام قدَّامي حتى لو صدفة هدوس عليكي بجزمتي، قالها وأغلقَ البابَ بوجهها..
تقابلت النظراتُ مع ارتفاعِ أنفاسه، بصعودِ صدرهِ وهبوطهِ من كثرةِ انفعالاته، إلى أن نطقت راحيل:
-معنى الكلام دا إيه يايزن؟..تحرَّكَ إلى غرفته:
-معناه مايخصُكيش ومتفكَّريش إنِّك مراتي علشان تسألي في حاجة خاصة بيا، قالها وصفعَ البابَ خلفهِ بقوَّةٍ حتى أفزعتها، لتهوى على المقعدِ بدموعٍ ممزوجةٍ بخيبةِ الأمل، فالموضوع لا يحتاج لعقلٍ لترجمته..
عندَ آدم قبلَ ساعات:
توقَّفت حنين بجوارِ آدم وأجابت على سهام قائلة:
-أنا حنين مرات آدم..رفعت عينيها لآدم مبتسمة، وتابعت حديثها:
-بقالنا سنتين متجوِّزين، كان عايز يجبني هنا من زمان بس كنت مشغولة بالدكتوراة، ولمَّا نزل طلب مني أخلص وأحصَّله..ألقت كلماتها التي أصبحت كالطلقاتِ الناريةِ..بعد كلماتِ سهام التي أصابت قلبها بنزيفٍ يمزِّقهُ دون رحمة...لتشعرَ بآلامٍ مبرحةٍ تفتكُ جسدها ناهيكَ عن آلامٍ أسفلَ ظهرها مما جعلها تحتضنُ أحشاءها وتهوى على الأرضِ بعدما شعرت بسائلٍ دافئٍ ينسابُ على ساقيها، ورغم كبحِ آلامها ومعاناتها ومحاولتها التماسك بألَّا تضعفَ بحضورها، إلَّا أنَّها انهارت وشقَّ جوفها صرخةً زلزلت جدرانَ الغرفة، ليلتفتَ مذهولًا ينظرُ إلى جسدها الذي سقطَ على الأرض، والدماءُ التي لطَّخت ثيابها، وصلَ إليها بخطوةٍ واحدةٍ وهتفَ بفزع:
-إيل. ين، قالها وانحنى يحملها بين ذراعيهِ متَّجهًا سريعًا إلى سيارته، بوقوفِ زوجتهِ الأخرى تطالعهُ بذهول، كيف يتحرَّكُ بتلك الطريقةِ دون أن يراعي شعورها ويقدِّمها إلى والده، الذي لم يقلّ عنهُ عدمَ تقديرها ليهرولَ خلفهِ يصرخُ باسمِ إيلين..فاقتربت من سهام متساءلةً مين دي؟..
رفعت سهام حاجبها تحرِّكُ فكَّها يمينًا ويسارًا،ولطمت على كفَّيها بعدما وضعتها فوق بعضهما بحركةٍ تنمُّ عن التهكُّم:
- دي مرات آدم المسهوكة ياجميلة مش قدرت توقف قدام جمالك فوقعت وأُغمى عليها، ثمَّ جذبتها واتَّجهت إلى الأريكة:
-تعالي احكي لي ..إزاي اتعرفتي على آدم؟..
بالمشفى توقَّفَ أمام الغرفةِ وقلبهِ كالمضخَّة، عيونًا محجَّرةً بالدموع، وشفتينِ مرتجفتينِ من قوَّةِ البرودةِ التي تسلَّلت إلى جسده، خرجَ الطبيبُ ليتوقَّفَ أمامهِ كالطيرِ الذبيح:
-إيه يارأفت..رفعَ عينيهِ وصمتَ لبعضِ اللحظاتِ حتى تجلَّى الوجعُ على وجهِ آدم ليهتف:
-ربنا يعوَّض عليك، أنا فهِّمتك إنِّ حالة الجنين غير مستقرة، وممنوع الحركة، للأسف ياآدم مقدرناش ننقذه، المهم دلوقتي حالةِ الأم، أتمنَّى تتجاوز المحنة دون مخاطر..قالها وتحرَّكَ من أمامه، التفتَ لوالدهِ كالذي فقدَ الحياةَ متمتمًا:
-كان آخر أمل يابابا، دلوقتي خسرت إيلين للأبد، ربتَ زين على كتفهِ وتحرَّكَ للداخلِ دون حديث، أمَّا هو فهوى على المقعدِ شاردًا حزينًا، يتجوَّلُ بنظراتهِ بالمكانِ كالطفلِ الذي فقدَ والديه..
بعد قليلٍ فتحت عينيها تتأوَّهُ وهي تضعُ كفَّها على بطنها، تتمتم:
-ابني، ابني نزل ياخالو، ابني نزل صح؟..
مسَّدَ على خصلاتها:
-ربنا يعوَّض عليكي يابنتي، المهم تكوني كويسة، أطبقت على جفنيها عندما شعرت بأنينٍ يتسرَّبُ لأعضائها بالكامل، فتحَ البابَ ودلفَ بهدوئهِ المعهود، جذبَ المقعدَ وجلسَ ونظراتهِ ترسمها، التفتت إلى الجانبِ الآخرِ قائلة:
انا عايزة أمشي من هنا، هروح أقعد عند صاحبتي لحدِّ الامتحانات، ولو سمحت ياخالو مش عايزة اعتراض.
نهضَ من مكانهِ دون حديث، يومئُ لوالده، ثمَّ تحرَّكَ للخارج..
بعد عدَّةِ ساعات، وصلت السيارةُ أمام منزلِ رؤى، ترجَّلت بمساعدةِ زين، توقَّفت بين ذراعيه:
-سامحني ياخالو، لازم أبعد عن كلِّ حاجة، عايزة أبني إيلين اللي ابنك دمَّرها..
احتضنَ وجهها وقبَّلَ جبينها قائلًا:
-أسبوع واحد يابنتِ محمود، تغيَّري فيه مودك وهرجعلك وأخدم غصبِ عنِّك، ومش عايز كلمة لا دي، أنا مضطَّر أوافق علشان مسافر مع عمُّو مالك هيعمل عملية، ولازم أكون موجود معاه، أرجع ياإيلين وألاقي إيلين بنتِ أختي اللي محدِّش يقدر يكسرها، أنا خليت آدم يرجَّعك..جحظت عيناها وفتحت فاهها للاعتراض..
-مش عايز كلمة واحدة، مش هستنَّى لمَّا سهام ومحمود يدمَّروكي، اعتبريه مش متجوِّزك، كأنِّك حرَّة ومش هيقرَّب منِّك ودا حفاظًا عليكي يابنتِ أختي، لحدِّ ماتخلَّصي السنة دي وتسافري لأختك وأخوكي، كدا متفقين، أشارَ على منزلِ رؤى التي تقفُ تنتظرها وأردف:
-ادخلي ياله وهكلِّمك لمَّا أوصّل لرحيل..
تراجعت خطوةً للخلفِ وهتفت بنبرةٍ اعتراضية:
-وأنا مش موافقة، نار مرات أبويا ولاجنة ابنك.
-وأنا بقول ادخلي ياإيلين، إنتِ لسة خارجة من المستشفى مش عايز أزعَّلك منِّي، قالها و اتَّجهَ إلى سيارته، ثمَّ توقَّفَ وسألها:
-كنتي تعرفي إن رحيل اتجوِّزت؟..
قطبت جبينها متسائلة بذهول:
-هيَّ اتجوِّزت، إمتى، وإزاي؟!..
أشارَ إليها بالدخول..
-طيب ادخلي علشان ماتوقعيش، خطت إليه
-ابنك يطلقني دون رجوع، ضحكت عليا ياخالو
-ادخلي يابنت محمود، متخلنيش أفقد أعصابي ..قالها واستقل السيارة
بعد أسبوع:
خرجت من عملها واستقلَّت سيارتها وهي تهاتفه:
-أنا خلَّصت شغل الجريدة، بس عندي مقابلة شغل تانية، وأتمنَّى تلمِّ حرسك عنِّي، أنا بتخنق.
كان واقفًا أمام النافذة يرتشفُ قهوتهِ وينظرُ للمارةِ بالشارع، ظلَّ صامتًا إلى أن أنهت حديثها:
-مينفعشِ ياميرال، مقدرشِ أأمِّن لراجح، معرفشِ بيرتِّب لإيه..سكوته مش مطمِّني..
تنهَّدت بصوتٍ عالٍ ثمَّ زفرت بغضبٍ حتى استمعَ إلى صوتِ أنفاسها، أردفَ بملامحٍ جامدة:
-مش عايز دلع وكلام كتير، خلَّصي شغلك وعربية الحراسة معاكي وإياكي تحاولي تعملي حاجة تانية..
انا مش موافقة على الخنقة دي، متخلنيش اهرب منك، ومتعرفش مكاني، عايزة اتنفس زي الناس الطبيعية
-ميرال كلمة كمان وهقلب عليكي واقولك بلاها شغل خالص
قالها وأغلقَ الهاتفَ بدخولِ شريف، جلسَ وانتظرَ قدومه، اتجه إليه يشير برأسه
-ايه الجديد؟..وضعَ أمامهِ بعضَ الأوراق:
-راجح مالوش أيِّ حاجة تثبت أنُّه شغَّال شمال، الورق دا يثبت أنُّه كان شريك مالك، بس من فترة ابنه باع عشرين في المية من أسهمِ الشركة، بس لحدِّ دلوقتي هوَّ المسيطر في مرض مالك العمري، مصنع اللحوم بتاعه إنتَ شمَّعته بالشمعِ الأحمر، رغم أنُّه كان سليم بس معرفشِ ليه استعملت سلطتك في كدا..وعلى فكرة هو سافر هو مراته من يومين السعودية
ارتفع جانب وجهه بابتسامة ساخرة
-ليه ناوي يحج ولا ايه، تفتكر اللي زي راجح دا نقول عليه ياحج، طب والله خايف على الكعبة منه، دا عدى أبرهة الحبشي، ياترى بتخطط لأيه ياراحج
قهقه شريف يهز رأسه
-ليه يابني مايمكن حس بالذنب وعايز يتوب
-يتوب!! دا هيخلي الشيطان يتوب لانه عداها يابني
-المهم الولد ابنه دا فين
-في الشقة إياها!! وزي ما أمرت ياكبير
-برافوو..عايز ملفه اللي كان في الشرطة مع جوازته، واياك يا شريف تجيب سيرة رؤى في الموضوع، خليها لوقتها
-ليه بس مش قولنا هنظبط الدنيا
نقرَ على المكتبِ وذهبَ بأنظارٍ شاردةٍ متسائلًا:
-فكرت في الموضوع ومعجبنيش، خليها دلوقتي ممكن تكون طعم قدام
-المهم شركائهِ الأجانب بتوع المصنع والورشة دول دوَّرت وراهم..تراجعَ شريف بظهرهِ وطالعهُ بنظراتٍ استفهامية:
-ليه دا كلُّه، إنتَ عارف لو اللوا عرف إنِّنا بندوَّر ورا حد من غير إذن دا إيه؟..
توقَّفَ مستديرًا إلى مقعده:
-شريف الراجل دا أكيد من الجماعة إياها، عايز نفسه كدا، ومالكش دعوة إنتَ بحد، شغلي أجهزة التنصُّت وأيِّ جديد عرَّفني بيه، أكيد هنطلع بحاجة منُّه..وكويس انك سحبت من تحته البساط، دلوقتي زي المجنون، انا متاكد سفره دا وراه حاجة كبيرة، كمل بس المستندات اللي بعتهالك وابعتها للناس اللي قولت لك عليهم، خليهم يرموه تحت رجلي
زم شفتيه معترضًا:
-إلياس راجح بعد اللي عملته مش هيسكت انت فتحت عليه النار من كل الجهات وفي نفس الوقت بتحاول تبرئه قدام الحكومة ممكن اعرف راسك فيها ايه
-كل خير ياشريف، انا قاعد معاك أهو لسة معملتش حاجة، المهم الواد اللي اسمه طارق دا، اسحب منه كل اللي عايزينه صوت وصورة ياشريف، واياك الحاجات دي توقع في ايد حد غيري
عندَ ميرال دلفت لأحدِ المؤتمراتِ السياسيةِ التي تضمُّ عددًا من الأحزاب، ظلَّت لبعضِ الوقت إلى أن أتمَّت عملها بعملِ بعضِ اللقاءات بما يخصُّ عملها.
خرجت بعد قليلٍ متَّجهةً إلى المصعد، ولكنَّها شعرت بالغثيان، اتَّجهت إلى المرحاضِ بعدما فقدت اتزانها، دلفت للداخل، وبدأت مرحلةُ القيئ التي سحبت أنفاسها، جلست لبعضِ اللحظاتِ تسحبُ أنفاسها منتظمة، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الحمَّام:
-مدام إنتِ كويسة، أغمضت عينيها وحاولت أن تجيبهُ باتزان:
-أيوة وابعد عن الحمَّام عيب كدا، شوية وخارجة..ابتعدَ لبعضِ الخطواتِ وعينيهِ كالصقرِ في كلِّ الأرجاء، استمعَ إلى بعضِ النقاشاتِ والألفاظ الحادة، تراجعَ ليكتشفَ ماذا يحدث، بعدما تردَّدَ اسمَ أحدِ الأشخاصِ الذين يعملون معه، اقتربَ على سبابِ سيدة تشيرُ لأحدِ الرجالِ بأنَّهُ يقتربُ منها بطريقةٍ مقزَّزة..
سحبهُ الرجلَ قائلًا:
-تعالَ معانا للمدير، هرولَ الحارسُ الخاصَّ بميرال إليهما ليخبرهما بهوِّيتهما، استغلَّت رانيا ذلك المشهد، لتشيرَ لأحدِ الرجال بالدخولِ إلى الحمَّام..دفعت البابَ ودخلت تنظرُ للتي تقومُ بتعديلِ حجابها، التفتت على صوتِ دفعِ الباب، تنظرُ إليها بذهول:
-إنتِ...لحظات ولم تشعر بشيئ..
عند فريدة
أنهت صلاتها وجلست على سجادتها كعادتها، ابتسمت برضا كلما تذكرت حديثهما معًا، ليلة الأمس ليلة حانية رطبة على قلبها بعد سنين عجاف، نظرت لذاك المصحف الذي ترتديه بسلسالها بعنقها، لمسته بأناملها وذهبت بذكرياتها الجميلة لأول مرة، نعم لأول مرة سيكتب بذكرياتها ابنها الحنون
"جبت لك هدية عربون محبة، اتمنى متخلعهاش ابدا، إلا وأنت داخلة الحمام، مينفعش طبعًا علشان دي آية الكرسي، حبتها علشان منجية من كل شر، لو ليا معذة عندك متخلعيهاش
قالها وهو يحتضن كفيها يقبلهما
ربتت على ظهره
-تسلملي مجايبك حبيبي، لابس ورايح فين كدا، انت لسة راجع
ابتسم قائلًا:
-لا يامدام فريدة مش علشان عربون المحبة تفكري انك تسيطري عليا، انا راجل وكبير كمان مش لسة طفل
لمعت عيناها بالدموع تهز رأسها مبتسمة
-واحسن راجل في الدنيا ياحبيبي
انحنى يقبل جبينها
-عايزك تسامحيني ودايما دعواتك تسبق خطواتي، احنا هنقعد مع بعض كتير اكيد، بس الوقت دا عندي ضغط شغل، خلي بالك من ميرال، انا وافقت على شغلها علشان متفكرش كتير، هي تعبانة وبتحاول تبين أنها كويسة، بس هي مش كدا
-بتوصيني على بنتي ياالياس ..
ابتسامة متهكمة تشق ثغره قائلًا:
-أيوة صح دا أنا أهبل..قاطعته سريعًا
-لا ياحبيبي متقولش كدا، قاطعهم دخول مصطفى
-ايه قطعت خلوتكم الحلوة..استدار متحركًا وأجابه
-لا ياحبيبي، أنا عندي شغل وكنت بوصي مدام فريدة على مراتي
-مدام فريدة ومراتك يابن مصطفى مش هتتغير ..لوح بكفيه وتمتم
-لازم امشي ياسيادة اللوا، اشوفك بكرة ...قالها وغادر المكان..قطع شرودها هاتفها
-آلوووووو...قالها مقهقهًا
ارتجف جسدها بالكامل لتهب من مكانها فزعة
-عايز ايه ياراجح ؟!
-عايزك يافريدة، ومش هسكت غير وانت في حضني
-في كوابيسك إن شاءالله ياراجح
التوى زواية فمه وابتسامة هازئة
-مش يمكن تغيري رأيك يافيري
لو اتصلت تاني ..بتر كلامها قائلا بنبرة باردة قاسية
-مرات ابنك عندي يافريدة، وكمان حامل، نص ساعة لو مجتيش من غير ماابنك وجوزك يعرف، اقسم بالله لافتح بطنها وابعتلك حفيدك ملفوف في شاشة
شهقت بذعر تضع كفيها على فمها حتى لا يستمع إلى ضعفها، استمعت إلى صوته البغيض
-تلاتين دقيقة يافريدة وبس، يااما ..قاطعته قائلة:
-مش هتقدر ياراجح، هو فيه واحد يعمل كدا في بنته
ضحكات صاخبة حتى شعرت بالصمم، وكأن صوت ضحكاته صوت عويل، لتصرخ منددة بحقارته
-مش هتقدر ياراجح، مش هتقدر
-مابلاش تكوني زي بنت عمك يافريدة وتفكروني غبي، هي مين دي اللي بنتي، مش عيب يافريدة تلبسوني طرحة
هنا سقطت جاثية على ركبتيها بعدما فقدت اتزانها مع دموعها التي حفرت وجنتيها وكأنها نيران وليست مياه، تهز رأسها وتصرخ به
-إنت مجنون..صاح بغضب واتجه إلى غرفة ميرال ، امسكها من خصلاتها
-كلمي امك ياحلوة، واحمدي ربنا أنها ربتك
شعرت بأنفاسها ثقيلة وكأن هناك جبل أطبق على صدرها، لتهتف بتقطع
-ماما فريدة !!
هزة عنيفة وكسقوط نيزك يضرب الكرة الأرضية، لتبتلع غصتها التي شعرت وكأنها اشواك تشحذ جوفها متمتمة بنبرة متقطعة:
-مير..ال ..جذب راجح الهاتف
-عايزة بنتك وحفيدك تسمع هقولك ايه وتنفذيه بالحرف الواحد يافري
عند إلياس
خرج من مكتبه، بعد عدة ساعات بعدما فشل في الوصول إلى زوجته، والى حرسه، اتجه إلى سيارته مع رنين هاتفه:
-إلياس مدام فريدة دخلت فيلا راجح دلوقتي، وفيه فويس لسة سامعه، عصابة راجح اخرجوا أمر تصفيته حالًا..توقف عندما فقد القدرة على الفهم فتسائل:
-ازاي مدام فريدة دخلت فيلا راجح، هو مش مسافر،
-اجابه ارسلان
-معرفش مين قالك مسافر، انا شايف في الصور اللي قدامي بس، لسة معرفش أنه مسافر ولا هنا
-اتأكد ورد عليا واه راجح محدش يلمسه، عايزه حي، عارف لو مات همو تك وراه، حمحم ارسلان وهو يقود سيارته ينظر بجهازه:
-وفيه خبر كمان معرفش وصلك ولا لأ، فيه قرار بإستقالة اللوا مصطفى
-بابا استقال ليه؟!
حمحم معتذرًا:
-اجباري ياإلياس، معرفش مين ورا دا، بس أوعدك خلال ساعات وكل الأخبار هتكون عندك
مرَّ يومينِ كالمجنونِ يريدُ أن يهدمَ الكونَ وماعليه، فتحَ البابَ على صوتِ مصطفى:
-إنتَ عايز مين يابني؟.،
-إلياس السيوفي..أستاذة ميرال رافعة دعوة طلاق..قالها مع رنين هاتفه، فتحه حينما وجد مكالمة غير مسجلة عبر شبكات التواصل
-أيوة !
-إلياس امضي على ورقة الطلاق، وقبل ماتقول حمل ابنك بعد دقايق مش هيكون موجود..رددتها بنبرة باردة وصلت إلى قلبه ليسقط بين قدميه، تابعت الضغط على جروحه متمتمة
-لو مش مصدق افتح فيديو، حقي اني أعيش بدون ضغوط، انت طول الوقت خانقني، بأنامل باردة كبرود الثلج فتح الشاشة وليته لم يفتحها، شعر حينها أنه فتح قبره لدفنه حيًا، أمامه بعيونها السوداء المنطفأة، وخصلاتها التي تحاوط وجهها، نظرت لمقلتيه وتابعت بكل جبروت
" شايف الاوضة دي، هنا هتخلص من كل حاجة تربطني بيك، بلاش ندخل في قضايا انت الخسران فيها، طلقني وبلاش اوصل لوقت اذلك فيه يابن عمي"
كلمات ماهي سوى كلمات ولكنها كالطلقات النارية، ليس فقط كأنها طوق من النيران يلتف حول عنقه يحرقه ولم يرحمه من قسوة الألم، لحظات من النظرات حتى تراجعت تتمدد على الفراش، ويغرز بورديها ذاك المخدر، ليرفع ذاك الطبيب المقنع عيناه إليه مبتسمًا:
-هذا المشهد سينال إعجابك كثيرًا سيدي"
↚
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
وكم تمنيت لو أنّ الحياة اختبرت صبري في أشياء أخرى غير قلبي ..
وكم تمنيت لو أنك ترى ذلك الجدال المكتوم في عيناي ، وتقطع شك الكلام بيقين الفعل..
............
إليكِ كم تمنيت أن تضع لي السبعين عذرًا ثم تضاعفهنّ حتى ابقى بأجمل صورة في عينك..
ف ليتك فهمت الكلمة المحذوفة في حديثي..
فإني والله أحبك بقدر المسافات التي تفصل بيننا ...
فكم تمنيت ..وكل هذا تمني
#ميرال_الشافعي
بعدما استمع وشاهد الفيديو..تخلَّلت كلماتها فتيلَ نيرانه، وكأنَّها قيَّدت عنقهِ بقيودٍ حديديةٍ من النيران، كيف تقبلُ أن تفعلَ ذلك بابنه، أنفاسًا مرتفعةً بنيرانِ روحهِ التي كادت أن تُزهقَ مع كلماتِ ذاك البغيض، ظلَّ للحظاتٍ وهو ينظرُ لتلك الشاشةِ وهو يشعرُ بالاختناق.. وكأنَّ الهواءَ انسحبَ من حوله، لتتحوَّلَ عيناهُ حمراءَ حادةً وعروقهِ بارزةً، وكأنَّ الشيطانَ يروادهُ على فعلِ جريمةٍ شنعاء، أطبقَ على الهاتفِ وهو يرى ذاك الطبيبَ البغيض يقتربُ منها ويدسُّ يديهِ الغليظةَ أسفلَ ثيابها وهو يشيرُ إليهِ بآلةٍ حادةٍ تساعدهُ على فتحِ بطنها..
وآه وآه أخرجها كنيرانٍ يريدُ أن يحرقَ بها كل مايقابله، هرولَ للخارجِ بعدما أغلقَ هاتفه، وهو يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-أقسم باللهِ لأموِّتك ياراجح، هرولت فريدة بأقدامها الحافيةِ خلفه، بعدما أخبرها مصطفى ببعضِ الكلمات، لتهرولَ فزعةً تتشبَّثُ بذراعه:
-علشان خاطري ياحبيبي، متروحلوش هوَّ عايزك إنت..
تراجعَ بعدما شيَّعها بنظرةٍ عميقةٍ ممزوجةٍ بكمِّ الألمِ الذي يحرقُ روحه:
-ابني ومراتي، لو عايز يقتلني خليه يموِّتني، بس مستحيل أسيبه يعمل كدا في ابني ومراتي..
نيران نشبت بضلوعها مما جعلها تهزُّ رأسها بهستيريا:
-مستحيل أسيبك تروح له، فتحَ باب سيارتهِ يشيرُ إلى حرسه:
-دخَّلوا مدام فريدة جوَّا، جذبها الحارس من أكتافها مع وصولِ مصطفى وهي تصرخُ بجنونٍ بعدما شعرت بذهابَ عقلها:
-هيقتله يامصطفى أنا عارفة أنُّه عايز يقتله..
تخبَّطَ بقلقٍ يروادُ عقلهِ محاولًا الثباتَ يجيبُ بتردُّدٍ تجلَّى بعينيه:
-ابنك راجل يافريدة، إحنا مربيين راجل لوقتِ المحن، سبيه يتصرَّف..
دفعتهُ صارخةً وبدت تهزي بتخبُّطِ مشاعرَ الأمومة، فأصبحَ القلقُ والخوفُ كأشواكٍ تغرزُ بفطرةِ أمومتها، ناهيكَ على الفزعِ من افتقادهِ الذي أصبح سيدها الأوَّل:
-طيب خلِّي إسلام مكانه كدا، عايزة أشوف برودك وقتها زيه كدا..
كلماتٌ قاسيةٌ اخترقت قلبه، ليشعرَ برجفةٍ أصابت جسدهِ بالكامل، رفعَ عينيهِ التي تحوَّلت لسحبٍ مغيَّمةٍ كالأمطار:
-وإيه الفرق يافريدة بين الاتنين، دنا منها وتعمَّقَ بعينيها الشاردةِ لينطقَ بقسوةٍ لأوَّلِ مرَّةٍ منذُ سنواتٍ لها:
-إيه الفرق بين إسلام وبين إلياس، دول ولادي الاتنين، دا إلياس السيوفي يامدام فريدة يعني مالكيش فيه قد ماليَّا فيه، بلاش تعملي فيها أم بتخاف على ابنها أكتر منِّي..قالها واستدارَ للداخلِ يأكلُ الأرضَ بخطواتهِ الذي جعلت الأرضَ تهتزُّ تحت قدميهِ من شدَّةِ غضبهِ وثورانِ عنفه.
هوت على درجِ المنزلِ وانفجرت عيناها ببكاءٍ كزخات ٍمطر سقطت فوق نهر، ولم تستطع توقُّفها كأنَّها لم تبكِ منذ فترة، شعرت بأحدٍ بجوارها، استدارت لليدِ الحانيةِ التي تربتُ على كتفها:
-هيرجع صدَّقيني وهيرجَّع ميرال، متزعليش من بابا..
حاوطت جسدها الصغيرَ لتضعَ رأسها فوق رأسِ غادة ومازالت شهقاتها بالارتفاع، تتذكَّرُ منذ يومينِ بعد اتصالِ راجح لها..
فلاش قبل يومين:
أغلقت الهاتفَ وبدأت تدورُ بالغرفةِ كالمجنونة، ماذا عليها فعله..هل تتصلَ بزوجها، أم أنَّ ذاكَ المختلَّ سيضرُّ ابنته..هنا تذكَّرت حديثه، لتحدِّثَ نفسها كالمجنونة:
-المتخلِّف دا بيشك في ميرال متكنشِ بنته، متخلِّف ياراجح، ياترى يارانيا عملتي إيه علشان الحيوان دا يقول كدا..هرولت إلى ملابسها لتقومَ باستبدالها سريعًا، ثمَّ اتَّجهت إلى خزانةِ مصطفى لتجذبَ سلاحهِ وتضعهُ بحقيبتها تهمسُ لنفسها:
-هموتك ياراجح إنتَ ورانيا، شياطين على الأرضِ مالكُمش الحياة في الدنيا دي..
وصلت بعد قليلٍ إلى فيلَّا راجح، لتدلفَ للداخل، توقَّفَ الرجل أمامها ثم أشارَ إليها بعدما علمَ بهوِّيتها، لتستقلَّ سيارةً تجلبُ مستلزمات الفيلا من خضرواتٍ وفواكه، نظرت لتلك السيارةِ متسائلة:
-راجح فين؟..
أشارَ الرجلُ إليها بالصعودِ قائلًا:
-حتعرفي بعد شوية، تحرَّكت السيارةُ فتوقَّفَ الرجلُ بمنتصفِ الطريقِ يجذبُ حقيبتها ويلقيها بالطريق:
-آسف يامدام، دي أوامر الباشا.
صاحت هادرةً به بغضبٍ أعمى:
-إنتَ إزاي تتجرَّأ ياحيوان وترمي شنطتي، لم يجب على حديثها، وظلَّ يتحرَّكُ لمدةِ ساعةٍ إلى أن وصلَ إلى إحدى المناطقَ النائيةِ بمحافظةِ القاهرة، ترجَّلت تتلفُّتُ حولها، منزل ريفي يحاوطهُ الكثيرُ من الأراضي الزراعية، دلفت بعدما أشارَ إليها الرجلَ بعدما قامَ بتفتيشها، خطت للداخلِ وجدت راجح ناصبًا عودهِ وبيدهِ كوبًا من الخمرِ يطلقُ صفيرًا:
-أووه مدام فريدة الشافعي في بيتي يادي الهنا والسرور، اقتربت توزِّعُ نظراتها حولها ثمَّ نطقت متسائلة:
-فين ميرال ياراجح؟..
تجرَّعَ الكأسَ مرَّةً واحدة، ثمَّ أطلقَ من فمهِ صوتًا مشمئزًّا مقتربًا منها ليهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-مستعجلة ليه يافري، بنتك جوَّا، بس لازم أرحَّب بيكي الأوَّل..قالها مقتربًا ليقبِّلها إلَّا أنَّها لطمتهُ على وجههِ بقوَّة، ليتراجعَ ينظرُ إليها بذهول:
-بتمدِّي إيدك عليَّا يافريدة، طب يافريدة الصبر حلو، والقلم دا هدفَّعك تمنه كتير أوي، اصبري عليا، الأيام بينا، وإنتِ مجرَّبة راجح كان بيعمل إيه..
بصقت بوجههِ وندَّدت بحقارتهِ قائلةً بلهيبٍ انبثقَ من عينيها:
-كان كلب حيوان، شوفت الكلاب بتعمل إيه في الميتين، إنتَ كنت كدا ياراجح، كلب حقير بتسضعفني، دنت ولم تكترث لاقترابهِ ونظرت بلهيبِ عينيها المشتعلِ ونطقت بنبرةٍ قويَّة:
-بس الكلب بيجي له وقت وبيموت ذليل في أيِّ قذارة، ووعد من فريدة السيوفي ياراجح لتترمي زي الكلب في قذارة،
لكزتهُ بصدرهِ وتحوَّلت لشرسةٍ غير معهودةٍ لم تعلم كيف اكتسبت تلك القوَّة، لتردفَ بقوة:
-أوعى تفكَّر مجيِّي هنا ضعف وخوف، لا ياراجح، أنا جاية علشان أعرَّفك إن فريدة السيوفي عندها قوَّة تقدر تدوس عليك، ومتأكدة من رجالتي هيهرسوك ياقذر، اقعد واتفرج ياراجح وشوف مصطفى لمَّا يعرف إنَّك جبتني هنا هيعمل إيه، رفعت نفسها ودنت وكأنَّها تهمسُ له:
-إلياس هيحرقك ياراجح، الولد عرف كلِّ قذارتك، تخيَّل لمَّا يعرف إنَّك خاطف مراته وأمُّه هيعمل إيه..
قهقهَ بصوتٍ مرتفعٍ وكأنَّها ألقت عليهِ بعض الكلماتِ المزاحية،ليضربَ كفَّيهِ ببعضهما ثمَّ بسطَ ذراعيه:
-أنا أهووو، تعالَ يابنِ جمال علشان أموِّتك، ماهي رانيا غبية معرفتشِ تستخدم عقلها كويس، لو بس كانت قالت لي كنت رميته في البحرِ للسمك،
انحنى مقتربًا من وجهها وعينيهِ الخبيثة تتجوَّلُ على وجهِ فريدة:
-مش عايز أيِّ ذكرى لراجل تاني يافريدة، ذكرياتك تكون لراجح وبس، ووعد، ابنك هبعته لأبوه، أمَّا مصطفى اللي بتنفخي نفسك عليَّا بيه، رصاصة على ابنه بس وشوفي هيعمل إيه، هيطلَّقك بالتلاتة، وخصوصًا لمَّا يشوف فيديو حلو وإنتِ بترضي راجح يافريدة..فركَ يديهِ يشيرُ إليها بالدخول:
-ودلوقتي أهلًا بيكي في جنتنا الصغيرة يافريدة.،
نظرت لبابِ المنزلِ وارتعدت مفاصلها، كادت أن تصرخَ ولكنَّ صوتها لم يخرج وكأنَّها بقبر، غيَّمت عيناها بدموعِ الحسرة، لتدلفَ بساقينِ مرتعشتينِ تنظرُ بأرجاءِ المنزل، أشارَ على غرفةِ ميرال:
-سلِّمي على بنتك قبل ماأرجَّعها لجوزها، شوفتي أنا راجل معاكي إزاي.
دفعت البابَ سريعًا، لتجدَ ميرال غافيةً على الفراش، وكأنَّها غائبةً عن الوعي، انفجرت عيناها بالدموعِ وهي تلمسُ وجنتيها:
-ميرو عملوا فيكي إيه ياعمري، ظلت تربتُ على وجهها علَّها تستفيقُ من تلك الغيبوبةِ ولكنَّ كأنَّ حياتها سُرقت ولم تشعر بشيئ، مرَّت دقائقُ كالسيفِ عليها وهي عاجزةٌ عن التفكير، قطعَ تفكيرها فتحُ راجح البابَ ثمَّ سكبَ كوبًا من الماءِ المثلجِ على وجهِ ميرال، لتدفعهُ فريدة غاضبةً وبدأت تلكمهُ بصدرهِ وتصرخُ بجنون..دقائقَ معدودةً بدأت تتململُ بنومها، تفتحُ عينيها رويدًا رويدًا وضوءُ الغرفةِ يضربها بقوَّةٍ لتغلقَ عينيها وتضعُ أناملها عليها من انزعاجها من إضاءةِ الغرفة، عادت مرَّةً أخرى تفتحها ببطئٍ لتقعَ عينيها على فريدة التي بحوزةِ راجح، فتحت عينيها وأغلقتها عدَّةَ مرَّاتٍ لتتأكَّدَ أنَّها ليست بكابوس، لتهبَّ فزعةً تنظرُ إليهما بذهولٍ أصابَ عقلها بالجنون، وهو يجذبُ فريدة من عنقها:
-مفاجأة يابنتي مش كدا، جبت لك ماما أهو إيه رأيك، شوفتي أنا بحبِّك قد إيه..
هزَّت راسها رافضةً مايصيرُ رغم قلقها البائنَ على وجهها من هجومهِ المتوحش، شعورٌ بالعجزِ لديها وهو يشيرُ إليها:
-ايه رأيك تختاري أيِّهما أفضل لك، ماما الحلوة ولَّا جوزك المتقنعر اللي عامل ديك البرابر؟..
احتجزت الدموعَ بعينيها وارتجفت شفتيها قائلة:
-إنتَ مستحيل تكون بني آدم أنا بكرهك وياريتك تموت..وصلَ إليها بخطوةٍ وهو يجذبها من حجابها بقوَّة، لتسرعَ فريدة تلتقطُ تلك الفازة وتضربهُ على رأسه، ليترنَّحَ بجسدهِ مستديرًا إليها:
-عايزة تموِّتيني يافريدة علشان بنتِ الحرام دي..ركضت ميرال اتِّجاهَ فريدة تحتضنها بفزع:
-ماما فريدة خديني من هنا، مش عايزة الراجل دا.،
أشارت إلى الباب:
-ياله حبيبتي لازم نمشي من هنا، نهضَ من مكانهِ وهو يترنَّحُ بجسدهِ يصرخُ بهما:
-دا موتك يافريدة، لو مشيتي من هنا هتمشي على قبرك، صرخَ على أحدِ رجالهِ الذي هرولَ إليه، فأشارَ إلى ميرال:
-البتِّ دي ودِّيها المكان التاني وإياك رانيا تعرف إنتَ أخدتها فين، استدارَ إلى فريدة يجذبها بقوَّة:
-أما إنتِ يافريدة، هنلعب مع بعض..مش إنتِ بتحبِّي الضرب واللعب، وأنا بحبُّه وخصوصًا من ستِّ ناعمة زيك..
دفعت ميرال الرجلَ بقدمها، وهرولت إلى فريدة وبدأت تصلُ إلى وجههِ بأظافرها تسبُّهُ..تريدُ أن تخنقهُ فكلَّما تذكَّرت أنَّ ذاكَ والدها يصيبها الجنون..
دفعها بقدمهِ بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضِ متأوِّهةً وهي تحاوطُ أحشاءها لتصرخَ فريدة عليها:
-ميرال..نظرَ راجح إلى يديها التي تحتضنُ جنينها ليرتفعَ صوتَ ضحكاته:
-الله الله كمان حامل، دا إنتَ أمَّك داعية عليك بالقوي يابنِ جمال، اقتربَ منها يدفعها بقدمهِ لتصرخَ فريدة به:
-خلاص ياراجح أنا موافقة آجي معاك بس ابعد عن البنت وأوعدني إنَّك ترجَّعها لجوزها، ووعد هروح معاك..
توقَّفَ يرفعُ رأسهِ إليها ثمَّ اعتدلَ يحكُّ ذقنه:
-موافقة على أيِّ حاجة..هزَّت رأسها سريعًا وهي تنظرُ بدموعٍ إلى ميرال التي تهزُّ رأسها بعنفٍ رافضةً ماتقوله واستطردت:
-ابعت البنت لبيت جوزها ياراجح، وأنا من إيدك دي لإيدك دي.
أشارَ للرجلِ قائلًا:
-رجَّعها يابني..التفتَ إلى فريدة:
-علشان تعرفي أنا كريم وبحبِّك قد إيه.،
توقَّفت ميرال واقتربت منها:
-وأنا مش موافقة، مستحيل أسيبك هنا لو على جثتي.،
ضمتها باكية وهي تترجاها
-ارجعي حبيبتي لإلياس بدل مايتجنِّن، إنتِِ أهمِّ منِّي، ياله متنسيش ابنك، أنا هتصرَّف..
اتَّجهت بأنظارٍ جحيميةٍ إلى راجح؟ وطالعتهُ بنظراتٍ قاسيةٍ تريدُ أن تضعهُ بين فكَّيها صارخة:
-إنتَ أقذر انسان شوفته، وإلياس عنده حق أنُّه يموِّتك حي..أشارَ بيدهِ للرجل:
-خدها بدل ماأفضِّي طبنجتك في راسها..ركضت من أمامهِ متَّجهةً إلى فريدة الذي جذبها راجح إلى الغرفة، بعدما أشارَ للرجلِ بعينيهِ ليدركَ مايفعله..دفعَ فريدة للداخلِ وأغلقَ البابَ عليها متَّجهًا إلى ميرال يسحبها بقوَّةٍ إلى سيارته:
-تعالي معايا يابنتِ فريدة علشان أنا خلقي ضيَّق، استقلَّ سيارتهِ ليستمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-الحق ياباشا، إلياس السيوفي اقتحم البيت من البابِ الداخلي..توقَّفَ كالمشلول، كيف علمَ بمكانهم، التفتَ بنظرهِ سريعًا إلى ميرال التي فقدت وعيها بعدما دفعها بقوَّةٍ لترتطمَ رأسها ببابِ السيارة، شغَّلَ المحرِّكَ وخرجَ سريعًا بها من البابِ الآخر..
دلفَ إلياس بمصاحبةِ أرسلان وشريف،
تجوَّلَ بالمنزلِ يبحثُ كالمجنون، إلى أن وصلَ الغرفةَ التي كانت يحتجزُ بها ميرال، استنشقَ رائحتها ليقفَ عاجزًا حائرًا..وقلبهِ يوحي له أنَّها بالقرب، استمعَ إلى صوتِ أرسلان:
-إلياس مدام فريدة هنا، خرجَ سريعًا وجدَ فريدة بأحضانِ أرسلان تبكي بشهقاتٍ متقطِّعةٍ، وحالُ لسانها يردِّدُ باسمِ ميرال ثمَّ سقطت بين ذراعيهِ فاقدةَ الوعي..
بعد فترةٍ بالمشفى فتحت عينيها وجدت مصطفى بجوارها يحتضنُ كفَّها:
-عاملة إيه دلوقتي..اعتدلت تتحرَّكُ بجسدها للخلفِ تنطقُ اسمَ ميرال، ثمَّ تجوَّلت بعينيها متسائلة:
-فين إلياس؟..
ظلَّت نظراتهِ تحاوطها بصمتٍ إلى أن توقَّفَ قائلًا:
-راح يدوَّر على ميرال، لو عرَّفتينا مكنشِ دا حصل، إلياس بيقول ميرال كانت موجودة هناك، بس فين دلوقتي منعرفش..
نزلت بساقيها من فوقِ الفراش:
-هيموَّتها يامصطفى، دا مجنون ومفكَّر البنت مش بنته، التفتَ إليها سريعًا، ينظرُ إليها بذهول، هنا تذكَّرَ ما فعلهُ منذ ذهابها إلى راجح ومعرفتهِ بحقيقةِ ميرال، ممَّا جعلهُ يراقب راجح لفترةٍ إلى أن تقابلت رانيا بها، ظلَّ يراقبهما حتى علمَ أنَّهما يقومان بتحليلِ DNA،
وتدخَّلَ بتغييرِ النتيجةِ حتى يصلَ إليهم أنَّها ليست ابنتهم ولم يتوقَّع أن يصلَ تفكير راجح لذاكَ الأمر..
هنا استوطنَ القلقُ ملامحه، مما جعلهُ يهزُّ رأسهِ بتأنيبٍ على مافعله، هو أرادَ أن يبعدها عن طريقهم ولم يكن يعلم وصولهم لتلك المعضلة..زفرَ باختناقٍ وهو يدورُ بالغرفةِ بتفكُّرٍ تجلَّى على جميعِ خلاياه، كيف يخرجُ من ذاك المأزقَ دون إصابةِ ميرال بشيئ.
قاطعهم دلوفُ إلياس، خطى للداخلِ يطالعُ فريدة بصمت، إلى أن توقَّفَ أمامها، ظلَّت النظراتُ المتألِّمةُ بينهما إلى أن تساءل:
-ميرال كانت هناك؟..
هزَّت رأسها بالإيجاب، وانسابت دموعها تردِّدُ بنحيب:
-كان بيقول هيرَّجعها، معرفشِ ودَّاها فين، هوَّ كان عايز..صمتت ولم تكمل حديثها حينما اقتربَ مصطفى ينتظرُ بقيةِ حديثها، انحنى إلياس بعيونٍ متلهفة:
-احكي لي عمل إيه، وليه روحتي هناك من غير ماتعرَّفيني؟..دا وعدك ليَّا، أعمل إيه دلوقتي، طيب أنا كنت هوصلِّك حتى لو كنتي تحت الأرض، أما هيَّ ماتوقعتش أنُّه يضربني فيها، دي بنته ماتخيلتِش أنُّه يعمل كدا، رغم كذبي على نفسي، كنت مخلِّي الحرس يلازمها، وأهو خطفها من وسطهم، أنا هتجنِّن عايز منها إيه..
بكت بشهقاتٍ مرتفعةٍ وتابعت:
-عايزني أنا، قالِّي تعالي وأنا هرجَّعها بس معرفشِ مرجَّعهاش ليه..
-لأنُّه بيضحك عليكي يامدام، قالها مصطفى وهو يرمقها بنظراتٍ نارية، دنا منها يهزُّ رأسهِ بغضب:
-كان عقلك فين وإنتِ رايحة لحيوان زي دا يافريدة!..قوليلي أعمل فيكي إيه دلوقتي؟..
قالها بأعصابٍ مشدودةٍ وغيرتهِ العمياء سيطرت عليهِ، ليقتربَ منها متناسيًا مامرَّت به:
-يعني إيه عايزك دي يامدام، نسيتي نفسك إنِّك متجوِّزة، إيه يافريدة معندكيش راجل يعرف يوقف لحيوان زي دا، للدرجة دي معتبراني ماليش لازمة؟!..
رفعت عينيها الباكيةِ الممزوجةِ بدموعِ الألمِ وهتفت بنبرةٍ تتجرَّعُ الوجعَ أضعافَ مايشعرُ به:
-بنتي كانت بين إيديه يامصطفى وهدِّدني هيفتح بطنها ويبعت حفيدي، كنت منتظر منِّي إيه..
آاااااه..أخرجها إلياس وهو يلكمُ الجدار، حينما تملَّكَ منه شعورُ العجزِ والقهرِ ممَّا يمرُّ به..رفعَ كفَّيهِ على خصلاتهِ يرجعها بعنفٍ وكأنَّهُ يريدُ أن يقتلعها:
-أقسم بالله مش هرحمك ياراجح، استدارَ إلى فريدة واقتربَ منها:
-افتكري أيِّ حاجة كلِّم حد قال أيِّ حاجة ، حاولي تساعديني علشان أوصل لمراتي ياماما لو سمحتي..
طالعتهُ بدموعٍ تجري على وجنتيها كالأنهارِ تهزُّ رأسها بالنفي..
لم يقوَ على الصمود، ليشعرَ بوحوشٍ ضاريةٍ كمن تلبَّسهُ شيطانًا ليوسوسَ لهُ بارتكابِ أبشعِ الجرائم، ليتحرَّكَ مغادرًا المكانَ وهو يهدِّدُ بما سيفعلهُ به:
-شريف شوفلي طارق فين، هاتوه من تحتِ الأرض، وعايزك تجبلي الستِّ اللي اسمها سمية دي..
-تمام خلال ساعة هكلِّمك، بس مفيش جديد ولَّا إيه..تذكَّرَ المنزلَ فأردف:
-هروح البيت تاني يمكن أوصل لخيط يوصَّلني لحاجة..
استفاقت من شرودها على صوتِ غادة:
-ماما فريدة قومي ندخل جوا مينفعشِ تفضلي كدا، نهضت تسحبُ كفَّيها تساعدها على الوقوف، بينما فريدة عيناها كانت شاردةً تجاهَ البوابةِ التي خرجَ منها إلياس...
مرَّت الساعاتُ كالسيفِ على العنق وهو يدورُ كالمجنون بكلِّ الأماكنِ المرتبطةِ براجح إلى أن توصَّلَ إلى طارق.
قبلَ عدَّةِ ساعاتٍ جالسًا بمكتبهِ يتواصلُ مع فريقهِ البحثي، تحدَّثَ شريف:
-وصلنا لطارق ياإلياس، إيه أجيبه الجهاز ولَّا..قاطعهُ وهو يحملُ سترتهِ قائلًا:
-أيوة هاته على الجهاز، وعايز خبر القبضِ عليه في كلِّ المواقع..
-تمام نصِّ ساعة والكلِّ يعرف..تحرَّكَ سريعًا للأسفلِ مع وقوفِ مصطفى مع أحدِ الرجال:
-عايز مين يابني؟..
نظرَ الرجلُ بالورقةِ قائلًا:
-إلياس السيوفي مراته رافعة دعوة طلاق، اتفضل امضي هنا..
بمنزلِ يزن قبل أيام:
ألقى كلماتهِ القاسيةِ عليها ثمَّ دلفَ إلى غرفته، ظلَّ يدورُ حول نفسهِ ونيرانًا مشتعلةً بداخلهِ على ما فعلتهُ تلك الشمطاء، كيف نسي أمرها، جلس بعدما شعرَ بانفلاتِ أعصابهِ عن حدَّها المسموح، وبدأ يمسحُ على وجههِ بغضب، رفع عينيهِ بدخولِ إيمان تطالعهُ بتخبُّطٍ على حالتهِ التي لأوَّلِ مرةٍ تراهُ بها، ظلُّت النظراتُ العتابيةِ بينهما، ممَّا جعلهُ يتوقَّفُ يجمعُ أشيائهِ ونطقَ بكلماتٍ حادةٍ على غيرِ عادته:
-مش عايز مواعظ من عيِّلة، روحي شوفي مذاكرتك، قالها وتحرَّكَ للخارجِ سريعًا، وقعت عيناهُ على تلك المنكمشةِ على الأريكةِ تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهمية، جسدًا خاويًا من الروح، تحرَّكَ سريعًا من أمامها بعدما رفعت عينيها المتلألئةِ بالدموعِ تنظرُ إليه بخيبةِ أمل، وصلَ إلى بابِ شقته، فهبَّت من مكانها:
-استنى عندك..توقَّفَ يواليها ظهره، اقتربت منهُ وهي تسألهُ باستنكارٍ وعيونٍ مليئةٍ بالدموع:
-إنت عملت فيا كدا؟!..لم يجيبها وظل كما هو
-طلَّقني…
كوَّرَ قبضتهِ بعنفٍ مع اهتزازِ فكه، عندما ألقت كلماتها عليه، يريد أن يهدأ اولًا، فلا يستطيعُ الانجرافَ وراء طلبها بهذا الوقت، استدارَ برأسهِ قائلًا:
-عندي مشوار لمَّا أرجع نتكلِّم.
ثارت كرامتها تحرقُ داخلها لتهتفَ مستنكرةً إجابته:
-مفيش خروج إلا لما تطلقني، مش محتاجة وقوفك معايا، وزي ماقولت أنا مش مراتك، يبقى ماليش حق أقعد هنا، خليك راجل للآخر وطلَّقني وكدا كدا كلِّ حاجة ضاعت..
فتحَ البابَ وخرجَ يغلقهُ بقوةٍ خلفهِ وحديثها لم يعيرهُ أهمية..
احترقَ داخلها من فعلتهِ لتفتحَ البابَ وتركضَ خلفهِ تردِّدُ بصوتٍ عالٍ إلى حدٍّ ما:
-مش هنتظر لرجوعك ياباش مهندس، استقلَّ دراجتهِ البخاريةِ وارتدى خوذتهِ يشيرُ بعينيهِ إلى دخولها:
-ادخلي وهنتحاسب لمَّا أرجع على صوتك العالي وخروجك بالشكلِ دا، إنتِ قاعدة هنا في حارة مش فيلا بابي ومامي..
قالها وقادَ دراجتهِ وتحرَّكَ سريعًا من أمامها حتى لا يُخرجَ غضبهِ بها، ظلَّت لدقائقَ متوقِّفةً بجسدٍ متصلِّب، مذهولةً لا تصدِّقُ ما فعلهُ وقاله، خرجت إيمان تنظرُ إليها بحزن:
-رحيل ادخلي حبيبتي مينفعشِ وقوفك في الشارع كدا، التفتت إليها تردِّدُ بعجز:
-شوفتي أخوكي عمل إيه، هوَّ كان كدا وأنا كنت عمية؟!.
هزَّت رأسها بالنفي وتحرَّكت إلى وقوفها تجذبها للداخل:
-لا حبيبتي هوَّ مش كدا أبدًا، دا يزن كلُّه رجولة وأصول واللهِ بس الزمن اللي قلبه، تعالي معايا بس..
تحرَّكت سريعًا للداخلِ تجمعُ أشياءها وتلملمُ كرامتها التي بعثرها بكلِّ جبروت، انتهت من جمعِ ملابسها وكلَّ مايربطها بهذا المنزلِ ثمَّ سحبت حقيبتها:
-أنا ماشية وخلي أخوكي يبعت لي ورقة طلاقي، ومش معنى أنا وافقت على الجواز منه يبقى ضعيفة، أبدًا أنا يمكن أقوى منه، أنا وافقت علشان حسيت برجولته بس بعدِ اللي حصل الليلة أثبت لي أنه إنسان انتهازي، انتهز حاجتي لمسائل شخصية.
اتَّجهت إيمان إليها تنظرُ إلى حقيبتها بعدمِ رضا، مستنكرةً ماتفعله، حاولت سحبَ الحقيبةِ إلا أنَّها تراجعت تجذبها وتحرَّكُت مغادرةً المكانَ بالكامل..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ عادَ إلى منزلهِ وعلمَ بما فعلته، اهتزَّ داخلهِ من فعلتها، نظرَ إلى ساعتهِ وجدها تخطَّت الثانيةَ عشر رفعَ هاتفهِ وحاولَ مهاتفتها ولكنَّ هاتفها مغلق ..استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ أجاب سريعًا ظنًّا أنَّها هي..
-مدام فريدة مرات مصطفى السيوفي دا لواء شرطة، عندها ثلاثة أولاد يايزن، منهم ظابط أمنِ دولة واتنين في الجامعة، لو عايز العنوان أبعتهولك..
-ابعته ياكريم، متعرفشِ الولاد دول ولادها ولا ولاد جوزها؟..
-مش فاهم تقصد إيه؟!
كنيتهم إيه ياكريم؟..
-إلياس السيوفي يعني ابنِ مصطفى السيوفي والتوأم نفس الكنية..
دسَّ أناملهِ بخصلاتهِ يرجعها للخلفِ بعنف وأردف:
-يعني ولادها لسة ماوصلتشِ ليهم، طيب ياكريم هتعبك معايا، فيها حاجة تعرف تسأل الظابط دا عن واحدة اسمها سمية العلايلي الستِّ دي كانت ممرضة وشغالة في السويس، بس نقلت القاهرة من عشرين سنة، وكان عندها بنت وولد، ياريت تعرف توصلَّها ضروري..
استمعَ كريم إليهِ باهتمام:
-تقصد إيه وليه الستِّ دي تقرب لك؟!.
سحبَ نفسًا وزفرهُ على مهل:
-الستِّ دي كان راجح متجوزها، عايز أعرف ماتت ولَّا لسة عايشة، وبنتها وابنها فين، ولو طارق وهيثم ولاد رانيا فين بنتها اللي ماما قالت عليها، دماغي مبقتشِ قادر أفكَّر، الراجل دا بلاويه كتيرة، لازم أجمع اخواتي ياكريم وقبل دا كلُّه لازم أقابل طنط فريدة..
-صوتك ماله يايزن؟!
-مفيش، يمكن مرهق وعايز أنام، ياله نتكلِّم بعدين..قالها وأغلقَ الهاتف، واتَّجهَ إلى أحدِ الحرسِ بالمشفى:
-أيوة يابني مدام راحيل في المستشفى؟،،
أجابهُ الرجلَ بهدوء:
-أيوة يابشهمندس، جت من ساعة ولسة جوا..هزَّ رأسهِ يفركُ جبينهِ وأردف:
-لو خرجت عرَّفني، وخلِّي حد معاها..
-تمام ..زفرةٌ حادةٌ خرجت من جوفهِ يعاتبُ نفسهِ على ما فعلهُ بها..
مرَّ عدَّةِ أيامٍ والحالُ كما هو، عادت رحيل إلى الفيلا الخاصة بها، رغم محاولتهِ معها بعودتها منزلهِ إلا أنَّها رفضت قائلة:
-أنا مش مراتك علشان أقعد في مكان إنتَ فيه.
دنا منها يجزُّ على أسنانهِ وتمتمَ بنبرةٍ حادة:
-رحيل بلاش تخرَّجي منِّي إنسان يئذيكي..
عقدت ذراعيها على صدرها وطالعتهُ بتهكُّم:
-متهمِّنيش ياباشمهندس، ليه أطلَّع منَّك إنسان وإنتَ جوَّاك الإنسان دا..
جذبها بقوَّةٍ ولفَّ ذراعهِ حولَ خصرها بتحكُّمٍ وتقابلت عيناهُ السوداءَ بعينيها الزيتونية، يضغطُ بقوَّةٍ على خصرها:
-الإنسان دا عرفته لمَّا قرَّبتِ منِّك، حاولت الفكاكَ من قبضتهِ الفولاذية وتمتمت غاضبة:
-يزن ابعد عيب كدا إنتَ اتجننت..ظلَّ يتجوَّلُ بنظراتهِ على وجهها الملائكي إلى أن احمرَّت وجنتيها من أنفاسه ِاللاهبة، التي بدأت تضربُ عنقها، حينما دنا برأسه يهمسُ لها:
-إنتِ مراتي ياآنسة، قالها مبتسمًا بسخرية، ثمَّ رفعَ أناملهِ يمرِّرها على وجنتيها وغابَ بزيتونتها ليتخدَّرَ جسدها من لمستهِ؛ إلى أن نسي كلاهما ماحولهما ليدنو للحدِّ الغيرِ مسموح يضعُ شفتيهِ على ثغرها لتشعرَ بماسِ كهربائيٍ ورعشةٍ بجسدها، أغمضت عينيها بضعفٍ منها ليقطفَ أوَّلَ قبلةٍ له متذوِّقًا عسلها المذاب على ثغرها، ابتعدت كالملسوعة، حينما شعرت بشفتيهِ الساخنةِ على ثغرها، بلعت ريقها بصعوبة، ولكنَّ رجفةَ جسدها جعلت سيقانها هلاميتين فلم تقوَ على الوقوفِ مما جعلها تستندُ على المقعدِ بجوارها تهربُ من نظراتهِ الخارقةِ لها، لم يرحم ضعفها ليدنو منها حتى التصقَ بجسدها، رفعت عينيها المرتجفةِ إليه:
-يزن عايز توصل لإيه؟..
-نتمِّم جوازنا يارحيل، أنا مش هطلَّقك ودا قرار نهائي، ومالكيش رأي عندي، هنرجع من السفر بعد عملية باباكي، وهنعمل فرح ونتمِّم جوازنا زي أيِّ اتنين متجوزين، أنا مش هطلَّق، رفعَ أناملهِ يبعدُ خصلاتها عن عينيها واستطردَ حديثهِ وعينيهِ تخترق زيتونها:
-بس ممكن أتجوِّز تاني عادي، لو اتعوجتي ومشكرتيش ربنا عليَّا، قاطعهم دخول زين:
-رحيل ...التفتت إليهِ سريعًا ثمَّ ركضت إليه:
-خالو حبيبي..
بمنزلِ أرسلان:
بداخلِ مكتبه، كان جالسًا يعملُ على جهازهِ وهو يرتدي نظارتهِ الطبيةِ يتابعُ بهمةٍ ونشاطٍ آخر ماتوصَّل إليه، دلفت بقهوتهِ بعدما طرقت الباب، خطت بخطواتها الهادئةِ تضعُ قهوتهِ على مكتبه، ظلَّت تطالعهُ لبعضِ الوقتِ دون حديث..
-مطلبتش قهوة، عايز كوباية عصير لو مش هتعبك معايا، قالها ولم يرفع عينيهِ من فوقِ جهازه..
-حاضر..نطقت بها ثمَّ دنت من جلوسه:
-أرسلان عايزة أرجع شغلي، وأتمنَّى ماترفضش..رفعَ عينيهِ إليها سريعًا، ثمَّ أشارَ إلى بابِ مكتبه:
-روحي اعمليلي عصير يامدام ومش عايز كلام كتير..
-أرسلان..خلعَ نظارتهِ ونهضَ قائلًا:
-على ماأعتقد اتكلِّمنا في الموضوع دا قبلِ كدا، شغل مفيش مش مرات أرسلان الجارحي اللي تشتغل، ليه ناقصك حاجة؟..
سحبت نفسًا بمحاولةٍ منها أن تهدأ ثمَّ اقتربت حتى حاوطتهُ بذراعيها:
-أرسلان لو سمحت أنا بزهق من القعدة، وإنتَ بتسافر أكتر مابتقعد في الشقة، والشغل مش احتياج بس..
حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ بها إلى الأريكة، جلسَ وأجلسها بأحضانهِ محاوطها بحنانِ ذراعيهِ ثمَّ أردف:
-عارف اليومين اللي فاتوا ضغط عليكي، بس دا من غلطك، قبل كدا فهَّمتك حياتنا تمشي إزاي، ومينفعشِ تخرجي من بابِ الشقة من غير علمي، أومال لو متعرفيش طبيعة شغلي، تخيَّلي لو حد عرف شغلي الرئيسي حياتك هتكون في خطر، فلازم أعمل حساب لخطواتنا، احتضنَ وجهها بين راحتيهِ وسبحَ بجمال سوداويتها مردِّدًا:
-ممكن حبيبتي تسمع الكلام، ووعد هفكَّر في موضوعِ الشغل دا، بس مش شغلك القديم، ممكن نشوف شغل مريح وقريب من هنا إيه رأيك؟..
دفنت رأسها بعنقهِ تحاوطُ خصره:
-أنا بحبَّك أوي ياأرسلان، وآسفة إنِّي ضيقتك، بس حقيقي بقيت أتخنق من القعدة لوحدي.
سحقها بين أحضانهِ مطبقَ الجفنين، مستمتعًا بحديثها الذي أروى قلبهِ المتصحِّر، ليتمتمَ بنبرةٍ مبحوحةٍ من كثرةِ مايشعرُ به في حضرتها:
-وأرسلان بيعشقك ياغرامي، أخرجها من أحضانهِ وتابعَ حديثه:
-غرام إنتِ مش مجرَّد واحدة عرفتها واتجوزتها، إنتِ هدية كبيرة ربنا أنعم بيا عليها، ربنا يكمِّلك بعقلك حبيبتي ويباركلي فيكي، قومي هاتيلي العصير حاسس الضغط عالي من قربك المضني اللي ببلاش دا ولازم أنزِّله..
لكمتهُ بصدرهِ بخفَّة، وتورَّدت وجنتيها من مغذى حديثه:
-بس بقى إيه الكلام دا..
غمزَ بعينيهِ يمرِّرُ أناملهِ على وجنتيها:
-مش دي الحقيقة؟..طيب قولي إنتِ إزاي أقعد زي الكرسي والجميلة معايا..
استنكرت حديثهِ قائلة:
-متقولشِ كدا، إيه زي الكرسي دي، إنتَ مش كدا دا إنتَ كلِّ جسمك شغَّال نفسي تدِّيني حاجة منهم..
قهقهَ عليها بصوتٍ مرتفعٍ يضمُّها بقوَّةٍ قائلًا:
-يالهوي البتِّ بتحسد جوزها..رفعت إحدى حاجبيها وأجابت ساخرة:
-وإنت َتتحسد ليه ياروحي؟.
-لا والله يعني جوزك مش حلو وأمور والبنات هتموت عليه؟..
لكمتهُ بقوَّةٍ ونهضت من أحضانهِ وهدرت به بحدَّة:
-مين ضحك عليك وقال عليك أمور، إنتَ مغرور وبارد وو ..ضربت قدمها بالأرضِ كالأطفالِ وركضت من أمامه، قهقهَ عليها يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
-واللهِ أمور والبنات هيموتوا عليَّا حتى اسألي الكاتبة..
قاطعهُ رنينَ هاتفه، رفعه:
-أيوة ياعمُّو؟..
-ليه ماقولتش ياحيوان إنَّك مع إلياس بتدوَّر على مراته؟..
أجابهُ بنبرةٍ باردة:
-زي ماحضرتك ماقولتش إنِّ جدتي محجوزة في المستشفى، وليه مصطفى السيوفي استقال بعد زيارته..
بص ياإسحاق علاقتي بإلياس زي علاقتي بيك، أتمنَّى تعرف أنُّه مهم ليا جدًا، ليه معرفشِ ومتسألش، لأنِّي قرَّرت وانتهى الموضوع هتقولِّي أختار هزعل منَّك وإنتَ عارف زعلي وحش وممكن توصَّلني لطريق مسدود ومتعرفشِ توصلِّي، فخليك دايمًا معايا العاقل الرزين وبلاش فكرةِ الغباء اللي بتحاول توصَّلها لي، فيه سر وهعرفُه قريب، بس لو السرِّ دا متعلِّق بيا صدَّقني هزعل منَّك وهتكون آخر علاقتنا، أرسلان راجل ويتحمِّل أي حاجة ياعمُّو..
-هبعتلك عنوان مرات إلياس ياأرسلان، مش قدَّامك كتير، علشان عرفت فيه دكتور نسا دخل المكان، أظن إنتَ عارف قصدي إيه..
جذبَ مفاتيحهِ وغادرَ سريعًا قائلًا:
-بسرعة لو سمحت ياعمُّو، إلياس هيتجنِّن..جذبَ سترتهِ فوق ملابسهِ البيتيةِ وصاحَ باسمِ زوجته:
-غرام..عندي شغل مهم حبيبتي شوية وراجع..قالها وخرجَ سريعًا قبلَ ردَّها.
عندَ آدم:
خرجَ من قاعةِ المحاضراتِ متَّجهًا إلى مكتبه، أنهت محاضرتها واتَّجهت إليه، طرقت البابَ ودلفت قائلة:
-ممكن أدخل يادكتور..رفعَ عينيهِ إليها يشير لها بالدخول، اقتربت من مكتبهِ وجلست بمقابلته:
-إزاي رجَّعتني وإنتَ مطلَّقني عند المأذون ياآدم؟..أكيد مرجَّعتنيش وخالو قال كدا علشان مرات أبويا مش كدا؟..
رجعَ بجسدهِ وطالعها بهدوء:
-أنا مطلَّقتكيش ياإيلين، رميت عليكي اليمين وبس.
ابتسمت ساخرةً ونطقت بتهكُّم:
-لعبتو عليَّا ياآدم إنتَ وخالي، هوَّ قالِّي قسيمة طلاقك عندي، وإنتَ تقولِّي طلَّقتك..اومال ليه دخلت للمأذون، وخرجت وقولت طلقتك
-السؤال دا لخالك مش ليَّا، ودلوقتي ممكن تسبيني أشوف شغلي، نظرَ بساعتهِ وأردف:
-عندك محاضرة دلوقتي ولا مش ناوية تحضيرها؟.
تلألأت الدموعُ بعينيها:
-طيب أنا عايزة أطلَّق ياآدم لو سمحت، حاسة جوازنا طوق بيخنقني..
نهضَ يجمعُ أشيائهِ بعدما فقدَ برودهِ الذي حاولَ استخدامهِ معها وأردفَ دون النظرَ إليها:
-إحنا مطلَّقين ياإيلين، بس كورقة مينفعشِ وخاصةً بعد كلام باباكي ليَّا امبارح، ووجودك مع صاحبتك بناءً على موافقتي، رفعَ عينيهِ إليها وتابعَ حديثهِ المدمي لقلبها:
-مفيش بينا غير ورقة ودا وصية عمِّتي لبابا، وقت ماتخلَّصي كُليِّتك وتشتغلي هطلَّقك، غير كدا مالكيش حاجة عندي..
هبَّت مقتربةً منهُ كالمجنونة:
-أكيد اتجنِّنت أنا مستحيل أوافق على المهزلة دي.،
حملَ حقيبتهِ وأجابها:
-بس أنا موافق، انحنى بجسدهِ ينظرُ لرماديتها:
-إيلين متلعبيش بمشاعرنا، علشان مقلبشِ عليكي، وعيوني عليكي أيِّ غلط منِّك وحياة قلبي اللي اتحكِّمتي فيه وخلِّتيه لعبة في إيدك ماهرحمك، إنتِ مراتي سواء رضيتي ولَّا لأ، ولو مش عاجبك الكلام اشربي من البحر.
قالها وتحرَّكَ من أمامها وكأنَّهُ لم يقل شيئا، لتهتفَ بحدَّة:
-وأنا عندي أموت ولا أكون زوجة تانية..
توقَّفَ مبتسمًا حتى لمعت عيناهُ بعشقها، ليضعطَ على حقيبتهِ يمنعُ ابتسامتهِ واستدارَ برأسه إليها:
-وأنا متجوِّزتش غيرك، ولا عيوني شافت غيرك يابنتِ عمتي، ولو قصدك على جوازي من حنين كان مصلحة وبس، بدليل سنتين ومتمِّمتش جوازنا، استدارَ بكاملِ جسدهِ وتعمَّقَ بعينيها المتلألئةِ بالدموعِ وأكمل:
-بس إنتِ مقدرتش أتحكِّم في مشاعري حتى أربع شهور، وربِّنا حب يقرَّب بينا بجنين، بس للأسف مالناش نصيب فيه، بس أكيد المرَّة الجاية هيكون نصيبنا أحسن ياحبيبي، أنا داخل المحاضرة وهقفل الباب مبحبِّش الطالب اللي يدخل بعدي، وخاصةً لو كانت حلوة وتاخد العقل زي مراتي العسل دي ...قالها غامزًا بطرفِ عينهِ وتحرَّكَ من أمامها، تطلَّعت إليهِ بذهولٍ تشيرُ على مكانِ تحرُّكه:
-إيه الراجل البارد دا، طيِّب واللهِ لألعب لك في الأزرق يابنِ خالي..اصبر عليَّا كنت بتعامل معاك باحترام، واللهِ ياآدم لأكرَّهك في نفسك..
بمنزل دينا
دلف للداخل يبحث عنها، سأل الخادمة
-فين المدام؟!..أشارت إلى الحديقة وأجابته
-لسة خارجة من شوية...تحرك إلى جلوسها وجدها تجلس على حافة المسبح، انحنى وطبع قبلة على رأسها
-وحشتيني!!
ابتعدت بنظرها عنه ولم تكترث لوجوده..جلس بجوارها ثم جذبها إلى أحضانه
-عارف مقصر معاكي، فاروق تعبان عنده جلطة، وارسلان ميعرفش كمان
رفعت رأسها تسأله
-وليه مخبي على ابنه، ليه دايما قرارتك لنفسك يااسحاق
سحب نفسًا وزفره ببطئ مغير الحديث
-عاملة ايه والبيبي عامل ايه
تنهدت بعدما علمت بهروبه فأومأت برأسها
-كويسة والبيبي كويسة، عايزة اروح للدكتور نطمن عليه، خلاص داخلة على السابع لازم اعرف المفروض هتعامل ازاي الفترة الجاية
خلل أنامله بأناملها ودنى يضع رأسه فوق كتفها
-لو فاروق فاق هنعمل حفلة ونعلن جوازنا، مبقاش ينفع اخبي، ابني لازم يجي للنور يادينا
ابتسمت حتى لمعت عيناها بالدموع
-حقيقي يااسحاق ...ملس على خصلاتها واعادها بعيدا عن وجهها
-أنا خايف عليكوا يادينا مش مخبي علشان حاجة
-طيب ومدام احلام هتوافق
نهض من مكانه يضع كفوفه بجيب بنطاله ينظر للبعيد
-دي حياتي يادينا انا مكنتش خايف من مدام احلام
قاطعه رنين هاتفه رفعه سريعا بعدما وجده حرسه الخاص
-أيوة يابني
-ألحق ياباشا، فاروق باشا صحي وركب العربية وهو بيقول ارسلان ومقدرناش نوقفه
ركض سريعًا إلى سيارته يصرخ به
-ازاي ياحيوان تخليه يطلع لوحده، دا مريض، اوعى تقولي ركب العربية وساقها لوحده
-رفض ياباشا حد مننا
ااااه صرخ بها وهو يستقل السيارة بسرعة جنونية، توقفت تنظر إلى خروجه
-استر يارب، ياترى مخبي ايه يااسحاق قالب حالك كدا
عند فاروق ظل يقود السيارة بجسد واهن وكلمات مصطفى تتردد بذهنه، رفع هاتفه وحاول مهاتفة ارسلان ولكن لم يجيب، تلاشت الرؤية أمامه رويدا رويدا حتى فقد الرؤية ولم يستمع سوى بارتطدام السيارة
عندَ إلياس وصلَ إلى المكانِ الذي يحتجزُ به طارق:
-كلِّم أبوك وخلِّيه يجي يطلَّعك ياله..
-ويطلَّعني ليه، هوَّ أنا عملت حاجة، عايز أعرف أنا هنا ليه؟..
لطمةٌ قويةٌ حتى شعرَ بأنَّ رأسهِ التفتَ للجانبِ الآخرِ من قوَّتها، وكأنَّهُ تحوَّلَ إلى شيطان، ليمسكهُ من تلابيبهِ يضربُ رأسهِ بالحائطِ وصورةِ زوجتهِ تمرُّ أمامَ عينيه، ظل يضربهُ حتى تلاشى جسدهِ وهوى على الارضية، انحنى يجذبهُ يجرُّهُ إلى أن تدخَّلَ شريف محاولًا السيطرةَ على غضبِ إلياس:
-إلياس اتحكِّم في نفسك شوية، الولد ممكن يموت، دفعَ شريف بعيدًا عنهُ وأطبقَ على عنقه:
-فين أبوك ياله، حاولَ الحديث، إلَّا أنَّهُ خطفَ هاتفهِ ودفعهُ بقوَّةٍ وبدأ يقلِّبُ فيه إلى أن وصلَ إلى رقمٍ يدوَّنُ بالهاتفِ بحروف، أمسكَ الهاتفَ واتَّصلَ على تلك الحروف، أجابَ راجح سريعًا:
-طارق إيه اللي بيحصل عندك، قضية إيه اللي اتمسكت فيها؟..أشارَ لشريف لمراقبةِ المكالمة حتى يتوصًَّلوا إلى مكانه، وضعَ الهاتفَ على أذنِ طارق وأشارَ بيدهِ أن يتحدَّث:
-بابا مسكوني في الشقة، ومعرفشِ جابوني هنا ليه، تعالَ طلَّعني..
-مين اللي مسكك ابنِ السيوفي؟..نظرَ إلى إلياس وهزَّ رأسهِ بالنفي مجيبًا:
-لا دا ظابط تاني..
يعني إيه ياله..أغلقَ إلياس الهاتفَ بعدما أشارَ إليهِ شريف بمعرفةِ المكان، دفعهُ إلياس بقدمهِ قائلًا:
-برافوو عليك ياطاروقة، أمَّا أبوك دا حسابه تقل معايا..قالها وجذبَ سلاحهِ متحرِّكًا سريعًا مع رنينِ هاتفهِ برقمِ أرسلان:
-إلياس عرفت مكان راجح، أنا في الطريق هبعتلك اللوكيشن..
-وأنا كمان نتقابل هناك، قالها وأغلقَ الهاتفَ وقادَ سيارتهِ بسرعتهِ الجنونية، بتحرُّكِ شريف خلفهِ يسبُّه:
-واللهِ نهاية وظيفتي على إيدك ياابنِ السيوفي، وصلَ بعد قليلٍ إلى المكانِ الذي يحتجزُ به ميرال، دفعَ البابَ مع تبادلِ الأعيرةِ الناريةِ بكافةِ الأرجاء..
تمكَّنَ إلياس بمعاونةِ أرسلان وشريف من اقتحامِ المنزلِ يبحثُ بلهفةٍ والفزعُ يجعلُ قلبهِ يتقاذفُ بأنينٍ مكتوم، يتلفَّتُ يبحثُ عنها بنبضِ قلبهِ الذي يهمسُ بحروفها، دفعَ البابَ بقدمه، ليُفتحَ على مصراعيه..هزةٌ عنيفةٌ كزلازلٍ قويٍّ وهو يراها متمدِّدةً بوجهٍ شاحبٍ على الفراشِ كالتي فارقت الروحُ الجسد، واشتعلَت داخلهِ وصلةُ جنونٍ وهو يقتربُ منها يرفعُ جسدها بين ذراعيهِ بعيونٍ ترقرقت سحبها، لتنسابَ دمعةٌ غائرةٌ حارقةٌ على وجنتيه، ضمَّها وخرجَ بها سريعًا متَّجهًا إلى سيارته، وصلَ إلى السيارةِ مع ركوبِ أرسلان وتحرُّكهما سريعًا متَّجهينَ للمشفى، ساعاتٍ عصيبةٍ وكأنَّ دقائقها خنجرٌ يشحذُ صدره، وهو يتوقَّفُ أمام النافذةِ ينظرُ إلى سكونِ جسدها، أين تلك التي كانت تتحرَّكُ كالطفلةِ برشاقة، هل هذه زوجتهِ التي أشعلت لهيبَ قلبهِ بعشقها..
استمعَ إلى صوتِ والدهِ خلفه:
-حبيبي أقعد شوية، والحمدُللهِ إنَّك لحقتها في الوقتِ المناسب، استندَ بظهرهِ على الجدارِ ينظرُ لمصطفى بصمت، لم يقوَ على النطق، فلقد انطفأت عيناهُ
أغمضَ عينيهِ متراجعًا برأسهِ يستندُ على الجدار، كلما تخيلَ ماصارَ لزوجتهِ
يشعرُ بنزيفِ روحه، وداخلهِ نيرانٌ ملتهبةٌ تحرقهُ بقسوة، ولا تبرِّدها سوى القبضَ على عنقِ راجح ولا يتركهُ إلا وهو يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة.
ربتَ مصطفى على كتفه:
-إن شاء الله هتكون كويسة حبيبي، والجنين هيكون كويس.
فتحَ عينيهِ يطالعهُ بتيه:
-هوَّ فيه حد طبيعي يابابا يعمل كدا؟. استدارَ مصطفى يواليهِ ظهرهِ قائلًا:
-أنا آسف كنت مفكَّر لما أغيَّر التحليل هيبعد عنها، مكنشِ في بالي أبدًا أنه يعمل فيها كدا..
التفتَ إليهِ واستطردَ قائلًا:
-وهوَّ فين الحيوان دا، التفتَ إلى النافذةِ ينظرُ إلى زوجتهِ وأجابه:
-معرفشِ ومش عايز أعرف دلوقتي، دا أحسن له، حقير لعبها بمهارة، بس ورحمة أبويا ماحدِّ هيرحمه من نارِ قلبي..خد ماما وارجع على البيت، شكلها تعبان ومايطمنش..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ فتحت عينيها تهمسُ بخفوتٍ اسمَ زوجها، نهضَ من مكانهِ مقتربًا منها:
-حمدالله على السلامة، اتَّجهت بعينيها إلى الصوت، ارتعشَ جسدها وانسابت دموعها بأنين:
-إلياس..تجوَّلت بأنظارها على الغرفة، وابتسامةٍ من بين دموعها:
-أنا فين!! دسَّ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ مردفًا:
-إنتِ في أمان، وضعت كفَّيها على بطنها تتساءلُ بلهفة:
-ابني فين؟! نزِّله، تراجعَ إلى النافذةِ ينظرُ للخارج:
-ابنك كويس وإنتِ كويسة، احمدي ربنا..
أغمضت عينيها تحمدُ ربها:
-الحمدُ لله، الحمدُ لله يارب، اتَّجهت بنظرها إلى وقوفه:
-إنتَ أنقذتني قبل مايجهض البيبي، دلفت الممرضةُ ووصلت إليها:
-حمدَ الله على سلامتك يامدام..أومأت وحاولت الاعتدال ولكنها شعرت بألمٍ ببطنها، حرَّكت كفَّيها تنظرُ إلى إلياس بذهول:
-إيه دا!..أشارَ للممرضة:
-لو كويسة جهِّزيها علشان هنخرج..
-هبعت الدكتور تشيِّك عليها وتشوف إن كان ينفع تخرج ولا لأ؟..قالها إلياس وتحرك سريعًا من أمامها
باليومِ التالي بفيلَّا الشافعي:
نهضت بكسلٍ من نومها تنظرُ إلى نومها الثقيل، احتضنت رأسها عندما شعرت بالألمِ محاولةً التذكُّر، هبَّت سريعًا تحاول تذكر ماصار، ولكن ألم رأسها جعلها غير متوازنة
فلاش قبل وصول إلياس بساعة إلى ميرال
وصلت إلى المنزلِ الذي يحتجزُ به ميرال، دلفت للداخل:
-إيه ياراجح، خلَّصت لازم نمشي قبل ماابنِ السيوفي يوصلِّنا..
رفعَ ساقيهِ على المكتب، ونفثَ تبغهِ قائلًا:
-لا خلاص مش هنسافر، ومتخافيش من ابنِ السيوفي علشان هو هيطلَّقها ومالوش علاقة بيها.
اقتربت منهُ متسائلةً يعني إيه، البنتِ حامل ، إزاي هيوافق كدا، نهضَ من مكانهِ واقتربَ منها ومازال ينفثُ سيجارته:
- لا ماهو مبقاش فيه ولد، كلُّه بح، الدكتور جوا، والفيديو وصل لابنِ السيوفي ومش بس كدا، ودعوة الطلاق كمان، علشان يعرف هوَّ واقف قصاد مين..
-اتجنِّنت ياراجح عايز تموِّت البنت، دفعتهُ وتحرَّكت سريعًا وجدت الطبيبَ يقوم بعمله لفتح بطنها
-استنى إنتَ بتعمل إيه؟،،نظرت إلى ميرال المتمدِّدةِ على الفراشِ لا حول لها ولا قوَّة لتصرخَ بالطبيب:
-برَّة يامجنون، دلفَ راجح بعدما أشارَ للطبيب ِبالخروج:
-اتجنِّنتي يارانيا، عايزة البنت تجيب الولد!..
وصلت إليها وانحنت تقبِّلها بحنانٍ أمومي..تنظر لذاك الجرح السطحي
-حبيبة ماما، آسفة يابنتي..
-رانيا ..صاحَ بها راجح لترفعَ نظرها إليه:
-خليه يجي يداوي الجرح دا ياراجح، والله اموتك سمعت
-متجننيش أنا مستحيل أوافق على كدا، إنتَ قولت هنسافر إيه اللي خلاك تغيَّر رأيك، مش قولت استوليت على شركةِ العمري والدنيا بقت تمام ليه رجعت في كلامك؟..
وصلَ يجذبها من ذراعها:
-تعالي معايا يارانيا..دفعتهُ صارخة:
-راجح متخلِّنيش أقلب عليك، إياك تقرَّب من البنت، والولد اللي عايز تنزِّله دا ياغبي هو اللي هيكوِّش على كلِّ حاجة، اعقل ياراجح ومتخليش غضبك من فريدة وابنها تموِّت بنتنا الوحيدة..
ابتعدَ يحكُّ ذقنهِ بتفكيرٍ ثمَّ أجابها ببرودٍ مهلكٍ قائلًا:
-سبيني أفكَّر يارانيا، أشوف الولد دا فعلًا هيكوِّش على العيلة ولا هيكون جهنم ..
ضغطت على شفتيها بعنفٍ وهدرت به:
-بنتي مش هتقرَّب منها ياراجح..
-ماهو علشان بنتك يارانيا لازم أخلص من الولد.
-يعني إيه؟..تساءلت بها بغضب..
اقتربَ يسحبُ ذراعها وخرجَ بها من الغرفة:
-حاضر يارانيا، مش هعمل فيها حاجة، تعالي معايا علشان أقولِّك كلمة سر
ابتعدت عنهُ تطالعهُ بغموض:
-مفكَّرني عبيطة ياراجح، قالتها واقتربت تترجاهُ محافظةً على هدوئها البارد حتى تخرجَ بابنتها، حاوطت عنقهِ واستخدمت أساليبها:
-رجوحة حبيبي مش كفاية اتحرمنا من هيثم، مابقاش عندي إلا ميرال، علشان خاطري حبيبي متعملشِ حاجة، ووعد هخلِّيها تبعد عن ابنِ السيوفي علشان عارفة إنَّك خايف على شغلنا، أنا فاهمة وعارفة تفكيرك، بس وحياتي ياراجح بلاش تئذي بنتك..
صمت لبعض الوقت قائلًا:
-موافق يارانيا،
-اشارت على ميرال:
خليه يدخل يداوي البنت لتموت من النزيف، البنت حامل حرام عليك
سحبَ كفَّيها وتحرَّكَ للخارج:
-طيب تعالي لازم نمضي عقودنا، قبلِ مابنتك تفوق، ولَّا عقود راجح مابقتشِ تنفع، أطلقت ضحكةً صاخبةً وتحرَّكت معهُ للخارجِ تنظرُ إلى الطبيب:
-تدخل تدواي جرح بطنها، وإياك تقرَّب منها، وامشي متنازلين عن خدماتك..
أومأ راجح بعدما غمزَ له بطرفِ عينهِ بعيدًا عن رانيا، ثمَّ اتَّجهَ إلى سيارتهِ يحاوطُ خصرها:
-لمَّا الهانم تفوق هاتوها على فيلا المريوطية لازم نحتفل بوجودها مش كدا يارانيا؟.
ابتسمت تهزُّ رأسها:
-كدا ياحبيبي، خلُّوا بالكم منها، مش عايزة حد يقرَّب منها، وانت اياك جرحها يكون فيه غلطة، وشوف دوا قوي يعالج الهباب اللي عملته..قالتها واستقلَّت السيارة، لتتحرَّكَ السيارة بعض الكيلومترات، وصلت إلى الفيلاَ وترجَّلت وهو بجوارها:
-ليه جينا هنا ياراجح مرحناش الفيلا ليه؟..
دلفَ للداخلِ وأجابها:
-علشان ابنِ السيوفي زمانه قالب الدنيا بعد ماوصل لفريدة، وطبعًا بعد قضيةِ الطلاق لو لقاني هيولَّع فيا..
قهقهت تخلعُ حذائها:
-نفسي أشوف وشِّ فريدة دلوقتي ، اتَّجهَ إلى أحدِ الباراتِ، وجذبَ كاسًا وسكبَ به بعضَ المحرَّماتِ والتفتَ إليها وجدها تتجوَّلُ بعينها بالفيلا متمتمة:
-حلوة الفيلا أوي ياراجح، إنتَ شاريها من زمان؟..
سكبَ مابداخلِ ذاك الكاس، وقامَ بتقليبهِ سريعًا متَّجهًا إليها وبسطَ كفيهِ إليها:
-بصحة الحبِّ اللي بينا ياروحي، أخذتهُ وتجرَّعتهُ ثمَّ اتَّجهت إلى هاتفها وقامت برفعِ صوت أغنيةٍ شعبيةٍ قائلة:
-الليلة فرحانة أوي، ولازم أسعدك معايا، هرقص لك زي زمان لحدِّ مابنتنا ترجع لنا واحصَّر فريدة عليها، قالتها وصعدت فوق الطاولة وبدأت تتمايلُ بجسدها إلى أن شعرت بالدوار، ليتلقَّفها بين ذراعيهِ هامسًا بفحيح:
-لولا ارتباط شغلنا مع بعض يارانيا كنت زماني دفنتك من زمان، بس أخلص من الناس الحقيرة دي وأعلِّمك إزاي تضحكي عليا يابنتِ الرفاعي..
استمع الى هاتفه
-ألحق ياباشا الظابط وصل واخد مراته، وقبضوا على الدكتور وهو بيعمل العملية
-الله يخربيتكوا كلكم، التفت إلى رانيا التي غفت
-غبية كنت زماني خلصت، ازاي هعرف اجيبها تاني ياغبية، أه يافريدة مستحيل ارحمك
بعد يومين من تحسن ميرال والأطمئنان عليها خرج بها من المشفى وصلَ إلى منزله، وضعها بهدوءٍ بالفراشِ ودثَّرها، دلفت فريدة إليها متلهفة:
-عاملة إيه ياحبيبتي، كانت عيناها عليه، تعلمُ أنَّهُ لن يرحمها بما فعلتهُ وما قالته، استدارت إلى فريدة قائلة:
-أنا كويسة ياماما، بس عايزة أنام..
انحنت تطبعُ قبلةً عميقةً فوق جبينها:
-دايمًا ياحبيبة ماما..احتضنت بطنها وبكت:
-شوفتي عملوا إيه، فتحوا جزء من بطني ياماما، كان عايز يموِّت ابني..
تراجعَ إلياس إلى غرفةِ الملابس قائلًا:
-مش هم اللي كانوا عايزين يموِّتوا ابنك يامدام، توقَّفَ واستدارَ إليها:
-إنتِ اللي كنتي عايزة تموِّتيه محدِّش غيرك، بلاش تحمِّلي ذنبك لغيرك، معلش العيب مش فيكي، العيب فيَّا إنِّي اخترت ست متستهلش تكون ام ولا تستاهل تكون مراتي، بس أوعدك قريبا اصلح غلطي
هبَّت فريدة تطالعهُ بذهول:
-إنتَ بتقول إيه ياإلياس، إنتَ اتجنِّنت..
-أيوة أنا فعلًا اتجنِّنت علشان رغم أغلاطها كنت بسامح وأعدي، البنت دي اللي بيربطني فيها ابني وبس، نظرَ لعينيها التي انفجرت بالبكاءِ وتابع:
-إنسانة تافهة ماتنفعشِ تتحمِّل مسؤلية، متنفعشِ تشيل اسمِ إلياس السيوفي، هيَّ فعلًا أثبتت أنَّها بنتِ راجح بياعة، ممكن تبيع الغالي بالرخيص في أي وقت، واللهِ لولا إنِّك حامل كنت طلَّقتك بلا راجعة، علشان تفكَّري مليون مرَّة إزاي تتطاطي لواحد واطي..
دفعت الفراش وتوقفت متجهة إليه وهي تحتضن بطنها:
-وكان مطلوب مني ايه ياحضرة الظابط، قولي كان مطلوب مني ايه وهو بيخيرني بين البيبي وبين امي
ركل الباب ودلف للداخل يصفعه خلفه بقوة، محاولًا ألا يخرج غضبه بها، خطت إليه توقفت فريدة أمامها
-ميرال بلاش دلوقتي اللي مر به مش قليل..أزالت دموعها بعنف وتمتمت ببرود وانا كمان اللي مريت بيه مش هين ياماما وحضرتك شوفتي
صاحت بصوت مرتفع حتى وصل إليه
-مش قولتي له ليه كان عايز يموتك، مش قولتي ليه أنه ضربني في بطني وقال هيجيبه زاحف
كور قبضته ونفرت عروقه بقوة من يراه يظن أنه سيفتعل جريمة لا محالة
دفعت الباب ودلفت إليه وانسابت دموعها كمجرى نهري
-ايه قافل على نفسك ليه، خايف تموتني ياله أنا قدامك موتني، على الأقل ارتاح منك ومن الراجل دا، ولا اقولك ايه رأيك اموت انا نفسي، ماانا عملتها قبل كدا، ذهب ببصره سريعًا على سلاحه مع نظراتها ليصل إليها بخطوة واحدة ولكنها رفعت السلاح إليه
-أنا مش عايزة الحياة دي ياالياس، ابويا مجرم وامي بتخون ابويا، انا سمعت ارسلان وهو بيقولك، انا خلاص تعبت مش عايزة حاجة من الدنيا دي
-هاتي السلاح ياميرال
-ابعد ياإلياس انا تعبت منكم كلكم، اعيش ليه والراجل دا ابويا..ظلت تلوح بالهاتف وتصرخ بدخول اسلام وغادة على صراخها، اقترب اسلام من الخلف محاولا السيطرة على حركاتها باقتراب إلياس يشير إلى اسلام بالابتعاد بعدما علم أنها لا تشعر بما تفعله استدارت مع اقتراب إلياس والتفاتها إليه مع ضغطها على الزناد
بالمشفى عند ارسلان
ابتعد اسحاق بعدما استمع إلى رنين هاتفه:
-اسحاق ألحقني، والدتك جت على الفيلا بناس معاها، أنا خايفة
ركض سريعا إلى سيارته
-دقايق وأكون عندك، روحي على الملحق، اوعي توصلك لحد مااوصلك
بعد قليل
خرج الطبيب من غرفة العناية، فتوقف ارسلان مبتعدًا عن والدته، نظر إلى الطبيب منتظر حديثه فتحدث قائلًا
-هيدخل عمليات تاني ومحتاجين دم، زمرته مش موجودة بالمشفى للأسف، اقترب ارسلان قائلًا
-أنا ابنه خد اللي انت عايزه
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
مِل بكتفك عليَّ سأعطيك أمانا أفتقده..
رغما عن تكدّس الأشياء السيئة داخل صدري..
رغما عن تخبطي المتكرر في اماكن عديدة
ثابت أنا لكن داخلي ينتفض ويبكي ويحترق..
أود أن أخبرك أنك تسكنني فكرا وحبا،،
أحببتك بإفراط للحد الذي شعرت أنني لا أصلح لأحد غيرك..
وبأن الحب الذي في صدري خلق لك وحدك...
لكن كم هي قاسية تلك التراكمات التي تجعلنا نقسو رغم حناننا ونبتعد عنهم رغم حاجتنا لهم...
ونصمت رغم تكدس الكلمات في صدورنا..
كم هي قاسية تلك التراكمات التي تجبرنا أن نكون على غير حقيقتنا..
ف العشق ُ إنْ ملَكَ القلوبَ أذلّها
حتى يطولَ عناق ُ مَن تهواه
فوق الرموش ِ أراكَ طيفا ً ساكنا
لكنَّ حبَّكَ في الحشا سُكناه ُ
حبي لوجهك خالد ٌ ومخلد ٌ
أيموت ُ حبٌُّ في دمي مجراهُ...
اتَّجهَ يحاوطُ ذراعيها مع ضغطها على الزنادِ لتتَّسعَ حدقتيهِ بفزعٍ وهو يرى أنَّ الرصاصةَ استقرَّت بكتفِ إسلام.
ألقت السلاحَ وبدأت بوصلةِ صراخٍ تضعُ كفَّيها على أذنها، اتَّجهت فريدة بنظرها إلى مصطفى:
-إسلام..نطقت بها بذعرٍ وهي ترى الدماءَ التي لوَّنت قميصه، أشارَ مصطفى بيدهِ إليها:
-اهدي يافريدة، هوَّ كويس..قالها مع احتوائهِ لذراعِ ابنه، دنا إلياس وعينيهِ على موضعِ جرحه، جثا أمامه:
-ورَّيني كدا اتصبت فين..قالها بلسانٍ ثقيلٍ وهو يسحبُ ذراعه، ليطبقَ على جفنيهِ محاولًا الضغطَ على أعصابهِ حتى لا يلتفتَ إليها ولا يتركها سوى قتيلة.
ضمَّتها فريدة لأحضانها محاولةً السيطرةً على بكائها قائلة:
-حبيبتي اهدي ياعمري، إسلام كويس، ميرو اهدي، جثت على الأرضيةِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة..توقَّفَ إلياس متَّجهًا إليها بعدما فقدَ اتزانهِ والتَّحكمَ في أعصابه:
-عجبك كدا، بتعيطي ليه دلوقتي، هتفضلي لحدِّ إمتى متهورة، قوليلي لحدِّ ماتموِّتي حدِّ فينا..
توقَّفت فريدة أمامهِ وهدرت بهِ بعنف:
-ممكن تسكت، إنتَ مش شايف حالتها عاملة إزاي، خد أخوك وروح المستشفى بدل ماحضرتك واقف تعاتبها خدها في حضنك وهدِّيها..
كزَّ على أسنانهِ وتحوَّلت عيناهُ لنيرانٍ جحيميةٍ يشيرُ على إسلام:
-أروح المستشفى وياترى لو سألوني أقولهم إيه، مراتي مجنونة وكانت عايزة تنتحر، كلِّ ماتغلط وتزهق تمسك المسدس وعايزة تموت، انحنى إليها ولم يكترث إلى صياحِ مصطفى عليه:
-إنتِ جبتي أخرك معايا، أنا مش متجوِّز مجنونة ولا طفلة علشان كلِّ ماتضايق تجري تمسك المسدس وبتهدِّدنا بيه، إنتِ كبيرة يامدام والمصيبة هتكوني أم، إيه لمَّا تغضبي من ولادك هتموِّتيهم..نظراتٌ قاسيةٌ يرمقها بها كمن تلبَّسهُ شيطانٌ وليس معشوقِ قلبها..رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ القاسيةِ، ليستوطنَ الألمَ بداخلها ونيرانًا تأكلُ صدرها، استندت على فريدة ونهضت بتخبُّطٍ متحركةٍ للخارجِ بقلبٍ محترقٍ من قساوةِ كلماته، دلفت إلى غرفتها القديمة وأغلقت الباب خلفها، ثمَّ هوت خلفه، تبكي بشهقاتٍ مرتفعةٍ تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ صوتَ بكائها، ظلت لدقائقَ وعيناها خيرُ دليل على ماتشعرُ به..حتى ارتجفَ جسدها بالكامل، استمعت إلى طرقاتِ غادة على بابِ الغرفة:
-ميرو افتحي الباب ياقلبي طمِّنيني عليكي، نهضت من مكانها وأردفت بصوتٍ متقطِّعٍ باكي:
-عايزة أقعد لوحدي ياغادة لو سمحتي، قالتها وخطت إلى غرفةِ ملابسها، تبحثُ عن شيئٍ ترتديه، جذبت أحد قمصانها وارتدتهُ ومازالت كلماتهِ تتردَّدُ بأذنها، اتَّجهت إلى فراشها تتمدَّدُ عليه، حينما شعرت بالخدرِ يتسرَّبُ إلى جسدها وكأنَّها ستفقدُ الوعي..لم يمرّ دقائقَ معدودة وغرقت بغيبوبةِ فقدانها للوعي، مرَّت فترةٌ بعد الاطمئنانِ على إسلام وإحضارِ الطبيبِ وإخراجِ الرصاصةِ من ذراعه، توجَّهت فريدة إليها، جلست بجوارها تمسِّدُ على خصلاتها، مرَّرت أناملها على وجنتيها تزيلُ آثارَ دموعها ثمَّ انحنت تقبِّلُ جبينها:
-عارفة اللي بتمرِّي بيه صعب يابنتي، ربنا ينتقم من راجح ورانيا، ظلت تمرِّرُ كفَّها على خصلاتها إلى أن دلفَ إلياس إليها:
-نامت؟..أومأت متوقِّفةً ثمَّ دنت منه وأخبرتهُ بعتاب:
-اللي عملته غلط وغلط كبير، إنتَ مكنتش هناك وشوفت اللي اتعرضناله..
زفرةٌ بقوةٍ وردَّ بنبرةٍ حادة:
-ومين اللي وصَّلكم لكدا، حضرتك اللي رحتي هناك وكأنِّك مقطوعة من شجرة، ولَّا المدام اللي أهمِّ حاجة عندها إنَّها تعاندني وخلاص، إيه يامدام فريدة تغلطوا الغلط وتلبسهوالي، خمس دقايق بس لو اتأخَّرت فيهم كان ممكن يكون بدفنها دلوقتي، دا واحد مجرم وحاولت أفهِّمها الوضع وبلاش شغل لحدِّ ماأشوف هعمل إيه معاه، قالت بتحرمني وبتخنقني، وأهو دي نتيجة عمايل المدام..
-إلياس حبيبي اهدى المواضيع مبتتاخدش كدا، خطا إلى نومها مستغربًا سكونها بتلك الطريقة، رفع ذقنها بأنامله:
-ميرال!! ردَّدها عدَّةِ مرَّاتٍ ولكن لا رد،
جذبَ عطرها وقرَّبهُ لأنفها ينظرُ لوالدته:
-مغمى عليها، هاتي لها عصير..قالها وهو يرفعُ نصفَ جسدها؛
-ميرو ..فوقي..ردَّدها وبدأ يلمسُ وجنتيها مع تقريبِ عطرها من أنفها، رفرفت أهدابها عدَّةِ مراتٍ تتأوَّهُ بألمٍ يضربُ رأسها، استدارَ يضعُ الزجاجةَ على الكومدينو، ثمَّ اتَّجهَ إليها يمرِّرُ أناملهِ بحنانٍ على وجهها:
-ميرال سمعاني، فتحت عينيها لتقعَ على عينيهِ القريبة، كانت حالتها مزرية، عيونها المنتفخةِ من البكاء، مع احمرارِ شعيراتها الدموية، وأنفها المحمَّر، اعتدلت مبتعدةً عنه تحتضنُ رأسها مغلقةً عينيها بدخولِ فريدة تحملُ كوبًا من العصير، نهضَ من مكانهِ حينما بسطت فريدة كفَّها بكوبِ العصير، وتحرَّكَ للخارجِ دون حديث..جلست بجوارها تنظرُ إلى خروجهِ بتنهيدةٍ حزينة، ثمَّ حاوطت ميرال بذراعها:
-حبيبتي اشربي العصير، أكيد عندك هبوط..
وضعت رأسها على كتفِ فريدة:
-ماليش نفس واللهِ ياماما، إسلام عامل ايه؟..رفعت رأسها وبدأت تساعدها بارتشافِ العصير قائلة:
-إسلام كويس حبيبتي، الدكتور طمِّنا، ياله اشربي عصيرك كلُّه، أنا خليتهم يعملولك الأكل اللي بتحبيه..
تمدَّدت مرةً أخرى بعدما شربت نصفَ كوبها قائلة:
-عايزة أنام ياماما مش عايزة آكل أو أشرب، لازم أرتاح علشان أعرف آخد قرار في حياتي الجاية.
توقَّفت فريدة تجذبُ غطاءً خفيفًا ودثَّرتها به قائلة:
-نامي ومتفكَّريش غير في ابنك وبس، تمام حبيبة ماما.. هروح أجهزلك الأكل
ترقرقت عيناها بالدموع:
-بس أنا مش بنتك، ليه مطلعتش بنتك ياماما، ليه حظِّي كدا، حتى الراجل اللي حبيته طلع قاسي أوي، ليه بيحصل معايا كدا؟..
مسَّدت على خصلاتها وردَّدت مستنكرةً ماقالته:
-ليه بتقولي كدا حبيبتي، هوَّ أنا مش ماما، محدش له حق فيكي قدِّي ياميرال، وجوزك مفيش أحنِّ منه بس الضغوط اللي عليه كتيرة يابنتي، عايزة منِّك تهدي وبلاش تسرُّعك، مينفعشِ كلِّ حاجة نهدِّد بإنهاء حياتنا فين إيمانك يابنتي، عايزة تقابلي ربنا كافرة ياميرال!..
عند إلياس خرجَ للحديقة، توقَّفَ أمام المسبح يضعُ كفوفهِ بجيبِ بنطاله، رفعَ عينيهِ لضوءِ القمر الذي يسطعُ نورهِ ويغطِّي الكرةَ الأرضيةِ بتمامِ اكتمالهِ بمنتصفِ الشهر..ظلَّ لعدَّةِ دقائقَ ينظرُ لنورهِ وذكرياتٍ تمرُّ أمامَ عينيهِ من كلماتهِا عن جمالِ الليالي القمرية للعاشقين، التوت زوايةِ فمهِ وابتسامةٍ ساخرةٍ تجلَّت على وجهه:
-القمر والبحر والحب..إيه الارتباط معرفش، ستَّات هبلة..استمعَ إلى رنينِ هاتفه، أخرجهُ ينظرُ للمتصل:
-أيوة !!
عرفت لك مكان راجح فين، في فيلا بالمريوطية، الفيلا باسمِ طارق ابنه، فيه حاجة كمان عايز أقولك عليها،
فيه ظابط بيعمل تحرِّيات عليك وعلى مدام فريدة..ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-مين دا ؟!
ردَّدَ اسمَ الضابط إليه، فتراجعَ إلى المقعدِ قائلًا:.
-الصبح تعرف لي ليه بيدوَّر ورايا، وإيه حكايته أكيد وراه راجح، بس قبلِ الحكم هاتلي قراره..
قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ أمامهِ بشرود:
-وبعدهالك ياراجح، بتعجِّل بموتك ليه، أنا مش عايز أموِّتك دلوقتي..حكَّ ذقنهِ وتذكَّرَ أمرَ قتله:
-ودا أبعده إزاي عن القتل، أنا لازم أعذِّبه في حياتهِ زي ماعذَّبنا، ياترى هعرف اوصل لأخويا، ياترى هو عايش ولا ..اغمض عيناه ونيران متقدة بصدره كلما تذكر له ولأخيه، استند بظهره على المقعد محاولًا التفكير بشؤنه القادمة، ماذا سيفعل، هل سيظل بكنيته ام سيغير إلى والده الحقيقي، بدأ يحدث نفسه
-إزاي بعد العمر دا كله أغير اسمي، غابت ذكرياته وبدأ الألم فريسته التي تنهش بداخله، وبدأ يردد بلسانه
-يوسف جمال الشافعي
-إلياس مصطفى السيوفي، معقول العمر دا كله باسم غير اسمي، معقول حياتي كلها سراب، ازاي ..بدأ يفرك جبينه وألم رأسه يسيطر عليه
-راجح، الراجل المتقلب، ياترى ياراجح هتكون السبب في موت اخوك، ولا هيكون قضاء وقدر، استمعَ إلى صوتِ مصطفى:
-مراتك عاملة إيه؟..
-كويسة هتعمل إيه..جلسَ بجوارهِ يربتُ على كتفه:
-اعذرها حبيبي، البنت كانت في موقف صعب..
التفتَ إليه ينظرُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ نطقَ مستنكرًا ما فعلتهُ فريدة وميرال:
-أنا مش عارف ليه حضرتك بتحسِّسني أنُّهم كانوا بيتفسحوا، مراتك كانت بين إيدين مجرم، تخيَّل لو أرسلان معرفشِ مكانها كنت هتعمل إيه..توقَّفَ وابتعدَ عن نظراتهِ واستطرد:
-بابا مش هفضل أسامح لحدِّ ما في يوم تموِّت نفسها وتموِّت حد من البيت، استدارَ يطالعه:
-ميرال اتجاوزت كلِّ الحدود، عارف إنَّها مضغوطة وحالتها متسمحش، بس لازم تعرف إنَّها مش ستِّ عادية دي مرات ظابط أمنِ قومي، يعني لا قدَّرَ الله ممكن في أيِّ وقت توقع بين أيدي الارهابين اللي بنحاربهم، وقتها لازم تدافع عن نفسها متكنشِ مطمع يابابا، مراتي ماتتهدِّدش، ومش معنى أنا مجرتشِ ورا راجح يبقى اتقبِّلت اللي عمله، لا مكنشِ ابنِ مصطفى السيوفي إن مخلِّتوش يكره اليوم اللي قابلني فيه، يبقى وقتها اعرف إنَّك معرفتش تربيني..
توقَّفَ بمقابلته، وحدقهُ بعيونٍ مستفهمة:
-ناوي على إيه يابنِ السيوفي؟..ماتضغطشِ على البنتِ ياإلياس، البنتِ مالهاش ذنب..
-ولا أنا ليا ذنب، ذنبي إيه أعيش طول حياتي باسمِ غير اسمي، ذنبي إيه وأنا حاسس إنِّي سارق حياة مش حياتي، ذنبي إيه ولادي يجوا على الدنيا وجدُّهم واحد حقير ممكن يكون قاتل أبو باباهم، دنا يتعمَّقُ بعينيهِ بعينِ مصطفى وتابعَ بنبرةٍ منكسرة:
-ذنبي إيه وأنا بعامل أمِّي بمنتهى القسوة علشان أثبت لقلبي إنِّي مابحبَّهاش علشان خايف أخون أمِّي الميتة، ذنبي إيه وأنا ليَّا أخ وبحاول أتذكَّر أيِّ حدِّ أكون عاقبته ويكون قريب مني أو من أمِّي بالشبه، ذنبي إيه وأنا بقوم بالليل مفزوع خايف ليخطف مراتي أو يموِّت حد من أخواتي..دا وصل لقلبِ بيتنا مرة، والمرَّة التانية سحب أمي ومراتي، منتظر مني أصقف له..
تراجعَ بجسدهِ للخلف وهو يهزُّ رأسهِ بالنفي مستنكرًا هدوءَ مصطفى:
-معرفشِ ليه لمَّا ضرب عليك نار نكرت دا قدام النيابة!..
-علشان دا اللي حصل، إحنا رجال قانون ياإلياس، أنا غيرك لازم دلائل يابني، وقتها كان هيخرج، ماهو مفيش حاجة تدينه، كنت هتقولُّهم شكِّيت فيه، زي خطفه لفريدة وميرال إيه اللي يثبت، لو قولت مراتك أو والدتك هيعمل مليون حيلة علشان يطلَّع والدتك بتتبلَّى عليه، وهيقلِّب في القديم، ومحدِّش هينضَّر غيرك إنتَ وأخواتك، عرفت ليه أنا محبِّتش أعمل شوشرة..
-بابا ..صاحَ بها بعنفٍ وأشارَ بسبباته:
-أنا مش هرحمه، وكنت مستحيل أقدِّمه للشرطة، بالعكسِ أنا ببعده عن كلِّ التهم، ومش بس هسحبه من تحتِ المنظَّمات اللي بيعمل فيها، عايزه نضيف علشان أشرَّبه المر اللي شرَّبه للكل..
-إلياس..رفعَ كفَّيهِ معتذرًا:
-آسف مش هسمع كلامك، ولا كلام أيِّ مخلوق، ولو ليَّا معزَّة عند حضرتك زي مابتقول، حياتي الخاصة محدش يتدَّخل فيها، علشان مزعلش..قالها واستدارَ متحرِّكًا للداخل، وصلَ إلى غرفةِ ميرال، دلفَ للداخلِ وجدَ فريدة تطعمها، رفعت عينيها وتقابلت نظراتهما إلى أن سحبت عينيها من مرمى نظراتهِ القاسية..
-اسمعيني كويس يابنتِ مدام فريدة، وعايزك تُحطِّي تحت كلمة مدام فريدة ملايين الخطوط، علشان لو سمعتك في وقت تنسبي نفسك لراجح هموِّتك بإيدي، ومتعشيش دور المظلومة، إحنا الاتنين في الهوا سوا، يعني إحنا الاتنين اتحطِّينا تحتِ أمر واقع ولازم نتقبِّله، اقتربَ منها وعينيهِ مازالت تحاوطُ جلوسها وتابعَ حديثه:
-ابنك اللي في بطنك دا أغلى منِّي شخصيًا، ميرال السيوفي لازم تكون قدِّ الكلمة مش مجرَّد زوجة أضواء وبس، عايز ست أقدر أعتمد عليها في أقسى ظروفي، مش واحدة مجرَّد ماأيِّ حيوان يهدِّدها تجري تعيَّط وتضعف وتنتنحر، أنا الستِّ دي متلزمنيش..أنا قولت لك قبل كدا أنا مستحيل أطلَّقك إلَّا إذا إنتِ طلبتي، بس قبل ماتتنططي وتقولي طلَّقني متنسيش إنِّك حامل في ابني..
طالعتهُ بعيونٍ متلألئةٍ بالدموعِ اللؤلؤية، وارتعشَ جسدها بقلقٍ وخوفٍ من قسوةِ كلماته..سحبَ نفسًا وابتعدَ عن نظراتها حتى لا يضعفَ وتابع:
-مفيش خروج من البيت إلَّا وأنا معاكي، الكلب دا مش هيسيبك غير لمَّا يحرق قلبي بابني، متفكريش إنِّك تهمِّيه، هوَّ عايز يدوس عليَّا أنا وأمِّي وبس، ياريت تسمعي الكلام وتعقلي، أنا عمري ماوقفت قدام مستقبلك، بالعكس كنت داعم من أوِّل ما دخلتي الكلية لحدِّ دلوقتي، بس دلوقتي خلاص مبقاش ينفع نطاطي..
أغمضت عينيها محاولةً الضغطَ على أعصابها حتى لا تصرخَ بوجهه، ظلت تستمعُ إلى كلماتهِ أو بمعنى أصح قسوة سجنهِ إلى أن انتهى..
رفعت عينيها أخيرًا إليه وأخرجت حروفها متقطِّعةً مثل حالِ قلبها الذي انشطر:
-أنا مش مسجونة قدامك ياحضرةِ الظابط، علشان تكلِّمني بالطريقة دي، وزي ما سمعت كلامك لازم تسمعني..
-مالكيش كلام عندي..
اشتعلت حدقتيه كجمرات ملتهبة، حاول تمالك اعصابه، ولكنه كان كالذي يقف فوق تل من النيران، ليقترب منها
-الكلام دا تبليه وتشربي ميته، مالكيش رأي بعد رأيي واحمدي ربنا اني لسة هتقبلك في حياتي بعد بلاويكي
اخترقت كلماته صدرها كالرمح المشتعل، فسحبت نفسًا قويًا لتثبط نوبة بكاء أوشكت على الانفجار واردفت بهدوء رغم الضجيج الذي يحاوط دواخلها
-وأنا مش موافقة..
-مش مهم توافقي أو ترفضي، رأيك مايهمنيش
هبَّت فريدة من مكانها تطالعهُ بذهولٍ وتمتمت بعتاب:
-لا واللهِ ودا قانون مين؟..
قانوني..قالها وهو يضعُ سلاحهِ على الكومدينو، ثمَّ رمقَ ميرال بنظرةٍ سريعة:
-قربت لك المسافة يامدام، علشان ماتجريش عليه زيِّ الطفلة..
تنهَّدت فريدة مستديرةً إليه:
-هوَّ إنتَ يابني جايب القسوة دي منين، مش معقول تكون ابنِ جمال.
-ومين قالِّك أنا ابنِ جمال..قالها بدخولِ مصطفى وتوقُّفهِ على بابِ الغرفة، أشارت إليه:
-مصطفى خد الواد دا من قدامي..
-واد وياخدني، ليه عايز الرضعة،
إيه يامدام فريدة تغلطوا الغلط وتلبسوهالي، ولَّا بتسبقيني علشان معقبكوش على اللي عملتوه إنتِ وباربي هانم..
تعاقبني، لدرجة دي ياإلياس عايز تعاقب أمَّك؟!..
دنا منها وانفجرَ بكلماتهِ التي حاول كبتها:
-منتظرة منِّي إيه، أنا دخلت لقيت مراتي بطنها مفتوحة يامدام وهي حامل وباعتة تقولِّي بلاش توصَّلني أذلَّك، اتَّجهَ ببصرهِ إلى ميرال وجزَّ على أسنانه:
-عايز أعرف المدام هتذلِّني إزاي، دنا ونسي ما تشعرُ به وانحنى بجسدهِ يحرقها بنظراتهِ، وكبريائه اللعين يحرقه من كلماتها التي ذبحت رجولته، كيف يصمد أمام ذلك حتى لو كان كان عشقها موشوم بوريده، لابد أن يدعس على ذاك النبض حتى لا يفقد كبريائه ورجولته، فهدرَ بصوتٍ اهتزَّت له جدرانَ المنزل:
-ياله يامدام عايز أعرف هتذلِّيني وتكسريني إزاي، هوَّ فيه أكتر من واحد زبالة يصوَّرك وهوَّ بيحرَّك إيده على جسمك ويقهرني، أنا اتذلِّيت بيكي يامدام وأنا عاجز ومش عارف أوصلِّك ودماغي هتنفجر من العجز..
وضعَ كفَّيهِ على عنقها يقرِّبها إليه يهمسُ إليها بهسيسٍ مرعبٍ، عندما اشتعلَ فتيلُ غضبهِ ليحرقَ قلبه:
-فيه اكتر من كدا ذل ومراتي تحت إيد واحد ***
أبعدتهُ فريدة تدفعهُ بغضبٍ بعيدًا عنها بعدما ازدادَ بكاؤها، وصرخت باسمِ زوجها:
-مصطفى ..قالتها وهي تطالعُ ميرال بعيونٍ حزينة:
-برضو هتقولي مصطفى، مصطفى دا يجي علشان ياخدك من أوضتي مش علشان ياخدني ياماما، حياتنا الخاصة محدش يدَّخل فيها، وياريت حضرتك تسبيني مع مراتي شوية..
توسَّعت عيناها بذهولٍ متمتمة:
-للدرجة دي ياإلياس!..التفتَ إليها:
-لدرجة إيه يامدام فريدة، حضرتك لغيتي وجودنا وجريتي ورا تهديد واحد جبان بيستخبَّى ورا الستات، خايفة منُّه ليه؟..مش لمَّا يكون راجل نعملِّه حساب..
نيرانٌ فقط لا يشعرُ سوى بنيرانٍ تسري بجسدهِ وهو يتخيَّلُ وجودهما بين قبضته، ضغطَ بقوَّةٍ على الكوبِ الموضوعِ بقربهِ حتى تهشَّمَ بكفِّه، وصرخَ بصوتٍ جهوري:
- مش عايز أسمع صوت، متبقوش غلطانين وتيجوا توقفوا قدامي وتقولوا أعمل إيه، المدام سمعت شروطي ودا لو عايزة نكمِّل مع بعض..
-وأنا مش عايزة أكمِّل معاك يابنِ عمِّي.
اتَّسعت ابتسامته، ورغم أنَّ كلماتها أصابتهُ كسهمٍ مسموم، إلَّا أنَّهُ هزَّ رأسهِ مردفًا:
-حاضر، بس مترجعيش تعيَّطي، أنا هكون معاكي راجل لصلةِ الدم وعلشان الستِّ دي مش أكتر، إنَّما إنتِ متهمِّنيش، مببكيش على الستِّ اللي تحاول تدوس على رجولتي، قالها وتحرَّكَ يصفعُ البابَ خلفه.
رفعت عينيها التي امتلأت بالدموعِ إلى فريدة:
-عجبك كلامه، شوفتي بيقول إيه..
ضمَّتها لأحضانها ولم تجبها، ولكنَّها تنهَّدت بألمٍ تشعرُ بثقلٍ يطبقُ على صدرها، ظلت تربتُ على ظهرها إلى أن غفت بأحضانها.
عند يزن:
خرجَ من الورشةِ يرتدي نظارتهِ الشمسية، وتوقَّفَ أمام صاحبِ الورشة:
-شوف حضرتك عايز تعمل إيه ياعمُّو وأنا معاك، بس فكَّر في الفكرة اللي قولت عليها، نكبَّر الورشة دي، ونشتري المخزن اللي جنبك ونعمله أجنس كبير..
أومأ الرجلُ برأسه،
-هفكر يابني بس الموضوع هيكلف يايزن
-على قد مايكلف ياعمو بس هيجزي بعد كدا، فكر ورد عليا ..قالها ثمَّ اتَّجهَ إلى دراجتهِ البخاريةِ وتحرَّكَ متَّجهًا إلى الشركة، وصلَ بعد قليلٍ إلى مكتبِ رحيل، دفعَ البابَ ودلفَ وجدها تجلسُ مع أحدِ المهندسين، ألقى السلام واتَّجهَ إلى المقعدِ وجلس منتظرًا انتهاءها، توقَّفت تنهي حديثها قائلة:
-نكمِّل في وقتِ تاني ياباش مهندس، ثمَّ اتَّجهت إلى جلوسِ يزن:
-أهلًا بحضرتك ياباشمهندس، أخرجَ جوازَ سفرها وألقاهُ أمامها:
-جواز سفرك جدَّدته واجهزي علشان هنسافر بكرة، باباكي هيسافر النهاردة بالليل..
اتَّقدَ الغضبُ كالنيرانِ التي تشتعلُ تحت مرجلٍ ليغلي صدرها مثل مياههِ وهدرت:
-ومين اللي أمر بكدا؟. تراجعَ بجسدهِ للخلفِ والتقطَ غضبها وصوتها المرتفع بهدوئهِ الباردِ وهو ينقرُ فوق المكتب:
-مابحبش أعيد كلامي، بلاش تخلِّيني أوصل لمنعك من السفر، نهضَ من مكانهِ وعينيهِ تحاورها قائلًا:
-هستناكي بالليل في بيتنا، أحست بارتفاع ضغط دمها، فتوقَّفت بمقابلتهِ معقِّبةً على حديثهِ قائلة:
-يزن أنا مش معترفة بجوازنا، ودلوقتي طلَّقني، دا لو اتجوِّزتني علشان تنقذني زي مابتقول، أنا دلوقتي متنازلة عن المساعدة..قالتها بمرارةٍ استشعرها بنبرتها، استدارَ إلى مكانها وحجزها بين ذراعهِ والجدار، وطافَ بعينيهِ على ملامحها البريئة:
-ومين قال أنا بساعدك، مش يمكن كنت بستغلِّك يارحيل؟..كتمت صرخة مهتاجة جاشت بصدرها، ورمقته بملامح مضجرة قائلة:
-يمكن!! يعني مش حقيقي.
-رحيل ممكن تسمعيني..
-لأ مش عايزة أسمع حاجة، واتفضَّل أنا عندي شغل، انحنى يهمسُ لها:
-قعدتك مع الباشمهندس دا لوحدكم مش مقبول، اتَّسعت حدقتها بالغضب، تدفعهُ بعيدًا عنها..أمسكَ كفَّها ووضعهُ على صدرهِ ليرتجفَ جسدها بالكامل، هربت الحروفُ من بين شفتيها، تطالعه بعيونًا ممزوجة بخط من الدموع، شعرَ برجفةِ جسدها فاقتربَ منها حتى اختلطت أنفاسهما:
-رحيل لازم تسمعيني، أنا مش وحش زي ما بتقولي.. كانت نبرته لينة ورغم ذلك شعرت بها بنيران انتقامية، فدفعتهُ بقوةٍ وابتعدت عنه تلفظ الهواء المكبوت بداخل صدرها وردت:
-ميهمنيش أعرف حاجة، اللي يهمِّني ورقة طلاقي وإنَّك تبعد عني..
شعر بثقل كلماته، ورغم ذلك بدا تصميمه جلي بعينيه، ليسحب نفسًا و
تنهَّدَ قليلًا، محاولًَا التماسكَ وكأنَّهُ مجبورًا على أن يصبرَ عليها، اقتربَ وعينيهِ تعلَّقت بها يخبرها:
-انا مضحكتش عليكي أنا اتجوِّزتك علشان أحميكي فعلًا، وكمان علشان فيه حاجة هتعرفيها بعدين..
تسمَّرت بمكانها وشيَّعتهُ بنظرةٍ أشبه بنيرانها التي تحرقُ صدرها ثمَّ تمتمت:
-لو كنت صريح معايا من الأوَّل يمكن كنت أدلتك عذر، بس دلوقتي للأسف إنتَ قدامي انتهازي واستغلالي، وانتقامي بشع ياباشمهندس، ولو سمحت حرَّرني أنا مش محتاجاك..
-تمام يارحيل، نرجع من السفر وبعدها أطلَّقك.
-سفر!! وانتَ تسافر معايا بصفتك إيه إن شاءالله؟..
-جوزك..عقدت ذراعيها وردَّت بغضب:
-وأنا مش معترفة بيك زوج هترضاها على نفسك..
اغتاظَ من قسوةِ كلماتها ورغم ذلك رسمَ ابتسامةً باردةً وحاول الثبات هاتفًا:
-لمَّا ترجعي يارحيل، مقدرشِ أسيبك في فمِّ الديب، ارجعي وبعدين نتكلِّم..
استندَ بكفِّهِ على المكتبِ وغرزَ عينيهِ بمقلتيها:
-متفكريش هموت عليكي، أنا اتجوِّزتك علشان شوفتك ست ومحتاجة حماية، وعندي سببي الخاص، أكيد هتعرفيه بس في وقته إن شاءالله..قالها واستدارَ إلى البابِ قائلًا وهو يواليها ظهره:
-خلِّيهم يجهزولي مكتب علشان بقيت شريك 20٪من الاسهم، توقَّفَ والتفتَ برأسه:
-مفيش اجتماع للشركة من غير علمي، روحي اطَّمني على مالك بيه وبعدين لينا كلام غير دا خالص..
بإحدى القاعاتِ التي تحضرُ بها إيمان دروسها، خرجت متَّجهةً لأحدِ الوسائلِ المشهورةِ بذاك المكانِ ويُعرف بالتوكتوك..أشارت إليه ليتوقَّف، ولكن وقعَ بصرها على كريم، خطا إلى وقوفها يشيرُ لصاحبِ التوكتوك:
-شكرًا يابني، الأستاذة عندها درس تاني..تهكَّمَ الولدُ وهو يوزِّعُ نظراتهِ عليهما بسخرية:
-وياترى درس أخلاقي ولَّا ثقافي ياأخينا، بقولِّك ياحلوة أنا بدِّي دروس ثقافية إنما إيه مدروسة بدقة، ماتسيبك منُّه وتعالي أنا أدِّيكي الدروس واحدة واحدة..غلت أوردتهِ فاقتربَ منهُ وجذبهُ يخرجهُ ليلطمهُ على وجهه، صرخت إيمان باسمه:
-خلاص ياكريم، كريم ..ظلت تصرخُ ولكنَّهُ فقدَ سيطرتهِ واشتعلت عيناهُ بالغضبِ وهو يلكمهُ حتى تجمَّعَ بعض الشبابِ للخلاصِ بينهما ..حملت حقيبتها بعدما ابتعدَ عنه، وركضت بعيدًا عن الجمع، والكلّ يرمقونها بنظرةٍ اتهاميةٍ ساخطة، ركضت مسرعةً بخطواتها وانسابت عبراتها، هرولَ خلفها يصيحُ باسمها إلى أن وصلَ إليها يجذبها من ذراعها، رفعت يديها تشيرُ إليه بالابتعادِ ونطقت بنبرةٍ منزعجة:
-ابعد إيدك يادكتور، إيه شغل البلطجية دا، أومال لو مش حضرتك دكتور، كنت عملت إيه، خرَّجت مطوة وشوَّهت الولد..
قالتها واستدارت من أمامه، إلى أن هتفَ قائلًا:
-كنتي منتظرة منِّي إيه، إنتِ مش شوفتي كلامه..التفتت تحدقهُ بنظراتٍ جامدةٍ وردَّت بنبرةٍ حادةٍ قائلة:
-هوَّ قال إيه مش حقيقة، إنتَ مشفتش الناس بتبصِّ عليَّا إزاي، فكَّروكوا بتتخانقوا عليَّا، ليه تحطُّني في موقف زي دا..لا إنتَ ولا هوَّ تهمُّوني، أنا بفكَّر بنظراتِ الناس والمستر ليا هيفكَّرني بنت منفلتة، محدِّش يعرف إنَّك صديق أخويا، واللي هيعرف هيفكَّر فيه علاقة بينا..
اقتربَ مزمجرًا كأسدٍ يريدُ أن ينقضَّ على فريسته، وجذبَ رسغها بعنف:
-بت أنا اتحمِّلت لسانك مافيه الكفاية، غير دفعت من أعصابي علشان آخد الإذن من أخوكي البارد أقعد معاكي نصِّ ساعة، وضيَّعتي النصِّ ساعة في تفاهات، دا عيِّل زبالة ومفكَّرنا مقضينها..
تغضَّنَ وجهها بعبوسٍ تطالعهُ بعيونٍ مستفهمة، أنا معرفش حضرتك بتتكلِّم عن إيه، بس اللي فهمته إنَّك عايز تقعد معايا وأنا مش موافقة، مستحيل أقعد معاك برَّة بيتنا، وكمان من غير مايزن يعرف.
ثارت جيوشُ غضبه، حتى نفرت عروقهِ ليكوِّرَ قبضتهِ بعنف، يشيرُ على سيارتهِ وهو يسحبها من كتفها متَّجهًا إلى السيارة:
-عدِّي الطريق معايا بدل ماأرميكي قدام العربية وأرتاح منِّك، توقَّفت تنظرُ لكفِّهِ المتشبثَ بذراعها ونزعتهُ بقوة:
-إنتَ صاحب أخويا أه، بس دا ميدكشِ الحق إنَّك تقرَّب منِّي كدا ولا تمسكني بالطريقة دي.
-إيماااان..قالها من بين أسنانهِ واقتربُ يخطفُ كفَّها الصغير بين كفِّه الكبير ويسحبها إلى سيارته..
-وآدي اللي يحبِّ عيِّلة، يستاهل اللي يجرى له..لم تستمع إلى مايقوله، كلَّ ماشعرت به دفءَ كفِّهِ وكأنَّهُ يحتويها بين أحضانهِ وليس بين كفَّيه، التفتت تنظرُ إلى وجههِ القريبَ منها، كان ينظرُ إلى حركةِ السياراتِ السريعةِ ليعبروا الطريقَ للجهةِ الأخرى، لا تعلمَ ماهذا الشعورُ الذي طغى عليها حتى جعل
جعلَ قلبها مضخَّةً عنيفة، حينما التفتَ إليها قائلًا:
-عدِّي بسرعة، قالها وعانقَ ذراعها ليتحرَّكَ بها سريعًا الى أن وصلَ الجهةَ الأخرى، كلَّ هذا ولم تشعر بما يدورُ حولها سوى من مسكةِ يديه..تركها بعدما وصلَ إلى سيارتهِ يشيرُ إليها:
-اركبي فيه كلمتين هقولهم وهوصَّلك للبيت أنا مستأذن من يزن ياإيمان، مش معقول هجي لك هنا وأقابلك من غير ماصاحبي يعرف.
-عايزني ليه يادكتور..فتحَ بابَ السيارةِ يشيرُ إليها:
-ماهو لمَّا تركبي هتعرفي..نظرت إليه ثمَّ إلى السيارةِ، فهمَ ماتفكِّرُ فيه فأردف:
-خايفة منِّي ولا شاكة فيا..هزَّت رأسها رافضةً كلماته، ثمَّ تمتمت:
-الموضوع مش كدا..لازم أكلِّم أبيه يزن أولًا، ثانيًا متعوِّدتش أركب مع حدِّ غريب..
اقتربَ منها وتوقَّفَ على بُعدِ مسافةٍ ليست بالقليلة، وردَّدَ وهو يستندُ على السيارة:
-أنا مش زي أيِّ حد، دا أولًا ، ثانيًا اتصلي بيزن مع إنِّي كلِّمته قبل ما آجي لك..
بفيلا إسحاق:
ظلت أحلام تدورُ بالمنزلِ كالمجنونة، تردِّد:
-مستحيل أخلِّي بنتِ بياع الخضار تجيب حفيدي، أنا حفيدي يكون أمه بتاعة خضار، ظلت تدورُ في الغرف، تشيرُ لرجالها:
-تجبوها من تحتِ الأرض، البنت دي لازم تكون تحتِ رجلي حالًا قبل ماإسحاق يعرف لعبتنا، نزلت إلى الحديقة تدورُ بعينيها في المكانِ إلى أن وقعت عيناها على الملحقِ المجاورِ لحارسِ الفيلا، فهمت من نظراتهِ أنَّها تختبئُ هناك، هرولت تنادي على أحدِ الرجالِ متَّجهةً إليهما، توقَّفَ الرجل أمامها:
-رايحة فين يا هانم، بنتي تعبانة ونايمة، لو سمحتي بلاش تخوِّفيها، نظرت للرجلِ الذي دفعهُ بقوةٍ حتى سقطَ على الارضِ ثمَّ أشارت على الباب:
-اكسروا الباب..أطلقَ الرجلُ طلقةً واحدةً لينفتحَ البابَ بوصولِ إسحاق يقتحمُ البوابةَ بسيارتهِ المصفحة، ليخرجَ سلاحهِ من النافذةِ ويطلقَ على من يحاوطها، بلحظاتٍ وهو يدورُ بالسيارةِ إلى أن تخلَّصَ منهم جميعًا، ثمَّ ترجَّلَ من السيارةِ بخروجِ دينا تحتضنُ أحشاءها، وتردِّدُ اسمهِ ببكاءٍ لتهوى على الأرضِ مغشيًا عليه، هرولَ إليها يحملها بين ذراعيه، لتستغلَّ أحلام انشغالهِ بها، فركضت إلى سيارتها وغادرت المكانَ سريعًا، رفعَ نظرهِ إلى سيارتها التي غادرت البوابة ، ثمَّ انحنى يضعُ زوجتهِ بالسيارةِ وهو يهاتفُ أحدهم:
-العربية رقم (. )تراقبها من غير ماتحس، شوفها هتوقف فين..
عند أرسلان:
دلفَ للداخلِ متَّجهًا لعملِ التحاليلِ اللازمةِ لأخذِ الدماء، انتهى بعد قليل، وخرجَ بوصولِ إلياس يربتُ على كتفه:
-حمدَ الله على سلامة باباك، أومأ له دون حديثٍ وجلسَ على المقعد، جلس بجوارهِ متسائلًا:
-مش فاهم إزاي خرج ويدخل عمليات تاني، أغمضَ عينيهِ قائلًا:
-بابا عنده لوكيميا، الدكتور لسة معرَّفني دلوقتي لمَّا سألته السؤال دا، وعملت تحاليل علشان نشوف تطابق الأنسجة، بس بيقولي هتتأجِّل أسبوع، لازم يفوق الأوَّل من الغيبوبة، وبعد كدا نشوف موضوع المرض..
-إن شاء الله هيفوق ويكون كويس، من رأيي تسافر بيه برَّة، هنا العناية مش قد كدا..
هزَّ رأسهِ بالرفضِ مردِّدًا:
-مينفعشِ إنتَ ناسي عمُّو وشغله، رفعَ عينيهِ إليهِ وهمسَ بصوتٍ خافت:
-عمِّو اتكشف دلوقتي، بعد ماخلصنا من الكلاب، وطبعًا العين كلَّها وقعت عليه، ومينفعشِ أخاطر ونسافر برة مصر،
-أممم، علشان كدا كان مبيِّن أنُّه عقيد بالشرطة..
مسحَ على وجههِ وزفرةً حارةً أخرجها يتلفَّتُ حولهِ ينظرُ إلى أختهِ ووالدتهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ الى إلياس:
-نسيت أسألك مدام ميرال عاملة إيه والبيبي؟..
-الحمدُ لله كويسين.
-ربنا يحفظهم لك..أومأ له قائلًا:
-متشكِّر، المهم لو احتجت حاجة يبقى كلِّمني، أنا لازم أمشي عندي شغل مهم..
توقَّفَ متحرِّكًا معهُ إلى خارجِ المشفى حتى وصلَ إلى سيارته:
-هتعمل إيه مع راجح؟..فتحَ باب سيارتهِ وارتدى نظارتهِ ينظرُ إليه:
-ولا حاجة، أخلَّص قضيتي وأفضى له..
اقتربَ منه متسائلًا:
-إنتَ هتستقيل فعلًا، عرفت إنَّك مقدَّم استقالة، وكمان أنا معرفشِ إيه الموضوع كلِّ ماآجي أسألك أنسى..
أشارَ إلى المشفى وردَّ عليه:
-ادخل لوالدتك وأختك، متسبهمش لوحدهم، وإن شاءالله الدنيا تتحسَّن ونتكلِّم، لو احتاجت حاجة أكيد هتكلِّمني مش كدا؟..
ابتسمَ يومئُ له:
-أكيد هكلِّمك، مش علشان إنتَ جدع، لا علشان معنديش غيرك..
أفلتَ ضحكةً رجوليةً يهزُّ رأسهِ ثمَّ صعدَ إلى سيارته...
بشقةِ رؤى على طاولةِ الطعامِ تقلِّبُ بطعامها، رمقتها رؤى قائلة:
-بتلعبي في الأكلِ ليه يالينو؟..حبيبتي لو مش جعانة نامي شوية ولمَّا تقومي كلي..رفعت عينيها وتنهَّدت قائلة:
-مش عارفة، بس ماليش نفس للأكلِ ولا للنوم، صمتت ثمَّ هتفت:
-إنتِ هتخرجي إمتى؟..ابتلعت طعامها مجيبة:
-نصِّ ساعة كدا، مش عايزة أروح وإلياس هناك علشان ميرال متزعلش..
مطَّت شفتيها للأمام ثمَّ ابتسمت ساخرة:
-لا كتَّر خيرك والله، تعرفي أنا لو منها كنت موِّتك من غير مايرفلي جفن..
رفعت رؤى حاجبها ساخرة:
-ليه إن شاءالله، ماهي عارفة ومتأكدة إن إلياس أخويا وبس، وعارفة طبيعة العلاقة بينا، غير أنَّها كانت تعرف علاقتي بسيف..
اقتربت بجسدها مستندةً على طاولةِ الطعام:
-يابت حرام عليكي، دا إنتِ كنتي هتتجوِّزي جوزها،أنا معرفشِ إزاي ليكي عين تروحي هناك.
وضعت شوكتها ورفعت عينيها التي حجبت الدموعُ رؤيتها:
-أنا عمري ماكنت هعامل إلياس كزوج أبدًا، وهوَّ اتفق معايا على كدا، كان عايز يكتب عليَّا بعد مالحيوان سيف ضحك عليَّا بالجوازِ العرفي، انسابت دموعها وأكملت حديثها بصوتٍ باكي:
-اليتم وحش أوي ياإيلين، أنا ماليش حدِّ غيرهم، عارفة أنها زعلانة، وعارفة اني غلطت، بس هوَّ كان عايز يداويني علشان بعد كدا لمَّا أتجوِّز. ماهو مش هفضل طول حياتي كدا، وكمان كان عايز يفوَّق مراته، إلياس بيحبِّ ميرال أوي، مستحيل يشوف غيرها حتى لو مش بيعترف بدا، بس أنا متأكدة أنُّه بيحبَّها يمكن أكتر من أيِّ حاجة في الدنيا، ولو حطونا إحنا الاتنين هيدوس عليَّا علشانها، بدليل بعد الموضوع وفكرة انتحارها وقتها مافتحشِ الموضوع تاني..
-أيوة يارؤى أيِّ حدِّ مكانه هيعمل كدا، وبعدين هوَّ جاب لك ورقة من زفت سيف عقد جواز، ووثَّقه في الشهرِ العقاري وكمان ورقة طلاق، ليه كنتي عايزة جوازك من إلياس؟..
تنهَّدت بقلةِ حيلة وامتلأت عيناها بدموعِ الألمِ وردَّت قائلة:
-انا لسة على علاقة بيه علشان عايزة الحماية ياإيلين، نفسي أحس إنِّ ليا عيلة وأهل، واللهِ إلياس أخويا وعمري ما فكَّرت فيه غير كدا.
-طيب ماهوَّ بيحميكي ومحدش بيقرَّب منك، بلاش تدخلي حياته يارؤى لو سمحتي، إلياس على كلامك شخص كويس، بلاش تهدِّي حياته.
جحظت عيناها تشيرُ على نفسها بذهول:
-أنا أهدِّ حياة إلياس..لا طبعًا، أنا بس كنت عايزة لمِّة العيلة وبس.
زفرت إيلين بغضبٍ ونهرتها بحدة:
-ولمِّة العيلة دي هتكون إزاي يارؤى، حبيبتي دا واحد بيحبِّ مراته، وفكرة جوازه منِّك كانت للسترة وبس، وخلاص شاف ورقة الجواز والطلاق حلك، يبقى ليه نخرب حياته، مفيش مشاعر يارؤى حتى لو أخوية، حطِّي مليون خط، متعرفيش كسرةِ الستِّ بتكون إزاي من مجرد أنَّها تعرف إن جوزها فكَّر في غيرها..
تجمَّدَ جسدها تهزُّ رأسها بعنف:
-لا أبدًا أنا مستحيل أعمل كدا ياإيلين، مستحيل أهدم حياته، ولولا معرفتي بخلافه مع ميرال وكان عايز يفوَّقها، مكنتش وافقت عليه، معنى كلامي دلوقتي مش ارتباط بيه أبدًا..أنا قصدي بحبِّ أروح لهم علشان جوِّ العيلة مش علشان حاجة تانية.
اقتربت تربتُ على كتفها:
-حبيبتي متزعليش منِّي، خفت تكوني لسة حابَّة فكرة جوازه منِّك.
نكست رأسها بأسفٍ وتمتمت:
-يبقى متعرفيش مين هيَّ رؤى ياإيلين..
تأمَّلت حزنها البادي على وجهها ثمَّ حمحمت متسائلة:
-قوليلي إيه سر قرابته منِّك، يعني إزاي بقى مسؤول عنَّك؟..
استندت على كفِّها وبدأت تتلاعبُ بطعامها وهي تخبرها:
-كنت في ملجأ والدته، اتربيت وكبرت فيه، عمُّو مصطفى اتولَّى تعليمي علشان كنت كويسة، رفض أكون لوحدي دايمًا كنت تحت رعايته، قالي مش هسيبك ولازم تكمِّلي تعليمك وأراعيكي ومش هسيبك للدنيا تلطَّش فيكي، في الوقتِ دا طنط فريدة عملت مشغل في الدار وبدأت تعلِّم فيه البنات الصغيَّرين واللي في سنِّي، أنا كنت هاوية أوي الحاجات دي، اعتمدت عليَّا في حاجات كتيرة، لحدِّ في مرَّة كنَّا عاملين حفلة في الدار، والكلِّ حضرها ومنهم إلياس وإسلام، كنت شوفته كذا مرة بيجيب ميرال وغادة عندنا الدار في أيامِ الإجازة، وكان بيلعب مع الأطفال الصغيرة، فغزلت له سكارف، ولمَّا جه الحفلة قدَّمتها له هدية، كان فرحان بيها، ابتسم وقتها وشكرني،
بعدها بأسبوع لقيت عمُّو مصطفى بيقولي إلياس أخد لك بيت إنتِ وصاحبتك يارؤى..علشان تعرفوا تذاكروا كويس وتعتمدوا على نفسكم، وهوَّ هيوفرلكم الحماية لحدِّ مايطَّمن عليكم، مرِّت سنين وهوَّ الصراحة مقصرشِ معانا، لحدِّ ما صاحبتي في يوم عملت حادثة وماتت وبقيت أنا وحيدة في البيت دا، جبلي شغَّالة ودادة وكان بيجيب غادة وميرال عندي وأنا بروح في إجازتي هناك، لحدِّ ما بقيت أشاركه في كلِّ حاجة، كان عنده أمل فيا أدخل طب، بس محصلشِ نصيب، رغم كدا دعمني وفضل معايا، حتى لمَّا تعبت وعملت عملية واحتجت دم هوَّ اتبرع لي..يوميها قالي علشان نبقى إخوة في الدم، أنا كنت عارفة أنُّه يقصد إنِّي مفكرشِ في العلاقة اللي بينا غير كدا وبس.
ابتسامةٌ لاحت على وجهها متذكِّرةً ذلك اليوم، أوَّلُ يوم ليا في الجامعة وصَّلني.. كان أوَّل يوم برضو لميرال في الشغل، نزلها قدَّام الجريدة وقالَّها متخرجيش غير لمَّا أعدِّي عليكي، وقتها هي َّردِّت عليه وقالت له أنا مش لسة طفلة وهتعمل فيها الوصي، أنا هرجع بعربيتي..أفلتت رؤى ضحكةً تنظرُ إلى إيلين وتابعت حديثها:
-لو تشوفيه وقتها لو كان طالها كان خنقها، بصِّ لها بس كدا، شاور بإيده:
-ادخلي بدل ماألغي الشغل خالص..ارتفعت ضحكاتُ رؤى متراجعةً على المقعد:
-كانوا عاملين زي توم وجيري، عمري مااتوقعت أنُّهم بيحبوا بعض من كترِ خناقاتهم لما يتلمُّوا على بعض، أنا فاكرة في عيد ميلاد غادة في مرَّة، مسكها تهزيئ قدام الكل وعمُّو مصطفى حاول يوقَّفه، ودا زي مايكون كان منتظر لها على غلطة، اقتربت من إيلين وأكملت متسائلة:
-عارفة ليه..علشان دخل لاقاها بترقص وكانت لابسة جيب قصير، لو سمعتيه اليوم دا ياإيلين تقولي دا عدو مش حبيب أبدًا..
-غبية يارؤى..نطقت بها إيلين وهي تدورُ بالكوبِ بين يديها، ثمَّ استرسلت:
-دا حب مش عدواة، غيرة بجنون، هزَّت رؤى رأسها موافقتها الرأي:
-فعلا مفهمتش دا غير لمَّا جيت في مرة اعترفت له بحبِّي..
توسَّعت أعين إيلين تضعُ كفَّها على فاهها:
-أكيد بتهزَّري!..هزَّت كتفها للأعلى والأسفل مجيبة:
-لا والله لقيت نفسي في مرَّة واحدة بقولُّه أنا بحبَّك أوي، أنا فاكرة نظرته ليا اليوم دا وردُّه كويس، يومها سكت وفضل بصصلي..أنا قولت بيني وبين نفسي دا هيضربني بس وقتها رد بمنتهى البرود وأنا بحبِّك، فرحت أوي وبعدين كمِّل وقالي زيك زي غادة، غير كدا هرميكي في النيل..
ضحكت إيلين بصوتٍ مرتفع:
-الله يخربيتك، واللهِ تستاهلي يابنتي، ماهو قالك قبلِ كدا إخوة في الدم.
ابتسمت رؤى وأردفت:
-كان عجبني أوي وقتها، عيِّلة بقى تقولي إيه، المشكلة أنُّه عاملني بعدها ولا كأنِّي قولت له حاجة، بالعكس قرَّب مني أكتر، وبدأ يراقب كلِّ تحرُّكاتي وخنقني في كلِّ حاجة، فكَّرته بيعاقبني بس اتضح لي حاجة تانية..صمتت للحظاتٍ وذهبت بشرودٍ لذلك اليوم..
فلاش:
دلفت إلى مكتبهِ وجدتهُ جالسًا على الأريكةِ يحاوطُ غادة بين ذراعيه، أشارَ إليها بالدخول، دلفت بعدما أشارَ إليها:
-تعالي يارؤى، قالها مع خروج غادة، رفع عيناه إليها
- هتروحي مع غادة لطنط فريدة في الدار عايزاكي، وشوفيها عايزة منِّك إيه وتعالي قوليلي..
بعد فترةٍ عادت إليه:
-طلبت أعمل تحليل وخلِّت الممرضة تاخد منِّي عينة دم، حتى ميرال كانت هناك وعملت نفس الشيئ..
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-تحليل!..طيب وغادة عملت نفسِ التحليل، هزَّت رأسها بالنفي وأجابته:
-لا أنا وميرال..تنهَّدت تنظرُ إلى إيلين مرةً أخرى:
-بعد كدا عرفت التحليل دا DNA
إيه يعني إيه؟..هكذا تسائلت بها ايلين..
هزَّت رأسها بعدمِ معرفة، وتابعت حديثها:
-معرفشِ دا عرفته من فترة بسيطة، لمَّا روحت الدار وشوفت الظرف في مكتب ماما فريدة، مضحكشِ عليكي أنا روحت هناك علشان أعرف، من وقتها الدنيا انقلبت عرضِ الجواز وخطف ميرال وماما فريدة وواحد بيتكلِّموا عليه اسمه راجح الشافعي، ودلوقتي منعني من الخروج من البيت زي ماإنتِ شايفة..
-إنتِ بتقولي راجح الشافعي!..تقصدي مين عمُّو راجح جوز خالتو رانيا؟!..
-أيوة مراته اسمها رانيا إنتي تعرفيها؟..
-إنتِ بتقولي إيه، الستِّ اللي اسمها فريدة دي اسمها فريدة إيه؟..
بعد عدَّةِ أيام:
بفيلا السيوفي والوضعُ كما هو، نهضت ذات صباحٍ واتَّجهت إلى غرفته، طرقت بابَ الغرفةِ ودلفت للداخلِ تبحثُ عنه، وجدتهُ مازال نائمًا، نظرت للساعةِ وتذكَّرت اليومَ إجازته، التفَّت للمغادرةِ من الغرفةِ إلَّا أنَّها توقَّفت على صوته:
-ميرال..التفتت إليهِ واقتربت بعدما اعتدلَ على الفراش:
-أنا هسيب الفيلا، هروح أقعد في البيت اللي اشتريته ودا بيتك يعني يخصَّك، وعلشان مترجعشِ تقولِّي حامل في ابني، شغلي وهكمِّله، لحدِّ ماأولد وقتها يبقى نشوف حياتنا هتكون إزاي، ياأمَّا ننفصل ياأما نكمِّل بس بشروطي، دا شرطي الوحيد وإنتَ مالكشِ ترفض، ياأما ننفصل من دلوقتي..
مسحَ على وجههِ يستغفرُ ربهِ بسرِّهِ ثمَّ أشارَ بعينيهِ للباب:
-امشي من قدامي واستعيذي بالله من الشيطان الرجيم، أنا على أخري منك
اقتربت وجلست بجوارهِ على السرير، وتركتهُ حتى انتهى من حديثهِ اللاذعِ كما خُيَّلَ لها، رمقها بنظرةٍ جانبيةٍ ثمَّ أردف:
-ميرال أنا قولت اللي عندي ومتحاوليش تخرَّجي الوحش اللي جوايا، بلاش إنتِ..
دقيقةٌ من الصمتِ بينهما إلى أن توتَّرت من نظراتهِ إليها لتردفَ بنبرةٍ مهزوزة:
-أنا مش موافقة على اللي قولته، أنا مش تابع ليك ياإلياس حتى لو كنت مراتك، شايفة إنَّك راجل مستبِّد وقاسي وظالم في قراراتك، ممكن أكون صح وممكن أكون غلط، بس اللي متأكدة منه..صمتت ورفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ الجامدةِ ممَّا شعرت بنصلٍ باردٍ ينخرُ عظامها من تلك النظرةِ واستأنفت:
-مش كل حاجة بنتمنَّاها ممكن نقدر نحصل عليها، أنا مكنتش طالبة غير حنانك وحبَّك بس، لا طولت حنان ولا طولت حب.
-إيه اللي بتقوليه دا، هنرجع لكلامك التافه اللي وقت ماتغلطي تندبي بيه..،
انفجرت بركُ عينيها حتى خرجت شهقةٌ ارتجفَ على أثرها جسدها:
-أنا تعبانة ياإلياس عايزة أبعد عن كلِّ حاجة أوَّل حاجة لازم أبعد عنَّك، أنا مش سعيدة معاك، أو ممكن تقول قراراتك بتحسِّسني كمسجونة عندك،
أسبوع بتعاملني كأني مجرمة، حتى حملي مش شفعلي عندك
-وأنتِ مفكرة هسامحك علشان حامل، لا فوقي كدا، انتِ مش صغيرة، نهضت من مكانها وأجابته:
-انا مش صغيرة فعلًا، علشان كدا مش عايزة أكمِّل في الجوازة دي خلاص، الطلاق أحسن حل لينا، وإنتَ وعدتني قبلِ كدا وقت..قاطعَ حديثها عندما نفضَ غطائهِ قائلًا:
-إنتِ ناوية على موتك النهاردة يعني ولا ايه..بللت حلقها مستديرة إليه
-ليه، علشان بطالب بحقي، انت مغرور اوي ياإلياس، وغرورك مبين لك مقدرش اعيش من غيرك ..دنت وحاوطت جلوسه مقتربة من وجهه حتى اختلطت انفاسهما ونظرت بعيناه تريد أن تحرق كبريائه
-ممكن أكون حبيبتك حب متسهتلوش، أو أدتلك مكانة في قلبي اكبر ماتستحقها، ودلوقتي اكتشفت مكانتك الحقيقية
استقرت كلماتها بمنتصف قلبه، لتشعل نبضه مما جعله يقترب من وجهها وحاوط رأسها يقربها منه يضع جبينه فوق خاصتها
-قولي كمان ياميرال واحرقي، علشان مالقيش مية تطفي النار اللي بتشعليها بايدك
حاولت الثبات رغم أنفاسه الحارة التي ضربت وجهها لترفع عيناها تحدقه بنظرات باردة برود الثلج اكتسبتها من حديثه اللاذع
-هعيش من غيرك ياإلياس وهعمل ميرال الشافعي من غير اسمك، حاوطت بطنها ومازالت بين ذراعيه ثم استأنفت
-وهربي ابني وأخليه يفتخر بأمه اللي حضرتك كل شوية تهينها
بتر كلماتها يضغط على خصرها بانامله بقوة ويجذب خصلاتها يقربها إليه بعنف بيده الأخرى يهمس لها بفحيح اعمي، فلقد أشعلت جسده لتجعله كتلة نارية
-ابني مش هيخرج من بيت ابوه، ولو خرجتي بيه متلزمنيش
-شعري ياإلياس، سيب شعري
جذبها من عنقها بقوة لتقع بأحضانه ليحتضن ثغرها بقبلة عنيفة ادمت شفتيها ثم دفعها بقوة بعيدًا عنه ونهض متجهًا إلى الحمام :
-تمام ياريت مترجعيش تعيَّطي بعد كدا..التفتت إليهِ وردَّت بنبرةٍ هادئةٍ رغم ضجيجِ قلبها بعد قبلته:
-متخفشِ مش هعيَّط لك ولا حاجة، ولو جيت أعيط لك يبقى اعمل اللي إنتَ عايزه فيا، قالتها وتحرَّكت للخارج..
دفعت البابَ ودلفت غرفتها وسمحت لعبراتها بالانفجار، تلمس شفتيها ببكاء، كانت تتمنَّى أن يضمَّها ويطمئنَ روحها المعذَّبة، ولكن كأنَّ حياتهما سراب ولم يعد لديها بنية لتقويها..
بعد خروجها بدأ يدورُ بالغرفةِ كالأسدِ الحبيس يشعرُ وكأنَّهُ مطوَّقٌ بطوقٍ من النيران، اختناق وارتجاف لجميع جسدهِ مما جعلهُ فقدَ كلَّ حصونه، ليخرجَ متَّجهًا إليها، دفعَ بابَ غرفتها ودلفَ إليها وجدها جالسةً على الفراش،
انحنى إلى مستوى جلوسها وأردفَ بنبرةٍ غاضبةٍ وعينيهِ ترسلُ إليها نيرانًا مشتعلةً تريدُ إحراقها:
-مفيش خروج من البيت، عايزة انفصال مفيش غير لمَّا تولدي وآخد ابني وبعد كدا اعملي اللي إنتِ عايزاه قبل كدا لأ.
امتلأت عيناها بدموعِ الألمِ وهي تحدِّقُ بعينيهِ القريبة:
-لا هعمل اللي أنا عايزاه ياإلياس وعارفة إنَّك مش هتمنعني مش ضعف منَّك، بس علشان نفسيتي تعبت منك ياإلياس، قربك بقى يوجعني، وكلامك بقى بيدبحني، أكيد إنتَ مش الراجل اللي هتوافق إن مراتك تقعد معاك غصب عنَّك.
خنجرًا غرزتهُ بكبريائهِ ليعتدلَ بجسدٍ متصلِّبٍ يرمقها بنظرةٍ غامضة، ولم ينبس ببنتِ شفة، بل استدار وغادرَ الغرفةَ بالكامل..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ هبطت الخادمة للأسفلِ بحملِ حقيبتها الكبيرة، جالَ مصطفى بنظرهِ على الحقيبةِ متسائلًا:
-هوَّ أنتوا مسافرين ولَّا إيه؟..
رفعَ كوبَ قهوتهِ يرتشفُ منه، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى غادة:
-غادة هتنقلي مع المدام بيتي كام يوم ومش عايز أي مخاطرات، ومفيش دخول وخروج من غير علمي..قالها ونهضَ من مكانهِ بهبوطها من الدرج:
-مفيش خروج لأيِّ مكان من غير حماية، شغل اشتغلي براحتك، بس لو حصل لك حاجة مش مسؤول، حتى ابني اللي في بطنك مابقتشِ عايزه، التفتَ إلى فريدة التي خرجت من المطبخِ تحملُ أكواب عصيرهم توزِّعُ نظراتها عليهما فأشارَ إليها:
-بنتِ حضرتك لو خرجت من البيت متلزمنيش، اللي بينا دلوقتي ابني دا لو هيَّ ناوية تجيبه، حتى مبقاش يهمِّني تجيبه ولَّا لأ..
جذبَ أشيائهِ وتحرَّكَ للخارجِ باقترابِ فريدة المصدومة تحدِّقُ بميرال، وضعت الأكوابَ وتراجعت تنظرُ إليها:
-فيه إيه..إيه اللي حصل تاني؟!..
-مش عايزة أكمِّل ياماما، ودا حقي..
قبضت على ذراعها تهزُّها بعنف:
-يعني إيه مش عايزة تكمِّلي هوَّ لعب عيال دا جواز..
ثُقلت الحروف من بين شفتيها، فهزَّت كتفها للأعلى مرةً وللأسفلِ مرةً ثمَّ انحنت تحملُ حقيبةَ يدها وتحرَّكت للخارج..أوقفها مصطفى:
-هسيبك يومين تهدي فيهم وبعد كدا نتكلِّم..أومأت وتحرَّكت دون حديث..
أشارت فريدة على خروجها:
-إنتَ هتسبها تخرج يامصطفى، يعني راضي باللي تعمله!..
-اقعدي يافريدة، البنت مرِّت بظروف صعبة، وابنك ضاغط عليها، لازم البعد علشان كلِّ واحد يعرف يفكَّر كويس،
دارت حول نفسها بغضب، تهزُّ رأسها رافضةً مايحدث:
-لا البنت حامل، مستحيل أسيبها لوحدها، ومعرفشِ إلياس دا مش عايز يعقل خالص..
توقَّفَ واقتربَ منها وأردفَ بهدوء:
-أهو إنتِ قولتي إلياس ضاغط عليها، يعني نستنَّى لحدِّ ماتخسر الولد..
همهمت دون رضا:
-ولمَّا تبعد دا هيكون أحسن لهم؟..بالعكس البعدِ بيربي الجفا يامصطفى، وأنا مش هقدر أسيبها لوحدها.
أجفلَ من حديثها فتراجعَ إلى مقعده:
-اقعدي افطري يافريدة، وسيبي الولاد يبنوا حياتهم لنفسهم، ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ إلى غادة:
-حبيبتي يبقى روحي باتي مع مرات أخوكي، وخلِّي بالك منها، ولو أي حاجة حصلت عرَّفيني.. قاطع حديثهم وصول الخادمة
-مدام فريدة فيه واحد برة اسمه يزن السوهاجي عايز يقابل حضرتك
-يزن السوهاجي!! مين دا كمان
وصلت بعد قليلٍ إلى المنزل، وجدت الخدمَ ينتظرونها، هرولت إحدى الخادمات:
-أهلًا بحضرتك يامدام...قالتها وهي تحملُ حقيبتها..ابتسمت بعدما علمت أنَّهُ خلفَ وجودهم، تجوَّلت عيناها بالحديقةِ على كثرةِ الأمن بها، خطت بعض الخطواتِ وعيناها تتجوَّلُ بالمكانِ تهمسُ لنفسها:
-معقول لحق ظبَّط المكان في ساعتين، آه منك ياإلياس، نفسي اهتمامك دا يكون بقربك مش أوامرك.
وصلت إلى غرفتها دلفت إحداهن:
-أنا هنا لخدمة حضرتك يامدام، أيِّ حاجة تحتاجيها عرَّفيني، وكمان أيِّ مشوار خارج البيت هكون مرافقة لحضرتك..
دقَّقت النظرَ إليها ثمَّ اقتربت منها:
-أكيد شرطية، بدل مرافقة وشكلك بيقول إنِّك مش إنسانة عادية!..
-أنا برة قدَّام الباب، لو احتجتي حاجة قولي هناء بس وهكون قدَّامك خلال ثواني..بسطت كفَّها بأحدِ الأجهزة:
-دا تواصل هيكون بينا، كلِّ الخدم والشغَّالين الموجودين تحتِ إشرافي بعد إذنِ حضرتك طبعًا، ودلوقتي هسيب حضرتك ترتاحي، وياريت متتعبيش نفسك في أيِّ حاجة، فيه بنت هتطلع تظبَّط هدوم حضرتك.
-اطلعي برَّة..قالتها ميرال وهي تخلعُ حجابها..
-نعم! رفعت عينيها وأشارت إلى الباب
قولت برَّة إيه مابتفهميش، مش عايزة حدِّ يدخل أوضتي،برَّة..
نزعت ثيابها بغضب:
-دا عايز يجنِّني يعني هربانة من تحكُّماته بعتلي واحدة شبهه تخنقني، أووف، قالتها وهي تلقي ثيابها بإهمال، ثمَّ تمدَّدت فوق التخت، نصفها بالأعلى وساقيها بالأرض..استمعت إلى رنينِ الهاتف:
-أيوة...
-ميرال فيه مؤتمر مهمّ النهاردة هخرج أغَّطيه، وتابعيني بالأخبار، لازم نعمل لقاء صحفي يكسَّر الدنيا، انقلاب على رئيسِ الوزراء ورفضهم تشكيلِ الوزراء، والدنيا هنا آخر حلاوة مع وزير الخارجية، قولت أعرَّفك إنتِ بتحبِّي الأخبار الهادئة..
اعتدلت متَّجهةً إلى حقيبتها وتساءلت:
-فين يابوسبس المؤتمر دا؟..
-هقولك بس سرِّي للغاية أوعي أخواتنا البعدة يعرفوا..
قهقهت عليها وهي تخرجُ بنطالًا باللونِ الأبيض واسع وكنزةٍ باللونِ الأسودِ وحجابٍ يحملُ اللونين:
-قصدك إلياس، لا متخافيش مش هيعرف، ابعتي اللوكيشن وأنا شوية وخارجة.
-أوكيه ياروحي، بس وحياتي عندك ياميرو بلاش جوزك ينطّ لنا هناك، عليه تقل دم إلهي يعدمه ياشيخة..
-لا متخافيش مش هيبقى هناك، اترقَّى ومبقاش يطلع، بس دا مايمنعشِ تلاقي طقمه هناك، بس مش منِّي، إنتِ عارفة دول بيكونوا في كلِّ مكان.
بعد فترةٍ كانت تجلسُ بأحدِ الأماكنِ المخصصةِ للإعلاميين وبجوارها صديقتها ينظرونَ إلى بعضِ الصور، ويراجعون بعض الحوارات..
-كمِّلي حبيبتي وجهزيه للنشر..
أومأت لها ثمَّ نظرت إلى ساعتها بإرهاقٍ تجلَّى على ملامحها:
-تمام هعدِّي على الجريدة و أجهِّزه لرئيسِ التحرير، وإنتِ خلَّصي هنا، سلام..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ من العملِ المتواصل، رفعت رأسها تنظرُ لتلك التي تجلسُ أمام مكتبها، تنهيدةٌ عميقةٌ غادرت ضلوعها، ثمَّ رفعت هاتفها:
-ممكن أعرف ليه الستِّ دي، حرام تفضل ورايا في كلِّ مكان كفاية الحرس..
-دا مش علشانك، دي علشان ابني اللي في بطنك، أما إنتِ متهمنيش..
-تمام ياأبو ابنك..قالتها وأغلقت الهاتف، تسبه
-ياربي دون عن الرجالة كلها احب لوح التلج دا..شعرت بحركة جنينها، وضعت كفيها على بطنها مبتسمة:
-زعلان علشان، والله دا يتزعل منه مش علشانه، شكلك هتحبه اكتر مني يابن إلياس..ابتسامة هادئة وهي تنظر إلى كفيها الموضوع على بطنها لتتابع حديثها معه وكأنه يستمع إليها
-خلاص متزعلش انت جميل زي بابي، ابتسمت على حركاته تحت كفيها مع التقاط تلك الفتاة إليها لبعض الصور دون أن تراها، ظلت لدقائق وهي تتحدث مع جنينها ثمَّ نهضت من مكانها وتوجَّهت تحملُ بعض الأوراقِ متَّجهةً إلى رئيسِ عملها،
دلفت إليه بعد السماحِ ووضعت موضوعها الذي قضت الساعات عليه، نهضَ من مكانهِ وجلسَ بمقابلتها:
-آسف يامدام ميرال مستحيل أنشر حاجة زي كدا، إنتِ عارفة الموضوع دا ممكن يقوِّي المعارضة على النظام..
هبَّت من مكانها واعترضت على حديثه:
-إيه اللي حضرتك بتقوله دا، دا حوارات وصور إزاي أعمل انقلاب، حضرتك عارف بقالي كام ساعة بشتغل عليه؟!..
-ميهمنيش ياأستاذة الموضوع مرفوض.
قالها وألقى أوراقها..شعرت بتخدُّرٍ بكاملِ جسدها وهي تهزُّ رأسها رافضةً تعبها يُلقى بهذه الطريقة، انحنت تحملُ أوراقها بهدوءٍ غير معهودٍ منها، ثمَّ تحرَّكت للخارجِ واتَّجهت إلى سيارتها وعقلها يكادُ يصابُ بالجنون، وصلت إلى مكتبه، ودفعت البابَ وجدتهُ منكبًا على عمله، رفع رأسهِ ينظرُ إليها بعدما أخبره أمنهِ بالتوجُّهِ إليه...أغلقَ الجهازَ وتعلَّقت نظراتهِ بوقوفها..ألقت أوراقها على مكتبه:
-إنتَ اللي ورا دا مش كدا، عايز تكسرني وبس، المهم أكون تابعة لإلياس ميكونشِ ليا كيان ولا حياة، اقتربت وانحنت تستندُ بكفَّيها تغرزُ عيناها بمقلتيه:
-أنا دلوقتي بعترف إنَّك أكبر قرار غلط أخدته بحياتي، لو يرجع بيا الزمن مستحيل أوافق عليك..قالتها واعتدلت مغادرةً المكان دون ردِّ فعلٍ منه.
وقعت عيناهُ على الأوراقِ التي ألقتها أمامه، رفعَ هاتفه:
-وصَّلني برئيس التحرير يابني..
عند أرسلان:
وصلَ إلى إسحاق المتوقِّفَ أمام إحدى غرف العمليات، ربتَ على ظهره:
-إيه الاخبار؟..
استندَ برأسهِ على الجدار:
-حالتها صعبة، خايف عليها أوي ياأرسلان، واللهِ مش علشان الطفل، خايف عليها..
ضمَّهُ حتى انسابت عبراتُ إسحاق لأوَّلِ مرَّة قائلًا:
-لتاني مرَّة عمَّك بيخسر مبقاش فيا طاقة..
ربتَ على ظهرهِ وهتف:
-إن شاء الله هتقوم بالسلامة والبيبي هيكون كويس، ادعي إنت، ولَّا أقولك روح صلي ركعتين لله..قالها مع ارتفاعِ رنينَ هاتفه.
-أيوة يادكتور...
-تمام أنا جاي..التفتَ إلى إسحاق:
-طمِّني لو فيه جديد، وأنا هروح أشوف بابا..
خرج إلياس متجهًا إلى مكتب أحد الضباط، دلف إليه ..يضع صورته أمامه
-بتحفر ورايا ليه وعايز توصل لأيه
-مش أنا اللي بحفر وراك...امسكه من تلابيبه
-إنت تبع مين، راجح ولا مين
انزل يديه وتراجع على مقعده:
-ليا صديق، بيدور على اخواته وسألني عن مدام فريدة بس دي كل الحكاية
-معقول يكون جمال ...قالها بهمس خافت، ليتوقف متجهـًا إليه
-عنوانه ايه صديقك دا
خرج بعد قليل متجهًا إلى وجهته مع ارتفاع رنين هاتفه
-إلياس فيه موضوع مهم لازم تعرفه قبل ماارسلان يعرفه
-مدام فريدة بعدين نتكلم فيه موضوع اهم من اللي بتقوليه..قالها واغلق الهاتف وكأنه لم يستمع إلى حديثها، استدارت إلى مصطفى
-إنت متأكد إن فاروق هيعمل عملية زرع من ارسلان
احتضن أكتافها
-لسة الدكتور قايلي حالًا، قال اخدو منه عينة، انا متكلمتش في حاجة، بس اللي اعرفه اسحاق مش هناك، وطبعا ارسلان ابنه وفاروق حالته خطرة، يعني بكرة أو بعده بالكثير الدنيا هتتقلب هناك، وانا معرفش ليه فاروق مخبي عن الكل
هوت على المقعد وارتعش جسدها تتمتم
-لازم اقابل ارسلان يامصطفى قبل مايتصدم ..
جثى أمامها واحتضن وجهها
-فكرت في كدا، بس خايف، الولد مش صغير، وارتباطه بفاروق صعب، واللي اعرفته إن اسحاق عامل كماشة عليه، مفيش حل غير إلياس للأسف لقرابة علاقتهم ..هبت من مكانها وركضت للخارج
-لازم اروح لابني يامصطفى، لازم اكون جنبه مستحيل اسيبه يعرف الصدمة لوحده
-فريدة اصبري ..
عند راجح
ظل ينظر للصورة التي أمامه ثم هتف
-برافوو عليكي يارانيا، كدا عرفنا مين ابن فريدة التاني، لولا الصورة اللي بعتيها مكنتش عرفت اوصله، المهم الواد دا من أكبر عائلات البلد، يعني الغلط بفورة يارانيا
-مش عارفة ياراجح، بس الولد شبه جمال اوي، ومراقبتنا لإلياس عرفنا أنه على علاقة
حك ذقنه ملتفتًا إليها
-تفتكري العيال دول يعرفوا أنهم اخوات..مطت شفتيها للأمام وأجابته
-ماأظنش، علشان علاقتهم متقولش كدا ..
دار حولها يتلاعب بذقنه وعيناه بالأرض
-طيب ازاي ميعرفوش بعض وقريبين من بعض، الموضوع دا ناقص ..
-انت دور بقى ياراجح المهم انا وعدتك اجب لك ابن فريدة التاني، فين مروة اللي وعدتني انك هتجبها لعندي
-أخرج هاتفه وفتحه لتظهر لها صور ميرال
-حبيبتي يابنتي، ظلت تنظر إليها مبتسمة، ثم رفعت عيناها إلى راجح
-دي في شغلها ..اشعل سيجاره وافلت ضحكة
-الحياة بينها وبين ابن السيوفي نار، ولعبت لعبة هتخليهم يولعوا في بعض، وزي ما وعدتك بكرة ولا بعده هتكون عندك ومش بس كدا لا بورقة طلاقها بعد اللي عملته
-ليه عملت ايه
عند ارسلان
دلف للطبيب متسائلًا
-حضرتك ليه أجلت العملية، قولت النهاردة روحت اسأل قالوا اتأجلت
-الانسجة مش متطابقة ياباشمهندس،
-يعني ايه مش فاهم دا والدي
وضع الطبيب نتيجة التحليل أمامه
-للأسف النتيجة مابتقولش غير حاجة واحدة بس، إن فاروق باشا مش والدك..نطق بها الطبيب بدفع اسحاق الباب متسائلًا:
-ايه اللي بيحصل في المستشفى بالظبط، ولوكيميا ايه اللي بتقول عليها
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
يا ليلَ شظايا القلوبِ المُحترقةْ
في صمتِها أسرارُ روحٍ مُرهقةْ
حُبٌّ توارى خلفَ ظلالِ الجراحْ
يروي الحنينَ بحبرِ دمعٍ وألمْ أفراحْ
على جدارِ الذكرى نقشتْ أمانينا
ورسمنا العمرَ بيدينا وخيباتْنا
تاهت بنا الطرقاتُ في زيفِ الوصالْ
وضاعَ الصدقُ في مَوجاتِ الاحتيالْ
لكنَّ النارَ، وإن أحرقتِ الجسدْ
ففي رمادها وميضُ الأملِ للأبدْ
يا قارئاً في طيّاتِ "شظايا القلوبْ"
ستجدُ أنَّ الحبَّ لا يخشى الذنوبْ
فاجمع شظايا القلبِ من رمادهْ
وامضِ إلى حياةٍ تُشرقُ من سوادهْ!
توقف إلياس وهو يستمع إلى حديث
شريف، يردد بينه وبين نفسه
-ممكن يكون جمال، اخيه، لقد حفرَ الحزنُ ثقوبًا داخلَ قلبه، ممَّا شعرَ برجفةٍ تعتري جسدهِ وهو يتحرَّكُ متَّجهًا إلى المكانِ الذي أخبرهُ به ذاك الضابط..مرَّ الوقتُ سريعًا إلى أن دلفَ إلى تلك العيادة، نظرَ إلى اللافتةِ التي تعلقُ على بابِ الشقة"كريم عادل الأسواني"
دلفَ للداخلِ إلى أن وصلَ لتلك الفتاة التي تجلسُ تدوِّنُ بعض الأسماء..
-حضرتك كشف ولَّا استشارة..تساءلت بها..ارتفعت دقَّاتهِ بعنفٍ حتى شعرَ بجفافِ حلقه، ورغم برودهِ وشخصيتهِ القويةِ إلا أنَّ داخله اهتزَّ وطالعها بعيونٍ شاردةٍ وكأنَّ لسانه رُبطَ ولم يعد للحروفِ مخرج، لحظاتٍ وهي تحادثه:
-ياأستاذ بسأل حضرتك، كشف ولَّا استشارة..ابتلع غصَّتهِ وأردفَ بهمسٍ خافت:
-الدكتور موجود، ولَّا لسة ماوصلش؟..
نظرت لساعةِ يدها وردَّت:
-على وصول..طيب أنا عايز أقابله ضروري، مش عايز كشف.
صمتت للحظاتٍ بدخولِ كريم ملقيًا السلام، ودلفَ للداخلِ مع ركضها خلفهِ بدفترها، بينما توقَّفَ إلياس ونظراتهِ على ذاك الشاب الذي دلفَ ولم يستطع رؤيتهِ للحدِّ المسموح.
خرجت تشيرُ إليه:
-اتفضل الدكتور مُنتظر حضرتك، بس بسرعة حضرتك شايف العيادة مليانة،
أومأ لها وأردفَ يشكرها:
-شكرًا..دلف للداخلِ يخطو بخطواتٍ متعثرةٍ وكأنَّ ساقيهِ تلتفُّ حول بعضها البعض، توقَّفَ يسحبُ نفسًا ينظرُ لبابِ الغرفةِ المغلق، كأنَّهُ بابَ إعدامه..دلفَ بعدما طرقَ البابَ وسمحَ إليه للدخول.
كان ينظرُ بجهازه، بينما نظراتُ إلياس ترسمه، رفعَ رأسهِ ينظرُ له:
-اتفضل الممرضة قالت لي إنَّك عايزني، خطا إلى جلوسه، توقَّفَ أمامهِ وعينيهِ تحاصرُ جلوسه، مما جعل كريم يهزُّ رأسه:
-سامعك..انحنى يتعمَّقُ بالنظرِ لعينيهِ ثمَّ قالَ بنبرةٍ هادئة:
-إلياس السيوفي
ضيَّقَ كريم عينيهِ متسائلًا:
-مش فاهم حضرتك..اعتدلَ إلياس يجذبُ المقعدَ وجلس بمقابلتهِ بعدما تسللَّ الشكَّ بداخله:
-مش إنتَ بدوَّر على إلياس السيوفي ومدام فريدة، أنا جيت لحدِّ عندك، اسأل وأنا أجاوبك بدل ماتلفِّ وتدور..
ابتلعَ كريم ريقهِ بصعوبة، وشعر بدوارٍ يضربُ رأسه، ليتراجعَ للخلفِ وعينيهِ تتهرُّبُ بكافةِ الاتجاهات..
كان يتابعُ تعابيرَ وجهه، صمتٌ مميت بالغرفةِ ولم يشعر بتعرُّقِ كريم من وجودهِ بذلك المأزق، لا يعلم بماذا سيجيبه، حمحمَ متَّجهًا إليه بنظراتهِ وارتبكَ بحديثه، ليردفَ بتقطُّع:
-مش فاهم حضرتك؟..
أخرجَ إلياس سيجارته، حينما تأكَّدَ أنَّهُ ليس أخاه، وبدأ يخرجُ دخانهِ بهدوء وعينيهِ الباردة تخترقُ جلوسه، دقيقة اثنتان وهو ينظرُ بصمتٍ مميتٍ إليه حتى فقدَ كريم اتِّزانهِ ليهتفَ قائلًا:
-مش أنا اللي سألت، أه الضابط صديق ليا وفهِّمته الموضوع يخصُّني بس مش أنا.،
ضيَّقَ إلياس عينيهِ منتظرًا باقي حديثه، ليتوقَّفَ كريم متَّجهًا إلى المقعدِ الذي يقابلهُ واستطرد:
-صديق مقرَّب ليا، بيدوَّر على مدام فريدة، مش عليك أبدًا، بس دي أسرار مقدرشِ أقولها لك، بس لو حضرتك مصرّ ممكن أقولَّك عنوانه، لكن سامحني لازم أستأذنه..
مطَّ شفتيهِ ينقرُ على المكتبِ ولاحت على وجههِ ابتسامةٍ ساخرة، حتى هربت الدموية من وجهِ كريم ليحمحم:
-ليه بتحسِّسني إنَّك مش مصدَّقني؟..
استدارَ إليهِ بنظرهِ واقتربَ بجسده:
-مطلوب منِّي أصدَّقك في إيه، وإنتَ بتدوَّر ورايا وورا أمي، لا وجاي بكلِّ بجاحة وتقولِّي أستأذن منه، دا إيه الهزار دا، هوَّ أنا جاي بطلب إيده منَّك..
ضربَ على سطحِ المكتب وهبَّ من مكانهِ وانحنى بجسدهِ يمسكهُ من تلابيبه:
-أنتوا تبع مين، وعايزين منِّنا إيه؟..
ابتلعَ ريقهِ يهزُّ رأسهِ محاولًا الحديثَ إلَّا أنَّ إلياس لم يعطهِ فرصةً للحديث، ليدفعهُ بقوَّةٍ حتى هوى على المقعدِ ودارَ حولَ المقعدِ هادرًا بحدَّة:
-اتِّصل بيه حالًا، لازم أعرف أنتوا مين..
-آسف مش هتَّصل..لم يكمل كلمته، حتى قبضَ على عنقهِ يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-أنا مش بهزَّر، وربِّي أدفنك هنا، دي أمي اللي بتنخوروا وراها، عارف يعني إيه أمي، يعني أولَّع فيك وفي الفاشل المتخبِّي وراك، هتتصل بيه ولَّا أموِّتك؟..
اغروقت عينيهِ بالدموعِ من اختناقهِ، مع ارتفاعِ رنينِ هاتفهِ الذي التقطهُ إلياس ثمَّ تركهُ ونظرَ إلى الهاتف..
-كريم أنا مسافر مع راحيل، مش هوصِّيك على إيمان ومعاذ، بس من بعيد ياعريس، إياك تقرَّب من البنت في غيابي، خلِّيك راجل يالا زي مااتعوِّدت عليك..أنا في المطار وآسف معرفتش أعدِّي عليك، معرفتش أسيب رحيل لوحدها..
-كريم سامعني..نظرَ إليهِ ليجيبه..
حمحمَ كريم وهو يجيبه:
-سامعك يايزن بعدين نتكلِّم علشان عندي حالة كشف دلوقتي..
-ماشي يادوك، على العموم أنا مفهِّم إيمان بس برضو مش ضامن ظروفي، وعلى فكرة عايز أشكرك ياكوكو، قابلت مدام فريدة الصبح، شكرًا شكرًا على كلِّ حاجة.
أغلقَ إلياس الهاتفَ وألقاهُ على المكتب يدورُ بالغرفة، بعدما علمَ بهويةِ المتحدِّث، ثمَّ استدارَ إلى الباب، توقَّفَ مستديرًا إليه:
-يزن السوهاجي مش كدا؟..
أومأ له مبتعدًا عنهُ بنظراته، تحرَّكَ مغادرًا المكانَ يقطعُ الأرضَ بخطاويهِ يهمسُ لنفسه:
-ياترى مخبية عليَّا إيه يامدام فريدة، وإيه علاقة يزن السوهاجي بيكي؟..
آه يا دماغك ياإلياس، دماغك هتفرقع..
ظلَّ يجوبُ الشوارعَ دون هدى، حتى وصلَ إلى منزلهِ الذي تقطنُ به ميرال، ترجَّلَ من السيارةِ ودلفَ للداخلِ يشعرُ وكأنَّهُ يحملُ فوق أكتافهِ ثقلَ الجبال، قابلتهُ الخادمة:
_أهلًا بحضرتك ياباشا، دلفَ لداخلِ غرفةِ مكتبه، ثمَّ اتَّجهَ إلى الأريكةِ ونزع سترتهِ وهوى بجسدهِ عليها بعدما أغلقَ هاتفه، لايريدُ شيئًا سوى الاختلاءِ بنفسهِ فقط..
بالأعلى أنهت استحمامها، وخرجت تجلسُ أمام المرآةِ تجفِّفُ خصلاتها، استمعت إلى رنينِ هاتفها فالتقطتهُ تنظرُ للرقمِ الغيرُ مدوَّن، فتحت الخطّ وانتظرت الحديث:
-مروة حبيبتي عاملة إيه حبيبة ماما؟..
-إنتِ عايزة إيه؟..أنا مش بنتك، ولاعمري هكون بنتك، ابعدي عنِّي إنتِ والراجل المجرم..
-وحياة ابنك اللي في بطنك ماتقفلي في وشِّي يابنتي، اعذريني حبيبتي واعذري أبوكي، هوَّ لو يعرف إنِّك حامل مكنَّاش خطفناكي، هوَّ خطفك أه علشان من حقِّنا حبيبتي شوفتي ابنِ فريدة لمَّا عرف أنُّه ابنها مسبهاش، وباباكي راح له وهدِّده لو قرَّب منِّك هيقتله، بابا خاف عليكي ليقتلك زي ماقتل هيثم أخوكي، ماهو كان حابس أخوكي ظلم، لمَّا عرف أنُّه ابنِ راجح..
فضل يعذِّب فيه لحدِّ مامات، خايفةعليكي ياحبيبتي، وخصوصًا لمَّا باباكي كلِّمه وقالُّه عايز بنتي أشبع منها، رفض مكنشِ قدَّامه غير أنُّه يهدِّده بالطلاق..كلِّ اللي عمله علشانك حبيبتي، أوعي تفكَّري أنُّه كان هيسقَّطك لو فعلًا كان عايز ماكان سقَّطك من وقتِ ماأخدناكي، والدليل على كدا جاب فريدة علشان يتِّفق معاها بس جوزك اختار أمُّه ورماكي، وقالُّه هخدها منَّك وأحسَّرك عليها وبنتك بتحبِّني وبتسمع كلامي،علشان كدا بابا اتغاظ وحب يحرق دمُّه وطلب منِّك تتصلي بيه..
_خلَّصتي كلامك يارانيا هانم، انسيني وكأنِّي مش موجودة، قالتها وأغلقت الهاتفَ تلقيهِ بعنفٍ على التخت، ارتفعت دقَّاتها لتشعرَ بقلبها المتوجِّع، فرَّت دمعةً من عينيها، التفتت تنظرُ في المرآة لنفسها وتزاحمت دموعها تنسابُ بقوة على مامرَّت به، وبدأت تحدِّثُ نفسها، هل هي تشبهُ رانيا، أم تشبهُ والدها، مرَّرت أناملها على وجهها تهزُّ رأسها تنفي ذلك الشعور الذي سيطرَ عليها، لتشعرَ بوخزٍ حادٍّ يفتكُ بصدرها تتذكَّرُ ذلك اليوم..
فلاش باك:
دلفَ راجح إلى غرفتها بعد علمهِ بحصولِ إلياس على فريدة، دنا منها وعينيهِ تنطلقُ منها شرارات، اقتربَ يجذبها من خصلاتها:
-ابنِ السيوفي عايز ياخد كلِّ حاجة بس وحياة أمِّك فريدة لأوجع قلبه..
تراجعت بذعرٍ من حالتهِ الشيطانية، لتهدرَ بعنف:
-أنا بكرهك أتمنَّى أموت ولا يكون ليَّا أب زيك..لطمةٌ قويةٌ على وجهها، لتسقطَ على أثرها أرضًا، انحنى يرفعها من خصلاتها يهزُّها بعنف، وهمسَ بفحيحٍ أعمى:
_اسمعيني يابنتِ رانيا، جوزك هموِّته هموِّته، سواء النهاردة بكرة هموِّته، بس الصبر حلو، انسابت عبراتها تهزُّ رأسها والخوف تجلَّى على ملامحها ليقهقهَ بصوتٍ مزعجٍ وتابعَ فحيحه:
-شكلك بتحبِّيه، وأكيد بتحبِّي الستِّ ماما، شوفي عندك اختيار واحد ومفيش غيره، عايزة تنقذي ماما فريدة تطلبي منُّه الطلاق، ومش بس طلاق مش عايز سلالة لجمال، يعني ابنه اللي في بطنك تنزِّليه، ياأمَّا..
دفعتهُ بقوَّةٍ وتراجعت تحتضنُ بطنها وصاحت بصوتٍ باكي:
-على جثتي، موِّتني ولا إنِّي أنزِّل ابني، أنا مستعدة أموت، ويكون في علمك، موتي أهون من إنَّك تكون أبويا، أنا بكرهك بكرهك..قالتها بصراخٍ حتى ارتعبَ من حالتها الهستيرية ورغم ذلك اقتربَ منها يرمقها شزرًا، وأشارَ بيديه:
-يبقى الأوضة اللي جنبك هموِّت فريدة بحسرتها، وبدل الفيديو اللي هبعته عن طلاقك وإجهادك، هبعتله فيديو بمعرفتي وأمُّه في حضني، ومش بس كدا، هخلِّيها جارية، علشان دي اللي تكسره..فعلًا عندك حق، إجهاض إيه وطلاق إيه...قالها واستدارَ وعلى وجههِ ابتسامةُ نصر وهي تصرخُ به:
-استنى أنا موافقة، بس مش هتحرَّك من الأوضة إلَّا لما ماما فريدة تروح وأكلِّمها وأشوفها..
استدارَ إليها ورسمَ الحزنَ على وجهه:
-فريدة متهمنيش أنا بعمل كدا علشانِك إنت، وصدَّقيني معرفشِ إنِّك حامل، وإنتِ شوفتي صدمتي، بس هو عاند وقالي أمِّي وبس، اضَّيقت مش من حقِّ أبوكي يخاف عليكي، دا أهمِّ حاجة عنده أمُّه وبس..
أغمضت عينيها وابتعدت بنظراتها عنه:
-ميهمنيش رأيك فيه إيه، المهمِّ عندي دلوقتي أمِّي تمشي من هنا، وإياك تقرَّب منُّه، دا شرطي..
دنا منها ورفعَ يديهِ إليها:
-تعالي في حضنِ أبوكي ياحبيبتي..
ضربت قدمها بالأرض تضعُ كفَّيها أمامهِ باشمئزاز:
-متقربشِ منِّي، أنا مش بنتك سمعتني..
خرجت من شرودها على طرقاتِ الباب، دلفت الخادمةُ إليها:
-مدام أحضَّر السفرة، وأعمل حساب الباشا ولَّا حضرتك بس اللي هتتغدي؟..
-باشا مين؟!..
-إلياس باشا تحت جه من ساعة تقريبًا.
لمعت عيناها بالسعادة، فسألتها بلهفة:
-تحت فين؟.،
-في المكتب..أومأت تشيرُ إليها بالخروج:
-هنزل أسأله..ولَّا أقولِّك استني..
-عاملة إيه على الغدا؟..
-سي فود ياهانم، مدام فريدة اتَّصلت وقالت أعملِّك سي فود علشان مفيد للحمل
سي فود..ردَّدتها بابتسامة، فأشارت إليها:
-طيب روحي إنتِ وأنا هشوفه هيتغدى ولَّا إيه..نهضت متَّجهةً إلى خزانتها، وبدأت تفتِّشُ بثيابها تبحثُ عن شيئٍ تنتقيهِ بعناية، إلى وقعت عيناها على قميصٍ حريري باللونِ البني، يصلُ الى فوق الركبة ،جذبتهُ وارتدتهُ مع عطرها المميَّز، مع وضعِ لمساتها التجميليةِ الخفيفة، جذبت روبها الشفاف وارتدتهُ وهبطت إلى الأسفل، دلفت إلى غرفةِ مكتبهِ ظنَّا أنَّهُ يعمل ولكنَّها لم تجدهُ في المكتب، جالت عيناها بالغرفةِ ذات الأثاثِ الراقي، إلى أن وقعت عيناها على نومه، أغلقت البابَ بهدوء، وخطت إليهِ مع دقَّاتِ قلبها التي تهدرُ بعنفٍ وكادت أن تخرجَ من بين ضلوعها، جلست بجوارهِ تهمسُ اسمهِ بخفوت:
-إلياس..ولكنَّهُ كان مستغرقًا بنومهِ كالطفلِ الوديع..جثت بركبتيها بجوارِ الأريكةِ بعدما علمت بنومهِ العميق، دسَّت أناملها بخصلاتهِ السوداء تحرِّكها بهدوء، تسلَّلت رائحتهِ إلى رئتيها، لتدنو منه تستنشقُ رائحتهِ الرجوليةِ الممزوجةِ بتبغهِ حتى فقدت اتِّزانها، لتقومَ بنزعِ روبها وتدثِّرَ نفسها بأحضانهِ..دفنت رأسها بعنقهِ تستنشقُ رائحتهِ بوله، كالمدمنِ المنقطعِ منذُ فترةٍ عمَّا يدمنه، تململَ بنومهِ لتهمسَ اسمهِ بخفوت، فتحَ عينيهِ بابتسامة،وكأنَّهُ يحلمُ بها..رفعت رأسها تنظرُ إليهِ وتمرِّرُ أناملها على وجهه، ليردف:
-نايمة في حضني ليه؟..
داعبت عنقهِ بأنفها مجيبة:
-لأنُّه مكاني، ودا غصب عنَّك، حاوطَ جسدها ليجذبها لأحضانهِ ومازال بغيبوبةِ نومه، ابتسمت برضا على حنانِ ذراعهِ الذي يحاوطها..قبَّلت تفاحةَ آدم لديه وتابعت خفوتها:
-عارفة إنَّك مضَّايق منِّي، بس أنا زعلانة منَّك ومضايقة برضو، مكنتشِ محتاجة غير الحضنِ دا، نفسي تعرف إنَّك أغلى حاجة عندي، أغلى واحد في الكون..قالتها بدموعها، كان نائمًا ولم يستمع لما تقوله، ظلَّت بأحضانهِِ وكأنَّها تشعرُ أنَّهُ آخرَ أحضانهما، علمت من نومهِ العميق أنَّهُ لم يشعر بها، يبدو أنهُ بحالةٍ ليست على مايرام..
ظلَّت ترسمُ ملامحهِ بحنو، تأمَّلت كلَّ إنشٍ به كالأمِّ التي تتأمَّلُ رضيعها بحبٍّ وحنان، مرَّرت أناملها على ملامحهِ بالكاملِ إلى أن توقَّفت على شفتيه، لتدنو منهُ وتطبعُ قبلةً عليهما، مع دمعةٍ من عينيها، ثمَّ نهضت من مكانها بهدوء، لتجذبَ سترتهِ تستنشقها ثمَّ وضعتها بمكانها وغادرت الغرفةَ بهدوئها كما دلفت، دقائقَ ليفتحَ عينيهِ يضعُ كفِّه على رأسهِ من ألمِ رأسهِ الفتًَّاك..نظرَ حولهِ وتذكَّرَ وصولهِ إلى منزله، اعتدلَ يمسحُ على وجههِ ثمَّ جذبَ ساعتهِ لينظرَ بها:
-خمسة!..معقول نمت دا كلُّه، نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إلى الحمَّامِ الملحقِ بالمكتب، قامَ بفتحِ المياهِ ينظرُ لنفسهِ بالمرآة، وقعت عيناهُ على أزرارِ قميصهِ الأولى المفتوحة، وأثرُ أحمرِ الشفاهِ الموجودِ على عنقه، مرَّرَ أناملهِ على شفتيهِ متذكِّرًا حلمه، ليستديرَ يحدِّثُ نفسه:
-يعني مكنتش بحلم، قالها وتحرَّكَ بعدما قامَ بغسلِ وجهه، ثمَّ قام بالاتصالِ على الخادمة، لتصلَ إليهِ خلال دقيقة:
-أفندم ياباشا..
-اعمليلي قهوة سادة، قالها ثمَّ صمتَ يطالعها متسائلًا:
-هيَّ المدام فوق، تعرف أنا موجود؟..
-أيوة ياباشا، هناء قالت لها ونزلت لحضرتك..
أشارَ لها بالمغادرة، مسحَ على وجههِ بعنف:
-وبعدهالك ياميرال، عايزة إيه بالظبط، دلفت الخادمة إليهِ مرَّةً أخرى:
-حضرتك هتتغدَّى، أعمل حسابك مع المدام؟..
-أنا طلبت قهوة مش غدا، ياله غوري من وشي..
بالأعلى قبل قليل:
دلفت إلى غرفتها ودموعها تسبقُ خطواتها، تمدَّدت على الفراش تحتضنُ نفسها كالجنين، ثمَّ مرَّرت أناملها تحاكي طفلها:
-بابا جه تحت، بس عارفة ومتأكدة أنُّه مش جاي علشاني، ياترى إيه اللي حصل معاه وصَّله للمرحلة دي، أقولَّك سر، هوَّ وحشني أوي، مش عارفة مجرَّد ساعات ووحشني كدا، أومال هبعد عنُّه إزاي، ماما بتتعذِّب أوي حبيبي، لازم أعمل كدا علشان أحافظ عليك وعليه، مقدرشِ أشوف حدِّ فيكم بيتئذي..ظلّّت تمرِّرُ يديها مع حديثها إلى أن غفت بنومها، مرَّ أكثرُ من ساعةٍ إلى أن نهضَ من مكانهِ بعدما أنهى عملهِ واتَّجهَ إلى كاميراتِ المنزل، وقامَ بتشغيلها، ذهبَ إلى غرفتها أولًا، ليجدها تغفو وهي تحتضنُ جنينها، جالت عيناهُ بالغرفة، حتى وقعت على شيئٍ لينهضَ من مكانهِ متَّجهًا للأعلى، وصلَ الغرفةَ يدفعُ الباب، ثمَّ جذبَ ذاك المصباح، ونزعهُ ينظرُ لذلك الجهاز، كوَّرَ قبضتهِ بعنفٍ وهو يهمس:
-بيتي، وصلت لبيتي..تململت بنومها ثمَّ اعتدلت تردِّدُ اسمه:
-إلياس..إنتَ بتعمل إيه؟!..التفتَ إليها ينظرُ لهيئتها، أقسمَ بداخلهِ أنَّها فقط من اهتزَّ لها القلب، رعشةٌ أصابت قلبهِ لأوَّلِ مرَّةٍ من طلَّتها، ليطالعها كالمسحور، بدءً من خصلاتها العشوائيةِ التي تتناثرُ حول وجهها، مع جسدها الفتَّان الذي ظهر بوضوحٍ من تلك المنامةِ التي أخرجتهُ عن صمتهِ ليقتربَ منه، ثمَّ انحنى بصمتٍ يجذبُ رأسها ويمتصُّ رحيقَ شفتيها بين خاصَّته، ناسيًا كلَّ ماصارَ بينهما، لحظات بل دقائقَ وهو بجنَّةِ عشقه، ثمَّ اعتدلَ ليتركها قائلًا:
-جيت أمسح لك الروج كله، مش كنتي تقوليلي عايزة تجرَّبيه..قالها وتحرَّكَ للخارجِ وكأنَّهُ لم يفعل شيئـا..
اعتدلت تنظرُ لخروجهِ بصمت، تراجعَ مرَّةً أخرى، وظلَّ يجولُ بنظراتهِ بالغرفةِ بأكملها وكأنَّهُ يبحثُ عن شيئ، نهضت تجذبُ روبها وترتديهِ مقتربةً منه:
-بتعمل إيه هنا، بدوَّر على حاجة، وليه كنت نايم تحت، حصل معاك حاجة؟.
أخرجَ شيئًا آخر، ولم يكترث لحديثها، ثمَّ اتَّجهَ إلى هاتفهِ ونظرَ به ليصلَ لشيئٍ ما، أمسكت ذراعه:
-إلياس فيه إيه؟!
رمقها بنظرةٍ حادة، وأشارَ برأسه:
-متلمسنيش، وإيه جاي ليه دي، ناسية دا بيتي، آجي وقت ماأحب، مالكيش دعوة بحاجة تخصِّني سمعتي ولا لأ..
أشارَ على جسدها وهدرَ بها:
-إياكي تنزلي تحت بشكلك دا، معاكي خدم وحراسة في البيت، استمعَ إلى رنينِ هاتفها، وقعت عيناهُ على الرقمِ دون اسم، رفعهُ وفتحهُ دون حديث، استمعَ إلى حديثِ رانيا:
-حبيبتي ليه شوفتي الرسالة وماردتيش على ماما، عايزة أشوفك ياحبيبتي، اسمعيني وبعد كدا قرَّري، بصِّي أنا عرفت إنِّ ابنِ السيوفي طردك من البيت، بعتِّلك حاجة هتوصلِّك خلال دقايق، وأتمنِّى يامروة تسمعي كلام مامي اللي بتحبِّك.
أغلقَ الهاتفَ وهو يضغطُ عليه بقوَّة، جزَّ على أسنانهِ وتحوَّلت حالته، التفتَ إليها بنظراتٍ لو تقتل لأوقعتها صريعة..
-رانيا بتِّتصل بيكي ليه، إزاي اتجرَّأت تعمل كدا، تواصلتي معاها بعد ماجيتي هنا؟..
اتَّسعت حدقتها، تطالعهُ بذهولٍ ثمَّ دنت منه:
-إنتَ بتقول إيه، معقول تفكَّر فيا كدا
وليه أتصل بواحدة زي دي!..
ابتسمَ ساخرًا وتمتمَ كلماتٍ شقَّت صدرها:
-ليه مش بنتها..
لوت شفتيها بألمٍ وانبثقت دمعةُ غائرةُ تسيلُ عبر وجنتيها، لتزيلها بسرعةٍ ثمَّ استدارت هاتفة:
-اطلع برة، عايزة أرتاح..
قاطعهم طرقاتُ الخادمة:
-مدام الغدا جهز..دلفت إلى غرفةِ ثيابها قائلة:
-مش عايزة أتغدى..قالتها وأغلقت البابَ خلفها بقوة..
قابلَ كلامها بالصمت وتحرَّكَ للخادمة:
-جهِّزيه أنا نازل..قالها بصوتٍ مرتفعٍ ليصل صوتهِ إليها..جلست لبعضِ الوقت تنظرُ حولها بتشتُّت يبدو أنَّها ستظلُّ بعينهم ابنة الذين فرَّقوا شملهم، نظراتٌ مشتَّتةٌ كحالتها التي شعرت بها، ماذا تفعل، هل تهرب من الجميع، أم تظلُّ وترضى بواقعها المرير..
بالأسفلِ جلسَ يتناولُ غدائه، وعينيهِ على الدرج، منتظرًا نزولها، ولكنَّها خيَّبت آمالهِ كما ظن، ظلَّ لبعضِ الوقت جالسًا ينتظرُ هبوطها إلى أن ارتفعت أنفاسه، فتوقَّفَ متَّجهًا إلى مكتبه، ظلَّ لبعضِ الوقتِ مع فحصهِ لكاملِ المنزل، وصلت إليهِ الخادمة:
-حضرتك طلبتني...أشارَ إلى الرجلِ الذي ولجَ للداخل:
-ارميها في أيِّ مكان، وشوفلي مين وراها، وعايز تشوف الأمن كويس..
-معملتش حاجة ياباشا..أشارَ بكفِّهِ للرجلِ بالخروجِ دون حديث، ليجذبها بقوَّةٍ متحرِّكًا مع صرخاتها، ثمَّ جذبَ جهازهِ مرَّةً أخرى..
بالأعلى نهضت من مكانها وهبطت إلى غرفةِ الرياضة، نظرت للأجهزة، ثمَّ وضعت كفَّيها على بطنها، وتحرَّكت إلى المسبح، جلست على حافتهِ لبعضِ الوقت..شعرت بالملل، وقعت عيناها على غرفةِ الساونا والجاكوزي، ابتسمت على معشوقِ قلبها، لم يترك شيئًا تحبُّهُ إلَّا وفعلهُ لها، نهضت بهدوءٍ وتحرَّكت إليها كالطفلةِ المتوجِّهةِ إلى ألعابها، وذكرياتٌ تضربُ عقلها معه، فتحت البابَ وطافت بعينيها على أحدثِ الأجهزة، وقعت عيناها على ذاكَ الحوض، اتَّسعت ابتسامتها متناسيةً ماشعرت بهِ من قسوةِ كلماته، وتحرَّكت إلى الحوض..نزعت روبها ودلفت إلى غرفةِ الجاكوزي، جلست لبعضِ الوقتِ مغلقةَ العينينِ لعلَّها تزيلُ إرهاقَ اليوم ..تردِّدُ حديثهِ بأذنها مرَّةً أخرى لينزعَ خلوتها التي أشعرتها ببعضِ الراحة، لتشعرَ بنزيفِ قلبها، قامت برفعِ حرارتهِ بعدما شعرت بالبرودةِ تتسلَّلُ إلى جسدها ولم تعلم أنَّ تلك البرودة ماهي إلَّا برودةِ حياتها التي أصابتها..انزلقت دمعةٌ عبر وجنتيها كلَّما تذكَّرت ما فعلهُ منذ قليل، ازدادَ حزنُ قلبها ولم تشعر بضغطها على جهازِ التحكُّمِ لتتخطَّى درجةَ الحرارة الأربعين، ظلَّت فترةً ليست بقليلةٍ فقدت الحركة حتى شعرت بانسحابِ أنفاسها وهي تهمسُ اسمهِ حينما أتاها الدوار، حاولت الوصولَ لجهازِ التحكُّمِ ولكن لم تقوَ كأنَّ جسدها أُصيبَ بشللٍ كامل، ظلت تردِّدُ اسمهِ وهي تحاوطُ بطنها..
بالأعلى انتهى من عمله وعلمهِ لتسلُّلِ أحدهم جهازَ أمنه، نظرَ لصورةِ راجح ، وألقاها بعينينٍ مليئةٍ بالحقدِ والكرهِ ليهمسَ بينهِ وبين نفسه:
-لو كرهت بنتك هموِّتك ياراجح، لو بإيدي أنضَّف جسمها من دمَّك الملوَّث، إزاي تتحسب بني آدم، بحاول أفكرلك بموتة تريَّحك منِّي، بس في نفسِ الوقت مستخسر فيك الموت، النهاردة وقفت بيني وبين البنتِ اللي دفنت حبَّها جوايا، لسة هتوصل لحدِّ فين ياراجح، ظلَّ يتحدَّثُ مع الصورةِ وكأنَّهُ يحدِّثُ راجح إلى أن نهضَ من مكانهِ ينظرُ بساعته، ثمَّ توقَّفَ متَّجهًا للخارج.
قابلتهُ إحدى الخدمِ المسؤولين عن ميرال:
-أنا خارج وإياكي تغلطي تاني، أكل المدام تدوقيه قبل مايوصلَّها، ولازم تاكل، عيوني عليكي، والبنت لو فتحتي لها الباب صدَّقيني طلقة واحدة وهخلص منِّك، امشي من قدامي..
-هزَّت رأسها سريعًا متمتمة:
-شكرًا ياباشا ربنا يسعدك يارب.
تناولَ هاتفهِ وتحرَّكَ إلى سيارتهِ يهاتفُ أحدهم:
-الواد دا ممنوع يشوف نور ربِّنا ياشريف مش عايز هزار، يعني إيه زيارة..
-إلياس اسمعني..
-أنا مبسمعش، واقفل دلوقتي بدل مااسمَّعك كلام يزعَّلك، صعدَ إلى سيارتهِ وصلَ إليه أحدُ أمنه..
-هتتحاسبوا كلُّكم بس أرجع، المدام ممنوع تخرج من البيت، وممنوع أيِّ حد غريب يدخل البيت..
-تحت أمرك ياباشا..تحرَّكَ بالسيارةِ مغادرًا المكان ...استمعَ إلى هاتفه:
-سامعك..
-المدام نزلت الجاكوزي ورفضت الأكل ياباشا، ومن إمبارح ماأكلتش..
-طيب..قالها وأغلقَ الهاتفَ ثمَّ رفعهُ وهاتفها، ظلَّ يهاتفها ولكن لا يوجد رد، سبَّها بداخله:
-أغلاطك بتكبر لحدِّ ماهتجيبي أخرك معايا، تمام يابنتِ راجح مفكَّرة هموت عليكي، لو ماأكلتيش ماتكليش، الجعان هياكل، خلِّيكي مترديش، عارف بتعملي كدا علشان أطلع لك وأتحايل عليكي، وقت الدلع خلص..وحياة أبوكي لأكرَّهك في اليوم اللي اتجوِّزتيني فيه...
عندَ ميرال حاولت الوقوفَ ولكن دارت الأرضُ بها وهوت عليها بقوةٍ وسطَ البخارِ الذي حجبَ الرؤية..
وصلَ إلى مكتبه، مع رنينِ هاتفه:
-أيوة..
-الحق ياباشا المدام مغمى عليها في الجاكوزي وقاطعة النفس..
توقَّفَ قلبهِ من حديثها، ليستديرَ سريعًا إلى سيارته، يسير كعاصفةٍ تتعثَّرُ برياحها الهوجاء، تحرَّكَ بالسيارةِ يقطعُ المسافةَ بسرعةٍ جنونيةٍ والخوفُ يلتهمُ قلبهِ، كما تلتهمُ النيرانُ سنابلَ القمح، ودقَّاتهِ التي أصبحت تتلاشى شيئا فشيئًا، كالناي الحزين، دقائقَ معدودة، ولكنه شعر بأنها امدً طويلًا، كأنها بأبعد نقطة ببقاع الأرض، وصلَ إلى المنزلِ رغم المسافةِ الطويلة، ترجَّلَ سريعًا متَّجهًا إليها، شهقَ رغمًا عنه وهو يراها بتلك الحالةِ كالجثَّةِ التي خرجت روحها لبارئها، ارتعشت ملامحهِ وهو يحملها بين يديه، بعدما ابتعدت بعض الخادمات، تجمَّعت دموعهِ تحت أهدابهِ وهو يحملها بعدما نزعَ سترتهِ وحاوطَ جسدها بها، وخرجَ سريعًا بها للأعلى، وضعها بهدوءٍ على الفراش، كقطعةٍ نادرة، ورفعَ نصفَ جسدها، يشيرُ للخادمة:
-هاتي أيِّ حاجة أفوَّقها بيها بسرعة، كنتوا فين لمَّا وصلت للحالة دي؟..
-واللهِ ياباشا أنا روحت لها بعد ماحضرتك أمرت على طول لقيتها كدا، والأوضة كلَّها بخار، وقَّفت الجهاز وخرَّجتها برَّة واتصلنا بحضرتك..
-اطلعي برَّة..قالها صارخًا، مع ضمِّهِ إليها:
-ميرال..ردَّدها بقلبٍ متلهِّفٍ وهو يحرِّكُ كفَّيهِ على وجهها، ميرو حبيبتي افتحي عيونك ياقلبي، ظلَّ يكرِّرها مع اسعافاتهِ الأوليةِ لها، نزعَ إحدى ثيابها وساعدها بارتدائها مع دعواتهِ بصوتهِ المكتوم بالدموع، قبلةً طويلةً وكأنَّها قبلةُ الحياة لترفرفَ بأهدابها مع وصولِ الطبيب، رفعها يضمُّها لصدرهِ ليشعرَ بروحهِ التي عادت له بعدما فقدها لدقائقَ وبأنَّ حياتهِ سُلبت منه..
-حبيبتي حاسة بإيه..دوارٌ بجسدها لم تشعر بشيئٍ وصوتهِ الذي تسمعهُ وكأنَّهُ لمسافاتٍ طويلة، دلفت الخادمة:
-الدكتور يدخل ياباشا؟..أومأ لها بعدما دثَّرها جيدًا وطبعَ قبلةً معتذرًا بعينيه، نهضَ بدخولِ الطبيب، تشبَّثت بكفَّيهِ لتهمسَ بتقطُّع:
-متسبنيش، أنا مش عايزة غيرك..
قبلةٌ حانيةٌ يربتُ على كفِّها:
-أنا معاكي حبيبتي، الدكتور يطمِّني، مش هسيبك..أغمضت عينيها ليلتفتَ للطبيبِ يشيرُ إليه بفحصها..
بعد دقائقَ من فحصها، تحرَّكَ معه للخارج:
-الجلسات دي ضرورية النهادرة، وياريت جهاز التنفس ساعتين، المدام حامل ولازم الدقَّة بحالتها..
أومأ له يشيرُ للخادمة للتحرِّكِ معه، ثمَّ دلفَ إليها ينظرُ لجسدها الساكن، اقتربَ منها وجلسَ بجوارها يحتضنُ كفَّيها..
فتحت عينيها تهمسُ اسمه:
-إلياس..دنا منها قائلًا:
-ممكن ماتتكلِّميش خالص، علشان التنفُّس، كدا عايزة تموتي وتسبيني..
انزلقت دموعها تهزُّ رأسها بالنفي:
-محستشِ بحاجة والله متفكَّرش كنت عايزة انتحر، واللهِ لأ، أنا مش بنتِ راجح، تأكَّد من كدا..
رسمَ ابتسامةً يداعبُ وجنتيها قائلًا:
-متأكِّد من كدا ياروحي، المهمّ اهتمي بنفسك ياميرو، علشان ابننا يجي بالسلامة، ومتفكَّريش موافقتي إنِّك تيجي هنا يبقى هحلِّك منِّي، أمالَ بجسدهِ وطبعَ قبلةً على وجنتيها:
-مقدرشِ أعيش من غيرك حبيبي..
ابتسمت ولمعت عيناها بحبُّه، متمتمة:
-ولا أنا حبيبي..ملَّسَ على رأسها:
-ياله حاولي تنامي شوية، نظرَ للمحلول:
-دا فيه مخدِّر علشان تنامي كويس، تمام..أومأت بعينيها، لحظات وذهبت بنومها، ليتنفسَ بعمقٍ يغلقُ عينيهِ بهدوء، بعدما فقدَ كلَّ الاحاسيسَ سوى إحساسَ الألم، دقائقَ بجوارها، ثمَّ هبطَ للأسفلِ بدخولِ فريدة..
-إلياس!! طالعها باستفهامٍ على لهفةِ دخولها عليه بتلك الطريقة، وتورُّمِ عيناها..
-إنتِ كويسة؟؟
سحبت كفَّيهِ ودلفت به للداخل، وحاولت كبحَ دموعها، ولكن انهيارها كلما تذكَّرت ماسيقابلهُ ابنها يجعل داخلها يعتصر بعصارة آلامه
جلست وارتفعَ بكاؤها، ذُهلَ من حالتها وانتفضَ قلبهِ ظنًّا أنَّ والدهِ أصابهُ شيئًا:
-ماما فيه إيه؟!..بتخوِّفيني ليه..
ابتلعت غصَّتها التي شعرت وكأنَّها سيوفًا مدببة، وأردفت بتقطُّع:
-بقالي أكتر من خمس ساعات بحاول أوصلك، لحدِّ ما مصطفى عرف مكان عربيتك وإنَّك هنا..
جلسَ بجوارها حينما تسلَّلَ الرعبُ لقلبهِ من حالتها..
رفرفت أهدابها تزيلُ عبراتها المتعلِّقة بها، وسحبت نفسًا قويًا لتثبطَ نوبةَ البكاءِ التي فقدت السيطرة عليها..رفعت عينيها إليهِ ثمَّ سحبت كفَّيهِ وتعلَّقت بعينيه:
-حبيبي اسمعني للآخر وبعد كدا اتكلِّم..
هزَّ رأسهِ موافقًا، وانتظرَ حديثها بلهفة، بلعت ريقها ثمَّ أردفت بنبرةٍ خافتةٍ استمعَ اليها بصعوبة:
-جمال أخوك بيكون أرسلان الجارحي..قالتها ثمَّ سحبت بصرها بعيدًا عنه..
قبل عدة ساعات
عند ارسلان توقف يوزع نظراته بين الدكتور وبين اسحاق
-عمو الدكتور دا بيقولي انا مش ابن فاروق..
جذب ذراعه يرمق الطبيب بنظرات جحيمية
-تعالى حبيبي معايا، توقف كالمتصنم
-الدكتور دا بيقول انا مش ابن فاروق صح ولا لأ..وصل إلى الطبيب بخطوة واطبق على عنقه
-التحاليل دي مزورة ولا حقيقية
شُحب وجه الطبيب يقسم له بتقطع
-والله دي الحقيقة، تسلل من بين يديه بعدما شعر ببرودة تجتاح جسده بالكامل يردد
-"حقيقية"..قالها ليرفع عيناه إلى اسحاق نكس رأسه للأسفل دون حديث
تراجع للخلف
-يعني أنا ابن حرام..صاعقة نزلت على رأس اسحاق من كلماته
-ارسو اسمعني، هرول بتخبط من الغرفة،
-متقربش مني، اياك تقرب مني ..قالها وركض للخارج
سلام لتلك الروح التي …
إجتاحت خريف القلب
گ عاصفة شتائية جامحة
أطاحت …
بكل ما يبس من أوراق المشاعر
وأزهرت من جديد …
حتى وان حالت بيننا …
مدن و بحار ومحيطات
و دول العالم في سبع قارات
وكل خطوط الطول والعرض
سأبقى …
أراك بأشياء اعمق من عيني
وأشعر بك بأشياء أصدق من حسّي
واسمعك من دون كلام بينك وبيني
بمنزل إلياس بعد حديث فريدة
حاولَ أن يستوعبَ حديثها الذي اخترقَ أذنه، ورغم ذلك أنكرهُ قائلًا:
-أنا مسمعتش حضرتك بتقولي إيه، ممكن تعلِّي صوتك..
أطبقت على جفنيها ونيرانُ قلبها تشتعلُ بداخلها، لتردِّدَ كلماتها مرَّةً أخرى وهي تعلمُ بكمِّ قسوةِ كلماتها عليه..
لحظة اثنتان إلى أن مرَّت دقيقتان وهو ينظرُ إليها بصمت؛ علهُ يستوعبَ ما نزلَ على سمعهِ كصاعقةٍ اهتزَّت لها الأرض..
نهضَ من مكانهِ يدورُ حول نفسهِ ينظرُ للأسفلِ بصمت، ثمَّ اتجهَ بنظرهِ إليها:
-هوَّ أنا سمعت صح، ولَّا أنا بيتهيألي؟..حضرتك قولتي أرسلان الجارحي أخويا.. أخويا، ولَّا قصدك علاقته بيا علاقة أخوية؟!..
توقَّفت فريدة عندما تسرَّبَ الألمُ لقلبها حينما رأتهُ بتلك الحالة:
-أرسلان بيكون جمال أخوك، ومن أوَّل مرَّة جه عندنا وأنا عرفته وشكِّيت فيه، وبعد كدا عملت تحليل DNA وفعلًا أثبتت أنُّه أخوك..
صمتٌ مميتٌ وكأنَّ أحدهم ضربهُ بعصا غليظة، ليفقدهُ توازنه، ليهوى على المقعدِ يردِّدُ كلماتها كالذي فقدَ عقله..
إلياس لازم تساعد أخوك، هوَّ النهاردة هيعرف أنُّه مش ابنِ فاروق..رفع عينيهِ الشاردةِ يطالعها بضياع، يستمعُ لحديثها كصدى صوتٍ بعيد"أرسلان بيكون جمال" ظلَّ يردِّدُها بينهِ وبين نفسهِ، حتى شعرَ بقبضةٍ قويةٍ اعتصرت فؤادهِ للحظاتٍ وهو عاجزٌ عن التنفس، ثمَّ أطلقَ ضحكةً صاخبةً يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
-أنا وأرسلان..ههه ظلَّ يضحكُ بطريقةٍ هستيرية، توقَّفَ يدورُ حول نفسهِ يهزُّ رأسهِ ومازالت ضحكاتهِ ترنو بالمكان..
-إلياس إنتَ بتعمل كدا ليه يابني؟..
رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها بجنون، ثمَّ اقتربَ منها وكأنَّهُ فقد عقله:
-إنتِ لو عايزة تجنِّنيني مش هتعملي كدا، حضرتك عايزة منِّي إيه، أه قولي عايزة منِّي إيه؟..
حدقتهُ بعينينِ مليئتينِ بالألمِ وارتجفت شفتيها تهزُّ رأسها رافضةً حديثه:
-عملت فيك إيه يابنِ جمال، قولِّي عملت إيه؟. علشان عايزة منَّك توصل لأخوك، مش آن الأوان أنُّكم تتجمَّعوا..
-آااااااه، صاحَ بها وهو يركلُ المقعد، ورفعَ كفَّيهِ يرجعُ خصلاتهِ للخلف:
-جنِّنتيني..إنتِ فاهمة معنى كلامك دا إيه؟.. أرسلان ظابط مخابرات عارفة يعني إيه، دا مستحيل اللي بتقوليه دا يامدام فريدة، إنتِ شكلك اتجنِّنتي..قالها بهستريا…
هبَّت من مكانها واقتربت منه، ولم تكترث لجنونهِ..تمسكهُ من ملابسهِ بقوَّة:
-وإنتَ كنت إيه بلطجي، مايمكن اللي عمل معاك كدا عمل معاه زيك، ربِّنا ياأخي حماكم من أذى الناس، ربِّنا ربط على قلبي علشان أستاهل ووقَّعكم في أولاد حلال..قالتها بدموعٍ حارقةٍ وحروفها تخرجُ من بين شفتيها بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ به، حروف امتزجت بالانهيارِ وألمِ الأمومة..
بدأت تضربُ على صدرها وصرخاتها تزدادُ تتمتمُ بخفوتٍ حارق:
- ربِّنا حفظكم ياأخي، بحقِّ طيبة أبوك ودعاء أمَّك، بحقِّ رضا وحنان أبوك على أهله، بحقِّ دعواتي ودموعي طول الليل، بحقِّ الظلم اللي عيشته تلاتين سنة، بحقِّ قهرتي وإنتَ قدَّام عيوني ومش قادرة أخدك في حضني، بحقِّ ظلم راجح وخوضه في شرفي وعرضي، بحقِّ ابني اللي نسخة تانية من أبوه وهوَّ قدَّامي وبيقولِّي ياستِّ الكل وأنا مش قادرة ألمسه، بحقِّ كلِّ دموعي اللي نشفت عليكم وقهرتي في عزِّ شبابي على أحنِّ راجل في الدنيا، بحقِّ تربيتي لميرال وحفظي لرؤى وحفاظي عليهم، بحقِّ مساعدتي لسمية وعزة، إيه أكمِّل كمان ياحضرةِ الظابط شايف إنِّ والدتك متستهلشِ أولادها يكون كويسين..
تجهَّمت ملامحه، من شدَّةِ الصدمة التي أشعرتهُ وكأنَّ أحدهم سكبَ عليهِ دلوًا من المياهِ المثلجة، وصور أرسلان تضربُ عقله..أفاق من قسوةِ ماشعرَ به على صوتِ ميرال:
-ماما فريدة، مالك بتعيطي ليه؟!..
ثم التفتت تحدقُ إلياس بتساؤل:
-إلياس ماما فريدة مالها؟!
انتصبَ بقامتهِ مبتعدًا عنهما ومازال تحت تأثيرِ الصدمة، مما جعلهُ يردِّدُ مرَّةً أخرى:
-أرسلان، طيب إزاي، مش قادر أستوعب، التفتَ إليها مرَّةً أخرى:
-إزاي أنا هتجنِّن وإزاي عرفتي تعملي التحليل؟..اكتسى الألمُ على ملامحِ وجهها لتنظر بعينيها للأسفل:
-يوم ماكنتوا بتلعبوا باسكت، دي كانت فكرة إسلام علشان يعرف ياخد منه أيِّ حاجة، الأول فكَّرنا بتحليل دم، بس خوفت إنك تعرف، وبعدين أرسلان ذكي وكان هيكشف الموضوع، أخدت مرَّة فنجان قهوته، بس خوفت النتيجة ماتكونشِ واضحة، حبِّيت أستعين بحاجة أقوى، ابتلعت ريقها ورفعت عينيها تطالعهُ مستأنفةً حديثها:
-إسلام هوَّ اللي فكَّر إزاي نوصل لشعره، علشان كدا اقترح عليك تلعبوا ماتش وبعدها هوَّ كمِّل..
تذكَّرَ ذاك اليوم عندما تسطَّحوا على العشب، ومشاغبةِ إسلام لأرسلان وهو يداعبُ خصلاته:
-إنما مقولتش ياسيد أرسلان، إيه نوع الكريم اللي بتحطُّه على تلك الخصلات الفحمية ياعم؟..
قهقهَ أرسلان يدفعهُ بعيدًا عنهُ وردَّ بمزاح:
-طين من البحر الأحمر
توسَّعت عيناهُ بتصنُّع وأجابهُ مشاكسًا:
- البحر الأحمر فيه طين، طيب ماتجيب عنوان الطين دا..
دفعهُ أرسلان بقوَّةٍ على الأرض يشيرُ إلى إلياس:
-أخوك دا عبيط ولَّا أهبل..
-أنا عبيط ولَّا أهبل، طيب واللهِ لازم أعرف نوع الفنكوش اللي على شعرك دا، قالها وهو يجذبُ خصلاتهِ بقوة، ممَّا جعلَ أرسلان يصرخُ به:
-بس ياغبي، يخربيتك قلعت لي شعري..
نظرَ إسلام بيدهِ وغمزَ بعينه:
-إيخييه دا شعرك وحش وبيوقع..هبَّ من مكانه:
-تعالَ هنا يالا، يعني تشدُّه بالطريقة الغبية دي وعايزه إيه، مفكَّره شجرة؟..
قهقهَ متَّجهًا إلى الداخل:
خرجَ إلياس من شرودهِ وهزَّ رأسه اعتراضًا على ما فعلته:
-يعني الراجل يأمن لنا وأنتو بتستغلِّوه، ولَّا إسلام الحيوان إزاي يعمل حاجة زي كدا من غير مايرجعلي..
لم تستطع استثناءَ نفسها من اللومِ لتردَّ قائلة:
-إسلام مالوش علاقة، أنا اللي طلبت منُّه، إنتَ مكنتش لسة تعرف حاجة..
افترت شفتيهِ صدمةً ليطالعها بذهول، ثمَّ تراجعَ بجسده متذكِّرًا حالةَ غادة وكلماتِ إسلام..هزَّ رأسهِ وابتسامةٌ ساخرةٌ حتى قست عيناهُ وهو ينظرُ إليها:
-غادة وإسلام عرفوا قبلي، واستخدمتي إسلام يساعدك وإنتِ عارفة إنِّي ابنك، يعني لغيتيني، للمرَّة الكام وإنتِ بتلغيني من حياتك، إيه..قالها بصراخٍ لتقتربَ منهُ ميرال:
-إلياس ممكن تهدى، أنا مش فاهمة بتتكلِّموا عن إيه!..
امتلأت عيناهُ بنيرانِ الغضب، ليرمقها بحدة؛
-وإنتِ مالك، تدخلي في الكلام ليه، دقَّقَ النظرَ بها ثمَّ أطبقَ على ذراعيها:
-وياترى المدام كانت عارفة وبتمثِّل، زي مامثِّلت قبلِ كدا، وعملت لي صغيرة على الحب، ولَّا إيه حكايتك إنتِ كمان..
جحظت عيناها تدفعهُ بقوَّةٍ وتهدرُ به معنِّفةً إياه:
-أنا معرفشِ بتتكلِّم عن إيه، بس كل اللي أعرفه إنَّك مابقتشِ تتطاق وبس..
-هنااااء..صرخَ يشيرُ إلى ميرال:
-طلَّعي المدام فوق، علشان ترتاح، اطلعي ولمَّا أتكلِّم مع أمي ماتتدَّخليش بينا، ..رمقتهُ بقهرٍ وصعدت تستند على الخادمة وفريدة تتابعها بعينيها، ثمَّ اتَّجهت إليه:
-خليك دوس عليها لحدِّ مافي يوم تموت منَّك بجد، اعمل قاسي ودوس كمان، دنت حتى أصبحت أمامه:
-أنا جت لك علشان تكون جنب أخوك لمَّا يعرف أنُّه كان عايش في كذبة..
-واللهِ أكون جنبه وياترى يامدام فريدة هروح له بصفتي إيه، أقولُّه تعالَ أقولَّك سر، اسكت مش إنتَ طلعت أخويا وأمي اتأكِّدت بعد مااستغفلتنا واستعانت بعيِّل علشان يلعب معاك..
-إلياس احترم نفسك..
-أحترم نفسي، بصفتك إيه، دار حولها وتابعَ بقسوة:
-حضرتك بتقولي إلياس، عارفة دا معناه إيه؟..
التفتت تطبقُ على ذراعيه:
-حبيبي اسمعني، أنا روحت لإسحاق وهوَّ رفض، وكمان مصطفى راح له ورفض وأصرّ أنُّه مستحيل يقولُّه الحقيقة، مكنشِ قدَّامنا غير إنِّنا نعرَّفه بطريقةِ التحليل دي، بس واللهِ مصطفى مالحق يتِّفق مع الدكتور، لقينا جدِّته رتَّبت لكلِّ حاجة.
دقيقة اثنتان محاولًا إدراك ماتلفَّظت به:
-يعني إيه مش فاهم إنتِ بتقولي إيه؟!..
أنا اتجنِّنت مبقتشِ قادر أفهم حاجة إسحاق رفض إيه، وبابا ماله، ومستشفى إيه وجدِّة إيه، إنتِ بتقولي إيه؟..
احتوت وجههِ تنظرُ لعينيه:
-حبيبي اسمعني عارفة إنَّك بتتحمِّل فوق طاقتك، بس إنتَ أخوه الكبير، إنتَ اللي المفروض تكون جنبه دلوقتي..
تراجعَ للخلفِ مبتعدًا عن مرمى يديها:
-أروح أقولُّه إيه ؟!
لمَّا عملت التحليل واجهت إسحاق وهوَّ رفض وقالِّي مصر كلَّها قدَّامك واثبتي، وباباك لمَّا راح له عمل نفس الشيئ..
لدرجة هدَّد باباك إنِّنا ننسى الموضوع ولمَّح بتهديد شغله، علشان كدا باباك استقال وقالُّه هعرف أخده ومن غير سلطة، بس جه تعب فاروق لخبط الدنيا، وكمان خطف ميرال، ولمَّا فاروق عمل حادثة باباك اتفق مع الدكتور أنُّه يعمل أيِّ حاجة علشان تحليل الدم، ونعرَّف أرسلان أنُّه مش أبوه، بس للأسف لقينا جدِّته متفقة مع الدكتور على أنُّه مريض لوكيميا علشان أخوك يعرف، ليه مانعرفش..
-لوكيميا!..ردَّدها بذهول، متراجعًا يستندُ على المقعد، واستطرد:
-يعني لعبتوا بمرض الراجل علشان تعرفي ابنك!..طيب ماكنتي تقوليلي بدل اللعب والحوارات دي كلَّها، وأنا كنت هتصرَّف، إنتِ عارفة لو خد خبر بالطريقة دي هتكون حالته إيه..
بمنزل زين الرفاعي:
خرجَ من غرفتهِ بمنزلِ والده، اقتربت منه:
-صباح الخير يادكتور..
أومأ دون حديثٍ ثمَّ اتَّجهَ إلى طاولةِ الطعامِ ينادي على الخادمة:
-قهوتي ياهدى، وجهِّزي للآنسة حنين فطارها، خطت إلى جلوسهِ وجلست بجواره، تستندُ على راحةِ يديها تنظرُ إليه بشغف وهو يتصفَّحُ هاتفه:
-هتفضل مقاطعني كدا؟..
رفعَ رأسهِ وأردفَ بهدوء:
-هوَّ إحنا كنَّا متواصلين علشان أقاطعك، أنا اتفقت معاكي ماتجيش وبرضو جيتي مع إنِّي حذَّرتك.
مش المفروض أكون في المكان اللي فيه جوزي؟..
-مش لمَّا نكون متجوِّزين..
-يعني إيه؟..ألقى الهاتف واستندَ بذراعهِ على الطاولة:
-اسمعيني كويس ياحنين علشان مبحبش اللف و الدوران، وأنا قولتهالك قبلِ ما أنزل مصر، إحنا مكنشِ بينا غير ورقة وبس والجواز مصلحة، إنتِ عايزة تثبتي لوالدك مالكيش علاقة بعدوِّه اللي عملتي معاه علاقة بالحرام فكان لازم تثبتي إنِّك بتحبيني ونتجوِّز، وأنا علشان آخد الجنسية ووالدك يساعدني في تعييني هناك، أما الحب والغرام دا اكتشفت أنُّه سراب..
-يعني كلامك ليا كان كذب ياآدم؟!..
تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجها من ثنايا روحهِ ثمَّ حدجها بنظرةٍ ثابتةٍ لعدةِ دقائقَ واستطرد:
-حنين أنا حاولت وأقنعت نفسي بحبُّك بس مقدرتش، وإنتِ كمان حاولتي تقرَّبيني منك، تنكري إغرائك؟..
-بس أنا حبِّيتك ياآدم والدليل على كدا سبت كلِّ حاجة وجيت لك..
توقَّفَ يحملُ هاتفهِ وتمتم:
-بس أنا بحبِّها هي، ومش ناوي أعمل علاقة مع حدِّ تاني، حتى لو هفضل من غير جواز العمر كلُّه..
-ياااه..حتة العيِّلة دي لحست دماغك!..
لمعت عيناهُ بابتسامةٍ قائلًا:
-حتة العيِّلة دي روحي فيها، مش قادر أشوف نفسي مع ستِّ غيرها، بدليل جوازنا، عمري ما حاولت أقرَّب منك، رغم اللي عملتيه..
-أنا مفهمشِ في الكلام دا ياآدم، أنا اللي أقدر أفهمه إنِّك جوزي ومش هتنازل عنك، تحبَّها تكرهها إنتَ براحتك..
دنت ورفعت نفسها تحاوطُ عنقهِ مقتربةً من شفتيهِ تطبعُ قبلةً عليهما ليبتعدَ عنها كالملدوغ ..ابتسمت بخفَّةٍ عليه ثمَّ غمزت بعينيها:
-متتخضِّش كدا، لأنَّك جوزي ومن حقِّي، وأنا دلوقتي عايزة حقِّي فيك، ومش هتنازل عنُّه مهما كان..
أطبقَ على ذراعها بقوة:
-اتجنِّنتي..نزعت ذراعها:
-تؤتؤ يادكتور، متنساش حنين اللي عملتك..فون بس لبابا وأخسف بمستقبلك الأرض، أنا هدخل آخد شاور، التفتت برأسها إليهِ مسترسلة:
-عايزة نكمِّل حياتنا، عايزة منَّك ولد ياآدم، ومش هتنازل وكفاية راضية بمراتك التانية..قالتها وهي تحاوط عنقه بدخول ايلين تهتف
-خالو عرفت مكان خالتو فر..بترت حديثها حينما وجدت تقاربهما؛ لتبتعد من الغرفة محاولة السيطرة على دموعها، قابلتها الخادمة تحمل قهوة ادم فسألتها
-فين خالو ياهدى
-البيه سافر امبارح مع مالك بيه علشان عمليته..ضربت على رأسها متذكرة حديثه عن سفره..وصل آدم إليها
-إيلين ..سحبت نفسًا وطردته بهدوء، مستديرة إليه ورسمت ابتسامة
-نعم !!..اقترب من وقوفها وعيناها تحاصر وقوفها
-خالتو مين اللي تقصديها، اتجهت إلى حقيبتها ونطقت بعض الكلمات
-لما خالو يرجع من السفر، بعد اذنك
جذبها من ذراعها، يهز رأسه وعيونًا متسائلة:
-على فين؟!
نزعت ذراعها من بين يديه وتمتمت:
-راجعة بيت صاحبتي..
عركل حركتها وتوقف أمامها:
-مفيش رجوع هناك تاني
زوت مابين حاجبيه متسائلة:
-ليه ؟!..تسائلت بها بوصول حنين ترمقها بنظرات ساخرة، اقتربت من آدم
-ايه يادومي هفضل منتظراك كتير
حدجها بنظرة مميتة، ثم أشار إليها:
-جوا، ماتدخليش بينا..افلتت ايلين ضحكة ساخرة من بين شفتيها ثم اقتربت منه، وابعدت حنين عنه
-لا راجل يابن خالي، طيب ماكنت تقولي انك حمش اوي وبتخاف عليا
-أنا مش راجل ياايلين
غرزت عيناها بمقلتيه وهتفت دون أن يرف لها جفن
-بالنسبالي ياادم، مفيش راجل يستغل بنت...قالتها واستدارت للمغادرة، إلا أنه رفعها بين ذراعيها وصعد بها إلى شقتهما
-أنا هعرفك دلوقتي انا راجل ولا لأ يابنت عمتي
بفيلا راجح:
بدأ يثورُ وهو يدورُ حول نفسه:
-يعني إيه، نفسي أفهم إيه اللي حصل، سكوت الواد هيجنِّني، وبنتك الغبية دي، توقَّفت مقتربةً منه:
-ممكن تهدى علشان نعرف نفكَّر، أنا من رأيي جوازهم أحسن، ليه عايز تبعدها..
أمسكَ ذراعها بقوَّةٍ يهدرُ بها:
-اتجنِّنتي، دا ظابط عارفة أخرتها إيه، رقبتي هتكون تحتِ رجله..لو مكنش ظابط كنت تقبلته، ويمكن شغلته معايا، معرفش فريدة دي عملت ايه علشان ولادها يطلعوا كدا، لا والواد التاني من أكبر العائلات، ازاي وصول له هتجنن، والله لو مش خايف من قلبتهم لكنت فضحتهم، دا شغال في مركز حساس
نزعت ذراعها تتلمسَّهُ بتألُّم:
-إنتَ اتهبلت، ماهو كدا كدا مش هيسكت بعد اللي عرفه وعملناه..ابعد عن الجارحي احنا مش قده، كفاية الحيوان مصطفى واللي عمله فينا
-اخرسي يارانيا مش عايز أسمع نفسك، جذبَ كأسَ مشروبهِ المحرَّم وأردف:
-إنتِ عارفة أنُّهم أمروا بقتلي، وكانوا عايزين حدِّ يمشِّي شغلهم في مصر، بحجة طارق المتخلِّف، لولا تدخُّل الباشا كنت زمانك دفنتيني ...استدارَ يرمقها وتابعَ مستطردًا:
-لو شمُّوا بس إنِّ العيال دول ولاد أخويا هيموِّتوني في وقتها، المهم العيال دي لازم تموت بأيِّ طريقة، استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-الواد اللي بنراقبه ياباشا خرج من المستشفى وحالته مش تمام..
-خلِّيكم وراه، لحدِّ ماأقولُّكم تعملوا إيه..
خرجَ أرسلان من المشفى بدخولِ غرام، توقَّفت أمامه:
-أرسلان عمُّو فاروق عامل إيه؟..
طالعها بقلبٍ مفطور، وكأنَّهُ انشقَّ لنصفين، دنت بعدما وجدت نظراتهِ التائهة، ووجههِ الشاحب، أمسكتهُ من ذراعه:
-أرسلان عمُّو كويس؟..رفعَ عينيهِ إليها وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثها، لتكرِّرَ سؤالها الذي آلمهُ قائلة:
-أرسلان باباك عامل إيه، ليه مش بتردِّ عليَّا؟..هنا أحسَّ بضلوعهِ تتحطَّمُ بقوةٍ ليتألم صدره، ويخونهُ جسدهِ وهو يترنَّحُ بوقوفه، مما جعلهُ يستندُ على سيارتهِ مردِّدًا بتقطُّع:
-كذب، كلُّه كذب..فتحَ بابَ السيارةِ مع نظراتها المذهولة، وخروجِ إسحاق خلفهِ يصيحُ باسمه، ولكنَّهُ غادرَ المكانَ بسرعةٍ جنونية، يطرقُ على المقودِ بصراخ، ودموعٌ كزخاتِ المطرِ مع ارتجافةِ جسده.. ليتوقَّفَ بالسيارةِ فجأةً حتى دارت حول نفسها وكادت أن تنقلبَ به، انحنى برأسهِ وارتفعت شهقاتهِ وشريطُ حياتهِ يمرُّ أمامهِ كشريطٍ سينمائي، رفعَ عينيهِ التي انفجرت مياهها كمجرى نهري لاينقطع، نظر لنفسهِ بالمرآة:
-أنا ابنِ حرام، أنا مش ابنُ فاروق، طيب إزاي، العمر دا كلُّه كذب، حياتي كلَّها أكذوبة، أرسلان فاروق الجارحي أكذوبة، طيب أنا مين، وليه أهلي عملوا فيا كدا، ياترى باعوني، ولَّا أمي غلطت مع حد، ياترى أنا مين، أنا مين..
قالها بصراخٍ يضربُ بقوَّةٍ على المقودِ مرةً ويضربُِ رأسهِ مرةً أخرى، حتى شعرَ بفقدانِ كلِّ شيئٍ حوله، شعرَ بانسحابِ أنفاسه، وتجمَّدَ الدماءِ بعروقه، تمنَّى من ربهِ أن يلفظَ أنفاسهِ الأخيرةِ حتى يرتاحَ من ذاك الألمِ الذي يشعرُ بهِ حارقًا لجسدهِ بالكامل..
استمعَ إلى رنينِ هاتفه، التفتَ إليه ليجدَ اسمَ إسحاق..دموعٍ فقط مما جعلهُ يفقدُ الرؤية، ليتمتمَ بألمٍ يفتِّتُ العظام..
-يعني إنتَ مش عمِّي، طيب إنتَ مين، ليه تعمل كدا..دقائق مرَّت عليه وهو كالطائرِ الذي قُصَّ جناحيه، وهو داخلَ قفصهِ عاجزًا عن الخروج، رغم تحرُّرهِ من قفصه، كلَّ مايشعرُ به أنَّ داخلهِ يهتزُّ فقط، شعرَ بالدوار يجتاحُ جسدهِ ليقوم بتشغيلِ محرِّكَ السيارةِ وينطلقَ بها دون هدى.
-مالكشِ وجود ياأرسلان، إسحاق وفاروق ضحكوا عليك، دلوقتي فهمت كلِّ حاجة، ليه دايمًا تبعدوني عن اجتماعاتِ العيلة الكريمة…
آااااه ياااااارب انتزع روحي يارب، سرعةٌ جنونيةٌ كالذي لا تهمُّهُ حياته، مع ارتفاعِ رنينِ هاتفهِ ليرفعهُ ويلقيهِ بالطريقِ دون النظرَ اليه، من يرى السيارة وهي تتحرك بتلك الطريقة يقسمُ أنَّها طائرة وليست سيارة تتحرَّكُ على الأرض، نظرَ الرجلُ الذي يراقبه:
-ودا نلحقه إزاي، دا بينتحر.
أشارَ الآخر إليه:
-كلِّم الباشا وقولُّه الوضع..
-راجح باشا الولد من وقتُ ماخرج من المستشفى وهو بينتحر ياباشا، دا واحد بايع الدنيا..
-يعني إيه..قصَّ له الرجلَ ماحدثَ
ليقهقهَ راجح قائلًا:
-كويس خلَّصوا عليه وأهو جت من عنده..قالها وأغلقَ الهاتفَ يجذبَ مفاتيحه:
-اجهزي ياروحي علشان تروحي تعزِّي فريدة..ركضت خلفهِ وأمسكته:
-مابلاش ياراجح، حرام الولد تقتله، وبعدين دا شبه أخوك.
-اخرسي ياحيوانة، مش عايز أسمع صوتك، أنا مش هضيع بسبب واحدة زيك، بتبكي على حبيبها الغايب، مش هستنَّى من العيال دي تموِّتني، كفاية بنتك الحقيرة، وأهو أخوه يلتهي فيه لحدِّ مانخلَّص شغلنا، لازم العيال تخرج من السجن بهدوء بدل مايدخَّلونا إحنا المشرحة..قالها وتحرَّك..
عند إلياس:
-يعني هوَّ دلوقتي أكيد عرف، ليه بتعملوا كدا، إنتِ عارفة دلوقتي ممكن تكون حالته إيه..
اقتربت منهُ واحتوت ذراعه:
-وحياة أغلى حاجة عندك يابني، أوصلَّه، مصطفى مش عايز يدخَّل وخصوصًا بعد تهديد إسحاق، مفيش صلة قرابة، إنما انت اخوه، حاول تكلِّمه قبل مايعرف، أنا معرفشِ هوَّ عرف ولَّا لأ، بس أكيد هيعرف، جدِّته مش هترحمه، رفعت كفَّ إلياس:
-أبوس على إيدك ياحبيبي إلحق أخوك، خلِّيه يعرف منَّك قبلِ مايعرف من الغريب..
ضمَّها لأحضانه:
-خلاص اهدي، أنا هتصرَّف، اهدي ومتعيطيش، هروح المستشفى وأحاول أوصلُّه قبل مايعرف، وإنتِ خلِّيكي هنا مع ميرال، لأنَّها كانت هتموت النهاردة..
قالها وغادرَ المكانَ سريعًا وهو يحاولُ أن يصلَ إليه، ولكن دون جدوى، وصلَ إلى المشفى، دلفَ للداخلِ يسألُ عنه، أجابتهُ ملك:
-كان هنا من ساعتين تقريبًا..
-طيب إسحاق باشا فين..هزَّت كتفها بعدمِ معرفة..تسرَّبَ القلقُ لداخلهِ وهو يحاولُ أن يصلَ لأحدٍ فيهما، رفعَ الهاتفَ وقامَ بالاتصالِ على شريف:
-شريف شوف أرسلان الجارحي فين من تليفونه أو عربيته..
-تمام خلِّيك معايا دقايق هشوف الشباب..
معاك بس بسرعة..عند إسحاق خرجَ خلفهِ ولكن توقَّفَ على رنينِ هاتفه:
-المدام هتدخل عمليات ياباشا، والدكتور طالب حضرتك..
-تمام..قالها وأغلقَ الهاتفَ متِّجهًا اليها، دلفَ للمشفى يشيرُ لأحدِ رجاله:
-تقلب الأرض وتعمل تليفوناتك وتجبلي أرسلان من تحتِ الأرض حتى لو هتجيبه متكلبش، لو رجعت من غيره هموِّتك.
-عُلم ياباشا ..قالها وتحرَّكَ سريعًا لينفِّذَ أوامره، دلفَ للطبيب:
-خير، مش قولت هتستنَّى يومين لحدِّ ما تدخل في التامن؟
-الحالة صعبة، وماخبيش عليك المدام حالتها صعبة وممكن نفقدها في أيِّ وقت، قولت نحاول ننقذ حدِّ فيهم ياهيَّ ياالجنين..
-طيب ولو قولت عايز الاتنين
-صعب والله ياباشا..اقتربَ منهُ ليتسرَّبَ الخوفُ إليه:
-عايز مراتي أولًا وبعدين ابني، إزاي إنتَ هتعملها، تمام يادكتور..صمتَ الطبيبُ يهزُّ رأسهِ فأشارَ بيده:
-لا ..قول تمام وبس.
أومأ له قائلاً:
-تمام ...تمام
عند إلياس ...هاتفه شريف:
-أيوة ياإلياس فيه حاجة غريبة، الموبايل في مكان، والعربية على الطريق الصحراوي.
توقَّفَ يستمعُ إليهِ باهتمام:
-ابعت لي لوكيشن العربية، وأيِّ جديد عرَّفني ضروري..قالها وتحرَّكَ سريعًا بسيارته، فتحَ الخطَّ بعدما استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة يابابا..
-حبيبي إنتَ فين؟..نظرَ للطريقِ وأجابه:
-رايح لأرسلان يامصطفى باشا، ماهو لو أنا ابنك زي ماكنت دايمًا تعتبرني ابنك كنت عرَّفتني وعرفت أفكَّر في حل..
-أرسلان عرف أنُّه مش ابنِ فاروق ياإلياس، وبعت حدِّ وراه، أخوك فيه عربية مرقباه، وكمان حالته مش كويسة..
هلعَ من حديثه، يضغطُ على مقودِ السيارةِ لينطلقَ بسرعةٍ مهولة، ورائحةُ الموتِ تفوحُ حوله، لا يعلم ماسببَ تلك الدموع التي انسابت بقوةٍ على وجنتيه، ماذا يحدث، هل بالفعلِ سيخسرُ أخاه، ضغطَ بأسنانهِ على كفِّه ندمًا..وآااه حارقة بدموعِ الألمِ تحرقُ جسدهِ بالكامل، تمنَّى لو يمتلكُ أجنحة ليصلَ إليهِ ويضمُّه لأحضانهِ ليواسيهِ عما يشعر به، هو يعلمُ بكمِّ الآلامِ الذي سيواجهها بتلك اللحظاتِ المميتة، دعا ربه "ربِّ إنِّي مغلوبٌ فانتصر"
-شريف فين المكان دلوقتي..اتَّجهَ شريف ليتأكَّدَ من مكانه:
-العربية واقفة في الطريق..
-تمام ..
سرعات ماهي سوى سرعات، ورغم ذلك يشعر كأنها ثقيلة، ضغط على سرعته والسيارة كالطائرِ الذي لا يلمسُ الأرض، يتحرَّكُ بها كوحشٍ جائع، بوجهٍ كالوحة مرسومة بالألم، ولسانٍ ثقيلٍ يردِّدُ ذكرَ الله، بعد شعورهِ بثقلِ تنفُّسه، وكأنَّهُ شعرَ بأنَّ أخاهُ أصابهُ مكروه، دقائقَ ربما تخطَّت الساعة ولكنَّها ساعاتٌ بأعوامٍ كالسيفِ على العنق، وهو يصلُ إلى الجمعِ الملفوفِ حول السيارة..انتفضَ ذعرًا، وهبَّ من سيارتهِ يركضُ ولايرى سوى سيارةِ أخيه المنقلبةِ على الطريق، ليطالعها بأعينٍ منتفضةٍ ذعرًا والرؤية تتلاشى من هولِ الصدمة، اقتربَ مع جذبِ البعض إليهِ من حتميةِ انفجارِ السيارة، دفعَ الرجلَ كالذي تملَّكهُ شيطان، حتى لا يرتكبَ أبشعَ الجرائم..
دفعَ زجاجَ النافذةِ مع ركلاتٍ عديدةٍ كالمجنونِ وهو يصرخ:
-مستحيل أسيبك تموت، صرخاتٍ مع ركلاتٍ لبابِ السيارة، وانفجارِ السماءِ بالأمطارِ ، رغم أنَّنا بشهرِ مارس وقلَّةِ الأمطارِ بذلك التوقيت، انقلبَ حالهِ وهو يصرخُ كالمجنونِ ويصدحُ صوتهِ باسمِ أخيهِ كصوتِ عويل، تجمَّعَ بعض الشبابِ بعد اقترابِ السيارةِ على الانفجارِ وجذبهِ بعيدًا عنها، ولكن هنا كيف التحكَّمَ بالمشاعر، وهو يرى أخيهِ فلذتهِ الغائبة، ينساقُ إلى الموتِ أمامَ عينيه، زحفَ على الأرضِ بعدما فقدَ القدرةَ على الوقوفِ لارتجافِ جسدهِ بالكامل، كمن تلقَّى ضربةً موجعةً قسمت جسدهِ وهشَّمت داخله..
تحدَّثَ أحدُ الموجودين:
-يابني ابعد الله يخلِّيك، هوَّ شكله مات، ابعد يابني ربنا يبارك لك في شبابك، قالها مع وصولِ سيارةِ الشرطةِ والإسعافِ بذلك الوقت، أشارَ بسلاحه:
-اللي يقرَّب مني هموِّته، قالها وهو يدعو ربهِ أن ينقذهُ حتى لو دفعَ عمرهِ ليفديه..كسر الزجاجَ بظهرِ سلاحه، ينظرُ إلى أرسلان الذي اختفت ملامحهِ ولا يوجد بها سوى الدماء، تراجعَ رغمًا عنه مفزوعًا، وارتعشت ساقيه لتصبحَ هلامتين وبركُ عينيهِ تنزفُ بدل الدموعِ دماء، ورغم مايشعرُ به، دلفَ من النافذةِ بهدوءٍ مع ابتعادِ الجمعِ عن المكان، ليدلف لداخلها بضعفٍ يرفعُ جسدَ أخيه ويملِّسَ على وجههِ بكفِّه المرتعش، مرَّرَ كفِّه فوق رأسهِ وروحهِ تأنُّ بأنينٍ تنفطرُ له القلوب، ليضمَّهُ بقوةٍ كالأبِ الذي يضمُّ طفله.
-أرسلان أنا جيت حبيبي، افتح عيونك، قالها وهو يفتحُ بابَ السيارةِ بهدوء، ليهرولَ المسعفينَ إليه، ُليجذبونهُ بهدوءٍ منه، ولكنَّهُ رفضَ يشيرُ إلى أحدهم وأردفَ بلسانٍ ثقيل:
-أنا هشيله، حدِّ يسنده معايا بس.
وصلَ به إلى سيارةِ الإسعاف، لعملِ الاسعافاتِ اللازمة له، انحنى يقبِّلُ جبينهِ ويزيلُ دمائهِ من فوقِ وجهه:
-أرسلان..قالها ينحني على جبينهِ يضمُّ رأسهِ بيديهِ الغارقةِ بدمائه:
-أرسلان افتح عيونك علشان أعرَّفك المفاجأة، شوفت القدر، ياله حبيبي..ولكن كيف له أن يستمعَ إليه بعد تلك الإصاباتِ التي تعرَّضَ لها..
رفع نظرهِ للمسعفِ الذي يحاولُ إنقاذهِ وانتظرَ حديثه:
-مش بإيدي حاجة غير أوصَّله المستشفى وهوَّ لسة عايش، الصراحة الحالة خطيرة، ربنا معاه..
صرخةٌ بآاااهٍ عاليةٍ خرجت من بُطينِ قلبهِ ليهتزَّ لها الجسد وهو يضمُّهُ إلى صدره:
-أرسلان متعملشِ فيا كدا، قوم علشان أعرَّفك الستِّ اللي كنت بتقول عليها ستِّ الكل، طلعت ستِّ الكل، أرسلاااان..
جذبهُ مصطفى الذي وصلَ بعد معرفتهِ بما صار..إلياس اجمد ماينفعشِ كدا.
أشارَ إلى جسدهِ الشاحبِ وهتفَ بتقطُّع:
-أخويا يابابا، شوفت القدر، يوم ماأعرف أنُّه أخويا يضيع مني..
احتضنَ رأسهِ وأزالَ دموعه:
-حبيبي فوق والدتك محتاجاك جنبها، لما إنتَ تعمل كدا هيَّ تعمل إيه، طيب إنتَ كنت قدَّامها السنين دي كلها، هو بقى ياحبيبي، لازم تجمد، مش عايز ضعفك دا..
انطلقت سيارةُ الإسعاف، ليهرولَ خلفها بسيارته..وصل بعد فترةٍ إلى المشفى..
مع وصولِ إسحاق الذي وصلَ إليه الخبرَ كالصاعقةِ التي هزَّت قوَّته، ليدلفَ للمشفى بدموعٍ توخزُ جفنه، وجسدهِ كتلةً من الشظايا المبعثرة، هرولَ خلفهِ قبل دخولهِ العمليات، ليجذبَ الطبيبَ من تلابيه:
-تموت جوَّا الأوضة دي وتطلع تقولِّي ابنك كويس، أقسم بالله لو سمعت حاجة غير كدا لافضِّي سلاحي في دماغك..
عند فريدة:
جلست بجوارِ ميرال تطعمها، أحسَّت بالاختناقِ واعترى جسدها رعشةً جعلت قلبها ينتفضُ من الألم الذي يغزوه، نهضت بعدما وضعت الطبقَ الذي يحتوي على الطعام:
-ماما مالك؟!..تساءلت بها ميرال..
-مفيش حبيبتي قلبي وجعني شوية، يمكن علشان شدِّيت مع إلياس شوية.
سحبت كفَّيها وجذبتها لتجلسَ بجوارها:
-وتشدِّي على جوزي ليه ياستِّ ماما..
ابتسمت فريدة رغمًا عنها تجذبها لأحضانها:
-هوّ إنتِ مش عايزة تكبري خالص ياميرو، منين عايزة تنفصلي ومنين خايفة عليه؟..
أحسَّت بوجعٍ يغزو نبضها لترفرفَ بأهدابها ثمَّ قالت:
-مش عايزة في يوم نكره بعض ياماما، خايفة في يوم يذلِّني بأمي وأبويا، صعب ياماما اللي بمرّ بيه.. قالتها بنبرة منكسرة
ملَّست على شعرها ثمَّ رفعت ذقنها:
-حبيبتي أنا ماما وأنا بابا، مش عايزة أسمع كلمة واحدة تدينك، راجح مستحيل يكون أبوكي سامعة، ورانيا الشيطان دي مستحيل تكون أم أصلًا، طيب أقولِّك خبر حلو هيخليكي تفتخري...ابتسمت ميرال تنظرُ إليها وتمتمت بحب:
-أنا مفتخرة بجوزي وبيكي ياماما، بس حقيقي كنت خايفة علشان كدا محبتش أكون عبء وضغط عليكم، بس النهاردة أوَّل مرَّة أحسِّ إنِّي أهمِّ شخص عند اليأس ابنك..
ضحكت فريدة تقرصُ وجنتيها:
-يأس وابني، مفيش حبيبي يعني؟..
هزَّت رأسها قائلة:
-تؤ، لأنُّه روحي وحياتي كلَّها، بس ربنا يهديه ويفضل على طول الراجل الحنيِّن، مش يقلب لدراكولا، واللهِ دراكولا جنبه مظلوم..
ارتفعت ضحكاتُ فريدة تضمُّها لأحضانها:
-ربنا مايحرمني من ضحكتك ياحبيبة ماما، واللهِ الولد غلبان بس إنتِ اللي مجنونة، وجنِّنتيه معاكي..
أشارت على نفسها ببراءة:
-أنا مجنونة، أيوة فعلًا وهوَّ مستشفى المجانين، أقولِّك على حاجة ابنك دا المفروض يعيِّنوه على منصِّة الإعدام، عارفة وقتها مش هيحتاجوا يغطُّوا المجرم، كفاية نظرة إلياس بس تخلِّي السليم يموت رعب..
ارتفعت ضحكاتُ فريدة تهزُّ رأسها بحب:
-يخرب عقلك لو سمعك هيموِّتك، وترجعي تقولي كان وكان..
-تؤ ياستِّ ماما، ابنك واقع في غرامي، زي ماأنا ميتة فيه، ودي تكفِّيني أحاربك شخصيًا علشانه.
احتضنت وجهها ثمَّ نظرت إلى بطنها:
-فعلا حبيبتي هوَّ واقع في غرامك وإنتِ ميتة فيه، وحاربي علشانه وبس ياميرو، عايزة ميرال اللي ربتها، ميرال مرات إلياس السيوفي اللي يقدر يتسند عليها، أوعي في وقت تشكِّي فيه، لأنُّه مستعد يضحِّي علشانك، ومتصدقيش كلامه اللي قاله، واللهِ يابنتي دا من كترِ خوفه عليكي..
دفنت نفسها بأحضانِ فريدة:
-أنا بحبُّه أوي، وخايفة من بكرة أوي، خايفة حياتنا تتهدّ ياماما، أنا مش قوية أبدًا أنا ضعيفة ومن غيره ميِّتة..
أخرجتها من أحضانها ترفعُ وجهها:
-لا إنتِ قوية، واللي يقرَّب من حياتك وجوزك دوسي عليه، حتى لو أنا، أهمِّ حاجة في حياتك ابنك وجوزك، بعد كدا هتلاقي نفسك أسعد إنسانة في الدنيا..
قطعَ حديثهما وصول إسلام حاولَ أن يبتسم:
-ماما..نهضت تطالعهُ باستفهام:
-فيه إيه ياحبيبي مال وشَّك كدا؟..
-غادة فيه عربية ضربتها قدَّام الجامعة وبابا بعتني لحضرتك..
لا إله إلا الله..اللهمَّ أجرنا في مصيبتنا، ردَّدتها وجذبت وشاحها تنظرُ إلى ميرال:
-حبيبتي ارتاحي، إياكي تتحرَّكي، وحطِّي الجهاز تاني على وشِّك، لحدِّ ماجوزك يرجع..
نزلت من فوقِ السرير:
-لا أنا هاجي عايزة أطَّمن على غادة، اقتربَ إسلام يساعدها:
-ميرال اهدي، غادة كويسة بس هيَّ عايزة ماما، الإصابة مش خطيرة..
التفتت فريدة تنظرُ إليها بلوم:
-أنا لسة بقول إيه، ابنك وجوزك أوَّل حاجة، وأوَّل ماأوصل هطمِّنك.
بعد فترةٍ دلفت للمشفى بجوارِ إسلام، نظرت حولها متسائلة:
-غادة في مستشفى عسكري ليه يابني، لم يجبها وتحرَّكَ بصمتٍ دون أن ينطقَ بحرفٍ لتذهبَ ببصرها على وقوفِ إسحاق أمام نافذة، وجلوسِ إلياس يحتضنُ رأسه، نهضَ مصطفى يقابلها..وزَّعت نظراتها على الجميع، صفية التي تجلسُ على الأرضية، تضمُّ ابنتها، إلياس الجالس بملابس ملطخة بالدماء..
أُصيب جسدها بشللٍ وتوقُّفِت أعضائها، وعيناها فقط تتجوَّلُ بينهم تبحثُ عن فلذةِ كبدها..
حاوطَ مصطفى جسدها، رفعت عينيها تنظرُ لذراعهِ ثمَّ وصلت بعينيها لإلياس الحاضر الغائب، حرَّكت شفتيها لتتحدَّث، ولكن هربت مخارج الحروف وثقل لسانها لبعضِ اللحظات، وشقَّت الدموعُ جفنيها لتتساءلَ بتقطُّع:
-اب .ني ف.ين يامص..طفى..رفعَ إلياس رأسهِ بعدما استمعَ إلى صوتها، لتقابلَ عينيهِ الجامدةِ التي أُصيبت بالبرود، دنت منه بخطواتٍ ثقيلةٍ كالطفلِ الذي يستندُ ليتعلَّم السير..
-أخو..ك في..ن أغمضَ عينيهِ وابتعدَ بنظراتهِ عنها، لتلتفتَ مع خروجِ الطبيب من غرفةِ العمليات:
-عملت اللي عليَّا والله، والباقي عند ربنا، حاولت بكلِّ جهدي، الضربات للرأس قوية، دعواتكم وسلامته إن شاءالله..قالها وركضَ من نظراتِ إسحاق المميتة، أشارت على الطبيبِ تنظرُ إلى مصطفى:
-هو قصده مين؟..أوعى يكون اللي في بالي..استمعت إلى صوتِ ملك:
-ماما أنا عايزة أخويا، عايزة أرسلان ياماما، محدش يقولِّي أنُّه هيموت..
هنا دارت الأرض تحت أقدامها ليختلَّ توازنها تنظرُ إلى إلياس تودُّ لو تصرخَ وتملأ الدنيا بصرخاتها ليعلمَ الجميع كم عانت من قسوةِ تلك الحياة...
هب إلياس من مكانه مع سقوط جسدها، لتهوى جاثية بركبتيها، وصرخة شقت الصدور باسم ابنها لتغيب عن وعيها تتمنى من الله أن لا تفيق أبدًا فيكفي ماصار لها
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض "
ليلةٌ واحدة...لا ننساها...تلك الليلة التي كبرنا فيها عمرًا فوق أعمارنا ..ونضجنا فيها من شدَّةِ ما كان أذاها عميقًا..
كلَّ نظرةٍ منَّا تحكي صمتاً أثقلُ من الكلمات..وجرحًت لا يلتئم..
مابين الحزنِ والصبرِ تتأرجحُ المشاعرُ كأرجوحةٍ في مهبِّ الريح....
فسلامٌ على مشاعرٍ أحرقناها بالسكات..
وسلامٌ على أعينٍ قاومت دموعها بأسخفِ الضحكات..
وسلامٌ على دفترٍ ملأناهُ حتى سقطَ القلمُ وانتحرت الكلمات...
ثابتينَ رغمًا عن كلِّ شيئ.
ثابتينَ وداخلنا ينتفضُ ويبكي ويحترق ..
ندَّعي أنَّنا بخير ونحنُ في أمسِّ الحاجةِ لنرتمي في حضنِ أحدهم ونبكي دون توقُّف
مرَّت ليلةٌ ثقيلةٌ على الجميع، لم يغمض لهم جفنًا، فريدة التي احتُجزت بجوارِ ابنها يجاورها مصطفى الذي لم يبتعد عنها إنشًا واحدًا، بينما إلياس جالسًا بالخارج جسدًا مهشَّمًا يشعرُ وكأنَّ الحياةَ أطبقت على روحهِ لتأنَّ بأنينٍ مرير..اقتربَ منه إسلام:
-إلياس لازم تروح تغيَّر هدومك، هتفضل كدا..تراجعَ بجسدهِ للخلف وأغمضَ عينيه، لا يريدُ أن يتحدَّث، وكأنَّ الصمتَ ملجأهِ بتلك اللحظات، وماأصعبَ القلوبُ حينما تشعرُ بالانفجارِ ورغمًا عنها تصمت، ومخالبُ الألمِ تنهشُ بداخلها ..
-إلياس!! فتحَ عينيهِ وحاورهُ بصمت؛
-قوم روح ارتاح شوية وغيَّر هدومك، هدومك كلَّها دم..
-بعدين أطَّمن على ماما وأرسلان الأوَّل..استمعَ إلى حركةٍ بالردهة، وخروجِ صفية من غرفةِ أرسلان يحاوطها إسحاق، وهرولةِ الأطباءِ إلى الغرفة.
نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ إلى وقوفهم أمامَ النافذة، من يرى تحرُّكهِ يظنُّ هدوءَ لجسده، ولكن تحرُّكهِ لم يكن سوى ضعفه، ملامحٌ صلبةٌ جامدةٌ وقلبٌ استوطنَ به الألم، استندَ على الجدارِ حينما جاءهُ دوارًا من قساوةِ الحديثِ الذي اخترقَ أذنه:
زوِّدي الأدرينالين، المريض هيروح منِّنا.
استندَ على زجاجِ النافذةِ ينظرُ إلى محاولةِ الأطباءِ لإنعاشِ جسده، و إلى سكونِ جسدِ أخيهِ بفزعٍ وشبحُ رائحةِ الموتِ تطبقُ فوق صدره..
مرَّة واثنتان والطبيبُ يحاول إنعاشَ القلب، وهو ينظرُ إلى جسدهِ الذي يفارقُ الحياة، وصلَ إليه مصطفى وإسلام يحاوطونه، مع كلماتِ المواساةِ والدعاء..
مسَّدَ اسلام على ظهره:
-إلياس ..ولكن كيف له القدرة بالتفوُّهٍ او النظرِ إلى أحدٍ سوى أخيهِ الذي يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة، بداخلهِ آلامًا عجزت الأبجديةُ عن وصفها، ألمُ ينزفُ من روحهِ ويستوطنُ خلاياه..
همسَ بنبرةٍ خافتةٍ كالطفلِ الخائفِ الذي يدعو ربه:
- اللهمَّ إنَّك رزقتني أخي من غير حولٍ لي ولا قوَّة فاللهمَّ احفظهُ لي وبارك لي في عمره،
اللهمَّ إنِّي أسألكَ بأنَّكَ لا إلهَ إلَّا أنتَ اللهمَّ احفظهُ بعينكَ التي لا تنام إنَّكَ الحيُّ الذي لا يموت..
قالها بعيونٍ قلقةٍ والخوفُ الذي يتسلَّلُ بداخله، كشيطانٍ يتربصُ لمؤمنٍ ليزهقَ صبره..عيناهُ غُلِّفت بالظلام، وارتعاشةٍ أصابت وقوفه، وهو مازال يحتضن بنظراته جسد أخيهِ يدعو ربَّهِ أن يستجيبَ ويعودَ قلبهِ للنبضِ مرَّةً أخرى.
يااارب..قالها بخفوت، مع اختلالِ توازنه، وتكوُّرِ الدموعِ تحت أهدابه، لحظات بآلافِ السنينِ إلى أن هزَّ الطبيبُ رأسهِ بآسف، هنا توقَّفَ النبضُ ودارت به الأرض، وعيناهُ تنطقُ بكمِّ الألمِ الذي يشعر به، لحظاتٍ جحيمية، وصمتٍ مميتٍ مع أنفاسٍ مرتفعة، وضعَ الطبيبُ جهازه، مع اقتحامِ إسحاق الغرفةَ كالأسدِ المفترس، يحطِّمُ كلَّ ما يقابلهُ
إلى أن وصلَ للطبيب:
-أنا قولت لك إيه..بترَ حديثهِ صراخُ الممرضة، التي تحاول انعاش القلب بالضغط على صدره، النبض عاد يادكتور..
هنا شعرَ إسحاق بالخدرِ يسري بجسدهِ بالكامل، وهو يستمعُ إلى نبضهِ يعلو بالغرفةِ مرَّةً أخرى..تراجعَ يشيرُ للطبيب:
-تمام ..تمام، شوف شغلك، قالها وتحرَّكَ بظهرهِ للخلفِ وعيناهُ تحتضنُ جسدَ أرسلان، خرجَ من الغرفةِ واتَّجهَ إلى مكان وقوفهِ مرَّةً أخرى، مع ترطيبِ لسانهِ بالحمدِ والثناء، حتى انتهى الطبيبُ وتحرَّكَ للخارج:
-ربنا يقوِّمه بالسلامة..قالها وتحرَّكَ سريعًا من أمامه..أومأ برأسهِ دون حديثٍ وعينيهِ على إلياس الحاضرِ الغائب، اقتربَ منه وحمحمَ مردفًا:
-أرسلان قوي وإن شاء الله هيقوم عندي أمل في ربنا كبير..
-البركة في حضرتك، بس عايز أقولَّك إنتَ السبب في اللي هوَّ فيه، قالها ومازالت نظراتهِ على أخيه.
اقتربَ منه إسحاق وتوقَّفَ بجوارهِ ونظرَ إلى أرسلان قائلًا:
-ومتفكرش هتوصلُّه ياحضرةِ الظابط، هوَّ عرف أه، بس برضو هيفضل أرسلان الجارحي..
التفتَ إليهِ إلياس، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى مصطفى الذي أشارَ إليه بالهدوء، ولكن كيف يصمت وداخلهِ فوهةٌ بركانية، ليستديرَ بكاملِ جسدهِ لإسحاق:
-لولا تعب أخويا كنت ردِّيت على حضرتك، دنا برأسهِ وأردفَ بنبرةٍ خافتةٍ ممزوجةٍ بالألم:
-جمال جمال الشافعي، ياسيادةِ العقيد، أنا مش هحرمك منُّه، ودا مش جدعنة منِّي، لا علشان أنا حقَّاني ومبحبش الظلم، فبلاش تقول هيفضل ويفضل، دا أنا اللي أقرَّره مش حضرتك، حتى هوَّ لمَّا يفوق مالوش غير القرار اللي أخوه الكبير هياخده..
-إنتَ اتجنِّنت...قالها إسحاق..تراجعَ إلياس إلى المقعد، فاقتربَ إسحاق منهُ ووجههِ عبارةٌ عن لوحةٍ من الألمِ والحزن:
-اسمعني علشان تبقى عارف، وأنا قولتها لحضرةِ اللوا، أرسلان هيفضل ابنِ الجارحي ولو فيها عمري.
-حقَّك ياباشا، مش هنكر حقَّك، بس اسمعني إنتَ كمان، الستِّ اللي جوا دي هيَّ أكتر واحدة ليها الحق، مع احترامي لتعب حضرتك ولفاروق باشا، بس أمِّي أكتر واحدة ليها الحق..
-وأمُّه اللي ربِّيته..استدارَ إليهِ إلياس:
-وأمُّه اللي اتقهرت بخطفه، أمُّه اللي اتحمِّلت وجع ابنها المخطوف تلاتين سنة، يظهر قدَّامها وتعامله على أنُّه واحد غريب، ويوم ماتتمسِّك بالأمل حضرتك تهدِّدها..
-حضرةِ الظابط شوف بتقول إيه..
-بقول إيه، مش دا اللي حصل، ولَّا أنا بتبلَّى على حضرتك، مش لو حضرتك وزنت الأمور وعرَّفته مكنشِ دا كلُّه حصل، ذنبه إيه يكون في لعبة بينكم، وصدَّقني الستِّ والدتك مش فارقة معايا عمايلها، بس وحياة رقدته دي لو حصلُّه حاجة ماهسكتلها..
-إنتَ أكيد مجنون، والدتي مالها؟!..توقَّفَ إلياس وفقدَ سيطرتهِ وتحكُّمهِ بنفسه:
-يعني إيه، يعني حضرتك متعرفشِ بلعبتها القذرة علشان تكشف لأخويا حقيقة نسبه، ذنبه إيه يتصدم كدا، حضرتك هتعرف إزاي وإنتَ معشتش صدمةِ القهر وإنتَ شايف نفسك شخص سراب ومالوش وجود..
حدقهُ مذهولًا، وتوقَّفَ بجسدٍ متيَّبسٍ من الصدمة، لا يريدُ أن يستوعبَ ما يوضِّحهُ عقله، هل وصلت والدتهِ لذلك الوضعِ المنحطّ..هزَّ رأسهِ بالنفي وبعيونٍ متَّسعةٍ نطق:
-إنتَ بتقول إيه!؟..توقَّفَ مصطفى بينهما:
-لو سمحتم كفاية، راعوا حالة الكلّ..
دارَ حول نفسهِ كالأسدِ الجريح، يريدُ أن يهدمَ المكانَ وما فيه..
-روح اسأل الستِّ الوالدة، إيه قصدها من لعبةِ التحاليل دي..
هنا فاقَ إسحاق على كابوسٍ مريرٍ ممزوجٍ بقسوةِ ما فعلته والدته، كوَّرَ قبضتهِ وشياطينُ الجنِّ تتراقصُ بعينيه، يريدُ أن يصلَ إليها ويلقيها صريعة، تراجعَ على المقعدِ وهو يشعرُ أنَّهُ بركانٌ أوشكَ على الانفجار..
جذبَ مصطفى إلياس واتَّجهَ به إلى أحدِ المقاعد:
-حبيبي اهدى، وبلاش تضغط على إسحاق، هوَّ كمان مالوش ذنب، شايف حالته، كفاية أخوه اللي بين الحياة والموت
أغمضَ عينيهِ يحاولُ إسكاتَ ضرباتِ قلبهِ العنيفةِ التي تحوَّلت لجنونِ الألم..
جلسَ على المقعدِ ومازال يحاولُ ثبات صلابةِ قوَّتهِ الواهيةِ التي أوشكت على الانهيار..
عندَ ميرال قبل قليل:
استيقظت من نومها، ونهضت متَّجهةً إلى حمَّامها، أدَّت فرضها وجلست لبعضِ الوقت، ثمَّ تحرَّكت بهدوءٍ للأسفلِ ظنًّا أنَّهُ رجعَ مرَّةً أخرى، جالت عيناها بالمنزل، وسألت الخادمة:
-هوَّ الباشا مرجعشِ من إمبارح؟..
هزَّت رأسها بالنفي وأجابتها:
-لا يامدام، بس الستِّ الصغيرة في أوضتها فوق..
ضيَّقت مابين حاجبيها متسائلة:
-مين غادة؟!..إزاي هيَّ مش عاملة حادثة، هوَّ فيه إيه؟..قالتها وصعدت إلى غرفةِ غادة، دلفت للداخلِ وجدتها تغفو بهدوء، جلست جوارها تستكشفُ حالةَ جسدها، ثمَّ هزَّتها بهدوء:
-غادة..فتحت عيناها..
-حبيبتي إنتِ صحيتي، قالتها واعتدلت جالسةً على الفراش.
نظرةٌ متفحِّصةٌ تطالعها بتساؤلٍ من عينيها..فركت يديها مبتعدةً بنظراتها، تمتمت بتقطُّع:
-أصل إلياس في المستشفى وقالِّي آجي أقعد معاكي، ماهو..
هبَّت من مكانها:
-هتنقَّطيني إلياس بيعمل إيه في المستشفى، أوعي يكون تعبان..لا أوعي يكون هوَّ اللي عمل حادثة.
-ميرال اهدي إلياس كويس، بس الحقيقة فيه موضوع ملخبط الدنيا، أرسلان الجارحي..
-أرسلان الجارحي، ماله؟!..
-طلع أخو إلياس اللي بيدوَّر عليه.
-إيه..أرسلان، إزاي معقول!.. لا أكيد مش صح..
فركت غادة جبينها مرَّة، ثمَّ مسحت على وجهها بالكامل، ورفعت عينيها التي سكنَ بها الحزنُ إلى ميرال وأردفت قائلة:
-الموضوع صعب أوي ياميرال، وإلياس منهار علشانه، أصله عمل حادثة صعبة أوي..اتَّسعت حدقتاها، وتذكرت حديثه مع فريدة واتهاماته، هنا علمت معنى حديثه، شعرت بألمٍ يفتكُ بها وهي تتخيَّلُ حالته الآن، لتستديرَ بقلبها المتلهِّفِ عليهِ قائلة:
-اجهزي لمَّا ألبس، لازم أروح له..ركضت إليها تتشبَّثُ بذراعها:
-ميرال استني، مينفعشِ إلياس هيزعل، هوَّ قالِّي متتحركيش من مكانك..احتجزت الدموعُ بعينيها مستطردة؛
-غادة لازم أكون جنبِ جوزي، وماما دلوقتي حالتها إيه، وفي الأوَّل والآخر دا ابنِ عمِّي، والراجل اللي عمل فيهم كدا بيكون أبويا للأسف..قالتها وغادرت الغرفة..
بعد فترةٍ وصلت إلى المشفى دلفت للداخلِ تبحثُ عنه بعيونِ الألمِ والندم، إلى أن توصَّلت لمكانِ جلوسه، ثمَّ ردَّدت اسمه:
- إلياس..قالتها بألمٍ ارتسمَ بعينيها المحتجزةِ دموعَ الألمِ والقهرِ بآنٍ واحد..
رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها بعيونٍ تتلألأُ بالدموع، انسابت دموعها تخطُّ وجنتيها ليهبَّ من مكانه، ودون حرفٍ تنطقُ به شفتيهِ جذبها لأحضانهِ وانهارَ باكيًا، بكى بكاءً كالطفلِ الذي فقدَ والديهِ مما جعلَ الجميعَ يتعجَّبُ من حالتهِ التي لأوَّلِ مرَّةٍ يرونهُ بها..
ضمَّتهُ بقوَّةٍ وبكت على بكائه، مما جعلَ الكلُّ يبكي عليه، نطقت بشهقاتٍ متقطِّعة:
-راجح اللي عمل فيه كدا ياإلياس صح؟.. هوَّ أكيد السبب ورا حادثته، عرف أنُّه أخوك..هوَّ قالها طول ماأنا معاكم هيموُّتكم كلُّكم، أنا مش هقدر أشوفك بتتوجع كدا، الراجل دا مهما كان اسمه أبويا، خلِّيني أروح له ياإلياس..
سحبَ كفَّها ودلفَ لداخلِ الغرفةِ، حاوطَ وجهها يزيلُ عبراتها بأطرافِ أنامله:
-ميرال مش عايزك تنطقي اسمِ الراجل دا، إنتِ مالكيش دعوة بحاجة، سمعتيني الراجل دا مفيش حاجة تربطه بيكي..وعداوته معانا مش بسببك أبدًا، وبحلف لك ياميرال حتى لو إنتِ مش مراتي كنت مستحيل أخلِّيكي تروحي له، عايزك تشيلي من دماغك اسمِ الراجل دا ماشي..
صمتت وحاولت أن تقنعَ نفسها بحديثه، رغم انعكاسِ نيرانِ قلبها التي توحَّشت داخلها..
رفعَ ذقنها:
-أوعديني إنِّك مش هتروحي للراجل دا..هزَّت رأسها وجذبت يدهِ متحرِّكةً بخطاً بطيئةً بسببِ شعورها بالدوران،
جلست تنتظرُ جلوسهِ بجوارها، ولكنَّهُ ظلَّ متوقِّفًا يدقِّقُ النظر بها:
-ميرال مش هتعملي حاجة بدون علمي صح..رفعت رأسها وهزَّت رأسها بالموافقة..جلسَ بجوارها وجذبها لأحضانهِ يحاوطها بذراعه:
-عاملة إيه دلوقتي؟..رفعت كفَّيها على وجههِ تتفحَّصهُ بعينها:
-إنتَ اللي عامل إيه، وماما فريدة عاملة إيه؟..
تمدَّدَ على الفراشِ يضعُ رأسهِ فوق ساقيها متنهِّدًا بألمٍ يخرجُ من أعماقِ قلبهِ قائلًا:
-ماما محجوزة في الأوضة اللي جنب أرسلان، بابا طلب من الدكاترة تفضل على المهدِّئات، بس هيَّ كويسة..
ملَّست على رأسهِ بحبٍّ تستمعُ إلى حديثه، وكأنَّهُ لا يوجد بينهما أيِّ صراع:
-طيب ممكن تنام شوية، شكلك مرهق أوي..
-أنام إزاي ياميرال وأنا حاسس لو قفلت عيوني هفوق على كابوس فقدان أرسلان..انحنت تضعُ رأسها على جبينهِ وهمست بخفوت:
-حبيبي كلِّ حاجة مقدَّرة في الدنيا، هوَّ أنا اللي هقولَّك على القضاء والقدر، لو له قدر يعيش هيعيش، ارمي حمولك على ربنا..
ابتسامةٌ من وسطِ أحزانهِ على كلماتها التي تحاولُ أن تهوِّنَ عليه، نظرَ لداخلِ مقلتيها:
-ربنا يكمِّلك بعقلك وتفضلي عاقلة على طول..داعبت أنفهِ بأنفها ومازالت تهمسُ بخفوت:
-مراتك عاقلة واللهِ بس إنتَ اللي مجنِّنها معاك..أغمضَ عينيهِ يستمتعُ بكلماتها الحانية، فلقد نزلت على قلبهِ كقطرةِ ندا ترطِّبُ جفافَ القلبِ من الألمِ والحزن، تراجعَ بجسده، يفردُ ذراعهِ لتتوسَّده..لم تفكِّر كثيرًا، لتتمدَّدَ تدفنُ نفسها بأحضانهِ وآااه عميقة أخرجتها على كمِّ المشاعرِ التي شعرت بها...
بإحدى المستشفيات بألمانيا، تقفُ أمام أحد النوافذِ تنظرُ إلى والدها الممدَّدِ بالفراش، توقَّفَ بعدما تحرَّكَ زين إلى الغرفة، اقتربَ منها:
-بقالك أكتر من نصِّ ساعة واقفة، أقعدي علشان ماتتعبيش..
زفرةٌ قويةٌ تدلُّ على مدى آلامها، لتردفَ بتهدُّج:
- ارتاح ازاي وبابا حالته صعبة
دمعةٌ انبثقت من جفنيها وذكرياتها مع والدها أمامَ عينيها، وتابعت حديثها:
-أنا مش هقدر أعيش من غير بابا يايزن..التفتت إليهِ واستطردت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالحزن:
-تعرف لمَّا قولت له اتجوِّزت يزن، فرح أوي وقالِّي دا راجل ومش هخاف عليكي..عادت بنظراتها لوالدها تنظرُ إليه بعينيها التي بها الكثيرُ من الأمنيات:
-بنتك مستنياك يابابا، أوعى تخلف وعدك معايا..
كان يستمعُ إليها وشعورٌ بالألمِ يحرقُ روحه..لعنَ نفسهِ التي استخدمتها كوسيلةٍ انتقامية..
رفعَ ذراعهِ وحاوطَ أكتافها يقرِّبها إلى أحضانه، لتنهارَ باكيةً بشهقاتٍ مرتفعة:
-أنا خايفة يايزن، الدكتور بيقول نسبة نجاح العملية ضئيل، وانا عاجزة ومش عارفة آخد قرار..
ضمَّها بقوةٍ لأحضانه، بعدما فقدَ اتزانهِ من بكائها، حاولَ السيطرةَ على رجفةِ قلبهِ التي اعترتهُ من رائحتها..ابتلعَ لعابهِ بصعوبة، حينما لفَّت ذراعيها حول خصرهِ وكأنَّها تثبتُ له أنَّهُ قلعتها الحصينة..سحبها إلى المقعدِ وجلسَ وأجلسها بجواره، رفعَ ذقنها يزيلُ عبراتها:
-ممكن تبَّطلي عياط، أنا متأكِّد أنُّه هيفوق ويقوم بالسلامة، قطعَ حديثهم وصولِ راجح ورانيا:
-راحيل حبيبتي..قالتها رانيا وهي تجذبها لأحضانها، بينما رمقَ راجح يزن يشيرُ إليهِ بغضبٍ تجلَّى بعينيهِ وهدرَ بعنفٍ بخروجِ زين من الغرفة:
-الواد دا بيعمل إيه، حدجهٍ بنظرة مشمئزة:
-إنتَ مفكَّر نفسك مين ياله، علشان تتجرَّأ وتيجي هنا..
نصبَ عودهِ وتوقَّفَ مقتربًا من وقوفِ راجح:
-اسمعني إنتَ علشان مبحبش كلام أشباهِ الرجال، أنا لو مش راجل كنت طردتك من هنا، بعد اللي عملته في مراتي، أنا وبس اللي ليَّا الحق أكون هنا، أمَّا إنتَ متطفِّل لا غير..
ثارت شياطينُ غضبِ راجح التي لاحت بعينيه، واقتربَ يجذبهُ من تلابيبه:
-هوَّ مين ياحشرة اللي أشباه الرجال، دا أنا مش هرحمك..دفعهُ بغضب، ولكمهُ بصدره ..فتدخَّلَ زين صائحًا بهما:
-إيه اللي بتعملوه دا، إحنا في مستشفى ومش في مصر كمان، اهدوا، لحدِّ مانشوف الدكتور هيقولِّنا إيه..استدارَ إلى راجح وأشارَ إليه:
-راجح دا جوز رحيل، خلاص بقى سواء رضيت ولَّا لأ، دنا منه خطوةً واخترقهُ بنظراته:
-إحنا لسة ماتكلمناش في اللي حصل في الشركة، وإزاي طارق يهجم على بنتِ خالته ويطردها، لا وكمان عايز تغصبها على الجواز، لسة متحسبناش ياراجح، فياريت تسكت مش عايز كلمة واحدة، إحنا هنا علشان مالك وبس.
تحرَّكَ مغادرًا المكانَ بخطواتهِ التي تأكلُ الأرض، يشيرُ بيدهِ معترضًا على الكلام..راقبت رانيا تحرُّكهِ إلى أن اختفى، ثمَّ توجَّهت إلى زين:
-ينفع كدا يازين، ليه تعمل فيه كدا، يعني تفضَّل عليه عيِّل، وجزاته أنُّه خايف على راحيل وورثها..
-رانيا مش عايز أسمع كلام، جوزك وعارفه مش منتظر إنِّك تعرَّفيني عليه، وبدل ماإنتِ واقفة تدافعي عنُّه، ادخلي شوفي أختك التعبانة دي..
رمقت يزن بنظرةٍ سريعةٍ ثمَّ تحرَّكت متَّجهةً إلى الغرفةِ دون حديثٍ آخر، التفتَ زين إلى يزن واقتربَ منه قائلًا:
-متفكرشِ إنِّي قبلت هجومك وكلامك عليه، دا قدِّ والدك، عيب أوي إنَّك تكلِّم اللي أكبر منَّك بالطريقةِ دي، غير هجومك الغير مبرَّر عليه..
-حضرتك ياعمُّو أنا معملتش حاجة، شايف عمل إيه..
رفعَ كفَّيهِ إليهِ بالصمت، ثمَّ أردف:
-أيِّ حدِّ مكانه كان هيعمل كدا، متزعلشِ يابني، راحيل ينطِمع بيها، وهوَّ حسب نظرته شايف إنَّك طمعان في ورثها، غير إنِّ طارق ورحيل كانوا مخطوبين فهوَّ كأب صعبان عليه ابنه.
-خالو ممكن مانتكلمش في الموضوع دا، أنا تعبانة وماليش نفس للمناهدة..
بالقاهرة وخاصَّةً بشقةِ آدم:
وصلَ بها إلى الداخل، وأغلقَ البابَ يسحبُ المفتاحَ منه، ثمَّ وضعها بهدوءٍ مع محاولتها التملُّصَ من بينِ قبضته..
تراجعَ يسحبُ نفسًا ثمَّ اتَّجهَ إلى الأريكةِ وجلسَ عليها مع محاولاتها بالخروج، ركلت البابَ تصرخُ به ثمَّ اقتربت تلكمهُ بصدرهِ وهو جالسًا دون أيِّ ردِّ فعل، هاجت بنَّيتها بالعواصفِ الغاضبة تسبُّه، وبدأت تحطِّمُ كلَّ ما يقابلها حتى هوت على الأرضيَّةِ بأنفاسٍ مرتفعة..نهضَ من مكانهِ وجلسَ بجوارها على الأرض:
-من تلات سنين بعد حصولي على الدكتوراه بدرجةِ امتياز، كان معايا تلاتة من جنسيات مختلفة، واحد بريطاني، وواحد نمساوي، وواحد روسي وأنا، بيختارو اتنين بس للتعيين، كان طبعًا لازم يعيِّنوا مننا، وإنتِ عارفة التعيين في الجامعة دي بداية أوَّل خطوة في النجاح ، حلمي هيتحقَّق، للأسف الوقت دا عمِّتو ماتت، حاولت اتَّصل بيكي بس طبعًا مرات أبوكي قالتلي إنِّك مش عايزة تكلِّميني، قولت من الصدمة، مرَّة واتنين ومعرفتش أوصلِّك، لحدِّ مافي يوم قالتلي الصراحة يادكتور إنتَ صعبان عليَّا بس إيلين مش هتكلِّمك تاني خلاص، أصلها بتحبِّ واحد منعها من الكلام معاك، فضلت دقايق أستوعب الكلام اللي قالته لحدِّ ما قفلت الخط بعد ماقدرتش أردِّ عليها، وأنا بفتكر كلامك وهستناك ومتتأخرش، آدم أنا بحبَّك..رفعَ رأسهِ وتعمَّقَ ببنيَّتها:
-الكلمة دي كانت زي المرض الخبيث في الودان، ضحكتك وإنتِ بتقوليها مع كسوفك، ريحتك في قميصي وأنا مسافر اللي رفضت أغسله علشان كلِّ ماأشتقالك أشمُّه، خجلك لمَّا بوستك على خدِّك، دا كلُّه كان كذب، إزاي قدرتي تعملي كدا فيَّا، قعدت مع نفسي، إيه دا إزاي ماأخدتش بالي إنِّي حبِّيت عيِّلة كلمة بتودِّيها وكلمة بتجبها، كلِّمت أبوكي علشان أقطع الشكِّ باليقين، قالِّي البنتِ اتخطبت ياآدم وربنا يوفَّقك..اتخطبت، للدرجة دي قدرت تنسى حبِّي بسرعة كدا، طيِّب فين حبَّها في الطبِّ اللي كانت بتقول هذاكر علشان نبقى دكاترة زي بعض، لا مستحيل فيه حاجة غلط كلِّمت كرم وحاولت أفهم إيه اللي حصل، وقتها إنتِ كنتي معاه،
طلبت منُّه أكلِّمك إنتِ رفضتي، قولتي مش فاضية، وسمعتك وقتها بتنادي على حدِّ اسمه سمير وقولتي له هروح أشوف سمير لمَّا تخلَّص مكالمتك، اضَّيقت والدنيا اسودِّت في وشِّي، يعني أنا بفكَّر أتنازل عن الحلمِ علشان أرجع لك وإنتِ رافضة حتى تكلِّميني..
رجعَ بجسدهِ للخلفِ واستندَ على الجدارِ وتابعَ ذكرياتهِ المؤلمة، نهيت المكالمة مع كرم حتى لمَّا سألته ليه إيلين مش عايزة تكلِّمني، توَّهني عن الحديث، شكِّيت في الكلام اللي مرات أبوكي قالته، وقتها قرَّرت أكمِّل حلمي لنفسي، ودخلت المسابقة الأخيرة على أمل أتعيَّن في الجامعة، وكنت ضمنِ اتنين بس طبعًا عربي صعب ضدِّ بريطاني، في الوقتِ دا كنت متعرَّف على حنين، هيَّ أكبر منِّي بخمس سنين وكان ليها معارف كتير في الجامعة دي، وطبعًا باباها راجل له مكانة علميَّة هناك، غير أنُّه من أشهر كام عالم في مجاله، كانت بتتقرَّب منِّي بس أنا كنت رافض القرب دا، دخلت عليَّا بالحبِّ والحنان، منكرشِ انجذبت لها في وقتِ كانت جوايا حاجات كتيرة ماتت، قرَّبنا من بعض، حاولت أتقبَّلها في حياتي، لقيتها مرَّة جاية بترمي قدامي ظرف تعييني في الجامعة، وبتقولِّي مبروك..
أنا مكنتش مصدَّق، يعني اختاروني عن الشخصِ التاني إزاي، كنت فقدت الأمل، لقيتها بتقولِّي، بابا تدخَّل، وكمان أنا عندي معارف، رغم مكنشِ عاجبني الطريقة بس خلاص حصل..
زفرةٌ حارقةٌ أخرجها حينما شعرَ بأنَّها تحرقُ جوفهِ وأكمل:
-لقيت نفسي بطلبها للجواز، ووافقت على طول، ووثَّقنا عقدِ جوازنا في السفارة، بس بعد ما كتبت عليها حسِّيت إحساس غريب مش قادر أتقبَّلها في حياتي، أسلوب حياتها غير أسلوب حياتي، شرطت عليها مش هنتمِّم جوازنا غير لمَّا أنزل مصر وأعرَّف بابا، وهيَّ كانت متقبِّلة الموضوع جدًا، وفضلت حياتنا سنتين عادية، اعتدلَ ينظرُ إليها:
-عمرها ماحرَّكت مشاعري، رغم إنَّها حلوة، ولا عمري شوفت نفسي معاها، فضلت حياتنا زي ماهيّ، لحدِّ ما رجعت مصر وبابا قالِّي لازم تتجوِّز بنتِ عمِّتك علشان الوضعِ كذا وكذا، صراخك وقتها ورفضك ليَّا أكدلي إنِّك بتحبِّي حدِّ تاني، حتى لمَّا قعدت معاكي قبلِ جوازنا، حاولت أشوف في عيونك حبِّ آدم القديم مشفتش غير عيون باردة، عيون معرفهاش، فكان لازم أدوس على نفسي وقلبي وأحاول أحافظ عليكي علشان مظلمشِ قلبك معايا، لحدِّ مامريم حكت لي كلِّ حاجة قبلِ سفرها بيوم، إحنا الاتنين ظلمنا بعض، حاولت كتير أحكي لك بس إنتِ مدتنيش فرصة، كلِّ كلامك كان هجوم وبس، إنتِ ظلمتيني ياإيلين وأنا ظلمتك، بس وحياة أوَّل دقّّة حب نبضت بقلبي عمري مانسيتك، ولا عمري فكَّرت أخون حبِّك، كلِّ اللي حصل قدر، دي الحقيقة عايزة تصدَّقي براحتك مش عايزة براحتك، ودلوقتي مستقبل حبِّنا بين إيديكي، وأنا هعمل اللي إنتِ عايزاه، وفي نفسِ الوقت هكون سندك وعمري ماهتخلَّى عنِّك..
رفعَ ذقنها ومسحَ دموعها التي أغرقت وجنتيها:
-دموعك غالية وبتدبحني، إيلين من وقت ماهربتي من حضني وأنا ضايع، محستشِ باآدم ولا قلبي دق إلَّا وإنتِ في حضني، لو فعلًا عايزة تموِّتي آدم ابعدي، لو موتي هيريِّحك أنا موافق.
قالها ونهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى الباب، وقامَ بفتحه، ثمَّ ألقى المفتاحَ إليها وتحرَّكَ للخارج.
بعد أسبوعٍ بالمشفى عند أرسلان، دلفَ إليهِ إسحاق، جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلته، نهضت غرام من جواره:
-هروح أشوف ماما صفية..أومأ لها دون حديث:
-عامل إيه دلوقتي؟..
-كويس..أخذَ نفسًا عميقًا وطردهُ بهدوءٍ ثمَّ انحنى يمسِّدُ على رأسه:
-إنتَ عارف إنَّك قطعة من روحي..
-لا مش عارف ومش عايز أعرف، أنا دلوقتي مبقتشِ عارف أيِّ حاجة..
-أرسلان..
ظلَّت ملامحهِ متجمِّدةً إلى أن نطق:
-عايز أنام، تعبان ومش قادر أتكلِّم.
أومأ له ثمَّ نهضَ مستديرًا ليستمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، يتبعهُ دخولُ فريدة وإلياس..
تقابلت نظراتُ إلياس مع إسحاق بصمت، إلى أن خرجَ من الغرفة، بينما اقتربَ إلياس يطلقُ صفيرًا:
-النهاردة الله أكبر حالتك كويسة، رسمَ ابتسامةً دون حديث، دنت فريدة منهُ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً فوق جبينهِ تملِّسُ على وجهه:
-عامل إيه ياحبيبي؟..
ابتسمَ وأجابها:
-الحمدُ لله..حمحمَ إلياس وأشارَ إليها على المقعد:
-اقعدي علشان مادخويش، ثمَّ اتَّجهَ إلى أرسلان:
-مدام فريدة كانت تعبانة ورغم كدا جتلك إمبارح، أصرِّت إنَّها تشوفك بس كنت نايم.،
-متشكِّر ياستِّ الكل..لمعت عينيها ترفعها إلى إلياس الذي أشارَ إليها بالسيطرةِ على دموعها، فاقتربَ منحنيًا يستندُ على فراشه:
-الحادثة دي حصلت إزاي؟..
سحبَ بصرهِ بعيدًا عنهُ قائلًا:
-مش فاكر، محستشِ بنفسي غير والعربية بتتقلب..
-أمم..هعمل عبيط وأصدَّقك، المهمِّ لازم تفوق بسرعة علشان عندي مفاجأة هتعجبك أوي..
-مفاجاة منَّك، وتعجبني..قهقهَ إلياس يشيرُ إلى والدته:
-كدا أنا اطَّمنت عليه، لا وبيقولوا مضروب في راسه..
أفلتَ ضحكةً مما شعرَ بتألُّمهِ ليضعَ يدهِ على رأسه، هبَّت فريدة بتلهُّف:
-حبيبي راسك لسة بتوجعك؟..رفعت عينيها إلى إلياس ونطقت بنبرةٍ منزعجة:
-شوف الدكتور يجي يشوف أخوك، هوَّ سايبه كدا ليه؟..
قالتها مع أنفاسها الهادرة، ليقتربَ منها ويساعدها بالجلوس:
-حبيبتي ممكن تهدي، إحنا ماصدَّقنا الضغط اتظبط، قالها بمغذى، لتجلسَ مضطرَّةً تفركُ جبينها ومازالت أنفاسها سريعة..
جلسَ إلياس بجواره:
-الدكتور قالَّك إيه على وجع راسك، طبيعي من الحادثة، ولَّا فيه حاجة تانية، يعني عملت إشاعات وكلِّ حاجة تمام؟..قاطعهم دخولُ ملك وصفية..
توقَّفت فريدة، اقتربت منها صفية:
-إزيك يامدام فريدة..
الحمدُلله..حمدالله على سلامته وعلى سلامة فاروق بيه..
-شكرًا..قالتها واستدارت بنظرها إلى أرسلان:
-عامل إيه ياحبيبي؟..
-الحمدُلله، با..بترَ الكلمةَ وابتعدَ بنظرهِ عنها، اغروقت عيناها بالدموع، فمنذ أن أفاقَ وهو لم يتحدَّث مع أحد، انتهزت فرصةَ وجودِ فريدة وإلياس لتحدُّثِ معهُ قليلًا..
بعد فترةٍ خرجَ بجوارِ والدته، صعدَ إلى سيارته:
-هوصَّلك على بيتي، تشوفي ميرال، بقالها فترة لوحدها، مش عايز أقرَّب منها علشان متفكرشِ حاجة تانية.
زمَّت شفتيها تهزُّ رأسها باعتراضٍ تجلَّى بعينيها، وأردفت موبِّخةً إياه:
-وبعدين هتفضلوا كدا، مراتك حامل، ومحتجاك أكتر من أيِّ وقت..
-ممكن ماتدخَّليش في الموضوع دا لو سمحتي، أنا مطلبتش منها تمشي، هيَّ اللي قالت ننفصل، مش عايز أيِّ تدخُّل من حد، وياريت ماتضغطيش عليها..
أطرقت برأسها ونطقت بنبرةٍ منزعجة:
-بضيَّعوا أجمل أيام عمركم، هيَّ بتهوُّرها وإنتَ ببرودك..
أظلمت عيناهُ بأسى وأجابها بصوتٍ عميقٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا مقصَّرتش معاها، مش عايز مراتي يكون فيها أيِّ حاجة من أهلها، لازم تكون عارفة هيَّ مين ومتجوزة مين..
-يابني البنت بتمر بظروف صعبة غير حملها، بلاش إنتَ كمان تضغط عليها..
لم تهتز عضلةٌ من ملامحه، وتحرَّكَ بالسيارةِ دون حديث، وصلَ بعد فترة،
كانت بالأعلى تعملُ على جهازها على أحدِ اللقاءاتِ التي أرسلتها صديقتها، استمعت إلى صوتِ سيارته، نهضت من مكانها تنظرُ من الشرفة، شاهدت نزولُ فريدة من السيارةِ بينما هو تحرَّكَ مغادرًا..اهتزَّ داخلها حتى شعرت برعشةٍ يتخلَّلها الحزن، لتجلسَ على مقعدها مرَّةً أخرى تحتضنُ جنينها:
-وآدي أسبوع كامل وباباك مقاطعنا، زي مايكون ماصدَّق يرمينا، تفتكر هوَّ مابقاش عايزنا، أنا تعبانة أوي ومحتاجة حضنه، استمعت إلى طرقاتِ الباب، أزالت دموعها ونهضت تقابلُ فريدة..
بمنزل راجح وخاصة بغرفة مكتبه
-شوف ياراجح، احنا صبرنا عليك، انت بقيت كارت محروق وجدًا، والشرطة عيناها عليك، لازم تنفذ اخر مهمة، دا لو عايز تعيش
توقف واتجه إلى جلوسه
-ازاي بس دلوقتي، اصبروا شوية لما الدنيا تهدى
-ولا يوم ياراجح، شوف هتعمل ايه
قالها ونهض من مكانه، ثم ألقى الصورة أمامه
-البنت دي مبقاش ينفع السكوت عليها، دي وصلت لحد مهم وانت عارف النهاية ايه، موتك قصاد موتها ..
كانت تتنصت عليهم بالخارج، ابتعدت عن الباب سريعًا، قبل أن يراها احدًا، ثم صعدت إلى غرفتها، تدور حول نفسها
-أكيد مش هيقتل بنته، لا لا، راجح ميعملهاش..دلف إليها ورسم ابتسامة
-حابسة نفسك هنا ليه، اجهزي ورانا مشوار
بمنزل إلياس
قبل قليل ترجلت من سيارته، واتجه للداخل، توقفت على رنين هاتفها
-لو عايز اقتله كنت قتلته، دي بس قرصة ودن، بنت رانيا يافريدة قصاد ولادك الاتنين، يااما دكتور في المستشفى يموت حضرة الظابط المريض.....
أشياء كثيرة
.... تغيّرت فينا ....
لا الصوت صوتنا
و لا الضحكات ضحكاتنا
ولامشاعرنا بقِيَت كما كانت
ياليتها .... ياااليتها .... بقِيَت كما كانت
غرباء
صرنا عن أنفسنا
ما عُدنا نجدُ أنفسنا فى أنفسنا
و لم يعد بامكاننا ان نلتقينا
ما أبعدَنا اليوم عنّا ........ و ما أقرَب الأمس مِنّا
وصلت فريدة إلى غرفتها،عاملة إيه حبيبة مامي..ابتلعت مرارةَ آلامها وابتسمت لوالدتها:
-كويسة حبيبة قلبي، أرسلان عامل إيه النهاردة..نزعت حجابها وجلست على الأريكةِ مصدرةً تنهيدةً عميقة:
-تعبان لسة، الحادثة كانت قوية، المهم سيبك إنتِ من أرسلان وقوليلي مش ناوية ترجعي البيت بقى، مش هينفع كدا إنتِ في مكان وجوزك في مكان..
جاهدت في إخفاءِ دموعها ورسمت ابتسامةً متَّجهةً إلى جهازها وتصنَّعت انشغالها، لتردفَ متسائلة:
-ماما عندي مؤتمر مهم أوي في شرم، إيه رأيك تكلِّمي إلياس وتقنعيه أحضره، ممكن يسمع منِّك..
توقَّفت فريدة واتَّجهت إلى جلوسها، ثمَّ انحنت تستندُ على الطاولةِ بكفَّيها تحدجها بنظراتٍ معاتبة:
-اسمعيني كويس ياميرو، مهما يحصل بينك وبين جوزك متخليش حدِّ يدخل بينكم حتى لو أنا، أنا مش عاجبني قعدتك في مكان وهوَّ في مكان، قولتي هتبعدي يومين ترتاحي، وكان حقِّك تهدي، بس دلوقتي ليه قاعدة بعيد عن جوزك، حبيبتي اللي بتعمليه غلط ..رفعت عينيها لوالدتها وجاهدت بإخفاءِ تمزُّقِ قلبها رغم ادِّعائها القوَّة إلَّا أنَّ داخلها هش، هشٌ جدًا.
-ماما أنا خايفة، خايفة من بكرة أوي، خايفة من حياتي اللي جاية، إحساس جوايا وحش، مبقتشِ عارفة أتكلِّم مع حدِّ من صحابي، تخيَّلي المقالات اللي بهاجم بيها الناس، يطلع منهم راجل بحمل دمُّه، أنا تعبانة أوي ياماما أوي،
ومش عايزة ضغط من إلياس.
-ميرال خلِّيكي كدا لحدِّ ماجوزك يزهق منِّك..
صُعقت من حديثها المؤذي الذي شقَّ قلبها، كيف لها أن تتحمَّلَ فكرةَ أن تمتلكهُ غيرها، وخزاتٌ تنخزُ قلبها من مجرَّدِ كلمات..ثواني صامتة تقاومُ غلالةَ دموعٍ أحرقت مقلتيها، لتهبَّ من مكانها متَّجهةً إلى حمَّامها دون حديث، هوت على أرضيةِ الحمَّام تمنعُ بكاءها الذي جفَّ حلقها، لقد توجَّعت أكثرُ ممَّا تستحق، أغمضت عينيها وتمنَّت موتها لا محالة..شعرت بها لتدلفَ خلفها ترفعها من فوقِ أرضيةِ الحمَّام:
-قومي وبطَّلي ضعفك دا حبيبتي، أنا خايفة عليكي، ومستحيل أتخلَّى عنِّك، وهرجع أقولِّك للمرَّة المليون ميرال إنتِ بنتي وبس، مش عايزة موضوع راجح يكسرك، وثقي إلياس عمره ماهياخدك بذنبهم..
تعاقبت الأيام واحدًا تلوَ الآخر وبدأت حالةُ أرسلان بالاستقرار، وحُدِّدَ يومَ خروجهِ من المشفى، دلفَ إسحاق إليه:
-صباح الخير حبيبي..
-صباح الخير..نطقها وهو يعتدلُ فوقِ فراشه، أمالَ يضعُ وسادةً خلفه:
-أحسن النهاردة؟..
-الحمدُلله..دلفَ شخصٌ ما.
-أهلًا بحضرتك إسحاق باشا..دقَّقَ النظرَ إليهِ ثمَّ التفتَ إلى إرسلان:
-فيه حاجة ولَّا إيه؟..
-عمُّو ممكن تسبني شوية مع عمرو، عايزه في حاجة مهمَّة.
قابلَ حديثهِ بصمتٍ دام لدقائقَ ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنه:
-إنتَ ابني يالا، واحترم نفسك بدل ما تشوف وشِّ إسحاق التاني، هسيبك وأروح أشوف مراتي اللي حتى مش هان عليك تسأل عنَّها..
-ليه مالها؟!..تحرَّك إسحاق إلى أن وصلَ إلى الباب:
-باباك فاق وكلِّ شوية يسأل عليك،ياريت تقوم تتمشَّى وتروح تشوفه، يابنِ فاروق..قالها وخرجَ مغلقًا الباب..
أشارَ إلى الرجل؛
-عملت إيه؟!..وضعَ أمامهِ بعض الصور..
-دول العيال، اللي حضرتك تخيَّلتهم، اتأكِّد كدا..
قلَّبَ الصورَ من بينِ يديه، وشردَ بيومِ حادثته، بعدما عرقلت إحدى السياراتِ طريقه، لتنقلبَ السيارةَ رأسًا على عقب، مرَّرَ أناملهِ على أحدِ الصور، محاولًا التذكُّر، ثمَّ رفعَ الصور إليه:
-عايز الواد دا، وممنوع إسحاق يعرف حاجة، اخترع أيِّ حاجة..
-تمام ياباشا، فيه أيِّ أوامر تانية؟.،
أومأ له ثمَّ أردف؛
-عايز شركة أمن موثوق فيها..قطعَ حديثهما دلوفُ ملك، فأشارَ إليهِ بالخروج..
-أرسو حبيبي عامل إيه؟..
-ابتسمَ لها، اقتربت منه، فأشارَ بيدهِ أن تبتعدَ قائلًا:
-معلش حبيبتي تعبان وخايف أعديكي،
جلست بجوارهِ تسحبُ كفَّيه، ثمَّ انحنت تقبِّلهما وانسابت دموعها:
-مستعدة آخد آلامك كلَّها بس تفوق لأختك، مش هقدر أعيش من غيرك ياأرسلان..
أطبقَ على جفنيهِ يقاومُ الرجفةَ التي تحرقُ داخله، فلقد طعنتهُ كلماتها، يودُّ أن يصرخَ من أعماقِ قلبهِ ليشعرَ به الآخرين، فلا أحد يعلمُ بأنَّهُ يبذلُ قصارى جهدهِ حتى لا يفقدَ اتِّزانهِ أمامَ الجميع، يحاولُ الكثيرَ والكثيرَ حتى لا يضعفَ أمامَ تلك العاصفة..
رفعَ ذراعهِ يجذبها بحنانِ أحضانه بعدما شهقت ببكاء:
-تعالي ياملاكي، وأنا مقدرشِ أبعد عن ملاكي الشقي، مسحت رأسها بصدرهِ وأردفت بنبرةٍ باكية:
-إنتَ مابقتشِ بتحبِّني ياأرسلان من وقتِ مااتجوِّزت، أنا حاسة إنَّك بعيد عنِّي، لو عملت حاجة تزعلَّك قولِّي وأنا واللهِ آسفة المهمِّ ماتبعدشِ عنِّي..
أخرجَ رأسها وطبعَ قبلةً فوق جبينها:
-ملوكة عمري ماأزعل منِّك ياروحي، فيه حدِّ يزعل من ملاكه برضو، المهم بابا عامل إيه؟..وماما ماشفتهاش النهاردة..
هزَّت كتفها بعدمِ معرفة وأجابته:
-أنا جيت مع غرام، هيَّ قالت لي هتشوف بابا وتيجي، وأنا جيت هنا إنتَ كنت واحشني أوي..
ابتسمَ يداعبُ وجنتيها:
-حبيبة قلبي، دلفت غرام متَّجهةً إليهما تسيرُ باستحياءٍ من نظراتهِ العاشقةِ لها:
-صباح الخير، عامل إيه دلوقتي؟..
بسطَ يديهِ إليها:
-تعالي هنا علشان أعاقبك قدَّام ملوكة، إزاي أصحى من النوم مالقكيش في حضني.
تورَّدت وجنتاها تبتعدُ بنظراتها عنه، هتفت ملك:
-أقولَّك أنا ياأبيه، غرام أنا كلَّمتها علشان ماما رفضت ترجع البيت وأنا خوفت أرجع لوحدي، فعمُّو إسحاق غصب علينا نرجع نبات وهيَّ اتكسفت تقولُّه لأ، بس طول الليل رايحة جاية عايزة تطير لعندك،
كانت نظراتهِ عليها وحدها، ليهمسَ بخفوت:
-ماهي دي غرامي ياملوكة، مينفعشِ تنام وحبيبها بعيد عنَّها..
توسَّعت عيناها ترمقهُ بنظراتٍ خجلةٍ من حديثهِ أمامَ ملك، قهقهَ عليها يشيرُ إلى ملك قائلًا:
-شوفتي اتكسفت إزاي..دلفت صفية وعينيها تحتضنه:
-صباح الخير ياحبيبي..بترَ ضحكاتهِ ثمَّ أومأ يشيرُ إلى ملك وغرام:
-سبوني مع صفية هانم شوية..
مرَّت دقائق والصمتُ سيِّدُ الغرفة، سوى من نظراتِ أرسلان إلى صفية، سحبَ نفسًا عميقًا ثمَّ نطقَ بنبرةٍ هادئةٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا لقيط، ولَّا يتيم ولَّا..وضعت كفَّها على فمهِ وتدحرجت دموعها بكثرةٍ تغرقُ وجهها، لقد حانَ الوقتُ لتمزيقَ القلوب، فمهما مرَّت الأيامَ والسنون، إلَّا أنَّ الحقَّ سيعودُ حتمًا لأصحابه
نظرت لعينيهِ بروحٍ تأن، وقلبٍ ممزَّق:
-من خمسة وتلاتين سنة وقفت أحلام وأصرِّت على فاروق يتجوِّز ويطلَّقني، انا كنت من عيلة بسيطة أبويا موظف، أحلام محبتش ارتباطنا، فاروق كان أستاذي في الجامعة، حبِّبني في مادة القانون أوي، وكنت أقعد أتناقش معاه طول المحاضرة، طالبة أخدت أستاذها قدوة لها، أربع سنين وهوَّ بيدرَّسني، لحدِّ ما خلَّصت جامعة وعلاقتي بيه طالبة وأستاذها، لحدِّ مانتيجتي ظهرت، سمعت بابا بيقولِّي صفية الدكتور بتاعك اتَّصل بيا وباركلي وقالِّي إنِّك من العشرة الأوائل على الدفعة، فرحت أوي، طموحي اتحقَّق، وتاني يوم رحت زي ماهو اتفق مع بابا، لقيته منتظرني في مكتبه، أوَّل ما دخلت له شوفت في عيونه نظرة غير نظرة أستاذ لطالبته، ورغم كدا عدِّيت الموضوع ودخلت بقولُّه:
-حضرتك طلبتني، وقف وقالِّي وحشتيني أوي ياصفية، يوميها معرفتش أرد توهت من كلمة، قرَّب منِّي وقالي صفية أنا جبتك النهاردة مش علشان النتيجة؛ أنا جبتك علشان أقولِّك إنِّك عجباني وعايز أتجوزك.
أنا رفضت من قبلِ مايكمِّل كلامه، لأنِّي عارفة صعب أتجوِّزه، هوَّ كان من عيلة غنية أوي، وكان معاه دكاترة بيتمنُّوا منه نظرة بس، سبته ومشيت وماردِّتش، عدَّى شهرين وحالتي تدهورت وبابا زعل عليَّا علشان رفضت.. اتعيِّن في الجامعة ودا كان حلم حياتي، اضطريت أقبل علشان بابا وبس..
مجرد مانزلت شغلي لقيته اتقدملي وبابا كان فرحان، ومخبيش عليك أنا كمان فرحت بيه أوي، بس طبعًا مدام أحلام رفضت علاقتنا، والجواز عامة..
بس فاروق اتمسَّك بيَّا وأصرّ على الجواز، وأبو فاروق ساعدنا واتجوِّزنا، سنة بعد سنة وأحلام بضيَّق عليَّا لحدِّ مامر تلات سنين على جوازنا ومفيش ولاد، روحت كشفت وكانت هنا الصدمة اللي حرقت قلبي، لمَّا الدكتور قالِّي فيه ورم في الرحم ولازم يتشال، حياتي هنا انهارت وطلبت الطلاق من والدك، في الوقتِ دا أحلام اطلَّقت من عمِّي وسافرت مع جوزها الجديد، فاروق رفض الطلاق، وقال دا مكتوب علينا، كفاية أنا مبسوط معاكي، وعندي إسحاق بعتبره ابني مش أخويا، عدَّى اول خمس سنين بجوازنا وحياتنا إلى حدٍ ما هادية بس جوايا نار ومش قادرة أتكلِّم، رجعت أحلام بعد وفاة عمِّي وطبعاًا خمس سنين جواز ومفيش ولاد اتجنِّنت وأمرت فاروق بطلاقي هيَّ أصلًا مكنتش متقبلاني، لحدِّ مافي يوم فاروق دخل عليَّا بطفل صغنن، ومش مبطَّل عياط، حطَّك في حضني وقالِّي:
شوفتي ربنا بعتلنا إيه، دا دليل إنِّك قدري ومستحيل أطلَّقك أو أبعد عنِّك، انسي ياصفية، ولو وصلت أتنازل عن كلِّ أملاكي، انا فكرت في حل هيرضي الكل، والولد دا بشارة خير، هو كان بيفكر يتبنى طفل اصلا، قالي ياله اجهزي هنسافر، محستش بأيِّ حاجة غير قلبي اللي كان بعيَّط على عياطك، ضمِّيتك لحضني، وقومت عملت لك ميَّة وسكر، كنت جعان أوي، لهفتك على الميَّة في الوقتِ دا بكَّاني، ضمِّيتك لصدري وبكيت أوي أوي ياأرسلان، لقيت فاروق بعد شوية داخل عليَّا بعلبة لبن وبيقولِّي
صفية أكِّلي ابنك، كرَّرت الكلمة ابني، اتجنِّنت من الكلمة، وقولت له بس دا ممكن يكون مخطوف..
رد عليَّا وقالي مهما كان، أنا هتابع لو لقينا حدِّ سأل عليه صدَّقيني هرجَّعه، المهم دلوقتي لازم نسافر قبلِ ماأمي ترجع من شرم، مرَّت شهور وفاروق بيراقب كلِّ مراكز الشرطة على أساس حدِّ يسأل عنَّك، مفيش حد، لحدِّ سنة..كمِّلت سنة وفاروق كتبك بعدها باسمه، ونزلنا مصر على اني عملت حقن مجهري برة وخلفت، وكان في الوقت دا عملت استئصال رحم كمان، علشان فضلت فترة اتعالج دون عملية ومنجحتش للأسف
-يعني أنا ماليش نسب، مش معروف ابنِ مين..قاطعهم دلوفُ تمارا ووالدتها..
عند إلياس:
خرجَ من عملهِ متَّجهًا إلى منزله، وصلَ إلى المنزلِ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-انزلي تحت أنا مستنيكي علشان نروح للدكتور..
وصلت إليه بعد فترةٍ قليلة، صعدت السيارةَ بجواره، التفتت إليه:
-ليه الدكتور النهاردة مش ميعادنا بعد يومين؟..
تحرَّكَ بالسيارةِ قائلًا:
-مش هكون موجود، أومأت دون حديث تنظرُ أمامها بصمت، تمنَّت أن يجذبها لأحضانهِ اشتياقًا، فلقد غمرت رائحته رئتيها، حاولت الصمود أمامه ولكن كيف الصمود بحضرته، وضعت رأسها على نافذة السيارة تنظر للخارج حتى تنشغل عنه..بعد عدَّةِ ساعاتٍ عادت إلى منزلها، ترجَّلت من السيارةِ تطالعهُ منتظرةً نزوله، أشارَ إليها بالدخولِ مع رنينِ هاتفه، اكتفت بتنهيدةٍ مرتجفةٍ أخرجتها بكمِّ اشتياقها إليه..خطت للداخلِ والحزنُ واضحًا بعينيها، لقد أُضرمت نيرانُ الاشتياق وفقدت الصمود، لتنهارَ قلعتها أمام حصونهِ المهلكة، وتلتفَّ متراجعةً إلى وقوفه..ظلَّّت متوقفةً إلى أن أنهى مكالمته..
رفعَ عينيهِ منتظرًا حديثها:
-انزل بات معايا الليلة حاسة إنِّي تعبانة.
طالعها بإيماءةٍ بسيطة، وعيونٍ ممزوجةٍ بالعتاب، كتمت سعادتها من موافقته، وهربت من أمامه، بعد فترةٍ جلست بمقابلتهِ تتناولُ طعامها بصمت، قطعت الصمتَ متسائلة:
-هتقول لأرسلان إمتى إنَّك أخوه؟..
مضغَ طعامهِ بهدوء، ثمَّ أجابها:
-لمَّا يفوق من الحادثة، أنا اتكلِّمت مع الدكتور، رفض علشان ألم دماغه، ممكن الصدمة تأثَّر عليه وخصوصًا لسة خارج من عملية كبيرة ..
أومأت موافقة:
-أنا فعلًا كنت شايفة دا حلّ كويس، وخصوصًا أنُّه مسألشِ في حاجة زي ماإسحاق قال..
أنهت طعامها لتتوقَّفَ قائلة:
-شبعت إيه رأيك نقعد شوية في الجنينة برَّة..
-اطلعي ارتاحي، أنا عندي شغل مش فاضي، لو عايزة تقعدي برَّة خدي هناء معاكي.
-لا هطلع أرتاح..قالتها وتحركت تضغط على شفتيها حتى لا تبكي
بعد فترةٍ صعدَ إلى غرفتهِ التفت إلى غرفتها ينظرُ إليها لدقائق، ثمَّ ساقتهُ قدميهِ إليها، فتحَ البابَ ودلفَ للداخلِ وجدها مستغرقةً بنومها وهي جالسةً وبيديها كتاب، سحبهُ من بين يديها قرأ عنوانه"كيف تكونين أمٍّ ناجحة"
أعدلَ نومها ودثَّرها يمسِّدُ على خصلاتها ثمَّ طبعَ قبلةً حنونةً فوق جبينها، فتحت عينيها:
-إلياس ..
جلسَ بجوارها يطالعها بنظراتٍ بعثت قشعريرةً لجسدها، نظراتهِ تضعفُ ثباتها، تريدهُ فقط، أغمضت عينيها مرَّةً أخرى هروبًا من تسلُّطه، فكيف تشكو منهُ إليه..
-جيت أطِّمن عليكي قبلِ ما أنام محتاجة حاجة؟..رفرفت بأهدابها تهزُّ رأسها بالإيجاب، فليس من السهلِ أن تقتلَ ذاك الخفقَ الذي يخصُّه، جذبت كفَّيهِ ونطقت بنبرةٍ مترجيَّة:
-عايزة أنام في حضنك..حاصرها بنظراتهِ لفترةٍ فكانت هادئةً على غيرِ عادتها، نظراتها المستعطفة، ونبرةُ الألمِ التي شعرَ بها بصوتها جعله يومئ موافقًا..تمدَّدَ بجوارها يضعُ كفَّيهِ تحت رأسهِ ينظرُ لسقفِ الغرفةِ بصمت، متذكِّرًا حديثَ فريدة عن اتصالِ راجح وتهديدهِ لها، أغمضَ عيناهُ وعقلهِ يعملُ بكافَّةِ الأرجاء، التفتت تنظرُ إلى سكونه، ظنَّت أنَّهُ غفا، فاقتربت منه
والتصقت به تضعُ رأسها على صدره، وجذبت ذراعيهِ من تحت رأسهِ بهدوء، تلفُّها حول جسدها، شعرَ بها، فاستدارَ معتدلًا يجذبها إليهِ بقوَّة، دافنًا رأسهِ بعنقها..ارتجفَ جسدها من قوَّةِ المشاعرِ التي أحسَّت بها، حتى لاحت ابتسامةٌ على وجهها، مطبقةَ الجفنينِ تحمدُ اللهَ بسريرتها على رجوعه..
رفعت رأسها بعدما وجدت صمته، وملَّست على وجههِ بعشق، فتحَ عينيهِ لتحتضنَ العيونُ بعضها البعض بصمتٍ لفترةٍ من الزمن، مما جعلها ترفعُ أناملها وتحرِّكها على وجهه، مقتربةً منهُ تدفنُ رأسها بعنقهِ تهمسُ بخفوت:
-وحشتني أوي..
حاولَ السيطرةَ على دقَّاتِ قلبهِ العنيفة، يقسمُ أنَّها اخترقت ضلوعهِ من قربها فقط، ورغم ذلك نطقَ قائلًا:
-وحشتك إزاي وإنتِ عايزة تنفصلي، ولَّا مفكَّراني ضعيف وبتحاولي تتنازلي علشان ظروفي؟..اعتدلَ جالسًا والتفتَ يجذبُ سجائره وأشعلَ واحدة منها، مبتعدًا بنظراتهِ عنها واستأنفَ حديثه:
-أنا موافقتش أبات هنا إلَّا لمَّا إنتِ طلبتي دا، وكمان لقيتها فرصة كويسة أبعد عن عيون أمِّي الحزينة وبس، مش قادر أبص في عيونها بعد اللي حصل لأرسلان، وإصرارها أنُّه يعرف في أقرب وقت..قالها ونهضَ من مكانه..بينما هي تجمَّدَ جسدها وشحبت روحها تتمتمُ بخفوت:
-إنتَ شايف بعمل كدا علشان حاجة..توقَّفَ ينظرُ للخارجِ من النافذة
ونطقَ بنبرةٍ غلبَ عليها قسوته:
-مش مهم أنا شايف إنتِ بتعملي كدا ليه، المهم إنتِ قولتي إيه علشان تيجي هنا، ويوم ماروحتي المستشفى طلبت منِّك ترجعي البيت علشان راجح معرفشِ ناوي يعمل إيه، لكن إنتِ أصرِّيتي تيجي هنا، ولسة مصرَّة على الانفصال، التفتَ يطالعها بنظراتٍ توحي الكثير، واستطردَ بإبانة:
-مش أنا اللي مراتي كلِّ شوية تهدِّدني بالطلاق، خطا إليها بخطواتٍ متمهِّلة، وعينيهِ تحاصرُ عيناها إلى أن اقترب من جلوسها، ونطقَ بنبرةٍ هادئةٍ رغم مايشعرُ به:
-أنا بحبِّك أه، ويمكن بحبِّك أوي كمان، بس أسلوبك يموِّت أيِّ حبّ جوايا، الراجل لو الستِّ داست على رجولته أو كرامته يدوس عليها حتى لو روحه فيها..
كانت تستمعُ إليهِ وشعورُ الألمِ والتخبُّطِ يسيطرُ عليها، لتتوقَّفَ متَّجهةً إلى وقوفه:
-إيه اللي بتقوله دا، أنا دوست على رجولتك وكرامتك؟!..
-ميرال أنا مش كلِّ مرَّة هقعد أعلِّم فيكي، وأقولِّك إنِّك كبيرة ومش صغيرة لتهوِّرك، أشارَ إلى المنزلِ وأردفَ بحدِّة:
-عايز أعرف ورا وجودك في البيت دا إيه، ليه جاية هنا لو إنتِ فعلًا بتحبِّيني وعايزة نكمِّل حياتنا، دنا حتى اختلطت أنفاسهما وتابع:
-قولتي هننفصل بعد الولادة ولَّا لأ، قولتي مش قادرة تعيشي مع أسلوبي ولَّا لأ..إنتِ كمان مبقتيش تهمِّيني، عايزة تطلَّقي بعد الولادة عيوني، هو أنا أقدر أزعَّلك، دا إنتِ الوحيدة اللي من غبائي بضعف قدَّامها وبرجع في كلامي..
بسطت كفَّيها واحتضنت كفَّيهِ مع دموعِ عيناها:
-خايفة ياالياس، خايفة في يوم تعايرني بأمُّي وأبويا
صرخةٌ جنونيةٌ بوجهها وهو يطبقُ على أكتافها:
-أبوكي وأمِّك أحسن ناس في الدنيا، إنتِ بنتِ فريدة وبس، وأبوكي جمال الدين، زي ماطول حياتك عايشة بيه، الناس التانية دي منعرفهاش، وحذَّرتك قبلِ كدا مش عايزك تربطي علاقتك بحدِّ غيري وبس.
-ابتلعت غصَّةً مؤلمةً وتسرَّبَ بداخلها ألمٌ يمزِّقُ جسدها هاتفة:
-بس أنا بنتهم، متكذبشِ على نفسك زي ماإنتَ يوسف جمال أنا ميرال راجح..
حروفٌ بسيطةٌ كانت كوقودٍ ناريةٍ أشعلت فتيلَ غضبه، ليجذبها بقوَّةٍ متناسيًا حملها:
-إنتِ هتفضلي ميرال جمال الدين، وأنا هفضل إلياس السيوفي، غير كدا مسمعشِ صوتك، سمعتيني، واحمدي ربِّنا إنِّك حامل..
تآذرت آلامها تهزُّ رأسها رافضة حديثه، بدموعٍ تزحفُ على وجنتيها:
-دا اللي خايفة منُّه، أفضل في نظرك بنتِ المجرم اللي خلَّاك إلياس السيوفي..
ميرال اخرسي، أنا مش ناقص..تعالت شهقاتها متراجعةً للفراشِ وهي تحتضنُ بطنها متألِّمةً عاجزةً عن وصفِ الألمِ الذي يحرقها، هوت على الفراشِ وتمدَّدت تواليهِ ظهرها تبكي بصمت.
جلسَ حاملًا خوفهِ عليها بداخله، انحنى يجذبها إليه:
-ممكن أعرف إنتِ عايزة إيه بالظبط؟.. ميرال أنا تعبان متشيلينيش فوق طاقتي..
التمعت مقلتيها بوميضِ الأسف وردَّت:
-آسفة ياإلياس، أنا عارفة إنَّك شايل فوق طاقتك، بس أنا محتجاك أوي خايفة ياإلياس، خايفة من كلِّ حاجة.
جذبها وأجلسها بأحضانهِ بعدما شعرَ بالأسى والعطفِ عليها:
-خايفة من إيه بس، رفعَ شعرها من فوق عينيها وتعمَّقَ بهما:
-خايفة وأنا جنبك، خايفة وأنا جوزك، إنتِ كدا بتعترفي إنِّي مش راجل..
هزَّت رأسها بالنفي واقتربت تدفنُ رأسها بصدره:
-خايفة أتحرم منَّك ومن ماما فريدة، إحنا في موقف ضعف ياإلياس متنكرشِ دا، هوَّ قالِّي ممكن أبلَّغ في فريدة وأعملَّها قضية..
أخرجها من أحضانهِ يحتوي وجهها بين راحتيه:
-ولا حد يقدر يقرَّب منِّك سمعاني، ولا من أمي، هوَّ اللي يخاف، هوَّ وبس، اصبري بس موضوع أرسلان يعدِّي على خير وبعدها هعرَّفك هعمل فيه إيه، المهم أطَّمن على أرسلان، الدكتور بيقول الحادثة كانت قوية ودماغه متأثَّرة جدًا، وكويس أنُّه مفقدشِ الذاكرة، بس خايف يحصل نزيف داخلي، علشان كدا مش عايز أقولُّه حاجة دلوقتي لازم يتعافى كويس، ونرجع نعمل فحوصات تانية..وضعَ كفَّيهِ على أحشائها واستأنفَ حديثه:
-المهمّ إنِّك تفكَّري في ابننا وبس، ومالكيش دعوة براجح ولا كأنُّه عدَّى عليكي أصلًا، تمام؟..
-تمام ..قالتها بنبرةٍ هادئةٍ وعيونٍ لامعةٍ بالعشق، لتقضي على كلِّ خليةِ صبرٍ لديه، قربها إليه يحتضنَ كرزيتها بينَ خاصَّتهِ يعزفُ لحنهِ الأثيرَ لها وحدها، طالت القبلةُ لتصلَ لمشاعرَ أخرى، لتخبرها عن العشقِ المتغلغلِ بأركانِ قلبه، وهي بداخل حضنهِ وهو يتجرَّعُ من عسلها المذاب، لتهيجَ الروحُ وتصدرُ ألحانًا تخصُّها وحدها، مرَّ وقتٌ لم يشعر بما يدارُ حولهما..
بعد فترةٍ دلفت إليهِ تحملُ كوبينِ من الشاي الأخضر، وضعتهما على طاولةٍ دائريةٍ قائلة:
-عملت لك شاي أخضر، كفاية قهوة طول اليوم..بسطَ كفَّيهِ إليها، احتضنت كفَّيهِ ليجذبها إليه تجلسُ بأحضانه، ثمَّ قامَ بتشغيلِ إحدى المقطوعاتِ الموسيقيةِ لقيصرِ الغناءِ العربي..
تراجعت بجسدها عليه تلفُّ ذراعيهِ حولها:
-لسة بتحبِّ كاظم..
-أمم، مطرب المرأة ..قالها ببساطة، اعتدلت ترفعُ رأسها إليه:
-أنهي إمرأة ياسيِّدِ النساء؟..ابتسمَ لها ابتسامةً لعوب ثمَّ داعبَ أنفها بسبابته:
-أنا سيِّد امرأة واحدة بس ياميرو..استدارت إليهِ بكامل جسدها :
-هتفضل معايا كدا دائمًا ياإلياس، مش هتتغير أبدًا؟..
أدركَ ما تشعرُ به، لينحني يقطفُ قبلةً من ثغرها ثمَّ تراجعَ برأسهِ ينظرُ لوجهها:
-إنتِ مراتي ياميرال، عارفة يعني إيه مراتي؟..
-بس أنا مش عايزة أكون مراتك بس..
ضمَّ رأسها إلى صدره وتمتم :
-كلِّ حاجة صدَّقيني، إنتِ لإلياس كلِّ حاجة..أغمضت عينيها تستمتعُ لحديثه، الذي جعلَ قلبها معزوفةً موسيقيةً لتهمسَ له:
-وإنتَ أغلى من روحي والله، ولمَّا طلبت آجي هنا علشان ماحسش إنِّي بقيت عبء عليك، بتنفِّس حبًَك ياإلياس، إزاي أقدر أبعد عنَّك..
ضمَّها بقوةٍ لأحضانه، وبركانِ أشواقهِ وعشقهِ إليها يزداد، لا يعلمُ ماذا به اليوم، هل حديثُ فريدة أخافهُ بابتعادها عنه، أم أنَّ عشقهِ إليها هو الذي يحرِّكه..
استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة يارؤى..
-إلياس هترجع إمتى، استنيتك ومرجعتش..ابتعدت عن أحضانهِ غاضبة، ابتسمَ وتابعَ حديثهِ إلى رؤى:
-أنا مش هرجع، لأنِّي في بيتي مع مراتي، عرَّفي ماما علشان ماتقلقش..
-إنتَ عند ميرال، انحنى يجذها ويرجعها إلى أحضانهِ مرةً أخرى:
-لا ..قصدك أنا في ببيتي، قالها وأغلقَ الهاتفَ يهمسُ لها:
"ومراتي في حضني"
داعبت وجههِ بأناملها متمتمة:
-معقول إنتَ إلياس..أوعى أكون بحلم وتصحِّيني على كابوس..بترَ حديثها بطريقتهِ للحظاتٍ ثم ابتعد عنها:
-طيب بما أنُّه أنا راجل شرقي ومن حقِّي مراتي ترقصلي، وكمان بدلة رقص مش عايز أشوف فيها حتة قماشة ملمومة، توسعت عيناها وفتحت فاهها للردِّ إلَّا أنَّه استأنف، أنا بس سمعت مشفتش لسة بيقولوا بتطلع فوق التربيزات وبتلبس في إيدها بتاع بيشخلع، وفي رجليها بتاع بيرُن، فأنا قرَّرت أشوف مش أسمع..
لكمتهُ بصدرهِ تطلقُ ضحكاتٍ ناعمة، زلزلت قلبهِ ليضمُّها متراجعًا على الشيزلونج وهي بجانبه:
-طيب تنكري، واللهِ كنت عايز أحط الكلبشات في رجلك يوميها..
تمسَّحت بصدرهِ كقطةٍ أليفة تضحك:
-بس بقى علشان وقتها كنت هقع من فوق الترابيزة..
رفعَ ذقنها ينظرُ لعينيها متمتمًا:
-كنتي بضيِّقيني صح؟..أومأت بالإيجاب تضحكُ قائلة:
-الصراحة فرستني والبتِّ غادة دي مجنونة، وقاومتني عليك وحمَّستني أوي..
-طيب ماتقومي كدا وأنا أحمِّسك أكتر من غادة..
جحظت عيناها تطالعهُ بذهول، ثمَّ أشارت عليه:
-إيه دا إلياس والرقص، لا لا..اعتدلت جالسهً ترفعُ يديها:
-افرحي ياميرال وارقصي ياطيور، ونوَّري يانجوم، إلياس السيوفي بيقولِّي ارقصي..
ارتفعت ضحكاتهِ الرجوليةِ لتصدحَ بالمكانِ يداعبُ شعرها:
-واللهِ أنا ليَّا الجنة منِّك يابنت..اعتدلت على ركبتيها:
-يابنتِ إيه، كمِّل..
زوى مابين حاجبيهِ وتصنع التفكير ومازالت ضحكاتهِ ترتسمُ على وجهه، ثمَّ اقتربَ منها:
-بنتِ قلبي وعصفورة روحي ياسيَّدةِ النساء.
قالها وانحنى يحملها متَّجهًا إلى نعيمِ جنتهم..
بعد اسبوعٍ آخر
بغرفة دينا بالمشفى، فاقت من غيبوبتها بعد دوام شهرٍ، امال بجسده يمسد على شعرها
-حمد الله على السلامة
وضعت كفيها على بطنها تهمس بضعف
-ابني..طبع قبلة فوق جبينها
-ابننا كويس، شوية هيجبوه..تراجع بعد دلوف صفية
-حمد الله على السلامة يادينا ..اجابتها بضعف
-الله يسلمك..أشار إلى صفية
-خليكي معاها هشوف الدكتور، وراجع
خرج متجهًا إلى فاروق، اقترب منه
-عامل ايه دلوقتي
-فين ارسلان يااسحاق، انا مش هدخل عمليات غير لما اشوف ارسلان .
-فاروق سيبه شوية، اللي مر بيه مش سهل، هيرجع لوحده صدقني، المهم دلوقتي تفكر في صحتك، ارسلان خرج الصبح، كان المفروض يخرج من اسبوع بس أنا رفضت علشان اطمن اكتر
امسك يد اسحاق
-لو مخرجتش من العملية، وصيتي لازم تتنفذ يااسحاق، سمعتني، هنتقابل يوم القيامة واسألك عليها، ملك أمانة عندك، وخلي ارسلان يسامحني
انحنى يقبل رأسه
-هتخرج بالسلامة يافاروق، ومفيش وصية سمعتني، وبنتك انت اللي هتجوزها للي يستاهلها، فكر بس بصحتك
-بفيلا السيوفي
وضع أمامها صندوقًا، يشير إليها
-افتحيه..قامت بفتحه بهدوء، لتستخرج منه بعض الأوراق والصور، اتجهت ببصرها لإلياس، الذي اومئ لها بعينيه
-جبت الحاجات دي منين يامصطفى
-دا ورق بيتك يافريدة، وصورك انت وجوزك وابنك، كل حاجة كانت متعلقة بجمال الله يرحمه، انا رجعتها من زمان، بس مردتش أقولك علشان متسبنيش، بس حافظت عليهم وكنت ناوي اعرفك قبل مااواجه رب كريم
-اسكت يامصطفى، متجبش سيرة الموت..ربت على كفيها ثم نهض من مكانه
-إلياس هيروح دلوقتي لأخوه، انا اتكلمت مع إسحاق، مش عايز حد يتحامل على اسحاق، اكتشفت ارسلان عندهم زي ماإلياس عندي..اتجه بنظره الى إلياس
-أنا مستحيل أتنازل عنك، وزي ماقولتها لغادة الله يرحمها، الولد ابني لحد مااموت، اقترب منه وربط على أكتافه
-أنا ربيته علشان يشلني لما أكبر، مش علشان ينكر وجودي صح ياالياس
ابتسم يحضنه قائلًا:
-وأنا وعدتك قبل كدا يابابا، هفضل ابنك لحد مااموت، بس ابويا له حق عليا اخد حقه
ضمه بحنان ابوي وتمتم
-وأنا في ضهرك ياروح بابا، وحياة كلمة بابا اللي اول مرة اسمعها كانت منك، مستعد احرق اللي يقرب منكوا حتى لو التمن حياتي
اقتربت فريدة تدفن نفسها بأحضانه
-إنت احسن عوض بعد صبري يامصطفى ربنا ما يحرمنا منك يارب ياابو إلياس
لمعت عيناه بالسعادة ليحتضن وجهها ويطبع قبلة مطولة فوق جبينها
-ولا منك يانَانَا فريدة
حمحم إلياس متراجعًا للمقعد
-عايز أعرف ليه خبيتوا عليا أن رؤى اخت ميرال، وليه ماقولتيش لحد دلوقتي لميرال، ورؤى بنت مين بالظبط، بنت رانيا
-لا ..اخت طارق، ويزن السوهاجي
هب من مكانه يطالعها بذهول
-المهندس ..اومأت له
-يزن أخو ميرال ورؤى بس مفيش حد منهم يعرف..التفت مصطفى إليه
-دلوقتي الموضوع بقى اصعب من الاول ياالياس، لأن راجح مفكر ميرال مش بنته، غير حملة المقالات اللي ميرال بتشنها على الإرهابيين، انا بقول تكلمها بهدوء خليها تبعد شوية عن الحملة دي علشان مش يأذوها
اومأ له وخطى للخارج وهو يهتف
-هي اصلا هتاخد إجازة النهاردة، كانت منتظرة تخلص الشهر الخامس من الحمل..توقف واستدار إليهما
-هروح لأرسلان، بس طبعًا مش هقوله كل حاجة مرة واحدة
بالمشفى بألمانيا
ارتفعت صفارات الانذار لتعلن عن توقف القلب، هرول الأطباء إلى غرفة المريض، ليخرج أحدهم بعد قليل معلنا عن وفاة المريض، لتدور بها الأرض وتهوى فاقدة الوعي
عند إلياس
صعد إلى سيارته وقام بمهاتفها
-عصفورتي بتعمل ايه، توقفت مبتعدة عن الجمع، ودلفت إلى غرفة مكتبها تغلقها خلفها
-عصفورتك جعانة اوي، معرفش فيه ايه..أفلت ضحكة مرتفعة
-يابنتي مفيش حاجة وراكي غير الأكل
تذمرت تمط شفتيها للأمام
-كدا ياالياس بتسكتر عليا الأكل ..نظر إلى السيارة التي تراقبه، فتوقف على جانب الطريق قائلًا
-لا ياحبيبي، بس خايف عليكي ياعصفورتي، وبعد كدا معرفش احبسك
-لا متخافش هتعرف تحبسني، ماهو انت مفتري ياروحي..قهقه عليها ورفع نظارته ينظر بالمرآة
-خلصي شغل وعاملك مفاجأة هتخليكي متبعديش عن حضني طول الليل..ابتسمت ونطقت بحبور تجلى بنبرتها
-اوكيه، ساعة بالكتير وأكون في البيت
بمنزلِ أرسلان، جلس فوق فراشه، يدقق النظر بزوجته الغافية بأحضانه، خلل أنامله بشعرها، وتنهيدة عميقة أخرجها على مراحل يهمس لنفسه
-حياتي كلها اتهدت، ياترى لما تعرفي هتعملي ايه، فتحت عيناها وابتسمت قائلة
-نمت كتير..نظر بساعته يشير لها بالنفي
-مش أوي، المهم عايز اتكلم معاكي في موضوع مهم، اتعدلي وصحصحي معايا علشان الموضوع مابقاش ينفع اسكت عليه ..تراجعت بجسدها وبعينان متلهفة انتظرت حديثه، احتضن كفيها واردف:
- عارفة انا بحبك قد ايه، اومأت ومازالت تتابعه بعيناها منتظرة حديثه، رفع كفيها وقبل كل واحدٕ على حدة قائلًا:
-علشان كدا لازم ننفصل، فزعت منتفضة من حديثه، مع طرقات على باب المنزل، نهضت من مكانها على صوت الجرسِ، فتحت الباب:
-أهلًا حضرة الظابط، قالتها وبعيونًا متلألئة بالدموع..أومأ لها ثمَّ تساءل:
-أرسلان موجود؟..أشارت إليهِ بالدخول:
-جوا ..اتفضل !!
خرجَ إليهِ بعد قليل، نهضَ من مكانهِ يصافحهُ بحنان:
-عامل إيه النهاردة؟..
-كويس الحمدُلله، أقعد، تشرب إيه؟..
أشارَ إليه:
-لا مش عايز حاجة، أنا جاي لك في موضوع مهم ولازم تكون هادي وتسمعني للآخر..
-خير ليه بتخوِّفني..قاطعهم صوتُ هاتفه:
-الولد جبته ياأرسلان باشا، طلع شغَّال مع راجح الشافعي.
عندَ ميرال استمعت هناء إلى هاتفها فهرولت إلى ميرال:
-مدام ميرال لازم أمشي، عرَّفي الباشا، شقتنا ولَّعت وأخويا الصغير فيها وأمُّي مش موجودة
أومأت لها بالمغادرةِ قائلة:
-طيب يبقى طمِّنيني..تحرَّكت سريعًا، فاتَّجهت إلى مكتبها، وجمعت بعض الصورِ التي قامت المحرِّرة بالتقاطها، ثمَّ اتًَّجهت إلى المكتبِ لتستأنفَ عملها، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ المكتبِ لتسمحَ بالدخول، كانت تنظرُ بشاشةِ جهازها، لتغلقهُ بعد أن استمعت إلى صوته:
"إنتِ مش بنتي من الآخر إنتِ بنت حرام، شوفي بقى ممكن أعمل فيكي إيه، بعد اللي عملته في اللي من دمِّي، نزل ببصرهِ على بطنها، وتابعت بنبرةٍ جحيمية:
-هتعملي اللي هقولِّك عليه، ولَّا اللي معملتوش قبلِ كدا هعمله حالًا، وقبل ماتحاولي الأمنِ كلُّه بح تحت، وجوزك عند أخوه، اللي بعد دقايق الشقة هتولَّع بيهم فخلِّيكي حكيمة زي أمِّك كدا واسمعيني..
أخرج سلاحهِ وأشار إليها:
-اتِّصلي بجوزك، واعملي اللي هقولِّك عليه
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
حبيبتي أود أن أخبرك أنك تسكنيني فكرا وحبا، أحببتك بطريقة لم تتركي لي ولو مساحة بسيطة لرؤية غيرك، أحببتك وأنا على يقينٍ تام من شعوري وإحساسي وبرضا كامل بعشقك، نعم أنا أحببتك للحد الذي شعرت به أن الحب الذي في صدري خلق لك وحدك، وأنني سأبقى مقيد بك حتى أفنى..
..........
و حين سألوها لمن تهدى قلبِك قالت :
لمن يحتضن خوفى كأنه سرٌّ لا يُفشى .
لمن يرمم كسرى دون أن يُذكرنى به ..
لمن يُضفى على عيوبى جمالًا لا أراه إلا من خلال عينيه .
لمن يجعلنى أحب نفسى كما لم أفعل من قبل .
فهذا له منى ما لم يكن لغيره : روحى و قلبى بكل تفاصيلهما
#الياس_السيوفي
#ميرال_جمال_الدين
بالجريدة عند ميرال
رفعت رأسها من فوقِ جهازها، وكأنَّ صوتهِ كابوسًا، لم تقوَ على ترجمةِ ما إذا كان حقيقةٌ واقعيةٌ أم أنَّهُ كابوسٌ يروادُ عقلها الباطن، كرَّرَ كلماتهِ مرَّةً أخرى، لتسقطَ فوق مسامعها كصوتِ رعدٍ يصمُّ الأذن..طالعتهُ بأعينٍ جامدة، ورغم جمودها إلَّا أنَّها تحجَّرت بالدموع، وقفت بجسدٍ مهتزّ، وابتعلت غصَّتها ذات الأشواكِ المدبَّبة، وغرزت عيناها التي أبت أن تفصحَ عن ضعفها أمامهِ وأردفت بلسانٍ ثقيل:
-إنتَ مين ياراجل إنت..وإزاي تتجرَّأ وتوقف تهدِّدني بالطريقةِ دي، هوَّ إنتَ متعرفشِ أنا مرات مين؟!..
أفلتَ ضحكةً صاخبة، وحدجها بنظراتٍ مشمئزِّة، ودنا منها كالذئبِ بعيونٍ دنيئةٍ ينطقُ بنبرةٍ متهكِّمة:
-أنا أعرف إنِّك بنت حرام، رانيا ال..دي وحياة عزة جلالةِ الله لأبكيها بدل الدموع دم، وأولها هبدأ بيك يابنتِ رانيا..
اقتربَ خطوةً أخرى وأشارَ بسببابتهِ هادرًا بفحيحٍ أعمى:
-اسمعيني يابنتِ الحرام إنتِ، أنا أدوس على الكلِّ علشان نفسي، والحيوانة اللي اسمها فريدة متفكرشِ إنَّها هتعدِّي بعملتها، وحياة الحبِّ اللي حبتهولها، لأقهرها على ولادها واحد واحد، وهجبها زاحفة لعندي برضو، ودلوقتي أنا مش جاي أقدم لك ناوي أعمل إيه، هتتِّصلي بالحيوان جوزك وتقوليله إنِّك مش عايزة تعيشي معاه، شوفي حجة بقى أكيد شاطرة زي أمِّك، ياأما طلقة واحدة في النونو اللي جوا بطنك دا، ومش بس كدا..
-أيوة عايز أعرف ياراجح هتعمل إيه كمان...قالها إلياس الذي دفعَ البابَ ودلفَ للداخل..
رفعت عينيها بأسى لدخوله، اقتربَ منها، يشعرُ بقبضةِ قلبهِ الذي يتلاطمُ كالموجِ بين عشقها، ثمَّ التفتَ مستديرًا إلى راجح يرمقهُ بنظراتٍ كالسهمِ المغموسِ بالسم، يتمتمُ بنبرةٍ حادة؛
-جاي لمراتي ليه؟..ولَّا إنتَ مالكشِ غير النسوان اللي يشبهوك، تراجعَ بجسدهِ يحاوطُ زوجتهِ ثمَّ ابتسمَ ينظرُ لبريقِ عينيها الحزين، ليتراجعَ لراجح الذي توقَّفَ وكأنَّ أحدهم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلج، ضمَّها يقرِّبها إليه قائلًا وكأنه هوا:
-حتى النسوان اللي بتجري وراهم أقوى منَّك، ومش بس كدا، عندهم كرامة اللي إنتَ ماتعرفهاش، ابتعدَ عن ميرال واقتربَ من وقوفهِ والغضبُ يتزايدُ ليسبِّبَ ضجيجًا داخله يريدُ أن ينقضَّ على عنقهِ قائلًا:
-إزاي تتجرَّأ وتوقف قدَّام مراتي وماسك مسدس، قالها وجذبَ سلاحهِ بلحظةِ تيهٍ من راجح، لم يفكِّر كثيرًا ليديرهُ ويطلقَ رصاصةَ الرحمةِ لتستقرَّ بساقهِ مرَّةً وبذراعهِ مرَّة، دون أن يرفَّ له جفنًا..
صرخت ميرال ببكاءٍ بعدما وجدت جنونَ إلياس، وحدثَ هرجٌ ومرجٌ بالخارجِ ووصولِ الأمنِ لاقتحامِ مكتب ميرال، توقَّفَ كالجبلِ لم يتحرَّك إنشًا واحدًا، ورغم اقتحامِ الغرفةِ ووصولِ رئيسِ التحرير، إلَّا أنَّهُ رفعَ كفِّهِ ولطمهُ بقوةٍ حتى تساقطت أسنانه:
-دي علشان مدِّيت إيدك على مراتي..اقتربَ الأمنُ لفصلهم، حينما أطلقت ميرال صرخاتٍ تضعُ كفَّيها على أذنها وهي ترى إلياس لأوَّلِ مرَّةٍ بتلك القسوة، وهو يلقيهِ على الأرضِ ويدفعهُ بقوَّةٍ مع شهقاتِ الموجودين..
تدخًَّلَ الأمنُ للفصلِ بينهما، إلا أنَّهُ كان كالأسدِ الجريحِ لم يقوَ أحدٌ الوصولَ إليه، وهو يجرُّهُ من ذراعيه التي أطلقَ عليهما رصاصةً ثانيةً لترتفعَ صرخاتِ راجح من الألم، ظل يجرُّهُ على الأرضِ إلى أن وصلَ الدرج ولم يرَ سوى بكاءِ والدتهِ وكلماتها التي تتردَّدُ بأذنيهِ عمَّا فعلهُ بها، ركلهُ بقدمهِ ليتدحرجَ على الدرجِ مع التقاطِ الكثيرَ من الصور، قائلًا
-الى الجحيم إن شاءالله، لكن للأسف الوقعة هتكسرك بس، أهو تتلم افضى لك..استدار ثم رفعَ كفَّيهِ باعتذارٍ عمَّا صار، وصاحَ بقوَّةٍ أمامَ كمٍّ من الصحفيين:
-دا كلب لقيته داخل يهدِّد مراتي بالسلاح، بيهدِّدها علشان تبطَّل تهاجم القذارة اللي زيه..آسف على اللي حصل ياأستاذ رفعت..آسف ياأساتذة..
قالها وتحرَّكَ للداخل، ليجدها جالسةً بجسدٍ متجمِّدٍ وعيونٍ شاردةٍ باكية، حاوطَ وجهها بين راحتيه:
-ميرال..طالعتهُ بنظرةِ ترجمها عقلها بالجهلَ ، استوطنَ القلقُ داخله، ليساعدها على الوقوف:
-ميرال ياله حبيبتي علشان نروح..خطت بجوارهِ كالجثةِ التي خرجت روحها..وقعت عيناها على جسدِ راجح الذي حملهُ المسعفون إلى السيارة..احتضنت ذراعَ إلياس بخوفٍ حينما تلاقت عيناها أعين راجح المتوعِّدة،
ضمَّها لتخفي رأسها بأحضانه، محاولًا إيقافِ ارتجافةِ جسدها، لقد نزفت روحها وأصبحت شظايا متناثرة، فتحَ بابَ السيارةِ يساعدها بالصعود، أغمضت عينيها تضعُ كفَّيها على أذنها من صدى صوتهِ القبيح "إنتِ بنتِ حرام..جلسَ بجوارها وأنزلَ يديها محاولًا طمأنتها، ولكن أصابتها حالةً جنونيةً تصرخُ وتدفعهُ بقوة، تضربُ على أذنها:
-كذاب، كذاب..حاولَ السيطرة َعلى حركاتها، ولكنَّها كانت كالطائرِ الذي ذُبح على غدر، بكت بقوَّةٍ تدفعه، لا يعلم ماذا فعلَ لها ذاك المختل، حاولَ بكلِّ طرقهِ أن يسيطرَ على جنونها فجذبَ رأسها وقامَ بتقبيلها علَّها تهدأ ولكن خابَ ظنِّهِ وهي تدفعهُ بكاملِ قوَّتها وتزيلُ آثارَ قبلته وكأنَّهُ شيطان، لم يسمع منها سوى شهقاتِ صوتها التي زادت من غضبه، تحرَّكَ بالسيارة متَّجهًا بها إلى المشفى، ينظرُ إليها من الحينِ للآخر، مازالت تضعُ كفَّيها على أذنيها تبكي بشهقاتٍ مرتفعةٍ وحالُ لسانها يردِّدُ كلمةً واحدةً فقط "كذاب"
وصلَ إلى المشفى ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا واستدارَ إليها، فتحَ الباب، رفعت عينيها التي ماتت بها الحياة، وحربًا عنيفةً داخلها من قسوةِ كلماتِ راجح فهمست بتقطُّع:
-عايزة أموت..قالتها وهي تشعرُ بخضمِّ المشاعرِ التي تدلُّ على القهرِ والألم..
تجمَّدَ بوقوفهِ يحاولُ ترجمةَ كلماتها التي احرقته، هنا نزع كبريائه، حينما شعر بنصل حاد يغرز بصدره، وانحنى يحملها ويضمها بقوة إلى صدره
-حبيبي طمنيني عليكي، بلاش تعملي فيا كدا ياميرو
حاوطت عنقهِ تدفنُ نفسها بأحضانهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، تكرِّرُ كلماتها:
-عايزة أموت، عايزة أموت، كرَّرتها لتذهبَ فاقدةً الوعي، لااا لنقول هنا المعنى الحقيقي الذي شعرته، أنَّها فقدت الحياة..هنا شعرَ بثقلِ تنفُّسهِ ولم يعد لديهِ القدرةَ على الحركة، هرولَ إليهِ المسعفين، ليضعها بهدوءٍ على الفراشِ المتحرِّك، يحتضنُ كفَّها..
دقائق مرَّت عليهِ كسنينِ حياتهِ المريرة، حتى نطقَ الطبيب:
-انهيار عصبي، أخدت مهدِّئ، وإن شاءالله تكون بخير..قالها الطبيبُ بعمليَّةٍ وتحرَّكَ للخارج،
جلسَ بجوارها واقتربَ يطبعُ قبلةً حنونةً فوق جبينها:
-آسف حبيبتي كنت عارف أنُّه رايح لعندك ورغم كدا سبتك لوحدك..قالها وشعورُ القهرِ يتملَّكُ منه..ذهبَ بذاكرتهِ قبل ساعات..
فلاش باك:
استمعَ إلى حديثِ راجح مع ذلك الرجل، تراجعَ بجسدهِ للمقعد، وظلَّت نظراتهِ جامدةً باردةً يردِّدُ بينهِ وبين نفسه:
-عايز تقتل مراتي ياحيوان، طيِّب قرَّب منها، رفعَ هاتفهِ وتحدَّثَ مع صديقه:
-شريف اسمعني كويس، فيه راجل خرج من فيلا راجح، عايز يوم ولادته، وبعد كدا أقولَّك تعمل إيه.
-اعتبره حصل يابوص، فيه حاجة لازم تعرفها، صمتَ يستمعُ إليه:
-طارق، المحامي طعن في الحكم، يعني عايز يفتح القضية تاني..
-يفتح ياشريف، المهم ركِّز مع راجح بيرتِّبوا لحاجة ياشريف، مش عايزين نقوم على كارثة، مش عايز غلط مع راجح لازم نوصل للمموِّل الكبير..
-أوكيه، متخافش..
ربنا يوفِّقنا يارب..
-يارب ويحمي بلدنا من تلك الشرزمة..
-آمين ياشريف..قالها وأغلقَ الهاتف، ليدلفَ مصطفى:
-مرحتش لأرسلان ليه..نهضَ يجمعُ أشيائه:
-كنت بعمل تليفون مهم، بعد إذنك محتاج حاجة..أمسكهُ مصطفى من ذراعه:
-أه..توقَّفَ يطالعهُ بنظراتٍ مستفهمة، فأجاب:
-ترجع إنتَ ومراتك البيت، مش عجبني قعدتكم لوحدكم..ابتسمَ قائلًا:
-ماتسبني أصالح مراتي براحتي ياسيادةِ اللواء..
عقدَ مصطفى حاجبيه، ونظرةُ غموضٍ انبثقت من عينيهِ باستفهام:
-هيَّ لسة زعلانة، أومال بقالك أسبوع بتعمل إيه؟..إيه مش عارف تسيطر ولَّا إيه يابنِ مصطفى..
تحرَّكَ يهزُّ رأسهِ ضاحكًا:
-أنا عندي شغل ياسيادةِ اللواء..صعدَ سيارتهِ وتحرَّكَ بعضَ الكيلومترات، نظرَ بمرآةِ السيارة، وابتسمَ ساخرًا:
-تعالَ ياروح أمَّك، رفعَ هاتفهِ يهاتفُ زوجته، إلى أن وصلَ إلى شقَّةِ أرسلان..
جلسَ أمامَ أرسلان:
-اسمعني من غير ماتقاطعني..بيتك دا فيه باب خلفي؟..
-أومأ له بالإيجابِ واستفهم:
-ليه؟!..نهضَ من مكانه، يشيرُ إلى النافذة:
-كلِّم الأمن يفتِّشوا العربية اللي واقفة قدَّام باب بيتك دي، واتولَّى الموضوع عندي مشوار نصِّ ساعة وراجع وبعدين نتكلم
تحرَّكَ إلى سيارةِ أرسلان وقادها متحرِّكًا من البابِ الخلفي، مع رنينِ هاتفه:
-حصل زي مااتوقعت ياباشا، إبعادهِ هناء وخمول للأمنِ بالكامل..
-تمام أنا في الطريق، اطلع عند ميرال، دقايق وأكون عندك، لو حاول يعمل حاجة موِّته لو أنا اتأخَّرت.
خرج من شرودهِ على رنينِ هاتفه..
-آسف ياارسلان، مراتي تعبت واضطريت اخدها المستشفى، هأجل موضوعنا لوقت تاني
-فيها حاجة، يعني محتاجة حاجة..تسائل بها ارسلان
هز رأسه بالنفي قائلًا:
-لا مفيش شوية إرهاق واجهاد مش أكتر
بعد فترة بجوارها استمع إلى رنينِ هاتفه، تنهَّدَ بمرارةٍ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-أيوة يابابا..
-إلياس إيه اللي بيحصل، إيه الخبر اللي قرأته دا؟!..
-راجح كان عند ميرال، معرفشِ كان عايز إيه، يادوب لحقتها..تنفَّسَ بهدوءٍ وعينيهِ عليها يمسِّدُ على خصلاتها مستطردًا:
-إحنا في المستشفى يابابا، نهضَ مصطفى من مكانه، وعقدَ العزمَ على الذهابِ إليه، ليهتفَ قائلًا:
-أنا جايلك ياحبيبي...قاطعهُ يخبره:
-لا مفيش داعي يابابا، هيَّ كويسة، بس حبيت أطَّمن عليها..
-يعني مش أذاها ياإلياس؟..
-لا يابابا، هيَّ كويسة، والدكتورة هتيجي تطمنَّا على البيبي..
أغلقَ الهاتفَ واقتربَ منها يهمسُ بجوارِ أذنها علَّها تستمعُ إلى كلماته:
-وحياتك لأكرَّهه حياته، اصبري عليَّا، متعرفيش إنتِ عندي إيه..
مرَّت عدَّةُ ساعاتٍ أخرى حتى عادَ بها إلى منزله، ترجَّلَ متَّجهًا إليها، انحنى ليحملها ولكنَّها رفضت، ونزلت متحرِّكةً بخطواتٍ بطيئة، كأنَّها تجرُّ قدميها بصعوبة، اقتربَ يحاوطُ جسدها لتصبحَ بالكاملِ تحت حنانِ ذراعيه، طبعَ قبلةً فوق رأسها:
-كدا تخوِّفيني عليكي يابايرة..
دفنت رأسها بعنقهِ تتمسَّحُ به كقطةٍ أليفة:
-إلياس أنا بنتِ مين؟!
استفهامٌ مؤلمٌ شقَّ ثغرها بدمعةٍ تحرَّرت من طرفِ عينها حينما رفعت رأسها تناظرهُ بقلبٍ ممزَّق، ثمَّ تابعت حديثها الذي كادَ أن يزهقَ روحه:
-أنا بنت حرام، ماليش نسب ياإلياس..
-ياريت..قالها بنبرةٍ جيليديةٍ لتصفعَ روحها من كلماتها التي جعلتها كلوحٍ من الثلج، لتتراجعَ بعيدًا عن أحضانه، تائهةً حائرةً تخطو بتمهُّلٍ وكأنَّها تخطو فوق زجاجٍ متناثر..تحرَّكَ خلفها حتى دلفَ إلى الداخل..
-ميرال ..
توقَّفت دون أن تلتفتَ إليه، اقتربَ منها، يشيرُ للخادمة:
-اطلعي جهِّزي للمدام الحمَّام، ثمَّ التفتَ لهناء:
-خلِّيكي مع المدام لحدِّ ماتجهز، عايزها تكون جاهزة بعد ساعة بالظبط..
تجمَّعت دموعُ الألمِ بمقلتيها قائلة:
-أنا تعبانة ياإلياس وعايزة أرتاح، ممكن تسبني على راحتي..
قاطعها يضعُ أناملهِ على شفتيها:
-الليلة دي مش عايز أيِّ عذر، ولا عايز اعتراض سمعتيني ولَّا لأ.
أجابتهُ بضعف:
-الضرب في الميِّت حرام ياإلياس، وأنا ميِّتة، بلاش تموِّت فيا أكتر ماأنا ميِّتة.
تفاجأ من حالةِ الوهنِ والضعفِ التي انتابتها، ليضغطَ على ذراعيها بقوَّةٍ آلمتها مع دموعها التي لم تتوقَّف:
-اسمعيني علشان أنا زهقت منِّك، قولت مليون مرَّة إنتِ بنتِ مدام فريدة، وياستي زعلانة عليه ليه، دا حيوان، فيه حدِّ يزعل إنِّ الراجل دا مش أبوه.
ثقلُت أنفاسها ورجفةً أصابتها بالكامل، حتى فقدت النطقَ للحظاتٍ تشيرُ إلى نفسها:
-يعني أنا بنتِ حرام؟..
لوَّنَ الغضبُ وجهه، مستنكرًا حديثها ليهتفَ ما شقَّ قلبها:
-ياريتك واللهِ أهو أهون ما يكون الراجل الحيوان دا أبوكي.
أجهشت بالبكاءِ متراجعةً للخلف، تتقهقرُ بانهيارِ جسدها:
-للدرجة دي أنا نصيبي من الدنيا وحش ياإلياس؟..
-نعم ياختي، ليه هوَّ أنا وحش علشان تقولي كدا، إيه نسيتي إنتِ متجوِّزة مين، ولَّا نسيتي إنِّك حامل في ابني، لا فوقي يابنتِ مدام فريدة واحمدي ربنا إنِّك عايشة حياة غيرك يتمنَّى بس نظرة منِّي،
هزَّت رأسها بألمٍ انبثقَ من عينيها:
-عندك حق، لازم أحمد ربِّنا إنِّ فيه واحدة زيي اتجوِّزت عظيم وابنِ ناس زيك..
تجمدَّت الدماءُ بعروقهِ من حديثها اللاذع، ليثورَ غاضبًا:
-فوقي ياميرال، أوعي تفكَّري أنا بطبطب، لا يابنتِ فريدة، أنا عايز ستِّ قوية، الستِّ الضعيفة دي، هشاورلها على الباب وأقولَّها برَّة حياتي، حتى لو حامل في ابني..
تهدَّلت أكتافها بانهزامٍ من قسوةِ حديثهِ اللاذع، فيكفي ماتمرُّ به، يكفي حياتها التي تدهورت وأصبحت نحو الهاوية، تراجعت للخلفِ حينما لم تقوَ على تجاوزِ ذلك الألمِ الرهيبِ الذي عصفَ بجميعِ خلاياها، ثمَّ استدارت متجهةً للباب:
-يبقى أمشي قبلِ ماتطردني..
-استني عندك يابت..كان صوتهِ كالرعدِ الذي اهتزَّت له الجدران، ليرفعَ يديهِ نحو الدرج:
-اطلعي فوق، نظرَ بساعتهِ وتابعَ حديثه:
-ساعة واحدة وألاقيكي جاهزة، فتحت فاهها إلَّا أنَّهُ أشارَ باعتراضٍ تجلَّى بمقلتيهِ وهو يرمقها بنظراتٍ جحيمية:
-ولا نفس، سمعتيني ولا نفس..هناااء، صاحَ بها لتفزعَ متراجعةً وهي تراهُ يقتربُ منها، جذبها بقوَّةٍ حتى اصطدمت بصدرهِ يهمسُ إليها بنبرةٍ هادئةٍ رغم ضجيجَ قلبهِ من الوجع:
-اطلعي اجهزي حبيبتي، الليلة دي مهمَّة وأوي ياميرو..قالها وهو يطبعُ قبلةً مطوَّلةً على جبينها، ثمَّ تحرَّكَ سريعًا إلى غرفةِ مكتبه.. تلوت شفتيها من تغيره بلحظات، هل من الممكن أن يلفظها من حياته
صعدت إلى الأعلى لتتفاجأ برداءٍ من الحريرِ الناعم، باللونِ الذهبي، رفعتهُ بين يديها تطالعهُ بذهولٍ وتحدِّثُ نفسها:
-معقولة هيرضى يخرَّجني بالفستان دا، طب إزاي، ياترى ناوي على إيه ياإلياس، ولَّا بتعمل كدا علشان تخرَّجنى من اللي أنا فيه؟..تأفَّفت بضجر، وشعرت بأنينٍ يمزِّقُ قلبها..
-مدام ياله علشان منتأخرشِ على الباشا..
-الباشا..ردَّدتها بينها وبين نفسها، أهو الباشا معرفشِ بيخطَّط لإيه، بس مهما كان اللي بيخطَّط له، أنا معاه، حتى لو رماني بالنار، أهي ناره أهون من جنة الحقير راجح، وضعت الفستان ثمَّ ولجت لداخلِ الحمَّام، وأغلقت البابَ خلفها تجولُ بنظرها على تحضيرهم لها، قطبت جبينها ورفعت إحدى زجاجاتِ العطور، ابتسامةٌ متهكِّمة، تهمسُ لنفسها:
-جنِّنتي ياإلياس، أصلي ناقصة جنان، نزعت ثيابها ودلفت للمياهِ الدافئة، علَّها تزيحُ إرهاقَ طيلةِ اليوم، ظلَّت لبعضِ الوقت إلى أن انتهت من استحمامها، وخطت للخارجِ لتنهي زينتها، مرَّت الساعةُ سريعًا لتضعَ أحمرَ شفاهٍ بعدما أفلتت ضحكةً جنونية، ورغم أنَّها ضحكة إلَّا أنَّها ممزوجةٌ بكمِّ الآهاتٍ والآلامِ التي تعانيها
-محتاجة حاجة تانية يامدام..تساءلت بها هناء وهي تجمعُ أشياءها الخاصة..
-هزَّت رأسها بالنفي ثمَّ أشارت على الفستانِ الذي ترتديه:
-هوَّ الفستان مش جاي معاه أيِّ حاجة تانية؟.،
-نفت هناء قائلة:
-مفيش غير الميكب والمجوهرات بس..
أومأت لها تشيرُ إليها بالخروج، لتتحرَّكَ للخارج، نهضت من مكانها تنظرُ لنفسها بسخرية، فحقًا كانت كقطعةِ ألماسٍ نفيسةٍ تُذهبُ العقولَ من روعتها، خطت إلى أن وقعت عيناها على شهادةِ تقديرٍ لتفوُّقها بإحدى المقالاتِ الإخبارية، تُوضعُ بأحدِ أركانِ الغرفة، وصلت إليها، بسطت كفَّيها وتناولتها، ظلت تنظرُ بها لبعضِ الوقت، تحرِّكُ أناملها على الاسمِ وتكرره بلسان ثقيل:
"ميرال جمال الشافعي" يعني حتى الاسم المسروق مش صح، ألقتها على الأرضيةِ تطالعها بعيونٍ متحجِّرةٍ بالدموع، دلفَ إليها وجدها تنظرُ إلى الصورةِ بضياع..
لاحت صواعقُ الحزنِ المرسومةِ بالألمِ بمقلتيه، لأوَّلِ مرَّةٍ يرى ضعفها بتلك الطريقة، التفتت إليهِ بعدما شعرت بوجوده، تشابكت الأعينُ للحظات، نظرت لحلَّتهِ الكلاسيكية، لمعت عيناها رغمًا عنها فمن يراهُ يقسمُ أنَّهُ عريسًا ليلةَ زفافه، وصلَ إلى وقوفها، ثمَّ حاوطَ خصرها يلفُّ ذراعيهِ الاثنينِ حولها:
-إيه الجمال دا ..ابتعدت تشيحُ بصرها عنه، بسببِ دقَّاتها العنيفة..
رفع يديهِ ليزيلَ الوشاح الذي فوق أكتافها بالكاملِ ، ينظر ل خصلاتها الحالكةِ كظلامِ الليل، ثم قام بفك رباطها:
-كدا أحسن..توقَّفت أمامهِ بكاملِ هيئتها:
-هوَّ إنتَ إيه حكايتك الليلة، لو بتعمل كدا علشان تنسِّيني..أوقفها حينما سرق قبلتهِ الأولى لتلك الليلة، قبلةً سريعةً حتى أنَّها لم تشعر بها..تراجعت عن ذراعيه:
-عايز تفهِّمني هنخرج كدا الليلة؟ ..
بسطَ كفَّيهِ لتحتضنً راحتيها، ثمَّ ضغطَ عليها وتحرَّكَ للخارج، حتى وصل إلى المسبح ب الحديقة، طافت بعينيها على الأنوارِ الهادئةِ والموسيقى الغربيةِ التي تصدحُ بالمكان:
-إيه دا، مش هنخرج؟!،،
هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
-لأ، الليلة دي بالذات مش هنخرج..
سحبت بصرها إلى الطاولةِ المعدَّةِ بأصنافِ الطعام، ثمَّ وقعت عيناها على مجموعةِ الورودِ الحمراء، وبجوارِها قلبًا باللونِ الأحمر..رفعت عيناها إليهِ وهمست:
-بتحبِّني؟..تساءلت بها بعيونٍ جامدة..
علمَ بما يستوطنُ داخلها، ليقرِّبها إليهِ حتى اختلطت أنفاسهما، يضعُ جبينهِ فوق جبينها،فلمست شفتاهُ ثغرها متمتمًا بنبرةٍ عاشقة:
-لا..مين قالِّك كدا؟!..ملَّسَ على وجنتيها براحتيه، ثمَّ جذبَ كفَّيها فوق نبضه، وتعمَّقَ بعينيها:
-إنتِ شايفة إيه؟!
انبثقت دموعها كزخاتِ المطر، وهي تحرِّكُ أناملها على صدرهِ وكأنَّها ترسمُ شيئا وهميًا:
-مابقتشِ بشوف ولا أحس، قرَّبَ رأسها إلى صدرهِ يضمُّها بقوَّة، وآآه أخرجها من ثنايا روحهِ مستشعرًا بنبضِ قلبهِ الذي ثارَ بدقاته هامسًا:
-كذابة ياميرو، حاسة وسامعة، رفعَ ذقنها بأنامله، واحتضنها بعينيه، ثمَّ دنا يهمسُ بأذنها :
- مش مسموح لك تشوفي حدِّ غيري، ولا تسمعي غير لنبضِ قلبي وبس..
قشعريرةٌ لذيذةٌ سارت بعمودها الفقري، من تصريحهِ المثيرِ لأوَّلِ مرَّة، داعبَ عنقها بأنفهِ وأكملَ بصوتٍ مثيرٍ وأنفاسٍ ملتهبة:
-ميرال أنا بحبِّك أوي، حبِّي قدَّام نظرة عيونك تعجز الكلمات عن وصفه، لدرجة مش قادر أشرح لك شعوري وإنتِ جوا حضني، خلِّيكي دايمًا واثقة مفيش حد هيخاف عليكي ولا يحبِّك قدي..
قرَّبها مرَّةً أخرى لتلتصقَ به أكثر، يرفعُ يديها تحاوطُ عنقه، ومازال يداعبها بأنفه، ليرتعشَ جسدها وتتلاشى ساقيها حتى كادت أن تسقطَ لولا ذراعيهِ الذي رفعها بهما، وابتسامةٍ عاشقةٍ تخصُّها وحدها، بعينانٍ تتألقانِ بحبٍّ وحنانٍ يتحرَّكُ بها على النغمات ، ليصدحَ صوتُ أمِّ كلثوم بالمكان، بأغنيتها المحبَّبة"إنتَ عمري"
رفعت كفَّيها على وجههِ تلامسه، وبنظراتٍ ملتمعةٍ بالعشق، تطالعهُ بها:
-ليه جاي تقولِّي الكلام دا دلوقتي ، صعبانة عليك؟.
أمالَ برأسهِ يستنشقُ أكبرَ قدرٍ من رائحتها، وعيونًا راغبة، يجاهدُ الكثيرَ والكثير يمنعُ نفسهِ من الانزلاقِ خلف مشاعرهِ الجيَّاشةِ خوفًا عليها وهي بتلك الحالة..
-شايفة أنا ممكن أخدع مشاعري؟.،
-ليه دلوقتي ياإلياس، ياما اتحيلت عليك أسمع حتى كلمة بحبِّك،،
أفلتَ تنهيدةً حارةً أحرقت ضلوعهِ من نيرانِ العشق، فلقد ألقى كلَّ غرورهِ وكبريائهِ ودلفَ إلى حضنِ عشقها تائهًا بمحرابها وأقسمَ لنفسهِ أنَّهُ يتلذَّذُ به ولا يريدُ الخروجَ منه:
"كلِّ سنة وأنتِ في حضني ياحبيبي النهاردة عيد جوازنا"
جحظت عيناها تؤنبُ نفسها، ثمَّ دفنت رأسها بصدرهِ مبتعدةً عن نظراته.. استمعت إلى حديثهِ وهو يخبرها:
-عارف اتأخرت، سامحيني، مكنتش عارف أعبَّر إزاي، أو يمكن أكون خايف لتكون مشاعرك مؤقتة، متنسيش علاقتنا الأوِّل كانت إزاي..
-بس أنا كنت بحبَّك، وبحبَّك من زمان وإنتَ عارف ومتأكد من دا..
-تؤ..رفعت حاجبها متهكِّمة:
-إيه هوَّ اللي تؤ ..رفعها يدورُ بها مع اللحنِ الموسيقي، ثمَّ أنزلها بهدوءٍ وتابع حديثهِ بنبرتهِ الرجولية:
-معرفشِ غير إنِّي كنت مغرور ومتكبر، وكمان كان اسمي يأس ومعرفشِ أقول كلمة حب، مش دا كلامك..
قالها وهو يرفعُ ذراعها يدورُ بها..
ضحكةً بصوتٍ مسموعٍ إثرَ حديثه، فأخذت تحاورهُ بعينيها قائلة:
-وإنتَ كنت غير كدا، وبعدين ليه جاي تقول الكلام دا دلوقتي بردو، يوم عيد جوازنا؟..
انحنت للخلفِ مرَّةً أخرى على اللحنِ وهو يميلُ بجسدهِ عليها، وذراعهِ يحاوطُ خصرها قائلًا:
-مش يمكن اطَّمنت، رفعَ جسدهِ وهو يجذبها، ليستأنفَ الرقصة:
-كنت قلقان منِّي ياإلياس، خايف أكون بضحك عليك، ولَّا خايف أكون زي الستِّ اللي مفكَّرها خطفت باباك، والسبب في موت والدتك؟..
قرَّبَ رأسها وهمسَ بأنفاسهِ الحارة:
-لا ياحبيبي، خايف لأكون بحبِّ سراب، كنت عايز أطَّمن من قلبك،
-تطمِّن من قلبي وإنتَ متأكِّد أنا مستنية منَّك بس نظرة..
تنهَّدَ بصوتٍ عالٍ حتى شعرت بهبوطِ وارتفاع صدره، حرَّكت كفَّها على صدره:
-ياااه للدرجة دي كنت تعباك أوي كدا..
-أوي..نطقَ بها سريعًا، ثمَّ طالعها بعتابٍ ليخبرها:
-عملتي إيه يدل إنِّك بتحبِّيني؟..
-وإنتَ عملت إيه يدل على حبَّك ليَّا؟..
-شايف سؤال بسؤال، أنا عايز إجابة ياميرال..
-وأنا كمان عايزة إجابة ياإلياس، مش إنتَ بتقول كنت بطمِّن قلبك، طيب أنا من حقِّي قلبي يطَّمن..
-بحبِّك اكتر من أي حاجة ومتجوزتش بسببك، كنت منتظر قدرنا، بس عايزك تثقي حروفي اضرَّجت باللهيبِ حينما
أُسمّيتُك "حبيبي"فما ذنبي إن كانت النفس أمارة بالشوق إليها
كدا الإجابة واضحة..
ارتجفت شفتيها بعدما فقدت النطقَ من نظراتهِ وهمسهِ المثير، لتتجرَّأ وترفعُ نفسها تطبعُ قبلةً على خاصَّته، أذابت جوارحَ كلٍّ منهما، رفعها يضمُّها بقوةٍ لتذوبًَ بحضنهِ مع همساتهِ بالعشقِ الدفينِ لأوَّلِ مرَّة..
انحنى عليها بثورةٍ من قبلاتهِ العاشقةِ
ليشعرها وكأنَّهُ لأوَّلِ مرَّةٍ يقبِّلها، بل لأوَّلِ مرَّةٍ يكونُ قربهِ مهلكًا بتلك الطريقة، ليثبتَ لها أنَّ عشقها نوعًا خاصًّا نادرَ الوجود، به تتدفَّقُ معاني الحبِّ بكلِّ أنواعِ اللغات، لتفوقَ قوَّتهِ قوةَ الجاذبية أضعافًا مضاعفة، وهي تشعرُ بأنَّها كالفراشةٍ التي تتنقَّلُ بين الأزهار،
ذابت كلَّ آلامها وتناست مامرَّت به بيومها من مجرَّدِ عاشقٍ يترنَّمُ بعشقها
كآلةِ البيانو، لتتحوَّلَ حياتها ورديةً بأجملِ باقاتِ الورود، ويتجمَّلُ نسيمها بنسيمِ البحرِ ورائحةِ العطور..
توقَّفَ ليحملها بين ذراعيه، وقلبهِ كالمضخةِ يريدُ أن تكونَ تلك الليلة ماهي سوى ليلةِ حياتهِ الأولى معها، عوضًا عمَّا مرَّا به، خطا وهي بحنانِ حضنه، متَّجهًا إلى فراشهما، وكأنَّهُ يحملُ سعادته..وضعها بهدوءٍ ومازالت متعلِّقةً برقبته، ونظراتها التي توحي له الكثيرَ والكثير، لا يريدُ ترجمةً سوى عشقها له فقط، لا يريدُ سوى أنَّها تراهُ الرجلَ الأعظم والأوحد بالكون، همست من بين شفتيها المطليةِ بحروفِ عشقه، وكأنَّها فهمت ما يشعرُ به:
-مش عايزة غيرك وبس، أقسم لك حبيبي إنِّي أذوبُ بك عشقًا حتى الممات..هنا توقَّفَ الكونُ بعقاربِ الساعةِ وهو لا يريدُ سوى عينيها، حرَّكَ أناملهِ على نبضها المجنونِ الذي ظهرَ بوضوحٍ من صعودِ وهبوطِ صدرها، ليحرِّكهُ بعشوائيةٍ وكأنَّهُ يكتبُ لها بحبِّك فوق ماتتخيَّلي..همست تردِّدُ حروفَ اسمه كعصفورٍ كناري، ليميلَ عليها بملحمةِ العشقِ بدقاتها المثيرةِ بكلِّ ترحابٍ وجنون..
عند آدم
استمع الى طرقات على باب مكتبه، دلفت إليه ايلين تضع أمامه بعض الأوراق
-امضي ياآدم لو سمحت..رفع عيناه إليها بعدما علم ماتحتويه الاوراق
-مش ينفع ياايلين، بعد ماتخلصي كلية وتشتغلي
جلست بمقابلته
-ماتصعبهاش عليا يابن خالي لو سمحت
سحب نفسًا وزفره ثم نهض إلى أن جلس على المقعد الذي يقابلها
-طلباتك ايه ياإيلين
-ماليش طلبات يابن خالي غير الحرية
دنى بجسده وتعمق برماديتها
-وحياة آدم ياايلين تديي لحياتنا فرصة
توقفت وحاورته بعيناها
-مفيش فرص يابن خالي، خلينا نطلق
-دا اخر كلام ياايلين ...
ومفيش غيره ...دفعت حنين الباب توزع نظراتها بينهما ثم اردفت:
-أنا مش موافقة على الطلاق، يعني ايه تطلقني بعد اللي عملته علشانك، وعلشان ايه، علشان دي ..اقتربت من إيلين
-أنا يطلقني وبلا رجعة علشانك، وعد مني لأندمه، التفتت إليه ورمقته باحتقار
-هعرفك ازاي تطلق حنين الشهاوي علشان الجربوعة بتاعتك دي ..قالتها وخرجت كالكرة النارية
بمنزلِ أرسلان قبلَ ساعات:
خرجَ إلى الحديقةِ بعد اتصالِ إلياس به:
-شوف العربية اللي واقفة قدَّام بيتك، خلِّي الأمنِ يفحصوها كويس..
انكمشت ملامحهِ متسائلًا:
فيه حاجة ولَّا إيه؟..
-لا بس تأكيد اطمئنان، فيه واحد منهم كان مراقبني لمَّا دخلت بيتك، وبعدين ينزلوا ويسيبوها، دا تخوُّف أكتر..
ركضَ أحدهم إليه:
-فيها قنبلة ياباشا، أشارَ إليهِ بالتحرُّكِ مع رفعِ هاتفهِ والاتصالِ بأحدهم..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ كان يجلسُ بمنزلهِ يعملُ على جهازهِ بصمت، دلفت إليه:
-جهَّزت الغدا، عمُّو إسحاق مشي ولَّا إيه؟..
رفعَ نظرهِ إليها، ثمَّ أغلقَ الجهازَ ونصب عودهِ متوِّقفًا، وهو يتحاملُ على آلامِ رأسه، دنت منه تسحبهُ من ذراعهِ إلى أن وصلت إلى الأريكة:
-ارتاح شوية وبطَّل شغل، إنتَ لسة تعبان..
مرَّرَ أناملهِ على ملامحها الجميلة، بأعينٍ مشوَّشة، وصداعٍ يفتكُ برأسه، تراجعَ بجسدهِ يستندُ برأسهِ للخلفِ على المقعد ..جلست بجواره، تمسِّدُ على خصلاتهِ ونطقت بنبرةٍ متألِّمة:
-أرسلان تعبان؟....أغمضَ عينيهِ محاولًا أن ينتشي نبضَ قلبهِ من لحنِ صوتها..
لا تشعر سوى أنَّها أصبحت بلا حماية، كأنَّ قلعتها أصبحت على رمالٍ شاطئية، لتبعثرها الرياحُ دون رحمة، انسالت دموعها تدفنُ رأسها بكتفه، ونطقت بنبرةٍ متألمةٍ بمزيجٍ من الحزنِ القابعِ بصدرها:
-قولِّي مخبِّي عليَّا إيه، وليه عايز تكسرني بالشكل دا؟،.اعتدلَ يلفُّ ذراعيهِ حول جسدها، وطالعها بأعينٍ هالكةٍ من فرطِ الألم، مرَّرَ أناملهِ يزيحُ دموعها التي سقطت على قلبهِ كهزّّةٍ أرضيةٍ تشقُّها، ثمَّ قرَّبها إليه يطبعُ قبلةً بجوارِ ثغرها الكرزي، رفعت عينيها الباكيةِ تتوسَّلُ صمتَ عينيه، رفعت كفِّهِ تقبِّله، ابتسمَ يضمُّ وجهها بين راحتيه، وأمالَ يحتضنُ ثغرها ينثرُ عليهِ عشقه، لحظاتٍ ربما دقائق وهو يعزفُ لحنهِ الأثيرِ من القبلاتِ على كرزيتها، ابتعدَ بعدما شعرَ بانسحابِ أنفاسها..تمدَّدَ يجذبها لأحضانهِ يخلِّلُ أناملهِ بخصلاتها البنية اللامعة، رفعت رأسها تنظرُ لعينيهِ القريبةِ وتساءلت.
-مش عايز تقولِّي مالك؟.،ومتحاولشِ تقولِّي الحادثة، لأنِّي عارفة فيه موضوع أكبر من الحادثة..استندت على مرفقها ورفعت كفَّيها على وجنتيهِ تهمسُ بنبرةٍ عاشقة:
-مهما كان اللي عايز تقولو، بس تأكَّد أنا هفضل جنبك لأخر يوم من عمري، مستحيل أتخلَّى عنَّك، دنت وتابعت همسها المثير أمام شفتيه:
-مستحيل أتنازل عنَّك ياأرسلان، أوَّل حب وآخر حب ومفيش بعدك ولا قبلك بديل..
لفَّ ذراعيهِ حول عنقها ينظرُ لعينيها التي سحرتهُ من أوَّلِ مرة، شعرَ وكأنَّها سلبت فؤاده، ليهيمَ النبضُ باسمها وحدها، ولما لا وهي التي تربَّعت على عرشه، عجز عن صياغةِ حروفٍ تصفُ عشقها، عندما لم يجد مايعبِّرُ بما يشعرُ به من قربها،
شعرت به لتنحني تطبعُ قبلةً مطوَّلةً ممزوجةً بالحنانِ بجوارِ شفتيه، ثمَّ رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ التي ترسلُ آلافَ الأعذارِ تتمتم:
-"بحبَّك ياحظِّي الحلو"
تعثَّرَ نبضهِ من قوَّةِ ماشعر به، ماذا فعل ليجازيهِ الله بتلك الملاك، رفعَ خصلاتها العشوائيةِ التي حجبت عيناها، يضعها خلفَ أذنها، ثمَّ أفلتَ ابتسامةً خلابةً تضجُّ بالكثيرِ من المشاعر، قائلًا:
-أعتبر دا اعتراف رسمي إنِّي أحسن حظ؟..داعبت وجههِ بأناملها تهزُّ رأسها بالإيجابِ مبتسمة، ثمَّ اعتدلت تسحبُ نفسًا متسائلة:
-إيه اللي حصل خلاك تطلب منِّي الموت ياأرسلان؟..أومأت عندما لمحت نظرةَ تساؤل، ثم ردَّدت تخبره:
-سمعت بعض الكلمات، بس أكيد عايزة أسمع منَّك كلِّ حاجة، بس قبل أيِّ حاجة تأكَّد ياأرسلان إنِّ ربنا مسيَّر الكون بحكمة محدش يعلمها، يعني وجودك في حياة عمُّو فاروق حكمة، افتكر كدا لو ماوصلتش لعمُّو، كنت مش هتدخل مخابرات ومكناش اتقابلنا، ولا كنا اتجوِّزنا، شوفت تدابير ربِّنا..
احتوى كفَّيها معتدلًا ثمَّ أردف:
-أنا معرفشِ أهلي الحقيقين ياغرام..
رفعت ذقنها وتعمَّقت بعينيه:
-بس انا أعرف أرسلان الجارحي، أي إن كان اسمك اللي مش مهم، بس المهم إنتَ إيه، أخلاقك ودينك إيه، رجولتك إيه، افرض عرفت اسمك وكنت بشع، الاسم هيعملَّك إيه؟..ولا حاجة..اقتربت منه وملَّست على وجنتيهِ وتابعت حديثها:
-حبيبي مش مهم إنتَ تبع مين، المهم إنَّك عملت إيه ليكونوا تبعك، وأنا متأكدة إنِّ جوزي أحسن راجل في الدنيا، أنا مش عايزة غير أرسلان وبس..
تنهَّدَ بألمٍ يحتوي رأسها بين راحتيه، ثمَّ رفعَ رأسهِ وهو يمسحُ على وجهها:
-هتقولي كدا حتى لو لقيط؟..
-بس إنتَ مش لقيط ياأرسلان..
سلَّطَ بصرهِ يهزُّ رأسهِ قائلًا:
-ليه متأكدة كدا؟.،
-أنا مؤمنة، إنِّ شخصية بالطريقة دي متطلعشِ إلَّا من ناس عارفين خلق ودين، وإنتَ أكيد عارف كلمة لقيط يعني إيه..
اعتدلَ واقفًا ثم نزلَ بنظرهِ إليها:
-هعرف ياغرام، وأتمنى أسمع الكلمتين اللي قولتيهم من شوية..
ناظرتهُ بأعينٍ مشتتة جاهلةً حديثه، لترفعَ كتفها بجهلِ حديثه..
جاهدَ بإخفاء اعتصارِ قلبه، واستدارَ قائلًا:
-قصدي هتفضلي متمسكة بيا حتى لو كنت لقيط؟.،
-ومش هبعد عنَّك ياأرسلان، حتى لو قولتلي إنِّ أهلك قتلوا أهلِ قارون، أنا متجوزة أرسلان مش متجوزة أهله..
توقَّفَ مستديرًا يشيرُ إليها؛
-تعالي في حضنِ حبيبك بقى بعد شوية التلج بالكلامِ الحلو دا..
مرَّت عدَّةِ ساعات، حاولَ الوصولَ فيهم إلى إلياس ولكن هاتفهِ مغلق، مسحَ على وجههِ بألم، ثمَّ نظرَ بساعةِ يده:
-أنا هخرج علشان أطَّمن على بابا، الدكتور أجِّل العملية أسبوع، وعمُّو بيقولِّي بابا رافض أيِّ علاج غير لمَّا يشوفني..
-تمام ياحبيبي، هجهز وآجي معاك..
بعد فترةٍ دلفَ إلى غرفة فاروق، وهو يحملُ باقةً من الزهور، كانت تجاورهُ صفية وإسحاق، نهضت من مكانها مبتسمة:
-حبيب قلبي، ليه جيت وإنتَ تعبان يابني
فتحَ فاروق عينيهِ يردِّدُ اسمه، اقتربَ منه وانحنى يطبعُ قبلةً فوق جبينه:
-حبيبي عامل إيه؟..
اغروقت عيناهُ بالدموعِ قائلًا بنبرةٍ متقطعة:
-كدا ياأرسو نسيت أبوك ومش عايز تشوفني؟..
قاطعهم إسحاق الذي توقَّفَ يرمقُ أرسلان بابتسامةٍ ساخرة، قائلًا بنظرةٍ متهكِّمة:
-لا وشوف الباشا جايب لك إيه، ورد، اقتربَ يسحبُ إحدى الورود يستنشقها، ثمَّ رفع عينيهِ إلى أرسلان:
-طيب استنضف يا متخلف، ايه رأيك في زيارة ابنِ الجارحي يافاروق..
لمعت أعينُ فاروق بالسعادةِ من نطقِ إسحاق بتلك الكلمة فاستطرد:
-ابنِ الجارحي يجيب اللي يعجبه ياإسحاق، ملكشِ دعوة بيه، بسطَ كفِّه إليه:
-تعالَ ياحبيبي أقعد جنبي عايز أتكلِّم معاك في موضوع مهم..أومأ أرسلان بهدوء، تطلَّعَ إسحاق إلى صفية:
-تعالي ياصفية نشوف دينا، لحدِّ ماأرسو يعرَّفنا أخلاق عيلة الجارحي وقيمها..قالها بمغذى وتحركَّ للخارج..
جلسَ يحتضنُ كفَّ فاروق ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً على راحته:
-ألف سلامة عليك ياحبيبي..ابتسمَ بعيونٍ دامعة:
-من قلبك ياارسلان..توسَّعت عيناه مذهولًا، لينطقَ معترضًا:
-إيه اللي بتقوله دا حبيبي، أفديك بعمري لو احتجتني..
داعبَ وجههِ ونطق:
-كنت متأكد ياحبيبي واللهِ كنت متأكد إنَّك مش هضيع تربيتي وأخلاقي اللي زرعتها فيك..
قابلَ كلماتهِ بالصمتِ لثواني حتى أردفَ فاروق:
-أنا ربِّيتك وعمري في يوم ماحسِّيتك إنَّك مش ابني، حتى بعد ماربِّنا رزقني بملك.. واللهِ يابني أنا كنت مكتفي بيك بس جدِّتك الله يسامحها بقى خيَّرتني بينك وبين والدة ملك، واضَّطريت أوافق بس معملتش كدا برضو غير بعدِ إصرار والدتك على الجوازة دي، كنَّا عايزين نعيش بهدوء، المهم اسمعني كويس، ملك أختك أوعى في يوم من الأيام تتخلَّى عنها، هي مالهاش ذنب، انا كتبت وصية لو حصلِّي حاجة هتوصلك، وتأكَّد إنَّك أجمل هدية ربنا رزقني بيها..
-وحضرتك كمان يابابا، أجمل أب عمري ماشكِّيت في يوم من الأيام مكنشِ ابنك، لكن سامحني، انا مابقتشِ أنتمي لعيلةِ الجارحي مش حقِّي.،
ضغطَ فاروق على كفِّ أرسلان وتابعَ حديثهِ بإرهاق:
-متقولشِ كدا ياحبيبي، إنتَ ابني وهتفصل ابني لحدِّ ماتقابل وجهِ كريم، وأنا اتَّفقت مع أخوك وعمَّك إسحاق على كدا.
-أخويا !!..أنا ليا أخ، يعني ليَّا عيلة ونسب، حضرتك بتقول إيه؟!..
ابتسمَ يشيرُ إليه، ليهبطَ برأسهِ إلى مستواه:
-ليك اخ وعيلة تتشرَّف بيها، وهو هيوصلَّك قريب، لولا وعدي له كنت قولت لك، بس اللي أقدر أقوله لك، هو قريب منَّك أوي، وبتحبُّه كمان..قالها بهذيانِ ثنايا العقلِ والتشوُّشِ لديه حينما قلَّ نبضه، وتنفُّسه، ليتوقَّفَ أرسلان:
-بابا اهدى، خلاص ماتتكلمش، دلفَ الطبيبُ سريعًا على صوتِ الأجهزة، قبضَ على كفِّ أرسلان يهمسُ بتقطُّع:
"ملك وصيِّتك يابنِ فاروق..وصلَ إليهما إسحاق يزمجرُ بالطبيب:
-إيه اللي بيحصل هنا؟..ولكنه تشبث بكف ارسلان وحاول الحديث
-اخوك...أبعده الطبيب يفحصه، ثم رفع عيناه إلى اسحاق
-لازم يدخل عمليات فورا
بمنزل إلياس
استيقظ من نومه، وجد مكانها فارغًا، نهض متجهًا إلى الحمام يبحث عنها ولكنها غير موجودة، فتح الكاميرات يبحث عن مكانها..توقف لبعض اللحظات حتى شعر بانسحاب الدماء من عروقه، مع ارتفاع رنين هاتفه، رفعه ومازالت نظراته على الشاشة
-إلياس ..اسف بس لازم تيجي حالًا، مدام ميرال...بتر حديثه
-جاي وممنوع حد يقرب منها ...قالها وأغلق هاتفه ....
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
عندما ينكسرُ القلب، لا يتفتَّتُ إلى أشلاءٍ صامتة، بل إلى شظايا مشتعلةٍ تتراقصُ بين الحنينِ والوجع..
كلُّ شظيَّةٍ تحملُ جزءًا من الذكريات، تنبضُ بالحبِّ الذي كان، وتصرخُ بالألمِ الذي بقى..
أحيانًا أجدني أقفُ أمامَ تلك الشظايا، أمدُّ يديَّ لأجمعها، لكنِّني أحترقُ في كلِّ مرَّة.
وكأنَّها ترفضُ أن تُعاد، تفضِّلُ أن تبقى مشتعلة، حارقة، شاهدةً على الخسارة.
أحببتكَ بحجمِ الكون، حتى أنَّني اعتقدت أنَّ الحبَّ سيطفئُ نيرانَ الفراق.
لكنَّ النارَ كانت أعمقُ من ظنوني، وأشرسُ من وعودنا..
أين أهربُ من شظاياك؟!
وأين أجدني بعيدًا عن نيرانك؟..
أنتَ الغيابُ الذي يملأُ حضوري، والشظيةُ التي اخترقت روحي دونَ رحمة..
إنَّها شظايا القلوبِ التي تحترق..
لا تنطفئ، ولا تُنسى..
بألمانيا وخاصةً بالمشفى التي بها رحيل، جالسًا بجوارها محتضنًا كفَّها، رفرفت أهدابها تهمس:
-بابا..توقَّفَ منحنيًا يهمسُ إليها:
-رحيل عاملة إيه؟..فتحت عينيها ببطء، وقعت عيناها عليه، دارت بالغرفةِ بنظرها متذكِّرةً ماصار فاعتدلت سريعًا تبكي بصوتٍ مرتفع:
-بابا، أنا عايزة أشوف بابا..
حاول تهدئتها، ولكنَّها صاحت تبعده:
-ابعد عنِّي..قالتها بصرخاتٍ وركضت للخارجِ وهو خلفها، قابلتها رانيا التي وصلت من القاهرة للتو
-حبيبتي رايحة فين؟..لم ترُّد عليها وتحرَّكت إلى غرفةِ والدها، بحثت بعينيها عنهُ كالمجنونة، حاوطها بين ذراعيه:
-حبيبتي اهدي..أشارت إلى سريره:
-بابا فين يايزن، أبويا فين؟..ضمَّها بقوَّةٍ محاولًا السيطرةَ على حركاتها، هرولَ إليه الطبيبُ لحقنها، ولكنَّهُ منعه:
-أعتذر، كفى ماأخذته، لا أريدُ أيَّ مهدِّئ آخر..قالها باللكنة الانجيلزية، حاوطَ جسدها وتراجعَ على المقعد، ومازال يحبسها بين قلاعِ حصونهِ الدافئة، رفعت رأسها تطالعهُ بانهيارِ عينيها:
-بابا مات يايزن، مبقتشِ أشوفه تاني، خلاص كدا الحكاية مع أبويا خلصت، طيب ليه يمشي من غير مايودَّعني..
احتوى رأسها وأزالَ عبراتها:
- راحيل ينفع نعترض على حكمِ ربِّنا، ينفع ياراحيل، إنتِ كدا بتقولي لربِّنا ليه عملت كدا..
هزَّت رأسها ببكائها وشهقاتها التي تشقُّ الصدور:
-أنا عايزة أحضنه بس، عايز أشمّ ريحة بابا لآخر مرَّة في حياتي يايزن..
احتضنها يخبِّئها بين أحضانهِ يردِّدُ لها كلماتٍ حانيةٍ تهدِّئ من حزنها، ولكن كيف يهدأ قلبها الحزين، الذي أصبح كالطائر الذي ذُبحَ عنقه، وكيف لا أخبركم عن فقدانِ الأب، فالأبُ هو سندُ الحياة، هو الحبُّ الأوَّلُ والأخير، هو ضحكةُ الدنيا ودعوةٌ من القلب، النجمُ الذي يضيئُ ظلمةَ الحياة، والقلعةُ التي تحتويك من غدرها، فهو التي تهتزُّ الأرضُ بحضوره، وتمتلئُ السماءُ بحنانه، سفيرُ أحلامي، ودفءُ شتائي، هو الحاضرُ الغائبُ بدعائه،..فالأبُ سقفُ الحياة، تصوَّر بعدهُ حجمَ الضياعِ حين ترفعُ رأسك ولا تجد شيئاً يحميك..هذا الأب ياسادة
رحمَ الله والدي..اللهمَّ اغفر لموتانا وموتى المسلمين وارحمهم بواسعِ رحمتك، اللهمَّ آنس وحشتهم ونوِّر قبورهم واغفر ذنوبهم وارحمهم؛ اللهمَّ اجمعني بأبي في الفردوسِ الأعلى من الجنان، اللهمَّ افسح له في قبرهِ مدَّ بصره وافرش قبره من فراشِ الجنة؛ اللهمَّ أعذ أبي من عذابِ القبر وجفافِ الأرضِ من جنبيه...اللهم آمين
دعوة من القلب يارفاق للغائين عن العين الحاضرين بالقلب"
بعد عدَّةِ ساعاتٍ هبطت الطائرةُ بمطارِ القاهرة، تنقلُ جثمان مالك العمري، ماذا بك ياإنسان خرجت من هنا إنسان ورجعتَ بجثمان، اللهمَّ ارزقنا حسنَ الخاتمة ياأرحمَ الراحمين..
وصلَ الجثمانُ إلى مثواهِ الأخير حيثُ كان الجميعُ ينتظرونَ توديعه، وهاهنا انتهت حياتك ياإنسان مهما كنت تحملُ من عزِّ وجاه..
توقَّفت بجسدٍ واهنٍ وروحٍ غائبةٍ وهي ترى والدها يُدفنُ تحت التراب، انهارت قواها وسقطت فاقدةً للوعي وهي تردِّدُ اسمَ والدها..
بعد فترةٍ بفيلا العمري كانت تغطُّ بنومٍ عميقٍ بسببِ المهدِّئات؛ ولم يختلف الأمرُ عن والدتها التي فقدت الحركة وحُجزت بالمشفى..أيامًا عصيبةً حزينةً قضتها بين دموعِ الأسى والفقدان، لم يتركْها يزن، بل كان مثل ظلَّها..
بالأسفل:
بفيلا العمري كانت تجلسُ تأمرُ بالخدم وتتلقَّى العزاءَ وكأنَّها صاحبةُ المكان..استمعت إلى رنينِ هاتفها لترفعه:
-أيوة ياراجح..ولكنَّها هبَّت من مكانها بعدما استمعت إلى صوتِ الممرِّضة:
-حضرتك أنا ممرضة في مستشفى (. )..الأستاذ محجوز عندنا في قسم العظام.
أغلقت الهاتف تسبُّه، ثمَّ أمسكت هاتفها:
-عطوة إيه اللي حصل؟..
-زي ماتوقَّعتي بعد سفرك المانيا راح لميرال وحاول يقتلها لكن إلياس ضربه..
-تمام ياراجح، عايز تقتل البنت زي ماأمروك..تحرَّكت إلى المشفى، دلفت للداخلِ تبحثُ عنه، وجدتهُ بأحدِ الأسرَّةِ الموجودةِ بإحدى المشافي الحكومية..تلفَّتت حولها تنظرُ للمكانِ بإشمئزاز، ثمَّ تقدَّمت منه:
-إيه اللي حصل وعمل فيك كدا؟..
-بطَّلي كلام وكلِّمي حد من معارفنا ينقلني من المستشفى الزبالة دي، الحيوان ابنِ فريدة رماني هنا، وعملِّي قضية شروع في قتل، اتصرَّفي..آااه قالها وهو يضعُ كفَّيهِ على ظهره متألمًا ثمَّ تابع:
-ضهري ورجلي ومحدش معبَّرني لولا الممرِّضة وعدتها بمبلغ علشان كدا اتَّصلت بيكي، المهم دفنتوا مالك، وعملتي إيه مع بنته وأختك؟..
رفعت هاتفها تشيرُ بيدها إليهِ بالصَّمت، دقائقَ وأجابها أحدهم لتخبرهُ بما تريد.
بمنزلِ إلياس قبل ساعات:
كانت تقبعُ بأحضانه، محاوطًا لها بذراعه، ينظرونَ إلى صفاءِ السماء بنجومها، تراجعت بظهرها تلتصقُ بصدرهِ تشيرُ إلى أحدِ النجومِ التي أنارت واختفت فجأةً، قائلةً بابتسامة:
-ادعي دعوة بسرعة..قالتها وهي تلتفتُ بنصفِ جسدها عليه..
رفعَ حاجبهِ ولوى شفتيهِ ساخرًا، ثمَّ تراجعَ بجسدهِ قائلًا بتهكُّم:
-بس يابتِّ ياهبلة، دي خرافات..
تغضَّنَ وجهها بعبوسٍ طفوليٍّ تنظرُ للأمامِ بصمت، دنا منها يضعُ رأسهِ على كتفها:
-ربِّنا يحفظك ليَّا، وضع كفَّيهِ على أحشائها وتابعَ حديثه:
-ويرزقنا الذرية الصالحة..كدا كويس ياعصفورتي؟..
استدارت إليهِ بكاملِ جسدها:
-إلياس كان نفسي أقولَّك أنا أسعد مخلوق على الكون الليلة دي، بس جوايا نار ومش عارفة أطفيها، قولِّي وريَّح بالي أنا مين؟..
أخذَ نفسًا عميقًا وزفرهُ على مهل:
-هتفرق ياميرال، مش اتكلِّمت وقولت إنِّك بنتِ قلبي مش مكفِّيكي قلبي؟..
رفعت عينايها الحزينة إليهِ بتيه، وحالةٍ غريبةٍ متناقضة، لا تعلم إذا كانت تشعرُ بالسعادةِ أمِ الشقاء، لا تعلم أنُّهُ يحبُّها أم أنَّهُ يشفق عليها، حقًّا تغرقُ بخضَّمِ مشاعرٍ أرهقتها مما جعلها تفقدُ الشعورَ بنبضِ قلبها الذي يخفقُ لأجله، ماذا عليها أن تفعل..أن تراودهُ وتسحقُ أحاسيسها، أم تغرقُ معه بلجَّةِ عشقهِ الضاري مثلما يقنعها، لقد أثقلَ كاهلها بالتفكيرِ فتراجعت ببصرها عن مرمى عينيه، شعرَ بها ليحتضنَ وجهها بين راحتيه:
-أنا مش عايز غير إنِّك تكوني بنتِ قلبي، حتى لو كنت بنتِ أعظم راجل في الدنيا، حبِّي ليكي يستاهل إنِّي أكون كلِّ حاجة، انسي كلِّ اللي مرِّينا بيه، أنا كمان معاكي أهو، يعني لا أب ولا أم، حياة اتبنت على الضياع، تخيَّلي أنا مش قادر أتكلِّم وأقول في شغلي مش أنا الشخص دا، انا طلعت واحد تاني، حياة وشخصية بنتها من سنين وفجأة تطلع سراب، لا الاسم اسمي ولا الحياة حياتي..
وضعت أناملها على كفَّيهِ تسبحُ بعينيه:
-أنا مكنتش طالبة غير حبَّك ياإلياس، من وقت مااتأكدت إنِّي حبِّيتك مطلبتش غير حبَّك وأكون مراتك، رغم الوجع اللي كنت بتسبِّبه لي، بس مكنتش قادرة أكرهك، كلِّ كلامي معاك كان مجرد عقاب لقلبي اللي بيحبَّك ومش شايف غيرك، بس هعمل إيه، إنتَ كنت بعيد عنِّي أوي، وكلِّ لقاءاتنا تجريح وبس، ويوم ماعمُّو مصطفى قرَّر يجوِّزنا صدَّقني أنا كنت رافضة فعلًا الجواز دا، مش علشان إنتَ وحش، ياريت إنَّما كنت رفضاه علشان خايفة أكرهك، من معاملتك معايا اتأكِّدت جوازك منِّي انتقام، وللأسف حاولت تدفني وأنا حيَّة بدل المرَّة اتنين، أه اعترفت بحبَّك، بس اعتراف بارد، كنت بسمعه بوداني مش بقلبي، النهاردة أوَّل مرَّة أسمع نبض قلبك بجد، يمكن أكون سمعته قبل كدا بس كنت بكذِّبه، بس المرة دي غير، وخايفة ليكون شفقة..
وضعَ أناملهِ على شفتيها يطالعها بصمتٍ مريب، نعم لم يستطع الردَّ عليها، فلقد أخرجت كلَّ ما يؤلمُ روحها، ورغمَ ذلك شعرَ بقبضةٍ تعتصرُ فؤاده، هل تعتقد أنَّهُ مرواغًا بمشاعره..
رفعَ ذقنها وغرزَ عينيهِ بمقلتيها ونطقَ مخبرًا إيَّاها:
-اسمعيني كويس يابنتِ فريدة، مش أنا الشخص الِّلي يتلاعب بالمشاعر، مش مشكلتي أفكارك الغبية، أنا أوَّل ليلة في جوازنا اعترفت لك أنا عايز أكوِّن حياة معاكي ولو كنت كارهك زي ما بتقولي، كنت مستحيل أوافق على الجواز، مش أنا اللي أنتقم من ستِّ في بنتها، منكرشِ أفكاري كانت مأساوية، بس عمري ما فكَّرت أخدك بذنبِ حاجة إنتِ مالكيش حقِّ فيها، اتجوِّزتك وقولت هطلَّقك بعد فترة منكرشِ دا، بس دا من خوفي من عدم قبولك لحياتنا، وكنت مفكَّر إن مدام فريدة هتحاول تبعدك عنِّي، أيوة كنت غبي وببني مبرِّرات منكرش، بس أنا كنت بحبِّك وقولتها لك قبلِ كدا، لو مش بحبِّك مكنتش اتجوِّزتك، افهمي بقى، مش كلِّ شوية هغنِّيها، أنا مبحبش الكلام الكتير، والفرصة لمَّا جت قولتها، الحبّ مش كلمات نفرح بيها ياميرال..
دفنت رأسها بعنقهِ وآاااه عميقة أخرجتها من جوفِ حسرتها قائلة:
-أنا تعبانة أوي ياإلياس، حاسَّة إني ضايعة وبغرق..
أخرجها ينظرُ لعمقِ عينيها:
-إنتي اللي مسلِّمة نفسك للموج، مفيش حدِّ بيوقف ضدِّ التيار وعايز يعدِّي، ارمي حمولك على ربِّنا وقولي يارب،
وإن شاءالله هنخرج من الكبوة، عارف إنِّك شايلة فوق طاقتك، بس كمان متأكد إنك قدَّها، دنا يلمسُ ثغرها وهمسَ بنبرةٍ مثيرة:
-إنتِ حبيبة إلياس ومراته، وإلياس مش هيتجوِّز واحدة ضعيفة ياميرال..
-إلياس لو سمحت..نطقتها بصورةٍ قاتلةٍ تخترقُ كلَّ الحواجز، ليجذبها يضمُّها إلى قلبه:
-مش عايز أسمح بحاجة غير إنِّك تفوقي وتتأكِّدي إنِّك أقوى من أيِّ حاجة..انبثقت دموعها لتحكي مقدارَ ألمِ ماتشعرُ به، حتى أخرجت شهقةَ بكاء، أخرجها يحتوي وجهها:
-الدموع دي دموع الفرح صح؟..مش عايز غير إنِّك فرحانة علشان تتأكدي إنِّي بعشق ميرال، زي ماأنا متأكد إنِّك بتعشقيني..صح حبيبي؟..
هزَّت رأسها مع ابتسامةٍ من بين دموعها، ليفلتَ ضحكةً غامزًا:
-طيب إيه الليلة هتعدِّي كدا، مفيش حتى كلبش يتحطّ في الكعبِ الحلو دا..قالها وهو يرفعُ قدمها:
لكمتهُ بقوَّةٍ ليرتفعَ صوت ضحكاتهِ وهو يضمُّها:
-ماليش فيه، عايز أعيش لحظات الراجل الشرقي، وخاصةً المصري الأصيل، هتقومي تتطلعي على التربيزة علشان أقيِّم المواهب والمناطق..
لكمتهُ تضحكُ بصوتٍ مرتفعٍ عكس ماكانت تشعرُ به، ليضمُّها بشوق:
-بحبِّك واللهِ ياميرو، وحبُّي بيكبر لدرجة خايف عليكي منِّي..
تمسَّحت بصدرهِ هامسة:
-إئذيني بالحبِّ دا مالكشِ دعوة، المهم إنَّك تحبِّني وتخاف على ميرال علشان حبيبتك مش علشان بنتِ الستِّ اللي ربِّتها..
-بتغلطي حبيبي..لمست وجنتيهِ وتعلَّقت العيون:
-بحبِّ كلمة حبيبي أوي منَّك، بحسَّها نقية من قلبك..داعبَ أنفها بأنفهِ يهمسُ بنبرةٍ جعلت خفقانهِ كطبولِ حرب:
-لازم تحبِّي أيِّ حاجة أقولها أصلًا..مرَّرت أناملها على وجههِ وطبعت قبلةً بجوارِ خاصَّته، ونظرت لعينيهِ القريبة:
-عايزاك على طول كدا ياإلياس..
ابتعدَ عنها ثمَّ نهضَ من مكانه، واتَّجهَ إلى خزانتهِ الخاصة، فتحها ليجذبَ دفترًا يزيِّنهُ قلمًا لامعًا، ثمَّ تحرَّكَ إليها..
راقبت أفعالهِ بصمت، جلسَ وأشارَ إليها بالاقتراب، تراجعت لتصبحَ بأحضانه، قامَ بفكِّ الرباطِ الذي يزيِّنُ الدفترَ ثمَّ أخرجَ القلم، رفعت عينيها التي تزيَّنت بطبقةٍ كرستاليةٍ إلى عينيه، وارتجفت شفتيها
"معقول!!"
انحنى يخطفُ قبلةً سريعةً ثمَّ حاوطها بذراعيهِ لتصبحَ باحضانهِ بالكامل، وبدأ يقلِّبُ بصفحاتِ الدفتر...
""أنا العاشقُ الذي تُصبح كلَّ الكلماتِ مجرَّدِ عبء، والصمتُ صلاة."
ثمَّ قلَّبَ بصفحةٍ أخرى..
وأنا إن أحببت، أحبُّ كأنِّي سأموتُ..
فاكرة الخاطرة دي ..بدأ يقرأها وهي تحتضنه بعيناها، تريد الكثير والكثير، وضعت كفيها على كفيه وقرأت بعد السطور
قل لي بربَّك:
أين يُباعُ الكره؟..
لأكرهكَ بحجمِ حبِّي لك..
قل لي بربَّك..
أين يُباعُ النسيان؟..
لأستطيعَ نسيانك..
بقدرِ إشتياقي..
قل بربَّك كيف أكونُ أنا بلا أنت.
رفعت ذراعيها تعانقه، ولم تجد كلماتٍ تعبِّرُ عن مدى عشقها، فلقد تخطَّى ذلك الرجلُ عشقَ الكون، رفعَ رأسها وتقابلت الأعينُ بنبضِ القلوب، قرَّبها من صدره، وآااهٍ بنبضِ مايشعرُ به..فعشقها عشقًا جارفًا، تخلَّلَ الشريان ليكتملَ بها ولها،
تعثَّرت الكلماتُ بينهما ولكن هناك نبضٌ جنوني، وكأنَّهما لم يقتربا منذُ سنوات، وليس من دقائق، مرَّرت أناملها على نبضِ قلبهِ تهمسُ بنبرةٍ أثارت جنونُ العشق:
"عندي أموت ولا أبعد عن حضنك، لو عايز تموِّتني بالحيا ابعدني عن حضنك ياإلياس..دي هديتي صح ..
همسَ بأذنها بعض الكلماتِ التي ترجمتها بالوقاحة، فتحت فاهها للردِّ عليه، ولكنَّهُ سبقها عندما جذبها فوق ركبتيهِ ليحرِّكَ يدهِ فوق جسدها بعبث..
تجمَّدَ جسدها وفقدت الحركة من حصاره ِبكاملِ أسلحته، هزَّةٌ عنيفةٌ أصابتها وهو يتابعُ فنونَ عشقه، أغمضت عينيها ورفعت رايةَ الانهزامِ في جبروتِ العشق، داعبها بأنفاسهِ الحارَّةِ وأستأنف:
بُعدي عنِّك موت ياميرال..أومأت رأسها بالإيجاب:
"أوي أوي، أكيد عندك نفس الإحساس..
ابتلعَ باقي كلماتها، لينهلَ من عسلها المذابَ فوق كرزيتها، غرقَ ببحورِ عشقها وذابَ الثلجُ وهو يلعنُ داخلهِ من حرمانِ قلبهِ من جنَّةِ نعيمها، ظلَّ يقطفُ من جنَّتها إلى أن أُنهكَ جسديهما ليغفو بسلام، وكأنَّهُ لم ينم لسنواتٍ طوال..
بعد عدَّةِ ساعات، شعرت بألمٍ لتنهضَ من فوق الفراشِ تسحبُ قميصهِ وترتديهِ متحرِّكةً إلى الحمَّام، لتُخرجَ مافي جوفها، شعرت بالألمِ يزداد، دلفت إلى حوضِ الاستحمامِ لتنعمَ بحمَّامٍ يزيلُ إرهاقها، ثمَّ خرجت بهدوءٍ حتى لا توقظَ زوجها، سحبت هاتفها ودلفت لداخلِ غرفةِ الملابس، وقعت عيناها على بعضِ الأوراقِ التى يدوَّنُ عليها اسمها، تناولتها تقرأُ مابداخلها:
"انهيار عصبي" أغمضت عينيها وجلست حينما شعرت بالآلامِ تزداد، بحثت عن رقمِ طبيبتها:
-أيوة يادكتورة، معاكي ميرال السيوفي، قصَّت لها ماتشعرُ به، فأجابتها:
- لو فاضية عدِّي عليَّا نطَّمن، نظرت بساعةِ يدها تتنهَّد، فالوقتُ مازال مبكَّرًا، ومازال زوجها نائمًا، نهضت وقامت بتبديلِ ثيابها، استمعت إلى صوتِ هاتفها، انحنت ترى من المتَّصل، قطبت جبينها ثمَّ رفعت هاتفها:
-أيوة مين؟..
-حضرتك فيه واحد عايز يكلِّمك، صمتت منتظرةً من يريدُ التحدُّثَ معها..
-ازيك يابنتِ رانيا، أوعي تفكَّري إنتي والحيوان جوزك هتعدُّوا من اللي عملتوه، شكلكم متعرفوش مين هوَّ راجح، اسألي فريدة عنِّي وهي تقولِّك، وحياة إهانتي اللي جوزك هنِّي بيها لكون دافنه قبلِ ما يشوف ابنه، وعد من راجح الشافعي لأدفنك يابنِ جمال، سمعتيني يابت، جهِّزي الأسود علشان هلبسهولك العمرِ كلُّه، وحياة أمِّك الخاينة لأدفنه قدَّام عيونك..قالها وارتفعت ضحكاتهِ المشمئزة، لتغلقَ الهاتفَ وتهوى على المقعدِ تضمُّ أحشاءها، تسلَّلت الآلامُ لجسدها بالكاملِ حتى شعرت بانسحابِ أنفاسها، هرولت للخارجِ توقَّفت أمام فراشه، كان مستغرقًا بنومه، نزلت بركبتيها أمام نومهِ وملَّست على وجهه مع دموعها التي زحفت بكثرةٍ على وجنتيها، اقتربت تدفنُ نفسها بعنقهِ تستنشقُ رائحته، شعرت بالانهيارِ من مجرَّدِ عدمِ وجوده بحياتها، قبلةً ناعمةً على وجنتيهِ ثمَّ نهضت بعدما قرَّرت العزمَ على التخلُّصِ من جميعِ آلامها، اتَّجهت إلى خزانتهِ وسحبت سلاحهِ وركضت للخارج، توقَّفت بالحديقةِ لبعضِ الدقائق..ثمَّ خطت إلى سيارتهِ وصعدتها لتخرجَ من البوابة دون إعاقةٍ من الأمن.
وصلت بعد دقائقَ معدودةً للمشفى الموجودِ بها راجح، بعدَ الاتصالِ بالرقمِ الذي هاتفها، لتعلمَ مكانه، صعدت إلى الغرفةِ التي علمت رقمها من الممرِّضة، دفعت البابَ ودلفت، وجدت رانيا تقفُ أمام النافذةِ وكأنَّها تتحدَّثُ مع أحدهما، وصلت إلى فراشه:
-عايز منِّي إيه؟..مش إنتَ بتقول أنا مش بنتك، وأنا مش عايزة أكون بنتك سمعتني، أنا بكرهك ومش عايزة أكون بنتك..قالتها بصراخ، لتقتربَ رانيا تطالعها بذهول:
-مروة حبيبتي، كنت عارفة إنِّك هتيجي، متزعليش من بابا يابنتي هو..
-اخرسي..قالتها بصوتٍ مرتفع، كزَّت على أسنانها وهتفت بنبرةٍ حادَّةٍ مشمئزة:
-أنا عندي أكون بنتِ شوارع ولا أكون بنتك، ولا بنتِ الراجل دا، أنا مش عايزة أكون بنتكم، والراجل دا قالها أنا بنتِ حرام، ابعدوا عنِّي بقى..
أفلت ضحكةً صاخبة، ثمَّ رمقها بنظرةٍ ناريةٍ وهتفَ بفحيح:
-مش قبل ماأدفن الحيوان جوزك، ووعد منِّي يابنتِ رانيا لأدفنه قدَّامك..
أخرجت السلاح ووجَّهتهُ عليه، وهتفت بنبرةٍ مميتة:
-ووعد منِّي لأصفِّي دمَّك القذر دا، قالتها وضغطت فوق الزنادِ بكلِّ برودٍ وأطلقت رصاصةً لتستقرَّ بكتفهِ مع ابتسامةٍ باردةٍ وهي تقتربُ منه:
-أيوة عايزاك تصرخ أوي، متفكرشِ مش عارفة أنشِّن على القلب، لا مش عيب ياراجل، دا أنا مرات إلياس السيوفي ، بس مش عايزاك تموت بسرعة، شايف جسمك دا، هوزَّع رصاصات المسدس كلَّها فيك، وأنا كلِّي انبساط، ومفيش ولا دمعة هتنزل عليك ولا عليها..قالتها وهي تلقي رانيا بنظرةٍ ساخرة..خطت رانيا تشيرُ إليها:
-عايزة تموِّتي أبوكي يامروة؟!..قالتها باندفاعِ الأمنِ للغرفة، ومحاوطةِ ميرال التي مازالت ترفعُ سلاحها بوجهِ راجح..
لوت شفتيها بألمٍ وهتفت ساخرة:
-مدام رانيا بتقولِّي عايزة تموِّتي أبوكي، دا أنا كرهت الكلمة بسببكم، عمرك سمعتي عن حدِّ يتمنَّى أنُّه يكون ابنِ حرام، أنتوا وصَّلتوني لكدا، اقتربَ أحدُ أفرادِ أمنِ المشفى مع بعضِ الأطباء:
-لو سمحتي دي مستشفى مينفعشِ اللي بتعمليه، أشارت له غاضبة:
-اللي هيقرَّب هموِّته، وصلت مرَّةً أخرى إلى راجح الذي أمسكَ كتفهِ يتألَّمُ ثمَّ وضعت فوهةَ السلاحِ موضعَ الألم:
-اتوجع كمان، شايف الوجع دا، دا مش حاجة من اللي أنا بحسِّه كلِّ ماأفتكر إنِّ شخص قذر زيك أبويا، أنا بحمل الدَّم الفاسد بتاعك وبتاع الستِّ دي..
ضغطت مرَّةً أخرى لتنطلقَ رصاصةً بنفسِ الموضع؛ وهي تطالعهُ بنظرةٍ خلت من الحياةِ مع اقتحامِ إلياس الغرفة:
-ميرال..صاحَ بها بصوتٍ غاضب، لتستديرَ إليهِ مفزوعةً من صوتهِ المرعب، اقتربَ ينظرُ لسلاحهِ الذي بين يديها، ثمَّ أشارَ للجميعِ بالخروج:
-كلُّه برَّة، توقَّفَ أفرادُ أمنِ المشفى ، ليستديرَ إليهم:
-بررررة..قالها بعيونٍ كادت أن تخرجَ من محجريها حتى نفرت عروقه، ثمَّ اقتربَ يجذبُ منها السلاحَ بعدما ارتجفَ جسدها من حالته.
وزَّعَ نظراتهِ بين رانيا وراجح، ثمَّ أشارَ بسبَّابته:
-لو بلاغ خرج ضدِّ مراتي، هرجع أولَّع في الأوضة وأنتوا فيها..قالها وسحبَ ميرال التي فقدت الشعورَ بما يدورُ حولها، لتهوى ساقطةً على الأرضية، هرولَ لينحني وقامَ بحملها متَّجهًا بها إلى سيارته، وضعها بهدوء..رغمَ رسمِ الهدوءِ على وجههِ إلَّا أنَّ داخلهٍ نيرانًا تحرقُ الأخضرَ واليابس..
فتحت عينيها تأنُّ وهي تحاوطُ بطنها، رمقها بنظرةٍ غاضبة، ذاهبًا إلى طبيبتها..
اتَّجهَ إليها يساعدها على النزول، بكت بعدما شعرت بأنَّ جنينها أصبح بخطر، انحنى وحملها متَّجهًا إلى الأعلى.
-الدكتورة مش موجودة، بس فيه دكتورة تانية، لو مستعجلين
أشار إليها إلياس بعدما فقد صبره، وهو يرى ملامحها المتألمة
-تمام خليها تيجي تشوفها، لحد ما الدكتورة ترجع
بعد فترةٍ انكمشت ملامحُ الطبيبةِ بانزعاج:
- الجنين للأسف حالته مش تمام..
شعرت بنغزةٍ بصدرها، وعينيها على إلياس الذي لايظهرُ على وجههِ سوى الجمود، فحصتها، تهزُّ رأسها بأسف:
-للأسف ممكن نفقد الجنين، هنا شعرَ بدورانِ الأرضِ من تحتِ قدميه، ابتعدَ عنها حتى لا يفقدَ أعصابه عليها.
توقَّفت الطبيبةُ مشيرةً بيدها إلى إلياس:
-لو توافق حضرتك فيه استشاري كويس، يشوفها برضو، أنا بحاول منفقدشِ الأمل..
زوى مابين حاجبيهِ متسائلًا:
-استشاري!!..مين دا؟..
-دكتور يونس البنداري، ممتاز جدًا، ودا يُعتبر من أشهر أطباءِ النسا والتوليد، هوَّ موجود النهاردة بالمستشفى، ودا من حظُّكم..
أجابها بتلقائيةٍ مغموسةٍ بالأمل:
-مش قدَّامنا حل تاني للأسف..بعد فترةٍ كان يجلسُ أمام جهازِ الكشفِ الذي يُعرفُ بالسونار، وبدأ يفحصها بدقَّة، خلعَ نظَّارتهِ الطبية، واتَّجهَ بنظرهِ الى إلياس:
-هوَّ الجنين في الحوض للأسف، مع وجود انقباض في الرحم، على العموم
هنحاول نوقف النزيف، الجنين لسة نبضه شغال، هتتحجز النهاردة مع المتابعة المستمرِّة، أشارَ إلى الطبيبةِ ببعضِ الأدويةِ مع بعض النصائح التي يجب مراعاتها، ثمَّ نهضَ قائلًا:
-هنجرَّب العلاج لحدِّ بكرة، طول مالجنين نبضه شغَّال يبقى فيه أمل، الراحة وعدم التوتر، مع العلاج إن شاءالله نحافظ عليه، أهم حاجة تتابعي معها بالعلاج دا، أربعة وعشرين ساعة تحت المراقبة، وكل اربع ساعات نبدل بين الأدوية.اتجه إلى ميرال
-الراحة النفسية نص العلاج يامدام، إن شاءالله يكون الوضع افضل..قالها يونس وتحرَّكَ بعد شكرِ إلياس..
خرج من المشفى متجهًا إلى سيارته
-فينك حبيبي خلصتي شغل اعدي عليكي، ولا هترجعي مع ليلى
خرجت سيلين من المصعد وردت مجيبة
-لا يادوك عندي اجتماع، هرجع مع ليلى..توقفت متسائلة
-راكان رجع من المانيا ولا لسة
-لسة..قالها وهو يصعد سيارته ويرتدي نظارته، قائلًا
-سيلين لازم ترجعي بدري، مينفعش كل ترجعوا نص الليل، الأمر مبقاش مقبول، بنتك في سن خطر يامدام البنداري..قالها وأغلق الهاتف متأففًا، ثم تحرك بالسيارة متجها إلى قصر البنداري
بالاعلى عند ميرال
نُقلت ميرال إلى غرفةٍ للمتابعة، غفت بعد تناولها الأدويةِ التي خصَّصها يونس، ظلَّ جالسًا بجوارها لبعضِ الوقت، ينظرُ إليها بنظراتٍ صامتة، لا يظهرُ على وجههِ أيَّ شيئٍ سوى الجمود.
استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة، نهضَ بدخولِ فريدة تركضُ إليها بلهفة:
-إيه اللي حصل، وإزاي متعرفنيش، يعني لولا اتحجزت مكنتش أعرف؟..
زفرةٌ قويةٌ أخرجها والنارُ تلتهمُ المتبقِّي من ثباته، لا يفعلُ شيئًا سوى أنَّهُ يضغطُ على نفسهِ حتى لا يثورَ أمام الجميع، استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة..
-فيه بلاغ متقدِّم ضدِّ مدام ميرال، شروع في قتل ياإلياس وشهود كمان، وإنَّك المحرِّض، ومدام رانيا، بتقول بتعمل كدا علشان عرفت إنَّها بنتها وإنتَ منعتها من أمَّها وطلبت منها تقتل راجح علشان هوَّ العقبة، كلام كتير وصلني، شكل رانيا دي وراها راس تقيلة، لا وإيه طلبت فحصِ المسدس، أنُّه بتاعك وبعتَّها وخيَّرتها عايزة أمِّك تقتلي راجح..
-تمام ..قالها وأغلقَ الهاتف، رفرفت بأهدابها، تهمسُ اسمهِ ولكنَّهُ ظلَّ بمكانهِ وكأنَّها لا تعنيه، رغم نيرانٍ بداخلهِ، تجلى الغضب ببحر عيناه حتى كاد أن يملأ الدنيا بصرخات ممزوجة بالغضب الجحيمي
انسابت دموعها بعدما وجدت فريدة تحتضنُ كفَّيها، اقتربت تطبعُ قبلةً فوق جبينها:
-بطَّلي عياط ياقلبي، رفعت عينيها إليهِ ولكنَّهُ استدارَ مبتعدًا إلى النافذة، دلفَ مصطفى:
-فيه إيه يابني مش قولت بقيتوا كويسين، وروحتوا إمبارح، إيه اللي حصل تاني؟..
اقتربَ من والدهِ يشيرُ عليها بقهر:
-المدام خلِّتني نايم وراحت تقتل راجح في المستشفى، ومش بس كدا ضربته بالمسدس بتاعي، والحيوان رفع قضية شروع في القتل، وبيتهمِّني باستخدام المدام للانتقام..يعني عايزة تقدِّمني للحيوان على طبق من دهب، وهوَّ استغلَّها، قولِّي أجيب عقل منين، بقى أنا اللي بحاول أخطَّط لدفنه، والغبية متهورة، وياريت جت على كدا بس، لا الجنين بقى في خطر.
شهقة اخرجتها فريدة تطالعها بعتاب
كوَّرَ قبضتهِ وهو يهتفُ بغلٍّ وشيطانهِ يتراقصُ بحدقتيه:
-صدَّقيني الولد دا لو حصل له حاجة هيكون آخر مابيني وبينك، ادعي من ربِّنا أنُّه يفضل، ياأمَّا هرميكي للأبد من حياتي
صفعها بقسوةِ كلماته، حتى شعرت بألمٍ جسديٍّ يفتكَ بها، كأنَّهُ أقوى الآلامِ التي تعرَّضت إليها، لتغمضَ عينيها تتمتم:
-ياربِّ ينزل ياإلياس، ياربِّ ينزل علشان ترميني من حياتك ومايبقاش فيه اللي يجبرك إنَّك ترتبط بواحدة زيي، عارفة إنَّك عايز تخلص..
توسَّعت حدقته، وكمٍّ من الآهاتِ أحرقت نبضه، ولكن كتمها بقهرٍ وهو يقتربُ منها، وكادَ ذاك الانفجارِ أن يصدحَ ليحرقَ الكونَ ومابه، ماذا تقولُ تلك المعتوهة، تقابلت الأعينُ في عتابٍ يحرقُ كلًّا منهما، وانسابت دموعها تحرقُ وجنتيها، مع ارتجافِ شفتيها، لتسحبَ بصرها بعيدًا عنه، ثمَّ تمدَّدت على الفراشِ تهمسُ بخفوت:
-ماما غطِّيني حاسة إنِّي بردانة، بردانة أوي ياماما، دفيني لو سمحتي..
هزَّةٌ عنيفةٌ كسقوطِ نيركٍ على سطحِ الأرض، ليشعرَ بانسحابِ أنفاسهِ بالكاملِ وخمولِ جسده:
-دا اللي فهمتيه؟..هكذا أردفَ بها..
استدارت تواليهِ ظهرها ولم ترد، انحنى بجسدهِ ولم يرحم ضعفها:
-لمَّا أكلِّمك ماتدنيش ضهرك، حتى لو بتموتي سمعتي..
-اتجنِّنت ياإلياس مش شايف حالتها؟..
قالتها فريدة
-إااايه صرخَ بها بعدما فقدَ صبره، نهضَ مصطفى من مكانهِ محاولًا السيطرةِ على نيرانهِ الغاضبة:
-طيب ممكن تهدى ياحبيبي وتسبها دلوقتي البنتِ تعبانة، وإنتَ بتقول ممكن تفقد الجنين..
مسحَ على وجههِ بعنف، محاولًا ألَّا ينساقَ خلفَ شيطانه، ربتت فريدة على ظهرها بعد ارتفاع بكاؤها:
-حبيبتي اهدي متنسيش إنِّك حامل، ووضعك صعب..ولكن ازدادَ بكاؤها حتى ارتجفَ جسدها..مما جعلهُ يفقدُ السيطرةَ على أعصابه، وهربَ للخارج، دقائقَ ووصلَ إلى المشفى ومنها إلى غرفةِ رانيا وراجح، دفعَ الباب، ووصلَ إليها بخطوةٍ واحدةٍ يطبقُ على عنقها:
-عارفة ياجاثويل لو فكَّرتي تقرَّبي من مراتي هعمل فيكي إيه؟..هفصل أعضاء جسمك، أقسم بربِّ العزة اللي إنتِ متعرفهوش أعملها ومن غير بنج كمان، ودور النحنحة دا مش معايا، البلاغ لو متسحبشِ قبلِ عشر دقايق محدش يقولِّي بتعمل كدا ليه، وصلَ الطبيبُ محاولًا إبعادهِ عنها بعد صراخِ راجح وضغطهِ على الزر..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضيةِ يبصقُ عليها وصاحَ بنبرةٍ مشمئزة:
-حثالة وحيَّة، بس متعرفيش إنتِ وقعتي مع مين..اقتربَ من راجح الذي يشيرُ للطبيبِ بإبعاده:
-وإنتَ ياسكار العصابة المرَّة الجاية هجرَّك بحبل وأربطك برجلِ حمار أعمى، اوعى تفكر انا ساكت عليك ضعف مني، لا انا مش فاضي لك، بس كدا انت بتكتب النهاية.. حيوانات..قالها وغادرَ المكانَ مثلما دخل.
بشقةِ رؤى قامت بتشغيلِ أغانٍ شعبيةٍ وبدأت تتراقصُ مع الموسيقى، بجلوسِ إيلين التي تتآكلُ غضبًا وتريدُ أن تفتكَ بها، قاطعهما صوتُ الباب، نهضت إيلين لفتحِ الباب، بينما ظلَّت رؤى تتراقصُ بتلك الثيابِ التي يقالُ عليها ماهي سوى ثيابٍ للرقص..
-آدم !!
-ايه يادكتورة هتفضلي في بيوتِ الناس كتير؟..خالك رجع، وخالو مالك اتوفى، مش الأولى تكوني مع بنتِ خالتك بدل الغريب؟..
-عمُّو مالك مات، ياحبيبتي يارحيل، الله يكون في عونها، باباها كان كلِّ دنيتها..
أشارَ إليها:
-ادخلي حضَّري نفسك يادكتورة، لازم نروح لراحيل بدل ماتكون لوحدها، ومريم نزلت هي وأحمد وكرم.
أومأت بالموافقةِ قائلة:
-طيب روح إنتَ وأنا هجهز وآجي.
اقتربَ منها خطوةً حتى أصبحَ بداخلِ المنزل، وقبضَ على ذراعها:
-اسمعيني يابت علشان جبتِ أخرك معايا، عشر دقايق وألاقيكي في العربية، صمتَ على صوتِ الموسيقى، ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-أنتوا بترقصوا؟..قالها بخروجِ رؤى بتلك الهيئة..
-إيلين اتأخرتي ليه؟!
صرخت إيلين متوقِّفةً أمام آدم حتى تجحبَ رؤيتهِ لرؤى:
-ادخلي أنا جاية، قطبت جبينها واقتربت خطوة:
-فيه إيه مالك؟..استدارت تدفعُ آدم للخارج، مع إغلاقها للباب:
-روح على العربية وأنا جاية..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا، ثمَّ أشارَ بسبَّباتهِ للداخل:
-كنت عايز أتفرج، إنَّما الغزالة الحلوة دي صاحبتك؟..طيب ماتناديها نتعرَّف، دنا من أذنها وهمس:
-قوليلها ابنِ خالي حليوة وعايز يكمِّل نصِّ دينه قبلِ مايدخل الأربعين، أصله اتجوِّز ومراته مطلَّعة عينه، لحدِّ مازهق ، حلوة البنت اوي، وشكلها بتعرف تبسط الراجل اوي..قالها بمغذى
رمقتهُ بنظرةٍ ناريةٍ تشيرُ إليه:
-استناني في العربية يامحترم، قال دكتور، أخرك يشغَّلوك في شارعِ الهرم..
-موافق، بدل هشوف حلويات كدا موافق..قالها غامزًا..
تحرَّكت للداخلِ تسبُّهُ بداخلها، ثمَّ دلفت إلى رؤى:
-عايزة أعرف إنتِ اتجننتي؟!..يعني الباب خبَّط، أكيد حدِّ جاي، مفيش غير اتنين ياجوزي، ياالياس، إزاي تُخرجي بالطريقة دي؟..
تأفَّفت وهي تُنهي ارتداءَ ثيابها، ثمَّ استدارت:
-هتصدَّقيني فكَّرته إلياس، واللهِ ماأعرف أنُّه جوزك.
توسَّعت عيناها بذهول:
-إنتِ مجنونة، حتى لو إلياس إزاي تخرجي بالشكلِ دا، اقتربت تقبضُ على ذراعها وشيَّعتها بنظرةٍ مشمئزة:
-رؤى بلاش تعضِّي الإيد اللي اتمدِّت لك، إلياس كان واضح معاكي، وهو بيحبِّ مراته، ولو بيعاملك كويس، فدا شفقة مش أكتر، فوقي علشان أنا أعرف الشخصية اللي زيه، لمَّا بيقلب بيحرق اللي يقرَّب منُّه، وأنا شوفت نظرةِ الحبِّ لمراته، ممكن مااعترفشِ قدامك، بس صدَّقيني يوم الحفلة كنت شايفة إزاي بيبص لها، بلاش أقولِّك نظرة عاشق، ممكن يختلفوا، بس ميبعدوش ولا يكرهوا بعض..
جلست مع تنهيداتهاا، تشيرُ بيديها:
-أنا تعبت من الوحدة ياإيلين، رفعت عينيها إلى إيلين واستطردت:
-إيلين ارجعي لجوزك، صدَّقيني هوَّ بحبِّك، أه غلط، بس زي ماشرح لك، ساعات بنكون مضطرِّين نعمل حاجات ضدِّ رغبتنا.
-لا واللهِ والِّلي ضدِّ رغبتك، تخطَّطي تخطفي راجل من مراته، تحرَّكت واستأنفت بغيرِ رضا:
-اسمعيني يارؤى، هتخسري، ومتأكدة إنِّ إلياس لو عرف هيرميكي دون رجعة، أنا ماشية، عمُّو جوز خالتو اتوفى، ولازم أكون مع بنته..
اقتربت منها متسائلة:
-قصدك رحيل؟!
-أيوة..
استدارت متسائلة:
-معاكي صور لطنط فريدة؟..
قطبت جبينها متسائلة:
-ليه؟!.هزَّت كتفيها وأجابت:
-بشبَّه عليها، أصلها شبه خالو، وخالو كان عنده بنتِ عم بيدوَّر عليها من زمان، كانت متجوِّزة أخو عمُّو راجح، بس عمُّو راجح قال هربت منعرفشِ راحت فين، تذكَّرت شيئًا تحدِّثُ نفسها:
-إيه دا إزاي نسيت حاجة زي دي، عيونها عيون ماما بالظبط، معقول تكون هي؟..
هزَّت رأسها بجهلٍ وهي تلملمُ أشياءها، تهمسُ لنفسها:
-لازم خالو يعرف، أنا حاسة إنَّها هتكون خالتو، توقَّفت عمَّا تفعله:
-إلياس بيكون ابنها؟..اعتدلت تسألُ رؤى:
-إنتِ قولتي لي، إنِّ إلياس طلع ابنها المخطوف من سنين..
-مالك يابتّ اتجنِّنتي!..دا كلُّه علشان آدم شافني ببدلةِ الرقص، ياختي روحي ارقصي له بدل جنانك دا..
-أوووف أنا في إيه وانتِ في إيه..لازم أمشي بدل مااتجنِّن منِّك..
تهكَّمت رؤى تنظرُ بأظافرها:
-قولي إنِّ الدوك وحشك ياحنيِّنة، بس مكسوفة..
أغلقت البابَ بوجهها:
-برة يابتّ عايزة أغيَّر هدومي..
بالمشفى عند فاروق:
كان الجميعُ ينتظرُ بالخارج، للإنتهاءِ من العمليةِ التي يخضعُ لها فاروق، جلسَ إسحاق بعيدًا عن الجميع يدعو الله بسريرته، اقتربَ منهُ أرسلان:
-عمُّو..رفعَ عينيهِ المتحجِّرةِ بالدموع:
-نعم ياعمُّو...جلسَ بجوارهِ يربتُ على كتفه:
-إن شاء الله هيقوم بالسلامة، عندي يقين بربِّنا كبير.
مسحَ على وجههِ يهزُّ رأسه:
-إن شاء الله حبيبي، بنقول يارب، فاروق مش مجرَّد أخ، فاروق أبويا وأخويا وكلِّ حاجة..
-وأنا إيه ياإسحاقو؟..أنا كدا غيران على فكرة، مش هوَّ أبويا أهو، بس بغير عليك..
جاءت كلماتهِ البسيطةِ حانيةٍ باردةٍ كبرودِ الثلجِ على قلبهِ الذي ينصهرُ من الخوف على اخيه
جذبهُ يضمُّهُ لأحضانه، لتتدفقَ العبراتِ بغزارةٍ من مقلتيه..
-بابا هيخرج بالسلامة ياعمُّو مش كدا، ماهو أنا مقدرشِ أعيش من غيره، أنا طفل أوي ياعمُّو..
نزعهُ من أحضانهِ يزيلُ عبراتهِ ثمَّ أردفَ بنبرةٍ حادة:
-ابنِ الجارحي مش عيِّل يالا، إنتَ راجل، إياك أسمع كلامك دا تاني، حتى لو فقدت أبوك، لازم تكون قوي، متعودتش أشوف دموع أرسلان الجارحي..
تعاظمَ الخوفُ بداخله، ليهزَّ رأسهِ مع انسيابِ دموعه:
-لا متقولشِ كدا لو سمحت..نبرةٌ حزينةٌ مع نظرةٍ توسليةٍ من عينيه:
-لا بابا هيفوق، ويجوِّز ملك ويفرح بيها مش كدا؟..
هبَّ من مكانهِ مع خروجِ الطبيب:
-إحنا عملنا اللي علينا، والباقي عند ربِّنا، سلامته إن شاءالله..قالها الطبيبُ بعمليةٍ وتحرَّكَ للخارج.
هاجت دقَّاتُ قلبِ إسحاق، رغم أنَّهُ يقوِّي أرسلان، ولكنَّ داخلهِ يحترق..
التقمت عيناهُ أعينِ أرسلان الشاردةِ على غرفةِ العمليات، تنحَّى عن آلامهِ واقتربَ منه، يربتُ على ظهره:
-طبيعي في العملياتِ اللي زي دي ياحبيبي..قاطعَ حديثهِ رنينُ هاتفه:
-أيوة..
-مدام أحلام مش مبطلة صراخ، وعايزة تيجي للباشا..
-هاتها وخلِّي بالك منها..
بغرفةِ دينا، جلبت الممرِّضة ابنها:
-اتفضلي يامدام رضَّعي البيبي، الباشا مانع اللبن الصناعي.
رفعت يديها إليهِ لتحتضنه:
-حبيب ماما..ضمَّتهُ إلى صدرها تستنشقُ رائحتهِ بوله، رفعت عينيها للممرِّضة:
-إسحاق مرجعش؟..جلست الممرِّضة بجوارها وأجابتها:
-لا، همَّا في الدور اللي تحت، فاروق باشا عنده عملية كبيرة النهاردة.
أومأت بتفهُّمٍ قائلة:
-هوَّ خرج ولَّا لسة؟..
-معنديش معلومات والله، كلِّ اللي أعرفه، عنده عملية، علشان فيه دكتور من ألمانيا جه مخصوص إمبارح، مع مدير المستشفى..
ظلَّت تطعمُ ابنها، ثمَّ ناولتهُ إلى الممرِّضة، وأشارت إلى روبها:
-هاتيلي الروب، هنزل وأطَّمن بنفسي..
-بس ممنوع الحركة يامدام، متنسيش إنِّك لسة تعبانة.
نهضت تستندُ على الجدار، وأخبرتها:
-هنزل بالأسانسير، لازم أطَّمن على فاروق..قالتها وتحرَّكت بهدوءٍ للطابقِ الأسفل..وصلت بعد معاناةٍ إلى جلوسِ الجميع..نهضَ من مكانهِ بعدما استمعَ إلى حديثِ أرسلان:
-مراتك جت..وصلَ إليها بخطوة، وجذبها بهدوءٍ إلى الغرفةِ المقابلة:
-دينا إيه اللي جابك وإنتِ لسة تعبانة؟..
ألقت نفسها بأحضانه:
-كنت عايزة أطَّمن عليك، من إمبارح مطلعتش لعندي..
مسَّدَ على خصلاتها بحنانٍ ثم أخرجها من أحضانهِ ينظرُ إليها باعتذار:
-آسف معرفتش أسيب فاروق لوحده، وملك قالت هتبات معاكي..
جذبت كفَّيهِ وتحرَّكت به إلى المقعد:
-شكلك مرهق أوي ياإسحاق، إزاي سايب نفسك كدا؟..
طبعَ قبلةً مطوَّلةً على جبينها:
-أنا كويس، طول ما أنتوا كويسين، اطلعي ارتاحي، وخلِّي بالك من حمزة..
طوَّقت ذراعيهِ وتراجعت بجسدها للخلف:
-سبني شوية هنا، حمزة رضَّعته والممرِّضة أخدته الحضَّانة تاني، اعتدلت وتساءلت:
-قولِّي هوَّ هيفضل كتير بالحضَّانة؟..
-الدكتور بيقول أسبوع بالكتير، بقى أحسن من الأوَّل..
طافت بعينيها على ملامحهِ المرهقة، ثمَّ طبعت قبلةً على وجنته:
-مش قادرة أقولَّك نام شوية، بس هقولَّك خاف على نفسك، أنا وابنك محتاجينك..
-جمعَ خصلاتها على جنب، ثمَّ انحنى يدفنُ رأسهِ بعنقها يهمسُ بقلبٍ متلهِّف:
-وأنا كمان محتاجكم جدًا جدًا يادينا، بلاش أقولِّك الدنيا كلَّها وقعت فوق دماغي مرَّة واحدة، حاسس إنِّي بنهار.
لمست أناملها وجنتيهِ وتعاظمَ الوجعُ حتى طُمسَ بريقَ عينيها من حالته:
-حبيبي أنا جنبك، حاول تقوى وإن شاءالله كلُّه هيكون تمام.
قبَّلَ كفَّيها ونهضَ من مكانه:
-يالَّه تعالي أوصَّلك علشان ترتاحي، مينفعشِ أبعد عن صفية والولاد.
نهضت من مكانها وخلَّلت أناملها كفَّيه:
-أنا هطلع لوحدي، خلِّيك معاهم، هطلع أنام، متشغلشِ بالك، كلِّمت ماما تروح شقتنا علشان الخدم يجهِّزوها، وإن شاءالله بعد مانطمِّن على فاروق نعمل سبوع لحمزة.
حاوطَ أكتافها وخطا للخارجِ متمتمًا:
-إن شاء الله حبيبتي، المهم اطلعي إنتِ.
تحرَّكت متَّجهةً إلى المصعد، لتصعدَ إلى غرفتها، توقَّفت بانتفاضةٍ بجسدها، بعدما وجدت أحلام أمامها، اقتربت أحلام منها بعيونٍ تكادُ تحرقها، ثمَّ أمسكتها من ذراعها بعنف:
-بنتِ بيَّاعة الخضار بمستشفى سبع نجوم، خدم وحشم تحتِ رجليها، شوفتي الحظ، أوعي تفكَّري هسيبك متهنيَّة يابت، اقتربت تهمسُ لها بفحيح:
-عارفة أنا قتلت أبو إسحاق، ورغم كدا سايبني قدَّامك أهو، مش بس كدا، نزِّلت ابني في الشهرِ الخامس علشان أتجوِّز واحد بعد طلاقي، اسمعي بقى الحلو كلُّه علشان متفكريش إنِّك محمية من إسحاق، تابعت همسها الذي جعلَ جسدَ دينا يختلُّ توازنه، ودقَّاتها التي نبضت بعنفٍ وهي تهمس:
-قتلت حبيبته يوم خطوبته، بعد الخطوبة بساعات علشان بس كنت رفضاها، تفتكري هعمل فيكي إيه؟..لفِّيتي كلِّ الأماكن وجبتك، وكنتي تحتِ رجلي، ماهو مش كلِّ مرَّة هينقذك ومستحيل يجي على أمُّه، بدليل معرفته بكلِّ اللي عملته، ورغم كدا أنا قدَّامك أهو..
قالتها بملامحٍ قاسية، ونبرةٍ جافة، انتزعت نفسها بعيدًا عنها:
-إنتِ إنسانة بشعة، مستحيل تكوني بني آدمة
نظرت بساعةِ يدها وتابعت حديثها وكأنَّها لم تستمع إلى حديثِ دينا:
-الليل لو جه وإنتِ لسة على ذمِّة ابني، خلي أمِّك تجهِّز قبرك، إنتِ وابنك اللي متأكدة منُّه أنُّه مش ابنِ اسحاق، وممكن أطلَّع مليون شهادة تثبت دا، شوفي بقى هيعمل فيكي إيه..
اقتربت خطوةً وغرزت مقلتيها الناريةِ بأعينِ دينا المنتفضة:
-مش حفيد الجارحي يكون من جربوعة زيك يابت، دا أدفنه حي..قالتها واستدارت متحرِّكةً وكأنَّها لم تقل شيئًا..توقَّفت بعد عدَّةِ خطوات، واستدارت برأسها:
-المحامي في شارع (. ) ورقم التليفون هبعتهولك، قدَّامك ساعتين مش أكتر، ياأمَّا مش هتشوفي ابنك، وهاخده من حضنك متخافيش..
ابتلعت كلماتها بشهقة، وانتفضَ جسدها بخوفٍ من كلماتها المسمومة، لتتحرَّكَ إلى غرفتها وهي تجرُّ قدميها بضعف، وعينيها التي تحرقها سحبِ دموعها ..هوت على الفراشِ وجسدها يرتجف، ماذا عليها أن تفعل، هل تتنازل عن إسحاق أم تتنازلُ عن فلذةِ كبدها..
بالأسفلِ عند أرسلان:
جلسَ بحديقةِ المشفى وحديثُ فاروق يخترقُ أذنيه:
-أخوك قريب منَّك جدًا..بدأ يردِّدها بينهِ وبينَ نفسه:
-مين أخويا ياترى اللي بيقول عليه، معقول يكون إسحاق، يعني إيه، إسحاق مش أخو فاروق!..
احتضنَ رأسهِ بين راحتيهِ وكاد عقلهِ أن يذهبَ منه، ذهبَ شاردًا بإلياس وحديثِ إسحاق يراوده، ونظرات فريدة..صورًا سريعةً متحرِّكةً أمامَ ناظريهِ حتى شعر بألمٍ يفتكُ برأسه، شعرَ بمن يربتُ على كتفه:
-أرسلان..رفعَ عينيهِ إليها بشرود، تائهًا ضائعًا لا يعلمُ بماذا يشعر..جلست بجوارهِ ترفعُ رأسها بسؤال:
-مالك حبيبي، قاعد كدا ليه؟..
هزَّ رأسهِ نافيًا وردَّ بنبرةٍ هادئة، رغم اضطرابهِ الداخلي:
-مفيش حبيبتي، خلِّيكي مع ماما وملك، مش عايزك تسبيهم، أنا عندي مشوار مهم لازم أروحه..
قالها متوقِّفًا، أمسكت ذراعه:
-أرسلان رايح فين؟..إنتَ لسة تعبان..
سحبَ نظرهِ بعيدًا عن مرمى عينيها، وتحوَّلت ملامحهِ الهادئةِ إلى ثائرةٍ وأردف:
-مشوار هيوضَّح حاجات كتير، المهم لازم تكوني مع ماما.
كادت أن تفتحَ فاهها للاعتراضِ ولكنَّهُ تحرَّكَ دون أن يعطيها فرصةً للرفض.
ابتلعت غصتها ودلفت للداخلِ دون حديث
..
بالمشفى عند ميرال:
استيقظت على صوتِ فريدة وغادة، فتحت عينيها تأنُّ من الألمِ الذي يفتكُ بجسدها، تهمسُ بخفوت:
-ماما..نهضت فريدة من مكانها واقتربت منها:
-حبيبتي حاسة بإيه؟..
-ماما فين إلياس..تساءلت بها بعدما لم تجدْهُ بالغرفة:
انحنت غادة تقبِّلها على وجنتيها:
-عنده شغل، قال شوية ويرجع، إنتِ حاسة بإيه نجبلك الدكتور؟..
هزَّت رأسها بالإيجاب:
-تعبانة ياماما، وجع في بطني شديد، قالتها وهي تضعُ كفَّيها على أحشائها.
استدعت فريدة الطبيبة، لفحصها، دقائقَ معدودةً والطبيبة تفحصها، ثمَّ توقَّفت أمامها:
-الوضع كويس إلى حدٍّ ما، التعب دا عادي، شوية وهيروح..قالتها وتحرَّكت لتوقفها ميرال:
-ابني هيعيش يادكتورة؟..
-إن شاء الله قولي يارب..قالتها الطبيبة وغادرت
بالمكتبِ عند إلياس:
أظلمت عينيهِ بأسى، سحبَ نفسًا طويلًا وزفره:
-اسمعني كويس، هتدخل وتلمِّ الدنيا دي..نقر شريف على المكتب ورد:
-اعتبره حصل، بس لو مفيهاش رخامة وتدخُّل في مالايعنيني، إيه حكايتك مع الراجل دا، يعني تدخلك بشكلِ غير مباشر في حياته؟..
أشارَ إليه بالتوقُّفِ عن الحديثِ ثمَّ نهضَ من مكانه:
-بتسأل السؤال وترد على نفسك، قولت تدخلك فيما لا يعنيك..صمت يطالعه ثم أردف:
-بعدين ياشريف، أنا دلوقتي دماغي وجعاني، عايز تخنَّق على الراجل دا من كلِّ الزوايا، وفي نفسِ الوقت مش عايزه يتسجن، شوف هتعملها إزاي لو سمحت..
-تمام اعتبره حصل، مش هتروح؟..
-شوية كدا...قالها وسحبَ سيجارةً متَّجهًا إلى الشرفة، توقَّفَ ينظرُ بشرودٍ للخارج، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى السماء ينظرُ للنجومِ التي زيّّنت السماء، تذكَّرَ حديثها أمس، يومًا واحدًا وانقلبت حياتهِ رأسًا على عقب، أغمضَ عينيهِ وهمسها يردد داخل اذنيه، لكن حكم وقضي الامر، لقد ألقت حكمها بنفسها حينما أخبرته بعده ممات، نعم لابد عليه أن يعلمها درس قاسيًا، ولكن بداخلهِ نيرانًا تلتهمُ كلَّ شيئ، لا يريدُ أن تصلها، حتى لا تحرقها..دفعَ البابَ ودلفَ أرسلان للداخلِ وجدهُ متوقفًا بالشرفة، لا يشعرُ بما يدورُ حولهِ كالحاضرِ الغائب، اقتربَ منه يردِّدُ اسمه:
-إلياس..ولكن كان إلياس غارقًا بدواماته، استمعَ إلى صوتهِ وكأنَّهُ حلمٌ بعيدَ المنال، لم يلتفت ظنًّا أنَّهُ يحلمُ به، ولكن تكرارَ أرسلان لاسمهِ مرَّةً أخرى، جعله يلتفتُ إليهِ يطالعهُ بصمت، اقتربَ أرسلان وسلَّطَ عيناهُ عليه، مع نظراتٍ استفاهمية، دنا حتى لم يفصل بينهما سوى خطوةٍ واحدة، ظلَّت النظراتُ سيدةُ الموقف، ابتلعَ ريقهِ بصعوبةٍ وأردفَ بتساؤل:
-إنتَ مين بالظبط، وليه قرَّبت منِّي؟..جيت إمبارح قولت كلمتين واختفيت، وأعرف إنَّك السبب في إنقاذي، ودمَّك بيجري في دمِّي، ليه اتبرَّعت لي بالدَّم؟..هتقولِّي صداقة، هقولَّك مش مقتنع بدا كلُّه..دنا خطوةً حتى لم يعد بينهما مسافةً يتعمَّقُ بالنظرِ إليه:
-إنتَ مين ياإلياس، وليه بتعمل معايا كدا، وليه والدتك جات لي تزورني؟..
قالها مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه، رفعهُ وعينيهِ مازالت تحاصرُ أعين إلياس الصامت..
-أيوة ياعمُّو؟..
-في دقيقة تكون في المستشفى سمعتني، أبوك عايزك، ضروري تسيب اللي في إيدك، مهما كانت قيمته..
لاحَ الألمُ بمقلتيه، ليتراجعَ إلى بابِ الغرفةِ مترنِّحًا:
-بابا ماله ياإسحاق..قالها واستدارَ للخارج، ركضَ إلياس خلفهِ يصيحُ باسمه، لم يستمعْ إلى صياحه، وصعدَ إلى سيارتهِ وخلفهِ إلياس الذي جُنَّ جنونهِ من حالته، ماذا حدثَ له حتى يسألهُ بتلك الطريقة، دقائقَ ودلفَ للمشفى، دفعَ بابَ العناية، وجدَ ملك تحتضنُ كفَّ والدها تبكي بشهقات:
-بابا حبيبي سامعني، رفعت نظرها على دلوفِ أرسلان، شبحَ ابتسامةٍ ظهرَ على ملامحها، لتهمسَ لوالدها:
-بابا أرسو جه، بابا افتح عيونك، أرسو وصل..فتحَ عينيهِ ينظرُ إليهِ بوهن، ثمَّ مدَّ يدهِ يهمسُ اسمهِ بخفوت، اقتربَ منه مع توقُّفِ ملك ليجلسَ بجوارِ والدهِ يحتضنُ كفَّيه:
-حبيبي أنا هنا، طبعَ قبلةً فوق جبينه:
-إيه يافاروق باشا، فوق كدا، إحنا هنهزَّر ولَّا إيه؟..
-اسمعني حبيبي، أنا مش عايزك تزعل من عمَّك إسحاق..مفيش حدِّ بيحبَّك قدُّه يابنِ فاروق، إنتَ ابنِ حلال علشان وقَّعك في إيدي، إلياس..إلياس، كرَّرَ اسمهِ مع انقطاعِ أنفاسه..
-بابا ممكن ماتتكلمش..ضغطَ على كفِّهِ واستطردَ حديثهِ المتقطِّع:
-صفية وملك أمانتك إنتَ وإسحاق، ملك مالهاش غيرك من بعدي، كان نفسي أقولَّك خلِّي بالك من أختك ياحبيبي..
-بابا لو سمحت كفاية كلام، ملك في عيوني وقلبي ممكن ماترهقشِ نفسك..
توجَّهَ فاروق بنظرهِ إلى صفية التي تجلسُ بصمتٍ مع عبراتها التي تجري على وجنتيها، كمجرى نهرٍ متدفِّقٍ بمائه،
-صفية أمَّك متنسهاش، حتى بعد ماتوصل لمامتك حبيبي..
سحبَ إسحاق أرسلان من جواره:
-فاروق ليه الكلام دا، إنتَ هتفوق وتبقى أحسن، سمعتني، يالَّه الكلِّ برَّة..قالها اسحاق يشير للجميع بالخروج
تشبَّثَ بكفِّ أرسلان:
-أرسلان لو مُت ياارسلان اتجوِّز ملك، كويس انك عرفت الحقيقة مفيش حدِّ هيحافظ عليها قدَّك.
صدمةٌ عنيفةٌ سقطت فوق رؤوسِ الجميعِ من كلماتِ فاروق، ليطالعهُ بذهولٍ مع تجمِّدِ جسده، ثمَّ رفعَ عينيهِ لوالده:
-إيه اللي حضرتك بتقوله دا يابابا؟!..
استدارَ يواليهِ ظهره:
-رجاء من أبوك، علشان أطَّمن عليها ومفيش حدِّ هقدر أمِّنه عليها غيرك..
تلاشى تنفُّسهِ ينظرُ إليها وهي تختبأُ بأحضانِ والدتها، شعرَ وكأنَّ جدرانَ الغرفةِ تطبقُ على صدره، ماهذا الذي يحدث، هل هو يعيشُ كابوسًا!..
-مردتش على أبوك، موافق تتجوِّز بنتي ولَّا لأ؟..لحظاتٍ مميتةٍ حتى شعرَ بارتجافِ جسدهِ بالكامل، مما جعلهُ يتراجعُ خطوةً للخلفِ من شدَّةِ ذهوله، بعدما أيقنَ أنَّهُ ليس بكابوسٍ بل واقعًا مريرًا..
أشارَ إسحاق للطبيبِ بعدما وجدَ هبوطًا بضغطه:
-شوف في إيه؟..
هرولَ الطبيبُ لفحصه، ولكن عينيهِ كانت على أرسلان..
استدارَ برأسهِ مع تحرُّكِ أرسلان بعيدًا عنه، وبعيونٍ راجيةٍ تذرفُ الدموع:
-موافق مش كدا..أطبقَ على جفنيهِ
والحزنُ ينخرُ بقلبهِ ليتسرَّبَ منهُ كما تتسرَّبُ الموسيقى الحزينة من آلةِ الناي
لتعزفَ على أوتارِ القلوب..
حاولَ الطبيبُ وضعَ جهازَ التنفُّسِ إلَّا أنَّهُ أبعدهُ يهمس:
-أرسلان..أحسَّ بالدوارِ يلفُّ رأسه، وكأنَّ أحدهم ألقاهُ بعصاةٍ غليظةٍ ليهوى ساقطًا من تلك الضربة، طالعَ والدهِ بنظرةٍ تحملُ صرخاتٍ مكبوتةٍ بآلافِ الآهات:
-موافق..
هزَّ رأسهِ بالموافقة، ولم يشعر بتلك الدمعةِ التي انزلقت من عينيه، ورغم أنَّها دمعةٌ إلَّا أنَّها أحرقت وجنتيه، وهو ينظرُ لتلك الواقفةِ على بابِ الغرفةِ تهزُّ رأسها بخذلان..ركضت غرام للخارج، حاوطَ إسحاق ملك يجذبها للخارج..
خرجَ أرسلان بساقينِ هلاميتينِ وجلسَ بضعفٍ يضمُّ رأسهِ بين راحتيه، وكأنَّهُ يحملُ فوق عاتقهِ آلامٍ كثقلِ الجبال.
جلسَ إلياس الذي وصلَ الآن وحاوطَ جسده:
-هيكون كويس، صدَّقني، ادعي له،
رفع عيناه المتلألئةِ بالدموع:
-أنا مطلعتش ابنِ فاروق..
رسمَ إلياس على وجهه ابتسامة، ثمَّ ربتَ على كتفهِ قائلًا بغمزة:
-وأنا مطلعتش ابنِ السيوفي، بصرة مش كدا؟..
قطبَ جبينهِ متسائلًا:
-يعني زي مااتوقَّعت..
ابتسمَ إلياس يهزُّ رأسه:
-نفسي أضحك بس الموقف مش مساعدني، تيجي نضحك وبعد كدا نروح مستشفى الأمراض العقلية نجنِّن الدكاترة..
صمتَ للحظاتٍ بعد حديثِ إلياس إلى أن توقَّفَ أرسلان وأطلقَ ضحكاتٍ تصدحُ بالمكان، جعلَ الجميعُ يلتفتون إليه..نهضَ إلياس من مكانهِ يسحبهُ من ذراعه:
-اسكت ياحمار فضحتنا، ظلَّ يضحكُ ويدورُ حولَ نفسه، ثمَّ رفعَ رأسهِ إلى إسحاق:
-علشان كدا بعدتني عنُّه، كنت عارف، إنتَ كنت عارف أنُّه اخ..توقَّفَ مقتربًا من إلياس:
-لا مقولتش ليه من زمان، إنك طلعت أخويا يمكن كنا احتفلنا، ولا اقولك تعالى نحتفل برة، لازم احتفل
ههه..ضحكاتٍ فقط منه، بذهولِ الجميع، مع هزِّهِ لرأسه، اقتربَ متسائلًا:
-أوعى تقولِّي إنِّ ستِّ الكل طلعت ستِّ الكل..ظلَّ إلياس ينظرُ إليهِ بصمت، من يراه يظن انه فقدَ عقله، اقتربَ محاولًا تهدئته:
-أرسلان الناس بتبصِّ عليك إيه اللي بتعمله دا؟..
دفعهُ بعيدًا عنه:
-أنا ابنِ مين ياحضرةِ الظابط؟..
قبضَ إسحاق على عنقهِ إلى أن فقدَ توازنه، يشيرُ إلى الممرِّضة بحقنه:
-فوق إنتَ مش بنت علشان تعمل كدا..
حاوطَ أكتافهِ إلياس:
-سيبه لو سمحت، أنا ههدِّيه، دنا يهمسُ لإلياس:
-الصحافة في كلِّ مكان، والحيوان مش عارف بيخبَّط بإيه، خده من وشِّي بدل ماأموِّته بجد..
-أرسلان ممكن تهدى إحنا لازم نتكلِّم..
-ابعد عني ياله، لو قرَّبتِ منِّي هموِّتك.
قالها وغادرَ المشفى بالكامل..
زفرَ إلياس، ثم أشارَ بيدهِ إلى إسحاق:
-سيبه هوَّ هيهدى، الموضوع صعب..
باليومِ التالي خرجت ميرال من المشفى، بعد استقرارِ وضعِ جنينها، ساعدتها فريدة بالنوم، ثمَّ قبَّلت جبينها:
-حاولي متفكريش بحاجة حبيبتي، إلياس أكيد عنده شغل مهم، شوية وهتلاقيه جاي، ميقدرشِ يبعد عنِّك وعن ابنه..
-هنام ياماما، مبقاش فارق معايا يجي ولَّا لأ، مبقاش فيَّا حيل ياماما، تعبت خلِّيه براحته..كان واقفًا على بابِ الغرفة، تراجعَ بعدما استمعَ إلى حديثها، واتَّجهَ إلى مكتبه، خرجت فريدة تبحثُ عنه، فهي تعلمُ بعودتهِ قبلَ وصولهم، دلفت إلى مكتبه:
-إزاي تسيب مراتك بحالتها دي؟!..إنتَ إيه يابني، اقتربت منه تمسكهُ من ذراعه:
-إلياس ميرال عايزة اللي يحسِّسها بالأمان ياحبيبي مش اللي يضغط عليها..قاطعهم دلوفُ الخادمة:
أرسلان بيه برَّة ياباشا..قالتها بدخولِ أرسلان إليهما..وقفَ على بابِ الغرفةِ يوزِّعُ نظراتهِ بين إلياس وفريدة ثمَّ خطا إلى فريدة التي تتابعُ تحرُّكهِ بنبضها العنيف، تجمَّعت سحبُ عيناها حينما توقَّفَ أمامها مباشرة:
-إنتِ أمِّي صح؟...
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
أبحثُ عن تلك اليد التي تلامس روحي قبل أن تلامس يدي،
تلك اليد التي تلوّن حياتي بألوان السعادة،
وترسم على صفحات عمري ابتسامةً لا تغيب.
أحتاجُ إلى دفءٍ يُذيب بردَ الأيام القارس،
وإلى حبٍّ يُعيد لقلبِي نبضه الحقيقي،
حبٍّ يضيء دروبي في كل وقتٍ وحين.
أين هي تلك اليد التي ستحمل معي أثقال الحياة؟
تلك اليد التي ستزرع في طريقي ورود الأمل،
وتمنحني من قلبها طمأنينة، تريح الروح وتغنيها.
أحتاج إلى من يُلهمني أن الحياة تستحق العيش،
وأن الفرح ليس بعيدا، بل بين يدي من يشاركنا الفرح والهم.
أين من يُعيد إلى نفسي يقينها،
ويزرع في قلبِي الأمل من جديد؟
#ميرال_إلياس_السيوفي
ظلَّ يدورُ بسيارتهِ لساعات، غارقًا في أفكاره، عاجزًا عن مواجهةِ ما يحدث..لكن في النهاية عادَ إلى المستشفى كأنَّ شيئًا ما كان يجذبهُ للعودةِ هناك، وجدَ إسحاق جالسًا على المقعد، عينيهِ معلقتينِ على بابِ غرفةِ العمليات، وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ عنده.
اقتربَ منهُ ببطء، محاولًا أن يخفي ارتباكه:
- لسه مخرجشِ من العملية؟
رفعَ إسحاق رأسهِ ببطء، نظرَ إليه بعينينٍ مليئتينِ بالحزن واليأس. بدا وكأن الكلمات ثقيلة على لسانه، لكنه تحدث بصوت متحشرج:
- عارف إنك مصدوم... بس ده أبوك يا أخي! ينفع تسيب أبوك في العمليات وتمشي؟ هو ده اللي رباك عليه؟
صمت المكان من حولهما، ولم يبقَ سوى صوتِ الأجهزة البعيدةِ في المستشفى، شعر بثقلِ الكلماتِ تضغطُ على صدره، وكأنَّهُ يتنفسُ بصعوبةٍ لم يكن يعرف ماذا يقول، لكنهُ أدركَ أنَّ إسحاق كان محقًا...
سحبَ نفسًا عميقًا وزفرَهُ ببطء، وكأنَّما يحاولُ أن يتماسكَ بصعوبة، قبل أن يهمسَ بصوتٍ مبحوح:
آسف يا عَمّو... سامحني، أنا فعلًا تعبان بجد.
رَبَتَ إسحاقُ على ركبتِهِ بحنوٍّ، وكأنَّهُ يحاولُ بثَّ الطمأنينة في قلبِه، لكنَّهُ فجأةً انتفضَ مع انفتاحِ بابِ غرفةِ العمليات. وقفَ إسحاقُ متوترًا، خطواتُهُ مترددةٌ نحوَ الطبيبِ الذي خرجَ. تطلّعَ الطبيبُ إليهِ بنظرةٍ جامدةٍ، قبلَ أن يتحدَّثَ ببرودٍ يقطرُ ألمًا:
عملنا اللي قدرنا عليه...الساعات الجاية حرجة...ادعوله.
قالَ كلماتهُ وغادر، تاركًا إسحاقَ مشدوهًا، عيناهُ معلقتانِ بالبابِ المغلق. وقفَ مكانهُ عاجزًا، يُحدّقُ في البابِ وكأنَّهُ يريدُ أن يقتحمَهُ ليصلَ إلى أخيهِ، ليخفِّفَ عنهُ ولو قليلًا من آلامِه.
التفتَ ببطءٍ وكأنَّ الزمنَ قد ثقُلَ على كتفيهِ، ليجدَ أرسلانَ واقفًا أمامَ النافذةِ الزجاجية، عيناهُ شاخصتانِ نحوَ والدهِ المُمدَّدِ تحتَ الأجهزة. اقتربَ إسحاقُ بخطواتٍ مثقلةٍ، وعيناهُ معلقتانِ بجسدِ فاروقَ المُنهَك.
وقفَ بجانبه، تنفَّسَ بعمقٍ وكأنَّهُ ينتزعُ من صدرِه حملًا ثقيلًا، قبلَ أن يقولَ بصوتٍ مرتجف:
فاروق مش مجرَّد أخ، يا أرسلان...فاروق كان أبويا.
توقّّفَ للحظة، وكأنَّ الكلامَ يتعثَّرُ في حلقهِ، ثم أكملَ بصوتٍ مبحوحٍ مليءٍ بالوجع:
جَدّك كان موجود، بس فاروق هو اللي شالني، هو اللي كان مهتمَّ بيا.. عُمره ما حسِّسني باليُتم، حتى لما أمَّي، أحلام هانم، سابتنا وراحت تتجوز، وقف وقال لي: "وإنتَ محتاجها في إيه؟ هو أنا قصَّرت معاك؟".
ارتعشتْ يدُه وهو يمسحُ وجهَه، ثم استدارَ نحوَ أرسلانَ بجسدهِ بالكامل، عيناهُ تفيضُ بوجعِ السنين:
فاروق شال الدنيا على كتافه، عشان يبني لنفسه اسم بعيد عن العيلة. فاكر لما لقاك؟ كنت طفل صغير ملفوف في بطانية، في عزِّ البرد والجوع. فاروق شالك من غير تردُّد، وقال: "الولد ده مكتوب له يعيش معايا". ومن وقتها، بقيت ابنه...لحدِّ ما الدنيا انقلبت عليه تاني.
صمتَ إسحاقُ فجأةً، وكأنَّ الكلماتَ تخونهُ، بينما أرسلانُ كان يُنصتُ، وجهُه جامدٌ، لكنَّ عيناهُ تكشفانِ عن عاصفةٍ داخليةٍ، رفعَ أرسلانُ رأسه، ملامحُه مشدودةٌ بالغضبِ والخذلان، وصوته خرجَ متحشرجًا:
-ليه ماقولتش، ليه سكتوا الوقت دا كله
حاولَ إسحاقُ الردَّ، لكنَّ أرسلانَ قاطعهُ بعنفٍ، عيناهُ تلمعانِ بغضبٍ أشبهَ باللهب:
-كنت عارف إن إلياس اخويا، علشان كدا حاولت تبعدني عنه، اقترب خطوة وعيناه تنطق بكم الخذلان الذي شعر بهما
-كنت عارف إنِّ فريدة السيوفي أمي، مش كده؟!
حاولَ إسحاقُ التحدُّثَ، لكنَّ أرسلانَ لم يتركْ له مجالًا..واندفعَ نحوهُ وأمسكَ بجاكيتِه بقوة، عيناهُ تغليانِ بالغضبِ والدموعِ التي تأبى أن تسقط:
كنت عارف... كنت عارف إن أمِّي اتظلمت، وإنِّها اتحرمت منِّي ومن إلياس..عارف إنها دفعت تمن غلطات غيرها، و سكت..كنت عارف، ومع ذلك منعتني عنها؟
ارتجفتْ يداهُ وهو يضغطُ على إسحاق بعنفٍ، ثم تركهُ فجأةً، عيناهُ تلمعانِ بالدموعِ والغضبِ الذي يفيضُ كبركانٍ ثائر:
أبويا مات مقتول، أمي اتحرمت مني، وأخويا ما عرفتش عنُّه إلا بالصدفة، صمت للحظات وكأنه تذكر شيئًا
-دلوقتي فهمت كلام مدام احلام، ليه كانت بتقول ابن شوارع، ورغم كدا كنت ساكت!
تراجعَ أرسلانُ خطوةً، نظراتُه تشتعلُ بنارِ الغضب، قبلَ أن يقولَ بصوتٍ يشبهُ الوعد:
مش هسامح...هفتح كلِّ الملفات، وهطلَّع كل الحقايق، وأولَّع في كل اللي كانوا السبب.
تركَ إسحاقَ واقفًا مكانه، وانطلقَ مبتعدًا بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّ الغضبَ الذي بداخله يكادُ يفتكُ به.
ظلَّ يجوب بسيارته الشوارع بلا هدفٍ، كأنَّ الطرق لا نهاية لها، وكأنَّ جسدهِ يتبع تيهَ روحه، توقَّفت السيارة أخيرًا أمام مياه النيلِ الهادئة، ذلك الشاهدُ الصامتُ الذي لطالما احتضنَ أسرارَ الموجوعين. أسندَ أرسلان رأسه للخلف، وانفجرت دموعه كأنَّها بركانٌ مكبوتٌ ظلَّ مختبئًا لسنوات، شهقَ بعنفٍ، يحاولُ إخراج ما يعصفُ بصدره، وهمس بصوتٍ متهدِّج:
"إزَّاي حياتي تتقلَّب كده؟ ليه يا رب؟!"
ارتعشت أناملهِ وهي تمسحُ دموعه بلا جدوى، والألمُ كان يعتصره كقبضةٍ حديديةٍ لا ترحم. ذكرياتُ لقائه بإلياس بدأت تلوحُ أمام عينيه، كأنَّها شريطٌ سينمائي يعيد نفسه بلا نهاية، تردَّدَ صوتُ فريدة في رأسه، كلماتها في المستشفى تتكرَّر كأنَّها طعنةُ خنجرٍ بطيئة:
"أخوك...هي قالت: أخوك!"
رفع رأسه فجأةً، وشعر بأن هناك صاعقةٌ تضربه بقوة..عيناه احمرَّتا من كثرةِ البكاء، قبضَ على المقود بقوةٍ حتى ارتعشت أصابعه، ثمَّ ضربهُ بقبضته بعنفٍ، يصرخُ بصوتٍ مرتعشٍ ومبحوح:
"أخ... عندي أخ؟!"
رنَّ هاتفه مرارًا، لكنَّ صوت الرنين كان بالنسبة له كصدى بعيدٍ لا يعنيهِ فجأة، عندما تصاعدَ الرنينُ للمرةِ العاشرة، ألقى نظرةً على الشاشة..
. إلياس. التقط الهاتف بيدٍ مرتجفةٍ، وكأنَّ ثقلهِ أصبح فجأةً لا يُحتمل، أجاب بصوتٍ متحشرجٍ ومتهدِّج:
"أيوة..."
جاءه صوتُ إلياس، مشحونًا بالقلق والغضب المكبوت، كأنَّه يحاولُ السيطرة على انفعالاته:
"أرسلان! إنتَ فين؟ من ساعة ما خرجت من المستشفى وأنا مش عارف أوصلك رد عليَّ، بالله عليك!"
شهق أرسلان شهقةً عميقةً كأنَّها تسحبُ الهواء من رئتيه، ثم انفجر بصوتٍ متحشرجٍ مليئٍ بالألم:
"فاكر لمَّا أنقذتني في إيطاليا؟ فاكر لما مراتك قالت إنِّنا شبه بعض؟ وقتها ضحكت عليها، فاكرها بتهزّّر، لكن...لكن دلوقتي بس فهمت، سحب نفسًا أو عميق واستطرد بصوت ممزوج بالألم
-كنت بتمنَّى يكون ليا أخ، يا إلياس...طول عمري كنت بحلم بده، رغم إنِّ إسحاق كان كلِّ حاجة بالنسبالي، لكن فكرة يكون ليا أخ حقيقي...حاجة تانية."
حاول أن يبتلعَ وجعه، ويصمت عن البكاء، و لكنه فشل، تابعَ بصوتٍ ينكسرُ مع كلِّ كلمة:
"تفتكر فيه إحساس أحلى من إحساس الأخوة؟ أنا كنت حاسس بده معاك، حتى من غير ما أعرف، كنت بحبَّك زي ما الأخ بيحب أخوه، وكنت دايمًا وراك...في كل خطوة، زي ظلك..عمري ما سألت نفسي ليه...بس دلوقتي عرفت."
رانَ صمتٌ ثقيلٌ على الطرفين، كأنَّما الكلمات خذلتهم أمام وطأة المشاعر..ثم استأنف أرسلان حديثه، بنبرةٍ مشحونةٍ بالغضب والوجع المكتوم:
"إلياس... الستِّ اللي كنت بعتني أتحرَّى عنها... طلعت أمِّنا..فريدة هي أمنا، يا إلياس."طيب ازاي، ومراتك دي مش بنتها، هي دي البنت اللي اتهموا بقتلها، يعني هي ماموتتهاش زي ماقالوا، شوف حتى دي طلعت فيها بريئة..رغم اني مكنتش اعرف انها هتكون أمي، بس مصدقتش انها تكون قاتلة روح، انا كنت عارف انها بريئة
ساد صمتٌ طويلٌ آخر. شعر أرسلان بثقل أنفاسه وهو ينتظر إجابة، حتى جاء صوتُ إلياس، أهدأ لكنَّه أكثر حدَّة، كأنَّه يقطعُ سكينَ الألم على مهل:
"وأنا كنت عارف"
شهقَ أرسلان بدهشةٍ وصدمة، صوتهِ خرج مختنقًا:
"عارف؟!"
"أيوة. مدام فريدة بريئة...وميرال مش بنتها، عرفت من فترة، مكنتش اعرف من الاول لأنها غيرت اسمها لميرال جمال الدين، مكنش قدامي دليل واضح، لحد ماعرفت اني مش ابن السيوفي، بس مكنتش اعرف انك اخويا، حتى لما طلبت منك التحري مكنش اعرف، كنت عايز اثبت برائتها لنفسي وبس، المهم اسمعني دلوقتي، علشان لازم نكون هادين
أنا إلياس السيوفي، وإنت أرسلان الجارحي. بس ياأرسلان، وهجيب حقنا وحق مدام فريدة
قاطعهُ أرسلان بصرخةٍ محتقنةٍ بالألمِ والغضب، كأنَّما تنفجرُ من أعماقِ صدره:
"ومين هي مدام فريدة دي بالنسبة لنا؟ ايه ياحضرة الظابط نسيت ابوك
حق ابوك فين؟!
ردَّ إلياس بصوتٍ مشحونٍ لكنَّه متزن، يحاول أن يحتوي غضب أرسلان:
"حقُّهم هييجي يا أرسلان...بس مش بالطريقةِ اللي راجح عايزنا ناخدها..إحنا اتربينا نكون مختلفين زي ما إسحاق قال: من حقِّ أبوك عليك يفضل اسمه عايش. فاروق ومصطفى مالهمش ذنب، ما ننجرِّش ورا الغضب ونضيع كل حاجة."
لم يستطع السيطرة على نفسه، صرخةٌ أخرى انطلقت من جوفه، كأنَّها احتجاجٌ على القدر ذاته، ثم مسح دموعه فجأةً، وكأنَّه يحاول أن يستعيد قوته. أجاب بصوتٍ خافتٍ لكن مشحونٍ بالمرارة:
"تمام... أنا هروح المستشفى."
**أغلقَ الهاتف قبل أن يسمع ردَّ إلياس، أدارَ محرك السيارة..
عاد إلى منزله اولًا، وجد غرام تنهي صلاتها، جلس بجوارها إلى أن انتهت، ثم تمدد يتوسد ساقيها يهمس بأرهاق
-شوفتي القدر، إلياس السيوفي يطلع اخويا
خللت أناملها بخصلاته تجيبه
-واختك تطلع مش اختك، وباباك يطلب منك وصية تحرق قلبي ..قالتها بصوت مكتوم بالدموع
اعتدل مستندًا على مرفقيه، وجذبها من عنقها يحتضن ثغرها للحظات، ثم تركها يمرر انامله على شفتيها
-ملك هتفضل اختي ياغرام، كوني مطمنة من الناحية دي، انا اضطريت اوافق علشان عملية بابا، بس انا واسحاق مستحيل نقبل بحاجة زي كدا، حتى لو بابا ..صمت يتنهد بألم ثم اعتدل وجذبها يضمها لأحضانه
-وعد مني مفيش ست تقرب مني، انت حياتي وغرامي، كوني واثقة في كلامي، لو خيروني بين الموت وبين وجعك، هختار الموت ولا اتحمل دمعة واحدة من عيونك
ابتسمت من بين آلامها، لتقترب تطبع قبلة فوق وجنتيه تهمس بحبه بخفوت
"ربنا مايحرمني منك يارب"
نهض من مكانه يسحب كفيها
-اجهزي علشان نروح المستشفى، مش عايزك تبعدي عن ماما الايام دي
-طيب مش ناوي تروح تشوف مدام فريدة، تعرف الست دي انا حبتها اوي
حاوط أكتافها وتحرك للداخل قائلا
-هوصلك حبيبي، وبعد كدا لازم اروح لها، كفاية وجع لحد كدا
مرَّت اللحظات كأنها أزْمان خَالدةٌ، كأنَّ الأرض توقَّفتْ عن الدَّورَان وَتركَتْهُ عالقًا بينَ الخَوْف والشَوْق، بينَ الأَمَلِ والرَّهبة. كانَت خُطُواتهُ إلى فيلَّا السِّيوفي ثَقيلةً كأنَّها تُجَرُّ بأَغْلَالٍ، وكلُّ نَبْضَةٍ فِي صَدْرِهِ تَصْرخ : "كيف تكون هذه أُمّك!". لمْ يَكُن الطَّريق مُجَرَّد دَقائق؛ بل كان رحلةً عَبْرَ جُرُوحِ السِّنِين، عبْر الغياب الَّذي مَزَّق قَلبهُ وترك فِيه فجوةً لَا يَمْلؤها إِلَّا هذَا اللِّقَاء.
وصلَ إلى البوَّابة، ووقف للحظةٍ يُحَاوِلُ أَنْ يَلْتقط أَنْفَاسهُ الْمُبعْثرة إِلْيَاس سَمح لَهُ بِالدُّخُول، ولَكنَّ قَدميه كانَتا تَرْتعشان كأَنَّهما تَحْملَانه إِلَى قَدَرٍ مجهولٍ. وعندما خطى إلى الداخل، تسلَّلت إلى أُذُنَيْهِ نَغْمَة صوتها. ذَاك الصَّوْت الذي جعل قلبه يرتجف
تَوقَّف الزَّمن وهو يستمع إليها تتحدَّث مع إلياس، قلبه كاد ينفجر:
"هل هذه أمِّي؟ هل هذا الصوت الذي يروادُ أحلامي؟".
استدارَ بِبُطْءٍ، ورآها ونظر لها نظرةً وكأنه يراها لأول مرة، هنا شعر وكأن حياته أصبحت سنوات ضائعة، ك
تعلقت الأعين بوقوفها، لكنَّهُ لم يكن يرى سوى الحنين يطلُّ من عينيها..التقت نظراتُهما بحديثٍ طويل ملغم بالألم والحنين، اقترب خطوة اخرى، ولكنها مرتعشة، لتهمس بتقطع
-"ارسلان" رغم أنها خافتة إلا أنها اخترقت اذنه، في تلك اللحظة انهارت كل الجدران. شعرَ فيها الأم التي حملتهُ يومًا بين ذراعيها، رأى فيها حضنًا اشتاقَ إليه، رأى فيها كل ما فقدهُ في عمره.
اقتربَ بخطواتٍ اخرى مرتجفة، جسدهِ كلَّهُ كان ينتفضُ كأنه طفلًا صغيرًا يتعلمُ المشي لأوَّلِ مرة..لكنه هذه المرة لم يكن يمشي نحو الحياة؛ كان يمشي نحوها، نحو روحه التي فقدها..حاولَ أن ينطق، حاول أن يُخرِج الكلماتَ من فمه، لكن الحروف خانته، خذلتهُ كما خذلهُ الزمن، الذي دمر حياته فجأة، من بعد ماكانت حياة الأمير المنعمة بالورود أصبحت حياة الفتى الطاغي بالشوك والوعود، خطى وخطى ولكنه لم يستطع سوى أن يحتضنها بعينيه، يلتهمُ ملامحها بنظراتهِ وكأنَّها صورةٌ تفرُّ من بين أصابعه..ليسرقها الزمن كما سرقه الشيطان من نبع حنانها..همس بتقطع وعيناه مازالت تحاصر وقوفها
-اتأخرت عارف ..سكون للحظات من ناحية فريدة علها تستوعب ماتلفظه، هل عقلها الباطني هيئ لها ..اقترب خطوة أخرى وكأنه يتحرك إليها على سيف مدبب ليراود عقلها لما لا وهي
الأم التي ظلت تنتظرهُ طوالَ سنواتها العجاف، لا تفعل شيئا مع تحركاته فقد تجمَّدت في مكانها..كيف لامرأةٍ أن تختصرَ كلَّ سنواتِ الغياب في لحظةٍ واحدة؟ كيف لقلبها أن يحتملَ هذا الانفجارِ العاطفي؟ ظلت تنظرُ إليه بذهول، تتفحَّصُ وجهه، تسألُ نفسها:
"هل هذا حلم؟ هل هذا حقًا علم من هو؟"...استمعت إلى همسه الذي اعتبرته بعيدًا بعد المدى وهو يتمتم:
-أنا جيت، وعايز أتأكِّد بس ضايع، هي مين؟! وأنتِ مين؟! وهو مين؟!.،
ثم بصوتٍ مختنقٍ بالشوقِ والوجع:
-أنا ضايع، ليه بيحصل معايا كدا، طيب
أمي صفية، إزاي هي، وإزاي إنتِ
حاسس إنِّي بغرق، لأ أنا بردان..قالها برجفةٍ تسرَّبت لكاملِ جسده..جيت لك يمكن الاقي الدفى عندك، هلاقي الدفى دا ولا لسة هغرق تاني
هنا توقفت عقارب الساعة، بل توقف دوران الأرض لتجذب جسدهِ المرتعشَ إلى حضنها، احتضنتهُ كأنَّها تعيدُ وصلَ ما انقطع، كأنها تحميه من لسعة برد القلوب التي شعر بها، كأنها وكأنها، تريد وتريد، ولكن الأهم تستعيدُ جزءًا من روحها المفقودة، بكاءها كان كصرخةٍ تخرجُ من أعماقِ قلب أمٍّ قُتل صبرها، وصار انتظارها عذابًا..لتمتم بصوتٍ مخنوق:
– ادفيك بروحي يانور عيوني
ظلَّ أرسلان بين ذراعيها، عاجزًا عن الكلام لكنهُ حين التقطَ أنفاسهِ أخيرًا، خرجت منه كلماتٍ كالهمس، لكنها كانت تحملُ ثقلَ الكونِ كلِّه ليردد بنبرة تحمل اوجاع كل ماشعر به:
– إنتِ أمي؟!
كانت كلمته كطعنة في قلبها، لكنها لم تؤلمها، بل أخرجت كل مشاعرها دفعة واحدة. شهقت كأنها تُلقي بحمل سنوات الغياب، وانهارت على الأرض وهي تضمه إليها أكثر:
– آااه صرخةٌ شقَّت عنانَ السماء، ليشعرَ إلياس بالفزعِ على ذاك المشهدِ المريب، حتى انزلقت عبرةً تحرقُ وجنتيه، وهو يراها لأولِ مرَّةٍ بتلك الحالة، اقتحمَ مصطفى الغرفةَ بعدما استمعَ الى صرخاتِ فريدة، ليقفَ بجسدٍ متصنِّمٍ وهو يراها تحتوي جسدَ ارسلان بين ذراعيها.
رفعَ ارسلان عينيهِ نحو إلياس، وقد أثقلَ الحزن كلماته، حتى بدت كأنها تحملُ جبالًا من الألم.
-ليه ماقولتش من زمان ستِّ الكل تبقى أمِّي!!
"الستِّ اللي حياتها اتحطمت..هيَّ أمي، أمِّي اللي بعتني أدوَّر عنها، أمِّي!!
- آاااه..صرخت بها فريدة وهي تجذبهُ لأحضانها مرة اخرى، كأنّّ صدى الصرخة يحملُ كمّّ الألم، الشوق، والفراق..كان عناقها محاولةً يائسةً لاحتواءِ كل ما تحملهُ في قلبها، وكأنها تريدُ أن تصهرهُ بحضنها الحنون، حضنًا تمنَّتهُ بسنواتٍ عجاف، تريدُ أن تجمعَ به كل مايمسُّ الأمومة التي فقدتها وهو بعيدًا عن أحضانها..
-أمي !! أطبقت على جفنيها تتذوَّقُ حلاوةَ الكلمةِ التي تردّّدَ صداها بأذنيها..
وفي تلك اللحظة، انكسرت كلَّ الحواجز بينهما، وكأنَّ العالمَ انشقَّ ليكشف عن سرٍّ دفين، توقَّفَ الزمن مرة اخرى، وتلاشت الضوضاء..وكأن لم يكن هناك شيئًا في الكون سوى أرسلان وأمه، كانت عيناها تحملانِ تاريخاً من الألم، كلَّ دمعةٍ سكبتها في ليالٍ حالكةٍ وكلَّ دعاءٍ رفعت به يديها للسماء بحثًا عنه..وكان هو بين يديها ، كأنَّما قُذفَ من أعماقِ القدر ليعيد إليها الحياة التي سُلبت منها..
احتضنتهُ كما لو أنَّها تحاولُ أن تلحمَ كلِّ الشروخ التي أحدثها الفقدُ في روحها، بكلِّ أمومةٍ لم تذق طعمها، بكل حبٍّ ظلت تحرسهُ في أعماقها ككنزٍ مفقود. وكأنَّ نبض قلبها، الذي كاد أن يخفتَ في غيابه، قد استعادَ إيقاعهِ لأوَّلِ مرَّةٍ منذ سنين.
كان اللقاء كأنَّهُ انشقاقَ الفجرِ في ظلمةٍ دامسة، أو كأنَّ روحينِ تاهتا في متاهاتِ القدر وأخيراً وجدت طريقهما، اختلطت أنفاسهما بحشرجةِ الدموع، كأنَّ الحياةَ نفسها تراقبُ هذه اللحظة، متوقِّفةً عن دورانها، فقط لتشهدَ كيف يمكنُ للأمومة أن تدفن، ياالله ماهذا الشعور، وولدها الغائبَ لسنواتٍ طوال بين أحضانها، هل شعر أحدكم بهذه الفرحة فلقد ذاقتها فريدة واعتبرتها أعظمَ انتصار على الزمن، والألم، والغياب.
بدأت تقبِّلُ وجههِ بجنونٍ أقربُ إلى الهوس، تمسحُ دموعهِ بيديها المرتعشتين، وكأنَّها تحاولُ أن تمحو آثارَ سنواتِ الفقدانِ من على ملامحه، كأنها تحاولُ أن تزرعَ مكانَ كلَّ لحظةِ ألمٍ عاشتها حبَّا لا ينتهي..ضحكاتها المكسورة اختلطت ببكائها الحارق، وكلماتها المتقطِّعةِ بأوجاعِ السنين، حتى بدت وكأنَّها تحاربُ الجنونَ الذي طاردها طوال غيابه..
– "اهتزّت وهي تهزّ رأسها، ودموعها تنهمرُ بلا توقُّف، صوتها صارَ خليطًا بين الرجاءِ والخذلان:
– "أوعى تصدَّق كلامهم...أوعى تبقى زي إلياس..واللهِ يا بني خطفوك من حضني، حرّموني منك إنتَ وأخوك، حرموني من روحي. مين يصدَّق إنِّ أم ممكن تعيش بعد دا كله؟"
رفع يديهِ ليحتوي يديها المرتجفتين، واردف بصوتهِ الهادئ ولكنَّهُ يحملُ وجعًا يعكس وجعها:
– "ششش... اهدِي يا أمي، أنا عارف كلِّ حاجة..كلِّ حاجة، محدش محتاج يقولي.
لكنَّها لم تستطع التوقُّف، جذبت رأسهِ إلى صدرها بقوَّةٍِ تكادُ تؤلمه، وكأنَّها تخشى أن تختطفهُ الحياةَ منها مرَّةً أخرى..شهقاتها العالية باتت كأنَّها طعناتٌ تخترقُ الصمتَ من حولها
قبلةً مطوَّلةً على جبينها يزيلُ دموعها:
-خلاص حبيبتي، اتجمَّعنا تاني، بلاش دموع ياستِّ الكل..قالها ثمَّ رفعَ كفَّيها وقبَّلهما..هنا اختفى جميعُ ماشعرت به
وكأنَّ حياةَ الألمِ التي عاشتها لسنوات، استعادتها الحياة بلحظة...ولكن بكاؤها لم ينقطع بل يزداد ويزداد لتضمه مرة أخرى وكأنه سيهرب من أحضانها، وتصيح ببكاء
- شوفت يامصطفى مش قولت لك هيرجع، كنت عارفة أنه هيرجع
أحضانًا فقط، ولكن ليس كحضنٍ عابر، دفنَ رأسهِ بأحنِّ مكانٍ يشعرهُ بالأمان، بعدما استمع الى رجفة صوتها الحزين
كان احتضانهما أشبهُ بلقاءِ روحين بعد رحلةٍ من الضياعِ الطويل، دموعها تغرقُ شعره، ودموعهِ تسيلُ على صدرها، وكأنَّهما يغسلانِ كلَّ الذكرياتِ المؤلمةِ معًا..
لم يكن هناك عالم، لم تكن هناك جدران أو مكان، فقط أمٍّ تعيدُ جمعَ شتاتَ عمرها بين ذراعيها، وابنٍ يحتضنُ الأمان الذي كان يظنُّهُ حلمًا مستحيلًا..
اقترب إلياس وانحنى يرفعها من فوق الأرض
-كفاية عياط، علشان متتعبيش، رفعت عيناها إليه ثم أشارت إلى ارسلان
-شوفت اهو جه لوحده، رغم محاولتي بس اخوك جه، رفعت عيناها إلى مصطفى
-ولادي رجعوا لحضني يامصطفى، شوفت رحمة ربنا، مش قولت لك ولادي عايشين وهيرجعوا، واحد ربيته وانا معرفوش، والتاني القدر رماه في طريق اخوه، هو فيه فرحة ورحمة اكتر من كدا
-ماما قومي كفاية كدا...قالها إلياس بصوت مختنق، وابتسمت عيناها بدموع الفرح تشير إلى إلياس وهي تنظر إلى ارسلان
-اول مرة يقولي ياماما، اكيد عارفه، بس مش مهم، المهم يكون جنبي وبس
تأفف إلياس وتراجع إلى مكتبه
-طيب قومي يامدام فريدة، خدي ابنك الحيلة عندي شغل
افلتت ضحكة وهي تملس على رأس ارسلان
-لو معملش كدا ميكنش إلياس، مش هزعل منه مهما يعمل المهم انكوا قدام عيوني وفي حضني
استند بوجنتيه على كفيه وتحدث بتهكم:
-في حضنك، طيب خدي ابنك في حضنك وبرة مكتبي، دا في اسرار دولة، وابنك مش ضامنه، يمكن يخوني
رمقه ارسلان بنظرة ساخرة
-معرفش تقل دمك دا جايبه منين، طيب انا دمي خفيف، ثم استدار إلى فريدة ولمعت عيناه بالحبور قائلًا
-وست الكل عسل وزي القمر، إنما انت دمك يلطش وزفت على دماغك
قاطعهم دخول اسلام الذي توقف على باب الغرفة قائلًا
-وأنا كمان دمي خفيف واتحب
رفعت فريدة ذراعيها إليه، ليقترب منها ملقيًا نفسه كالطفل بأحضانها، مما جعل إلياس يضرب بكفيه على المكتب
-ناقص اجيب الببرونة
بفيلا العامري:
كانت تغطُّ في نومٍ عميق، عندما فتحت إيمان الباب بهدوء ودلفت إلى الغرفةِ تحملُ صينية الطعام، وضعتها بعنايةٍ على الطاولةِ الصغيرة، ثمَّ اقتربت من السرير الذي صار ملاذًا دائمًا لرحيل في أيامها الأخيرة..
ملَّست على خصلاتِ شعرها برفق، وهمست بحنان:
– رحيل حبيبتي، قومي علشان تاكلي حاجة.
رفَّرفت أهدابها المثقلة بالألم، وقالت بصوتٍ خافت:
– مش عايزة آكل.
ثمَّ جذبت الغطاءَ فوقها مجدَّدًا، تمتمت بصوتٍ يغمرهُ الحزن العميق:
– إزاي هيجيلي نفس آكل؟..
قطعَ صمتهما صوتُ الباب الذي فُتحَ لتدخلَ إيلين، توزِّعُ نظراتها بين الاثنتينِ وهي تسأل:
– لسَّه مش عايزة تاكل؟
أومأت إيمان برأسها بحزن، ثمَّ أردفت:
– أسيبك معاها، يمكن تقدري تقنعيها.
اقتربت ايمان من رحيل وطبعت قبلةً دافئةً على جبينها وهمست بصوتٍ يملؤهُ الشفقة:
– والدتك سألت عنِّك علشان خاطرها، لازم تقوي.
ثمَّ غادرت الغرفة بخطواتٍ صامتة..
جلست إيلين على حافةِ السرير، وأمسكت طبقَ الطعامِ وهي تقول بلطف:
– قومي يا حبيبتي لازم تاكلي، والدتك محتاجاكي كفاية اللي حصل لوالدك.
انسابت دموعُها بصمتٍ ثقيل. لحظات مرّت وهي تئنُ بمرارةِ الفقد، قبل أن تهمسَ بصوتٍ متهدِّج:
– الفراق صعب، بيوجع أوي يا إيلين، مش قادرة أصدَّق إنِّي مش هشوف بابا تاني.
ربتت إيلين على كتفها بحنو، وقالت بصوتٍ مكسورٍ يحمل أصداءَ ألمها الخاص:
– عارفة، ومجرباه بس متخافيش، هتتعايشي معاه وهيبقى جزء من حياتك..عندك اللي يواسيك...والدتك وجوزك أمَّا أنا ما عنديش غير الوجع. بقينا أصحاب، وتأقلمنا عليه.
تنهَّدت ثمَّ أردفت بحزمٍ يتخلَّله الإصرار:
– فوقي، يا رحيل. حياتك مش هتقف هنا، الناس مش هيشفقوا عليك، بالعكس، هيستنُّوا وقوعك قومي علشان تصلبي نفسك.
لكن رحيل دفعت الطبقَ بعيدًا بيدينِ مرتعشتين، ونهضت من السريرِ بجسدٍ منهك، خطت خطواتٍ ثقيلةٍ نحو الباب، تستندُ إلى الأثاثِ لتجنُّبِ السقوط.
فتحت بابَ غرفةِ والدتها ودخلت، عيناها المشحونتينِ بالدموع باحثةً عن صورةِ والدها على الحائط توقَّفت أمامها، شهقت شهقةً مكتومةً قبل أن تغمرها موجةً من البكاءِ المكبوت.
وضعت كفَّيها على فمها تحاولُ كتم صوتِ بكائها، لكنَّها تقدمت نحو والدتها التي فتحت ذراعيها بحنوٍ صامت..ألقت رحيل بنفسها في حضنِ والدتها، وانهمرت دموعها بعجزٍ مطلق، غير قادرةٍ على مقاومةِ حزنها العميق.
في الأسفل:
جلست إيمان في حديقةِ الفيلا تنتظرُ عودةَ أخيها حتى تتمكنَ من المغادرة، فجأة..اخترقَ صوتًا ساخرًا الهدوء خلفها:
– شايفة رجلك أخدت على المكان؟ أوعي تفكري إنِّك صاحبة البيت يا بنت..
استدارت إيمان بصدمة، ثم أجابت بهدوءٍ متماسك:
– مش فاهمة الكلام ده ليَّ ولَّا لحضرتك؟.. أنا هنا في بيت مرات أخويا.
اقتربت رانيا منها، وعيناها تقدحانِ نار الغضب والاحتقار:
– اسمعي يا بنتِ الحواري، جوز مين؟ فوقي كده..أخوكي ضحك عليها عايز يتجوِّز من أسياده؟ دي هتتجوِّز طارق غصب عنُّكم بلاش ترسمي أحلام على حسابنا..
سقطت كلماتُ رانيا على إيمان كسهامٍ حارقة، لكنَّها تماسكت رغم الإهانةِ التي شعرت بها. كيف يمكن لبعضِ الناس أن يتَّسموا بهذه القسوة؟
رفعت رأسها بثبات، وأجابت بنبرةٍ قاطعة:
– أحلامنا ملكنا، ومحدش له دخل فيها.
استمعتْ إلى صوتِ دراجةِ أخيها، فاتجهتْ نحوهِ سريعًا، تخفي دموعها تحتَ أهدابِها التي أثقلها الحزن..كلماتُ القهرِ التي تلقتَّها من تلكَ الحرباءِ ما زالتْ تحرقُ قلبها ترجَّلَ من دراجتِهِ واقتربَ منها، نظراتاستمعتْ إلى صوتِ دراجةِ أخيها، فاتجهتْ نحوهِ سريعًا، تخفي دموعها تحتَ أهدابِها التي أثقلها الحزن..كلماتُ القهرِ التي تلقتَّها من تلكَ الحرباءِ ما زالتْ تحرقُ قلبها ترجَّلَ من دراجتِهِ واقتربَ منها، نظراتهِ تحملُ قلقًا عميقًا:
حبيبتي، مالِك؟ رحيل كويسة؟
هزّتْ رأسها عاجزةً عن الحديث، وكأنَّ غصّةً خانقةً احتجزتْ كلماتِها، اقتربَ منها واحتوى ذراعيها بحنان، ثم التفتَ إلى أخيهِ الأصغرِ قائلًا:
- معاذ، انزل هنشوفُ رحيل وهنرجعُ على طول..
تحرَّكَ للداخل، لكنَّ إيمانَ وقفت في طريقه، تحاولُ قمعَ حزنِها وكلماتِ رانيا القاسيةِ التي ما زالتْ تتردَّدُ في ذهنِها، همستْ بصوتٍ ضعيف، محاولةً منعَ دموعِها من الانهمار:
- حبيبي، هيَّ نايمة...تعالَ بكرة شوفها.
هزَّ رأسهِ بالرفض، ماضيًا بخطواتِه الواثقةِ نحوَ الداخل، هرولت إيمان لتوقفه، وذراعاها تطوِّقانهُ بحذر، لكن نظراته التقت بعيونِ رانيا التي وقفت أمامَ البابِ الرئيسي، تنتظر كأنَّها تتهيَّأُ لمعركة..
تقدَّمت رانيا بخطواتِها المتأنِّيةِ، وكلماتها مشبعةٌ بالسخرية:
-رايح فين يا حضرةِ الميكانيكي؟
توقَّفَ يزن، ومسحَ ذقنهِ وابتسمَ بسخريةٍ مريرة، ثم قالَ بصوتٍ هادئٍ يحملُ تهديدًا مبطَّنًا:
"بصي، اسمِك إيه ما اعرفش، أنا مش شايفِك أصلاً..امشي من قدامي علشان مش حابب أعملَ حاجة أندم عليها.
دفعها بلطفٍ جانبي لتتراجع، وكادت أن تختلَّ خطواتُها وتسقط، رسمَ ابتسامةً ساخرةً على شفتيهِ وهو يتمتم:
ما وقعتِكيش علشان أبويا علِّمني أحترم الكبار لكن لو ممشيتيش، هعلِّمِك إزاي السيراميك يلمع..
ارتفعَ صوتُ رانيا بغضبٍ:
إنتَ بتقول إيه يا متخلِّف؟!
استدارَ نحوها بخطوةٍ واثقةٍ، مما جعلها تتراجعُ بخوفٍ، ترفعُ يديها في محاولةٍ لتداركِ الموقف:
هخلِّي الأمن يرميك برا..
رفعَ إصبعَهِ مشيرًا إلى الصمت:
- صوتك..سكوتي مش ضعف بس احترام لسنِّك، مش لشخصِك..
وصلَ صوتُ العراكِ إلى أذنِ رحيل، التي غادرت غرفتها رغمَ ضعفِها..وقفت عندَ أعلى الدرج، ورأتْ إيلين تسألُ بقلق:
- إيه الصوت ده؟
تحرَّكت رحيل للأسفل، وإيلين تتبعُها…توقَّفت رحيل أمامَ الجميعِ، صوتها واهنًا لكنَّهُ يحملُ هيبةً واضحةً:
-إيه اللي بيحصل هنا؟..
التفتَ يزن نحوها فورًا، وعيناهُ تلمعانِ بشوقٍ جارف..دنا منها وكأنَّهُ يحاولُ أن يرسمَ وجهَها في ذاكرتهِ بلهفةٍ لم يستطع كبتها..كم اشتاقَ إلى صوتها الحنونِ، دنا منها بخطوات أخرى حتى توقف أمامها يرسمُ تفاصيلها بعينيه، وبلهيبِ الاشتياقِ الذي يضطرمُ في صدره، وجذبها إلى أحضانهِ بلهفة:
-عاملة إيه؟ وحشتيني، اخيرًا؟!
خرجت من بين ذراعيهِ ببطء، تطالعهُ بعينيها الحزينتينِ قبل أن تردَّ بصوتٍ هادئ:
-أنا كويسة... إنتَ كنت فين؟
أمسكَ كفَّيها برفق، وحاوطَ جسدها بيدهِ الأخرى، ثمَّ تحرَّكَ بها نحو الأريكة، متجاهلًا تمامًا صوتُ رانيا التي حاولت التدخُّلَ بنبرةٍ حانية..
جلسَ قبالتها على ركبتيه، يحتضنُ وجهها بين يديهِ وكأنَّهُ يخشى أن تفلتَ منه مرَّةً أخرى:
الحمدُ لله إنِّك قومتي وفوقتي، حبيبتي... محتاجة حاجة؟ أكلتي؟ أخلِّي إيمان تعملك حاجة؟..
هزَّت رأسها بنفي، وعيناها تلمعانِ بابتسامةٍ خفيفةٍ عندما رأت لهفتهِ الصادقة عليها:
- أنا كويسة، واللهِ مش جعانة لو جعان، أخلِّيهم يجهِّزوا لك أكل..
ابتسمَ ابتسامةً دافئة، يهزُّ رأسهِ نافيًا بلطف:
لو هتاكلي معايا، موافق بس على فكرة، أنا جعان جدًا..من إمبارح ما أكلتش..
قاطعتهم رانيا وهي تقتربُ منهما، قائلةً بحدِّة:
-روح كُل في بيتكم...ثم اقترب ورسمت القلق وهي تجلسُ بجانبِ راحيل:
خفت عليكِ جدًا والله، حتى سبت عمِّك في المستشفى، ورحت الشركة، حضرت الاجتماع، وجيت أطمِّن عليك..
مطَّ يزن شفتيهِ بسخرية، وقال بنبرةٍ تحملُ شيئًا من التحدِّي:
"معلش، هنضيف لك أجرك آخرِ الشهر."
هبَّت رانيا من مكانها، صائحةً بغضب:
"عجبك الكلام ده يا راحيل؟٠٠شوفتي جوزك الوقح بيقول إيه؟
نهضَ من مكانهِ وأشارَ بيدهِ إلى بابِ المنزلِ قائلاً ببرود:
"اتفضلي، ابعدي عن الوقح، وارجعي بيتك..
أنا لو كنت وقح، كنت ردِّيت عليكي..
توقَّفت رحيل بعدما اشتدَّ العراكَ بينهما، وكان كل ما حولها يتلاشى في ضبابِ الألم:
-خَلاص يا خالتو، أنا آسفَة.
التفتَ يزن إليها بنظرةٍ غاضبة، وتمتمَ بعتابٍ حزين:
- تعتذري ليه؟! أنا مَغلطش، أنا معرفشِ قالت إيه لإيمان، مُتأكِّد إنَّها قالت كلام يزعَّلها، بس إحنا ولاد أصول مالناش في الحربقة..
مسحَ على وجههِ ببطء، وكان يبدو وكأنَّهُ يحاولُ قهر غضبه، لكن كلَّ كلمةٍ تنطق بها شفتيهِ تحملُ ألمهِ العميق، ليقول بهدوءٍ مختنق:
-على العموم، أنا جاي أطمّن عليكِ، لو احتجتيني كلميني.
التمعت عينيها بالدموع، وهمست برقَّةٍ وحنين:
-أنت هتروح؟
شعرَ بما تشعرُ به، فاقتربَ منها بحنان، يحيطها بذراعيهِ الدافئتينِ وكأنَّهما حصنها الوحيد من كلِّ الأذى الذي يحيطُ بها، همسَ لها بلطافةٍ عميقة:
- إيمان امتحانها بعد يومين، تخلَّص امتحاناتها وأفوق لك إن شاء الله، المهمِّ إنتي لازم تفوقي بسرعة علشان تشوفي حياتك اللي وقفت، طول عمري شايفك قوية، عايز رحيل القوية عارف الفراق صعب، بس برضو الحياة ما بتوقفشِ، فهماني حبيبتي؟
رفرفت أهدابها بخجل، وكلماتُ يزن تُشعلُ في قلبها نيراناً من المشاعر المختلطةِ بين الحبِّ والضعف، هل هذا هو فعلاً؟ أم مجرَّد وسيلة لإبقائها قوية؟
قبلةً حانيةً على جبينها وهمسَ بخفوتٍ وعاطفةٍ عميقة:
مرات يزن السوهاجي لازم تكون قوية، علشان لسه عندنا لعبة حلوة هتعجبك.
دفنت رأسها بصدره، وكأنَّ كلَّ جزءٍ منها يحتاجُ إليه أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، همست بنبرةٍ مليئةٍ بالحاجة:
أنا محتاجاك أوي..
حاوطَ جسدها بكلِّ قوَّته، وكأنَّه يريدُ أن يحميها من كلِّ شيء حتى أنفسهم، وهمسَ بما في قلبه:
وأنا مش هبعد، إنتِ جوا القلب..قالها بعيونٍ تحملُ كلَّ المشاعر ِالمدفونةِ داخله.
حمحمت إيلين :
-راحيل، أنا هرجع بيتنا بقى بدل بقيتي كويسة.
تراجعت رحيل من تحت حنانِ ذراعيه، تهربُ من نظرات ِالجميع، بينما تحرَّكت رانيا للأعلى وهي تلعنُهم ... صمتَت للحظةِ وكأنَّها ستفقدُ السيطرةَ على كلِّ شيء.
تمتمت بإجابةِ لإيلين بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ يحملُ ثقلاً من المشاعر:
براحتك حبيبتي، كنت هكون مبسوطة لو فضلتي معايا كمان كام يوم، بس طبعاًا آدم هيرفض.
بسيارةِ آدم:
-أيوة يابابا، أنا رايح عند خالو، هعدِّي أجيب إيلين..
-متتأخروش ياآدم.
-تمام ..قالها آدم وأغلقَ الهاتف، متَّجهًا إلى فيلا العامري..وصلَ بعد قليل، ولجَ لداخلِ الفيلا، قابلتهُ رانيا التي تحملُ حقيبتها.
-عمِّتو، حضرتك رايحة فين؟.. أنا لسة كنت عند عمُّو راجح..
توقَّفت أمامهِ تشيرُ للداخلِ وتهتفُ بتذمُّر:
-ادخل شوف بنتِ خالتك، جايبة لنا ناس دون المستوى غلطوا فيَّا، أنا انطردتِ من واحد ميكانيكي..
أشارَ بيديهِ لتهدئتها:
-تمام اهدي ياخالتو، واعذري راحيل..
دفعتهُ وتحرَّكت للخارج..
-دافع عنها، أنا هعرَّفه مقامه الميكانيكي...ظلَّت نظراتهِ على تحرِّكها إلى أن استقلَّت سيارتها وغادرت المكان، دلفَ للداخلِ قابلتهُ إيلين:
-كويس إنَّك وصلت، كنت لسة هكلِّمك، علشان توصَّلني لبيت رؤى..
لم يرد عليها وتحرَّكَ لجلوسِ راحيل:
-عاملة إيه ياراحيل؟..
أومأت قائلة:
-الحمدُ للهِ أنا كويسة، طافَ بعينيهِ متسائلًا:
-هيَّ خالتو رانيا زعلانة ليه، هوَّ يزن كان هنا ولَّا إيه؟..
توقَّفت رحيل متَّجهةً إلى الدرجِ قائلة:
-آدم يزن جوزي، استدارت برأسها واستأنفت حديثها:
-مش هسمح لحدِّ يهينه، وبلاش حركات خالتو دي، وعرَّف خالو بكرة هيكون فيه اجتماع في الشركة لازم كلِّ واحد يعرف مكانته خلاص..
تنهَّدَ بتثاقلٍ يمسحُ على وجههِ بعنف، ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى إيلين:
-ياله علشان عندي شغل.
-هنروح فين؟..
-بيتنا..قالها وارتدى نظارتهِ ثم تحرَّكَ إلى السيارة، وصلَ بعد قليل، كان زين بانتظاره، توقَّفَ بعد دخولهم:
تعالي ياإيلين نتكلِّم..اقتربت متسائلةً بلهفةٍ وعينيها تجولُ بالمكان:
-فين مريم، فيه حاجة حصلت؟..
-كلُّهم كويسين، أنا كنت عايز أسألك عن الكلام اللي قولتيه في بيت خالتك، شوفتي فريدة فين، وإيه اللي خلاكي تقولي إنَّها هي؟..
-طنط فريدة بتكون أم الظابط المسؤول عن رؤى صاحبتي، قالتلي أنُّه كان مخطوف من والدته واتربى مع أبوه على أساس ابنه لحدِّ ما اكتشف من قريب أنُّه مش أبوه.
-يعني إيه أنا مش فاهم حاجة؟..
جلست تقصُّ إلى زين كلَّ ما عرفته.
بغرفةِ ميرال جلست معتدلةً بعد خروجِ فريدة، تحيطُ رأسها بين راحتيها، ودموعها تنهمرُ بغزارةٍ كأنَّها تسبحُ في بحرٍ لا نهايةَ له من الألم..شعرت وكأنَّ الحياةَ تُحكِمُ قبضتها عليها، تقذفها في دوامةٍ لا تستطيعُ الهروبَ منها.
رفعت رأسها مستندةً على الفراش.. أغمضت عينيها والألم يئنُّ بداخلها، هل يمكن أن يزيحَ عنِّي هذا الثقل؟..لكن صدى كلماتِ إلياس اخترقَ سكونها، حديثهِ الذي كالنارِ التي لم تهدأ، تحرقُ قلبها وتزيدُ أوجاعها.
فتحت عينيها المثقلتينِ بالوجع..
تطلَّعت حولها كأنَّها تبحثُ عن شيئٍ يمسكُ بيدها وينتشلها من لجَّةِ الألم..وقعت عيناها على صورتهِ المعلَّقةٍ على الكومودينو، ببطء بسطت كفَّيها المرتجفينِ وسحبت الصورة..تأمَّلت ملامحهِ بألم، ثمَّ مرَّرت أناملها المرتعشةِ على وجهه، وكأنَّها تبحثُ عن إجابةٍ..ما الذي يملكهُ ليجعلني أعشقهُ كلَّ هذا العشق؟!
انسابت دموعها من جديد، تحترقُ وجنتيها، و مشاهدُ لحظاتهم السعيدةِ تمرُّ أمامها كأشباحٍ ترفضُ الرحيل..أحبَّت رجلاً وشمت اسمهِ على قلبها،
طافت عيناها بالمكانِ مرَّةً أخرى وكأنَّها تبحثُ عنه، ولكنَّها لم تشعر سوى بحياتها الباردةِ وكأنها محاصرةً بجبالٍ من الثلج، شهقاتها تعالت وهي تضمُّ صورته، وكأنَّها ملاذها وحصنها الآمن..
استمعت غادة لصوتِ شهقاتها هرعت إلى الغرفة بخوف، وما إن دخلت حتى شهقت لهولِ حالتها جلست بجوارها تحتضنها بحنان:
- ميرال مالك يا قلبي؟ اهدي، أنا هنا..
رفعت ميرال رأسها، والدموعُ لم تهدأ:
-ليه يا غادة؟ ليه بيحصل معايا كده؟ أنا عملت إيه؟!..ليه أتعاقب على ذنب ماليش يد فيه؟..كلِّ اللي طلبته حياة مليانة حب وأمان.
حبِّيت شخص وطلبت منه يحسِّسني إنِّي غالية عليه...مطلبتشِ كتير.
مسحت غادة دموعها، وصوتها يقطرُ حزنًا:
- اهدي يا ميرو، إلياس تحت من بدري، واللهِ تحت، هوَّ بيحبِّك وبيخاف عليكي..
شعرت ميرال بصدمةٍ عنيفةٍ تهزُّ كيانها،
تطلَّعت إلى غادة بعينينٍ تائهتين، وقلبًا ينزف:
تحت؟ يعني مهنشِ عليه يطلع يطَّمن عليَّا؟..طبعًا مش هيطلع...ابنه كويس، وأنا؟ أنا مجرد بنتِ الراجل اللي دمَّره، بنتِ راجح هيحبني؟ لا..يشفق عليَّا وبس، أو يمكن حتى دي كمان تلاقي مامته طلبتها منُّه..
قاطعتها غادة بحزم:
- ميرال ما تقوليش كده إلياس بيحبِّك..
ضحكت ميرال بسخرية، وكأنَّ الألمَ يتحدَّثُ بدلًا عنها:
بيحبِّني؟..صح، لازم يقرَّب منِّي علشان ابنه..يضحك عليَّا بكلمتين وأنا الغبية بجري وراه.
نظرت إلى غادة بعينينٍ يملؤها الانكسار:
أخوكي طول عمره بيدوس عليا، أنا فين من حياته يا غادة؟ أنا فين..
هوَّ قالها زمان، اتجوِّزني علشان ينتقم من فريدة لما فكَّرها عدوِّته، وقالها واحدة بتجري ورايا، ليه ماتمتَّعش.
احتضنتها غادة، تربتُ على كتفيها بحنانٍ وتمتمت بحزنٍ على حالتها:
-اهدي يا ميرو، الزعل وحش عليك،
متنسيش إنِّك حامل..!!
حامل كلمة اخترقت أذنها ليبكي قلبها ألمًا، حتى شعرت بثقل أنفاسها
-حامل..هزت غادة رأسها علها تهدأ من روعها ولكنها صرخت بغضب:
-بس، كلِّ اللي يهمُّكم إنِّي حامل؟..أنا إنسانة حياتي ضاعت جوزي بيخاف على صورته قدَّام الناس وأنا؟ أنا فين؟ هفضل طول عمري بنتِ عدوُّهم..
متأكدة أنُّه عايز يرميني برَّة حياته، أيوة هوَّ عايز يرميني لولا ابنه اللي في بطني..قالتها وهي تعاني ألمًا يعتصرُ صدرها، لتئنَّ وجعًا، حتى شعرت بنيرانٍ تتسرَّبُ لضلوعها..
-ميرو حبيبتي متخليش الشيطان يكرَّهك جوزك..
-جوزي هوَّ فين جوزي ياغادة، اللي مش هاين عليه يطمِّن عليَّا.. توقفت غادة تمد يديها قائلة:
-إيه رأيك تعالي ننزلهم تحت، يمكن لمَّا يشوفك...قاطعتها وهي تدفعها بعيدًا:
-ابعدي عنِّي..
ركضت غادة إلى الطابقِ السفلي، واندفعت إلى غرفةِ مكتبِ إلياس الذي كان واقفًا بالشرفة، بينما فريدة تجلسُ تحتضنُ أرسلان صاحت غادة بغضب:
مراتك منهارة فوق، ازاي تسبها تعبانة وانت ولا على بالك حاجة، المفروض تساندها مش تعاقبها بالطريقة البشعة دي، كل اللي على لسانها انا بنت عدوهم
التفتَ إلياس يطالعها بحدَّة، من كلماتها، ولكنها سحبت نظرها إلى فريدة:
حمدالله على سلامة ابنك التاني يا ماما فريدة، لكن ميرال مالهاش ذنب..هيَّ مفكَّرة إنُّكم كارهينها.
تحرَّكَ إلياس بخطواتٍ سريعةٍ كمن يحملُ العالمَ فوق كتفيه، وصعدَ إلى غرفتها، دفعَ البابَ بقوة، وجدها تجلسُ
بالشرفةِ تحتضنُ ركبتيها، تنظرُ إلى الأفقِ بشرود، ودموعها تنهمر بصمت...شعرت بوجوده، ولكنَّها لم تلتفت إليه، اقتربَ منها وتمتمُ بصوتٍ مبحوحٍ بالغضب:
-حمدَ الله على السلامة يامدام، ماإنتِ كويسة أهو، أومال ليه عاملة دوشة؟.
قابلت كلامهِ بالصمتِ البارد ومازالت تنظرُ بشرود:
انحنى وحاوطَ مقعدها واقتربَ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-راجح اتصل بيكي يهدِّدك، قوم إيه، المدام سابت جوزها نايم واستقلِّت بيه وراحت تعمل رئيسة عصابة وواخدة مسدس جوزها الميري، اللي اعتبرته مش راجل ومش قادر يحميها، وراحت تعمل بطلة..
مش دا اللي حصل يامدام، أنا قبلها بساعات طلبت منِّك إيه يابت، مش قولت لك متتحركيش خطوة من غير علمي، أتفاجئ بالحيوان دا بيهدِّدك، هوَّ أنا مش راجل علشان حضرتك تخافي منُّه وتجري زي المجنونة تودِّي نفسك وتودِّيني في داهية..للأسف النهاردة أثبتيلي فعلًا إنِّك بنت..صمتَ عن الحديث، وعينيهِ تضجُّ بكمِّ الاتهامات..
تلوَّت شفاهها بالألمِ فرفعت عينيها الممتلئتينِ بالدموع، وهمست بصوتٍ منكسر:
قولها بوضوح أنا بنتِ راجح علشان تبقى مرتاح، ماداريش، ماهيَّ دي الحقيقة..
حدَّقَ بها مذهولًا، يرسمُ وجهها الذي يُعتبرُ لوحةً من الألمِ والحزن..
-سكِّت ليه ياحضرةِ الظابط، ولَّا مكسوف مني؟..ومش عايز تقولها صريحة، توقَّفت أمامه، ورفعت رأسها بكبرياءٍ رغم الكسرةِ التي تضخَّمت داخلها وتمتمت بقوةٍ عكسَ ماتشعرُ به:
-إنتَ في الأوَّل كنت بتحاول تخفي كرهك ليا، جوازنا جه بالضغطِ علينا، حاولت تقنع نفسك بحبِّي وأنا اقتنعت، كنت بتزقِّ نفسك، وزي ماقولتها بنتِ بترمي نفسها عليَّا وبتحبِّني، يمكن زي ما قولت قبلِ كدا ماحاولتش تاخدني بذنبِ مدام فريدة لمَّا كانت عدوِّتك، بس دلوقتي للأسف هكون فعلًا عدوِّتك، كلِّ ماتشوفني قدَّامك هتفتكر اللي حصل، كلِّ ما تكتب اسمك هتكلِّم نفسك مين السبب في كدا، آسفة ياإلياس بس أنا مقدرشِ أعيش معاك وعيونك كلَّها اتهامات..أنا فكَّرت كويس، ابنك هيكون تحتِ أمرك، ولو عايز تاخده بعد ماأولده أنا موافقة، هتنازل عنُّه، علشان بس مكنشِ قدامك بنتِ الراجل اللي دمَّر حياتكم، هنسحب من حياة الكلّ..
التفتت إلى غادة وفريدة اللتان دلفتا للتو ومخالبُ الألمِ تحرقُ روحها، تشيرُ إليهما:
-حتى أنتوا انسوني، أنا مش عايزة أكون عبء على حد..
قالتها واستدارت متَّجهةً إلى غرفةِ ملابسها، فأوقفتها فريدة بفزع:
-إنتِ بتقولي إيه ياحبيبتي، مش حقيقي اللي بتقوليه دا..
-إيه هوَّ اللي مش حقيقي ياماما، إنِّي بنتِ راجح، ولا إنُّكم بتحاولوا تنسوا إنِّي بنته، في كلتا الحالتين أنا بنتِ راجح، أنا اللي ادمَّرت، وأنا اللي موجوع ..
أغمضَ عينيهِ يحاولُ إسكاتَ ذلك الجنون الذي تخلقهُ الشياطينُ داخله، ليستديرَ إليها بحدَّة:
-إنتِ بتعملي كدا علشان معاقبيش على اللي عملتيه، لا فوقي يابنتِ راجح..
استدارت إليهِ سريعًا، وابتسامةٌ حزينةٌ مؤلمةٌ حتى شعرت وكأنَّها خناجر قائلة:
-بالظبط ياحضرةِ الظابط، دي الحقيقة الوحيدة اللي بتحاول تبعد عنها..خليك دايمًا فاكرها ياالياس، انا بنت راجح اللي دمر حياتكم
ربتت فريدة على ظهرها:
-حبيبتي هو ميقصدش.
نظرت إليهِ ميرال بعيونٍ مكسورةٍ وأعلنت:
-لا يقصد ياماما، مش عارفة حتى كلمة ماما اللي بقولها بحسَّها مش من حقِّي..
قالتها بدموعٍ تنسابُ بقوَّة، لتستديرَ سريعًا للداخل، هروبًا من قدرٍ حكمَ عليها بالألمِ والضياع.
-استني عندك يامحترمة ولمَّا أكلِّمك توقفي..اقتربَ منها حتى توقَّفَ أمامها:
-لو خرجتي من البيت دا اعتبري آخر حياتنا..شهقت فريدة بخفوتٍ مقتربةً منهما:
-إلياس إيه اللي بتقوله دا؟..
-لو سمحتي ياغادة خدي ماما واطلعوا برَّة..تخبَّطت فريدة بقلقٍ تهزُّ رأسها بالرفض:
-حبيبي اهدى، شيطان ودخل بينكم.
-مدام فريدة هو إنتِ مكنتيش فرحانة من شوية برجوع ابنك، ماتنزلي تشوفيه.
-إلياس حبيبي..استدارَ يواليها ظهرهِ وتمتمَ بحدة:
-عايز أتكلِّم مع مراتي على انفراد، ولَّا لازم أقول حاجة تانية..
أمسكت غادة كفَّ فريدة وأردفت:
-تعالي ياماما سبيهم لوحدهم يمكن يتصالحوا..كانت تنظرُ إلى ابنها بصمت، علَّهُ يرأفُ بحالةِ ميرال ولكنَّهُ ابتعدَ بخطواتهِ وهو يجذبُ سجائرهِ متَّجهًا إلى الشرفة، وكأنّّهُ لم يقل شيئًا:
خرجت فريدة وبقيت ميرال التي مازالت متوقِّفةً تتطلَّعُ بنقطةٍ وهمية، استدارَ بعد إغلاقِ الباب، ثمَّ وصلَ إلى وقوفها:
-عايزة تبعدي صح، لا لا مش تبعدي بس، لا عايزة تتنازلي عن الولد..قالها وعينيهِ كفوهةٍ بركانيةٍ تريدُ إحراقها..
سُرقت الحروف من بين شفتيها عندما اقتربَ منها وأطبقَ على ذراعيها بقوةٍ آلمتها:
-وصلت بيكي البجاحة تتنازلي عن ابنك، لا وكمان بتقولي يمكن يموت، وصلت بيكي البجاحة إنِّك تقولي محدش له دعوة بيا..
كادت تصرخُ من الألم، ولكن ليس ألمُ أصابعهِ التي تتخلَّلُ جسدها، ولكن ألمَ روحها الذي جعلَ قلبها متحجرًا بأنينٍ مكتوم، رفعت عينيها الممتلئتينِ بوجعِ العالم كلِّهِ وهمست بتقطُّع:
-مش عايزاه، خده، في سبيل حريِّتي منَّك، عايز أكتر من كدا إيه؟..
تراجعَ بجسدهِ للخلف، بعدما ألقت قسوةَ كلماتها مرَّةً أخرى ليتيقنَ أنَّها لم تبقَ عليه، رفع عينيهِ الممتلئتينِ بالغضبِ منها ومن نفسه:
-مش عايز أشوف وشِّك في البيت دا، قدَّامك نصِّ ساعة بالظبط، هستنى من بنت واحد حقير ايه، قالها وغادرَ الغرفةَ بخطواتٍ مليئةٍ بالغضب، وكأنَّهُ
يتحرَّكُ فوق تلالٍ من البراكينِ التي أوشكَ على الانفجار..بينما هي دلفت للداخل لتقوم بتبديل ثيابها، وامسكت قلم ودونت بداخل ورقة بتنازلها عن جميع مالها من ممتلكات تدون باسمها، رفعت عيناها تتجول بالغرفة، تجمع كم ذكرياتها، ثم حملت أوراقها فقط وغادرت المنزل وهي تحمل الآم ثقيلة كثقل الجبال ..قابلتها فريدة على الدرج
-ميرال متعمليش كدا حبيبتي
قبلة حنونة بمعاني كثيرة على وجنة فريدة
-دا الصح ياماما فريدة صدقيني، حضرتك تستاهلي تعيشي مع ولادك، وانا كمان استاهل ابعد عن الاتهامات
-مين ياحبيبتي اتهمك
-دمي ياماما، دم راجح بيجري في عروقي، مش عايزة حاجة توجع لو سمحتي، كدا احسن، ومتخافيش على إلياس هينسى مع الوقت، وجوزيه رؤى، هي جميلة وتستاهله، وهو كمان يستاهل يعيش حياة كويسة، مش من حقه يعيش مع بنت اكبر عدو له
قالتها وتحركت تحبس دموعها تحت اهدابها، وكأن القدر استكتر حياتها مع حبيب قلبها، جلست فريدة على الدرج تتابع تحركها بقلب ينتفض ألمًا، وصلت إلى الحديقة تنظر إلى سيارتها ولكنها تحركت إلى الخارج دونها، تابعت الأمن بعيناها، رغم إصرارها ولكنها تمنت أن يمنوعها من الخروج كعادته، ولكن خيب ظنها لتخرج خارج الفيلا وتوقف سيارة تنقلها إلى مصير مجهول
توقفت أمام محل المجوهرات، قلبها يئن بثقل لا يحتمله صدرها، ويديها ترتجفان كأنهما تحملان أكثر مما تطيق. ألقت نظرة على ساعتها، ثم على الأساور التي لطالما زينت معصمها بفخر. أغمضت عينيها للحظة، وكأنها تحاول أن تكتم صرخات قلبها، ثم نزعت أحد الأساور بأنفاس متقطعة ووضعتها على طاولة المحل. همست بصوت بالكاد يُسمع:
عايزة أبيع دول... لو سمحت.
التقط الرجل الأساور بتأنٍ، يتفحصها بعين خبير، ثم رفع بصره إليها. كانت ملامحها، رغم بريقها الباهت، تشي بانتمائها لعالم آخر... عالم الأرستقراطية والترف. لكنه كان يعلم أن الأوقات الصعبة تُسقط حتى العظماء. همس بتردد:
فين فاتورتهم؟
رفعت عينيها إليه بذهول، وكأن السؤال كان طعنة جديدة في كبريائها:
يعني إيه؟
هز رأسه بإشارة تحمل الشفقة أكثر مما تحمل الإجابة، ثم وضع الأساور على الميزان وقال ببرود:
واحد 50ألف، والتاني بـ100 ألف.
شعرت الأرض تتزلزل تحت قدميها، عجزت عن الرد للحظات، قبل أن تتمتم بصوت مرتجف، بالكاد يحمل مزيجًا من الغضب والانكسار:
إيه؟ بس دول أغلى من كده بكتير... دول غاليين أوي!
وضع الرجل الأساور أمامها ببرود، وكأن حديثها لا يعنيه:
والله ده السعر اللي عندي.
غرقت عيناها بالدموع، دموع حارقة تُكابر ألا تسقط، ثم هزت رأسها بالموافقة، وكأنها تعلن هزيمتها في حرب طويلة. دفعت الأساور باتجاهه وقالت بصوت مختنق:
-خلاص... أنا موافقة.
لكن فجأة، اخترق الموقف صوت حازم، يحمل قوة غريبة، صوت أثار ارتعاش قلبها أكثر من أي شيء آخر:
بس أنا مش موافق.
التفتت ببطء، وكأنها تخشى أن ترى صاحب هذا الصوت. كان يقف هناك يحمل في عينيه نظرة غاضبة لكنها مفعمة بحزن دفين. مد يده وأمسك بالأساور بقوة يقلبها، ثم التفت إلى صاحب المحل بنظرة ازدراء قائلًا:
حاجة معدية 500 ألف... عايز تشتريها برخص التراب؟ يا حرامي!
جمدت الكلمات في حلقها، وصاحب المحل لم يجرؤ على الرد. نظرت إليه بعينين امتلأتا بالذهول والدموع، وهمست بصعوبة:
إنت؟
اقترب منها، لم يكن في عينيه غضبها المعتاد، بل شيء أعمق... شيء أشبه بالشفقة الممتزجة بذكريات قديمة. أمسك بيديها ووضع الأساور فيها قائلاً بصوت يحمل نبرة لن تنساها:
مشكلتك مش إنك محتاجة فلوس... مشكلتك إنك بتفرطي في اللي باقي من روحك وكرامتك.
صمت للحظة، تاركًا كلماته تتردد في عقلها، ثم أردف:
لو مضطرة، الدنيا ليها حلول تانية... لكن كده؟ لأ.
تساقطت دموعها أخيرًا، كأنها تعلن استسلامها أمامه
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
حين يُحبُّ الرجلَ بصدق، كأنَّما تُخلقُ له عشرَ عيون، يُصبحُ قلبهِ نهرًا جارفًا من المشاعرِ التي لا تعرفُ حدودًا.،وإذا حاولَ كتمَ هذه المشاعر، يتحوَّلُ جنونها إلى صراعٍ داخلي، كمن يسقي شجرةً ذابلةً في صحراءٍ لا تعرفُ المطرَ يُصارع الفراغ، يبحثُ عن نظرة، همسة، أو حتى شعورًا عابرًا يؤكِّدُ وجودهِ في عالمِ من أحب، لكنَّهُ أحيانًا يعودُ خاسرًا، وقد يكونُ تأخَّرَ كثيرًا.
إنَّ الحبَّ الصادق لايجب أن ينتهي بسببِ لحظةِ ضعفٍ أو سوءَ فهم، والأصعب من ذلك أن يستمرَّ الفراقَ لأنَّ كلَّ طرفٍ يختبئُ خلفَ كبريائه، ينتظرُ الآخرَ ليخطو الخطوةً الأولى، وكأنَّ الحبَّ الذي كان يومًا ملاذًا للأرواحِ أصبح سجنًا تصنعهُ حواجزَ الصمتِ والندم.
فصعبٌ أن تقولَ وداعًا للحب، وأن تجمعَ ما تبقَّى من شظايا قلبك، والأصعبُ أن يختفي الحبُّ فجأة، دون كلمةِ وداع، دون تفسير، وكأنَّكَ استيقظتَ من حلمٍ جميلٍ لتجدَ نفسكَ في ظلامِ الوحدة.. تبقى الذكرياتُ تلاحقك، تتشبَّثُ بك، تتحوَّلُ إلى أشباحٍ تجوبُ لياليكَ بلا رحمة.
هكذا هو الحبُّ أحيانًا؛ نعمة حين يجمعُ الأرواح، ولعنة حين يتركها تائهةً في دروبِ الحنينِ والألم.
وصلَ إلى المشفى وصعدَ إلى غرفتهِ بخطواتٍ تحملُ من الغضبِ ما يكفي لإشعالِ المكان..عند البابِ كانت رانيا تنتظره، وما إن وقعَ نظرها عليه حتى تراجعت منكمشةً كأنَّما رأت شبحًا مخيفًا..
دفعَ البابَ بعنف، ليهتزَّ المكانُ ويستفيقَ راجح مفزوعًا من نومه، صاحَ إلياس بصوتٍ حاد:
"الراجل دا..خلِّيهم ينزِّلوه تحت"
قبلَ أن يُتمَّ المسعفُ ما طُلبَ منه، صاحت رانيا بفزع:
"لاااا"
التفتَ إليها إلياس بعينينٍ تقدحان شررًا كأنَّهما لهبُ جهنم، وصرخَ بصوتٍ كالصاعقة:
"مستعدّ النهاردة أرتكب جريمة، امشي غوري من قدامي بدل ما أنوِّمك مكانه"
قطعَ صوتهِ رنينَ هاتفه، فأخذَ بضعَ خطواتٍ للخلفِ وأجابَ باقتضاب:
"أيوة؟"
"حبيبي، إنتَ فين؟..ميرال مشيت وسابت كلِّ حاجة..حتى عربيتها"
ارتفعَ صوتها وهي تلهثُ كعدَّاءٍ أنهكتهُ الأميال، لكن إلياس تمتمَ ببرودٍ أشبهُ بالجليد:
"براحتها"
صاحت فريدة بغضبٍ مختلطٍ بالدهشة:
"إلياس! إنتَ بتقول إيه؟!عايز مراتك تسيب البيت؟!"
ردَّ بلا مبالاة وهو ينهي المكالمة بحدَّة:
"أنا عندي شغل دلوقتي"
أغلقَ الهاتفَ والتفتَ إلى راجح، الذي حاول عبثًا أن يظهرَ تماسكهِ أمام نظراتهِ الثاقبة، وصلَ المسعفُ ومعه كرسي متحرِّك، فتقدَّمَ لمساعدةِ راجح للجلوس، لكن إلياس دفعَ الكرسي بقدمه وقالَ ببرود:
"خلِّيه يمشي على رجله، لمَّا ينشلّ يبقى نشوفله خشبة نجرُّه بيها"
صرخت رانيا مجدَّدًا، وواجهتهُ بشجاعةٍ متردَّدة:
"إنتَ بتعمل إيه يا ابنِ جمال؟!"
استدارَ إليها بغضبٍ متوحِّش، وكلماتهِ خرجت كخناجر:
"قسَمًا بربِّ العزة، لو شوفتك قدامي بعد دقيقة، لأقَّعدك مكانه..لمِّي الدور وغوري من وشي، وبلاش شغل الرقاصين ده!"
خرجت رانيا تهرولُ كأنَّما تفرُّ من عاصفةٍ هوجاء، بينما عادَ إلياس إلى راجح، وجذبهُ من مكانهِ بعنفٍ ليصرخَ الأخير بألمٍ يمزِّقُ الهدوء:
"آه ظهري"
أشارَ إلياس للمسعف:
"ساعده لحدِّ العربية اللي تحت"
حاولَ راجح أن يظهرَ قوَّتهِ رغمَ ألمه، لكن صوتهِ المرتجفِ خانَ كرامته:
"هندِّمك يا ابنِ جمال، واللهِ لأندِّمك"
لم يلتفت إلياس لحديثه، وإنِّما أخرجَ سيجارةً وأشعلها، ثمَّ نفثَ دخانها بوجههِ ببرودٍ قاتل:
"بحبِّ الندم أوي يا راجح"
اقتربَ منه وهمسَ له بصوتٍ جليدي:
"طلَّقت بنتك ورميتها..أنا مستحيل أرتبط بدمِّ ناس فاسدة زيكم"
ثمَّ أضافَ بابتسامةٍ ساخرة:
"آه، نسيت أقولَّك، إحنا غيَّرنا التحليل للأسف، بنتك طلعت بنتك فعلًا الحاجة الوحيدة الحلوة اللي عملتها في حياتك"
جذبهُ من عنقهِ بقوةٍ وضغطَ على رقبتهِ، حتى تحوَّلَ وجهُ راجح إلى اللونِ الأحمر، ثمَّ تركهُ فجأةً وهو يضيفُ ببرود:
"عشان خاطرِ الليالي اللي عيشتها مع بنتك، هركَّبك العربية دي..بدل ما أركَّبك حاجة تانية"
ظلَّ راجح يلهثُ كأنَّهُ نجا من الموت، بينما أشارَ إلياس إلى العربةِ الكارو المحمَّلةِ بصناديق القمامة:
"ساعده يركب بس من غير هدوم، عايزه بالشورت بس، دا منعًا للاحراج"
كانت أعينُ راجح تكادُ تخرجُ من مكانها من الصدمةِ والمهانة..تمتمَ بصوتٍ مرتعش:
"هندِّمك يا ابنِ السيوفي..واللهِ هندِّمك"..ابتسم بخفة واردف:
-أنا بعمل معاك واجب احمد ربنا هسيبك بالشورت..قالها واتجه إلى سيارته
أشار للرجل أن يتحرك وظل هو متوقفًا بسيارته لبعض الوقت يمسح على وجهه بعنف ..
-اعمل فيكي ايه ياتاعبة قلبي، رفع كفيه يمسدها على خصلاته بقوة كاد أن يقتلعها، ثم رفع هاتفه
-أرسلان !!
-أيوة..ميرال خرجت من الفيلا من غير عربية، حاول تعرف لي راحت فين، بس معاها التليفون
-وإنت ازاي تخليها تمشي !!
-حياتي الشخصية مش للنقاش يابن فريدة، شوف بنت عمك زفت فين؟! .
عند ميرال، لم يكن قرارُ الهروبِ إلى الفندقِ مجرَّدُ نزوة، بل كان استغاثةً صامتة..استقلت سيارة اجرة بعشوائيةٍ وكأنها تحاولُ الهروبَ من شيءٍ يطاردها بلا هوادة، وصلت إلى أحدِ الفنادقِ وحجزت غرفةً عزلتها عن كلِّ ما يؤلمها..كانت الغرفةُ صغيرةً وهادئة، لكنَّها بالنسبةِ لها صارت كعالمٍ جديدٍ خالٍ من الذكريات.
جلست بشرفتها، تتأملُ الأفقَ الرماديَّ كأنَّها تبحثُ عن إجابةٍ أو علامة..رفعت هاتفها واتَّصلت بصديقتها، تحاولُ أن تُسكتَ صوتَ الوحدةِ الذي ينهشُ روحها:
-عاملة ايه حبيبتي
-اجابتها صديقتها بابتسامة:
-كويسة مجتيش ليه!!
زفرت باختتاق تنظر بالخارج قائلة:
-تعبانة شوية، وبفكر انقل من الجرنال دا، كنت عايزة منك تكلميها!!
-ليه بس..! حاضر هحاول اكلمه، بس تنقلي فين!!
"ياريت لو ينفع ينقلني إسكندرية...أنا بحبِّ الجوِّ هناك، بحس إنِّي قادرة أتنفس.."
قاطعتها صديقتها بصوتٍ مفعمٍ بالقلق:
"جوزك هيرفض يا ميرال، بلاش تتهوري..وبعدين متنسيش إنك حامل"
شعرت بوخزةٍ في قلبها عند سماعِ تلك الكلمات، لكنَّها تماسكت..رفعت يدها تفركُ جبينها المثقلِ بالأفكار، ثمَّ همست بصوتٍ شجيٍّ بالكادِ يُسمع:
"لا...معتقدش إنُّه هيرفض...أنا وإلياس انفصلنا"
انفجرت شهقةٌ مذهولةٌ من صديقتها، تبعتها كلماتٍ مرتبكة:
"إنتِ بتقولي إيه؟! إزاي دا حصل؟! وإنتِ فين دلوقتي؟ عند والدتك؟"
ابتلعت ميرال غصَّةً حارقةً وهي تنظرُ إلى السماءِ الملبَّدة، كأنَّها تنتظرُ هطولَ المطر ليغسلَ أوجاعها. أغمضت عينيها وأجابت بصوتٍ مهتز:
"سماح...بعدين مش عايزة أتكلِّم عن دا دلوقتي، المهم هبعتلِك طلب نقل وقدِّميه للأستاذ رشدي وشوفي ردِّ فعله"
"طيب حبيبتي، طمِّنيني عليكي.."
لم تستطع ميرال أن تكمل..دموعها كانت تقفُ خلف حاجزٍ هشٍّ على وشكِ الانهيار..ألقت نظرةً على شاشةِ هاتفها، وقالت بصوتٍ متقطِّع:
"مضطرة أقفل دلوقتي..."
استمعت إلى صوتِ غادة الذي جاءَ مشبعًا بالبكاءِ والعتاب:
"كده يا ميرال..هُنَّا عليكي؟! طيب إحنا ذنبنا إيه؟..مش فكَّرتي في مامتك؟! طيب مش فكَّرتي فيَّا؟! إنتِ زعلانة من إلياس، بس إحنا مالنا؟"
شعرت ميرال أنَّ كلَّ كلمةٍ من غادة كطعنةٍ في قلبها..أغمضت عينيها بقوة، لكنَّها لم تستطع كبحَ دمعةٍ انزلقت على خدِّها، ردَّت بصوتٍ مبحوحٍ يحملُ كلَّ وجعِ العالم:
"غادة... لو بتحبيني، متعمليش كده، أنا وإلياس خلاص مبقاش ينفع نكمِّل..الحياة بينا بقت مستحيلة، علشان خاطري، سبيني براحتي"
صمتت غادة للحظات، ثمَّ سألت بخفوٍت كأنَّها تحاولُ أن تتشبَّثَ بأيِّ خيطِ أمل:
"طيب...إنتِ فين؟"
نظرت ميرال حولَ الغرفة..الجدرانُ الباردة، والوحدةُ القاتلة، جعلتها تشعرُ بأنَّها عالقةً في قفص، لكنَّها أجابت بصوتٍ خافت:
"في فندق...مؤقتاً بس...بلاش تسأليني اسمه، مش هقولك"
توقَّفت لوهلة، ثمَّ أضافت بحزنٍ يشقُّ الصمت:
"لازم أقفل دلوقتي...لازم أنزل أشتري شوية حاجات"
أغلقت الهاتفَ قبل أن تمنحَ نفسها فرصةً للتراجع، احتضنت جسدها كأنَّها تحاولُ حمايةِ نفسها من السقوطِ في هاويةِ الوحدة، شعرت أنَّ الغرفةَ تضيق، وأنَّ الصمتَ يبتلعها...
نهضت من مكانها وفتحت حقيبتها التي جمعت بها بعضَ الأشياءِ المتعلِّقةِ بها، أخرجت جهازها المحمول، ودوَّنت به بعضَ الكلماتِ التي تشعرُ بها، دونَ أن يتطرَّقَ لعقلها فكرةَ وصولِ المنشورِ إليه..
ما أصعبَ الصمتُ حين يختزلُ في داخلهِ بركانًا من المشاعرِ المكبوتة، يتراقصُ على حافَّةِ الانفجار، إنَّهُ ذاك الصمتُ الذي يُثقلُ الروح، ويغمرُ الجسدَ بضغطٍ لا يُحتمل، كأنَّهُ يفتِّتهُ من الداخل..قد يبدو الصمتُ أحيانًا ملاذًا آمنًا من الصخبِ الخارجي، لكنَّهُ قد يتحوَّلُ إلى عبءٍ يُنهكُ النفسَ إذا طال.
فالتعبيرُ عن هذه العواصفِ الداخليةِ ليس ضعفًا، بل هو شجاعةً تهديكَ طريقًا نحوَ التوازن، شارك ما يثقلُ صدرك مع شخصٍ تثقُ به، أو امنح كلماتك مساحتها على الورق، فالكلماتُ أحيانًا تكون البلسمَ الذي ينقذُ الروحَ من الانهيار...أنهت تدوينها ثم ضغط عليها لتشاركها بصفحتها على مواقعها الإلكترونية الخاصة بها
ظلَّت لفترةٍ تعملُ على جهازها على بعضِ المقالات، إلى أن أنهتها، ثمَّ نهضت من مكانها تنظرُ إلى ثيابها وتذكَّرت عدم امتلاكها لأيِّ شيئ، حتى ثيابها تركتها وفرَّت هاربة..
أخرجت بطاقةَ الكريديت كارت وخرجت علَّها تتسوَّقُ بعضَ الأشياء، وصلت لأحدِ المتاجرِ المشهورة، وانتقت بعضَ الثياب، ثمَّ أخرجت بطاقتها للدفع، ولكنَّها توقَّفت تشعرُ ببرودةٍ تتسرَّبُ إلى جسدها حينما أردفت العاملة:
-آسفة ياهانم البطاقة متوقِّفة، أو ممكن مفيهاش فلوس.
هزَّةٌ عنيفةٌ كادت أن تسحبَ أنفاسها، هي لم تجلب معها أيِّ نقود، اعتمدت على راتبها وبطاقتها التي كانت تحتوي بعض النقود.
تراجعت متأسفةً وهي تحملُ غصَّتها، وقلبها الذي ارتجفَ من الألمِ وروحها التي تنكوي بداخلها، لقد أوقفَ وسائلَ حياتها لتخضعَ له، ماهذا الجبروت، لماذا يفعلُ بها هذا، هل هذا هو العشقُ الذي تغنَّى به بأحضانها، تحرَّكت بنزيفِ روحها، وجرحها الغائر، الغائرُ جدًا، لتشعرَ بقسوةِ من أحبَّتهُ ووهبت له قلبها، ظلَّت تتحرَّكُ وفكرها مشوشًا ماذا عليها أن تفعل، وقعت عيناها على إحدى المحلاتِ المشهورةِ بالمجوهرات..
توقَّفت أمامَ المحل، قلبها يئنُّ بثقلٍ لا يحتملهُ صدرها، ويديها ترتجفانِ كأنَّهما تحملانِ أكثر ممَّا تطيقان. ألقت نظرةً على ساعتها، ثمَّ على الأساورِ التي لطالما زيَّنت معصمها بفخر..أغمضت عينيها للحظة، وكأنَّها تحاولُ كتمَ صرخاتِ قلبها التي تتردَّدُ في أعماقها، ثمَّ نزعت الأساورَ بأنفاسٍ متقطِّعةٍ ووضعتها على طاولةِ المحل، همست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
"عايزة أبيع دول...لو سمحت."
التقطَ الرجلَ الأساورَ بتأنٍّ، يتفحَّصها بعينِ خبير، ثمَّ رفعَ بصرهِ إليها..كانت ملامحها رغمَ بريقها الباهت، تشيرُ بانتمائها إلى عالمٍ آخر...عالمِ الأرستقراطية والترف، لكنَّهُ كان يعلمُ أنَّ الأوقاتَ الصعبةِ تُسقطُ حتى العظماء. همسَ بتردُّد:
"فين فاتورتهم؟"
رفعت عينيها إليهِ بذهول، وكأنَّ السؤالَ كان طعنةً جديدةً في كبريائها التي بالكادِ كانت تتحمَّلُ المزيد:
"يعني إيه؟"
هزَّ رأسهِ بإشارةٍ تحملُ الشفقةَ أكثر ممَّا تحملُ الإجابة، ثمَّ وضعَ الأساورَ على الميزانِ وقال ببرود:
واحد بـ50 ألف، والتاني بـ100 ألف.
شعرت الأرضَ تتزلزلُ تحتَ قدميها، عجزت عن الردِّ للحظة، قبلَ أن تتمتمَ بصوتٍ مرتجف، بالكادِ يحملُ مزيجًا من الغضبِ والانكسار:
"إيه!!؟ "بس دول أغلى من كده بكتير...دول غاليين أوي!"
وضع الرجل الأساور أمامها ببرود، وكأن حديثها لا يعنيه:
"واللهِ ده السعر اللي عندي."
غرقت عيناها بالدموع، دموعٌ حارقةٌ حاولت جاهدةً ألَّا تسقط، ثمَّ هزَّت رأسها بالموافقةِ وكأنَّها تعلنُ هزيمتها في معركةٍ طويلة، دفعت الأساورَ باتجاههِ وقالت بصوتٍ مختنق:
"خلاص...أنا موافقة."
لكن فجأة، اخترقَ الموقفَ صوتًا حازمًا، يحملُ قوةً غريبة، صوتًا أثارَ ارتعاشِ قلبها أكثرَ من أيِّ شيءٍ آخر:
"بس أنا مش موافق."
التفتت ببطء، وكأنَّها تخشى رؤيةَ صاحبِ هذا الصوت، كان يقفُ هناك يحملُ في عينيهِ نظرةً غاضبةً لكنها مفعمةٌ بحزنٍ عميق، مدَّ يدهِ وأمسكَ بالأساورِ بقوَّةٍ يقلِّبها، ثمَّ التفتَ إلى صاحبِ المحلِّ بنظرةِ ازدراءٍ قائلًا:
حاجة معدية 500 ألف...عايز تشتريها برخصِ التراب يا حرامي؟!..
جمدت الكلمات في حلقها، وصاحبَ المحلِّ لم يجرؤ على الرد، نظرت إليهِ بعينينٍ امتلأت بالذهولِ والدموع، وهمست بصعوبة:
"إنتَ؟"
اقتربَ منها، لم يكن في عينيه غضبٍ ، بل شيئًا أعمق...شيئًا أشبه بالشفقةِ الممتزجةِ بالعتاب، أمسكَ بيديها ووضعَ الأساورَ فيها قائلًا بصوتٍ يحملُ نبرةً لن تنساها:
-مشكلتك مش إنِّك محتاجة فلوس... مشكلتك إنِّك بتفرَّطي في اللي باقي من روحك وكرامتك يابنت عمي
صمتَ للحظة، تاركًا كلماتهِ تتردَّدُ في عقلها، ثمَّ أردف:
لو مضطرة، الدنيا فيها حلول تانية...لكن كده لأ..
تساقطت دموعها أخيرًا، وكأنَّها تعلنُ استسلامها أمامه، دموعًا ليست مجرد نزيفًا عاطفيًّا، بل شهادة على نهايةِ مرحلةٍ مليئةٍ بالمرارةِ والحزن.
هزته دموعها فتمتم بنبرة هادئة عكس مايشعر به:
-تعالي ياميرال، عيب لمَّا تكوني مرات إلياس السيوفي، وتيجي تبيعي مجوهراتك.
-عايز منِّي إيه ياحضرةِ الظابط، هوَّ اللي قالك تجي لي مش كدا؟..
ابتسمَ أرسلان على غضبها الظاهرِ بعينيها، ثمَّ اقتربَ لتتراجعَ خوفًا منه:
-لا جاي أفرَّحك بيا يابنتِ عمي، شكلك معرفتيش لسة..مش إحنا طلعنا ولاد عم..قالها وهو يضرب كفَّيهِ ببعضهما..
أفلتَ ضحكةً رجولية، ليبتسمَ قائلًا:
-معرفشِ إيه اللي حصل بينك وبين إلياس، بس اللي متأكِّد منُّه أنُّه بيحبِّك.
-عارفة من فترة إنك ابن عمي، رفعت عيناها إليه ثم فكرت لدقائق بعدما علمت أنها الخاسرة بالمعركة أمامه، وايقنت ذلك بعد وصول ارسلان إليها
-أرسلان..عايزة مساعدتك..
طالعها منتظرًا حديثها فأردفت:
-عايزة أنقل شغلي اسكندرية وأخوك هيرفض، إيه رأيك تساعدني..
-ومين قالِّك أنا موافق، تعالي نتمشى شوية ونشرب قهوة ونتكلِّم إيه رأيك؟..اعتبريني ابنِ عمِّك..
-ماهو يابنِ عمِّي، أبويا السبب في اللي أنتوا وصلتوا له.
توقَّفَ يطالعها لفترة:
-إنتِ كنتي عايشة معاه؟..
هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ أردفت:
-لا أنا كنت مع ماما فريدة.
-بس كدا إنتِ جاوبتي نفسك، بلاش أخدك بنظريةِ الطاووس جوزك..
وصلَ إلى أحدِ المقاهي الهادئة، دلفَ إلى الداخلِ تتبعهُ بخطواتٍ متثاقلة، كأنَّها تحملُ أثقالًا على كاهلها في لحظةِ صمت، دوى رنينُ هاتفهِ ليكسرَ الهدوء، رفعَ الهاتفَ ونطقَ بحروفٍ ثقيلة:
"أيوة..."
عيناهُ لم تفارقا ميرال، يراقبُ كلَّ إيماءةٍ تصدرُ منها، كأنَّهُ يبحثُ عن إجاباتٍ داخلَ ملامحها الشاحبة، لماذا وصلَ بهما الوضعُ لهذهِ الحالة، أيُعقل هو السبب، أم أنَّ إلياس أخذها بعقابِ راجح، هزَّ رأسهِ رافضًا وساوسه..استمعَ الى نبرةِ صوتهِ المتلهفة:
"لقيتها يا أرسلان؟" تساءلَ بها إلياس بقلبٍ ينتفضُ بالخوفِ عليها..
حاوطها أرسلان بنظراتهِ للحظات، ثمَّ قرَّبَ الهاتفَ إليها، يشيرُ لها بالرد..تردَّدت للحظة، قبلَ أن ترفعهُ بارتباكٍ وتجيبُ بنبرةٍ مثقلةٍ بالألم، ظنَّت أنَّ المتصلَ هي فريدة:
"أيوة يا ماما..."
تلك الكلمة التي خرجت من شفتيها بعفوية، أصابت قلبهِ كسهمٍ غادر، خانتهُ أنفاسه، وتضاربت دقَّاتُ قلبهِ بعنف، وكأنَّ العالمَ من حولهِ توقَّف، أغلقَ الهاتفَ سريعًا، وكأنَّ صوتها اختطفَ منه كلَّ قدرةٍ على التماسك...وضعَ الهاتفَ على الطاولة، وغمرهُ شعورًا غامرًا من الاشتياقِ واللوعة، ولكنَّ كبريائهِ حطَّمَ تلك الرجفة، أطبقَ على جفنيهِ بقوة، وكتمَ داخلهِ صرخةً أرادَ أن يطلقها...يقسمُ في أعماقهِ أنَّها لو كانت أمامهِ الآن، لاحتضنها حتى يتلاشى الألمُ من عروقها، وذابت بنيرانِ العشقِ الملتهب..
عند ميرال، رفعت حاجبيها باستفهامٍ خافت، وقالت بصوتٍ منكسر:
"دي مش ماما فريدة..؟"
نظرت إلى الهاتف، وعيناها وقعتا على اسمهِ المنقوشِ على الشاشة، توقَّفت لحظة، وارتسمت على وجهها ملامحَ دهشةٍ مؤلمة...أصابعها مرَّت فوق اسمه، وكأنَّهُ محفورٌ بحروفٍ من ذهب تشتعلُ تحت نيرانِ ذكريات الألم ..لم تستطع منعَ دمعةٍ انزلقت بخيانةٍ تحرقُ وجنتها، لكنَّها سرعانَ ما أبعدت يدها وكأنَّها تخشى الضعفَ والاشتياق..
حمحمَ أرسلان ليكسرَ الصمتَ الحارق، ألقت إليه الهاتفَ بعصبيةٍ مكتومة، وسحبت بصرها مبتعدة، تنظرُ حولها بعشوائيةٍ وكأنها تبحثُ عن شيءٍ يخلِّصها من دوامةِ مشاعرها.
"شوفي... من كام ساعة وبتعملوا في بعضِ كده؟ هوَّ هناك هيتجنِّن عليكي، وإنتِ هنا نفسك تطيري لعنده..طيب ليه الفراق؟"
رفعت وجهها إليه، وعيناها غارقتانِ في الدموع، وملامحها تحملُ خليطًا من الوجعِ والحزن:
"هتنسوا إنِّي بنتِ راجح، يا أرسلان؟ بنتِ الراجل اللي دمَّر حياتكم"
ردَّ عليها بصوتٍ عميقٍ هادئ، لكنَّهُ محمَّلًا بالحنانِ المغلَّفِ بالحزم:
"وإنتِ مالك؟ هو إنتِ كنتِ متفقة معاه؟ ولَّا خايفة عليه؟"
"لا ده ولا ده...بس أنا هفضل في نظرِ الكلّ بنتِ المجرم"
تنهَّدَ أرسلان، وصوتهِ هذه المرة كان يحملُ دفئًا غيرَ متوقع:
"حدِّ اختار أهله يا ميرال؟ وبعدين اللي عرفته إنِّ مدام فريدة هي اللي ربتك، حتى اسمك، مش مرتبط بيه"
وصلَ النادلُ يحملُ المشروبات، فوضعها على الطاولة، وكأنَّ صوتهِ أعطى فرصةً لها أن تستعيدَ تنفسها..
طالعها بعينينٍ ثاقبتين، وتابعَ ملامحها وهي تغرقُ أكثر في أعماقِ دوامةِ آلامها..رفعت عينيها المرتجفة:
"خلينا بعيد عن بعض أحسن" قالتها بنبرةٍ ضعيفة..
هزَّ رأسهِ بإيجاب، لكنهُ غير مقتنع:
"تمام... حقِّك تبعدي وتفكَّري بس بشروطي"
رفعت عينيها إليه مترقبة، وكأنَّها تعرفُ أنَّ كلَّ كلمةٍ ستأتي منه ستكونُ نقطةُ تحول..اقتربَ بجسدهِ من الطاولة، وعيناهُ تلتقيانِ بعينيها مباشرة:
"اعتبريني أخوكي الكبير...وعد منِّي، مش هفرض رأيي عليكي، بس نصيحة، بلاش تبعدي عن جوزك لأنِّك هتقعي..وأنا متأكِّد هتقعي"
قالت بنبرةٍ مريرة، أقربُ للبكاء:
"أنا معرفكش، بس مفيش قدَّامي غير إنِّي أسمع كلامك"
ابتسمَ ابتسامةً خافتة، ثم قال:
"تمام بس هتقعدي في مكان خاص بيَّا"
فتحت فمها لتعترض، لكنَّهُ رفعَ يده، يطالبها بالصمت:
"مكمِّلتش كلامي..هتقعدي تحتِ حمايتي، ومفيش نقلِ شغل انسي، لأن مهما عملنا، إلياس هيرفض وحقه"
نظرَ إلى بطنها التي بدأت ملامحُ الحملِ تظهرُ عليها، ثمَّ أكملَ بهدوءٍ يشوبهُ الحنان:
"عيشي زي ما إنتِ عايزة، بس تحتِ عيني ووعد...محدش هيقرَّب منِّك"
"وإلياس هيوافق؟"
نهضَ من مكانه، يرتدي نظارته، ثمَّ قالَ بنبرةٍ واثقة:
"لمَّا أرسلان الجارحي يوعد..بيوفي"
تراجعت خطوتين، وجسدها يترنَّحُ كأنَّ الألمَ كاد يهزمها..مدَّ يدهِ يمسكُ ذراعها قبل أن تسقط...رفعت عينيها إليه، نظرةٌ واحدةٌ كانت كافيةً لتبوحَ بكلِّ ما كتمتهُ داخلها..هزَّت رأسها بابتعاد، وهمست بصوتٍ خافت:
"شكرًا..."
أشارَ إليها بالتحرُّك، وتحرَّكت بخطواتٍ مثقلةٍ إلى الخارج...فتحَ سيارتهِ وأشار لها:
- هنعدِّي على الفندق، تاخدي حاجاتك وبعد كده هنعدِّي على الشقة.
تردَّدت للحظة، لكنَّهُ حسمَ الأمرَ بنبرةٍ صارمة:
"معنديش وقت على فكرة.."
بعد فترةٍ قصيرة، توقَّفت السيارةُ أمام حيٍّ راقٍ يلفُّهُ الهدوءَ والأناقة..ترجَّلَ أرسلان من السيارةٍ بخطواتٍ واثقة، أشارَ إلى المنزلِ أمامهما قائلاً:
"دا بيتي"
رفعت ميرال عينيها، تحدِّقُ في اللافتةِ التي يتصدَّرها اسمه..كان مكتوبًا بخطٍّ واضحٍ وقوي، وكأنَّهُ يريدُ أن يثبتَ حضورهِ في كلِّ مكانٍ يمرُّ به، لم تتمكَّن من إخفاءِ ارتجافةٍ خفيفةٍ في نظرتها، قبل أن يتابعَ حديثهِ بنبرةٍ هادئة:
"غرام فوق، هتقعدي معاها شوية لحدِّ ما أظبَّط لك الشقة"
تردَّدت لوهلةٍ قبل أن تقولَ بصوتٍ يحملُ مغزىً مخفيًّا:
"الشقة دي بعيدة؟"
ابتسمَ أرسلان، تلك الابتسامةِ التي تحملُ مزيجًا من السخريةِ والحنكة:
"لا، مش بعيدة متخافيش، الشقة بتاعتي، مش بتاعته وعيب تختبري ذكائي، تمام أيتها الصحفية؟"
رغمًا عنها، أفلتت ابتسامةً صغيرةً من شفتيها، ثمَّ تحرَّكت بجواره، تسيرُ بخطواتٍ متردِّدة توقَّفت فجأة، وقالت برجاءٍ خافت:
"أنا بعتِّ طلب نقلي اسكندرية، وطبعًا إنتَ أكَّدت أنُّه هيرفض، فأنا هنقل من الجريدة دي مش عايزة مكان لإلياس له يدِّ فيه"
رفعَ حاجبهِ بدهشةٍ مصطنعة، وردَّ بنبرةٍ مشحونةٍ بالسخرية:
"ياااه، دا إنتِ بتكرهيه بدرجة لا توصف!"
توقَّفت مكانها، وقالت بصوتٍ يخنقهُ الحزن:
"مش كره على قدِّ ما عايزة أعتمد على نفسي...بعيدًا عن سلطته"
استدارَ أرسلان نحوها، ونظراتهِ أصبحت أكثرُ جدية، وكلماتهِ خرجت كأنَّها إنذار:
"وتفتكري مش هيعرف يوصل؟ إنتِ حامل في ابنه..ياريت متنسيش الحتة دي، وقبلِ دا كلُّه، إنتِ بنتِ عمُّه"
ابتلعت ميرال الكلمات التي احتشدت في حلقها، وسارت بخطواتٍ مثقلةٍ نحو الباب..لم يكن جسدها فقط من يحملُ ثقلَ الألم، بل روحها أيضًا..توقَّفت أمام الباب، تهمسُ بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
"هكون طليقته وبس، أنا مش بنتِ الراجل دا..مفيش علاقة تربطني بيه ولا عايزة أعترف بيه، أنتو اعترفوا براحتكم ومش هيربطني بيكم غير الولد اللي في بطني"
قالتها وكأنَّها تحاولُ أن تمنعَ ارتعاشةِ جسدها..لكنَّها لم تستطع منع تلك النبرةِ الموجوعةِ من أن تتسرَّبَ إلى مسامعه.
كان خلفها، يراقبُ كلَّ خطوةٍ وكلَّ كلمةٍ لم يرد عليها وسارَ بصمت، لكنَّهُ كان يعلمُ أنَّ خلفَ حديثها المكسور تحملُ داخلها قوةً دفينة، رغم كلِّ الجروح، ليهمس لنفسه
"شكلنا هندفع كتير على الماضي يابنت عمي، وللأسف اكتر حد هيدفعه إنتِ وإلياس، ياترى ايه اللي حصل وصلك لكدا"؟!
في منزلِ يزن، كان الهدوءُ يغلِّفُ المكان، إلَّا من صوتِ أوراقِ الكتبِ التي تقلِّبها إيمان..بينما يحاولُ يزن إنهاءَ درسها، أطفأَ صوتَ قلبهِ الذي يضجُّ بالأشتياق، وهو ينظرُ إليها بعيني أخٍ يكتمُ قلقهِ خلف قناعِ الصبر.
بعد أن انتهى من تدريسها، اتَّجهَ نحو غرفتهِ بخطواتٍ مثقلة...استوقفتهُ إيمان بنبرةٍ مترددِّة:
"يزن، مش هتروح لرحيل؟"
توقَّفَ في مكانه، وكأنَّ كلماتها طعنت شيئًا عميقًا داخله، هزَّ رأسهِ نفيًا، ثمَّ أشارَ بعينيهِ إلى كتبها، محاولًا التظاهرَ بالقوة:
"ذاكري يا حبيبتي متفكريش غير في مستقبلك وبس...يومين كدا وأروح لها."
رأى التردُّدَ والقلقَ في عينيها وهي تنهضُ من مكانها لتقتربَ منه، صدى مشاعرها وصلَ إليه رغمَ صمتها:
"يزن...هوَّ أنتوا هتسيبوا بعض فعلًا؟"
كانت كلماتها مثلَ جرحٍ ينفتحُ من جديد، أمسكَ بسجائرهِ ومفتاحَ دراجته محاولًا أن يشغلَ يديهِ بما قد يصرفُ تفكيره..لم يكن لديهِ إجابة شافية فحاولَ التهرُّب:
"هروح أشوف كريم وإنتِ...ركِّزي في أوَّل درسين في الفيزياء، مفيش وقت للِّعب والهزار ولو رحيل كلِّمتك، قولي لها أنا برة"
اقتربَ منها أكثر، وكأنَّ بحنانهِ كان يحاولُ أن يطمئنها رغم القلقَ الذي ينهشُ قلبه، طبعَ قبلةً على جبينها وربتَ على كتفها:
"اهتمِّي بمذاكرتك، إيمان..كلِّ حاجة هتتحل"
قالها وهو يغادرُ بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّما يهربُ من ثقلِ الحقيقة.
وصلَ بعد قليلٍ إلى عيادةِ صديقهِ كريم.. انتظره بصمت، يراقبُ الساعةَ وكأنَّ الوقتَ يعاندُ افكاره، خرجَ كريم أخيرًا من مكتبه، وارتسمت على وجههِ الدهشة حين رآه:
"ليه مقولتليش يا بني؟!"
نهضَ يزن من مكانه، ابتسامةًً باهتةً ترسمُ وجعه:
"استنيتك لمَّا تخلص..لو فاضي، نقعد شوية قبلِ ما تروح، أنا محتاج أفهم منَّك أكتر في موضوع إلياس السيوفي..كنت عايز اسألك، لكن بعد موتِ مالك، الأمور اتلخبطت"
خلعَ كريم معطفهِ الطبي بتعب، ونادى على الممرضة:
"لمِّي الحاجات واقفلي، أنا ماشي..لو احتجتي حاجة، كلِّمي البواب"
تحرَّكَ كريم معه، وكأنَّ الحزنَ الذي يثقلُ أكتافَ يزن صارَ يشاركهما الطريق.
في المقهى، جلسا بصمتٍ لدقائق، كان صوتُ ارتطامِ الملاعقِ بالأكوابِ هو الوحيدُ المسموع، أخيرًا كسرَ كريم الصمت، وهو يديرُ كوبهِ ببطء:
"رحيل...عاملة إيه؟"
ردَّ يزن بنبرةٍ هادئةٍ تخفي عاصفةً الحب في داخله:
"كويسة، امبارح خرجت من أوضتها، والنهاردة نزلت الشغل"
هزَّ كريم رأسهِ بتفهُّم، لكنَّ عينيهِ كانتا تبحثانِ عن شيءٍ آخر..سأل بتمعُّن:
"وراجح؟"
تنهَّدَ يزن بعمق، وكأنَّ الإجابةَ كانت عالقةً في صدره:
"مالوش ظهور..معرفشِ مختفي فين،
القسم الثاني من الفصل السابع والعشرون
بمكتب إلياس
ارتفعت ضحكاتُ إلياس وهو يراهُ بتلك الحالة، نظرَ شريف إلى الشاشةِ يهزُّ رأسهِ بفرحة:
-ضربتها يامعلم، بس قولِّي إيه الفايدة من كدا، وإيه الِّلي بينك وبين الراجل دا؟..
نفثَ تبغهِ وابتسامةُ انتصارٍ على وجهه، يشيرُ إلى شريف:
-ادخل بالضربة التانية، مش عايزه يقوم منها، ياله عندي شغل..
استندَ شريف على المكتبِ ينظرُ إليه:
-ماتقولِّي يابحر وتفهمِّني، مش يمكن أتعلِّم منَّك..
اعتدلَ مقتربًا منه:
-البحر عميق يابني، عايز سبَّاح ماهر علشان مايغرقش..مش كلِّ الِّلي بيعرف يعوم يوصل الشطّ ياحبيبي، ياله على شغلك..قطعَ حديثهما رنينَ هاتفه، رفعهُ لترتفعَ ضحكاتهِ مرَّةً أخرى:
-كنت عارف إنَّك هتتِّصل.
-إنتَ ورا الِّلي حصل؟..
نصبَ قامتهِ وتوقَّفَ إلى النافذة ينظرُ إلى مرورِ المارَّة، ينفثُ تبغهِ بتمهُّل كالفائزِ بجائزتهِ وأجابه:
-ولسة، دا أوَّل مسمار.
-ليه، تساءلَ بها أرسلان..
-متقدِّم لمجلسِ الشعب، ودا لو نجح وعارف هينجح من الناسِ اللي وراه، مكناش هنقدر عليه، فكان لازم أوقَّعه قبلِ مايفكَّر هيعمل إيه وكمان عايز أبعده عن مجتمعه، بدل مايؤمروا بقتلنا ويصفُّونا لأ يبعدوه عنهم، علشان مانحاربشِ في كذا جهة، لو راجح فضل تبع الناس دي مش هنقدر عليه ياأرسلان، مش علشان إحنا ضعفا، لا، علشان إنتَ مش عارف بتحارب مين، عدوُّك مش واضح، فهمتني، علشان كدا لازم نحسب كلِّ خطوة، إحنا دلوقتي هنقعد ونتفرَّج هيعملوا فيه إيه، من جهة مش هيقدروا يموِّتوه، علشان هوَّ ماسك عليهم أنفاسهم، متنساش دا كان ظابط..
تنهيدةٌ عميقةٌ أخرجها أرسلان قائلًا:
-أنا مش عارف أفكَّر أصلًا، دماغي فيها مليون حاجة..
تذكَّرَ أمرَ والدهِ فسأله: نسيت أسألك لسة باباك في غيبوبة؟..
أجابهُ بنبرةٍ حزينة:
-لسة للأسف، ومرعوب من فكرة فقده دي، أصلك متعرفوش دا أحنِّ راجل في الدنيا، ميغركشِ صورُه ومقالاته اللي بينزلِّها، بس قلبه كبير أوي ياإلياس، أنا بجد لو حصلُّه حاجة مش عارف هعيش إزاي من غيره..
-لا إن شاءالله، هيقوم بالسلامة، هيَّ العملية كانت كبيرة، تعرف احنا ولاد حلال على رأي مدام فريدة
-هو إيه موضوع مدام فريدة دا يابني، يعني حتى بعد ماعرفت أنها والدتك..صمتَ للحظاتٍ ليشتت تفكيره ثمَّ تساءل:
-ميرال عملت معاها إيه؟..
-في بيتي مع غرام.
-ليه بقى أخدتها هناك، مش قولت لك ودِّيها الشقة.
تراجعَ بجسدهِ على المقعدِ وذهبَ ببصرهِ لوقوفِ إسحاق أمامَ النافذةِ وأجابه:
-مراتك ذكية وفهمت كنت هودِّيها شقِّتك، علشان كدا وعدتها.
-نعم ياأخويا، إنتَ بتقول إيه؟..يعني تقعد عندك بصفتها إيه، ليه جوزها مش قادر يعيِّشها..قالها مزمجرًا، ثمَّ تابعَ حديثهِ بنبرةٍ قوية:
-تقعد في الشقة اللي قولت لك عليها، يا في البيت ياأمَّا هقلب لها وشِّ عمرها ماشافته.
-خلَّصتِ كلامك، يعني مثلًا لمَّا تقولَّها كدا، هترضى، يابني دي خرجت على أساس انفصلتوا، يعني مفيش حاجة تربطكم.. وأنا وعدتها هساعدها
-أرسلان فوق واعرف بتتكلِّم مع مين، آخر كلام الِّلي سمعته، غير كدا ترجع البيت ياأمَّا وحياة حبِّي ليها لأكرَّهها نفسها، متنساش إنَّها حامل في ابني..
-لا واللهِ طيب لمَّا إنتَ بتحبَّها وهتموت كدا، إزاي خلِّيتها تخرج من بيتك وهيَّ بالشكلِ دا، أنا الصراحة مش عارف أقولَّك إيه، البنتِ صعبت عليَّا، عايزة اللي يحسِّسها بالأمان مش اللي يدوس..
-خلَّصت كلامك، اسمعني علشان دا آخر حاجة هتسمعها منِّي في الموضوع دا، طول ماهيَّ لسة على اسمي ممنوع تخرج برَّة طوعي، وعلى ماأظن دينها بيقولَّها كدا..
-بتحبَّها؟..تساءلَ بها أرسلان بهدوء.
-مالكشِ دعوة، ومش معنى طلبت إنَّك توصلَّها يبقى أنا عاجز، أنا بس عايز أعرَّفها حدودها..
-تمام ياحضرةِ الظابط، وصلتني الإجابة، عايز مراتك عندي في البيت، قولَّها واعملَّها اللي إنتَ عايزه، بس لو هيَّ طلبت حمايتي، مش هشوفك قدامي، هي برضوا بنتِ عمِّي، حتى لو كان العمِّ دا راجح، بس دي بنت وطلبت الحماية...قالها أرسلان وأغلقَ الهاتف.
دقيقةٌ واحدةٌ محاولًا بها السيطرةَ على أعصابه، فلقد أثارَ حديثهِ جنونه، ليتحوَّلَ غضبهِ إلى عاصفةٍ جنونية، أشعلت فتيلَ الشياطينَ أمامه، ليتحرَّكَ بخطواتٍ ناريةٍ وكأنَّهُ يضغطُ على بنزينٍ يزيدُ اشتعالَ جسدهِ بالكامل..
رفع أرسلان هاتفه
-إلياس رافض تقعدي عندي، لو عايزة اقف له أنا مستعد
-لأ خلاص، أنا هتصرف، وشكرًا لمساعدتك
تنهد بعمق ثم أردف:
-ميرال إلياس بيحبك اوي صدقيني، ممكن يكون غلط، بلاش تمشي ورا شيطانك
-شكرًا ارسلان، هفكر وارد عليك
وصلَ بعد فترةٍ وظلَّ بالسيارةِ لبعضِ الدقائقِ ثمَّ رفعَ هاتفه:
-أنا قدَّام بيت أرسلان، دقيقة وألاقيكي بدل ماأطلع أجيبك.
نهضت من مكانها معتذرةً لغرام:
-شكل أرسلان مقدرشِ عليه فعلًا، هنزلُّه علشان عارفة أنُّه مش هيسكت.
احتوت غرام يديها:
-حبيبتي أهمِّ حاجة متزعليش، وبدل جه صدَّقيني بيحبِّك وباقي عليكي..
ابتسمت بحزن، وعيونٍ لامعةٍ بالدموع:
-عارفة أنُّه بيحبِّني، ياريته يكرهني..قالتها وخطت إلى الخارج، بخطواتٍ هزيلة، وصلت إلى سيارتهِ وصعدت بجوارهِ دون حديث..
-إزاي تخرجي بالطريقةِ دي؟..
رفعت عينيها الجريحتين، وخرجَ صوتها كالخطوطِ المتعرِّجةِ بهمس:
-خوفت النصِّ ساعة يعدُّو، وترميني برَّة..لحظاتٍ مميتةٍ ليستوعبَ مااخترقته أذنهِ من حديثها..
قبضةٌ مميتةٌ قيَّدت جسدهِ حتى جعلتهُ كالمسحور، فارتفعت أنفاسه حتى شعرَ بالأشواكِ تجرحُ رئتيه، منذ متى وهي تظنُّهُ بتلك القسوة، هل هو من قسى أم هي؟..
استدارَ ينظرُ من نافذةِ السيارةِ بعد فتحها بالكامل، حينما شعرَ وكأنَّ العالمَ يطبقُ فوق صدرهِ من كلماتها المميتة، صمتًا مريرًا لدقائقَ بالسيارةِ وهو عاجزًا عن التفوُّه، ثمَّ قالَ بصوتٍ أجش هادئ يحملُ في طياتهِ العقلانية:
-أنا موافق على اللي إنتِ عايزاه، بس برضو متنسيش إنِّك حامل ومينفعشِ تكوني بعيدة، عندك البيت، وكمان فيه شقة ممكن تستقرِّي فيها، ومش هحاول أضايقك، وبعد ماتولدي هعملِّك اللي إنتِ عايزاه.
نكست رأسها للأسفلِ بوجعِ العالم، تحاولُ ألَّا تضعفَ أمامهِ وتخونها دموعها..ظلَّت صامتة..جامدة
بجسدها تمنعُ أشباحَ الانهيارِ أمامه..
-ميرال...أغمضت عينيها بعد رعشةٍ أصابت جسدها من صوتهِ الخافتِ الذي هزَّها بقوة..
رفعَ ذقنها برفقٍ بعدما شعرَ بالقلقِ من حالتها.
رفرفت أهدابها تمنعُ النظرَ إلى عينيهِ حتى لا تهوي مرَّةً أخرى في لجَّةِ عشقه..
كرَّرَ اسمها بنفسِ نبرتهِ الرجولية،
فخرج صوتها شاحبًا، يحملُ انكسارَ روحها الذي جنتهُ يداه:
-حاضر ياإلياس، هعمل اللي إنتَ عايزه، بس عايزة أكمِّل شغلي، عايزة حياتي أبنيها أنا بنفسي، أتمنَّى تحترم خصوصياتي..
-وابنك ضمن خصوصياتك دي، يعني لسة مصرَّة على إنِّك تتنازلي عنُّه؟..
دموعًا حارقةً ممزوجةً بحروفِ الألمِ والانهيارِ الذي تشعر به لتهزَّ رأسها بالنفي:
-لا..ابني ليا، ممكن أكون قولتها وقتِ غضب أو ضيق منَّك، بس مستحيل أتنازل عنُّه، انسى أيِّ كلمة قولتها..قالتها واستدارت تنظرُ من النافذة..
لم يستطع كبحَ مشاعره في تلك اللحظة..
بالمشفى:
كان يجلسُ بجوارِ فراشِ أخيه، يحتضنُ كفَّيهِ يحادثه:
-فاروق هتفضل لحدِّ إمتى، أوعى تسيب إسحاق، أخوك في دوامة، فوق علشان أقولَّك أحلام عملت إيه، وإيه اللي وصَّلني أكون معاها كدا، دمعةٌ تسلَّلت على وجنتيهِ ليزيلها سريعًا، ثمَّ رفعَ كفَّ أخيهِ يقبِّله:
-فاروق أنا من غيرك بضيع، أوعى تفكَّر أخوك قوي، قوِّتي فيك، علشان خاطري لازم تفوق..ابتسامةٌ من بينِ أحزانهِ مردفًا:
-أرسلان مش هيسيبنا وأنا اتكلِّمت معاه، وهوَّ وعدني..ذهبَ بذاكرتهِ لقبلِ يوم ..
جلسَ إسحاق بجوارِ أرسلان متسائلًا:
-رحتِ بيتِ السيوفي؟..
أومأ برأسه، ثمَّ رفعَ عينيهِ على صفية فنهضَ من مكانه:
-هشوف ماما، لازم تروح ترتاح، كدا ممكن توقع من طولها..نصبَ قامتهِ وتوقَّفَ بمقابلته:
-لسة زعلان مني؟!
-إحنا لسة متحاسبناش ياسيادةِ العقيد.
أطبقَ إسحاق على كتفهِ واقتربَ يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-اسمعني علشان مجبشِ أخري منَّك، الدنيا كلَّها فوق دماغي، إنتَ ابنِ الجارحي، غصب عن أيِّ مخلوق، غصبِ عنَّك إنتَ كمان، فياريت تعقل لأنِّي مش هسمح إنَّك تبعد عن حضني، اقتربَ خطوةً أخرى واستأنفَ بنبرتهِ المزعجة كما ظنَّها أرسلان:
-أنا اللي ربيت يابنِ فاروق، وأنا اللي كبَّرت وعلِّمت، يعني من الآخر كدا أنفاسك دي مش ملكك دي ملكي أنا، فياريت متتهورش، ممنوع يابنِ فاروق الصحافة تشمِّ خبر، أو تكلِّم نفسك وتقنعها إنَّك مش ابننا، كفاية أبوك اللي بين الحيا والموت، بصِّ على أمَّك وأختك وخدهم في حضنك..
ابتعدَ أرسلان وابتسمَ بمرارةِ مايشعرُ به:
-أختك، هوَّ حضرتك نسيت فاروق باشا قال إيه؟..
طالعهُ بعينيهِ الصقريةِ وهتفَ يوبِّخه:
-مايقول، ماهو طول عمره بيقول، من إمتى وإحنا بنسمع كلامه، إنتَ هتستعبط على إسحاق يالا، دا إنتَ محدش يقدر يقولَّك تعمل إيه، كلمتين قالهم وهوَّ خايف يموت ويسيب بنته، وأنا عارف قال كدا ليه، بس مش معنى قال كدا هتنفِّذ، كنت نفِّذتِ القديم ياخويا، مش تلعب على إسحاق علشان ممكن أغرَّقك يابنِ فاروق..قاطعَ حديثهم رنينَ هاتفه:
-أرسلان غرام كانت عندنا ووصَّلتها، هيَّ مارضيتشِ تقول مالها، بس ياريت تشوفها علشان صعبانة عليَّا..
-تمام يازياد، سلملي على باباك..قالها واستدارَ قائلًا:
-هروح أشوف مراتي اللي حضراتكم ناويين تكسروها.
-أيوة إجري ياحنيِّن، وحياة أبوك اللي جوا دا ممكن أقولَّها كلمتين أخلِّيها تخلعك من الصبح.
خرجَ من شرودهِ بعدما ربتت صفية على ظهره:
-قاعد كدا ليه ياحبيبي؟..رفعَ عينيهِ إليها ثمَّ نهض:
-هروح أشوف دينا شوية، رجعتِ البيت من يومين ومشفتهاش وبتَّصل مابتردش..
أومأت متفهِّمة، تحرَّكت متَّجهةً إلى أرسلان الذي يجلسُ بجوارِ ملك، توقفت بعدما استمتعت إلى حديثه، وخلفها كانت تقف مثلها غرام
-ملوكة عايز أتكلِّم معاكي في حاجة حبيبتي..نكست رأسها مبتعدةً عن نظراتهِ لتهمسَ بخفوت:
-سمعاك ياأبيه.
رفعَ ذقنها ونظرَ لداخلِ مقلتيها، وابتسمَ بحنانٍ أخوي:
-أيوة دا اللي أنا عايزه، أبيه، أنا دايمًا هكون أرسلان أخو ملاكه، اللي لو طلبت حياته مستحيل يتأخَّر عليها.
انسابت عبراتها تهزُّ رأسها وابتسمت:
-أيوة أنا عايزة كدا، عايزة أبيه أرسلان حبيبي اللي أقدر أنام في حضنه من غير خوف، عايزة أخويا، مش عايزة كلام بابا دا، أنا مستحيل أشوفك غير إنَّك أخويا حبيبي..
ارتجفَ جسدهِ لحديثها، فجذبها لأحضانه:
-وعد هفضل أخوكي اللي يحميكي حتى من نفسه، ملاكي حبيب قلبي إنتي..
حاوطت عنقهِ وارتفعت شهقاتها:
-أنا بحبَّك أوي ياأبيه أرسلان، أوعى تسيبنا، لو فكَّرت تبعد عنِّنا هشكيك لربنا.
كانت تقفُ على بعدِ خطوةٍ لتستمعَ إلى حديثهما، بكت بصمتٍ متراجعةً إلى غرفةِ زوجها، بينما تحرَّكت غرام بهدوءٍ وغادرت المكانَ دونَ حديث.
بسيارةِ إسحاق:
استمعَ إلى رنينِ هاتفه، رفعهُ بعدما وجدَ اسمها يُنقشُ فوق الشاشة:
-كنتي فين؟..اتَّصلت بيكي، إزاي تخرجي من غير ما تقوليلي؟..
استمعَ إلى بكائها وصرخاتها:
-الشقة ولَّعت ياإسحاق وابننا جوا..توقَّفَ فجأةً بالسيارةِ حتى كادت أن تنقلب، فاصطدمَ جسدهِ للأمام، لحظات بل دقائق وهو يستعيدُ وعيه، ارتجفَ جسدهِ بعدما تذكَّرَ حديثها، بحثَ عن الهاتفِ الذي سقطَ من يدهِ ولكنَّهُ لم يراه، فأسرعَ بسيارتهِ كالعاصفةِ الهوجاء، ليصلَ بعد دقائقَ معدودة، ترجَّلَ من السيارةِ بساقينِ مرتعشتينِ وهو يرى اللهيبَ الخارجَ من الشرفة، من يراهُ يقسمُ أنَّ كلَّ ما بداخلها أصبحَ رمادًا، هرولَ للداخل، وتمنَّى أن ينقذَ ابنه، ولكن منعهُ رجالُ الإطفاء، صرخَ يدفعهم وهو يشيرُ إلى منزله، وقعت عيناهُ على زوجتهِ التي تجلسُ بجسدٍ مرتجفٍ بأحدِ الأركان، وصلَ إليها بخطوةٍ واحدة، يجذبها بعنف:
-ابني فين ياحيوانة، دي الأمانة اللي أمِّنتك عليها، بكت بشهقاتٍ مرتفعةٍ تهزُّ رأسها رافضةً حديثه:
-معرفشِ إيه اللي حصل، أنا عايزة ابني ياإسحاق..هوت على الأرضيةِ تبكي وتصرخُ باسمِ ابنها كالمجنونة:
-أنا عايزة ابني، هاتلي ابني..
وصلَ أحدُ رجالِ الإطفاء، وهو يحملُ جثَّةَ طفلٍ متفحمة، يشيرُ للجميعِ بالبعد، ليستقبلهُ أحدُ الأطباء، نظرةٌ سقطت على جسدِ الطفل، ليهزَّ الطبيبُ رأسهِ بأسى:
"البقاء لله"..هنا شعرَ وكأنَّ أحدهم سكبَ عليهِ دلوًا من الماءِ المثلجِ ليرتجفَ جسدهِ بالكاملِ وهو يمدُّ يدهِ يلمسُ جسدَ ابنهِ الذي فقدَ ملامحه، انسابت دموعهِ بقهر، متراجعًا للخلفِ وكأنَّ أنفاسهِ سُحبت بالكامل، بينما دينا التي سقطت فاقدةً الوعي..
وصلَ أرسلان بعد سماعهِ الخبر، ركضَ من سيارتهِ إلى إسحاق، توقَّفَ ينظرُ في وجوهِ الجميعِ الذين تبدو الشفقةَ بأعينهم على إسحاق، اقتربَ منه:
-عمُّو إيه اللي حصل؟..لم يعد يستمع لشيء، سوى صرخاتِ ابنهِ التي تصمُّ أذنيه.
مرَّت الأيامُ سريعًا، بل الأسابيعُ والحالُ كما هو بين أبطالنا..
بأحد الشقق الراقية فتحت عيناها تنظر حولها تهمس باسم عشيقها، ولكن هبت فجأة من مكانها وهي تراه يجلس أمامها بشخصيته القوية، جذبت الغطاء على جسدها، ونظراتها تحوم المكان برعب
-"اهلًا يامدام رانيا "
ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت الحديث
-إنت ازاي تدخل شقتي وكمان اوضة نومي اتجننت..نصب قامته بتكبر، ثم أشار إلى الكاميرا المعلقة بأحد اركان الغرفة
-أنا ماشي، واستني مني تليفون يازيالة، علشان اقولك عايز ايه
-صرخت باسمه كالمجنونة
-إلياس لو سمحت بلاش تعمل فيا كدا، أنا مهما كان مرات عمك
أنحنى يطبق على شعرها حتى شعرت باقتلاعها بيديه
-مرات عمي مين ياحيوانة، دا لو طايل اغير دمي هغيره، بصق بوجهها ثم اعتدل
-استني مني تليفون، يااما الجمال دا هينور الصحافة، واهي الستات تتعلم من الخبرة ..قالها وتحرك للخارج يشير للرجل
-خدو الحيوان دا علشان عايزه، وبعد خروج الست شمعوا الشقة
عند راجح
حاول الاتصال بها عديد من المرات، ثم رفع هاتفه لأحد الأشخاص
-المرة اللي فاتت غلطي معايا، بس المرة دي لو غلطي هدفنك حية، روحي نفذي المطلوب، عايز بالليل الاقي البنت عندي تطلب السماح، وقتها بس مكافأة مكنتيش تحلمي بيها، غير طبعا مبروووك عليكي عريس الغفلة
بفيلا السيوفي
جلست بجواره ترتشف قهوتها ثم تحدثت
-لازم اجمع رؤى وميرال ويزن يامصطفى، لازم يعرفوا انهم اخوات
اومأ لها ثم أردف
-كلمتي ميرال، هي عاملة ايه دلوقتي
ابتسمت بفخر واجابته
-ماشاء الله عليها، طبعًا متابع اخبارها، ومقالاتها اللي مكسرة الدنيا، والله خايفة عليها حبيبتي، مكنتش اتوقع تنجح في الوقت دا
-بالعكس الواحد لما يحس أنه بيخسر، بيكون عنده عزيمة، متخافيش عليها انا مراقبها كويس
-طيب ماتحاول مع إلياس يروح ويرجعها، مااتوقعتش يسبها الوقت دا كله، داخلين على شهرين وهما بعيد عن بعض
-سبيهم يافريدة، خلي قلوبهم اللي تقربهم مش إحنا، ابنك صعب ومش هيتنازل، وهي قررت تبني حياتها بعيد عن الكل، انا سعيد باللي بتعمله
استمعوا إلى دخول غادة
-رؤى كلمتني وطلبت مني عنوان ميرال، قال عايزة تطمن عليها
ابتسمت فريدة بحنان وتمتمت بحبور:
"شوفت قلبها حن على اختها من غير ما تعرف حتى"
هي مين دي اللي اختها ياماما
ابتسمت قائلة:
-رؤى وميرال اخوات
-نعم ..قالتها بعيونًا متوسعة
بمنزلِ ميرال استيقظت تشعرُ بألمٍ أسفلَ بطنها، فرفعت هاتفها تهاتفُ صديقتها:
-سماح أنا تعبانة مش هجي النهاردة، أجابتها صديقتها على الطرفِ الآخر:
-ولا يهمِّك ياجميل، أنا هحضر بدالك، نسيت أقولِّك حاجة مهمَّة، عارفة رجل الأعمال المشهور اللي اسمه راجح الشافعي اللي كان اتعملُّه مقال من فترة؟..
اهتزَّ جسدها بعنف، وكلماتُ صديقتها تحرقُ روحها، بل احترقَ كلَّ الصبرِ لديها لما تتمنَّاهُ لهذا الرجل، ابتلعت غصَّتها المدببةِ متسائلةً بلسانٍ ثقيل:
-ماله الراجل دا؟..قالتها وهي تحاوطُ بطنها بعدما شعرت بألمٍ يكادُ يفتكُ ببطنها:
- صوتك ماله حبيبتي؟..نسيت أسألك إنتِ في الشهرِ الكام دلوقتي؟..
دموعُ فقط تنسابُ على وجنتيها، حاولت النهوضَ بعدما ازدادت آلامها قائلة:
-أوَّل أسبوع في التامن بس حاسة إنِّي تعبانة أوي، هتَّصل بماما نروح للدكتورة بالليل
قاطعتها صديقتها قائلة:
-حبيبتي متخافيش دا العادي في التامن، كنت أسمع من أختى الطفلِ بيلفّ فبيعمل كدا..استندت على الأشياءِ التي تقابلها، وأردفت بأنفاسٍ ثقيلة:
-ممكن حبيبتي، المهمِّ دلوقتي شيلي إنتِ الشغل، أنا مينفعشِ أشتغل تاني غير لمَّا أولد، ابني دلوقتي أهمِّ حاجة، وعرَّفي رئيسِ التحرير..قالتها وأغلقت الهاتفَ متَّجهةً إلى حمَّامها كي تنعش َنفسها بحمَّامٍ دافئٍ علَّ الآلامَ تهدأُ قليلًا.
بعد عدَّةِ ساعات:
هدأ الألم فجلست بحديقةِ منزلها تستنشقُ بعضًا من الهواءِ النقي، تستمعُ إلى الموسيقى الهادئة، اقتربت منها الخادمة:
-مدام العصير..
أشارت إليها بوضعهِ ثمَّ رفعت عينيها إليها:
-جهِّزي نفسك علشان هنروح للدكتور بعد ساعتين، أنا هنزل أسبح شوية في البيسين..
-حاضر يامدام ..قالتها وتحرَّكت مغادرة.
نهضت وخطت بعضَ الخطوات، لتتوقَّفَ على حديثِ الخادمة:
-مدام فيه واحدة اسمها رؤى عايزة تقابل حضرتك..
قطبت جبينها متراجعةً بجسدها تنظرُ إلى رؤى التي تقدَّمت منها:
-إزيك ياميرال؟..
رسمت ابتسامةً تهزُّ رأسها:
-أهلًا يارؤى اتفضَّلي، ثمَّ أشارت للخادمة:
-تشربي إيه؟.
جلست رؤى وأردفت قائلة:
-لا مش عايزة أشرب، أنا جيت أتكلِّم معاكي علشان عندي شغل بعد ساعتين.
جلست منتظرةً حديثها، حمحمت رؤى قائلة:
-أنا جاية علشان أسألك سؤال واحد بس ياربِّ ماتفهميني غلط..
ظلَّت نظراتٌها متعلقة بها فقط منتظرةً باقي حديثها، ابتلعت رؤى ريقها بصعوبةٍ وتساءلت:
-هترجعي لإلياس؟..
جلست متجمِّدةً تمنعُ تلك الدموعِ الحبيسةِ عن حرَّيتها أمامَ رؤى بعدما تسلَّلَ الشكُّ إلى قلبها، وخاصَّةً بعد فراقهما الذي دامَ أكثرَ من شهرٍ ونصف لم تراهُ فيهما ولم تسمع صوته، كلَّ مايربطهُ بها جنينها عند الطبيبِ فقط، حتى امتنعَ عن زيارتهِ لطبيبتها كعادته.
خرجت من هياجِ مشاعرها الحزينةِ على كلماتِ رؤى مرَّةً أخرى:
-أنا مش عايزاكي تكرهيني لو سمحتي، أنا بعد ما فكَّرت وعرفت إنُّكم انفصلتوا ليه ماوافقشِ على طلبِ إلياس تاني، وأهو أنا أولى بيه من الغريب، وخاصَّةً بعد ماعرفت أنُّه هيتجوِّزني علشان أرَّبي ابنه..
أحيانًا تعجزُ الكلماتُ عن مانشعرُ به، هنا عجزت جميعُ اللغاتِ عماشعرت به ميرال، شعرت وكأنَّ أحدهم شقَّ صدرها بنصلٍ بارد، وانتزعَ قلبها بقوَّة، لتشعرَ بكمِّ الآهاتِ التي أحرقت روحها..
ودَّت لو تصرخ ، ودَّت لو تطلقَ العنانَ للآهاتِ الحارقةِ المتحشرجةِ التي احتجزتها بقسوةٍ بجوفِ حسرتها، لحظاتُ صمتٍ قاتلةٍ لترفعَ كفَّيها الذي ارتجفَ كحالِ جسدها وحاولت أن تُخرجَ حروفًا من بينِ شفتيها ولكنَّها غيرُ قادرة، ارتجفت شفتيها وهزَّت رأسها ونطقت أخيرًا بحروفٍ ثقيلة:
-اطلعي برَّة حياتي كلَّها يارؤى، ولو جوزي عايز يتجوِّز براحته، بس ابني مستحيل تقرَّبوا منه..قالتها وتوقَّفت تتحرَّكُ تجرُّ ساقيها بضعف، وهي تتألَّمُ بانقباضِ صدرها، بل بجسدها بالكامل، توقَّفت للحظاتٍ بعدما شعرت بقلبها يئنُّ وجعًا، بل يصرخُ وجعًا..
آااه أخرجتها بعدما شعرت بسائلٍ متدفقٍ من بين ساقيها، نظرت للمياهِ التي تساقطت، وشعرت بانسحابِ الهواءِ من حولها، صرخت وصرخت إلى أن وصلت الخادمةُ على صراخها، نزلت بركبتيها تحتضنُ بطنها وازدادَ عرقها بكثرة، حتى تلاشى تنفُّسها وشحُبَ وجهها تهمسُ باسمِ زوجها، رفعت الخادمةُ الهاتفَ سريعًا تهاتفه:
كان بمكتبهِ منكبًّا على عمله، اعتدلَ بعد سماعهِ لرنينِ هاتفه:
-أيوة..
-الحقني ياباشا، المدام بينَّها هتولد وحالتها صعبة أوي، صرخت وهي ترى تهاونَ جسدها على الأرض..
-لا دي بتموت، إلحق ياباشا...
شعرَ بالخدرِ بكاملِ جسدهِ وهو يشعرُ بعجزهِ والنيرانُ التي تهزُّ كيانهِ وهو بعيدًا عنها، لحظاتٍ محاولًا السيطرةِ على دقَّات ِقلبهِ العنيفِ التي كادت أن تخترقَ ضلوعه، لينهضَ سريعًا إلى سيارتهِ متناسيًا جهازهِ المفتوح، وأوراقهِ المتناثرةِ على مكتبه...
↚
"قسم أول"
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
وعدتكِ أن أبقى بعيدًا
فغلبني الحنين، واقتربت.
وعدتكِ أن أطفئ قلبي
فاشتعلت بين ضلوعي ناركِ، واحترقت.
وعدت نفسي بألا أهواكِ،
فتاهت مني الطرقات... وضللت.
وقلت بأنني أقوى من عينيكِ،
فإذا بي أمامهما طفلٌ، استسلمت.
خططتُ مرارًا أن أهرب منكِ،
وحين خطوتُ... نحوكِ عُدت.
أحاول إخماد صوتكِ في داخلي،
فإذا بنبضكِ يصدحُ في أعماقي، واستحكمت.
كيف لوعودٍ أن تقف أمام طوفانٍ؟
كيف لي أن أهرب منكِ... وأنتِ بداخلي سكنت؟
أنا، الذي حسبت نفسي سيدَ الحب،
وقفتُ أمامكِ، فانحنيت، وهُزمت.
ضحكتُ من غبائي حين ظننتُ...
أن أُسكت ناركِ بالوعد،
أن أقيد الريح، أن أوقف المد.
قبل عدة أسابيع قبل ذهاب إلياس إلى راجح
بمنزلِ آدم، صمتٌ دامَ للحظاتٍ وكأنَّ الصدمةَ سيطرت على الأجواء،حينما أنهت إيلين حديثها عن فريدة الذي جعل زين يهوى على المقعد ويغرق في الماضي، أيُعقلُ مايسمعه..
ذَهَب تفكيرهِ بحديثِ راجح، وشعرَ بتوقُّفِ عقلهِ يحاولُ فكَّ خيوطَ الحيرة التي ألقاهُ بها راجح...قطعَ آدم الصمتَ بصوتٍ هادئ، لكنَّهُ يحملُ شكوكًا دفينة:
"بس ده مش دليل قوي إنَّها هيَّ... ممكن يكون مجرَّد تشابه في الأسماء"
نظرت إليهِ إيلين بعينينِ تحملانِ مزيجًا من القلقِ والتردُّد، ثمَّ قالت ببطءٍ وكأنَّها تحاولُ إقناعه:
"يمكن...بس يا آدم، كلِّ حاجة بتقول إنَّها هي..عمُّو راجح، وقصة خطف أولادها ورجوعهم؟ الموضوع مش صدفة، أنا متأكدة"
تابع زين حديثهما بصمت، لكن عقلهِ كان يغرقُ في تساؤلاتٍ لا تنتهي، رفعَ رأسهِ فجأةً وتساءل:
"طيِّب، هوَّ راجح خرج من المستشفى؟"
اقتربَ آدم منهُ وجلسَ بجواره، وعيناهُ تلوحُ بالحيرة، فأردف:
"كنت عنده امبارح، والدكتور قال إنُّه لسه محتاج راحة يومين بس بصراحة، مش عارف إيه اللي حصل يخلِّي ضهره يتعَب كده!.."
نهضَ من مكانهِ ببطء، وبدأ يتجوَّلُ في الغرفةِ كأنَّهُ يبحثُ عن شيءٍ، خرجَ صوته وكأنَّهُ يتحدَّثُ مع نفسه:
"راجح كان معانا في ألمانيا...حصلت خناقة كبيرة بينه وبين جوز رحيل، وبعدها فجأة قرَّر يرجع على مصر..الغريب إنِّ رانيا نزلت وراه بأيام، قعدت يومين ورجعت، تفتكر ده كلُّه له علاقة بفريدة؟"
تردَّدَ آدم للحظة، وكأنَّ عقله توقف عن التفكير، ثمَّ قالَ ببطء:
"يعني إيه يا بابا؟"
صمتَ زين للحظات، وبدت عليهُ علاماتُ التفكيرِ العميق، ثمَّ قالَ بلهجةٍ قاطعة:
"لازم أروح أشوف فريدة بنفسي، يمكن تكون فعلاً عمِّتك"
اندهشَ آدم من كلامه، وقالَ برفضٍ واضح:
"إزاي تزورهم؟ وبصفتك إيه؟ طيب لو طلعت مش هيَّ؟ هنحطِّ نفسنا في موقف مش كويس، أنا حاسس إن اسمِ السيوفي ده مش غريب عليَّا...بس مش قادر أفتكر"
حاولَ آدم أن يسترجعَ شيئًا من ذاكرته المشتَّتة، لكنَّهُ شعرَ وكأنَّهُ أُصيبَ بمرضِ الزهايمر..قطعَ شرودهِ صوتُ هاتفه، أخرجَ الهاتفَ من جيبهِ ونظرَ إلى الشاشةِ بعينينِ ضيقتينِ قبل أن يجيب:
"أيوة، مين معايا؟"
جاءهُ صوتًا جادًّا من الطرفِ الآخر:
"دكتور آدم الرفاعي؟"
"أيوة، أنا آدم في حاجة؟"
تردَّدَ الصوتُ قليلاً ثمَّ قال:
"مدام حضرتك اتعرَّضت لحادث، وهيَّ محجوزة دلوقتي في مستشفى (...)..."
رفعَ آدم عينيهِ إلى إيلين بدهشة، وقالَ بحدَّةٍ غير مقصودة:
"أكيد غلطان، مراتي موجودة هنا"
قاطعهُ الرجلَ سريعًا:
"لا يا فندم، السيدة اسمها حنين الشهاوي"
تجمَّدَ آدم في مكانه، تكرَّرَ الاسمُ في ذهنهِ مرارًا، كصدى عويل، أغلقَ الهاتفَ ببطء، وكأنَّ يدهُ أصبحت ثقيلة، ثمَّ نهضَ بخطواتٍ مثقلةٍ واتَّجهَ إلى البابِ دون أن ينطق َبكلمة.
راقبتهُ إيلين بصمت، عيناها تتابعانِ تحرُّكاتهِ المضطربةِ حتى خرج، استقلَّ سيارتهِ وغادرَ بسرعة..
تساءلَ زين بصوتٍ منخفض:
"هوَّ آدم خرج؟"
هزَّت رأسها ببطءٍ وقالت بهدوء:
"يمكن يكون جاله شغل"
ثم ابتسمت ابتسامةً صغيرة، تُخفي تعبهاا:
"أنا هدخل أرتاح، عندي مذاكرة كتير حضرتك محتاج حاجة؟"
مدَّ زين يدهُ بحنانٍ وربتَ على كتفها، وكأنَّ لمستهِ تحملُ كلَّ الحبِّ والخوفِ معًا، قال بصوتٍ يفيضُ بالدفء:
"يا بنتي، عايزك تفكَّري، الواد بيحبِّك بجد..أنا مش بقول كده علشان هو ابني، أنا بقول علشان خايف عليكي..جرَّبي، مش هنخسر حاجة"
نظرت إليهِ بعينين تائهتين، وقالت بابتسامةٍ هادئة:
"كلِّ حاجة بوقتها يا خالو..تصبح على خير"
تركتهُ وعادت إلى غرفتها، لكن عقلها كان منشغلًا بخروجِ آدم بتلك السرعة..
بعد فترةٍ قصيرة، وصلَ آدم إلى المشفى. دلفَ إلى الداخلِ وعيناهُ تبحثانِ عن مكانها..عندما رأته، اعتدلت في جلستها وابتسمت له ابتسامةً صغيرة...
- آدم، مش مصدَّقة إنَّك وصلت بالسرعة دي.
اقتربَ وجذبَ المقعد، ثمَّ جلسَ بثقل:
- إيه اللي حصل؟!
رفعت حاجبها بنظرةٍ تنمُّ عن مغذى، ثمَّ قالت ببرود:
- مش إنتَ اللي بعت ناس يضربوني؟
هبَّ من مكانهِ فجأة، وكأنَّهُ تلقَّى صدمة، واقتربَ منها بخطواتٍ سريعةٍ وهدر نبرةٍ غاضبة:
- أكيد اتجنِّنتي، صح؟
حاولت أن تخفي ذعرها من ردَّةِ فعله، فارتسمت على وجهها ملامحَ التحدي والبرود:
- أيوة، ولو ماعملتش اللي طلبته، صدَّقني هتندم..وبابا جاي في الطريق شوف بقى هتقابله إزاي لمَّا يعرف إنَّك أجَّرت ناس علشان يضربوني.
توقف صامتًا، مشدوهًا لما يسمعه، ملجمَ اللسان، حتى شعرَ بالعجزِ عن التفوُّهِ وكأنَّ الكلماتَ أثقلت كاهله، لكنَّهُ سرعانَ ما سيطرَ على نفسه، اقتربَ بتمهُّلٍ، وانحنى مستندًا بيديهِ على حافةِ السرير، ثمَّ حدَّقَ في عينيها بنظرةٍ متعمقةٍ مليئةٍ بالخذلان:
- تعرفي؟ عقاب ربِّنا ليَّا إني ارتبطت بواحدة زيك..اعملي اللي إنتي عايزاه، اتِّهمي براحتك، مش فارق معايا، واحدة حقيرة.
قالها وهو يعتدل، ثمَّ غادرَ المكان يأكلُ بخطاويهِ الأرض..
وصلَ إلى منزلهِ متثاقلَ الخطوات، دلفَ للداخلِ وظلَّ يدورُ بالغرفةِ كالأسدِ الحبيس..دقائقَ تمضي وهو يجول، يشتعلُ غضبًا ويمزِّقهُ العجز، لكنَّهُ ابتلعَ جمراتَ غضبهِ محاولًا السيطرةَ على نفسهِ والتفكيرِ بعقلانية..كان يعلمُ أنَّها لن تصمت، ستواجههُ بطريقتها المعتادة.
لم يشعر بالوقتِ وهو غارقًا في دوَّامةِ أفكارهِ حتى قطعَ صمتهِ طرقاتٍ على بابِ الغرفة..
دلفَ أحمد أخيهِ بابتسامة:
-بتعمل إيه؟!
نهضَ آدم من مكانهِ واتَّجهَ نحو مكتبه، يتمتمُ بتوتر:
مفيش...عندي شوية شغل، في حاجة؟
أومأ أحمد واقتربَ منهُ مبتسمًا قائلاً:
-آه، جيت أقولَّك كلِّ سنة وإنتَ طيب... عيد ميلاد سعيد..
قطبَ آدم جبينهِ للحظة، متذكِّرًا عيدَ ميلادهِ الذي غابَ تمامًا عن ذهنه..نهضَ من مكانهِ واحتضنَ أخاهُ بحب:
"وإنتَ طيِّب ياحبيبي"
تراجعَ أحمد قليلاً وأشارَ إلى الأعلى بمرح:
البنات فوق بيجهِّزوا لعيد ميلادك...كأنِّي مقولتش حاجة، تمام؟ قالها بغمزةٍ خفيفة..
ضحكَ آدم بخفوتٍ واحمد يخطو للخارج، لكنَّهُ توقَّفَ عند بابِ الغرفة:
أنا وبابا رايحين لراحيل، متخرجشِ بقى، عشان عمُّو محمود اتَّصل وقال إنِّ سهام وكرم جايين.
أومأ آدم متفهِّمًا، لكنَّ ذهنهِ كان منشغلًا.. ماذا تفعل تلك الجنيَّةُ بالأعلى؟
بالأعلى عند إيلين:
تقف بالشرفة تنظر للخارج بشرود، اقتربت مريم تقطعُ صمتها وهي تحاولُ إقناعها:
- حبيبتي، وبعدين؟ لحدِّ إمتى هتفضلي كده؟ آدم طلَّق الصفرا خلاص، وحلف لك إنُّه ماقربشِ منها..
جلست مريم بجوارها، تضعُ يدها بحنانٍ على كتفها، تتمتم :
-إيلين... ما تضيَّعيش حبِّ آدم...واللهِ هوَّ بيحبِّك، هوَّ قالها لأحمد بنفسه..مستعد يعمل اللي تطلبيه، ولو طلبتِ عيونه مش هيتأخر..
نظرت إليها إيلين بعيونٍ تائهة، ثمَّ نهضت من مكانها بتردُّد، محاولةً الانشغال بكتبها:
- خلاص يا مريم، سيبيني أفكَّر...واللي ربِّنا رايده هيكون.
ضمَّتها مريم بحنانٍ قبل أن تغادر، توقفت مبتسمة لتردف:
-طيب هسيبك تجهِّزي أكلة حلوة لجوزك، وتغيَّري بيجامة السنافر دي..إيه فاكرة نفسك لسه طفلة؟ ياغبية...ممكن تعذِّبيه بس بطريقتك..
ابتسمت إيلين بتهكُّمٍ وهي تتابعُ أختها تغادر، ثمَّ استدارت ببطءٍ تنظرُ إلى أرجاءِ الغرفة بشرود..لحظاتٍ من الصمتِ كانت كافيةً لتجعلها تتِّخذُ قرارها..بعد معاناةٍ طويلة.
بعد فترةٍ من الانتظار، صعدت مريم بخطواتٍ متردِّدةٍ وهي تحملُ صندوقًا صغيرًا..بدا التوترُ جليًّا على وجهها وهي تدخلُ المطبخ تنادي:
"إيلين؟ جبت الضفدع؟"
رفعت إيلين رأسها بابتسامةٍ خبيثة، وأشارت إلى الصندوقِ الذي وضعته مريم على الرخامة.. ثم سألتها بعينينِ ممتلئتينِ بالحذر:
"عايزاه ليه؟"
ابتسمت إيلين وهي تفتحُ الصندوقَ وتُخرجُ الضفدع، وضعتهُ بهدوءٍ على الرخامة بجانبِ أدواتٍ طبيةٍ معدَّةً بعناية..
"هتعملي يا إيلين؟!"
أشارت إلى الضفدع وتمتمت
" بتسألي عن الضفدع"
"ما أنا عارفة إنُّه ضفدع! ماهو أنا اللي جايباه، بس ليه مدخَّلاه المطبخ؟! يخرب عقلك، ربنا يسامحك"
أمسكت إيلين بتفاحةٍ موضوعةٍ أمامها وبدأت تقطِّعها ببطء، وكأنَّها ترسمُ صورةً لما ستفعله، أشارت إلى التفاحةِ قائلةً بصوتٍ هادئٍ :
"بصِّي، هشرَّح الضفدع دا زي ما بشرَّح التفاحة دي، وهاخده هدية للدكتور آدم، عيد ميلاده النهارده"
شهقت مريم بصوتٍ عالٍ، وضعت يدها على فمها وكأنَّها تحاولُ أن تستوعبَ ما سمعتهُ:
"إنتِ اتجنِّنتِ؟ ضفدع؟! يخربيتك!"
ضحكت إيلين وهي تشيرُ بيدها نحو الباب:
"يلا يا قلبي، اطلعي برَّة عايزة أخلَّص الأكل وأجهَّز للدوك مفاجأة عمره"
قالتها وهي تدفعها للخارج..
خرجت مريم وهي تتمتمُ غير راضية أمَّا إيلين فقد انهمكت في إعدادِ الطعام بحماس..بعد أن انتهت، صعدت إلى غرفتها وفتحت خزانةِ ملابسها، ظلَّت تتفحَّصُ الفساتين بعينيها حتى استقرَّت على فستانٍ أحمرٍ طويل يصلُ إلى الكاحل، مفتوحَ الجانبين، ضيِّق عند الخصر وينسابُ بانسيابيةٍ جذابة…ارتدتهُ ببطءٍ وكأنَّها تهيئُ نفسها لموعد عشاق
وقفت أمامَ المرآةِ تتأملُ انعكاسها، ثمَّ وضعت لمساتٍ تجميليةٍ رقيقة ٍعلى وجهها..أحمرُ شفاهٍ زادها إشراقًا، وعطرًا يملأ المكانَ برائحةٍ آسرة..التقطت صورةً لنفسها وأرسلتها إلى مريم برسالةٍ قصيرة:
"شوفتي؟ علشان تصدَّقي"
لم يمضِ سوى دقائقَ حتى دقَّ جرسُ الباب…فتحت إيلين البابَ بابتسامةٍ واسعة، بينما دخلَ آدم بخطواتٍ بطيئة..كانت عيناهُ تبحرانِ في تفاصيلِ إطلالتها، وكأنَّهُ يحاولُ أن يستوعبَ جمالها الآسر، تمتمَ بصوتٍ خافت:
"أكيد مش بحلم؟"
ضحكت بخفَّةٍ وهي تشيرُ إلى طاولةِ الطعام:
"لا يا آدم، مش بتحلم..اتفضل أقعد"
جلسَ آدم على الطاولةِ وأخرجَ هاتفهِ بعدما ارتفعَ رنينه، نظرَ إلى المتصل لكن صوتَ خطواتها وهي تدخلُ حاملةً الأطباقَ جذبَ انتباهه، فقامَ بإغلاقه، وضعتَ الطعامَ أمامه، ثمَّ استدارت للخادمة:
"هاتي باقي الأكل"
نظر إليها بابتسامة واسعة، ممزوجةً بالعشق:
"إنتِ طبختي بنفسك؟..مريم قالت لي كده بس ما صدَّقتش!"
جلست إيلين قبالته، ووضعت يدها على الطاولةِ بتأنٍّ، وقالت بابتسامةٍ واثقة:
"طبعًا يا حبيبي عيد ميلادك، ولازم أعمل حاجة مميزة"
رفعَ آدم الغطاءَ عن أحدِ الأطباق..لحظةُ صمت، لتتَّسعَ عينيهِ مشدوهًا، ثمَّ التفتَ ونظرَ إلى الطبقِ ثمَّ إليها بصدمة:
"إيه دا؟!شوربة عدس؟! وكمان ضفدع؟!"
أمسكت إيلين بالملعقة وتذوَّقت ملعقةً صغيرة من الشوربة، ثمَّ قالت بابتسامةٍ خبيثة:
"الجو برد قلت أدفِّيك أمَّا الضفدع فدا اختبار مهاراتي..إيه رأيك في هديتي، يا دوك علشان تشوفني شاطرة ولَّا لأ؟"
نهضَ آدم من مكانهِ مذهولًا، بينما انفجرت إيلين في ضحكها المجنون، وكأنَّها تحتفلُ بجنانه..
وصل إليها بخطوة واحدة وجذبها مجيبًا بخبث
-أنا ممكن ادفى بطريقة تانية يادكتورة
ارتجف جسدها، وشعرت وگانه يده ماسًا كهربائيًا
قرب وجهه يحاصرها بقوَّةٍ من خصرها لتجدَ نفسها بين أحضانه بالكامل ثم
قالَ بصوتٍ منخفضٍ يحملُ غصَّةَ مؤلمة بعدما رسم أمنيات:
– هدية...دي هديتي يا إيلين؟!..
كلماتهِ كانت أشبهُ بوخزةٍ نابعةٍ من أحلامٍ واهيةٍ رسمها في خياله.
أطلقت ضحكةً ناعمة، محاولةً التملُّصَ من قبضته، وقالت بخفَّة:
– عجبِتك؟ قول ما تتكسفش..خايف تعترف بشطارتي، يا دُك؟
لمعت عيناهُ بخبث، واقتربَ أكثر بنظراتٍ لم تخفِ نواياه، واقترب من شفتيها
-لا منكرش انك شاطرة، وشاطرة اوي كمان، بس عايز اشوف شطارتك في حاجة تانية، رفعت يدها بتحذير:
– ما تقربش، يا دكتور خلِّي عقلك في راسك، لسه عندي الأدوات جوَّه..
توقَّفَ في مكانه، يرفعُ حاجبهِ ساخرًا:
– هتشرَّيحيني ولَّا إيه يا دكتورة؟
تلاقَت أعينهما، فأجابت وهي تهزُّ كتفيها بتصنُّعِ اللامبالاة:
– مش أوي يعني، بس لازم أدافع عن نفسي.
ابتسمَ بتهكُّمٍ وتراجعَ بخطواتٍ هادئةٍ نحو طاولةِ الطعام. رفعَ هاتفهِ ناظرًا إليها بنبرةٍ حملت مزيجًا من المرارةِ والخذلان:
– ما كانشِ له لزمة، يا بنتِ عمِّتي، كلِّ الاهتمام دا.
سكَت لحظةً قبل أن يُكملَ بنبرةٍ حزينة:
– صعب تبني أحلامك على حد، بس الأصعب لمَّا الحدِّ دا يكسرها، كنت فاكر إنِّ ليَّا أهمية لو بسيطة...بس شكراً على اهتمامك..
قالها وأدارَ ظهرهِ متَّجهًا نحوَ الباب..
ظلت بمكانها، تحدِّقُ فيه مذهولة، توقفت الكلماتُ بحلقها، رغم إنها حاولت أن تعطيه عذرًا، ولكن كيف تمحو شعورها بتلكَ الغيرةِ التي أحرقت قلبها كلَّما تخيَّلتهُ مع غيرها.
مرت الأسابيع والحال كما هو بينهما، ذهب آدم إلى مؤتمر طبي خارج البلاد استغرق عدة اسابيع، شعرت ايلين بغيابه الذي جعلها تفكر كثيرًا أنها لم تستطع العيش بدونه، دلف إليها زين
-حبيبتي كلمتي صاحبتك تاني
وضعت قلمها ونهضت من مكانها
-آسفة ياخالو، بس حصل تاتش بينا، فقولت لازم ابعد عنها شوية، بس ولا يهمك حبيبي، بكرة آدم يرجع ونشوف الموضوع تاني
ربت على كتفها وتسائل:
-روحتي النهاردة لرحيل
اومأت له باابتسامة:
-أيوة هي مشغولة بشغلها، طبعا موت عمو وقع الشركة شوية، غير طبعًا عمو راجح وخالتو رانيا، راحو قعدوا عندها
اومأ بتفاهم ثم استدار قائلًا:
-هروح ازورها وأشوف موضوع راجح ورانيا دا كمان
-تمام ياخالو ..انا عندي كام شيت هخلصهم وانام
عند إلياس
وصلَ بسيارتهِ بسرعةٍ جنونية، وكأنَّ قلبهِ سبقَ عجلاتها وكأنه في سباقٍ مع الزمن.
نظر إلى الشوارعَ المزدحمة وتخيل أنها تضيقُ عليه، انتفضَ جسدهِ خوفًا إلى حدِّ الارتعاش، ونبضُ قلبهِ يصمُّ أذنيه..وقفَ بحديقة الفيلا، قفز من السيارة وهرول إليها بسرعة جنونية، وتوقف أمامها ينظرُ إليها بشهقة،
تجلس على الأرضِ تحتضنُ جنينها،
فكان وجهها شاحبًا كالقمرِ الغائب، ودموعها أغرقت وجهها، كسى الألمِ والحزنِ ملامحها، هوى أمامها على ركبتيه، كأنَّ قلبهِ انكسرَ إلى ألفِ قطعة، ثم رفعها برفق، وكأنَّها من زجاجٍ يخشى أن يتحطَّمَ بين يديه؛ خطى بارتجاف و صوتُ بكائها يقتلُ فيه كل ذرَّةِ صبرٍ وقوة، لكنَّهُ حاولَ التماسك..
أشارَ إلى الخادمةِ بصرخةٍ ملتهبة:
"هاتيلها حاجة تلبسها بسرعة، مستنية إيه؟!"
هرولت الخادمةُ مذعورة، بينما حملها بين ذراعيهِ وكأنَّها أثمنُ ما يملك..اتَّجهَ بخطواتهِ السريعةِ إلى السيارة، ورغم إنها سريعة إلا أن ساقيه ترتعش، وضعها بلطفٍ في المقعدِ الخلفي رغم أنَّ صرخاتها كانت تمزِّقُ قلبه:
"ابني يا إلياس...ابني هيموت!..إلحقه بسرعة!"
كانت كلماتها كالسكاكينِ التي تُغرَسُ في روحه..احتضنها بقوةٍ وكأنَّهُ يحاولُ أن ينقلَ إليها بعضًا من طمأنينةٍ لا يمتلكها هو نفسه..
أمسكَ بيديها المرتجفتين، وقبَّلَ جبينها بحنان، محاولًا تهدئتها:
"حاضر...بس اهدي، اسحبي نفس وإهدي يا ميرال، هنلحقه"
لكنَّها بكت بحرقة، ألمها كادُ أن يفتكُ بجسدها الهش، وصوتها كان أشبهُ بطعنة:
"ابني هيموت...علشان خاطري ياإلياس، ودِّيني للدكتور"
ارتبكَ أكثر، نظرَ إلى الخادمةِ التي عادت تحملُ إسدالها، جذبهُ ووضعهُ فوق ملابسها، ابتلعَ ريقه، وارتجفت يداهُ من صرخاتها التي تصدرها لينفطر قلبه كالشظايا
ضغطت على ذراعهِ بألمٍ شديدٍ وصرخةً شقَّت صدرهِ وأربكت كلَّ شيءٍ داخله، ضمَّ رأسها إلى صدرهِ بحنانٍ غامر:
"ميرال، ميرا...لو سمحتي إهدي، أنا مش عارف أعمل إيه"
رفعت رأسها بصعوبة، والتقت عيناهما، عيناها الباكيتانِ بعينيهِ المرتبكةِ لتهزَّ كيانه:
"إنقذ ابنك يا إلياس...حتى لو مش هتنقذني، المهمِّ هوَّ "
هاجت عيناهُ بالغضبِ مما تفوَّهت به، وارتسمَ الألمُ داخلهما، وهو يشعرُ بقبضةٍ قويةٍ حادةٍ تسحقُ قلبهِ بقوة..
قبَّلَ كفَّيها المرتجفينِ وقال بألمٍ يقطعُ نياطَ قلبه:
"خلاص، اهدي يا حبيبتي، هنوصل للدكتور حالًا وهنقذك إنتِ وابني "
أغلقَ بابَ السيارةِ سريعًا، وركضَ إلى مقعدِ القيادةِ وقادَ السيارةَ بسرعة، وكأنَّ الطريقَ يفتحُ له ذراعيه، تمنَّى لو امتلكَ جناحينِ ليطيرَ بها إلى المشفى، لكنَّ صرخاتها المتقطِّعة كانت تعيدهُ إلى أرضِ الواقع، فجأة، بدأ جسدها يهدأ، وانخفضت أنفاسها، تهمسُ بصوتٍ خافت:
"أنا بموت..."
هنا، تحطَّمت كلَّ محاولاتهِ للتماسك، صرخَ بها بجنونٍ وكأنَّهُ يرفضُ استسلامها:
"ميرال، خلِّيكي معايا افتحي عيونك حبيبتي"
نظرَ إلى الدماءِ التي تسلَّلت من ساقيها، فازدادَ ارتباكه، لكنَّهُ لم يتوقَّف..كان يقودُ السيارةَ وكأنَّهُ يطاردُ الوقت، وعيناهُ تراقبانِ الطريقَ أمامهِ والدماءَ خلفه، رنَّ هاتفه، أجابَ عليهِ بصوتٍ متوتر يستمع:
"إلياس، إنتَ فين؟ عدِّيت عليك مش لاقيك!"
ردَّ بسرعة:
"أرسلان، كلِّم ماما قولَّها ميرال في المستشفى، شكلها هتولد، بس حالتها خطيرة، قولَّها تيجي"
حاولَ أرسلان تهدئته:
"تمام، اهدى...إن شاء الله تبقى كويسة"
قالها وأغلقَ الهاتفَ مستديرًا للمغادرة، ولكنَّهُ توقَّفَ فجأةً حين لمحَ شيئًا التفتَ إلى مساعدِ مكتب إلياس:
" فيه حد دخل المكتب بعد ماإلياس خرج؟"
هزَّ مسؤولُ مكتبِ إلياس رأسهِ بالنفي، لكنَّهُ لم يقتنع فدخلَ المكتبَ وأغلقَ البابَ خلفه، يتفحَّصُ المكانَ بعينيه..كان المكان يوحي بعبثٍ غيرُ معتاد، كأنَّ أحدهم فتَّشَ كلَّ شيء..نظرَ إلى جهازِ الكمبيوتر، وعيناهُ تبحثانِ عن الكاميرا المعلَّقة، لكنَّها لم تكن في مكانها.. فاندفعَ إلى جهازِ الكمبيوتر ليغلقه، دخلَ شريف فجأةً وسأله:
"إلياس فين؟"
كان أرسلان منشغلًا بجمعِ الأوراقِ والصورِ المبعثرة، لكن حين وقعت عيناهُ على صورٍ معينة، تسمَّرَ في مكانه، اقتربَ شريف معتذرًا:
"آسف، معرفشِ ليه سايب جهازه مفتوح وورقه مرمي كده، بس أحمد قال إنُّه خرج بسرعة، وأنا مليش صلاحية أدخل هنا وهوَّ مش موجود"
أومأ أرسلان متفهِّمًا، ثمَّ جذبَ الأوراقَ والصورَ من يدِ شريف ووضعها في خزانةِ المكتب، وأغلقها بحذر، رسمَ ابتسامةً مصطنعةً وهو يقول:
"زي ما قلت، ماينفعش ِندخل وهوَّ مش موجود، أنا بس كنت بقفل كلِّ حاجة مكانه"
قالها أرسلان وتحرَّكَ للخارجِ يرفعُ هاتفه، يخبرُ فريدة بما حدث، ثمَّ اتَّجهَ مغادرًا إلى فيلا الجارحي.
بالمشفى، ترجلَ من سيارتهِ كالعاصفة، يدوي صوتهِ بين الجدرانِ كناقوسِ خطر، ينادي على المسعفينَ بصوتٍ متحشرجٍ يحملُ بين طياتهِ الخوفَ والعجز..هرولَ إليه أحدُ المسعفين، يدفعُ الفراشَ
المتنقِّلَ أمامه، وسرعانَ ما استقرَّ جسدها الضعيفَ عليه...أمسكَ إلياس بحافةِ الفراش، كأنَّ يديها وحدهما تحميانهِ من السقوط..يجرُّ ساقيهِ المرتخيتانِ بصعوبة، نظرَ إلى وجهها الشاحب، شعرَ كأنَّما انتُزعت منهُ الحياة، لكنَّهُ كان يتماسكُ أمامها..
دقائقَ بدت كالأعوام، وصلوا إلى غرفةِ الطبيبِ وقفَ إلياس بجانبها، يراقبُ الطبيبَ بفحصها، تمنَّى أن يلامسَ نبضها المرتجف..كلَّ ثانيةٍ كانت كالسيفُِ يوشك أن يطعنَ صدره..رفعَ الطبيبُ بصرهِ بعد فحصٍ مطوَّل، وعيناهُ مليئتانِ بالأسى كأنَّهما تنطقانِ بكلماتِ قتله:
- "لازم تدخل عمليات فورًا، الجنين والأم حالتهم خطرة جدًا."
تسمَّرت قدماه، كأنَّ الأرضَ ابتلعته وحاولَ الحديث، خرجت الكلماتُ من شفتيهِ المرتجفتينِ بتثاقل:
"مراتي لازم تطلع بالسلامة إن شاءالله."
نظرَ الطبيبُ للأسفل، منكسًا رأسه، وتحدَّثَ بتقطُّعٍ وصوتهِ مشحونًا بالخوفِ من خذلانٍ قد يواجهه:
"الوضع صعب جدًا...ممكن ننقذ الأم أو الطفل، لكن مش الاتنين."
زمجرَ إلياس كوحشٍ جريح، صوتهِ يرتفعُ بكلِّ ما يملكُ من يأس:
"مراتي الأوِّل، سمعتني؟ هيَّ الأوَّل وبعدها الولد!"..أشارَ إلى غرفةِ العمليات وهتفَ بلا تردُّد:
-إن شاء الله الاتنين يخرجوا بالسلامة يادكتور..
هرولَ الطبيب من أمامه، وتوقَّفَ إلياس لبعضِ اللحظات، وقعَ بصرهِ عليها.. قادتهُ خطواتهِ لا إراديًا نحو السريرِ المتنقِّلِ حيث تستعدُّ الممرضةَ لنقلها إلى غرفةِ العمليات، جلسَ بجوارها، كأنَّهُ يحتمي بها من عاصفةِ حزنهِ الهوجاء التي اعترت صدره. مدَّ يدهِ يمسِّدُ على خصلاتها المتناثرة، يحاولُ أن يعيدها ، انحنى برأسهِ حتى التقت جبينهِ بجبهتها، وهمسَ بحروفٍ مرتعشة:
"ميرال، حبيبتي، سمعاني؟ افتحي عيونك."
رفرفت بأهدابها، كأنَّها تقاومُ الغياب، وخرجَ صوتها خافتًا كهمسةِ الروح:
"إلياس...أنا هموت."
طُعنت روحهِ بسكينِ كلماتها، وتجمَّدت دمعةً على حافةِ عينيهِ قبل أن تسقطَ كالشلال..وضعَ جبينهِ على جبينها، وكأنَّ دفءَ أنفاسهِ يمنحها سببًا لتعيش:
"ميرال، بالله عليك ما تقولي كده، إن شاء الله هتقومي بالسلامة وهتطلعي بابننا كمان، قولي يارب."
ابتسمت بصعوبة، شفتاها ترتعشان، وهمست بصوتٍ متقطِّع:
"الولد...سمِّيه يوسف...دي أمنية ماما فريدة"
ارتجفَ قلبهِ مع كلماتها، لكنَّهُ قاطعها وهو يحاولُ أن يرسمَ ابتسامةً مطمئنة:
"اسكتي دلوقتي، ما تفكريش في حاجة، هتولدي وتبقي بخير"
قبَّلَ كفَّها بحنانٍ كأنَّها أغلى ما يملك، ثمَّ رفعها ليطبعَ قبلةً مطوَّلةً بجوارِ شفتيها، دموعهِ تنهمرُ بحرارةٍ على وجنتيها الشاحبتينٍ وتمتمَ بصوتٍ متحشرج:
"بحبِّك"
استسلمت لجسدها الذي غلبهُ المخدِّر، وأغمضت عينيها، تحرَّكَ السريرُ ببطءٍ مع الممرضةٍ التي أشارت له بحزم:
"لو سمحت، بلاش تأخَّرنا"
وقفَ إلياس يراقبها وهي تُسحبُ بعيدًا عنه..شعرَ وكأنَّها تبتعدُ عن حياته كلَّها، رفعَ يديهِ المرتعشتينِ إلى السماء، وتمتمَ بدعاءٍ كاد أن يتفكَّكُ بين دموعه:
"يارب استودعتك زوجتي وطفلي"
مرت دقائق مشحونة بالتوتر والخوف، وصلت فريدة تجاورها غادة، توقفت أمامه متسائلة:
-فين ميرال حبيبي؟!
شعر بإختناق ثقيلٌ كأنَّ الهواءَ سُحبَ بالكامل؛ وارتفعت دقَّاتُ قلبهِ تتسارعُ بنبضاتِ لم تتوقف، كطبولِ حربٍ تصرخُ في أذنيهِ..أشار بعيناهُ على البابِ المغلقِ و كأنَّ بينهُ وبينَ الحياةِ خيطًا هشًّا معلَّقًا بذلك الباب، لم يعد يشعرُ بقدميه، شعر بأن جسدهِ بلا روح، ونظراتهِ كعاصفةٍ لا تعرفُ السكون.
جلست فريدة بجوارِ غادة، ومصحفها في يدها، تحاولُ أن تجدَ عزاءً في كلماتِ الله، لكنَّ شفتيها المرتعشتينِ لم تستطيعا الثبات؛ أصبحت عيناها زائغتانِ تراقبانِ ابنها الذي بدا وكأنَّهُ رجلًا يغرقُ في بحرٍ من الظلمات، والخوف يظهر بوضوح بملامحه ...رفعت رأسها قليلاً، وتمتمت بصوتٍ خافتٍ:
"يارب نجِّها، يارب ردَّها لينا ولاتحرمها من طفلها"
أمَّا إلياس لم يعد يحتمل، فكأنه الصبر خرج من قاموسه، اقتربَ من البابِ المغلق بخطواتٍ ثقيلة، رفعَ يدهُ وكأنَّهُ يهمُّ باقتحامه، لكنَّهُ توقَّفَ فجأة، يضربُ الحائطَ بقبضته، وقلبهِ المنفطرَ يئنُّ من الألم..
-اتأخرت ليه، دي كلها بتولد..مر إلى عقله حالتها المنهارة
التفتَ فجأةً إلى الخادمةِ التي كانت تجلسُ منكمشةً بالمقعدِ
-الصبح كلمتك وسألتك قولتي المدام كويسة، ايه اللي حصل..توقفت فريدة متجهة إليه وحاولت تهدئته:
-حبيبي دا عادي، استدار إلى والدته
-حضرتك مشفتهاش ياماما، دي يعتبر اتصفت
ربتت بحنان تهز رأسها وتمتمت بنبرة هادئة:
-ماهي ولادة حبيبي، عادي ..هز رأسه بعدم اقتناعه بحديثها، قاطعته الخادمة
-فيه واحدة كانت عند المدام، وبعد ماخرجت حصل اللي حصل
ضيق عيناه مقتربًا منها بتساؤل
-واحدة..مين دي!! ذهب تفكيره إلى رانيا سريعًا
-اسمها رؤى ياباشا
قالتها بصوت مرتبك، طالعها ما زال يتردَّدُ في ذهنه:
"واحدة اسمها رؤى جات وقعدت دقايق، وبعدها المدام تعبت"
فكَّرَ بصوتٍ مرتفع، وجههُ يفيضُ بالانفعال:
"ليه راحت لعندها؟ إيه اللي حصل بينهم؟ وميرال كانت رافضة تشوفها!..
انهارت غادة فجأةً بالبكاء، صوتها المقهورُ اخترقَ المكان:
"يارب أنا مكنتش اعرف، هي اتصلت واخدت عنوانها، ذهل إلياس من حديثها، وشيطانه يتلاعب بعقله، استمع الى صوت غادة
- مش قادرة أتحمِّل ممكن زيارة رؤى تخسرنا ميرال.."وضعت كفَّيها على فمها بعدما رمقها بنظرةٍ مميتة.
اتجهت فريدة إليها، وحاولت السيطرة على حزنها بعدما وضعت المصحفَ بجوارها
-اهدي حبيبتي إن شاءالله ميرال هتكون كويسة هي والبيبي كمان، قالتها واستدارت نحو إلياس، بيدها المرتعشةِ تمسكُ بذراعه:
"حبيبي، إهدى إن شاءالله هتكون كويسة"
ولكنه رفع عيناه القلقة لذلكَ الباب، ذاكَ الحاجزِ الذي يقفُ بينهُ وبينها محبوبته..أجابها بعيونًا اطفأها الخوف:
"أنا هادي أهو، شيفاني بقطَّع في شعري" لحظات إلى أن هزَّ رأسهِ بالنفي لكلماته قائلًا:
-لا..ياماما أنا خايف عليها..
توقَّفَ فجأة، كأنَّ الكلماتَ خانته، أو ربما لم يعد يتحمَّل مجرَّدَ فكرةِ خسرانها.. لتضمَّهُ فريدة وتربتُ على ظهرهِ و كأنَّها تحاولُ أن تمنحهُ بعض قوَّتها الواهنةِ وهي تقول:
"ميرال قوية، وإنتَ لازم تكون أقوى عشانها..خلِّي أملك كبير في ربنا"
قبلَ أن يرد، فُتحَ البابُ فجأة، وخرجت الممرضةُ تحملُ الطفل..ركضَ نحوها كالمجنون، وقفَ أمامها يسألها بصوتٍ يفيضُ بالقلق:
"الولد كويس؟.."
ابتسمت الممرضةُ ابتسامةً صغيرة، لكنها لم تُخفِ القلقَ الذي ظهرَ في ملامحها:
"لازم يتحجز في الحضانة، عنده نقصِ أكسجين، لكن الدكتور بيقول إن شاءالله هيبقى كويس"
حاولَ أن يلتقطَ أنفاسهِ قبل أن يسأل بنبرة يشوبها الخوف:
"وأمُّه؟!"
نظرت إليه الممرضةُ سريعًا:
"الدكتور معاها، اطَّمن"
وقفَ كالمسلوب من كل شيئًا للحظة، ثمَّ انحنى قليلاً، وأسندَ رأسهِ إلى الحائط، وحاولَ أن يهدِّئَ من روعهِ قليلًا:
تبادلت غادة وفريدة النظرات، كلتاهما عاجزتانِ عن إيجادِ كلماتٍ تهدِّئُ هذا البركانَ المشتعلَ أمامهما..فريدة، التي ارتعش قلبها بالخوف،و لم تجد غير الدعاءِ ملاذًا، رفعت يدها إلى السماء، وتمتمت بصوتٍ متهدِّج:
"يارب كمِّل فرحتهم، يارب نجِّها هي وابنها"
ظلَّ متوقِّفًا كالجبل وكلِّ دقيقةٍ تمرُّ عليهِ كأنَّها سبعينَ خريفًا، حتى شعرَ وكأنَّ الحياةَ تُسحبُ منهُ ببطءٍ..لم يبقَ له سوى الأمل الهش بخروجِ الطبيب، ولكن كيف وهو مازالَ بالداخل، ظلَّ كما هو ينظرُ بساعةِ يدهِ كلَّ دقيقةٍ يشعر بأن الزمن متوقِّف، والهواءُ في رئتيهِ صارَ كأشواكٍ تجرح رئتيه..أخيرًا، خرج الطبيب، ملامحهِ مثقلةً بالإرهاق، لكن نظراتهِ حملت شيئًا من الطمأنينة..رفعَ عينيهِ نحو إلياس وقالَ بهدوءٍ يشوبهُ التعب:
الحمدُلله، قدرنا نوقف النزيف، ماحبتش أخوِّفك أو أزوِّد قلقك...الجنين إن شاء الله هيكون بخير، والمدام هتقضي الليلة في العناية لحدِّ بكرة بإذنِ الله، تقدر تطَّمن عليها.
رغم أنَّها كلماتٌ إلا أنه شعر بحرية أنفاسه، بعدما شعر وگانه محبوسًا بقبرٍ، سحبَ نفسًا عميقًا، ورفعَ عينيهِ نحو الغرفة، بخروجِ ذلك الفراشِ الأبيضِ الذي يحملُ قلبه، وروحهِ التي تمزَّقت بخوفه عليها...
تحرَّكَ خلف الفراشِ الذي تمَّ نقلها به إلى غرفةِ العناية، التي اعتبرها غرفةَ موته، إلى أن تفتح عيناه السوداوية، وتهمس اسمه ليرتاح نبضه المتعثر..
تحرَّكت فريدة وغادة خلفهِ، توقَّفت على البابِ و همست فريدة بخفوت، وهي تربتُ على يدِ غادة:
خلِّيه يطَّمن عليها الأوَّل، تعالي نطلع نشوف ابنِ أخوكي.
أومأت غادة بصمت، وعينها متعلقةً بجسدِ صديقتها الذي غابَ خلف الزجاج...
أمَّا هو، فقد كانت خطواتهِ ثقيلةً كأنَّها تحملُ وزنهِ ووزنَ أوجاعهِ كلَّها التي تفوقُ حملَ الجبال، توقَّفَ للحظاتٍ عند بابِ العناية، عيناهُ تتشبثانِ بجسدها الشاحبِ الذي بدا كزهرةٍ ذابلةٍ في غيرِ أوانها.
دخلَ بخطواتٍ متردِّدة، ورغم أنَّ كلَّ خطوةٍ تقرِّبهُ منها لكنَّهُ شعرَ وكأنَّما تسحبهُ بعيدًا عنها، ليشعرَ بحجمِ المسافةِ التي تتزايدُ ولاتنقص..اقتربَ من سريرها بعد معاناة، جسدها بدا صغيرًا وهشًّا وسطَ الأجهزةِ والأسلاك، جلسَ بجانبها بعدما سحبَ مقعدًا، عيناهُ لم تفارق ملامحها التي استنزفها الألم..
مدَّ يدهِ ببطء، وأمسكَ بكفِّها الباردِ المغروزِ بالإبر، وشعرَ بوخزة في قلبه. رفعَ كفَّها إلى شفتيه، قبَّلها قبلةً طويلة، كأنَّهُ يحاولُ بثَّ الحياةِ فيها من جديد..دمعةٌ خائنةٌ انزلقت من عينيه، لكنَّهُ لم يحاول مسحها..
همسَ بصوتٍ مرتجف، وكأنَّ الكلماتَ خرجت من أعماقِ روحهِ المكسورة:
الحبِّ موجع يا ميرال...للمرَّة التانية أحسِّ إنِّي بموت وأنا خايف تضيعي منِّي، تخيَّلي دعيت ربنا إنِّي ما حبيتكيش ولا قرَّبتِ منِّك، عشان ما أعيش اللحظات دي تاني...
رفعَ يدهِ الأخرى، بحنانٍ شديدٍ وسحبَ خصلاتها المتمرِّدةِ التي هربت من البونية، وأعادها برفقٍ داخلها..طبعَ قبلةً على جبينها، كانت مليئةً بالحنانِ والخوف، والحبِّ الذي يعصفُ به.
تذكَّرَ كلماتها الأخيرة التي كسرت قلبه، فابتسمَ ابتسامةً حزينة، وهمس:
كلِّ يوم بحبِّك أكتر من اللي قبله...شوفتي عملتي فيَّا إيه؟ مش بس كده...المتخلِّفة لسه بتقول هتنازل عن الولد عشان تخلص منِّي!
اقتربَ أكثر، حتى صارَ صوتهِ بالكادِ يُسمع، وهمسَ عند أذنها بصوتٍ مشحونٍ بالألمِ والحبّ:
بعينك يا ميرال أسيبك؟ أنا قلتلك زمان... حبِّي بيوجع، استحملي بقى...أنا ما بعرفشِ أحبِّ إلَّا بالشكلِ ده.
تركَ رأسهِ يسقطُ على كفِّها الحر، أغلقَ عينيه كأنَّهُ يبحثُ عن ملاذٍ في قربها، نبضاتُ قلبهِ كانت أسرعُ من أيِّ وقتٍ مضى، لكنَّها كانت مليئةٌ بصلواتٍ لا تنتهي..أغمضَ عينيهِ بعدما مضى عليه وقتًا تمنَّى فيه موتهِ لا محالة..ولكن آلان شعر بأن روحه عادت لجسده، ينتظر همسها باسمه، ليشعر بامتلاك الكون
في منزلِ يزن، جلسَ كريم بجواره، يطالعهُ وهو يشعلُ سيجاره، ثمَّ قالَ بجدية:
"عايز ميعاد يا يزن، علشان أخطب البنت قبل ما تدخل الجامعة"
أخذَ يزن نفسًا عميقًا من سيجارته، وحدَّقَ به بصمتٍ للحظاتٍ قبلَ أن يردَّ بهدوء:
"هتستنى لمَّا البنت تخلَّص الجامعة، ولَّا بعد سنة تيجي لي زي عفريت العلبة وتقولي عايز أتجوِّز؟ لازم نتفق..إنتَ صاحبي آه، لكن مفيش جواز غير لمَّا إيمان تخلَّص دراستها"
هبَّ كريم من مكانهِ كالملسوع:
"نعم؟! عايزني أستنى سبع سنين؟! ليه؟ هتحنِّطوني جنبكم ولَّا إيه؟"
أجابَ يزن ببرودٍ قاتل:
"واللهِ ده اللي عندي عايز، يا مرحب..مش عايز، برضه يا مرحبتين"
ضغطَ كريم على أسنانه، والغضبُ كاد أن يتفجَّرَ بداخله، لكنَّهُ تمسَّكَ بصوتهِ وقال:
"طيب، تعالَ نقسم البلد نصِّين: أقعد سنتين ونتجوِّز إيه رأيك؟"
ردَّ يزن بثبات، وكأنَّ الموضوعَ لا يعنيه:
"لمَّا تخلَّص السبع سنين"
صرخَ كريم بنبرةٍ تفيضُ بالإحباط:
"إنتَ مفتري يا يزن، واللهِ مفتري..وأمَّك الله يرحمها مارضعتكش لبن، دي مرضعاك قساوة يا ابنِ المفتري"
ضحكَ يزن ساخرًا، ثمَّ قالَ بمرح:
آه أنا ابنِ ستين مفتري، ومضحكشِ عليك، علشان كده حذَّر منِّي، قلبي لمَّا بيقلب بياخد الأخضر واليابس"
زمَّ كريم شفتيه، ثمَّ قالَ بسخريةٍ:
"آه، صحوبية إيه بس؟ أسفخسِ على دي صحوبية "
قهقهَ يزن وهو ينحني يربتُ على ركبةِ كريم في محاولةٍ للتهدئة:
"ما تزعلشِ يا بيضة، هجوِّزك السنة الأخيرة قبلِ الامتحانات بامتحان واحد، يرضيك كده؟"
نهضَ كريم من مكانه، يدفعُ يزن بيده، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ غاضبًا:
"بارد ورخم، واللهِ حلال اللي البتِّ رحيل بتعمله فيك"
صاحَ يزن من خلفه، بنبرةٍ غاضبة:
"بتِّ إيه يالا؟! بتتكلِّم عن مراتي يا متخلِّف!"
توقَّفَ كريم عند الباب، ثمَّ التفتَ بابتسامةٍ ساخرةٍ وقال بتهكُّم:
"اسمَ الله على اللي مقطَّع الحب! يا بني محدش فاهمك قدي إنَّما إيه؟ هتفضلوا كده؟ بقالكم شهرين ومفيش جديد"
صمتَ للحظة، وعادَ بذاكرتهِ إلى آخرِ لقاءٍ برحيل، يحملُ في داخلهِ مشاعرَ متناقضة بين الحبِّ والغضب..
وصلَ إلى الشركة بخطواتٍ ثابتة، دلفَ للداخلِ بعدما علمَ أنَّها بمفردها..دفعَ البابَ بهدوء، كانت منهمكةً على جهازها، رفعت رأسها حينما شعرت بوجوده..تلاقت عينيها بنظراته، فتسمَّرت للحظةٍ قبل أن تسحبَ بصرها بخجل:
- يزن...!!
خطا نحوها ببطء، وعيناهُ تلتهمانِ ملامحها باشتياق..توقَّفَ قريبًا وسألَ بنبرةٍ أقربُ للهمس:
– عاملة إيه؟
هزَّت رأسها بخفة، تهمسُ بنبرةٍ خافتة:
– الحمدلله...كويسة وإنتَ؟
سحبَ مقعدًا وجلسَ أمامها، وردَّ بصوتٍ هادئٍ لكنَّهُ عميق لم تفهمهُ:
– آسف...كنت مشغول في الورشة والمعرض.
ابتسمت بحنانٍ صادقٍ وردَّت:
– بالعكس...أنا فرحت إنَّك رجعت المعرض ياربِّ تفضل فيه، بجدِّ مش هلاقي حدِّ أقدر أثق فيه زيك.
ارتسمت ابتسامةً غامضةً على شفتيهِ ونطقَ متسائلًا:
– بتثقي فيَّا يا رحيل؟
لمعت عيناها بخطٍّ من الدموعِ المتحجِّرة، لكنَّها لم تتركها تسقط..ووقفت فجأةً واتَّجهت لتجلسَ بجواره، تمتمت بصوتٍ خفيض:
– بصراحة...مش قادرة أقيِّمك.
ارتفعَ حاجباهُ قليلاً، وسألَ ببرودٍ يخفي خلفهِ غليانًا:
– بمعنى؟
نظرت بعيدًا للحظةٍ قبل أن تعودَ بنظرها إليه، وكأنَّها تحاولُ أن تكون أقوى ممَّا تشعر:
– ليه اشتريت الأسهم يا يزن؟ وإزاي قدرت تشتريهم..من غير ما تقولِّي وكمان بحالتك دي؟
قاطعها بصوتٍ حازم، يحملُ مزيجًا من الغضب:
– وأنا على قدِّ حالي...مش دا قصدك؟
نكست رأسها وتمتمت:
– آسفة يا يزن...بس أسهم شركة قيمتها معدِّية المليون جنيه مش حاجة عادية..
تراجعَ بجسدهِ على المقعد..لحظاتٍ من الصمتِ بينهما ليردفَ ببطء:
– طيِّب...لو قلت لك إنِّي مش هقدر أجاوب دلوقتي، هتردِّي تقولي إيه؟
نظرت إليه بتحدٍّ، ثمَّ عادت إلى كرسيها، تواليهِ ظهرها، وكأنَّها تعلنُ انتهاءَ الحديث:
– مفيش اختيارات قدَّامك للأسف يا توضَّح...يا أمَّا...
نهضَ فجأة، ليقطعَ جملتها بحدة:
– مش أنا اللي حدِّ يخيَّرني بحاجة يا رحيل..أنا اشتريت الأسهم لشخص هيظهر قريب، واللي أعرفه إنِّ الأسهم دي كانت بتاعة راجح الشافعي..يعني الموضوع مش يخصِّك.
استدارت نحوهِ ببطء، وقالت بسخريةٍ باردة:
– واللهِ...الموضوع ما يخصنيش؟ أمَّال إيه اللي يخصِّني يا باشمهندس؟ إنِّي أفتح باب مكتبي وألاقي حدِّ غريب بيشاركني في تعب أبويا؟ إنِّي أفقد اسمِ أبويا اللي بناه سنين بسبب هلاوسك وانتقامك؟
نظرَ إليها بعينينِ تشتعلان، لكنَّهُ ظلَّ صامتًا، تقدَّمت نحوهُ بخطواتٍ بطيئة، ثمَّ توقَّفت أمامهِ وقالت بصوتٍ خافت، لكنَّهُ مشحونًا بالغضب:
– يزن...أنا مش عارفة إن كنت جدع فعلاً ولَّا بترسم الدور ببراعة؟..بس في كلِّ الأحوال...إنتَ بتضرِّني، لو عايز تنتقم من طارق فهوَّ محبوس وبيكفِّيه اللي هوَّ فيه، ولو بتنتقم من البنتِ اللي ضحكت عليك أنا ماليش دعوة..كلِّ اللي يهمِّني إنِّ اسمِ أبويا يفضل نضيف عايز تصفِّي حساباتك...يبقى بعيد عنِّي.
اقتربَ منها فجأة، وعيونهِ تلتهمُ كلماتها، وأردفَ بنبرةٍ باردة:
– إنتِ شايفة إنِّي بصفِّي حسابات؟
ضحكت بسخرية، وهي ترفعُ عينيها لتلتقي بعينيهِ مباشرة:
– أنا مش شايفة غير كده..بتحارب ناس مفكَّرهم ظلموك، لكن الغلط عندك، مش عند طارق، ولا البنت التانية...ولا حتى أنا، كلِّ حاجة نصيب يا يزن.
اقتربت خطوة، حتى لم يعد بينهما سوى الأنفاس، لأوَّلِ مرة، وجدت نفسها قريبةً منه بهذا الشكل، همست بصوتٍ مرتجف:
-منكرش أنا كنت معجبة بيك، معجبة برجولتك وشهامتك...كنت فاكرة إنَّك الراجل اللي ممكن أعتمد عليه، بس للأسف...طلع كلِّ دا وهم.
صمتَ يزن، لكنَّهُ لم يبتعد، ثمَّ تمتمت بنبرةٍ مليئةٍ بالألم:
– ليه اتجوِّزتني يا يزن؟ علشان تنتقم من طارق؟ ولَّا...
ارتعشت الكلماتُ على شفتيها، لكنَّها أكملتها:
– ولا علشان كنت بتحبِّني؟
كان صمتهِ كالطعنات..لم يجرؤ على النظرِ في عينيها، وكأنَّ الجوابَ إليها سهامًا مسمومةً تخترقُ صدرها، هزَّت رأسها بألم، وقالت بسخريةٍ حزينة:
– الردِّ وصلني يا باشمهندس.
قاطعتها السكرتيرة على الباب:
– أستاذة رحيل...الاجتماع بدأ.
أومأت رحيل بصمت، ثمَّ التقطت هاتفها وغادرت دون أن تنظرَ خلفها..تركتهُ واقفًا في مكانه، يحاولُ تجميعَ شتاتَ نفسه...
خرجَ من شروده على صوتِ كريم:
– كلِّم إيمان وشوف الوقت المناسب علشان ننزل نجيب الدبل.
أومأ يزن دون أن ينبسَّ بكلمة، وكأنَّ الحديثَ أصبح ثقيلًا على صدره.
بفيلا الجارحي، كانَ إسحاق جالسًا في الحديقة، عيناهُ تترقَّبُ المكانَ غارقًا بماضيهِ الذي أثقلهُ الحزنُ في قلبهِ منذ فقدانِ طفله، بينما فاروق يجلسُ بجواره على مقعدهِ المتحرِّك، يراقبُ صمتهِ الموجع..
جلست صفية، تطعمُ زوجها، ذهبت ببصرها إلى إسحاق الذي مازال غارقًا في بحرٍ من الصمت، قالت بصوتٍ خافت، لكن مليء بالحزن:
لسه دينا في المستشفى؟
هزَّ إسحاق رأسهِ بحركةٍ بطيئة، مبتعدًا عن عينيها وأجابها بصوتٍ مشوَّشٍ، خرجَ همسًا:
خرجت من أسبوع...قالت هتقعد مع والدتها، سبتها براحتها...
ثم تابع بصوتٍ شاحبًا، وكأنَّهُ يعبِّرُ عن شعورٍ عميقٍ بالخذلان الذي يسيطرُ عليه، رفعت صفية حاجبها بتساؤل، ثمَّ قالت بنبرة متخاذلة:
كنت قاسي عليها قوي يا إسحاق...هيَّ مالهاش ذنب في اللي حصل، متنساش إنَّها كانت أم..
أخذَ إسحاق نفسًا عميقًا، وارتفعَ قلبهِ بالنبض، لكنَّهُ استندَ على الطاولة، ونظرَ إلى فاروق، الذي كان يراقبهم، ثمَّ تساءلَ بصوتٍ كادَ أن يُسمع:
فاروق...تفتكر الولد اللي مات ده ابني؟... تفتكر؟
خرجت شهقةٌ غير راضيةٍ من صفية، بينما قلبها ينفطرُ لحالته:
إنتَ بتقول إيه يا إسحاق؟!..ارضى بقضاِء الله، لو كانت الصدمة مأثَّرة عليك كده، فكلِّ شيء مكتوب...إنتَ مش عارف بتقول إيه.
نظرَ إليها فاروق بعينينِ مليئتينِ بالعجز، أسندَ إسحاق رأسهِ على يديه، وتنهَّدَ بنفسٍ ثقيلٍ حتى خانتهُ الدموعَ لتتساقطَ على خدَّيه:
-مش عارف، قلبي مش مصدَّق، وعقلي بيربط الأحداث، فيخوني التفكير..
مسحَ وجهه بعنف، وكأنَّما يحاولُ أن يطردَ هذه الهواجسَ من عقله، حاولَ فاروق أن يتحدَّث، لكن لسانهِ خانهُ بثقله.. تدَّخلت صفية مردفةً بنبرةٍ حنون:
اعمل تحليل، علشان تقطع الشك باليقين...مش بشك في دينا، بس اللي شفته من مدام أحلام يخلِّيني أقولَّك إتأكد..
رفعَ إسحاق عينيه إليها، والدمعة التي تعلقت في عينيهِ جعلته يبدو كطفلٍ تائه، ثمَّ نظرَ إلى فاروق، وقالَ بصوتٍ مكسور:
شفت إنتَ وأبوك عملتوا إيه؟...قول لي، لو كانت ورا الموضوع ده، هترجع تقول لي "أمَّك"؟...واللهِ لو كان ليها يد في اللي حصل مش هرحمها، سكتِّ دا كلُّه علشان وصية أبوك اللي هيَّ متسلتهاش.
قاطعهُ وصولُ أحلام، الذي كان بمثابةِ البركان...صمتَ الجميعُ لحظة ثمَّ نظرت أحلام إليهم بعينينِ مليئتينِ بالسخرية، ورسمت قناعًا من الحنان:
"عامل إيه يا فاروق؟"
وقعت عيناها على صفية التي كانت تطعمُ زوجها، ثمَّ رمقتها بنظرةٍ باردةٍ مليئةٍ بالكراهية، وأشارت إليها بكبرياء:
عمرك ما هتنضفي...لسه زي ما إنتي، مفكَّراه طفل وبتأكِّليه بالطريقة دي؟
قاطعها إسحاق بصوتٍ خافتٍ ولكنَّهُ مشحونًا بالغضب:
-جاية ليه يا أحلام هانم؟
جلست بجوار فاروق، وأمالت جسدها عليهِ وأردفت بحزن:
إيه...جاية أشوف ابني...هتمنعني؟ إنتَ ليه مش في بيت بتاعةِ الخضار ، روح دوَّر عليها يمكن تلاقيها فارشة على ناصية بتساعد أمها.
نهضت صفية، وأزالت بقايا الطعام من فمِ زوجها، ثمَّ نظرت إلى إسحاق وقالت بصوتٍ منخفض، لكنَّهُ مليء بالخوف:
هطلع أشوف البنات فوق...من وقتِ ما غرام جت وملك حبستها في الأوضة... خلِّي بالك من فاروق، مش قادرة أتركه لوحده.
قاطعتها أحلام بتهكُّم:
مالك يا بنتِ الباشكاتب؟ شفتي شيطان وعايزة تهربي ولَّا إيه؟...وبعدين البتِّ بتاع الولد اللي جبتوا من الشوارع دي بتعمل إيه في بيت ابني؟
نظرت صفية إلى إسحاق الذي هاجَ بالغضبِ وصاح:
إيه اللي جايبك ياله روحي شوفي وراكي إيه..
أخفت سخريتها، وردَّت بصوتٍ هادئ، لكنَّهُ مليئًا بالثقة:
بالراحة ياإسحاق...قولت لك أنا في بيت فاروق، لمَّا أروح بيتك اطردني، وما أعتقدشِ هاروح أصلًا.
قاطع حديثهما رنينَ الهاتف، ورفعَ إسحاق سمَّاعتهُ:
أيوة؟
إسحاق، مدام دينا رافعة عليك قضية طلاق، شوف هتعمل إيه.
تقابلت عينيهِ پأعين أحلام، التي كانت تشتعلُ بالتحدي،..ثمَّ مالت جسدها عليه، وقالت بصوتٍ ساخر:
إيه...بنتِ بيَّاعِ الخضار عملت لك مصيبة؟ بخطوةً واحدة، وبلحظةٍ من الجنون، لا يرى أمامه..كانت يداهُ تطبقُ على عنقها بشدة، حاولت صفية أن تفرِّقهُ عنها، لكن كان قد تحوًَّلَ إلى شيطانٍ مارد، لا يعرف سوى الهلاك.
بدأت صفية تصرخُ بألم، بينما كان فاروق الذي عجزهُ خانه، وصلت ملك تصرخ:
نانا!..عمُّو سيب نانا، بتلك الأثناء دلفت سيارةُ أرسلان إلى الحديقة، ذُهلَ من ذاك المشهد، فهبَّ منها وركضَ سريعًا، وهو يرى محاولاتِ صفية وملك بإبعادِ إسحاق..دفعهُ بقوَّةٍ
حتى سقطت أحلام مغشياً عليها، وجهها شاحبًا شحوبَ الموتى، من شدةِ العنفِ الذي تعرَّضت له، نظرَ إلى سقوطها نظراتٍ باردةٍ وكأنَّها ليست والدته التي حملته، نظرات تحمل من الكره مايجعلها عدوته الاولى بهذا العالم، استدارَ متحرِّكًا بثورةِ غضبِ لا يمكنُ إيقافها، ومازال شيطانهِ يوسوسُ له بإرتكابِ أبشعِ الجرائم..
بمنزلِ آدم وخاصَّةً بغرفةِ مكتبه كان منشغلًا بعمله، قطعَ انشغالهِ دلوفَ والده، بخطواتهِ الموزونةِ تعكسُ مزيجًا من القلقِ والتساؤل:
- عملت إيه؟ انشغلت ونسيت أسألك.
رفعَ آدم رأسهِ ببطء، ينظرُ لوالده متذكِّرًا عمَّا يسأل لينهضَ من مكانهِ بخطواتٍ متثاقلة، واقتربَ من والده:
- معرفتش أوصل لحاجة...متنساش دي مرات لواء، مش سهل أوصل لهم من غير حدِّ قريب منهم، هشوف ظابط كنت اتعرَّفت عليه في شغلي، يمكن يساعدني..
توقَّفَ زين للحظة، وعيناهُ تخترقانِ ملامحِ آدم :
- تمام...وأنا كمان هشوف يارب تكون هيَّ..
تردَّدَ آدم قليلاً، ثمَّ تساءل:
- فكَّرت تكلِّم عمُّو راجح؟
أغمضَ زين عينيه برهة، وكأنَّ السؤالَ أعادَ إليه ثقلًا لم يتحمله ا:
- راجح مبقاش زي الأوَّل...بحسُّه مخبِّي حاجة مش عايز أدخَّله، أنا هعرف بطريقتي وإنتَ كمان شوف ودوَّر..
توجَّهَ زين نحو الباب، لكنَّهُ توقَّفَ فجأة، واستدارَ نحوهِ متسائلًا بجدِّية :
- البنتِ اللي كنت متجوِّزها...رجعت بلدها ولَّا لسه؟
تجمَّدَ آدم، وعجزت شفتيهِ عن التفوُّهِ ليهزَّ رأسهِ كأنَّهُ يحاولُ إقناعَ نفسهِ قبلَ والده:
- أيوة...أكيد رجعت.
قالها بصوتٍ مختنق، مبتعدًا عن النظرِ إلى والده..تحرَّكَ زين مغادرًا الغرفة..
جلسَ آدم على الأريكة، يمرِّرُ يدهُ على وجههِ وكأنَّما يحاولُ مسحَ ذكرياتٍ لم يرد استرجاعها، صمت حنين الذي يعتبره، هدوء ماقبل العاصفة جعله يحملُ الكثيرَ من الخوف، احتضنَ رأسهِ وغرقَ في دوَّامةِ أفكارهِ، أين هي وماذا تخطِّط، هو يعلمُ أنَّها لن تصمتَ بغرورها الأنثوي..
انفتحَ البابُ بهدوء، يتبعهُ دخولُ إيلين، تحملُ بين يديها فنجانًا من القهوة:
- عملت لك قهوة.
رفعَ آدم رأسهِ لينظرَ إليها بصمت..لوهلةٍ شعرَ وكأنَّهُ يرى ملاكًا، حضورها كان هادئًا، لكن ملامحها مرتبكةً من هروبِ عيناها...ابتسمَ ابتسامةً هادئةً على ارتباكها ثمَّ تحدَّث:
- دا إيه الرضا ده كلُّه؟
تقدَّمت بخطواتٍ متردِّدةٍ لتضعَ القهوةَ على مكتبه، وردَّت بنبرةٍ خافتة:
- لا مش رضا...خالو طلب قهوة، فقولت أعملَّك معاه مش مخصوص يعني.
ضحكَ آدم بخفَّةٍ مستندًا على الكرسي، وعيناهُ تتأمَّلها كأنَّها لوحةً أبدعَ المبدعُ برسمها:
- طيب...اضحكي عليَّا..على العموم، تسلم إيدك.
تورَّدت وجنتاها، وفركت كفَّيها بارتباكٍ واضح:
- فاضي؟ عايزة أتكلِّم معاك شوية.
استقامَ في جلستهِ متوقِّفًا، وكأنَّهُ كان ينتظرُ حديثها...اقتربَ منها وأمسكَ كفَّيها برفق، قائلاً بحنانٍ عميق:
- لو مش فاضي، أفضى لك...متنسيش إنِّك مش بس بنتِ عمِّتي، إنتي مراتي.
بدت وكأنَّ الكلماتَ تتجمَّعُ على شفتيها ثمَّ تختفي، وكأنَّها تخشى النطقَ بها. هربت بعينيها بعيدًا، ثمَّ تمتمت أخيرًا بصوتٍ أشبهُ بالهمس:
- بتحبِّني؟
ارتجفَ جسدهِ للحظة، وكأنَّ سؤالها أصابَ قلبهِ في مقتل، اقتربَ منها وعيناهُ تغوصان في عينيها الرماديتين، ويداهُ تزيحانِ برفقٍ خصلاتِ شعرها عن وجهها:
- بحبِّك أوي...عندك شك؟
أغمضت عينيها بقوة، ودموعًا خجولةً انسابت على وجنتيها:
- نفسي أصدَّقك.
كلماتها كانت كالطعنةِ التي أعادت فتحَ جراحٍ لم تندمل داخله..دون تفكيرٍ جذبها إلى أحضانهِ بقوة، وكأنَّهُ يخشى أن تهرب:
- إيلين...مستعد أضحي بأيِّ حاجة علشانك...لو عايزة أسافر تاني، أعمل أيِّ حاجة بس...بس ترجعي تثقي في حبِّي وتخرجي من الحزنِ ده، حزنك بيقتلني...أنا مستعد أعمل أيِّ حاجة، اطلبي إنتِ..
تشبَّثت به تلفُّ ذراعيها حولَ خصره، وأغمضت عينيها بشهقاتٍ اخترقت صمتهما، كأنَّها تحاولُ أن تُقنعَ نفسها أنَّهُ قلاعها الحصينةِ ضد الهجماتِ التي تأتيها من لا قلوبَ لهم..دفنت وجهها في صدره، بينما هو أغلقَ عينيه، غارقًا في دفءِ اللحظة، مستمتعًا بذلك الشعورِ الذي تمناه طويلًا...
أبعدها برفق، وأمسكَ وجهها بين يديه، وعيناهُ تبحرُ في ملامحها كقبطان سفينة:
- أفهم من كده إيه؟ إنِّك موافقة نكمِّل حياتنا؟
تورَّدت وجنتيها، تهزُّ رأسها ولكنَّها لم تجب..أرادَ أن يتأكَّدَ من إجابتها، أرادَ أن يقنعَ نفسهِ أنَّها حقيقة وليست بخيال ، فاقتربَ منها ليطبعَ على شفتيها قبلةً تحملُ كلَّ ما يعجزُ عن قوله، قبلةً تحملُ كمَّ العشقِ والاشتياق..
لحظاتٍ من السكونِ العذب، لم يُسمع فيها سوى أنفاسهما، ونظراتٍ تحكي الكثيرَ والكثير ، كأنَّ العالمَ لم يوجد به سواهما، ليتخيَّلَا أنَّهما بجنةٍ خُلقت لهما وحدهما، قطعَ جنةِ عشقهما طرقاتٍ على الباب لتعيدهم إلى أرضِ الواقعِ الذي اعتبره ادم في تلك اللحظة بالقاسي
ابتعدت عنهُ بسرعة، وكأنَّها ارتكبت ذنبًا، لتنهضَ تعدِّلُ من وضعيةِ ثيابها التي لمستها يديهِ العابثة، لملمت خصلاتها المتناثرة، وعيناهُ ترسمُ ارتبكاها بألم، هربت إلى الحمَّامِ الملحقِ بالمكتب، أمَّا هو فوقفَ يحاولُ استعادةَ أنفاسه قبلَ أن يأذنَ بالدخول.
دخلَ أحمد أخيه، وجههُ يحملُ مزيجًا من التوترِ والارتباك:
- فيه ظابط برا...بيقول إنِّ الستِّ اللي كنت متجوِّزها بتتهمك بمحاولة قتلها.
تجمَّدَ آدم في مكانه، وكأنَّ الأرضَ انهارت تحتَ قدميه:
-عملتها الحيوانة..قالها بدخولِ زين وداخلهِ بركانًا من الغضب:
-البنتِ دي بتقول إيه، أنا مش سألتك قولت سافرت..قالها بخروجِ إيلين توزِّعُ نظراتها بينهم:
-بتتهمك بقتلها ليه؟!عملت إيه؟..
في منزلِ أرسلان:
خرجَ من الحمَّامِ يلفُّ جسدهِ بمنشفةٍ بيضاء، وقطراتُ الماءِ تنسابُ على كتفيهِ..بحثَ عنها بعينيهِ بلهفة، حتى وجدها تجلسُ أمام المرآة، تصفِّفُ خصلاتها بشرود، خطا إليها بخطواتهِ البطيئةِ يرسمها بعينيهِ..وقفَ خلفها وطوَّقها بذراعيه، ثمَّ انحنى يهمسُ بجوارِ أذنها:
سرحانة في إيه يا حبيبتي؟
رفعت رأسها ببطء، وتساءلت بعيونٍ ممزوجةٍ بالحزنِ والقلق :
أرسلان، ليه جدِّتك بتعمل كده؟ كنت فاكرة إنَّها بتكرهني عشان أنا فقيرة، لكن النهاردة لمَّا شفت اللي عملته مع ماما صفية وكلامها عن عمَّك إسحاق، خفت منها أوي...متزعلشِ منِّي، بس الستِّ دي تخوِّف بجد.
ظلَّ صامتًا للحظة، كأنَّهُ يستحضرُ ذكرياتٍ دفينة، ثمَّ قالَ بنبرةٍ هادئةٍ مشوبةٍ بالتهكُّم:
إسحاق دايماً كان يبعدني عنَّها وأنا صغير، كنت فاكر إنُّه بيغير منها، خايف أحبَّها أكتر منُّه...بس بعدين عرفت إنُّه كان خايف تئذيني.
اتَّجهَ إلى غرفةِ الملابس، وسحبَ ملابسهِ ببطء..تابعَ بصوتٍ منخفضٍ لكنَّهُ يحملُ في طيَّاتهِ ألمًا قديمًا:
جدِّتي أذت ناس كتير، يا غرام..لولا خوفي على إسحاق، كنت خلِّيته النهارده يموِّتها، ويريَّحنا من شرَّها..
شعرت بثقلِ كلماته، فتقدَّمت نحوه بخطواتٍ متردِّدة، وعيناها تحتبسُ بالدموع:
أرسلان...ممكن تموِّت حد؟ يعني لو الأمر استدعى، هتعملها؟
استدارَ نحوها بذهول، ثمَّ أشارَ إلى نفسهِ بابتسامةٍ خفيفة:
أنا ظابط مخابرات، يا غرام لو جالي أمر... حتى لو فيكي هنفِّذه.
شهقت بصدمة، ووضعت كفَّيها على فمها وهي تتراجعُ خطوةً للوراء:
يعني ممكن تضحِّي بيا؟
اقتربَ منها بخطواتهِ الواثقة، وانحنى قليلاً ثمَّ همسَ مبتسمًا بخبث:
قتلتك من زمان يا روح قلبي...مش ميتة فيَّا وفي حلاوتي؟
حاولت لكمهِ بخفَّة، وهي تشعرُ بالخجلِ والغضب:
-أرسلان! إنتَ بجد وقح وقليل ادب
قالتها ولم تنتبه للمنشفةِ التي بدأت بالانزلاقِ من فوقه، أشارَ إليها بغمزةٍ ماكرة:
"أنا كنت مؤدب، إنتِ اللي بتغريني، وبتجرجيني وأنا قلبي صغير، لازم أطبق اتهامك، انا عادل ولازم مطلعش مراتي كذابة، والله لاطبق شتيمتك
جحظت عيناها بدهشةٍ وهي تحاولُ الابتعادَ عنه، لكنَّهُ جذبها نحوهِ بقوَّة، ليختلَّ توازنهما وسقطا معًا على الأريكة، وضحكاتهما تتعالَ في الغرفة.
بعد فترة، في المشفى:
كانت تطوِّقُ ذراعهِ وهي تبتسمُ بسعادةٍ بريئة:
"الله، هشوف بيبي أخيراً"
رمقها بنظرةٍ ساخرةٍ وهو يقول:
"طفلة...واللهِ متجوِّز طفلة"
انحنى نحوها مازحًا:
- ماتيجي نرجع البيت، ونفكَّر في موضوع البيبي دا، مايمكن نجيب إحنا البيبي..
دفعتهُ مبتعدةً وهي تحاولُ كبح ضحكتها، أمسكَ خصرها بحركةٍ سريعةٍ وهو يهمس:
عارفة رقم الأوضة؟ ولا أقولِّك نلفِّ المستشفى كلَّها؟
توقَّفت تطالعهُ بغضب مصطنع، لكنه ابتسم، فأذابت تلك الابتسامة كل محاولاتها للتمثيل...
في غرفةِ ميرال، قبلَ قليلٍ
رفرفت أهدابها ببطء، ثمَّ همست باسمهِ بخفوت:
"إلياس"
اقتربَ منها مسرعًا، وعيناهُ تحملُ مزيجًا من القلقِ والحب..انحنى إليها هامسًا بجوارِ أذنها:
"أنا هنا ميرا...جنبك"
التقت عيناهُ بعينيها المثقلتينِ بالألم، فأمسكَ وجنتيها بيديهِ الحانيتين:
حبيبتي، حاسة بإيه؟
تأوَّهت بصوتٍ خافت، ثمَّ همست بصوتٍ متقطع:
"ابني...ابني فين؟"
أغمضَ عينيه للحظة، كأنَّهُ يحبسُ أنفاسه، ثم انحنى وقبّلَ جبينها:
-كدا تقلقيني عليكي وأموت من الخوف..
رفعت عينيها ببطء، تطالعهُ باستفهام:
أنا عملت إيه؟
طافت عينيه تتأملانِ سوادَ عينيها الآثرِ وهمسَ بنبرةٍ عاشقة:
خوَّفتيني عليكِ...الحمدلله حبيبتي..
نظرت نحو فريدة النائمةِ على المقعد، ثمَّ عادت تسألهُ بلهفة:
ابني فين؟ أوعى يكون..وضعت كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها..ليزيحَ كفَّيها ببطء:
-إهدي هوَّ كويس، ثمَّ ابتسمَ بحنانٍ وهو يمسكُ بكفيها:
-مش تسألي عن أبو ابنك اللي مش قادر يوقف على رجله؟
حركت عينيها بعيدًا عنهُ وقالت بخفوت:
متخافش، هتلاقي اللي يخاف عليك.. المهمِّ دلوقتي، عايزة أشوف ابني...
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-يعني إيه..نهضت فريدة بعدما استمعت إلى صوت إلياس:
-حبيبتي..عاملة إيه دلوقتي..قالتها بدخولِ رانيا وراجح الغرفة، لتهرولَ رانيا إليها:
-حبيبتي حمدالله على السلامة، من إمبارح وإحنا تحت منتظرينك تفوقي.
لحظاتُ صمتٍ مميتةٍ ليستديرَ إلياس بجسدهِ ببطءٍ ينظرُ إلى راجح، مع دخولِ أرسلان بجوارِ غرام الغرفة:
-الله انا بقيت عمُّو يا..توقَّفَ عن الحديثِ عندما وقعت عيناهُ على رانيا وراجح الذي يبتسمُ بسخرية متمتمًا بتحدٍ واضح في عينيه
"مفيش مبروك لجد الطفل يابن اخويا، ايه يافريدة، مش تعرفي ولادك الأصول، مش لازم جد الطفل هو اللي يسميه ويأذن في ودانه"
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
كنتُ أظن أن الحزن الذي يسكنني كافٍ ليجعلها تُدرك حجم الألم الذي تركته في داخلي، لكنها اختارت أن تُعمّق جُرحي أكثر.
أنتظرت منها عودة تحمل في طياتها اعتذارًا صادقًا، عودة تجبرني على نسيان كل لحظة غابت فيها، حينها كنتُ سأبكي على صدرها بكل ما عشته من وجع، كنتُ سأكشف لها عن ليالٍ ثقيلة مرّت دون أن تكون بجانبي، وسأجعلها ترى كيف مزّقت روحي.
لكني لن أبقى، لن أغفر، وسأرحل بعيدًا؛ لأني أدركت أن الروح التي تتألم من القريب، لا تجد في قربه شفاءً.
كيف أصف لها هذا الألم الذي يتسلل إلى أعماقي دون أن أجد له وصفًا؟
إنه وجع الروح، وجع لا يُسمع ولا يُرى، لكنه يترك أثرًا لا يُمحى.
ليتها تعلم أنني انهرتُ حتى فاض وجعي، وأنها كانت الجرح والقاضي معًا!!!
تُرى من يكون بطلنا المتألم
دلفَ راجح إلى الغرفةِ بخطواتٍ واثقةٍ تحملُ في طيَّاتها التحدي، ناظرًا إلى ميرال بعينينٍ تضجَّانِ بالحدة.
"ألف مبروك يا بنتِ راجح!"، ردَّدها بصوتٍ غليظ، بينما خطت رانيا نحوها بتوتر، متحاشيةً النظرَ إلى إلياس، الذي توقَّفَ في صمتٍ مميت، وجههِ بلا تعابير..خطت مردفة:
"ميرو حبيبتي، حمدَالله على السلامة إحنا تحت من إمبارح، منتظرينك تفوقي يا قلبِ ماما، بابا مرديش يمشي، كان عايز يشوف ابنك."
اقتربَ راجح بخطواتٍ بطيئة، وعيناهُ تتحدَّى كلَّ من في الغرفة، بانتصارٍ هيَّئهُ لنفسهِ الخبيثة، ثمَّ اتَّجهَ نحو فريدة بنبرةِ استعلاء..
لم تتحرَّك فريدة، وكأنَّ الزمن توقَّفَ عند دخولهما، وشعرت بأنَّ حضورهم سيكون عاصفةً ستحرقُ الأخضرَ واليابس، رفعَ حاجبهِ بنظرةٍ ساخرةٍ وهتف:
"مش تعلِّمي ابنك الأصول يافريدة"
قاطعَ صوتهِ دلوفُ أرسلان إلى الغرفةِ بمزاحهِ الذي اعتادوا عليه منذ تقرُّبهِ إليهم، وهو يصدحُ بنبرةٍ سعيدة:
"عمُّو جه يا..."، توقَّفَ فجأة، بعدما وقعت عيناهُ على راجح الذي تابعهُ بنظراتٍ مشحونةٍ بالازدراء، انحنى أرسلان قليلًا نحو غرام، مشيرًا بيدهِ باتِّجاهِ ميرال:
"سلِّمي على ميرال يا غرام."
قالها وعيناهُ على إلياس الذي توقَّفَ ووجههِ كالصخرةِ الباردة، فاقتربَ من فريدة وهو يميلُ برأسهِ باستفهام:
"عندنا ضيوف ولَّا إيه؟"
تجاهلهُ راجح بابتسامةٍ تحملُ سخريةً خبيثة، واتَّجهَ نحو ميرال التي كانت تتنقَّلُ بنظراتها المتوترة بينهِ وبين إلياس، وقفَ أمامها وابتسمَ ساخراً:
"إحنا مش ضيوف يا...اسمك إيه؟ أنا جدِّ الطفل...اللي أخوك طلَّق مراته بعد ما عاش معاها يومين حلوين؛ مش دا اللي قولته لي في المستشفى؟..قالها متهكِّمًا، ثمَّ التفتَ إلى فريدة:
-عاذره، ماهي البنتِ حلوة، طالعة لمرات عمَّها مش كده يا فريدة؟"
خطا أرسلان بهدوءٍ مميت، ووقفَ أمام فريدة وكأنَّهُ درعٌ يحميها، ثمَّ رفعَ رأسهِ بابتسامةٍ ساخرةٍ وتحدَّثَ بنبرةٍ لاتخلو من الاستهزاء:
"جدُّو جاي بنفسه؟ وياترى جاي ينقَّط البيبي، ولَّا جاي يورِّينا إنِّ له جد؟"
مطَّ راجح شفتيهِ بازدراءٍ وردَّ ببرود:
"رغم ما اتعرَّفناش، بس هقولَّك علشان فضولك ما يموِّتكش...أنا جاي أسمِّي الطفل، وأنا اللي هأذِّن في ودنه، مش دي الأصول يا فريدة؟"
سادَ الصمتُ وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ للحظة، إلى أن قطعهُ أرسلان بقهقهةٍ مرتفعةٍ جعلت الجميعَ يظنُّونَ أنَّهُ أُصيبَ بالجنون..حاوطَ بطنهِ وهو يضحك ثمَّ توقَّفَ فجأة، وطالعهُ بعينينِ باردتينِ وابتسامةٍ مريرةٍ ممزوجةٍ بالغضبِ الجحيمي:
"أحلى جدُّو والله! تصدَّق؟ كنت جاي مخصوص علشان آخد البيبي لجدُّو... أيوة، حتى ماما قالتلي كده."
أشارَ بيدهِ نحو ميرال وهو يتحدَّثُ بسخريةٍ لاذعة:
آه كويس إنتَ جدُّو، وأنا عمُّو، والبارد اللي هناك أبوه، والبنتِ اللي لسانها أطول منها دي تبقى أمه..مش كده يا بهية؟"
اقتربَ خطوةً نحوهِ وهو يمدُّ كفَّيهِ بتحدٍّ:
"مش هتسلِّم يا جدُّو على عمُّو؟"
اقتربَ راجح ومدَّ يديهِ وعينيهِ تنطقُ بالتحدي، لكن أرسلان أمسكَ بكفَّيهِ وضغطَ عليهما بقوة، وجذبهُ نحوهِ بعنفٍ هامسًا بنبرةٍ منخفضةٍ تحملُ وعيدًا:
"أكيد متعرفنيش...أنا مابتقابلشِ مع الأشكال الواطية إلَّا في ساعاتِ الضرورة، تقول إيه بقى؟..مش أيِّ حد يتمنَّى الوقوف قدَّامي، وبدل جيت لحدِّ رجلي، يبقى لمَّا تشوفني تبصّ في الأرض...مش تتبجَّح."
ارتفعت أنفاسُ راجح، وتوسَّعت عيناهُ بغضبٍ مكتومٍ قبل أن يهدرَ بعنف:
"إنتَ بتقول إيه يا له؟"
اقتربَ من أرسلان أكثر وهمسَ بنبرةٍ تحملُ التوعُّدَ والتحدي:
"شوف البنتِ دي..."، وأشارَ نحو ميرال..
تابعَ بصوتٍ منخفض، لكن كلماتهِ كانت كالصفعات:
"دي بنتي...بنتي أنا، دي مروة راجح الشافعي، اللي زوَّرتوها ونسبتوها لغيري، وفي الآخر أخوك يرميها وجاي يقولِّي كان بيستمتع بيها، بس هاخد حقَّها منكم..
ثارت جيوشُ غضبِ أرسلان، حتى تحوَّلت هيئتهِ كهيئةِ شيطان؛ جذبهُ بقوَّةٍ من عنقهِ من الخلفِ وضغطَ عليهِ حتى أصدرَ صوتًا متألِّمًا، ثمَّ دفعهُ بقوَّةٍ ليسقطَ أمام فريدة..أشارَ إليه وقال بنبرةٍ آمرة:
"اتأسف لها...قولَّها أنا آسف، مش على اللي عملته زمان، لا..علشان وقفت وبجَّحتِ فيها دلوقتي.
رفعَ راجح عينيهِ نحو فريدة بتحدٍّ، وقال بصوتٍ حاد:
"بتحلم يابنِ جمال"
انحنى أرسلان حتى أصبحَ بمستواه، وعيناهُ تتوقدانِ غضبًا:
"ما أنتَ شاطر أهو...وأومال ليه عامل عبده العبيط ومش عارفني؟"
ثمَّ ابتسمَ بسخريةٍ قاتلةٍ وهو يضيف:
"أنا حلو صح؟ علشان كده بتحبِّني، آه صح..بتحبني ليه؟ علشان شبه أخوك اللي مات غرقان، بس...يا ترى مين اللي موِّته؟"
شهقت فريدة بحرقة، واهتزَّ جسدها، وانهمرت دموعها كالسيلِ وهي تهزُّ رأسها رافضةً ما تسمعه:
"لا! مستحيل! أبوك مات غرقان...مفيش حدِّ قتله."
رفعَ أرسلان رأسهِ وصاح:
"غرام، خدي ماما واطلعي شوفي البيبي..
عايز أتكلِّم مع راجح وميرال على انفراد."
أومأت غرام بعينيها وسحبت فريدة، التي تسمَّرت بمكانها، بينما إلياس جلسَ بهدوءٍ غيرَ معتاد على المقعد، يراقبُ بصمت...منتظرًا اللحظةَ المناسبة..
توقَّفت فريدة بأنفاسٍ لاهثةٍ من فرطِ الغضبِ والخوفِ على أولادها، وصاحت بصوتٍ مرتجفٍ متألِّمٍ مختلطاً بالإنزعاج:
كفاية بقى..أنتوا عايزين إيه؟ وإنتِ يا رانيا جاية ليه؟ دي بنتي أنا...مش بنت حد، خدي الراجل دا وامشي من هنا...برَّة..
لكن صدى كلماتها لم يكن سوى شرارةٍ أشعلت نيرانَ راجح، الذي استدارَ ببطءٍ كمن يستعدُّ لهجومٍ وتحوَّلت عينيهِ إلى جمرةٍ متَّقدةٍ وصوتهٍ خرجَ كالسيف:
بنتِ مين؟ مش كفاية تزوير يا فريدة!!
شوفي أنا جيت بالنهار وفي مستشفى، وولادك اللي مفتخرة بيهم الظباط، هاخد بنتي وأنا بطلَّع لساني..
اقتربَ من ميرال بخطواتٍ جريئة، لكنَّهُ توقَّفَ فجأةً عندما وقفَ أرسلان في طريقه، نظراتهِ تحملُ تهديدًا لا لبسَ فيه..
ضحكَ راجح بسخريةٍ مريرة، وقال مستهزئاً:
-امشي من قدَّامي بدل ماأودِّي أمَّك في داهية.
لم يُكمل كلماتهِ حتى انقضَّ أرسلان عليه بلكمةٍ صاعقة، صرخت بها عضلاتهِ بغضب:
هيَّ مين دي اللي تودِّيها في داهية؟!
ترنَّحَ راجح للحظةٍ قبل أن يدفعهُ بغضبٍ وحشي، واشتعلت بينهما مشادَّةً عنيفةً كعاصفةٍ لا تهدأ..وسطَ كلِّ هذا، كان إلياس جالسًا في طرفِ الغرفة، ظهرهِ مستقيمًا كأنَّهُ ملكٌ على عرشه، وعيناهُ لا تفارقانِ راجح، تنتظرُ لحظةَ الحسم.
وفجأةً، اخترقَ الغرفةً رجلٌ ضخمَ البنية، ألقى نظرةً جامدةً على المشهدِ قبل أن يقتربَ من راجح قائلاً:
إحنا جاهزين يا راجح باشا.
حينها رفعَ إلياس رأسهِ وابتسمَ ابتسامةً باردةً كأنَّها موجَّهةً لعاصفة، ثمَّ أشارَ بيدهِ نحو الباب:
خلَّصت مسرحيتك؟ شايف الباب اللي هناك؟ لو لمحتك قدَّامي..وحياة رحمة أبويا اللي لسة ما أخدتش عزاه، لأجرَّك زي الكلب، وأخلِّيك ما تساويش جزمتي..
سادَ صمتٌ ثقيلٌ كأنَّهُ جنازةُ مشاعر، لم يكسرهُ سوى صوتِ خطواتِ رجالِ راجح وهم يقتحمونَ الغرفة؛ ارتجفت ميرال على سريرها كطفلةٍ صغيرةٍ تخشى صفعاتَ القدرِ التي لا ترحم، ثمَّ انفجرت بالبكاء، شهقاتها كانت كطعنةٍ في قلبِ إلياس، ولكن عليه تنفيذَ مخطَّطهِ..
تقدَّمت رانيا خطوةً نحو ميرال، عيناها تتوسلانِ إلياس لكنَّها توقَّفت فجأةً عندما زمجرَ إلياس، غضبهِ الذي صار حممًا بركانية:
"قولت إيه؟"
هزَّت رانيا رأسها بارتباك، وأشارت بيدٍ مرتعشةٍ نحو ميرال:
خلِّيني أشوفها بس يا إلياس...
أجابها بصوتٍ كالرعد، حطَّمَ كلَّ الأملِ الذي تحاولُ التشبَّثَ به:
"برَّة"
لم تجد رانيا سوى أن تتشبَّثَ بذراعِ راجح، تسحبهُ وهي تتجنَّبُ نظراتِ إلياس الثاقبة:
"تعالَ..نبقى نطِّمن عليها بعدين."
لكن أوقفهما صوتُ إلياس المخيف:
"استنى يا راجح"
أخرجَ ورقةً من جيبه، ورفعها أمامَ وجهه:
"امضي هنا"
حدَّقَ راجح في الورقة بذهول، قبلَ أن يرفعَ نظرهِ إلى إلياس كأنَّهُ يحاولُ فهمَ ما يحدث:
-إيه دا إن شاء الله؟!..
-مجنون، علشان أعمل كدا!!لا بعينك يابنِ جمال.
ابتسمَ إلياس ابتسامةً مميتة، وقالَ بصوتٍ كالجليد:
لا بإيدك..مين قال بعينك.
استدارَ إلى ميرال، التي كانت ترتجفُ كالورقةِ تحت عاصفةِ الشتاء، وسألها بنبرةٍ هادئة:
الراجل دا فيه حاجة تربطك بيه؟
أجابت بصوتٍ متهدِّج، بالكادِ يُسمع:
"لا"
أشارَ إلياس إلى الورقةِ مرَّةً أخرى، صوتهِ باتَ أكثرُ حدَّة:
"امضي"
ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى أرسلان،
الذي استدارَ إلى الرجالِ الذين اقتحموا الغرفة:
-أنتوا جايين تهدِّدوا ظابط مخابرات، وواقفين مع الخاين، الراجل بيخون البلد، شركة الأمن اللي شغَّالين فيها لازم تاخد موقف ضدُّكم، غير طبعًا الخيانة..نظرَ الرجالُ لبعضهم بخوف، وارتباك، ولكن صوتَ راجح سيطرَ على توترهم:
-كذاب متسمعوش كلامه، لحظةً وأخرجَ أرسلان الكارت الخاص به:
-أنا ممكن أقبض عليكو دلوقتي ، معايا كلِّ الصلاحيات..تراجعَ الرجالُ باعتذار:
-إحنا آسفين ياباشا..
خطا أرسلان خلفهم ليغلقَ باب الغرفة، وجذبَ المقعدَ وجلسَ بجوارِ البابِ وعلى وجههِ ابتسامة انتصار:
-عايز أتفرَّج بمزاج..
التفتَ راجح إلى إلياس:
-مش همشي غير ببنتي، إنتَ اللي تاخد أمَّك والواد اللي هناك دا وتمشوا..
لكن إلياس لم يحتمل أكثر، انقضَّ على راجح بقبضةٍ صلبةٍ كالصخر، سدَّدَ له لكمةً جعلتهُ يترنَّح..
ارتفعَ بكاءُ ميرال ليملأ المكان، وكأنَّ قلبها الصغير يصرخُ طلباً للرحمة، حتى اقتحمَ جاسر الغرفة بصوتٍ كالمطرقة:
إيه اللي بيحصل هنا؟
تراجعَ راجح بخطواتٍ متعثِّرة، يحاولُ أن يستعيدَ رباطةَ جأشه، لكنَّهُ فشل..
جلسَ إلياس بهدوءٍ على مقعدٍ قريب، وجههِ صارَ قناعًا من البرود، قالَ وهو يرفعَ الحجابَ على خصلاتِ ميرال المتناثرة:
زي ما شوفت، جايب بلطجية وعايز يهجم علينا..
التفتَ إلى جاسر، وأكملَ ببرودٍ مليءٍ بالسخرية:
اتجنِّن لمَّا عرف إنِّنا اشترينا أسهم الشركة، وجاي بيقول: "هاخد البنت اللي بقالكم سنين بتربُّوها، مش انتوا عاملين ظباط، هاخدها وأنا بطلَّع لكم لساني." عايز أشوف القانون هيعمل إيه.
ضحكَ أرسلان بصوتٍ مرتفع، وغمزَ لإلياس قائلاً:
الله يخرب بيتك، هوَّ إنتَ اللي جرجرته لهنا؟
ردَّ إلياس بثقةٍ دون أن يلتفت:
أومال..
ثمَّ أشارَ إلى جاسر قائلاً بحزم:
البلاغ يا حضرةِ الظابط؛ الراجل دا جاي يخطف مراتي وبيستهزئ بمهنتي
حاولَ راجح أن يدافعَ عن نفسه:
دي بنتي..
قاطعهُ أرسلان بابتسامةٍ مستفزة:
أثبت..
تقدَّمَ جاسر خطوةً بينهما، وقالَ بصرامة:
إحنا هنلعب؟ دلوقتي فيه شهود وتسجيلات إنَّك جاي تخطف مرات حضرةِ الظابط؛ والراجل اللي مسكناه فوق كان عايز يخطف الطفل اللي في الحضانة..والرجالة اللي سلمت نفسها لأمن المستشفى، دول ايه، اكمل جاسر وهو يشير إليه
-إنتَ مختَّل عقلي..
توقَّفَ جاسر، وسحبَ أنفاسهِ بهدوء، ثمَّ نظرَ نحو راجح بعينينِ تعكسانِ صراعًا عنيفًا، حاولَ التمسُّكَ بهدوئه، وبين امتعاضهِ من ذاك عديمِ الأخلاق الذي يريدُ أن يختطفَ الطفل، رفعَ عينيهِ و قال بصوتٍ خفيضٍ لكنَّهُ مشحونًا بالحدِّة:
"لو سمحت، تمشي من غير شوشرة، إحنا في مستشفى، الناس هنا مش ناقصة دراما."
رفعَ عينيهِ بتأنٍّ نحو إلياس، محاولًا الحفاظَ على رباطةِ جأشه:
"ياريت يا إلياس باشا تيجي علشان التحقيقات...الوضع محتاج توضيح."
أومأ إلياس بصمتٍ ثقيل، لكن قبلَ أن يتحرَّك، اقتربَ أرسلان بخطواتٍ واثقةٍ، بدا وكأنَّهُ يحاولُ السيطرةَ على كلِّ ذرَّةٍ من غضبه، لكنَّهُ أشارَ نحو إلياس وهو يقول:
"خليك مع مراتك...أنا هتصرَّف هنا."
لكن عيني إلياس لم تفارق راجح، فكانت نظراتهِ كالسيف، ثمَّ اقتربَ منهُ أكثر، وهمسَ بصوتٍ خفيض، يقطرُ سمًّا:
"بعد إذنك يا جاسر باشا، هقول للمتَّهم حاجة."
تراجعَ جاسر قليلاً، مشدوهًا بما يحدثُ أمامه، بينما اقتربَ إلياس من راجح وتمتمَ بنبرةٍ تنزفُ مرارةً وكبرياءً مجروحًا:
"كنت عرضت عليك عرض...وإنتَ رفضته...دلوقتي بقى اللعب على المكشوف."
لم يتراجع راجح، بل رسمَ ابتسامةً ساخرةً على وجهه، وأردفَ بنبرةٍ مستفزة:
"هنشوف ياابنِ...السيوفي."
قالها و أدارَ وجههِ ببطءٍ نحو رانيا، وأشارَ إليها متمتمًا بثقة:
"ارجعي على البيت...وأنا شوية وهحصلِّك."
تحرَّكَ الشرطي نحوهِ ليقيِّدهُ بالأصفادِ الحديدية، لكنَّ إلياس صاحَ فجأةً بصوتٍ يكسرُ صلابةَ المكان:
"ابعد يا بني...راجح باشا هيروح معاك من غير كلبشات."
ثمَّ نظرَ إلى جاسر بعينينٍ امتلأتا بالتناقض، وقال بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ مشحونٌ بالعاطفة:
"آسف يا جاسر باشا...الباشا دا بيكون عمِّي، فرجاءً منِّي احترامًا لوالدي...مش أكتر."
عقدَ جاسر حاجبيه، وبينما كان يحاولُ فهمَ كلماتِ إلياس، قطعَ أرسلان هذا التوتُّرَ بصوتٍ جافٍّ كالصخر:
"هنتحرَّك ولَّا نقعد نحكي على أطلال كوارث راجح الشافعي؟"
ثمَّ رمقَ إلياس بنظرةٍ باردةٍ كأنَّها تحذيرًا أخيرًا وقال بنبرةٍ مشبعةٍ بالقسوة:
"دا مش عم، تمام؟ مش عايز أسمع الكلمة دي تاني."
ارتدى نظَّارتهِ بخفَّة، وتحرَّكَ للخارجِ بخطواتٍ تخفي تحتها عاصفةً من الغضبِ والخيبة..توقفت أمامه رانيا
-عملت اللي قولت عليه، وجبته، ممكن بقى تجيب الفيديو لو سمحت
أشار إليها بتكبر:
-لحظة ومش عايز اشوف وشك الزبالة دا قدامي ..قالها ثم دلفَ إلى الغرفة، يشعرُ أنَّ هناكَ مايخنقه، كان يريدُ أن ينهي حوارَ زوجته، دفعَ البابَ ودلفَ للداخلِ وجدها تبكي كأنَّ دموعها محاولةً يائسةً لإطفاءِ حريقِ ألمها، صوتُ نحيبها كان كالسكاكين، يقطعُ كلَّ ذرَّةٍ من قلبه، طالعها بأسى وهي بين أحضانِ فريدة، التي لم تجد سوى الصمتِ لمحاولةِ تهدئتها...
توقَّفَ إلياس عند البابِ للحظة، أغمضَ عينيهِ محاولاً كبحَ غضبٍ يشعلُ صدرهِ كبركانٍ على وشكِ الانفجار، ثمَّ تقدَّمَ نحوها بخطواتٍ ثقيلة، وكلَّ خطوةٍ تحملُ وزناً لا يُحتمل..
جلسَ بجانبها، يعدل وضعية نومها، مدَّ يدهِ ببطءٍ نحو يدها المرتجفة، ثمَّ همسَ بصوتٍ بالكادِ خرج من بين شفتيه، حائرًا بين الرجاءِ والألم:
"اطمِّني...أنا هنا...مش هسيبك أبدًا."
لكنَّها لم ترفع عينيها نحوه، كانت غارقةً في حزنها، وكأنَّ الكلماتَ لم تعد تعني شيئًا، أغلقَ عينيهِ مرَّةً أخرى، محاولًا أن يجدَ القوةَ في ضعفها وحزنها
توقَّفت فريدة تراقبُ غرام بعينينِ تحملانِ القلقَ والحنان، وهمست بصوتٍ يشوبهُ الارتباك:
"حبيبتي، تعالي انت وغادة ننزل نشرب قهوة تحت، لحدِّ ما أرسلان يرجع."
أومأت غرام بخفوت، تبحثُ عن مهربٍ من هذهِ الأجواءِ الثقيلة، ثمَّ تحرَّكت بخطواتها البطيئة نحو الخارج.. أمَّا هو فقد استدارَ نحو ميرال، التي مازالت تبكي في صمتٍ أشبهَ بصراخٍ مكتوم..
اقتربَ منها ونظراتهِ تحملُ مزيجًا من الحزنِ والغضبِ المكبوت، ثمَّ قالَ بنبرةٍ حاولَ أن تبدو هادئة لكنَّهُ فشل:
"ممكن أعرف بتعيَّطي ليه دلوقتي؟ الراجل دا يلزمك..."
انفجرت حروفُ صوتها وكأنَّها شظايا من قلبٍ محطَّم:
"ليه؟!"
-كانت الكلمةُ أشبه بعاصفة، نطقتها بحزنٍ قاتل، وأغمضت عينيها بقوَّةٍ تحاولُ حبس َالألمِ في داخلها، لكن صوتَ راجح لم يرحمها، يتردَّدُ في أذنيها كجرسِ موت:
"رايح تقولُّه اتجوِّزتني متعة؟ هتفضل لحدِّ إمتى كده؟ لحدِّ إمتى هدوس عليَّا علشان غرورك وكبرياءك؟"
رفعت رأسها إليه، ونظرتها تحملُ خليطًا بين الوجع والحزن، تستجديهِ أن ينفي ما قالهُ راجح..همست بصوتٍ مثقلٍ بالبكاء:
"قولتها ولَّا لأ يا إلياس؟ قولت لراجح؟ دبحتني...دبحتني للمرَّة اللي مبقتشِ عارفة عددها!"
تراجعَ إلياس خطوتينِ للخلف، وكلماتها التي أصابته في مقتل، أدارَ وجههِ بعيدًا عنها، لكنَّهُ لم يستطع الهروبَ من نظراتها التي اخترقتهُ كالسيف، بكت بحرقةٍ وهي تمرِّرُ أصابعها المرتجفةِ على وجهها، محاولةً كبحَ دموعها بلا جدوى..
-ميرال أنا قولتها علشان أحرقه زي ماحرقنا..
هزَّت رأسها تتمنَّى أن يسحبَ اللهَ روحها حتى تنتهى من هذا العذاب، ردَّدَ اسمها مقتربـًا منها، رفعت عينيها التي تتلألأُ جواهرها ثمَّ نطقت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالحسرة:
"قولتها...علشان تحرقه، صح؟ بس الحقيقة...إنتَ حرقتني أنا..أنا الوحيدة اللي بتحرق ياإلياس...أنا وبس."
صوتهِ خرجَ متحشرجًا وهو يحاولُ التبريرَ لكنَّهُ لا يملكُ شيئًا يقوله:
"ميرال، إنتِ مش فاهمة..."
لكنَّها لا تريدُ أن تسمع، أغلقت أبوابَ قلبها أمام كلماته، فيكفي ماتشعرُ به..
-ميرو حبيبتي، إنتِ واثقة فيا..قالها وهو يجلسُ بجوارها يحتضنُ كفَّيها بين راحتيه، رفرفت أهدابها بثقلِ عبراتها وتمتمت بلسانٍ ثقيل:
-مكنتش بثق في حدِّ غيرك، ولا عايزة حدِّ غيرك..دنا برأسهِ لمستوى جسدها:
- ولا مسموح لك تثقي في غيري..لمعت عيناها بدموعها:
-أثق، بعد إيه ياإلياس، بعد مابعتلي واحدة بتساومني على ابني، بتقولِّي سوري أنا أولى من الغريب..
صمتٌ مميتٌ بالغرفة، ونظراتُ الذهولِ تجلَّت بملامحه، متسائلًا عمَّا نطقته:
-أنا مش فاهم حاجة، قاطعَ حديثهِ دخولُ الطبيبة، كأنَّها نسمةٌ باردةٌ تخترقُ نيرانَ كلماتها التي ألقتها، اقتربت الطبيبةُ و ابتسمت قائلةً بنبرةٍ مفعمةٍ بالطمأنينة:
"حمدَ الله على السلامة."
ردَّت ميرال بصوتٍ مكتومْ يكادُ يختفي بين بكائها:
"الله يسلِّمك."
دقَّقت الطبيبةُ النظرَ نحوها بتساؤل:
"إنتِ بتعيَّطي علشان تعبانة؟ ما تعيَّطيش، علشان كدة مش كويس. إنتِ لسه والدة، جسمك محتاج الراحة."
نقلت بصرها نحو إلياس الذي تحرَّكَ في زاويةِ الغرفة، صامتًا كتمثال، ثمَّ أردفت بابتسامةٍ مرحة:
"وبعدين، فيه حدِّ يبقى متجوِّز راجل بيخاف عليه كده ويعيَّط؟ دا كان هيتجنِّن عليكي."
أغمضت عينيها، في محاولةٍ للهروبِ من كلماتِ الطبيبةِ التي أشعلت نيرانَ صدرها، تفحَّصت جرحها بحرص، ثمَّ تابعت بجدية:
"لازم تتحرَّكي شوية..لو مشيتي كام خطوة هنطَّمن إنِّ كلِّ حاجة تمام."
أومأت ميرال بصمت، ثمَّ استدارت الطبيبةُ نحو إلياس:
"هبعت الممرضة تساعدها، الحركة أهمِّ علاج."
-دكتورة ابني كويس...تساءلت بها بقلبٍ ينتفض..
التفتت إليها بابتسامةٍ مطمئنِّة:
"ابنك زي الفل، محتاج بس شوية وقت في الحضَّانة..حمدَ الله على سلامتك."
غادرت الطبيبة، تاركةً خلفها قلوبًا تئنُّ من الحزن.
كسرَ إلياس الصمت، محاولًا السيطرةَ على زمامِ الأمور:
"هترجعي الفيلا..مينفعشِ تقعدي لوحدك."
رفعت ميرال رأسها ببطء، ونظراتها التي امتزجت بالحزنِ و التعب، وردَّت بصوتٍ منكسرٍ لكنَّهُ حاسم:
"مش هسيب بيتي يا إلياس..ولَّا إنتَ رجعت في كلامك؟"
"ميرال، مينفعشِ تقعدي لوحدك، ابنك في مكان وأنا في مكان، وإنتِ محتاجة حدّ جنبك."
هزَّت رأسها بالنفي، والدموعُ تتدفُّقُ بلا توقُّف:
"الفيلا؟ الفيلا اللي طردتني منها مفيش حاجة بتربطني بيها...ولا حتى إنتَ."
سقطت كلماتها كصفعةٍ مدوية، تركتهُ في صمتٍ مهيب، بينما هي أمالت رأسها، تحاولُ إخفاءَ انكسارها، لأنَّها تعلمُ أنَّها بدونهِ لا تعرفُ للحياةِ معنى..
دلفت الممرضةُ بابتسامةٍ هادئة:
حمدَ الله على السلامة، الدكتور قالت أساعدك تتحرَّكي شوية...جاهزة؟
أومأت برأسها بصمت، تُخفي عينيها بعيدًا عن إلياس، وكأنَّها تخشى أن تلتقي بنظراته، اقتربت الممرضة بحذر، محاولةً مساعدتها للنهوض، لكن بمجرَّد أن حاولت الحركة، خرجت منها صرخةُ ألمٍ مكتومة..توقَّفَ الزمنُ للحظة، حتى انتفضَ واقفًا كمن لسعتهُ النار، يهدرُ بصوتٍ عالٍ مشحونٍ بالخوف:
بتعملي إيه؟ مش شايفاها تعبانة؟ اطلعي برَّة فورًا..
تراجعت الممرضةُ بتوتر، تحاولُ الدفاعَ عن نفسها:
"بس يا فندم..."
"قلت برَّة"
قالها بصوتٍ حادٍّ، ثمَّ اقتربَ إليها، وكلَّ شيءٍ فيه اختلف، انحنى أمامها، جاثيًا على ركبتيهِ كمن يحاولُ الوصولَ إلى أعماقِ ألمها، وأردفَ بنبرةٍ هادئة، وبنظراتٍ مليئةٍ برعبٍ لم يعرفهُ من قبل:
حاسة بإيه؟ تعبانة؟ أجيب الدكتورة؟
عجزت عن الإجابةِ وهي ترى في نظراتهِ اللهفة والخوف، ولكن ألمها كان أكبرُ من الكلمات، استندت برأسها على كتفه، وكأنَّها تبحثُ عن ملاذٍ، عن مهربٍ من العاصفةِ التي اجتاحت جسدها وروحها، عاصفةُ ارتباطِ روحها بروحه، فهمست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
تعبانة...مش قادرة أتحرَّك...
انحنى ليحاوطها بين ذراعيهِ بحذر، وكأنَّها زجاجٌ قابلًا للكسر، احتواها بقوَّة وبحنانٍ وخوفٍ لا يمكن وصفهما، لما لا وهي أثمنُ ما يملكُ
حاولت تحريكُ قدميها، لكنَّ الألم أوقفها، بكت تهزُّ رأسها بعجزٍ ورفض:
لا...مش قادرة...عايزة أنام...لو سمحت يا إلياس، سبني أنام..
توقَّفت خطواته، لكنَّ قلبهِ لم يتوقَّف عن النبضِ بعنف، نظرَ إليها وكلماتها التي أحرقت كلَّ ما بداخله..اقتربَ أكثر، يضمُّها إلى صدره، وكأنّّهُ يحاولُ أن يُغرقَ ألمها في أعماقِ روحه:
- متخافيش أنا معاكي مش هسيبك..
حاوطت خصرهِ كالطفلةِ التائهةِ التي وجدت أخيرًا أمانها...أغمضَ عينيهِ متلذِّذًا بتلك اللحظة، فلقد حُرمَ من جنةِ أحضانها منذ أكثرَ من شهرينِ حتى أصبحت حياتهِ باردةً ومظلمة، ولكنَّهُ تحمَّلَ تلك الحياة ليشعرها بالراحة، ولا يعلمَ أن بعدهِ ماهو سوى ألمٍ يمزُّقها...تراجع يجذبها ويخطو بجوارها بهدوء شهقت بصوتٍ متعب، تحاولُ أن تتحدَّث:
"هقع..."
ابتسمَ ابتسامةً باهتة، ومسحَ دموعها المتساقطةَ دون وعي، وهمسَ بصوتٍ دافئٍ يغلِّفهُ الحنان:
إنتِ في حضني...تفتكري ممكن أسيبك توقعي؟..دفنت رأسها بصدره تضغط على آلامها
أبعدَ رأسها برفق، ليتعمَّقَ في ملامحها التي رسمَ الألمُ ، نظرَ إليها نظرةً أخبرتها بكلِّ شيءٍ كان عاجزًا عن قولهِ منذ البداية، ثمَّ همسَ بصوتٍ مليءٍ بالحب:
عايزك تقعي...بس في حضني، لأنِّك مهما تعملي مفيش غيره.
شعرت بقلبها يترنَّحُ بين كلماتهِ ونظراته، لم تستطع أن ترفضَ دفءَ كلماته، ولا حنانَ احضانه، تمنت أن يتوقف الزمن هنا فاستسلمت لوجودهِ الذي كان يطغى على كلِّ شيء، وكأنَّها وجدت في قلبهِ الأمان الذي افتقدتهُ منذ ابتعاده
ثقُلَ جسدها وأوشكت قدماها على الاستسلام، فارتجفَ جسدها وهي تهمسُ بخفوتٍ يكادُ يُسمع:
رجَّعني على السرير لو سمحت.
لمعت عيناهُ بقلقٍ ينهشُ داخله، فحاصرَ جسدها بذراعيه، ونطقَ بصوتٍ محمَّلًا بخليطٍ من القلقِ والغضب:
ميرال، لازم تتحرَّكي...سمعتي كلام الدكتورة..
شهقت وهي تحاولُ التقاطَ أنفاسها:
رجَّعني على السرير...بقولَّك.
قالتها بنبرةٍ حادَّةٍ كادت تُفقدها ما تبقَّى من اتزانها...أمسكها بإحكامٍ بيديهِ التي كانت كالحصنِ المنيع ليردف:
امشي خطوة كمان، وبطَّلي دلع...لو ما تحرَّكتيش هسيبك توقعي، متفكريش هتصعبي عليّ.
أطبقت عينيها بقوَّة، هي تعلمُ أنَّهُ يفعلها..جرَّت قدميها بصعوبة، وشهقةُ ألمٍ اخترقت شفتيها أشعرتها بالعجز، ولكن ذراعيهِ كانت تدعمها رغم جمودِ وجهه، الذي باتَ أشبهُ بجدارٍ صلدٍ لا يكشفُ شيئًا.
خطت بثقلِ جسدها بين ذراعيه، وهي تحاولُ سحبَ قدميها خطوةً بخطوة، لكنَّها كانت تشعرُ وكأنَّ جبلًا ينهارُ عليها، بسببِ قوَّةِ الألم، خطت مرَّةً أخرى، رغم أنفاسها المتقطِّعة، والألمُ الذي يشتعلُ في أطرافها، لم يكن أمامها خيارًا سوى الانصياعِ له، بينما عينيهِ تراقبها بإهتمام ليحزن على
وجهها الشاحبَ الذي كان أشبهُ بلوحةٍ مكسورة، وعيناها الجريحتانِ تغرقانِ في بحرٍ من الألم، وشفتيها ترتجفانِ بلا صوت..شعرت بجسدهِ يحاصرها، كدرعٍ يخفي خوفهِ عليها تحت ملامحَ صارمة..رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ القلقةِ رغم برودها، تحرَّكت خطوةً بعد خطوة، إلى أن وصلت أخيرًا..لتتنفَّس بعمق، تستجدي هدوءًا مؤقتًا..ساعدها بالجلوسِ على السرير، ثمَّ قال بحزم:
اقعدي، وبلاش تنامي دلوقتي.
طالعتهُ بنظراتها المتألِّمة، وتمتمت برجاءٍ يذيبُ الحجر:
عايزة أشوف الولد...خليهم يجيبوه، لو سمحت.
نطقت بها من بين شفتيها كرجاءٍ مستميت، وعيناها تتفحَّصه، جلسَ بجانبها وضمَّها إلى صدره، لكنَّها شعرت حضنهِ كصخرةٍ باردة، بدا غريبًا على ملامحه الذي يحاول أن يرسمها:
حاضر، هتشوفيه...بس لازم تتحرَّكي شوية كمان، علشان نقدر نروح له مع بعض.
رفعت رأسها، والدموعُ تتساقطُ بغزارة:
يعني إيه؟! مش عارف تجيبه؟ لازم أنا اللي أروح له؟
رفعَ ذقنها برفق، وعيناهُ تبحرُ في وجهها الشاحب، ونبرتهِ التي جاءت هادئة، عكسَ ملامحهِ الباردة:
ميرال...الولد مش ممكن يخرج من الحضَّانة..محطوط على جهاز تنفُّس، وأنا لسه ما شفتوش، فوقي ونطلع نشوفه مع بعض.
شهقت بألم، وأردفت بنبرةٍ مكسورة:
من إمبارح...لحدِّ دلوقتي؟ للدرجة دي مش فارق معاك إنَّك ما شفتهوش؟!
لمعت عيناهُ بشيءٍ من السخرية، كأنَّ كلماتها أصابتهُ في مقتل..صرفَ بصرهِ عنها ليهربَ من اتِّهامها..
لا...كنت عايز أطَّمن عليكِ الأول، تفتكري هيفرق معايا قدِّك يا مدام ميرال؟
نزلت دموعها، وراحت تلكمهُ بضعفٍ على صدره:
إنتَ بتعمل معايا كده ليه؟! عايز تجنِّني؟ لمَّا إنتَ كده...بتموِّتني ليه؟! حرام عليك...والله حرام.
جذبها بقوَّةٍ يضمُّها كمن يخشى أن تنهارَ بين يديه:
اهدى طيب...بلاش نعاتب بعض دلوقتي..قالها محاولًا السيطرةَ على أعصابه، لكنَّهُا جرت نفسها بعيدًا متألمة فلقدَ نفذ صبرهِا واحترقَت من الداخل، اقتربَ منها كأنَّما يحاولُ أن يمحو المسافةَ التي خلقتها كلماتها لإحراقه، مرر أنامله على وجنتيها، إلى أن توقف على شفتيها هامسًا بنبرةٍ متعبة:
مبقتشِ عارف أتعامل معاكي إزاي...أنا تعبت منِّك ومن اتهاماتك، بتتعاملي كأنِّي مش موجود في حياتك.
رفرفت أهدابها مبتعدةً عنه ببطء، تحاولُ رسمَ مسافةٍ بينهما، وأردفت بتقطُّعٍ ونبرةٍ متعبة:
دايمًا أنا الغلط، دايمًا أنا الغبية، أنا اللي بجي عليك وبجرحك، أنا...يا إلياس باشا ستِّ مفترية...وإنتَ الراجل الحنيِّن، صح؟
هزَّ رأسهِ بيأس، وزفرَ بتنهيدةٍ أحرقت جوفه، نهضَ من مكانهِ بعد أن عجزَ عن الردّ، ومالَ برأسهِ نحوها قائلًا:
هبعت لك ماما...خلِّيها تساعدك تتحرَّكي شوية، أنا عندي شغل.
صاحت بصوتٍ مختنقٍ وهي تراقبهُ يهمُّ بالخروج:
- مش هتطلع للولد؟
توقَّفَ واستدارَ نحوها بعينينِ مثقلتينِ بالألم، وتمتمَ بنبرةٍ تشبهُ التهديد:
قلت لك هنطلع مع بعض، لمَّا نطَّمن عليه هنيجي ناخده ونخرج إحنا التلاتة مع بعض على الفيلا، غير كده، ما تتكلميش.
تحدَّت نظرته، وتمتمت بسخريةٍ مشوبةٍ بالمرارة:
"أنا مش هرجع الفيلا..إنتَ طردتني منها، نسيت ولَّا إيه؟
ومش بس كدا تسكت..لا تروح قدام راجل أهمِّ حاجة عنده يذلِّني وتقولُّه بتمتع، هستغرب ليه ماإنتَ قولتها قبل كدا..على العموم ياإلياس باشا، أنا مش هرجع معاك تاني، والحمدُ لله ظهر بسرعة اللي عايز يمتَّعك أكتر.
تراجعَ خطوةً إلى الوراء، زافرَ بحدَّة، ثمَّ أشارَ بيدهِ نحوها وهو يقولُ بصوتٍ جليدي:
- مش هردّ عليكي لأنِّك مالكيش رأي بعد رأيي، حضَّري نفسك، هخلَّص شغل وأرجع آخدك.
استدارَ إليها بنظراتٍ حملت وعيدًا وتهديدًا في آن:
هتعقلي ونرجع بيتنا...نربِّي ابننا... هحطِّك في قلبي، لكن لو تعبتيني..الولد مش هيعيش برَّة بيت أبوه، ولا إنتِ هتعيشي لوحدك وإنتِ مراتي، قالها وخرجَ يغلقُ البابَ خلفهِ بقوَّة، شعرت وكأنَّ صوتهِ أشبهَ بصفعةٍ لقلبها الذي يتصارعُ بين الحبِّ، والخوفِ، والغضب.
بمنزلِ يزن:
كانت تجلسُ على الأريكة، شاردةَ البال بحديثِ كريم وحبِّهِ لها؛ ولكن انتفضت من مكانها عندما استمعت إلى طرقٍ عنيفِ على الباب، ضغطت على صدرها محاولةً تهدئةَ خفقانِ قلبها، و شعرت بالاستغرابِ من ذلك الطرقِ العنيف، فخطت مذعورةً بأنفاسٍ متوترة، ظنًّا أنَّ معاذ أصابهُ مكروه..
توجَّهت إلى البابِ بتردُّد، خطواتها بطيئةً ودقَّاتُ قلبها تضجُّ في أذنيها؛ وقفت أمام البابِ وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تزفرهُ بهدوء، توقَّفت تنظرُ إلى امرأتانِ بملامح غريبة، باردةً ومريبة..نطقت إحداهما بنبرةٍ حادَّةٍ متسائلة:
"إنتِ إيمان؟"
تراجعت قليلاً لكنَّها أومأت ببطء، وابتسمت بعفويةٍ محاولةً إخفاءَ ارتباكها، فتسألت ببراءة:
"أيوة... مين حضرتكم؟"
التفتت المرأة إلى رفيقتها، وقالت بنبرةٍ حادَّة:
"تعالي يا فوقية"
ثمَّ دفعتها بعنفٍ إلى الداخل، ليترنَّحَ جسدُ إيمان وتسقطَ على ركبتيها، ارتفعَ أنينًا خافتًا من حلقها وهي تلتفتُ حولها بذهول:
"إنتو مين؟ عايزين إيه؟!"
لم تُجبها أيٍّ منهما، فرفعت صوتها تصرخُ باسمِ اخيها، إلَّا أنَّ إحداهنَّ وضعت محرمةً على فمها لتستنشقَ رائحةً حادَّةً اخترقت أنفها وأثقلت رأسها، حاولت المقاومة، لكن أطرافها خانتها.. عينيها ثقُلت بأهدابها لتغمضها، رغم محاولاتها التي بائت بالفشل، لتجذبَ الأخرى وشاحًا ووضعتهُ فوقها وحملتها لتهتفَ ساخرة:
"البنتِ دي مبتاكلشِ خالص، دي خفِّ الريشة..اتِّصلي بالواد يجي بالعربية قدام البيت...رفعت هاتفها قائلة:
"الأمانة خلصت...جهِّز العربية."
ثم وضعت الهاتفَ في جيبها، وأشارت إلى رفيقتها:
"غطِّيها بالحجاب دا كويس عشان محدش يلاحظ."
تحرَّكتا للخارجِ بوصولِ معاذ الذي ترجَّلَ من دراجتهِ..ينظرُ إلى السيداتِ بذعرٍ وهما يحملانِ إيمان التي ظهرت خصلاتها من تحتِ الوشاح، هرولَ يصرخُ بعدما تأكَّدَ أنَّها أخته:
"إنتو مين؟ وأخدين أختي فين؟!"
لكن استدارت إحداهنَّ إليهِ بوجهٍ خالٍ من الرحمةِ ودفعته بقوَّة..ارتطمَ رأسهِ بحافَّةِ الجدارِ الصلبِ لينهارَ جسدهِ الصغير على الأرض، لتسيلَ دمائهِ البريئةِ على جبينه، ممتزجًا بصمتٍ مخيفٍ كالذي فارقَ الحياة..
على الجانبِ الآخرِ من الشارع، كانت مها تترجَّلُ من سيارةِ أجرة..توقَّفت فجأةً عندما رأت المشهدَ أمامها، توسَّعت عيناها بعدما وقعت على وجهِ ايمان الذي ظهرَ بعد سقوطِ الوشاحِ من فوقه، فخرجَ صوتها مخنوقًا بشهقة:
"إيمان!"
ركضت نحو السيارة، لكنَّها اختفت سريعًا، لتلفتَ نحو معاذ الذي سقطَ ملقىً على الأرضِ بلا حراكٍ كالذي فارقَ الحياة، انحنت إليهِ تتمتمُ بذعر:
"معاذ! فوق...أرجوك!"
هزَّتهُ بعنف، لكنَّها توقَّفت عندما شعرت بالدماءِ الساخنةُ تغمرُ يديها، اتَّسعت عيناها برعب، ودموعها انهمرت بغزارة..أمسكت هاتفها بيدٍ مرتعشةٍ وحاولت مهاتفةَ يزن، ورغم محاولاتِ الرنينِ المتواصلة، لكنَّهُ لم يُجب.
حاولت مرَّةً أخرى، وضغطت على زرِّ الاتصالِ بكريم، وهي بالكادِ تستطيعُ التحدُّث:
"كريم...ردّ أرجوك!"
عند يزن في المعرض:
كان كريم يجلسُ بمقابلتهِ يتناولُ قهوته، استمعَ إلى رنينِ هاتفه، أخرجهُ ثمَّ نظرَ إلى يزن:
-دي مها؟!
ابتسمَ ساخرًا ثمَّ أشارَ بيده:
-فكَّك منها، أنا حظرتها من عندي أصلًا،
رفعَ حاجبهِ وتحدَّثَ غامزًا:
-إيه الغزالة غيرانة ولَّا إيه؟..
رفعَ فنجانهِ وارتشفَ بعضهِ ينظرُ بشرود:
-تفتكر اللي زي رحيل دي تنفعني ياكريم؟..
-مش اسمها كدا يايزن، اسمها إنتَ عايزها، حاسس إنَّك هتقدر تكمِّل معاها، قاطعهم رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى، فأشارَ إليه:
-دي مصمِّمة، احتضنَ كوبهِ قائلًا:
-ردِّ عليها، بص، أنا فكّّك منِّي، ولا كأنَّك شوفتني.
غمزَ بطرفِ عينهِ وانحنى له:
-يا وحش ياخاطف قلوب البنات، أقطع دراعي من هنا لو مكنتشِ رحيل بتحبَّك..
ابتعدَ بنظرهِ عنهُ ورجفةٌ أصابت قلبهِ متمنيًّا حديثه..
-أيوة يامها، آسف بس مشغول..
على الجانبِ الآخر:
-يزن معاك ياكريم..غمزَ ليزن وأجابها:
-ولا شوفته من كام يوم، بقولِّك يامها، نصيحة فكِّك منُّه، هوَّ..قاطعتهُ تصرخ:
-اسمعني ياكريم فيه ناس هجموا على بيته وخطفوا إيمان وضربوا معاذ حاول توصلُّه.
هبَّ من مكانهِ منتفضًا:
-إيمان مالها، إنتِ بتقولي إيه؟!..جذبَ يزن الهاتف:
-إيه اللي بيحصل يامها في إيه؟..
-يزن بتِّصل بيك من زمان، فيه ستَّات خطفوا إيمان وضاربين معاذ، وراسه بتنزف..
ركضَ إلى درَّاجتهِ البخاريةِ وقادها بسرعةٍ جنونيةٍ ولم يستمع إلى حديثِ كريم الذي هرولَ خلفهِ بسيارته..
دقائقَ معدودةً ليصلَ إلى منزله، قفزَ من فوق درَّاجتهِ على الزحامِ بعد صراخِ مها والتفافِ الجمعِ حولها..
اقتربَ يزن، وعيناهُ تدورانِ بجنونٍ بحثًا عن أخته..عندما وقعت عيناهُ على معاذ الملقى على الأرض، كادَ قلبهِ يتوقف.
"معاذ! معاذ!"
ركعَ بجواره، يمسكُ بوجههِ الذي أخفتهُ الدماء، يهزُّهُ بعنفٍ محاولًا إيقاظه، نظرَ إلى مها التي كانت تبكي بلا توقُّف، وصرخَ فيها بنبرةٍ هزَّتها من الداخل:
"فين إيمان؟! مين عمل كده؟!"
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
الحب أحيانًا يحتاج إلى التضحية والصبر، خاصة عندما تكون الجراح عميقة. القرار الصعب بالابتعاد قد يكون ضروريًا للشفاء، لكن المشاعر الحقيقية دائمًا ما تجد طريقها للظهور.
بمنزلِ آدم:
وصلَ إلى منزلهِ بعد الإدلاءِ بأقواله، دارَ زين كالجريح هادرًا بنبرة ممزوجة بالألم:
-على آخرِ الزمنِ اتجرِّ في الأقسام بسبب حيوانة، وابني المتخلِّف، قاطعه آدم متألمًا:
- بابا لو سمحت أنا مخنوق ومش متحمِّل كلمة..
-لا والله، احمد ربنا يادكتور، لولا وكيل النيابة المحترم، المتقِّي ربِّنا كان زمانه مشي ورا رجلِ الأعمال اللي بيشتري الناس بفلوسه..
وصلت إيلين على أصواتهم، رمقها بنظرةٍ تحملُ الكثيرَ من الآهاتِ ثمَّ تحرَّكَ إلى شقَّتهِ دون حديث، ربتت مريمُ على كتفها تهمسُ إليها:
-اطلعي ورا جوزك حبيبتي..خطت إلى وقوفِ زين:
-خالو ايه اللي حصل؟..
مسحَ على وجههِ بعنف، كادَ أن يقتلعَ جلده، أشارَ أحمد إلى مريم:
-مريم اعملي عصير ليمونادا لبابا، أومأت موافقةً وتحرَّكت للداخل، اقتربت إيلين إلى جلوسه:
-خالو حضرتك مابتردش ليه؟..الستِّ دي بلَّغت على آدم ليه؟..
حاوطَ رأسهِ عندما عجزَ عن الحديثِ
بينما أردفَ أحمد:
-علشان رفض يرجَّعها، لفَّقتله تهمة أنُّه حاول يقتلها..
شهقةٌ أخرجتها من بين شفتيها متسائلةً بذعر:
-وعملتوا إيه؟..جلسَ أحمد وقصَّ إليها ماصارَ قائلًا:
-القضية كانت مع وكيل نيابة محترم، مصدقشِ كلامها، بعد ماعرف، ووقعها بالكلام، بس طبعًا أبوها مسكتشِ وحاول يردِّ كرامة بنته، وحاول الضغط بكلِّ طرقه، إدارة الجامعة طبعًا وقَّفت آدم عن العمل، لحدِّ ما التحقيقات تنتهي.
-إيه...قالتها بعيونٍ مصدومة، وقلبًا مفتَّتًا بالوجع..
قاطعهم دلوفُ سهام ومحمود، والد إيلين، بصوتٍ غاضبٍ يزلزلُ الأجواء:
إيه اللي بيحصل دا؟ إزاي ابنك يتجوِّز على بنتي يا زين؟ أنا أسافر كام شهر، أرجع ألاقي بنتي جوزها متجوِّز عليها؟!" رمقَ إيلين بنظرةٍ يملؤها الغضب، وهدرَ بصوته:
"لمِّي هدومك يا بتّ..أنا مستحيل أسيبك يوم واحد في البيت دا، ومتخافيش من حد أنا هقفلُهم كلُّهم، مش كنتِ عايزة تطلَّقي؟ هطلَّقك منُّه غصب عنه"
قاطعتهُ إيلين بصراخٍ مرتعش، اختلطت فيه القوَّةُ بالحزن:
"ومين قال لحضرتك إنِّي عايزة أطلَّق؟! أنا بحبِّ جوزي ومش هطلَّق منه!.. وياريت تبعد عن حياتي يا بابا."
ثمَّ اقتربت بخطواتٍ ثابتةٍ تشيرُ إلى سهام، وهدرت بحدَّة:
"إنتَ والستِّ دي مالكوش تدخَّلوا في حياتي."
ثمَّ التفتت بنظرةٍ قوَّيةٍ نحو زين، وكأنَّها تبحثُ عن ملاذٍ أخير:
"خالو، البيت دا بيتي، وياريت تعرَّف أبويا كتَّر خيره إنُّه تعب وجه خايف عليَّ." قالتها بنبرةٍ حاولت أن تبدو قوية، ورغم ذلك لم تستطع إخفاءَ رعشةِ الحزنِ التي تسلَّلت إليها.
تحرَّكت نحو البابِ بخطوةٍ واثقة، ثمَّ استدارت ترمقَ سهام بنظرةٍ اخترقتها:
"آسفة يا مدام سهام، جوزي تعبان ولازم أكون جنبه، البيت بيتك، وأكيد هتلاقي ضيافة محترمة...ما هو حضرتك في منزل زين الرفاعي."
قالتها بحسمٍ وارتقت السلَّمَ بخطواتٍ ثقيلةٍ كأنَّها تحملُ جبالاً فوق قلبها.
بشقَّتها، دلفت بخطواتٍ متردِّدة، تخشى أن توقظَ ألمًا جديدًا في قلبهِ المثقلِ بالهموم..وجدتهُ مستلقيًا على الفراش، يغلقُ عينيهِ وكأنَّهُ يهربُ، من صخبِ الحياةِ الذي أنهكه، تقدَّمت بهدوءٍ وجلست بجوارهِ على الفراش..
حدَّقت في ملامحهِ التي بدا عليها الإرهاق، وجبينهِ الذي ارتسمت عليهِ خطوطٌ من الوجع..شعرت بوخزةٍ في قلبها وهي ترى الرجلَ الذي أحبَّتهُ يتحمَّلُ كلَّ هذا العبءِ وحده..خلَّلت أناملها بين خصلاتِ شعرهِ برفق، محاولةً أن تمسحَ بأطرافِ أصابعها شيئًا من ألمه..
مالت نحوهِ، وقبَّلت جبينهِ قبلةً طويلة، وكأنَّها تقولُ له "أنا هنا...ولن أترككَ وحدك"رفرفَ أهدابهِ الثقيلة، وفتحَ عينيهِ قليلاً ليجدها تراقبهُ بنظرةٍ مشبعةٍ بالحبِّ والقلق، همسَ بصوتٍ خافت:
"إيلين محتاجة حاجة؟"
اعتدلَ قليلًا، مستندًا على الوسائدِ خلفهِ لكنَّها اقتربت منه، تطالعهُ بعينينِ غمرها الحزن:
"إيه اللي حصل؟ وليه كانوا بيحقَّقوا معاك من إمبارح؟"
أغمض عينيه للحظات، ثم تمتم:
"مفيش حاجة...عايز أرتاح، من إمبارح منمتش، عندي صُداع ومش حاسس بدماغي، لو مفيش حاجة مهمَّة، سبيني أنام"
شعرت بقلبها ينفطرُ وهي تراهُ بهذا الضعف، لم ترد عليه بل، ترددت للحظات ثم صعدت بجوارهِ على الفراش، وجلست تشيرُ إلى ساقيها بابتسامةٍ دافئة:
"نام هنا...أعملَّك مساج، كلِّ الألم هيروح."
نظرَ إليها للحظاتٍ ، ثمَّ تمدَّدَ برأسهِ فوق ساقيها، أغمضَ عينيهِ وارتسمت على وجههِ ابتسامةً باهتةً يشعر بلمسةُ أملٍ وسطَ ظلامه.
بدأت تحرِّكُ أناملها برفقٍ بين خصلاتِ شعره، وكأنَّها تعزفُ سيمفونيةٍ من الطمأنينة..كانت تنظرُ إليهِ بنظراتٍ تحملُ كلَّ ما لم تستطع الكلماتُ التعبيرَ عنه، قرَّبت وجهها من أذنه، وهمست بصوتٍ ناعم:
"حاسس بإيه دلوقتي؟"
فتحَ عينيهِ قليلاً، لتلتقي عيناهُ بعينيها القريبتينِ جدًا، تلاقت نظراتهما في صمتٍ ساحر، وكأنَّها تحملُ حديثًا طويلًا من الحبِّ الذي لا يحتاجُ إلى كلمات..رفعَ كفَّيها برفقٍ من على رأسه، وطبعَ قبلةً دافئةً على راحتيها.
شعرت برجفة تسري في جسدها، وارتفعت دقات قلبها، ليشعر بأنها تدق على باب قلبه ليجذبها أكثر إليه،. لم تستطع مقاومة تلك المشاعر الجياشة التي اجتاحتها، فمالت برأسها وطبعت قبلة رقيقة على جبينه.
رفع رأسه قليلاً، ليطبع قبلة طويلة على وجنتها، ثم سحبها نحوه لتجد نفسها في حضنه. احتضنها بقوة وكأنها الحصن الذي يحتمي به من كل شيء. همس في أذنها بصوتٍ مبحوح مليء بالحب:
"إيلين... عايزك كدا على طول تكوني الأمان اللي عايز أعيشه."
ابتسمت بخجلٍ ودفنت وجهها في صدره، تستمعُ إلى صوتِ دقَّاتِ قلبه، الذي بدا وكأنَّهُ يعزفُ لحناً خاصًّا بها..رفعَ وجهها برفقٍ بأنامله، ونظرَ في عينيها بعمقٍ، ثمَّ اقتربَ ليطبعَ قبلةً على شفتيها، قبلةً حملت كلَّ ما عجزَ عن قوله، قبلةً جعلتهما ينسجانِ معًا لحظةً من الحبِّ الخالص، بعيدةً عن كلِّ ما يشوبُ حياتهما.
لم يعد العالمُ موجودًا في تلك اللحظة.. ليتحول العالم أجمع إلى عالمٌ لا يسكنهُ سوى قلبينِ ونبضًا بنبض عشقهما
بالمشفى عند ميرال
مساءَ اليوم، دخلَ إلياس غرفةَ المشفى بخطواتهِ الثقيلة، كالذي يحملُ على كتفيهِ جبالاً من الهموم، نظرَ إلى ميرال التي غفت بسلام، وورغم ملامحها الهادئةِ إلَّا أنَّ وجهها كان شاحبًا...وقفَ للحظة يتأمَّلها، وروحهِ تستنجدُ بها..التفتَ ببطءٍ إلى والدتهِ التي كانت تجلسُ بالقرب، وعيناها غارقتانِ في مصحفها، تطمئِنُ قلبها بكلماتِ الله، شعرت بوجودهِ فرفعت رأسها بابتسامةٍ مفعمةٍ بالحنان:
"حمدَ الله على السلامة يا حبيبي."
"الله يسلِّمك."
اقتربَ بخطواتٍ هادئةٍ نحو ميرال وسبحَ بعينيهِ بتفاصيلها، ثمَّ سألَ والدتهِ بصوتٍ خافتٍ حملَ خوفًا خفيًّا:
"هيَّ عاملة إيه دلوقتي؟"قالها ثمَّ
انحنى بحنانٍ وجمعَ خصلاتِ شعرها التي انسدلت على وجهها، نظرت والدتهِ إليهِ وربتت على كتفه، وخرجت كلماتها كبلسمٍ لقلقه:
"كويسة يا حبيبي...بس سألت عليك لمَّا اتأخَّرت."
أومأ متفهِّمًا، ثمَّ أجابها:
"عدِّيت على القسمِ علشان أشوف عملوا إيه مع راجح."
صمتت للحظة، ثمَّ سحبت ذراعهِ بخفَّة، تقودهُ بعيدًا عن السريرِ وعيونها تحكي الكثيرَ من القلق، خفضت صوتها وسألت بلهجةٍ متوجِّسة:
"إنتَ اللي جبته هنا، ياإلياس؟!"
أخرجَ زفرةً حملت غليانَ صدره، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا بقوَّة:
"لا، ياماما أنا عرفت بس إنُّه بيحاول يضغط عليَّا، ما توقعتش إنُّه هيجي لهنا..شكِّيت، وفعلاً كان ناوي يخطف يوسف...بجاحته دي؟ ما تخيلتهاش أبداً."
لمعت دموعها كاللآلئِ في ضوءِ الغرفةِ الخافت، وونطقت بنبرةٍ مرتجفةٍ ممزوجةٍ بالخوفٍ الذي ملأ قلبها:
"إلياس، ابعد عن الراجل ده، أبوك بيقول إنُّه تبع منظمات إرهابية..إحنا مش قدُّه يا حبيبي، أنا السبب في كلِّ ده.
شعرَ بطعنةٍ حادة في قلبهِ من كلماتها، رفعَ رأسهِ بعنادٍ وتمتم:
"ممكن ما نتكلمشِ في الموضوع ده؟ ملكيش دعوة.."
انهمرت دموعها بغزارة، وطالعتهُ بنظراتٍ معاتبةٍ ثمَّ أردفت بنبرةٍ متألِّمةٍ وكأنَّها تصرخُ بكلِّ ما تحملهُ من مشاعرِ الأمومة:
"يا بني، حرام عليك أنا قلبي مش هيستحمل، خلِّيني أفرح بوجودكم جنبي، أنا مش عايزة أخسرك إنتَ واخوك"
أغمضَ عينيهِ بقوَّة، يحاولُ إخمادَ الغليانِ الذي يحرقُ داخله، صوتها المتألِّمَ يُنهكُ روحه..فتح عينيهِ وهي تتمتمُ وصوتها يخرجُ متقطِّعًا بين شهقاتها:
"اللي يخلِّيه يفتح بطنِ بنته وهيَّ حامل وكان عايز يقتلها، ممكن يعمل أيِّ حاجة فيكو، هوَّ قبلِ كدا هدِّدني بيكو."
تشبَّثت بذراعهِ وبيدينِ ترتجفانِ همهمت:
"مش هحلف بحياتي عندك بس وحياة ابنك يا بني، فكَّر فيه متوجعشِ قلوبنا عليك وعلى ابنك."
لم يتحمَّل كلماتها التي كانت كالسياطِ على قلبه، رفعَ يديهِ وحاوطها بذراعيه، ليحتوي كلَّ ضعفها وخوفها..ضمَّها إليهِ بقوَّة ٍيحاولُ أن يطمئنها وهمسَ بحنانٍ مشوبٍ بالغضبِ المكبوت:
"ماما، متقوليش كده، إيه مش أحلف بحياتي؟ مين قالِّك إنِّك مش غالية عندي؟ بلاش تضعفيني في الحتَّة دي، يامدام فريدة..إنتِ عارفة ومتأكدة ممكن أهدم الكون كلُّه علشانك، وعارفة إنِّي بخاف عليكي حتى من ِقبل ما أعرف إنِّك أمِّي..
رفعت رأسها تنظرُ إليهِ بعينينِ مليئتينِ بمزيجٍ من الحبِّ والرجاء، ثمَّ تمتمت بصوتٍ خافت:
"عايزة أحضنك يا إلياس."
لم ينتظر حتى تُكملَ كلماتها، كانت مشاعرها كافيةً لتقتحمَ قلبهِ ليضمَّها إلى صدرهِ بحنانٍ يغلبهُ الألم، ارتفعَ بكاءها بين أحضانهِ وهي تهمسُ بصوتٍ مخنوق:
"وحياة أغلى حاجة عندك، ما تحرم أمَّك من حضنك يا حبيبي."
ابتعدت قليلاً عنهُ تنظرُ إليه، عيناها غارقتانِ في دموعها تتوسلهُ:
"ابنك يا بني، فكَّر فيه هوَّ ومراتك..خلِّيك جنبهم."
ضمَّ وجهها بين يديه، وقبَّلَ جبينها بحنانٍ عميق:
"علشان ابني ومراتي، الراجل ده لازم ينتهي يا ستِّ الكل، تمام كده؟"
"برضو يا إلياس..."
لم يمهلها لتكمل، استدارَ نحو ميرال وهو يقول:
"صاحبيني بقى يا مدام فريدة ما صدَّقتي تاخدي عليَّا"
لكنَّهُ توقَّفَ عن الحديثِ فجأةً عندما لمحَ ميرال مستيقظة، ودموعها تسيلُ على وجنتيها بصمت، اندفعَ نحوها بخطواتٍ ملهوفة:
"ميرال..بتعيطي ليه؟"
ابتعدت بعينيها عنهُ كأنَّما تخفي مشاعرها المتضاربة..
انحنت فريدة بحنانِ أمٍّ تودُّ لو تقتلعَ الألمَ من قلبِ صغيرتها:
حاسة بإيه يا حبيبة ماما؟
رفعت ميرال عينيها المبتلَّتينِ بالدموع، وردَّت بصوتٍ متحشرجٍ وأجابتها:
مفيش يا ماما.
نظرَ إلياس إلى والدته، وقالَ بهدوءٍ يشوبهُ الأرق:
روحي يا ماما، من إمبارح وإنتِ هنا، وأنا معاها، كلَّمت الدكتورة وقالت كام ساعة وهنرجع البيت.
ربتت والدتهِ على ذراعهِ بحنانِ الأمّ، تمتمت برفق:
خلاص يا حبيبي، خلِّي بالك منها..أرسلان كلَّمني وقال هيعدِّي على البيت علشان غرام رجعت مع غادة.
أومأ دون كلام، بينما جمعت والدتهِ أشياءها بنظرةٍ أخيرةٍ لميرال، ثمَّ سألتها:
محتاجة حاجة يا ميرو؟
هزَّت ميرال رأسها، بالكادِ خرجَ صوتها وهي تردُّ بخفوت:
لا، سلِّمي على عمُّو.
طبعت قبلةً دافئةً على جبينها، وهمست لها بنبرةٍ حنونة:
افرحي بابنك يا حبيبتي...وانسي أيِّ حاجة.
بعد فترةٍ من مغادرةِ فريدة، سادَ صمتٌ ثقيلٌ، قطعهُ إلياس بصوتٍ رخيم:
إيه رأيك تتمشِّي شوية؟
رفعت ميرال رأسها ببطء، تطالعهُ بعينينٍ تائهتينِ وتمتمت بصوتٍ يحملُ بين طيَّاتهِ الرجاء:
"عايزة أشوف ابني..لو سمحت"
اقتربَ منها إلياس،وتجوَّلت عيناهُ بالغرفة، ليلتقطَ وشاحًا ثقيلًا ووضعهُ على كتفيها بحذرٍ كما لو كانت قابلةً للكسر، همس:
تعالي نطلع نشوفه، بس اتحرَّكي بحذر.
ابتسامةٌ ممزوجةٌ من التعبِ والامتنان، وأومأت برأسها، مدَّ يدهِ ليساعدها على الوقوف، وكأنَّما يحملُ معها ثقلَ خطواتها المتعثِّرة..لم تكد تخطو خطوتينِ حتى أطلقت تأوُّهةً خافتة، قبضت على كفِّهِ بألم، فانحنى إليها يهمسُ بصوتهِ المبحوح:
أشيلك؟
رفعت عينيها إليه، لتلتقي نظراتهما، ورجفةٌ أصابت قلبها لتشعرَ برغبةٍ جياشةٍ أن تخترقَ أحضانه، حتى تُشبعَ روحها المهلكة، لكنَّها تراجعت بارتباكٍ وهي تتذكَّرُ الجراحَ التي تركها لها..
تحرَّكت بخطواتٍ بطيئة، يتخلَّلها ألمًا خافتًا، ثمَّ توقَّفت تلتقطُ أنفاسها المتقطِّعة..فجأةً، انحنى وحملها بين ذراعيه، كما لو كانت كنزًا يخشى عليه من الضياع.
إلياس..نزِّلني..
نظرت إليه بعينينِ متوسِّلتين، لكنَّهُ أجابها بصوتهِ الذي لايقبلُ الجدال:
عايزة تشوفي ابنك؟ يبقى لسانك جوا بوقِّك..بلاش أضطر أسكِّتك بطريقتي... وهموت وأعملها، على فكرة أنا مش قديس يا ميرا..
-إيه موضوع ميرا دا؟..
-بعدين، أقولِّك عليه، بتسأليني وأنا شايلك ولسة والدة..
-أنا مطلبتش على فكرة..ابتسمَ ساخرًا وهو يدلفُ إلى المصعدِ قائلًا:
-وأنا قولت مش عايز أسمع صوتك.
استسلمت بصمتٍ وهي تشعرُ بدفءِ صدرهِ فدفنت رأسها في صدره، وكأنَّها تريدُ أن تهرب َمنهُ داخلَ أحضانه.. ابتسمت ساخرةً من نفسها على شعورها الذي وصفتهُ بالغباء.
وصلَ بها إلى الحضَّانة، وضعها برفقٍ على قدميها، لكنَّها شعرت وكأنَّها لا تزالُ تحملها ذراعاه لمحاوطتهِ لها بكلِّ ما يملك..
وزَّعت نظرها بين الأطفال، تشيرُ إلى زوجها:
-أنهي فيهم ياإلياس؟..فين يوسف؟
رفعَ عينيهِ إلى ابنه، أشارَ إلى الزجاجِ حيث يرقدُ طفلهما..ارتجفَ قلبها وشهقت بقوَّة، كأنَّها لأوَّلِ مرَّةٍ ترى معنى الحياة.
اقتربت من الزجاج، وضعت كفَّها المرتجفَ عليه، تشعرُ أنَّها تلمسهُ رغم المسافة:
ابني...يوسف، حبيبي...إمتى أضمَّك لحضني؟
اقتربَ إلياس منها، وحاصرَ جسدها بذراعهِ، وهمسَ بصوتٍ يحملُ وعدًا:
كلَّها أيام وهيكون في حضنك، شدِّي حيلك يا ميرا، وأقوي علشانه.
رفعت عينيها الممتلئتينِ بالدموعِ إليه، همست بشفتينِ مرتعشتين:
أنتوا أغلى حاجة في حياتي يا إلياس، مستحيل أفرَّط فيكم، حتى لو فضلت أعاني العمر كلُّه.
شعرَ بكلماتها تتسلَّلُ إلى أعماقهِ كبلسم لجراحِ قلبه، ضمَّ وجهها بين كفَّيهِ وهمسَ بصوتٍ يحملُ العشقَ الدفين:
وأنا مستعدّ أضحِّي بحياتي علشانكم يا ميرال...
ابتسامةٌ تحملُ الكثيرَ من الألم، ثمَّ وضعت رأسها على كتفه، ونطقت بصوتٍ ضعيف:
أنا مش عايزة تضحِّي بحياتك...أنا عايزة أكون بعيدة شوية، ألملم جروحي اللي لسة بتنزف...خلِّي حبِّي ليك شفيع إنِّنا نبعد شوية.
قطبَ جبينهِ بشدَّة، ونظرَ إليها باستغراب:
ليه؟ ليه مصرَّة تعصَّبيني؟ دايماً تخلِّيني أخرج عن شعوري، وترجعي تقولي أنا مفتري!
احتضنت ذراعهِ بتوسُّل، وكأنَّها تخشى أن يبتعدَ عنها:
"إلياس علشان خاطري، متتعبش قلبي
خفضَ رأسهِ قريبًا منها، وتمتمَ بنبرةٍ جياشة:
-بلاش نوجع بعض ياميرال، علشان كدا بنإذي بعض..
انسابت دموعها بغزارة، أزالها بأصابعهِ برفقٍ وقالَ بشيئ من حنان:
بدل الدموع دي، فكَّري إزاي نرجع بإبننا، إزاي نكون سوا..مش نبعد.
هزَّت رأسها بضعف، وقالت بنبرةٍ محطَّمة:
-أنا مجروحة وموجوعة وخايفة..
-تبقي غبية ومتخلِّفة، وأنا مش هفضل أدلَّع وأطبطب كتير.
-يبقى مبتحبنيش ياإلياس..
صمتَ للحظة، ثمَّ زفرَ بقوًَة، ونظرَ إلى طفلهما وقالَ بحدَّة خافتة:
شوفتي الولد؟ يلَّا ننزل..قلِّة الكلام معاكي أحسن.
عند يزن:
تمَّ جحز معاذ بالمشفى، ظلَّ بجوارهِ لعدَّةِ ساعات، ثمَّ خرجَ من غرفةِ أخيهِ كمن يحملُ العالمَ فوق كتفيه، عيناهُ ممتلئتانِ بالقلق، وخطواتهِ متخبِّطةً يبحثُ عن أختهِ بتيه، وجدَ كريم يقفُ بالخارجِ فتوجَّهَ إليه بلهفةٍ تسبقُ كلماته:
"إيه يا كريم، وصلت لحاجة؟"
هزَّ كريم رأسهِ بحسرةٍ وأجابَ بنبرةٍ تشوبها الكسرة:
"قدَّمت البلاغ، بس قالولي لازم يعدِّي أكتر من أربعة وعشرين ساعة عشان يتحرَّكوا."
انعقدَ حاجبا يزن بغضبٍ مكبوت، ثمَّ أدارَ وجههِ نحو غرفةِ أخيه بنظرةٍ مفعمةٍ بالأسى قبلَ أن يلتفتَ إلى كريم مجدَّدًا:
"خلِّيك هنا وأنا هتصرَّف."
أمسكهُ كريم من ذراعهِ بقلقٍ وهو يسألهُ بجدِّية:
"هتروح فين؟"
تردَّدَ يزن للحظةٍ قبل أن يتذكَّرَ راكان، فتوهَّجت عيناهُ ببصيصٍ من الأملِ وأجاب:
"فيه حدِّ كبير أعرفه، مش ممكن يسكت، هيعمل حاجة أكيد."
ربتَ كريم على كتفهِ مطمئنًّا رغم قلقهِ الواضح:
"طمِّني يا يزن...لولا معاذ مكنتش هستنَّى."
أومأ له يزن سريعًا وتحرَّكَ بخطواتٍ متسارعة، كأنَّ الأرضَ تشتعلُ تحت قدميه.
بعد وقتٍ قصير، وصلَ إلى مكتبِ راكان، عيناهُ تبحثانِ عنه كالغريقِ الذي يتشبَّثُ بقشة..سألَ عنه بتلهُّف، لكنَّهُ لم يكن موجودًا، أطلقَ زفرةً حارقةً وبدأ يتراجعُ بخطواتٍ ثقيلة، وكأنَّ الألمَ يمزِّقُ كلَّ خليةٍ في جسده.
وفي طريقهِ للخروج، لمحت عيناهُ وقوفَ جاسر مع أحدِ الأشخاص..خطا يزن نحوهِ كأنَّ القدرَ يهديهِ خيطًا أخيرًا للخلاص.. حاولَ تجلية صوتهِ المبحوحِ من التوتر، ثمَّ قال:
"حضرتك...ممكن دقيقة؟"
التفتَ إليه جاسر بعينينِ حادتين، متأمِّلًا وجههِ الذي يحكي مأساتهِ قبل أن ينطق..
"فيه حاجة؟"
قال يزن بصوتٍ متلعثمٍ لكنَّهُ مليئًا بالإصرار:
"أنا المهندس اللي حضرتك قابلتني من حوالي تلات شهور...الظابط إلياس السيوفي كان كلِّمك عنِّي."
حاولَ جاسر أن يسترجعَ ملامحهِ دون جدوى، لكنَّهُ أومأ له مشجعًا:
"طيب، محتاج إيه؟"
قصَّ يزن عليه ماصار سريعًا، كأنَّ كلماتهِ تتسابقُ مع الوقت، وعيناهُ تبرقانِ بألمٍ لا يُخفى، دقائقَ فقط مرَّت، لكن وقعها على يزن كما لو كان يُعيد شريطَ عمرهِ كاملًا، وافقَ جاسر على مرافقتهِ للتحقِّقِ من الأمر..بعد قليلٍ وصلَ إلى منزله..
في الشارع، وقفَ جاسر يدقِّقُ في المكانِ بعينِ الخبير، ثمَّ سأل:
"فيه كاميرات هنا؟"
هزَّ يزن رأسهِ بحسرةٍ وأجابَ بصوتٍ متقطِّع:
"حضرتك شايف المكان...ناس على قدِّ حالهم، الكاميرات رفاهية مش في حساباتهم."
أومأ جاسر بتفهُّم وهو يمسحُ المكانَ بنظراتٍ ثاقبة، فجأةً، وقعت عيناهُ على متجرٍ يبعدُ أمتارًا قليلة، فاندفعَ نحوهِ بخطواتٍ سريعة، وتبعهُ يزن بقلبٍ يكادُ ينفجر..
دخلَ جاسر إلى المتجر، وقال للشابِّ الواقفِ خلف الطاولةِ بابتسامةٍ مصطنعة:
"عندك سجاير يابني؟"
أجابهُ الشابَّ الذي بدا في أوائلِ العشريناتِ من عمره، وهو ينظرُ إليه بريبة:
"أيوة، عايز نوع إيه؟"
استندَ جاسر على طاولةِ المحلِّ وهو يتفحَّصُ المكانَ بعناية، لفتَ انتباههِ الكاميرا المعلَّقة، فأشارَ إليها قائلاً:
"الكاميرا دي شغالة؟"
أومأ الشابُّ بالإيجاب، فقالَ جاسر بنبرةٍ جادَّةٍ ممزوجةٍ بابتسامةٍ واثقة:
"طيب، عايز أشوف تسجيلات كاميرا المحل من إمبارح، من الساعة خمسة المغرب لحدِّ الساعة تمانية."
ارتبكَ الشابُّ وأجابهُ بتوتر:
"ماينفعش..حضرتَك مين؟"
اقتربَ جاسر منه بثقةٍ ممزوجةٍ بحدَّة، أمسكهُ من عنقهِ برفقٍ مُهدَّد، وقالَ بابتسامةٍ ماكرة:
"أنا اللي هيجاوبك عالسؤال ده بعد ما تفتحلي التسجيلات...يلَّا افتح الجهاز."
تردَّدَ الشابُ للحظة، لكنَّهُ في النهايةِ أُرغمَ على فتحِ الجهاز..
جلسَ يزن خارجَ المنزل، بكتفينِ مثقلينِ بالهمومِ ورأسهِ منكَّس من الألم..يشعرُ بتعبِ أنفاسه، وكأنَّ الهواءَ انسحبَ من حوله، كلَّ نفسٍ يختنقُ في صدره، شعرَ بيدِ مها تربتُ على كتفهِ بحنو، وتمتمت بصوتٍ هادئٍ تحاولُ تهدئته:
هنلاقيها إن شاءالله، الظابط ده باين عليه شاطر..باين من طريقته، صدَّقني.
رفعَ يزن رأسهِ ببطء، عيناهُ مليئتانِ بحزنٍ غائرٍ وألمٍ لا يُخفى، وقالَ بصوتٍ مرتجف:
ليه؟ ليه ما حدش منعهم؟ إزاي دخلوا الحيّ وخطفوها، إزاي أختي تتخطف من بيناتنا؟
عجزت مها عن الردِّ قبلَ أن تهمس:
واللهِ ما فكَّرت في غير إنِّي ألحقها، ما لحقتش أستوعب اللي بيحصل، اتفاجأت زيك.
كلماتها كانت كسكينٍ حادٍّ يمزِّقُ صدره، اقتربت منه، وحاولت التخفيفَ عنهُ غير قادرةٍ على النظرِ في عينيه، أخرجَ زفرةً حارقةً يريدُ أن يحرقَ بها الكون، ورغم ذلك أومأ متفهِّمًا، قاطعهم اقترابَ راحيل بخطواتٍ متسارعة، وجهها يشعُّ قلقًا..
يزن! كريم قال لي حاجة غريبة؟ إيه اللي بيحصل؟
وقفت راحيل بجواره، ووزَّعت نظراتها بينهِ وبين مها التي تراجعت أكثر، وأردفت بصوتٍ خافت:
أنا في بيتي، لو الظابط احتاجني قول لي..
هزَّ يزن رأسه، بالكادِ يستطيعُ الردَّ قبلَ أن يهمس:
"شكرًا يا مها."
غادرت مها بخطواتٍ بطيئة، رنَّ هاتفهِ فجأة، أمسكَ به بلهفةٍ ويداهُ ترتجفانِ وكأنَّهُ يتعلَّقُ بخيطِ نجاةٍ وسطَ بحرٍ هائج:
"أيوة..مين؟"
جاءَ صوتُ الرجلِ من الجهةِ الأخرى، محمَّلاً بالتهديد:
أختك عندنا بأمان دلوقتي، لكن الظابط اللي معاك مش هيوصل لحاجة..لو عايزها سليمة، ورقة طلاق مراتك تكون بالليل في إيديها..غير كده أختك هترجع، لكن مش زي ما هيَّ ولو البوليس عرف انساها، والصراحة هيَّ عجباني وعايزاك تنساها.
فُصلت المكالمة وهو يشعر وكأنَّ سكينًا اخترقَ صدره...ظلَّ يزن ممسكًا بالهاتفِ يحدِّقُ فيه بصمت، أنفاسهِ متقطِّعة، وكلماتهِ عالقةً في حنجرته.
اقتربَ جاسر منه، طالعهُ بحاجبينِ معقودينِ وهو يقولُ بحزم:
العربية اللي شفناها في الكاميرات كانت من غير نمر، وكأنِّنا بندوَّر على إبرة في كوم قش..بس متخافش، إن شاء الله إدِّيني كام ساعة وهتصرَّف.
لكن يزن لم يردّ، وكأنَّهُ لم يستمع إليه.. نظراتهِ فقط كانت على راحيل، وجودها أمامهِ يزيدُ من آلامه، وصوتُ الرجلِ ما زالَ يتردَّدُ في أذنه، يحرقُ كلَّ خليةٍ في جسده..ورقةِ الطلاق...أم أخته؟ صراعًا بين حياتهِ وحياةِ أخته ، وبين قلبهِ وروحهِ التي تنهارُ مع كلِّ لحظةٍ تمر.
بمنزلِ اسحاق:
جلسَ على جهازِ عملهِ الخاصِّ يواصلُ أعمالهِ باهتمام، قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-أيوة فيه إيه؟..
-مفيش أثر ياباشا لمدام دينا للأسف، قلبنا عليها المكان مش موجودة..
-يعني إيه؟..مشغَّل شوية عيال، بكرة تكون قدَّامي، بدل ماأدفنكم كلُّكم.
بعد عدَّةِ ساعاتٍ جلسَ يلتقطُ سترتهِ وتحرَّكَ إلى منزلِ والدته، دقائقَ ودلفَ للداخلِ وجدها تجلسُ مع إحدى صديقاتها:
-معقول إسحاق باشا عندي..
رمقَ صديقتها وأردفَ متهكِّمًا:
-كفاية عليكي الجواري اللي عندك، نهضت صديقتها ترمقهُ بنظرةٍ حادَّة، ليهتف:
-الباب على الشمال، أوعي توقعي بجزمتك اللي شبه صنارة السمك..في الآخر ممكن يكون ماضيكي زي مدام أحلام، أوعي تكونوا مدوبينهم خمسة وأربعين..
-إيه ياأحلام قلِّة ذوق ابنك دي..
-أووه امشي على بيتكو، بينادوا عليكي عندك غسيل وطبيخ، امسحي البوهية اللي بتدفعي عليهم فلوس العيل اللي إنتِ متجوِّزاه، وشوفي كرنبة وجهِّزي عشوة حلوة لجوزك يمكن عمره يطول ويفضل يحبِّك.
-إسحاق..صاحت بها أحلام.
التفتَ يرمقها ساخطًا:
-إيه عايزة كرنبة؟ولَّا شوية بط تربِّيه؟..
-سوفاج..قالتها صديقتها وتحرَّكت مغادرةً المكان..
ارتفعت ضحكاتهِ وهو يجذبُ المقعدَ يجلسُ عليه، يقومُ بتقليدها:
-سوفاااج..الله يرحم أبوكي، كان بيلبس البنطلون مقلوب.
-إنتَ ياحيوان إيه اللي بتعمله دا، هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها بعيونٍ تطلقُ سهامًا حتى اختلَّ جسدها وهوت على المقعد تنظرُ إليه بخوف، وتمتمت بصوتٍ متقطِّع:
-إسحاق أنا لسة بعاني من خنقك ليَّا، حاوطَ مقعدها وغرزَ عينيهِ بمقلتيها:
-هموِّتك ياأحلام لو كنتي ورا موضوع دينا، هخدك كدا وأرميكي في البحر للسمك ياكلك، فاكرة أبويا ياأحلام، فاكرة عملتي فيه ايه؟..
جحظت عيناها تهزُّ رأسها برعبٍ وتمتمت:
-إنتَ فهمت غلط، إحنا كنا أطلَّقنا خلاص، رفعَ كفَّيهِ وحاوطَ عنقها يجذبُ ذلك العقدِ الذي يزيِّنُ عنقها، وأردفَ بهسيس
-شايفة الرقبة الحلوة دي، هلفِّ عليها المشنقة، زمان سكت علشان وعدت أبويا، وعلشان فاروق وبس، دلوقتي مفيش حاجة هتمنعني، ولو فاروق وقف قدامي صدَّقيني هرميه معاكي في البحر، قطعتي الخيط الرفيع، ولولا مكانة الأم اللي ربِّنا حثِّنا عليها واللهِ كنت دفنتك من زمان، لأنِّك متستهليش تكوني أم..فلوسك كلَّها اتحوِّلت باسمِ أرسلان، كلِّ شهر تروحي تبوسي على إيده وتطلبي منُّه مصروفك.
قالها واعتدلَ مرتديا نظَّارتهِ وخطا بعض الخطوات، ثمَّ التفتَ يشيرُ إليها بالعقدِ الذي جذبهُ من عنقها قائلًا:
-دا ههاديه لمرات أرسلان، هقولَّها هدية منِّك، ياله موتي بحسرتك، أنا مسافر يومين هتقرَّبي منهم اعرفي إنِّك بتكتبي شهادة وفاتك، وحياة رحمة أبويا لو جيتي جنب أرسلان لأموِّتك بإيدي، أكيد عارفة ابنك..
بفيلا السيوفي وخاصَّةً على طاولةِ الطعام،
كان الجميعُ يتناولونَ طعامَ الغداء، في جوٍّ من المرحِ الذي أضافهُ أرسلان وهو يقصُّ لهم ماصار إلى راجح، نظرَ إلى فريدة قائلًا:
-عارفة ياماما نسيت أسأله، بيقولوا إيه في الأدان..لكزتهُ غرام تشيرُ إلى طعامه، غمزَ بعينيهِ:
-مالك ياروحي، بتعاكسيني قدَّامهم
عيب..
-لا بقولَّك كل، بقالك ساعة بتتكلِّم ومأكلتش والأكل برد..
ضيَّقَ عينيهِ متسائلًا:
-يعني أنا رغاي..هزَّت رأسها قائلة:
-لا ياحبيبي أنا اللي رغاية..
ضحكت غادة بخفَّة تبتعدُ بنظراتها عنهما، فوقعت عيناهُ عليها متذكِّرًا أوَّلَ مرَّةٍ يراها:
-عارفة إنِّك شبه مراتي، بريئة جدًا..
قاطعتهُ فريدة:
-الطيبونَ للطيباتِ حبيبي، مراتك بنت حلال ربِّنا يباركلك فيها...
ابتسمَ بحبٍّ ينظرُ إلى غرام يهزُّ رأسهِ متمتمًا:
-ماما صفية كمان قالت كدا، تورَّدت وجنتيها خجلًا لتبتعدَ بنظراتها عنهما، فضحكَ بصوتٍ مرتفع:
-شوفتي اتكسفت أهي..
-ربنا يخلِّيها لك حبيبي..حاوطَ جسدها قائلًا:
-دي غرامي ياأمِّي، مش مراتي بس..
مطَّ إسلام شفتيه قائلًا:
-مفيش غرام ليَّا أنا كمان، ألقاهُ بشريحةِ خيار:
-لا ياحبيبي دوَّر بعيد عنِّي..ارتفعت الضحكاتُ بينهما، بينما فريدة التي وقعَ بصرها على مقعدِ زوجها وإلياس وميرال، لتهمسَ بخفوت، ورغم أنَّ الصوتَ خافتًا إلَّا أنَّ أرسلان استمعَ إليهِ وهي تمتم:
-يارب يكمِّل فرحتنا بالغايبين..
ربتَ على كفَّيها وابتسمت عيناها:
-هيرجعوا بالسلامة إن شاءالله..قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-أيوة ياملاكي...عند ملك، ابتعدت عن صفية تهمسُ له:
-ارسلان مجتش ليه؟ ماما قاعدة في الحديقة منتظراكم.
حمحمَ معتذرًا وعيناهُ على فريدة، ثمَّ أجابها:
-حبيبتي هعدِّي عليكم، إحنا كدا كدا هنبات عندكم النهاردة..استمعَ إلى صراخها المبهج:
-احلف..ابتسمَ بحنانٍ أخوي قائلًا:
-وحياة ملاكي عندي، خلِّيهم يجهزوا أوضتنا كدا حلو؟..
-أحسن أخ دا ولَّا إيه..أنهى مكالمتهُ ينظرُ إلى فريدة بأسى:
-عارف كنت واعدك هنبات النهاردة هنا، بس بابا مشفتوش من إمبارح، وعدِّيت على دكتوره، قالِّي علاجه إنِّي أحسِّسه باهتمامي، بابا تعبان خايف أبعد عنُّه..
ربتت على ظهرهِ بمحبةٍ قائلة:
-لا ياحبيبي روح له، هوَّ مهما كان باباك، وله حق عليك، وفاروق بيحبَّك أوي يابني، وربِّنا بيحبِّني أكتر..
رفعَ كفَّيها وطبعَ قبلةً فوقهما:
-ربِّنا يخلِّيكي ليَّا ياستِّ الكل، نظرَ إلى غادة:
-قهوتي أستاذة غادة..نهضت مبتسمة:
-عيوني، توقَّفت غرام متحرِّكةً خلفها:
-هروح أعملها لك معاها، أوقفتهم فريدة:
-الشغالة هتعملها حبيبتي..هزَّت غرام رأسها بالرفضِ قائلة:
-لا ياماما..آسفة لحضرتك بس قهوة أرسلان أنا اللي بعملها.
غمزَ بطرفِ عينهِ وأردفَ مشاكسًا:
-أصلها بتحطِّ لي جرعة مخدِّر ياماما..
طالعتهُ فريدة بشهقة:
-إنتَ بتقول إيه؟!..هزَّت رأسها تضحكُ عليهِ فسحبت نفسها وتحرَّكت خلفَ غادة..التفتَ ضاحكًا ثمَّ أردف:
-مالك يامدام فريدة على رأي ابنك التقيل..مخدِّر حب وعشق يافريدة مش اللي في دماغك، طلعتي حما إنتي كمان.
بعد عدةِ أيامٍ والوضعُ كما هو،راجح الذي حُبسَ خمسةً عشرً يومًا احتياطيًا على ذمَّةِ القضية، خرجَ من السجنِ متَّجهًا إلى النيابةِ العامةِ لاستكمالِ التحقيقات، توقَّفت رانيا أمامهِ بعد تهديدهِ الواضحِ لها:
-عملتي إيه؟..
ارتجفَ جسدها وهي تطلَّعُ إليه:
-مابلاش ياراجح، إنتَ كدا هتفتح نار جهنَّم علينا، نظرَ إلى الشرطي، ثمَّ قبضَ على ذراعيها:
-هفضحك متنسيش إنتِ دلوقتي تحت ضرسي، هتروحي تنفِّذي كلِّ اللي قولته، أنا لازم أنهيهم قبلِ ماينهوني..
-تمام، هكلِّمه وهوَّ هيتصرَّف، رفعَ كفَّيهِ على وجهها وأردفَ شامتًا:
-برافو عليكي يارانيا، ووعد أرَّجع لك بنتك، ومتخافيش البنتِ مش هتعمل حاجة، مهما كان إنتِ أمَّها، أه هتقرف منِّك شوية، بس هترجع وتعترف بينا، ووقتها نعرف نستغلَّها كويس.
جذبهُ الشرطي بعدما استمعَ إلى صوتِ الرجلِ بدخولهِ إلى وكيلِ النيابة..
دلفَ إلى الداخلِ وجدَ إلياس جالسًا بعجرفتهِ كعادته، توقَّفَ بعدما أشارَ راكان إلى الكاتبِ أن يفتتحَ القضية كعادته، ثمَّ رفعَِ وجهه إلى راجح متسائلًا عن التهم المنسوبة إليه..
لا ياباشا همَّا اللي خطفوا بنتي، وهدُّدوني، وقالوا لي لو حاولت تقرَّب منها هنسجنك، ماهم رتب، وأنا أكتر واحد عارف أصحاب الرتب بتعمل إيه..
وزَّعَ نظراتهِ بينهما ثم أشارَ للكاتب
-اكتب يابني:
بناءً على اختصاصِ النيابة العامة، نطلب من السيدة ميرال جمال الدين الحضور إلى مقرِّ النيابة العامة..
اكتب اليوم والتاريخ في تمامُ الساعة.. اكتب الوقت، وذلك للإدلاءِ بشهادتها في القضية، اكتب رقمِ القضية، ويرجى الالتزام بالموعدِ المحدَّد، ونحيطكم علمًا بأنَّ عدم الحضور قد يعرِّضها للمساءلةِ القانونية..
قاطعهُ راجح قائلًا:
-مروة راجح الشافعي ياراكان باشا، مش ميرال زي مابيدُّعوا..
قالها وهو يغرزُ عينيهِ بأعينِ إلياس الصامت..
-إنتَ مااخدتش وقتك، يبقى ماتتكلمشِ غير لمَّا أذن لك..قالها راكان بحدِّة..أومأً برأسهِ ورسمَ الطاعةِ قائلًا:
-تحتِ أمرِ معاليك، بس قبل ماتحكم وأنا طمعان في عدلِ معاليك، تجيب البنت لوحدها من غير ما حضرةِ الظابط يقرَّب منها، أصله هيهدِّدها، وهي هتشهد، هتقولَّك قد إيه الراجل دا ظالم ومفتري وبيتبلَّى علينا..
-خلَّصت كلام..خده ياعسكري.
رمقَ راجح إلياس ساخرًا، وتحرَّكَ دون حديث، ممَّا جعلَ الشكَّ يتسلَّلُ إلى قلبهِ بأنَّهُ فعلَ شيئًا، عكسَ مخطَّطه.
قطعَ شرودهِ راكان:
-الراجل دا بينك وبينه حاجة غير محاولته ابتزازك، وخطف ابنك؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ نهضَ يغلقُ حلَّتهِ قائلًا:
-لو مفيش حاجة تانية تسمح لي أمشي؟..
تراجعَ راكان بجسدهِ وعيناهُ تخترقُ إلياس ثمَّ أردف:
-بس هو بيتكلِّم بثقة، وأنا آسف، لازم مدام ميرال تشهد، إنتَ عارف طبعًا شهادتها هتفرق، ياأمَّا يثبت زي ماقال إنَّها بنته ودي طبعًا مش هيكون فيها قضية، أما لو شهدت..القضية هتتطوَّر وممكن كمان يكون حبس، دا خطف وتهديد بالقتل.
-أنا قولت الِّلي عندي ياراكان باشا، معنديش كلام تاني..قالها واستدارَ للمغادرة ليوقفهُ راكان:
-لو كان فيه ضغط على المدام إنتَ هتتأثَّر ياإلياس، خلِّي بالك من النقطة دي..طالعهُ بنظرةٍ واثقة:
-المدام في بيتها ياراكان باشا، وأكيد هتعرف لو حاولت..اتِّصل بيها، مش أنا اللي أستخدم مراتي في حسابات شخصية، وزي ما قولت لحضرتك الأمر كلُّه بسبب أسهم الشركة، قالها ثمَّ ارتدى نظارتهِ وتحرَّكَ مغادرًا المكان..
بعد يومين بمنزلِ ميرال،
وضعت الخادمةُ أمام فريدة عصيرها، نظرت إليها فريدة:
-وبعد هالك، أصرِّيتي ترجعي على بيتك، رغم محاولته ركبتي دماغك، يابنتي مينفعشِ اللي بتعمليه، ابنك بكرة يخرج من الحضَّانة، مش هينفع تربِّيه لوحدك..
ترقرقت عيناها بالدموعِ وأردفت:
-ماما فريدة، سبيني براحتي لو سمحتي، لازم أبعد شوية، احترموا قراري لو سمحتي، مش هوَّ قال لو مرجعتش عنده حياتنا انتهت، اعتبريها انتهت.
-بتغلطي يابنتِ فريدة، وكدا هتزهَّقي جوزك منِّك، أوعي تفكَّري هيبكي عليكي..
لمعت عيناها بالمرارة، وأردفت بنبرةٍ مكسورة:
-خلاص ياماما أنا رسمت حياتي، وهوَّ كمان لازم يبعد عنِّي ويرسم حياته، مش هياخد منِّي غير الألم والوجع، مركزه حسَّاس وأنا متأكدة إنِّ راجح مش هيرحمه، وشوفتي بعينك
استمعت فريدة إلى رنينِ هاتفها.
-أيوة حبيبي..
-ماما أنا هتأخَّر شوية، هعدِّي على يوسف كمان، قولي للمدام متخرجشِ برَّة النهاردة، معرفشِ راجح ناوي على إيه.
-هوَّ مش محبوس ياحبيبي؟..
زفرَ بغضبٍ ثمَّ أردف:
-شكله بيحضَّر لمصيبة، هيَّ مطلوبة تشهد بكرة في النيابة، المهمِّ ماتخرجشِ من البيت، جذبت الهاتفَ من فريدة وهدرت به:
-أنا هنزل أشوف ابني ياإلياس، قولت لك الراجل دا خلِّيني منِّي له، أنا مش هفضل محبوسة، سمعتني؟..
-طيب يبقى إعمليها وأنا أقسم بالله أحرمك من ابنك، واحدة متخلِّفة..قالها وأغلقَ الهاتف..
ثارت جيوشُ غضبها تنظرُ إلى فريدة بحزن:
-شوفتي بيقول إيه..سحبت نفسًا ودفعتهُ متوقِّفة:
-أنا هروح أطمِّن على يوسف، وبلاش إنتِ النهاردة بس، لمَّا نشوف راجح ناوي على إيه..
بعد فترةٍ من مغادرةِ فريدة، أمسكت هاتفها بعد تفكيرٍ دامَ لدقائق:
إنتَ فين ؟!
نهضَ معتذرًا:
نعم ياآخرة صبري، أيكونشِ خلعتي جوزك وأعجبتي بيَّا، ماأنا حلو برضو.
-ظريف، تعالَ ليَّ فورًا، علشان أخوك مش ناوي يجبها البر.
-ما أنا قولت لك ياأمِّ يوسف، أنا أحسن منُّه، على العموم لو هتجهِّزي عشا رومانسي هجيلك، غير كدا ماأعرفكيش..
-أرسلان لازم تيجي لي فورًا، وبطَّل تريقة، في مصيبة.
ابتسمَ ساخرًا:
-هوَّ أنا من يوم ماعرفتكوا شوفت حاجة غير المصايب، الحمدُ لله، ماغيرتش اسمي، أنا عند أهلي، انسوني ياعيلة هم..
سبَّتهُ تصرخ به:
-عشر دقايق وتكون عندي، جاتك نيلة وإنتَ رغاي..قالتها وأغلقت الهاتف.
نظرَ إلى الهاتفِ المغلقِ بشهقة، يشيرُ إلى غرام:
-شوفتي البتِّ قفلت في وشي..
ارتفعت ضحكاتها تهزُّ رأسها:
-تستاهل، ماإنتَ استفزِّتها
-لا ياحنينة، دي تربية ابنِ السيوفي، يارب أشوف فيه يوم، هوَّ والسحلية مراته..
بعد وقتٍ قصيرٍ من انتظارِ وصولِ أرسلان، دلفت الخادمةُ إلى غرفتها بصوتٍ متردِّد:
مدام، الظرف دا جالك.
تناولت الظرفَ بيدٍ مرتجفة، فتحتهُ ببطءٍ كأنَّها تخشى ما ستجدهُ داخله؛ ارتفع نبض قلبه بعنفٍ وهي تخرجُ منه أسطوانةً وبعضَ الأوراق..تراجعت بخطوةٍ للخلفِ وهمست لنفسها:
أسطوانة؟...بتاعة إيه دي؟!
بدأت تقرأُ الأوراق، وعيناها تتسعانِ برعبٍ مع كلِّ كلمة،فجأة، شهقت بقوَّةٍ وسقطت الأوراقَ من يدها، بينما ارتجفَ جسدها، هرعت إلى جهازِ الكمبيوتر بيدينِ ترتعشان، فتحتهُ بسرعةٍ وهي تشعرُ وكأنَّ الهواءَ أصبحَ ثقيلاً في صدرها، وعندما ظهر ما بداخلِ الأسطوانةِ على الشاشة، تجمَّدت في مكانها..انفلتت دمعةٌ من عينيها، ثم تبعتها دموعًا أخرى، تشعر قلبها ينفجرُ من الداخل.
في تلك اللحظة، قطعَ رنينُ الهاتفِ البكاء القاتل..مدَّت يدها بتردُّدٍ وهي بالكادِ تلتقطُ أنفاسها، وردَّت بصوتٍ مبحوح:
"ألو؟"
جاءها صوتًا عميقًا وهادئًا، لكنَّهُ يحملُ تهديدًا مبطَّنًا:
أكيد عارفة هتعملي إيه..
وقبل أن تنطقَ بكلمة، أغلقَ المتَّصلَ الخطّ، تاركًا صوتَ الصمتِ يلفُّ المكانَ من جديد..تجمَّدت لثوانٍ، ثمَّ سقطت على ركبتيها بعجز، تنظرُ حولها كمن يبحثُ عن مخرجٍ من كابوس.
فجأةً، جذبت هاتفها وأصابعها ترتجف:
"أرسلان، إنتَ فين؟"
أجابها متحدِّثًا بنبرةٍ مازحةٍ رغم قلقهِ الواضح:
إيه يا بنتي، أوعي يكون وحشتك كده..
لكنَّ صوتهِ المرح تبدَّدَ عندما استمع الى صوت بكاؤها توقَّفَ للحظة، ثمَّ وضعَ يدهِ في جيبهِ حينما رنَّ هاتفه..رفع إصبعه ِمعتذرًا وقال :
لحظة، هردّ على إلياس!!
فتحَ الخطَّ بصوتٍ جاد:
-أيوة، يا بني، إنتَ فين؟
جاءهُ صوتُ إلياس متعبًا لكن حازمًا:
أنا في المستشفى، ماتخفش، بابا معايا، خلي بالك من ماما وميرال.
قطبَ أرسلان جبينهِ بقلق وقال:
- إيه؟ لأ، أنا جايلك حالًا.
ردَّ عليهِ إلياس بصرامة:
اسمعني، متتعبنيش..ماما رجعت مع غادة لبيت ميرال، خلِّي بالك منهم، وأنا الصبح هكون عندك، جرح بسيط مش مستاهل تقلق.
تردَّدَ أرسلان للحظة، وهو ينظر إلى غرام وشعرَ بالعجزِ يجتاحهُ وقال بصوتٍ مبحوح:
-إلياس...في إيه؟
لكن إلياس قاطعهُ بنبرةٍ حادَّة:
خلاص، هقفل دلوقتي.
أغلقَ إلياس الهاتف، وبدا أرسلان والقلق ينهش صدره، التفتَ إلى غرام التي كانت تقفُ بجانبهِ تراقبُ ملامحهِ القلقة، وسألتهُ بارتباك:
"أرسلان، مالك؟ في إيه؟"
تجاهلَ سؤالها، وتحرَّكَ بخطواتٍ متوترةٍ نحو منزلِ ميرال، لكنَّهُ توقَّفَ عندما وصلت سيارةُ فريدة..خرجت من السيارةِ بخطواتٍ مسرعةٍ واتَّجهت إليه، عيناها تمتلئانِ بالرعب:
-أرسلان، أخوك ماله؟ إيه اللي حصل؟
أمسكَّ بيدها وسحبها إلى الداخلِ وهو يقول:
معرفش! اتَّصل وقالِّي إنُّه في المستشفى، حتى مقاليش أنهي مستشفى.
شهقت ميرال التي كانت خلفه، تطالعه بعينين زائغتينِ تنطقان عن خوفٍ دفين:
-أنا كنت عارفة...كنت عارفة إنُّهم مش هيسكتوا!
اقتربت غرام منها، واحتضنتها بقوَّة، وصوتها يفيضُ بالمؤازة:
حبيبتي، اهدي ما ينفعشِ كده.
انهارت ميرال بين ذراعيها، وبدأت تبكي بشهقاتٍ متقطِّعة:
خلِّيه يبعد عنِّي يا ماما...واللهِ راجح مش هيسيبنا في حالنا..هوَّ عايز ورقة طلاقي علشان يرتاح...خلِّيه يطلَّقني، مش هوَّ اللي قال وقت ما أطلب الطلاق هيطلَّقني؟ ليه رجع في كلامه؟
ربتت غرام على ظهرها، ومسحت دموعها وهي تقولُ بحنان:
لأنُّه بيحبِّك يا بنتي، متمسِّك بيكي لأنُّه بيحبِّك.
رفعت ميرال رأسها، وعيناها غارقتانِ بالدموع، وقالت بصوتٍ مخنوق:
وأنا بعشقه، واللهِ بعشقه..بس مستقبله أهم، هو قالها لي بنفسه مش هريَّح ابنِ السيوفي طول ما أنا على ذمِّته.
ثمَّ أمسكت بكفَّي والدتها بقوَّة، وقبَّلتهما وهي تتوسَّل:
لو بتحبِّيني زي ما بتقولي...خلِّيه يطلَّقني، أنا كفاية عليَّا يوسف، واللهِ ما هتجوِّز تاني لو عايز تعهُّد بكده هعمله..دول ناس مجرمين، أنا عرفت حقيقتهم..وهو كمان عارفهم..
نظرت غرام إليها بصدمة، وهمست بصوتٍ يملؤهُ الخوف:
إنتِ قصدك إيه يا ميرال؟
هزت رأسها وارتفعت شهقاتها متحركة إلى الأعلى..شعر ارسلان أن هناك خطب ما مرعب، هناك ماتخفيه قد يؤدي إلى الهلاك..أشار إلى الأعلى
-اوضتها فين، ثم أشار إلى غرام
-اطلعي وأنا جاي وراكي لازم اتكلم معاها، اتجه بنظره الى فريدة
-ماما إلياس كويس، أكيد بيخطط لحاجة، بس ايه معرفش، هطلع لميرال ونازل على طول
صعد بعض درجات السلم توقف على رنين هاتفه، ليتوقف مجيبًا:
-أيوة ياعمو...على الجانب الآخر
-حبيبي أنا في المطار، هستناك بكرة متتأخرش، هقفل الفون خلي بالك
-عملت ايه في موضوع مكتب إلياس ياعمو...سحب نفسًا عميقًا ثم زفره قائلًا:
-للأسف متقلب ياارسلان، أنا ادخلت شخصيًا، وفيه حد بيحاول يلم الموضوع..ضرب بقبضته على الدرج
-ياولاد الكلب ..قاطعه إسحاق
-متقلقش، أنا هلم الموضوع، نخلص بس العملية، متنساش دي مهمة جدًا جدًا..
-تمام ياعمو، ربنا يسهل ..
في اليومِ التالي:
دلفت ميرال إلى غرفةِ وكيلِ النيابة.. بخطوات متثاقلة، لكنَّها محمَّلةٌ بثقلِ القرارِ الذي اتّّخذته..في الداخلِ كان راكان يكتبُ ملاحظاتهِ بدقَّةٍ قبلَ أن يرفعَ عينيهِ نحوها ويسألها بنبرةٍ جادَّة:
إيه رأيك في اللي قاله المتَّهم راجح الشافعي؟
قبلَ أن تجيب، فُتحَ الباب فجأة، ودخلَ أحدُ المسؤولينَ قائلاً بصوتِ متردِّد:
إلياس باشا برَّة، وعايز يدخل لحضرتك
رفع راكان حاجبه بدهشةٍ كمن لا يصدق ما يسمعه، ثم أشار بيده قائلاً بصوتٍ يحمل غضباً مكبوتاً:
ازاي يعني يدخل؟ عايز يحضر التحقيقات!
توقف راجح مبتسمًا وكأن يملك العالم بأسره، لم يُظهر أي توتر، بل نظر ميرال نظرة مشبعة بالسخرية، وأردف بنبرة مليئة بالاستخفاف:
"أو يمكن يهددها... مش كده يا مروة؟"
اخترقت كلماته صدرها كالنصل الذي استقر في صدرها، لكن قاطعه راكان بعاصفة من الصرامة وهو يهتف بصوتٍ هادرًا:
هو أنا سمحت لك بالكلام؟ مسمعش صوتك!
ثم أشار بيده إلى الحارس بجانب الباب وأمره دون تردد:
"دخله!"
انفتح الباب ببطء ودخل إلياس بخطوات واثقة، ألقى التحية ثم تحدث بصوتٍ مبحوح يحمل آثار الأيام الماضية:
آسف يا باشا قطعت كلام معاليك، بس مراتي لسه والدة من أسبوعين وخفت عليها.
تراجع راكان بجسده في كرسيه قليلًا كأنه يزن الكلمات، ثم رفع حاجبه بحدة وقال بثقة لم تهتز:
"وأنا هتعبها يعني يا حضرة الظابط؟"
ثم أدار رأسه نحو ميرال، التي كانت جالسة وكأنها تحارب عاصفة بداخلها، وهمس وكأنه يطمئنها:
"سؤالين وبس، مراتك مش متهمة علشان تخاف عليها."
أومأ له إلياس بامتنان، وقال بخفوتٍ يحمل داخله شعوراً بالاستسلام:
شكرًا لمعاليك. أنا هفضل بعيد، واعذرني على تدخلي.
ضحك راكان بسخرية قائلاً بتهكمٍ واضح:
طيب لو رفضت يا إلياس يا سيوفي؟ هتفضل برضو؟
رفع إلياس رأسه بثبات وابتسم ابتسامة هادئة أخفت خلفها غضبه، ثم قال بصوت ثابتٍ لكنه مثقل:
"لا طبعًا. إحنا رجال قانون ومش هنكون فوق سلطته يا راكان باشا. ولا يهمك، أنا بره، ومراتي هنا في أمانتك.
استدار بخطوات بطيئة نحو الباب، لكنه توقف فجأة حينما استمع الى صوت راكان:
اقعد واستنى مراتك، وده مش بعمله مع حد، بس علشان ظروف مراتك.
استدار إلياس ببطء، وجهه يعكس تناقضات كثيرة بين الامتنان والقلق و رسم ابتسامة واهنة وقال بهدوء لا يخلو من الاحترام:
-شكرًا لمعاليك. أنا كنت داخل بإرادتي، وحضرتك خرجتني بإرادتك. بالتالي، مينفعش أكسر إرادة حضرتك أو قوانين معاليك... أنا بره.
وجه نظره إلى ميرال، التي كانت تجلس بلا حراك، كأنما تحاول السيطرة على أنفاسها المتلاحقة، وتمتم بصوتٍ بالكاد يُسمع:
"انا بره مستنيكي"
تجمّدت ميرال في مكانها للحظة، كلمات إلياس التي ألقتها وسط محيط متلاطم، لكنها لم تستطع أن تتمسك بها، جاءها صوت راكان كالصاعقة يقطع شرودها:
-راجح الشافعي بيقول إنك بنته، وإنهم خاطفينك. ومش بس كده، جوزك بيهددك علشان تعيشي معاه"
صمت قاتل للحظات، نظرت ميرال إلى راجح، الذي بدا وكأنه يستمتع بكل لحظة برعبها، ثم تذكرت إلياس وطفلها، مزيج من الصور والأصوات تضرب عقلها وقلبها، إلى أن شعرت كأن أنفاسها تُنتزع من رئتيها، حاولت التحدث، لكن الكلمات عاندتها. فجأة، قاطع الصمت صوت راكان بالسؤال مرة أخرى
رفعت ميرال رأسها ببطء، عيناها تحتجزان بالدموع التي أبت أن تسقط، وقالت بصوتٍ متحشرج يحمل كل الألم الذي كانت تخفيه:
- من يوم ما فتحت عيني وأنا معرفش غير إني ميرال جمال الدين.
أومأ راكان برأسه مشجعًا لها أن تكمل. لكن ميرال التفتت فجأة نحو راجح، الذي بدا وكأنه يفترس ضعفها بعينيه. عادت بنظرها إلى راكان، وصوتها يرتجف بشدة وهي تحاول السيطرة على انهيار وشيك:
"أنا فعلًا مش ميرال جمال الدين..."
ضحكة راجح العالية قطعت الجو كصفعة على وجه ميرال، ارتفعت ضحكاته كالذي فاز بانتصار ساحق، ثم قال بنبرة مشبعة بالازدراء:
وظهر الحق! مش قولتلك يا باشا؟ خطفوها وهددوها.
نظرت إليه وهي تشعر بنفسها كالجمرة المشتعلة، صرخت بصوتٍ عالٍ ملأ الغرفة:
آه، مش ميرال جمال الدين... بس أنا كمان مش مروة اللي المجنون ده بيقول عليها!
تقدمت بخطواتٍ متسارعة نحو راجح، كأنها تستمد قوتها من كل الألم الذي شعرت به، صرخت مجددًا بصوتٍ مختنق بالألم والغضب:
"أنا ميرال وبس!"
وفجأة انقضت عليه كمن فقد عقله، أظافرها تغرز في وجهه بلا رحمة. صرخت بصوتٍ يكاد يشق الغرفة نصفين:
أنا مستحيل أكون بنتك! مستحيل! أموت ولا أكون بنت واحد مجرم زيك!
حاول راكان التدخل سريعًا، لكنه وجد نفسه أمام عاصفة لا تهدأ. صرخ بها بقوة وهو يمسك بيدها بعنف ليبعدها عنه:
مدام ميرال!
**لكنها لم تتوقف، كأنها تطلق كل ما كان يحرق روحها لسنوات. بكاؤها بدأ يعلو، وأخيرًا انهارت بين يدي راكان، جسدها يتهاوى كأنه لم يعد يحتمل، ليشير إلى رجله
-نادي على جوزها
دلف إلياس إلى المكتب في لحظة واحدة، كطفل مذعور يبحث عن أمانه. وقف للحظة يشاهد زوجته، قلبه يتمزق وهو يرى شبحها المنهك بين ذراعي راكان. خطى نحوها بسرعة، ضمها بحذر بين ذراعيه، وهمس لها بصوتٍ عاجز:
"ميرال أهدي"
لكنها لم تستجب..لتدفعه بقوة تصرخ كالمجنونة
-"ابعدو عني، انا مش عايزة حد فيكم، انا ميرال وبس، ارحموني ..قالتها لتسقط بين يديه وهي فاقدةً للوعي، وقد خيم السكون على المكان بعد عاصفةٍ لن تُنسى أبدًا بقلبه مما ألقته عليه"
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
كيف أسامحُ من أغرقني في أوجاعٍ لا لغةً تصفها؟..
كيف أطلبُ منهُ أن يفهمَ عمقَ ألمي، وهو لم يشعر أبدًا أنَّ روحي كانت امتدادًا لروحه؟
أتمنَّى لو أنَّ أحدًا يخبره:
أنا التي حملتُ أوجاعي كصليبٍ ثقيلٍ على كتفي..
أنا التي نزفَ قلبي حتى صرخَ الحزنُ داخلي، لكنَّني كنت وحدي..
حتَّى هو كان السيفُ الذي مزَّقني، والقاضي الذي حكمَ عليَّ بالصمت..
هذا الألم ليس جرحًا، عاصفةً تملؤني بالصمتِ والصراخِ معًا..
ليتهُ فقط يشعر، ولو للحظة، كيف يتألَّمُ من كانت روحهِ تهيمُ على حافَّةِ الانكسار..
#شظايا_قلوب_محترقة
تحرَّكَ إلياس إليها كالعاصفة، بعدما وجدَها تترنَّح، ضمَّها بقوَّةٍ حين شعرَ بأنَّ جسدها ينهارُ بين يديه، شعرَ بالألمِ وهو يرى ضعفها، رفعها بين ذراعيهِ وكأنَّهُ يحملُ روحه، عيناهُ مثبَّتتانِ بملامحها التي فقدت ألوانها، وقلبهِ يصرخُ بصمتٍ بينما طلبَ راكان الطبيب للذهاب بها لغرفته؛ وأشارَ إلى الشرطي يجرُّ راجح إلى حبسه، تحرَّكَ بها إلياس نحو غرفةِ الطبيبِ بخطواتٍ مسرعة..
بعدَ فترةٍ داخل الغرفة، فحصها الطبيبُ سريعًا..دقائقَ مرَّت وكأنَّها دهرًا..تنفَّسَ إلياس بصعوبة ثمَّ قال الطبيبُ بنبرةٍ مطمئنة:
هبوط حاد في الدورة الدموية، وإن شاءالله هتكون كويسة..قالها وتحرك للخارج
رفَّت أهدابها ببطءٍ كأنَّها تخرجُ من كابوس..همست باسمهِ بصوتٍ ضعيفٍ بالكادِ يسمع، لكنَّهُ اخترقَ قلبهِ كالسهم..أمسكَ بكفَّيها الباردينِ يضغطُ عليهما بخوفٍ ممتزجٍ بالحنان، وهمسَ بصوتٍ مرتعش:
"ميرال، أنا هنا...افتحي عيونك.."
استفاقت ببطء، نظراتها تجولُ حولها وهي تحاولُ استيعابَ ما حدث..رفعت يدها بضعفٍ تمسحُ وجهها، و تحاولُ محوَ الألمِ الذي تسلَّلَ إلى ذاكرتها.. التفتت إليهِ بعينينِ غارقتينِ بالتعب والغضب:
- عايزة أمشي...جايبني هنا ليه؟
أشارَ إلى المحلولِ المعلَّقِ بكفِّها وقالَ بهدوء:
"لمَّا المحلول يخلص"
ثمَّ اقتربَ منها وأشارَ إلى حجابها:
ظبَّطي حجابك وهدومك.
لكنَّها نزعت المحلولَ بعنف، غير مباليةٍ بالدماءِ التي سالت من يدها، ونظرت إليهِ بعينينِ ملتهبتينِ وهتفت بصوتٍ متقطِّعٍ مليءٍ بالألم:
-أنا عايزة أمشي...مش هقعد هنا ولا دقيقة..
اقتربَ منها ثمَّ انحنى و أمسكَ بكتفيها بحذر، وأردفَ بصوتٍ هادئٍ محاولًا إخفاءهِ خلف حزمٍ مصطنع:
- اسمعيني، إنتِ تعبانة..اهدي شوية علشان صحِّتك.
نزعت نفسها من بين يديهِ وكأنَّ لمستهِ تُلهبُ جراحها، وقفت بصعوبةٍ رغم الدوار، وقالت بصوتٍ مرتجفٍ لكنَّهُ حادٍّ كالسيف:
-أنا قلت هرجع البيت، وزي ما جيت لوحدي هرجع لوحدي، اهتمامك دا مالوش لازم.
تجمَّدَ مكانهِ للحظة، كأنَّ كلماتها أطفأت كلَّ طاقةٍ بداخله..زمَّ شفتيهِ بشدَّة، ثمَّ قال بنبرةٍ تغلبُ عليها السخرية المرَّة:
-اهتمام مالوش لازمة؟ طيِّب بدل ما نرسم الاهتمام، خليكي هنا لمَّا نشوف وكيل النيابة هيقول إيه، بعد كدة نكمِّل رسم الاهتمام قدَّام الناس.
أنهى جملتهِ بغضبٍ مكبوت، وتحرَّكَ للخارج، يغلقُ البابَ خلفهِ بعنف..
عادَ بعد دقائقَ وجدَ الغرفةَ خالية..شعرَ بأنَّ قلبهِ قد هُزم، استدارَ للممرِّضِ وسألهُ بصوتٍ مكتوم:
-المدام اللي كانت هنا...راحت فين؟
ردَّ الممرضُ ببساطةٍ لا تتناسبُ مع اضطرابِ قلبه:
"مشيت ياأفندم."
تجمَّدَ في مكانه، يشعر بأنَّ العالمَ بأكملهِ قد توقَّف..أومأ برأسهِ بتعبٍ وتحرَّكَ بخطواتٍ ثقيلة، والغضبُ والقلقُ ينهشانِ روحه..
خطا عدَّةِ خطواتٍ متَّجهًا للخارج؛ ولكن وقعَ بصرهِ عليها وهي تجرُّ ساقيها بصعوبةٍ نحو مكتبِ راكان على الجهةِ الأخرى..توقَّفت أمام البابِ متردِّدة، وقوفها يحملُ من الانكسارِ ما جعلهُ يشعرُ بوخزةٍ في قلبه، خطا إليها وصدرهِ ينتفض من القلقِ مايعجزهُ عن التفكير، تحرَّكَ بخطواتٍ تقطعُ المكانَ كالذي يمشي فوق الجمراتِ ولكنَّهُ لم يصل إليها، فقد دلفت إلى الداخلِ سريعًا ..
رفعَ راكان عينيهِ نحوها فورَ دخولها، دقَّقَ النظرَ بحالتها، فلقد انتابَ جسدها الارتجاف...أشارَ إليها بالجلوسِ دون أن ينبسَّ ببنتِ شفة، وكأنَّهُ يمنحها مساحةً لاستجماعِ أنفاسها..
"اتفضلي يا مدام ميرال." قالها بصوتٍ هادئ، وهو يطلبُ لها مشروبَ ليمونادا، ولم يغفل عن ارتعاشِ يديها الذي لم تستطع السيطرة عليه...ثمَّ رفعَ هاتفهِ واتَّصل:
"دخَّل إلياس السيوفي يابني."
لحظاتٍ ثقيلةٍ مرَّت كالدهر، دخلَ إلياس إلى المكتب، عيناهُ وقعتا على جلوسها المنكسر، و كأنَّها تحملُ جبالًا فوق كتفيها، ارتجافها ونظراتها الحزينةِ كانت أبلغُ من أيِّ كلمات..رفعت رأسها نحوهِ وطالعتهُ بعينينِ تبحثانِ عن ملاذ، عن أمانٍ وقوَّةٍ افتقدتها بعد إنقلابِ حياتها لتحوِّلها إلى الانهيار.
اتَّجهَ إلياس ببصرهِ إلى راكان وتمتمَ باعتراض:
-من فضلك ياراكان باشا ممكن تكمِّل تحقيق بعدين..قاطعتهُ هامسةً بصوتٍ خافت:
"أنا عايزة أخلص من القضية، لو سمحت."
وقفَ إلياس مكانه، بملامح ممتزجةً بين الصدمةِ والقلق،..تطلَّعَ نحو راكان ولم يستمع إلى حديثها:
"ممكن تأجِّل التحقيق لبعدين؟" قالها بصوتٍ حازم، لكنَّهُ محمَّلًا بتوترٍ لا يستطيعُ إخفاءه.
تحدَّثَ راكان بنبرةٍ متَّزنة، لكن كلماتهِ كانت تحملُ وقعًا أثقل:
"أنا مابحقَّقش يا إلياس..راجح طلب تحليلِ الحمضِ النووي، وطبعًا إنتَ عارف دا معناه إيه"
كلماتهِ كانت كصفعةٍ على وجهها..رفعت رأسها فجأةً وشعرت بأن تصرخ، لكنَّ صوتها خرجَ مهتزًّا، يحملُ وجعًا يهدُّ جبالًا عملاقة:
"وأنا قلت لحضرتك قبلِ كدا...الراجل دا مايربطنيش بيه حاجة..مستحيل يكون أبويا! مستحيل!"
تنفست بعمق وتابعت حديثها المؤلم
-ممكن أكون مختلفة عن الكل، بس يعني أيه أب
توقَّفت للحظةٍ عن الحديثِ ودموعها تسبقُ كلماتها، ثم أكملت بصوتٍ حاولت أن يبدو قويًا لكنَّهُ انكسرَ تحت ثقلِ آلامها:
"أنا ماليش غير أب واحد...مصطفى السيوفي..لأنُّه الأب اللي ربَّى واحتوى، الأبّ الحقيقي هوَّ اللي بيعلِّمك الصح من الغلط مش اللي بيخلِّف."
قالتها وهي تحاولُ كبحَ شهقاتها، لكنَّ حزنها الممزوجِ بالألمِ كان أقوى..أغلقت عينيها بقوَّة، وكأنَّها تحاولُ أن تمزِّقَ جفنيها، شهقةٌ عميقةٌ أفلتت منها، ودمعةٌ ساخنةٌ انحدرت على وجنتها تحرقُ طريقها، ثمَّ نظرت نحو إلياس، وبعينينِ مكسورتينِ تمتمت بصوتٍ ضعيفٍ كالتي تلفظُ آخرَ آنفاسها الأخيرة:
"أنا آسفة يا إلياس...عارفة إنِّي بخذلك للمرَّة المليون."
جهلَ إلياس كلماتها عن أيِّ شيئٍ تتحدَّث، صمتَ ولم يقوَ على الحديث، حتى ثقل لسانه و الكلماتَ تخونهُ أمامَ انهيارها.
استدارت إلى راكان فجأة، وهي تجمعُ بقايا قوَّتها المبعثرة:
"عايزة أقدِّم شكوى في الراجل دا.. بيهدِّدني بجوزي وابني، مش بس كدا، خطفني أنا ووالدتي مرَّة، وكان هيموِّت ابني، لانه للاسف كلامه صح، بيكون الراجل اللي خلفني، وبيكون عم الياس، مش سايبنا في حالنا هو ومراته، حتى أنه ..صمت ثم التفتت إلى إلياس وانهارت دموعها تسيحُ فوق وجنتيها وتمتمت بنبرةٍ متقطِّعة:
-و سرق أوراق مهمَّة جدًا من شغلِ جوزي، وبيهدِّدني بيها، أطالب حضرتك بالتحقيق وتجيب حقِّي وحقِّ جوزي."
كانت كلماتها أشبهُ بطلقاتٍ اخترقت صدرَ إلياس..نظرَ إليها مذهولًا، هزَّةً عنيفةً أصابت كيانه، وعجزَ عقلهِ عن استيعابِ ما قالته، عن أيِّ أوراقٍ تتحدَّث؟ ولماذا أخفت ذلك عنه؟ شيئًا ما يتحطَّمُ داخله، لكنَّهُ لم يستطع النطق...فقط يراقبها، وكلَّ جزءٍ فيه ينهارُ بصمت...
مازالت نظراتها عليه واستأنفت:
-راجح سرق معلومات من جهازك، والأسطوانة اللي حضرتك بتهدِّد بيها رانيا أخدها، وهدِّدني بيهم ياأخضع له، ياإما هيطلَّعك خاين قدَّام جهازك.
-دي مكالمة مش كدا؟.،تساءلَ بها راكان سريعًا..هزَّت رأسها بالنفي وأردفت:
-لا..مش تليفون..بس بعتلي نسخ تصويرية من اللي عنده.
في تلك اللحظة، صمتٌ أشبهُ بالموت، ويشعر وكأنَّ الجدرانَ تطبقُ على صدرهِ حتى أصبحَ الهواءُ ثقيلًا، وأنفاسهِ المتقطَّعةِ تحملُ في طيَّاتها معاناةَ التنفس..
جلسَ كتمثالٍ نُحت َمن حجرٍ بارد، بدا وكأنَّهُ يحملُ فوق أكتافهِ جبالًا من الحزنِ والقهر، أغلقَ عينيهِ و صدى كلماتها يخترقُ رأسهِ كالرعد، يدوي بلا توقُّف، يحوِّلُ الصمتَ حولهِ إلى عذاب يستبيح كل مايؤلم
طالعها راكان بذهولٍ ممزوجٍ بصدمة متجمِّدة..لتتوسَّعَ عيناهُ بالدهشة، وحالهِ ينطقُ عشرات الأسئلةِ التي عجزَ عن نطقها، وكأنَّها ألقت قنبلةً فجَّرت كلَّ رأسه.
رفعت رأسها بتردُّد، تنظرُ إلى إلياس وشعورها بأنَّها حملُته أثقالًا من الألم، ليتحوَّلَ وجهها للوحةٍ مشوَّهةٍ بالحزن.. عيناها تورِّمت من البكاء، وارتعشت شفتيها..حاولت النطقَ ولكن صوتها متهدِّج...كلَّ شيءٍ فيها كان يصرخ، لكنَّهُ صراخًا مكتومًا بالألم، لأنَّها تعلمُ أنَّهُ لن يغفرَ لها.
مازالت تنظرُ إليه بعينينِ غارقتينِ بالدموع، وهمست وكأنَّها تخشى أن تقتلَ ما تبقَّى فيهِ من روح:
-كان لازم أقول كلِّ حاجة، لأنِّي عارفة إنَّك مش هتسكت، وممكن تخسر كلِّ حاجة، أنا خايفة عليك، عجزت ياإلياس"..قالتها بصراخ متناسية أين وجودهما
لكنه لم يتحرَّك..لم يرفع رأسه..حتى أنفاسهِ بدت وكأنَّها توقَّفت.. كانت كلماتهِ عالقةً في صدره، كالحجرِ الثقيلِ يعجزُ عن دفعه.
حوَّلت وجهها إلى راكان، ونظراتها مليئةِ بالانكسارِ و الضعف..كان يحدِّقُ فيها بنظرةٍ تحملُ مزيجًا من الصدمةِ والشفقة..شهقاتها المرتفعةِ كانت كأنينِ الروحِ المعذَّبة. وقفت أمامهِ بثباتٍ لم تكن تملكهُ قبل قليل، وواصلت بصوتٍ مرتجفٍ ولم تستطع السيطرة على شهقاتها التي ترتفعُ في الغرفةِ ثمَّ قالت بصوتٍ أقربُ إلى العويل، لكنَّها مملوءةً بإصرار:
"حضرتك عرفت الحكاية كلَّها...وأنا لسة عند كلامي..الراجل دا لو كان أبويا يبقى مجرَّد كلام...ماليش علاقة بيه..أنا متنازلة عن كلِّ حاجة تربطني بيه، حتى لو اتعيَّن ملك على عرش العالم، أنا مش عايزة منُّه حاجة."
توقفت وتقدَّمت خطوةً للأمام، وصوتها ازدادَ ضعفًا لكنَّهُ كان يشبهُ سكينًا يُغرسُ في الصدور:
"جوزي عايز ينتقم بطريقته..عارفة إنِّ دا حقُّه، حقُّه ياخد بتار والدته وأخوه وأبوه، بس أنا خايفة عليه..هوَّ مش خايف على حياته، الراجل دا مش بني آدم، بلاويه كتيرة..بس هوَّ مصر إنُّه يخسر حياته!"
كانت كلماتها كأنينِ روحٍ ممزَّقة، تهيمُ على وجهها وسطَ العاصفة، تبحثُ عن مخرجٍ لكنَّها لا تجدُ إلَّا المزيدَ من الأشواك..نظرت إلى إلياس للمرَّةِ الأخيرة، كان كلَّ حرفٍ تنطقهُ كالسيف، يقسمُ قلبهِ إلى نصفين..بدا وكأنَّ العالمَ بأسرهِ يحبسُ أنفاسهِ مع كلِّ كلمة... ظلَّت نظراتها عليهِ وكأنَّها تقولُ وداعًا دون أن تنطقَ بها، بينما هو رغم جموده، كان يحترق..كلَّ شيءٍ فيه كان يصرخُ بصمت، يصرخُ بلا صوت، الألمُ قد استنزفَ كلَّ ذرةٍ من وجودهِ في بحرٍ من الوجع...
اقتربت منهُ بخطواتٍ مهزوزةٍ ووضعت كفَّيها على كتفه، ممَّا جعلهُ ينتفضُ من مكانهِ مبتعدًا عنها..أطبقت على جفنيها، فالآن علمت أنَّها خسرتهُ إلى الأبد، همست بخفوتٍ بعدما شعرت بانقطاعِ أحبالها الصوتية:
-عارفة إنَّك زعلان منِّي...عارفة إنِّي جرحتك، بس خلاص...بكرة الكلِّ هيعرف الحكاية، ولازم كلِّ واحد ياخد حقُّه...يابنِ عمِّي، حتى لو الحق دا هيكسرنا."
توجَّهَ راكان إلى الكاتب ثمَّ أشارَ إليهِ بالخروج وطلبَ من ميرال الجلوس مرَّةً أخرى:
-اتفضلي مدام ميرال، ثمَّ اتَّجهَ إلى إلياس وأردف:
-اعتبر مفيش كلمة من اللي اتقالت هتتسجِّل، والورق اللي انكتب اعتبره مش موجود، بس أفهم كلِّ حاجة، أنا بصراحة مش فاهم، يعني إنتَ ابنِ عمها، طيب إزاي إلياس مصطفى السيوفي، من حقِّي أعرف أنا بعمل إيه في القضية، راجح الشافعي وإلياس السيوفي..
عايز أعرف كلِّ حاجة.." قالها راكان بصوتٍ هادئٍ لكنَّهُ حازم، وعينيهِ تحاصرها..
بدأت ميرال تروي الحكاية، تتقطَّعُ أنفاسها بين الكلماتِ وهي تتخيَّلُ معاناةَ فريدة كلَّ لحظةٍ بكاملِ وجعها..تحدَّثت عن وفاةِ جمال وعن التهديدِ الذي أرسلهُ إليها راجح..كانت كلَّ كلمةٍ تسقطُ من شفتيها كجمرةٍ تحرقُ صدرَ إلياس قبل أن تصلَ إلى مسامعِ راكان..أمَّا هو فكان جالسًا بثباتٍ يشبهُ الصخر.
حين انتهت، قالَ بهدوء:
"ممكن تنتظري إلياس برَّة يا مدام ميرال."
نهضت ببطء، بساقينِ لا تقويانِ على حملها، ثمَّ اقتربت من إلياس الذي كان جالسًا كتمثالٍ لا يتحرَّك..كالحاضرِ الغائب، همست بصوتٍ مرتعشٍ بالكاد يُسمع:
"هستناك برَّة..."
التفتَ راكان بنظراتهِ إلى إلياس، وقال بسؤالٍ يشقُّ السكون:
"يعني..إنتَ مش ابنِ سيادةِ اللواء مصطفى السيوفي؟"
أغمضَ إلياس عينيهِ للحظة، يحاولُ كبحَ ذلك البركانِ الذي يكادُ ينفجرُ بداخله، رفعَ رأسهِ ببطءٍ وعيناهُ تلمعانِ بغضبٍ مكتوم، ثمَّ قال بصوتٍ هادئٍ يحملُ في طيَّاتهِ عاصفة:
"حياتي الشخصية...مالهاش أيِّ علاقة باللي حضرتك بتحقَّق فيه يا سيادةِ المستشار."
رفعَ قامتهِ بثقةٍ مستفزَّة، وكأنَّما يريدُ أن يضعَ حدًا لأيِّ محاولةٍ للاقترابِ من أسراره، وأردفَ بنبرةٍ حادَّة:
"الموضوع اللي المدام حكته ملوش علاقة بالقضية..أنا هنا عشان بلاغ محاولة خطفِ ابني، والمساومة على أسهمِ الشركة اللي اشتريتها..دا الملف اللي قدَّام حضرتك، والباقي..كلامها، هيَّ تشهد على اللي يخصَّها، أمَّا القرابة دي... ما تربطنيش بيه حاجة."
صمتَ راكان للحظة، ثمَّ سألهُ بابتسامةٍ غامضة:
"طيب...ليه لمَّا الظابط جاسر الألفي جه يحطّ الكلبشات في إيده، رفضت؟ وقلت: "عمِّي مايرضنيش؟"
اقتربَ إلياس ببطء، واستندَ بكفَّيهِ على مكتبِ راكان، محدِّقًا في عينيهِ بنظرةٍ تخترقُ السكون:
"علشان القصة اللي حضرتك سمعتها دلوقتي..وعدت نفسي محدش هيحطِّ الكلبشات في إيده غيري..لكن للأسف... لسة واخد احتياطاته..كلِّ اللي عملته إنِّي رميتله الطعم...ومستنِّي لحظة سقوطه، يا باشا."
ارتسم على وجهِ راكان ابتسامةً هادئةً لكنَّها تحملُ في طيَّاتها تحدِّيًا واضحًا، وقال بنبرةٍ ساخرة:
"أوه...طلع ظنِّي فيك صح ياإلياس..
عملت كدا علشان تخرَّجهم ويوصلوا لراجح، بس ليه ياترى؟..ماهو كدا كدا معاهم.
-حضرتك ذكي ياباشا وهتعرف لوحدك..
علشان كدا طلبتني بالاسمِ مش صدفة، صح؟"
ابتسمَ إلياس بسخريةٍ مشوبةٍ بالثقة:
"وإنتَ كمان يا راكان باشا، طلعت زي ما بيقولوا عليك...بس ماتنساش اللي قدامك فهد الأمنِ الوطني، مش معنى ساكت لراجح يبقى ضعيف، لا..علشان عايزه يعيش كلِّ لحظة رعب وهوَّ عارف ومتأكد هوصلُّه."
ضحكَ راكان بخفوت، ثمَّ قال:
"لسة الفهد صغيَّر، يا سيوفي..لكن نصيحة منِّي..خاف على مراتك وابنك، اللعب بالنار ليه تمن كبير."
وقفَ إلياس مكانهِ للحظة، ثمَّ رفعَ عينيهِ بثباتٍ مهيب وقال:
"بكرة هتلاقي مكالمة منهم، وهتسمع خبر عنهم..وقتها هتشوف بعينك مين اللي هيلِّم القضية."
تراجعَ راكان للخلف، وأشارَ بيدهِ نحو البابِ قائلاً بابتسامةٍ خافتة:
"خايف تندم "
ردَّ بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم:
-مش أصعب من إنَّك تلاقي حياتك اللي بنتها هوا ياباشا..
بمنزلِ آدم:
كانت تُنهي بعض أبحاثها العملية، استمعت إلى رنينِ هاتفها:
-أيوة يارؤى عاملة إيه..استمعت إلى بكائها على الجانبِ الآخر:
-إيلين أنا محتاجاكي أوي، ينفع تيجي عندي؟..نظرت بساعةِ يدها ثمَّ أجابتها بدخولِ آدم:
-حبيبتي مش هينفع دلوقتي، ممكن بكرة بعد الجامعة..انحنى وطبعَ قبلةً على وجنتها يهمسُ لها:
-خلَّصي تليفونك أنا برَّة..ابتسمت لهُ تهزُّ رأسها ثمَّ تابعت حديثها مع رؤى:
-رؤى فيه إيه مالك؟..إنتِ بتعيَّطي ليه؟..
-عملت مصيبة ياإيلين، وإلياس لو عرف هيموِّتني..نهضت من مكانها وأغلقت البابَ حتى لا يسمعَ آدم حديثهم:
-عملتي إيه يارؤى؟..ارتفعت شهقاتها
وقصَّت لها ماصار، ثمَّ تابعت:
-مش بس كدا، بعد ماكنت عندها روحت مكتبه علشان أكمِّل مخطَّط الشيطانة دي بس مالقتوش، كلَّمتها أقولَّها..قالتلي فيه واحد هيجيلك واشغلي العسكري اللي على الباب هندخل نجيب فيديو خاص بيَّا، الكلام دا من أسبوعين، بعدها عرفت إنِّ ميرال ولدت وإلياس منعني من الخروج وحاطط حارس على باب بيتي، تفتكري ميرال قالت له؟..ولَّا الستِّ دي أخدت حاجة تانية غير الفيديو؟..كلِّ ماأتَّصل بيه مابيردش، اكتشفت أنُّه رفع رقمي من عنده.
انتفضت إيلين كالملسوعة، وبدأت تسبَّها:
-يامتخلِّفة، أعمل فيكي إيه دلوقتي، إنتي تعرفي إنِّك كدا ممكن تكوني ضرِّتيه، أووف منِّك يارؤى أوف، واللهِ تستاهلي اللي يعملُه فيكي..قاطعهما صوتُ آدم:
-إيلين الأكل برد، قافلة الباب ليه؟..
التفتت له وحاولت رسمَ ابتسامةٍ تهزُّ رأسها:
-حاضر حبيبي، دقيقة وجاية.
استمعت رؤى إلى حديثهما، فاعتذرت لها:
-آسفة ياإيلين مكنتش أعرف جوزك عندك، مبروووك رجعوكم حبيبتي، روحي شوفيه.
-هجيلك بكرة تمام..
أجابتها على الجانبِ الآخرِ بالموافقة.
عندَ يزن قبل عدة أيام :
ربتت على كتفهِ بعد ذهابِ جاسر:
-يزن مين اللي كلِّمك وقالك إيه؟..خلاك تعمل كدا..طالعها بنظراتٍ جامدةٍ ثمَّ همسَ بتقطُّع:
-بيخيَّروني بينك وبين إيمان..
ضيَّقت عينيها مستفهمةً عمَّا نطق:
-يعني إيه مش فاهمة؟..اتَّجهَ إلى دراجتهِ البخاريةِ دون حديث..وصلَ بعد قليلٍ إلى المشفى، وجدَ أخاهُ فاقَ من نومهِ.. اقتربَ ورسمَ ابتسامة:
-حبيبي عامل إيه؟..نهضَ كريم متَّجهًا إليه:
-عملت إيه؟..انحنى يقبِّلُ جبينَ أخيه:
-حمدَالله على السلامة ياحبيبي..
-إيمان ياأبيه، أخدوا إيمان..جلسَ على طرفِ الفراشِ وتساءل:
-معاذ إنتَ شوفت الناس دي في الحارة عندنا؟..هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ صمتَ للحظةٍ متذكِّرًا شيئًا:
-بس أعرف عمُّو اللي كان راكب العربية، الراجل دا بيجي عند عمُّو مرسي بيشتري فول وطعمية..لمعت أعينُ يزن بالأمل، ومسحَ كريم على وجههِ ودقَّاتُ قلبهُ تتسارعُ بقوَّة، منتظرًا حديثَ معاذ بلهفة..ظلَّ يتحدَّثُ إليهم بصوتٍ متعبٍ حتى علمَ مايشيرُ إليه فنهضَ متَّجهًا إلى المكانِ الذي أخبرهُ به معاذ، مع مهاتفتهِ لجاسر.
مرَّت عدَّةُ ساعاتٍ حتى ظهرَ الرجلُ بسيارتهِ ينادي على صاحبِ عربةِ الفول، ثمَّ أخرجَ شيئًا يغمزُ إليه، دقيقة واحدة وكان جاسر محيطًا بالسيارة..
ظلَّ عدَّةِ ساعاتٍ بتحقيقاتٍ مع ذلك الرجل ولكن دون فائدة، ظلَّ يدورُ كالأسدِ الحبيسِ حتى فقدَ الأمل، تحرَّكَ بعدما أُغلقَ الأمل أمامه إلى فريدة، وصلَ إلى فيلَّا السيوفي وطلبَ مقابلةَ فريدة، قصَّ لها ماصار..
-طلَّقها يابني، وإنقذ أختك، لو الموضوع دا وراه راجح مش هتعرف توصلَّها، وإنتَ كنت متجوِّزها علشان تنتقم..همَّا سبقوك بخطوة، دا عمل كدا وهوَّ محبوس، يعني أقلِّ حاجة هيقولها اثبت.. أنا تحت إيد الحكومة، ودا كان ظابط وعارف بيعمل إيه، قاطعهم دخولُ إلياس بوجهٍ كالصخر، وزَّعَ نظراتهِ بينهما فاقتربَ منهم:
-أهلًا ياباشمندس، أكيد دلوقتي عرفت ليه كنت عندك..هزَّت فريدة رأسها تنفي معرفته، ضيَّقَ عيناهُ متسائلًا وأشارَ باستخفاف:
-لا يامدام فريدة أوعي تقوليلي إنِّ المهندس ميعرفشِ إنِّي ابنِ عمُّه، ولَّا الأستاذة العظيمة مراتي بتكون أخته..
صدمة سحبت أنفاسهِ وهو يتمتمُ كالمجنون:
-مين ابنِ عمِّ مين؟!وأختِ مين؟!!أنا مش فاهم حاجة، يعني إيه؟..
صعدَ دون حديثٍ فوضعهِ لايتحمَّلُ أيَّ حوار، نادتهُ فريدة:
-حبيبي إيه اللي حصل؟..ميرال عملت إيه ؟!..تحرَّكَ وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثها..
كانت عيناها تتابعانِ ابنها الذي يصعدُ الدرجَ بجسدٍ أثقلته الهموم..
التفتت على صوتِ يزن فجأة، نظرت إليه، لكنَّ عقلها كان غارقًا في ابنها وحالته..ماذا حدث؟ هل وافقت ميرال على ما قرَّرته؟ أم اقتنعت بحديثِ أرسلان؟
أعادها صوتُ يزن إلى الواقعِ بصوتٍ جافٍّ ممتزجٍ بنفاذِ صبر:
أنا جيت لحضرتك علشان أعرف أوصل لراجح، مش علشان تلخبطي دماغي.
شعرت بأنفاسها تتسارع، وعجزت عن الرد...لم تكن تعرف بماذا ترد، هل تخبرهُ أن يطلِّقَ زوجته؟ أم تتركهُ ليحاربَ وحده؟ ابتلعت غصَّتها واقتربت منه، تمسكُ كفَّيهِ كأنَّها تتوسلُ إليه:
تعال، هقولَّك حاجة وبعدها قرَّر بنفسك، حضرة اللواء في الطريق، وهوَّ هيقولَّك تعمل إيه.
بعد دقائق، استمعَ يزن إلى حديثها بوجهٍ خالٍ من التعابير...حاولت أن تسيطرَ على ارتباكها وهي تستطرد:
-يعني رؤى وميرال اخواتك
انا عارف برؤى، بس مرات إلياس دي اول مرة اعرف، وازاي رؤى وصلت لحضرتك، أنا كل اللي اعرفه، أنه كان متجوز واحدة ممرضة جاب منها ولد وبنت، بس معرفش اسمائهم، ازاي عرفتيها... استطردت بصوتٍ يفيضُ بالألم:
رؤى جات لي وهي عندها خمس سنين... واحدة سابت البنت قدَّام باب الملجأ وهربت، ما شفتش اللي سابتها، لكن البنت كان معاها سلسلة فضة مكتوب عليها اسم "رؤى".
تنهَّدت وهي تسترجعُ الذكرياتَ المؤلمة:
مرَّ بعد جيتها للملجأ حوالي أكتر من عشر سنين، بعدها جالي ظرف للدار..كان الظرف من سمية، مرات أبوك..فيه أوراق رؤى وصورها، هيَّ كانت شافتني صدفة في نادي كانت شغالة فيه ممرضة...قبل ماتجيب البنت الدار، فلمَّا تعبت وعرفت إنَّها عندها سرطان، سألت عن عنواني، وسابت البنت قدام الملجأ...وبعد سنين جالي الظرف اللي يخصِّ كلِّ حاجة لرؤى، رحت المستشفى اللي كانت محجوزة فيها زي ماهيِّ كانت كاتبة في الجواب، بس عرفت من سجلِّ المستشفى إنَّها ماتت في مستشفى حكومي بعد معاناة مع المرض.
نظرَ يزن إليها بعينينِ غائمتين:
-والولد؟ أخوها فين؟
ارتعشت يدها وهي تكملُ بصوتٍ مكسور:
- طارق...راجح خطفه منها..كانت خايفة على البنت يفسدها زي ما هو عمل مع طارق، علشان كدا جابت لي البنت، بس هيَّ بعتتها مع جارتها اللي كانت بتهتمِّ بالبنتِ بمرضها..
-طارق المحبوس في السجن؟
رفعت نظرها إليه بدهشة:
"شكلك عارف كلِّ حاجة."
قبل أن تكمل، قطعَ الحديثُ دخولِ مصطفى، استدارَ يزن نحوه بوجهٍ متألِّمٍ.. أشارت فريدة لمصطفى قائلة:
- دا يزن، أخو ميرال أقعد، اسمعه..وأنا هعمل لك قهوة.
بعد ساعات، وصلَ يزن إلى منزله..كانت رحيل تنتظره، عيناها مليئتانِ بالتوترِ والقلق. اقتربت منه متلهِّفة:
"كنت فين؟ عملت إيه؟"
أشارَ إلى حقيبتها، وردَّ بنبرةٍ ثقيلةٍ خاليةٍ من المشاعر:
-تعالي أوصَّلك..مالوش داعي وجودِك هنا..
وضعت يدها على ذراعهِ محاولةً استيعابَ كلماته، ثمَّ قالت بصوتٍ متقطِّع:
"همَّ عايزين إيه يا يزن؟"
ابتلعَ غصَّتهِ بصعوبة، وحاولَ السيطرةَ على نفسه، لكنَّهُ لم يستطع منعَ نبرةِ الألمِ بصوته:
"بيخيَّروني بينِك وبين أختي."
شعرت بقبضةٍ تعتصرُ صدرها، ثمَّ شهقت شهقةً عاليةً قبل أن تتساقطَ دموعها كالشلال...حاولَ السيطرةَ على نفسهِ حتى لا يضمَّها إلى صدرهِ يدفنُ كلَّ مايشعرُ به في أحضانها، ولكنَّها لم تنتظر تردِّده، فرفعت عينيها المليئتينِ بالألمِ نحوه، ثمَّ ألقت بنفسها في أحضانه، تبكي بشهقاتٍ مرتفعة:
"اسمع كلامهم يا يزن، همَّ عرفوا يلعبوا عليك صح، أنا عارفة مين بيعمل كده."
كانت كلماتها كالخناجرِ تخترقُ قلبه، تسارعت دقَّاتهِ بعنفٍ وشوقٍ جارف، ضمَّها إليهِ لأوَّلِ مرَّة، عانقها بشدَّةٍ كأنَّما يحاولُ أن يحميها من عالمٍ ظالمٍ.. كانت أضلاعهما تنصهرُ في حضنٍ واحد، وكأنَّما يتشاركانِ ألمًا واحدًا، وعزاءً واحدًا..دفنَ وجههِ في شعرها وهو يبحثُ عن الأمانِ الذي افتقدهُ منذ افتقادِ أخته..
تراجعَ قليلاً، واحتضنَ وجهها بين كفَّيهِ وهمسَ بنبرةٍ تقطرُ ألمًا:
"هلاقيها...الظابط بيدوَّر، وفيه حد مهم عمل اتصالاته."
لكن هزَّت رأسها بالنفي، مع دموعها التي انهمرت على وجنتيها، و همست بصوتٍ متهدِّج:
"مش هيعملوا حاجة يا يزن...دول أخدوها من بيتك، همَّ عايزين أملاك بابا، تخطيط شيطاني."
قبَّلَ جبينها بهدوءٍ مؤلم، ثمَّ وضعَ جبينهِ فوق جبينها، وأردفَ بنبرةٍ جعلها متَّزنةً رغم الأعاصيرِ التي تعصفُ بداخله:
"مش هتخلَّى عنِّك، حتى لو أخدوا روحي..
لمعت عيناها بسعادةٍ باهتةٍ وسط سيلِ دموعها..لم تتمالك نفسها، حاوطت عنقه بشغف، وقبَّلت وجنتهِ بارتعاشٍ وهي تهمس:
"طلقني يا يزن...أنقذ أختك قبلِ فوات الأوان."
تراجعَ قليلاً، محدِّقًا في عينيها بذهول، وكأنَّ كلماتها صاعقةً مزَّقت قلبه..للحظة، كان الزمنُ متوقِّفًا بعجزه، دقائقَ مرَّت عليهما ونظراتهما تحكي ماتخفي قلوبهما، إلى أن قطعَ صمتهم المتألِّم، وانحنى يهمسُ إليها ببعضِ الكلماتِ التي جعلت سيقانها تتلاشى، ليحاوطَ خصرها دون تفكيرٍ ويحتضنُ ثغرها لأوَّلِ مرَّةٍ كأنَّ هذه القبلةُ نجاتهِ من الغرقِ عمَّا سيفعله، لحظاتٍ بل مرَّ وقتٌ ولم يشعرا بنفسهما، تركها رغمًا عنه، واحتضنَ كفَّيها متَّجهًا إلى الخارج
بعدَ دقائق، كان يقفُ أمام فيلا عائلتها، ترجَّلَ عن دراجتهِ البخارية، وخطا بجوارها بخطواتٍ ثقيلةٍ حتى دخلا حيث تنتظرهما والدتها ورانيا..
وقفت أمامه، تحاولُ السيطرةَ على دموعها، لكنَّ صوتَ بكائها خانها، فانهمرت كالأمطار..رفع عينيهِ نحوها، ملامحهِ جامدةً كالصخر، لكنَّ صوتهِ انكسرَ رغم صلابته:
"وصَّلتك بيتك زي ما أخدتك منُّه أوَّل مرَّة...إنتِ طالق يا راحيل."
ثمَّ أضافَ بنبرةٍ ثقيلةٍ متقطِّعة:
"ورقتك هتوصلِّك في أقرب وقت."
استدارَ بسرعةٍ قبل أن يرى نظراتها التي مزَّقت قلبه، محاولًا أن يكبحَ دموعهِ التي غدرت به، ومع كلِّ خطوةٍ يبتعدها، كان يقسمُ في داخلهِ أن يحرقَ كلَّ من تجرَّأ على إسقاطِ دموعها، أن يحوِّلَ ظلمهم إلى رماد، مهما كان الثمن..
باليومِ التالي، سيارةٌ توقَّفت أمام المنزلِ وألقت إيمان جسدًا شاحبًا وكأنَّ روحهِ سُلبت منه.
مرَّت عدَّةَ أيامٍ وعادَ أرسلان من الخارج،
بمنزلهِ كانت تغطُّ بنومٍ عميقٍ وكأنَّها غائبةً عن الوعي، تسلَّلَ إلى الغرفةِ مستغربًا ظلامَ المنزل، بحثَ عنها بلهفةٍ ودقَّاتٍ عنيفة، وجدها غارقةً بنومها، خطا إليها بهدوء، حتى لا يفزعَ نومها، جلسَ على حافَّةِ الفراش،
ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً فوق وجنتيها..
رفرفت أهدابها بعدما تسرَّبت رائحتهِ إليها:
-أرسلان..داعبَ وجنتيها:
-نايمة ياكسولة، وأنا اللي كنت جاي وشيطاني بيرسم..أستغفرُ الله العظيم،
اعتدلت بنومها ومازالت تشعرُ بثقلِ رأسها فتمتمت:
-وحشتني أوي على فكرة، بقالك ساعة بترغي، حتى ماقولتش يابتِّ خدي بوسة...توسَّعت عيناهُ بذهولٍ يطالعها بصدمة، ثمَّ تجوَّلَ بعينيهِ بالمكانِ يردف:
-مراتي كانت هنا، إنتي مين يابنتي؟..لكمتهُ بصدرهِ وهي تقهقهُ على حركاته..
فجذبها لأحضانهِ بضحكاتهِ قائلًا:
-غرام انحرفت يابشر، بتقولِّي هات بوسة..لكزتهُ تدفنُ وجهها بحضنه:
-بس بقى واللهِ هزعل منَّك، معرفشِ مالي أصلًا بقيت أخبَّط كتير..قهقهَ وهو يدفعها على الفراش، ثمَّ انحنى يحاوطها بذراعيه:
-خبَّطي ياروحي، أهمِّ حاجة في التخبيط، التخطيط كيف تعشقينَ زوجكِ في خطوةٍ واحدة.
انكمشت ملامحها باستفهام، لم يدعها لحظةً للتفكيرِ ليخطفها إلى عالمهِ الذي لا يقتربَ منهُ سواها وحدها..
بعدَ عدَّةِ ساعاتٍ اتَّجهَ إلى قصرِ الجارحي، بعد اتصالِ صفية به وطلبت منهُ الحضور، ولجَ للداخلِ ليجدَ فاروق بانتظاره، اقتربَ منه وانحنى يطبعُ قبلةً فوق كفَّيهِ بحنان:
-حبيبي وحشتني، رفعَ كفَّيهِ يربتُ على كتفه:
-وإنتَ كمان ياحبيبي، رفعَ عينيهِ إلى والدهِ بفرحة، أبيهِ عاد يتحدَّثُ مرَّةً أخرى، جثا على ركبتيهِ أمامهِ وعيناهُ تشعُّ بالسعادةِ والحبور:
-بابا حبيبي، حضرتك رجعت تتكلِّم تاني؟.. نهضَ فاروق من مكانهِ يتحرَّك، رغم خطواتهِ الثقيلةِ إلَّا أنَّهُ حرَّكَ قدمه، نظراتٌ فقط، نظراتٌ تعني الكثير والكثير من عشقِ هذا الرجلِ لابنه، وعشقِ الولدِ لأبيه، من قال أنَّ الأبوَّةَ بارتباطِ الاسم، الأبوةُ إحساسًا وحنانًا ومسؤولية..ضمَّةٌ شاهقةٌ من فاروق إليه، يضمُّهُ بقوَّةٍ لأحضانهِ وهو يردِّد:
-كنت عارف إنَّك ابنِ حلال ياحبيبي، ربِّنا يخليك ليا يارب، خرجَ من حضنِ والدهِ يزيلُ دموعهِ بحنانٍ قائلًا:
-أنا فداك يابابا، أينعم أنا مش ابنك من دمَّك، بس عمرك ماحسِّستني بكدا، دايمًا كنت ليَّا درع الأمان، أيوة منكرشِِ ليا أب تاني، بس أنا معرفوش ومأخدتش منُّه غير ذكراه وبس، وأكيد مش هيزعل منِّي، لأنَّك أب وتستاهل كلِّ حاجة حلوة، أنا فعلًا ربنا بيحبِّني.
احتضنَ فاروق وجههِ وطبعَ قبلةً فوق جبينه:
"ربنا يباركلي فيك ياحبيبي"
قاطعهم رنينَ هاتفه..تراجعَ يزيلُ دموعه:
-ينفع كدا خلِّتني أعيَّط، وأنا مش بعملها كتير..ربتَ على كتفهِ ثمَّ أشارَ إلى هاتفه:
-شوف مين..تراجعَ بعيدًا:
-أيوة ياميرال.
-إنتَ رجعت إمتى؟ تحرَّكَ للخارجِ بعدما استمعَ إلى نبرتها الحزينةِ وأجابها:
-أنا جايلِك، عشر دقايق وأكون عندك، قالها واتَّجهَ إلى سيارته، رافعًا هاتفه:
-غرام أنا رايح لميرال، لازم أشوفها ضروري..
عند رانيا
جلست أمام المرآة تنظر إلى نفسها بسعادة تتذكر الماضي، ومافعلته بفريدة، جذبت هاتفها وتحدثت
-أيوة ياباشا، عملت ايه لراجح..أجابها قائلًا:
-الموضوع المرة دي تقيل يارانيا، بس لو عايزة نخرجه نخرجه، بس التمن صعب
توقفت تتلاعب بخصلاتها، ثم جلست على الفراش وهمست بنبرة ناعمة:
-متنساش أنه جوزي ياباشا، ولازم اقف جنبه، وبعدين هيخلص من اللي واقف في زوركم
نفث تبغه وتوقف ينظر إلى المساحة الشاسعة قائلًا:
-رانيا راجح كارت محروق مبقاش ينفعنا، احنا مش قتلناه علشان خاطرك، خلصي بس موضوع بنت العامري، لازم نسيطر على الشركة بأي طريقة
-والتمن ياباشا
-عايزة ايه يارانيا ..مطت شفتيها بتفكير مصطنع ثم تمددت على ظهرها:
-عايزة فريدة الاسيوطي تكون تحت رجلي ياباشا، شوفو هتعملوها ازاي، وكمان بنتي وابنها يكونو عندي بكرة بالكتير، وهي متنازلة عن جوزها، وجوزها لازم يدخل السجن، قدامكم ورق يلف المشنقة حول رقبته مش السجن بس
-دي طلبات ولا أوامر يارانيا
صمتت لحظات ثم اردفت بنبرة أنثوية ناعمة:
-دا العشم في اخلاصي لحضرتك ياباشا، وانت عارف رانيا دايمًا في الخدمة... ارتفعت ضحكاته قائلًا
-منتظرك بالليل يارانيا، عايز مساج من بتوع ليال الانس
-عيوني ياباشا
بمكانًا اخر، ألقى السماعة، يبصق عليها بعدما استمع الى الحديث، ثم اتجه إلى شريف
-وصلت لأيه
-كل حاجة ممسوحة ياإلياس، دا لعب متقن ..زفر حادة أحرقت جوفه، وذهب ببصره للبعيد وهو يهمس
-لا فيه طريقة علشان اوصل للخاين، بس المهم اسمعني ونفذ اللي هقوله بالحرف الواحد..قص له ما يريده
فتطلع إليه باعتراض
-بس كدا ممكن حياتك تتعرض للخطر..هز رأسه قائلًا:
-سبها لله، الموضوع دا محدش يعرفه، حتى بابا يا شريف، اتعلم تلم لسانك مش تفتي عليا علشان هقصه قريب
-هو خايف عليك ياإلياس، حمحم قائلًا:
-فيه حاجة كمان..نظر إليه منتظر حديثه، فنطق قائلًا:
-راكان البنداري ..ضيق عيناه منتظر باقي حديثه
-بعت حد بيت مدام ميرال، بس الصراحة معرفش المدام تعرف ولا لأ
اومأ له ينقر بأصابعه على باب السيارة قائلًا:
-كنت مستغرب سكوته، أصله ديب كبير ومش هيعدي الموضوع بالساهل
-أيوة ياالياس بس متنكرش أنه ماعملش حاجة بكلام مدام ميرال
تنهد بمرارة واردف بنبرة باردة:
-كفاية اللي عرفه، المهم انزل كمل شغلك، وخلي بالك، وزي ماقولت لك اللي يسألك عن حاجة احنا متخانقين، عايز الجهاز كله يعرف أننا متخانقين وأنا بشك فيك
-اعتبره حصل يابص
بعد دقائق استمع الى رنين هاتفه، لمح اسمها ينظر شاشة هاتفه، ولكنه لم يعريه، رفع الهاتف واتصل بمربية ابنه
-ايه الاخبار الولد كويس
-زي الفل ياباشا، بس المدام مابتخليش حد يهتم بيه غيرها
-تمام عينك عليه
بمنزل ميرال ..
بعدَ فترةٍ كان أرسلان جالسًا بمقابلتها، يستمعُ إلى ماصارَ في تلك الفترة، دفعَ المقعدَ بقدمهِ بغضبٍ وثارَ هاتفًا:
-إحنا متفقناش ماتجبيش سيرة المكتب دي، دا إهمال ياغبية وفيها سين وجيم، وطبعًا إلياس اتجنِّن؟..
هزَّت رأسها بالنفي وتمتمت بنبرةٍ منكسرة:
-لا..من يومها مابكلمنيش، حتى يوم ماخرَّجنا يوسف من المستشفى ماما فريدة اللي كانت معايا.
مسحَ على وجهه بعنفٍ وحاولَ التفكير، تذكَّرَ عدم عودةِ إسحاق قبلَ أسبوع..رفعَ نظرهِ إليها متسائلًا:
-وراجح فين دلوقتي؟..
-محبوس، بس عرفت من مصادري سهل أنُّه يخرج لو التحليل كان في صالحه..
أومأ لها وهو يضغطُ على أعصابه، تذكَّرَ شيئًا وتساءل:
-ورانيا محاولتشِ بعد كدا تكلِّمك تاني؟..
هزَّت رأسها قائلة:
-من وقتها ماعرفشِ عنها حاجة..نهضَ من مكانهِ وعيناهُ عليها:
-غبية يابنتِ عمِّي، واحمدي ربنا إنِّ إلياس معملشِ فيكي حاجة لحدِّ دلوقتي، دا ظابط أمنِ دولة، يعني كلِّ خطوة بحساب، وحضرتك روحتي فضحتيه، قولت لك وأكِّدت عليكي تقولي اللي اتَّفقنا عليه..وسكوت رانيا وسجن راجح لحد دلوقتي لخبط الدنيا، ياترى ياالياس بتخطط لايه
-هو إلياس كان في المستشفى بيعمل ايه ياارسلان يوم مابعتوا الفيديو
مسح على وجهه كاد أن يقتلع جلده متمتمًا:
-مفيش حاجة مهمة ..المهم انت غلطي غلط كبير اوي
توقَّفت بمقابلته:
-أستنَّى لمَّا يقتلوه، أخوك مُصر أنُّه يموِّت راجح.
وصلَ إليها بخطوةٍ يقبضُ على ذراعها بقوَّة:
-أنا ماموتوش علشان الموت أرحم له، استني واتفرجي هعمل فيه إيه، أخلَّص بس من اللي في إيدي..
-يبقى جهِّز كفنك يابنِ عمِّي..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على المقعد، وانحنى يحدقها بنظراتٍ نارية:
-مفيش حد بيموت قبلِ عمره ياأستاذة ميرال، أقدارنا محسوبة، والأسباب متعدِّدة، المهم أيِّ حاجة لو صغيرة عرَّفيني..قالها واستدارَ متحرِّكًا للخارجِ تأكلُ خطواتهِ الأرض، كما تأكلُ النيرانُ سنابلَ القمح..
باليوم التالي :
ذهبت رؤى إلى فيلا السيوفي بعد محاولاتٍ عديدةٍ من فريدة لإقناعِ إلياس بخروجها من منزلها إلى الفيلا، ولكنه رفض باستماتة، فاتجهت إلى مصطفى الذي أمر حارسها بخروجها
ترجَّلت من سيارةِ الأجرة بدخولِ سيارتهِ إلى الحديقة، توقَّفت وانتظرت وصوله، ترجَّلَ متَّجهًا إلى وقوفها يشيرُ إليها:
-واقفة كدا ليه، وازاي خرجتي من غير أذني، فركت كفَّيها تبتعدُ بنظراتها عنه:
-جاية علشان أتكلِّم معاك، مش عارفة أوصلَّك..لوى شفتيهِ بابتسامةٍ ساخرة:
-ولَّا جاية تخطبيني من أمِّي، يابنتي لو وقفتي قدامي من غير هدوم مش هتهزي فيا شعرة، ماتفكريش ممكن افكر فيكي، حتى لو طلقت ميرال، مستحيل ارتبط بواحدة زيك؟..ارتجفَ جسدها من قسوةِ كلماته
-ليه..؟!، اقتربَ منها وقبض على ذراعها بقوَّةٍ حتى شعرت بانكسارها وهمسَ بفحيح:
-متخلنيش أكرهك في اليوم اللي احترمتك فيه، كنت بتعامل معاكي على إنِّك بريئة مش واحدة قذرة..
-إلياس اسمعني..دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضيةِ الصلبة، لتتأوَّهَ بخفوت، انحنى بجسدهِ منها واستطردَ حديثهِ وهو يجزُّ على أسنانه:
-لو قرَّبتي من مراتي هحرقك يارؤى، مجربتيش ناري، إيَّاكي ثمَّ إيَّاكي تقرَّبي منها..
-مش أنتوا هتطلَّقوا؟..
-اخرسي..صرخَ بها ممَّا جعلَ فريدة تخرجُ على صوته، ركضت إلى وقوعِ رؤى تنظرُ إليها بأسى وأردفت توبِّخه:
-إنتَ خلاص مبقاش حدِّ قادر عليك، قومي ياحبيبتي تعالي معايا..
-استني عندك...صاحَ بها بنبرةٍ غاضبةٍ واقتربَ وعيناهُ ترمقها بنيرانٍ جحيمية:
-إنتِ مش جيتي علشان تشوفيني، وقولتي الكلمتين، يالَّه ارجعي على بيتك وإيَّاكي أعرف إنِّك خرجتي منُّه، ولا كلِّمتي حد..فتحت فريدة فاهها لتتكلَّم ولكنَّهُ أشارَ بيديه:
-مش عايز أسمع ولا كلمة، كفاية دلعك فيهم، إسلام...صاح بها ليقتربَ إسلام المتوقِّفَ على بعدِ خطواتٍ يشاهدُ المشهدَ بأسى، هو يعلمُ قسوةِ
أخيه، ولكن لايعلم ماالذي فعلتهُ لتجني هذه القسوة..دقيقةٌ واحدةٌ وكانت بسيارةِ إسلام وعيناها تذرفُ دموعَ الكسرةِ بشهقات..اقتربت منهُ فريدة تهزُّ رأسها بالأسى:
-ودي ذنبها إيه يابني علشان تعاملها كدا؟..استدارَ إلى سيارتهِ وهو يتمتم:
-ذنبها إنَّها حاملة دمِّ أبوها الفاسد، واللهِ لأنضَّفه من شوية أغبية، ركضت خلفهِ تتشبَّثُ بذراعه:
-إلياس إنتَ وعدتني مش هتعمل حاجة في ميرال مش كدا ياحبيبي؟..
طالعها باستخفافٍ ثمَّ استقلَّ السيارةَ وتحرَّكَ متَّجهًا إليها، عشرونَ يومًا لم يراها بهما، منذ آخرَ مقابلةٍ لهم بمكتبِ راكان..وصلَ بعد فترةٍ وترجَّلَ من سيارتهِ متحرِّكًا للداخل..
بالأعلى كانت تجلسُ أمام مهدِ طفلها، تغنِّي له بلحنٍ خافتٍ يفيضُ دفئًا، وكأنَّ صوتها يحكي قصةَ حبَّها...و عيناها تنحتُ ملامحهِ البريئة، التي تشبهُ والده، تذكَّرت حديثَ فريدة عن إلياس وهو بعمره، ابتسمت وهي تحرِّكُ المهدَ بخفَّة، حتى يغفو بسلامٍ..
قطعَ وصلةَ شغفها بطفلها رائحةِ زوجها، دارت نحوهِ سريعًا بعدما استنشقت رائحته، وعيناها تبحثانِ عنه بنبضِ قلبها، نهضت من مكانها ومازالت تحتضنهُ بعينيها، هنا ضعفت بعدما تعلَّقت الأعينُ ببعضها ورغبةً سيطرت بكلِّ جوارحها أن تلقي نفسها بين ذراعيه، أن تختبئَ في حضنه، تخبرهُ عن كمِّ اشتياقها..لكن جسدها خانَ إحساسها و ظلَّت بمكانها، بعدما لمحت جدارَ الجفاءِ الذي بدا واضحًا في كلِّ حركةٍ منه..
تقدَّمَ ببطء، خطواتهِ ثقيلة، يشعرُ بعدمِ قدرتهِ على الحركةِ نحوها..فقلبهِ وعقلهِ يصفعهُ بقوَّةٍ بعدما دعست على كرامته، خطا وعيناهُ تحتضنُ نومَ طفلهما..
ابتسمت بارتباك، محاولةً أن تخفِّفَ من وطأةِ الصمت القاتل:
-لسة فاكر تيجي؟..خطا إلى المهدِ و تجاهلَ حديثها حتى شعرت بطعنةٍ في كبريائها..ولم يرحم حزنها ليمرَّ بجوارها وكأنَّها غير موجودة، واتَّجهَ نحو الطفل..انحنى ببطء، وطبعَ قبلةً طويلةً على جبينهِ الصغير، ومرَّرَ إبهامهِ على وجهه..همسَ له بحنانٍ أبويٍ وكأنَّ قناعَ الجمودِ سقطَ لينطقَ بنبرةٍ حانية:
-حبيب بابي، ريحتك وحشتني، آسف انشغلت عنَّك، بس أوعدك مش هبعد تاني..
تجمَّدت مكانها، وعيناها تفيضُ من الألمِ والحزنِ معًا،. أرادت أن تصرخَ وتلقي نفسها بأحضانه، فلقد ماتت قهرًا ببضعةِ أيامٍ كيف ستعيشُ بعيدةً عنه، عيناها لم تفارق جسدهِ الذي ظهرَ نزولهِ لبعضِ الوزن، أطبقت على جفنيها بقوَّةٍ آلمتها ليكسرَ الصمتَ طرقاتٍ على الباب، تلاها دخولُ المربية التي انحنت باحترام:
"أفندم يا باشا؟"
رفعَ يدهِ وأشارَ إلى الطفلِ دون أن ينظرَ إليها:
"جهِّزي يوسف هنمشي"
كانت كلماتهِ كصفعةٍ قويَّةٍ على وجهها، فتحت عينيها في ذهولٍ وكأنَّها لم تستوعب ما قال..رأتهُ يتحرَّكُ نحو الباب دون أن يلتفت، وكأنَّ كلَّ ما بينهما لم يكن يومًا موجودًا.
هرعت خلفه، خطواتها متعثِّرة، وكلماتها تخرجُ متقطِّعةً من بين شفتيها المرتعشتين:
"ليه؟ رايح فين بالولد؟!"
توقَّفَ عند الشرفة، لكنَّهُ لم يلتفت إليها...ظلَّ يواليها ظهره، اقتربت أكثر، وضعت كفَّيها المرتعشتينِ على كتفيه، محاولةً أن تستجمعَ شجاعتها وسطَ هذا الانهيار:
"إلياس... "
لكنَّها فوجئت بردِّ فعلٍ كالصاعقة، إذ انتفضَ مبتعدًا عنها كأنَّها أحرقت جلده. نظرَ إليها بعينينِ حادتين، وقال بصوتٍ كالسيف:
" ما تقربيش منِّي من غير إذني!"
ثمَّ أشارَ بيدهِ نحو المهدِ بحركةٍ حاسمة، وكأنَّها إعلانُ حرب:
"هاخدوه بيت أبوه..ابني هيطلع راجل، مش هسمح إنُّه يعيش تحت تربيِّتك الضعيفة."
كانت كلماتهِ أشبهُ بسكاكينَ تنهالُ على قلبها بلا رحمة..ارتعشت شفتيها، وانحدرت دموعها كالسيل..لم تحاول كبحها هذه المرَّة، فقد كانت كلماتها أثقلُ من أن تُحتمل:
"يعني إيه؟! إزاي تقدر تعمل كده؟!"
نظرَ إليها نظرةً طويلة، مليئةً بالبرودِ والمرارة، ثم نفث دخانَ سيجارتهِ بهدوءٍ قاتلٍ وقال بابتسامةٍ مُرَّة:
"يعني يوسف مش هيعيش معاكي..إنتِ مش مؤهلة، وأنا أقدر أخده بسهولة جدًا، وإنتِ عارفة ده."
تراجعت خطوةً للخلف، وكأنَّ الأرضَ اهتزَّت تحت قدميها..شعرت بأنَّها تغرقُ في ٍبحر من العجز، والألمُ يخنقُ أنفاسها. همست بصوتٍ مرتجف:
"إلياس...هوَّ محتاجني..أوعى تعمل فيَّا كدا."
لكن ردِّهِ كان أشدُّ قسوةً ممَّا توقَّعت، حيثُ قال بجمودٍ كالصخر:
"حنانك؟ يوسف مش هيحتاجه..ابني عايزه راجل، مش يجري على الغُرب يحميه علشان أبوه ضعيف."
ظلَّت واقفةً مكانها ، مكسورة، منهارة، تراقبُ تحرُّكهِ وهو يبتعدُ دون أن يلقي نظرةً واحدةً إلى الوراء..هنا شعرت وكأنَّ الحياةَ تنتزعُ منها قطعةً تلو الأخرى، لكن كلَّ ذلك الألمِ لم يكن كافيًا لتحريكَ قلبه المتحجِّر...إذ بها تصرخُ بكلماتٍ جعلتهُ يستديرُ إليها، اقتربت منه وعيناها تصدرُ أنينَ قلبها:
-ابني حياتي ياإلياس، لو اخدته يبقى بتموِّتني، مستحيل أسيبك تاخده، مستحيل..قاطعَ حديثهم وصولُ الخادمة:
-فيه واحد تحت ياباشا بيقول عايز حضرتك..أومأ لها ثمَّ أشار:
-قدِّمي له حاجة وأنا نازل ..ثمَّ وصلَ إليها بخطوةٍ واحدةٍ يدفعها بقوَّةٍ إلى الداخل حتى لا أحد يستمعُ إلى حديثهما..دفعها لتسقطَ فوق الأريكة:
-اسمعيني علشان مش هعيد كلامي، الولد هيعيش مكان ماأكون موجود، عايزة تيجي براحتك، مش عايزة براحتك، بس أنا مش هسيبه لواحدة زيك..
توقَّفت مقتربةً منه:
-مش هتقدر ياإلياس، القانون معايا، شوف هتاخده إزاي..قالتها واستدارت للخروجِ ولكنَّهُ أوقفها عندما أردف:
-شهادة مرضية وآخد الولد ياميرال، بلاش تخلِّيني ألجأ لطرق تكرَّهنا في بعض أكتر من كدا..
-تكرَّهنا بعض...ردَّدتها بذهول، تشيرُ إلى نفسها:
-كرهتني ياإلياس؟! رمتني خلاص..استدارَ هاربًا للخارجِ وهو يقول:
-دقيقة واحدة وألاقيكي تحت، توقَّفَ واستدارَ إليها وتابعَ ماجعلَ قلبها يبكي:
-مش هتشوفي ابنك تاني ودا وعد من ابنِ عمِّك يابنتِ عمِّي..قالها بابتسامةٍ ساخرةٍ، ركضت إليه وتشبثت بكفيه
-مش هتاخد الولد مش كدا ..نزفت روحه من دموعها ورغم ذلك حاول الثبات أمامها
-لو تعرفي حبيتك قد أيه مكنتيش عملتي فيا كدا، دنت حتى اختلطت انفاسهما
-عملت كدا من خوفي عليك، تراجع بعيدًا، يشير إلى ثيابها
-غيري هدومك وانزلي ياميرال، مابقاش ينفع ...قالها ونزلَ للأسفل..
وجدَ يزن واقفًا على بابِ المنزل، مسحَ على وجههِ بغضبٍ يشيرُ إليه بالدخول:
-لا واللهِ ودا احترام وهبل زي اللي متجوِّزها، دلفَ للداخلِ وعيناهُ تتجوَّلُ بالمكان، حمحمَ معتذرًا وقال:
-محبتش أدخل من غير إذن، استمعَ الى خطواتها على الدرج..وصلت إلى وقوفهم تحدِّقُ في يزن بجهل..
-أهلًا ميرال..ضيَّقت عينيها تنظرُ إليهِ باستفهامٍ ثمَّ أشارت عليه:
-مين دا ياإلياس؟..
جلسَ على المقعدِ يسحبُ نفسًا، وأشارَ إلى يزن:
-أنا تعبت خلاص، اتكلِّم إنتَ.
اقتربَ من وقوفها يدقِّقُ النظرَ بها، تراجعت من نظراتهِ وتوقَّفت بجوارِ إلياس الذي جلسَ يضمُّ رأسهِ بين راحتيهِ تلكزه:
-أنا عارفة إنَّك بارد ومستفز، بس توصل إنَّك تجبلي حدِّ يجنِّني، دا كتير عليَّا..رفعَ رأسهِ ينظرُ إليها بصمتٍ ثمَّ تمتمَ بنبرةٍ هادئة:
-ماتقولَّها يابني إنتَ مين، أنا شوية هتلاقوني بجري في الشارع من العيلة دي، توقَّفَ يجذبها بقوَّةٍ وبعيونٍ كالثلج:
-أخوكي، وماتتخضيش علشان لسة فيه غيره..اقتربَ يزن منها وتوقَّفَ أمامها، وعيناهُ تتأمَّلُ ملامحها وكأنَّهما تبحثانِ عن روحٍ غائبةٍ عنه..لم يكن الشبهُ بينهما واضحًا، لكن انجذابهِ نحوها كان أقوى من أن يُفسَّر..شعورًا غريبًا يشدُّهُ إليها، وكأنَّها جوهرةٌ ثمينة، خطواتهِ كانت بطيئةً لكنَّها واثقة، فيما كانت عيناها تحاصره، كمن يبحرُ وسطَ أمواجٍ متلاطمةٍ لا تعرف الراحة..انهمرت الدموعُ من عينيها كشلالٍ جارف، يغرقُ ملامحها التي بدت كلوحةٍ مرهقةٍ من الألم.
"ميرال..." نطقَ اسمها، وصوتهِ اخترقَ قلبها كالسهم، يهزُّ كيانها بعنف..
جسدها ارتجف، وكأنَّ زلزالًا قد ضربَ كلَّ شيءٍ بداخلها، شُحبَ وجهها، وتراجعت بخطواتٍ مرتعشة، وهي تحاولُ أن تستوعبَ ما تسمعه..هل يُعقل؟! أخًا آخر؟ لكن هذه المرَّة ليس كالأخِ الذي أنكرته؟ شعرت وكأنَّ الهواءَ يختنقُ في صدرها، وماضي والدها يعاقبها على أفعاله..
شردت بعينيها في الفراغ، كأنَّها تهربُ من واقعٍ لا يُحتمل، واقعٌ لا يفعلُ سوى نزيفِ روحها المجروحة، فجأةً عانقت نفسها بقوَّة، كمن تستجدي الحمايةَ من عالمٍ لم يرحمها أبدًا...تعمَّقت عيناها المتحجِّرةِ بالدموعِ بأعينِ إلياس وبصوتٍ مختنقٍ بالبكاءِ يحملُ من الألمِ والحزنِ مايحمل انفجرت قائلة:
"ليه بتعمل فيَّا كده؟! أكيد دا مش أخويا...لا! مستحيل..إنتَ بتعاقبني، مش كده؟! أنا تعبت، واللهِ تعبت! لو عايزني أختفي، هختفي! بس كفاية وجع...أنا مش البنتِ اللي بتقولوا عليها!"
استدارت بعنف، وكأنها تريدُ أن تبتلعها الأرضَ لما يحدثُ لها، ولكنَّها وقفت فجأةً ونظرت إليه بعينيها الغارقتينِ بالدموع، ونطقت وكأنَّ كلماتها حروفًا من الألمِ الذي تشعرُ به:
"خلاص يا إلياس! أنا مش بنتِ حد...أنا بنت خلقت من معاناة، من وجع، من كسر...كفاية، لو سمحت...كفاية!"
حاولَ أن يقاطعها، لكنَّها ابتعدت تضعُ يدها أمامه، فأصبحت على شفا جرفٍ من الانهيار..اقتربَ منها ونظرةً حانية:
"ميرال... اسمعيني لو سمحتِ..."
لكنَّها لم تسمعه، وكأنَّ صوتها يعلو فوق كلِّ شيء:
"إنتوا عايزين منِّي إيه؟! أنا بعدت..روح اتجوِّز، عيش حياتك، أقسم بالله ما هقف في طريقك..لكن كفاية تفضلوا توجعوا فيا! أنا تعبت...واللهِ تعبت!"
انفجرت بالبكاءِ حتى سقطت على الأرض، تهزُّ رأسها بعنف، تتمتمُ بكلماتٍ تخرجُ من فمها كأنَّها صرخاتُ روحٍ مكسورة:
"إيه اللي بيحصل ده؟! أنا عملت إيه عشان أستاهل كل ده؟!"
رفعت عينيها المكسورتينِ إليه، وقالت بألمٍ يخترقُ القلوب:
"ليه؟! علشان حبِّيتك؟! علشان صدَّقتك؟! تبعتلي واحدة تساومني على ابني وتقولِّي آسفة متزعليش؟! ودلوقتي...دلوقتي بتجيبلي راجل غريب وتقولِّي ده أخوكي!"
صفَّقت بيديها، وابتسمت بسخريةٍ مشوبةٍ بالدموع، لكن تلك الابتسامة تحوَّلت فجأةً إلى ضحكاتٍ هستيريةٍ كمن أصابهُ مسًّا من الجنون..
"كتير عليَّا...كتير أوي، أب مجرم...أم مجرمة...وراجل قاسي، كبريائه فوق كلِّ حاجة...ودلوقتي جاي يقولِّي أخوكي..أخوكي؟!"
هبَّت من مكانها فجأة، واندفعت نحوه، تمسكُ بملابسهِ بجنونٍ تهزُّهُ بعنف:
"إنتَ عايز منِّي إيه؟! ابني مش هتاخده لو جبت الدنيا كلَّها مش هتاخده..ناقص تعمل إيه؟! عايز تطلَّع شهادة بجنوني؟! ناقص إيه يا إلياس؟!"
حاوطَ جسدها وعيناهُ كانت مليئةً بالثقلِ والحزن، بصوتٍ صار أشبهُ بالهمسِ القاتل:
"ناقص حاجة واحدة يا ميرال...لازم تعرفيها..البنتِ اللي قولتي عايز أتجوِّزها... بتكون أختك من راجح."
كانت كلماتهِ كطعنةٍ أخيرةٍ في صدرها..توقَّفت عن الحركةِ وصمتت، وكأنَّ الزمنَ توقَّفَ للحظة..ثمَّ ارتعشت شفتيها، وعينيها اتسعتا، بجملتهِ التي تردَّدت على أذنيها كالرعدِ الذي يدوي مفجِّرًا شظايا بالمكانِ ليصمَّ الأذنَ وتعمى الأعين، وتشعرَ بالانهيارِ مجدَّدًا بين يديهِ تهمسُ بخفوت:
"يارب أكون بحلم، يارب يكون حلم"
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
حين التقت العينان، همسَ لي قلبي بسرٍّ عجيب:
هناكَ روحٌ ستغمرُ كيانك، ولن تملكَ إلَّا أن تعشقها عشقًا عميقًا..
حاولتُ أن أقنعَ نفسي بالنسيان،
لكنَّ قلبي قالَ لي: كلَّا، سيبقى هذا الحبُّ نابضًا مهما طالَ الزمان..
وكلَّما حاولتُ الهروب، وجدتُّكِ في كلِّ درب..
كأنَّ القدرَ يضعكِ أمامي، وكأنَّ الحبَّ يرفضُ أن يتركَني وحدي…
فاستسلمت...
لأنَّ هذا الشعورُ ليس اختيارًا بل هوَ هديةً منَ الله، رزقٌ لا يعوَّضُ ولا يُجحد.
بمنزل ميرال بعد حديث إلياس عن يزن...
صرخت وصرخت حتى كادت روحها تنفجر، انهارت على الأرضِ وهي تهتفُ بألمٍ يعصفُ بكلِّ جوارحها:
مش هتاخد ابني! مش هتاخده يا إلياس! أنا عارفة إنَّك بتعمل كده علشان الولد، بس مش هتاخده! لو قرَّبت منُّه، هموِّت نفسي..سمعتني؟ ابعد عنِّي بقى، سبني في حالي..
اقتربَ منها بخطواتٍ بطيئة، قلبهِ يعتصرُ من الحزن على ماأصابهم، وعيناهُ تتألَّقُ بالدموعِ التي حاولَ جاهداً أن يخفيها، انحنى وحاوطَ جسدها بين ذراعيهِ بحذر، وكأنَّها الزجاجُ القابلُ للكسر، وأردفَ بصوتٍ خافتٍ كاد أن يخرجَ من بين شفتيهِ بشقِّ الأنفس:
"قومي يا ميرال...مينفعشِ كده، قومي، حبيبتي...يلَّا، تعالي معايا.
رفعت عينيها الغارقةِ بالدموع، وقالت بصوتٍ مكسورٍ مثل قلبها الذي يعتصرهُ الوجع:
مش هتاخد منٍّي الولد يا إلياس مش كدا...واللهِ أنا عملت كده علشان بحبَّك..بحبَّك لدرجة ما تقدرشِ تتخيَّلها!
قالتها بشهقاتٍ و دموعها تتساقطُ كالشلال، كلَّ دمعةٍ تروي قصةَ ألمٍ عميقٍ من جحودهِ عليها، جلسَ على عقبيهِ يحدِّقُ فيها بحزنٍ قاتل، يشعرُ بأنَّ كلَّ جزءٍ منهُ يتناثرُ مع دموعها..رفعت كفَّيها المرتجفينِ على وجهه، وقالت بصوتٍ متلعثمٍ وكأنَّ الكلماتَ تخنقها:
طيب...قولي لو مكاني كنت هتعمل إيه؟! كلِّ لحظة بعيش فيها، بحسِّ إنِّي هخسر حاجة، بحسِّ إنُّهم هيخدوك منِّي...إنتَ مش شايفني؟ مش شايف وجعي؟ متعرفش...متعرفشِ خوفي عليك قدِّ إيه؟!..
تراجعت بجسدها قليلاً إلى الوراء وتابعت:
لمَّا قولت أبعد عنَّك..علشان أحميك من غدرهم، الناس دي مابيتلعبشِ معاها، وشوفت دا حاولوا يقتلوا النائب العام، مش هيغلبوا فيك..
-تحميني!!خايفة عليَّا، ليه شايفاني عيِّل، ولَّا أنا ضعيف ومش راجل، وكمان طلاق، وصلت للطلاق..
-أه أعمل أيِّ حاجة، إنتَ مبتفهمش، مش عارف يعني إيه تكون عايش في رعب كلِّ شوية، دول دخلو مكتبك، ووصلوا بيتك، لحد امتى، لحد مايخطفوا ابني، ولا لما تيجي لي مقتول.. أنا عملت الصح، اعمل اللي انت عايزه
-ميرال، متخلنيش اتغابى عليك، واكرهك نفسك
نزلت دموعها تشير إلى يزن مرددة
-لسة هتعمل ايه تاني، طردتني في عز ضعفي، وبعت لي بنت بتساومني عليك
وفي الآخر جايب لي واحد وتقولِّي أخوكي، فوق بقى أنا ماليش أخوات، سمعتني، أنا ميرال وبس...هنا أحسَّ أنَّ المسافةَ بينهما أصبحت حائطًا من الأسى لا يمكن اختراقه..وقفَ جامدًا ينظرُ إليها بوجعٍ يطفو على وجهه..
اقتربَ يزن منهما، وتوقَّفَ يرمقها بنظراتٍ حزينة:
-ميرال أنا عارف إنِّك مش قادرة تستوعبي الِّلي بيحصل، بس دي الحقيقة..راجح كان متجوِّز اتنين غير رانيا، والدتي ووالدة رؤى.
هزَّت رأسها بعنفٍ كالتي فقدت عقلها، هل يُعقل ماتسمعه، هل الفتاة التي كانت تراودها بزوجها تكن أختها؟..
اقترب إلياس منها، هو يعلم أنها تحملت فوق قوتها، جلسَ بجوارها وحاوطَ جسدها يقرِّبها لأحضانه..
-امشي من هنا إنتَ وهوَّ، أنا معرفكش، متحاولشِ ياإلياس، أنا معرفوش ومش هتاخد الولد..سمعتني؟!
زفرَ إلياس بغضبٍ وحاول السيطرةَ على أعصابه، رفع ذقنها ينظرُ بمقلتيها متمتمًا:
-بصِّي دا الباش مهندس يزن، والدته توفِّت من فترة، مكنشِ يعرف أصلًا زينا كدا غير من فترة بسيطة، وبعدها دوَّر على ماما بعد ماعرف من والدته كلِّ حاجة، يعني يزن بيكون أخوكي بس من الأب، أنا مش هدخَّل واحد غريب على مراتي علشان الهبل بتاعِك دا، دا بيكون أخوكي من الزفتِ راجح..
ثارت تدفعه بغضب وهدرت:
-الراجل دا مش أبويا، هقعد أقولها لحدِّ إمتى؟..
شعرَ بأنينِ قلبهِ على غضبها، وانهيارها، اقترب منها مرَّةً أخرى ،ثمَّ أخذها بين ذراعيهِ برفقٍ يتحرَّكُ بها ويحسُّ بأنَّهُ يحملُ قلبهِ الممزَّق، ثمَّ نظرَ إلى يزن الذي كان يراقبُ بصمت:
-هطلَّعها فوق وأرجعلك..بعدين تتكلِّموا..حدقها بنظرةٍ قائلًا:
-مش هتحمِّل كتير ياميرال، أنا شايل فوق كتفي أكتر ممَّا يتحمِّله بشر، مش وقتِ ضعفك.
دفنت رأسها في صدره، تحاولُ الهروبَ من فوضى قلبها، رغم أنَّ كلَّ شيءٍ حولها ينهار..حتى شعرت بالألمِ يعتصرُ صدرها منهُ ومن جمودهِ المعتاد، ورغم ذلك استمعت إلى دقَّاتِ قلبهِ التى أشعرتها بالراحةِ تملأُ قلبها في حضنه، كأنَّ هذا الحضنِ بدقَّاتِ قلبهِ هو الجسرُ الوحيدُ الذي يربطها بالحياة
وضعها على السرير بحذر، وكأنَّها قطعةُ أثرية، كلَّ حركةٍ منه تكادُ تكسرها..ثمَّ فكَّ حجابها بيدينِ مرتجفتين، تلألأت دموعها كالنجوم، هنا ودَّ لو يحطِّمَ جميع جسورِ الأسى بينهما ويعتصرها بأحضانه، ولكن كيف بعدما حدثَ مابينهما..اقتربَ منها ومسحَ دموعها بحذر، ثمَّ همسَ بصوتٍ حزينٍ يكاد يتناثرُ من بين شفتيه:
"نامي دلوقتي...بعدين نتكلِّم"
وضعت كفَّيها على كفَّيه، و امتلأت عينيها تهمسُ بصوتٍ خرج ضعيفًا، تخشى أن تفقدَ ما تبقَّى لها من صوت:
هنتكلِّم في إيه؟! أنا مش عايزة أعيش غير مع ابني وبس..مش عايزة حاجة في الدنيا غيره، سبهولي ياإلياس..أنا مش ستِّ جديرة بيك...زي ماقولت، روح...روح اتجوِّز وخلِّف غيره، بس ابني...ابني مش هتنازل عنه..
نظرَ إليها للحظةٍ طويلة، وكلَّ ما نطقتهُ اخترقَ صدرهِ ليشتعلَ كالجمر، نظرَ بعينينِ مليئينِ بالمرارةِ وكأنَّها تضعُ ملحًا فوق جرحِ قلبه..هزَّ رأسهِ بألمٍ كاد أن يفتك بها، ثمَّ قال بنبرةٍ مكسورةٍ مليئةٍ بالسخريةِ الحزينة:
"بس تتنازلي عنِّي...صح؟"
"مش تنازل قدِّ ماهوَّ حب."
-تنازل..حب، هوَّ فين الحب دا؟..
-يعني اللي عملتيه دا علشان الولد، كسرتي جوزك وحسستيه أنه مالوش أهمية علشان فاكرة مش هقدر احافظ على ابني؟!
ابتعدت بنظرها عنه وتمتمت:
-إلياس انت أهم حاجة عندك كبريائك وغرورك، مابتفكرش غير في دا، حتى ممكن تضحي بأي حاجة علشان متظهرش قدام حد انك ضعيف
-أضحي بأي حاجة علشان نفسي؟!
ردَّدها بصوتٍ مشحونٍ بالغضب، ابتعدَ عنها وعيناهُ تشتعلانِ بنارٍ لا تنطفئ، وقال بنبرةٍ جافَّةٍ، قاسيةٍ، تخلو من أيِّ أثرٍ للمشاعر:
"انت كدا كتبتي نهايتنا، وحاضر يامدام هضحي علشان كبريائي، هسيب معاكي الولد لكن بشروطي. ، ممنوع تروحي أيِّ مكان من غير معرفتي.. طقم الشغالين كلُّه تحت إشرافي، وكلِّ خطوة هتخطِّيها هتكون تحت عيوني.. الأمن داخل البيت وخارجه مستحيل تعترضي عليه، وأنا اللي هتحكِّم في كلِّ شيء..عربية الحراسة هتكون معاكي في كلِّ خطوة، حتى لو كنتي عايزة تشتري دواكي، مفيش شغل قبلِ ما الولد يكمِّل سنة، مش هسمح لحدِّ تاني يربِّي ابني.. شغلك تشتغليه في البيت، خلِّيكي في بيتك، اعملي فيه اللي تحبيه، أمَّا التليفون ممنوع تتكلِّمي مع حد، ولا تردِّي على أرقام مش معروفة، فاهمة؟"، أيِّ وقت مسموح لي أشوف الولد من غير اعتراض وكلماتك الغبية، واعرفي إنِّك اللي وصَّلتيني لكدا.
أطبقت على جفنيها تتمتم:
"رغم إنُّه سجن بس حاضر، هعمل اللي إنتَ عايزه..بدل ماابني يكون بعيد عنِّي، حتى لو قولت لي أرمي نفسي في البحر هعملها."
-لا مش هقولِّك ارمي نفسك ولا حاجة، بس لو غلِّطي..نفسك هخنقك بيه.
نظرت إليهِ و الألمُ يصرخُ في قلبها، وأنينًا داخليًّا يكاد يلتهمُ كلَّ ذرَّةٍ من كيانها.. وروحها تتمزَّقُ من كلماتهِ الجافَّة، التي لا تحملُ سوى القسوة..استأنفَ وكأنَّهُ غافلًا لا يرى ما يرسله عينيها، ولا يشعرُ بما في قلبها، ليهتفَ بصوتٍ باردٍ مجرَّدٍ من أيِّ مشاعر:
"مفيش طلاق، وبرضو مفيش حياة مع بعض..اعتبرينا مطلَّقين، منفصلين زي ما تحبِّي، بس الطلاق الرسمي...انسيه، مش هحترم أيِّ مشاعر، ولا هبالي بحقيقة إنِّي عايش معاكي، يعني وجودِك زي عدمه عندي."
هنا لم تعد تتحمَّلُ قسوته، لترفعَ عينيها إليهِ وكأنَّها تبحثُ عن نظرةِ الحب، ولكن وجدتهُ أملًا ضائعًا، لم تجد سوى فراغٍ بارد..همست وصوتها يخنقهُ الألمُ الذي يقطعُ أنفاسها:
"الطلاق مش فارق معايا أنا كمان، بس يا ترى إنتَ كمان هيفرق معاك ولَّا هتروح تتجوِّز؟"
شعرَ وكأنَّ سكينًا مسمومًا قد انغرسَ في قلبه، ورغم ما يشعرُ به من غضب، إلَّا أنَّهُ تحرَّكَ إليها بجمودٍ حتى اقترب منها بشدَّة، وعينيهِ تشتعلانِ بنظراتٍ لاذعةٍ لا تحتملُ الضعف:
"متخلنيش أخلِّيها تفرق معاكي لو اتجوِّزت؟"
-نحرتها كلمته، واحست بجمرة تهلك روحها، رغم أنها تعلم أنها مجرد كلمات، ولكن نطقها ألهب كل احاسيسها، فاقت على صوته:
-فوقي ياميرال، بدل ماادوس على قلبي واخد منك الولد فعلًا
زمت شفتيها تمنع دموعها تطالعه بخيبة أمل قائلة:
-يعني الراجل اللي تحت دا مسرحية منَّك علشان تاخد الولد منِّي؟..
-اخرسي، مش عايز أسمع نفسك، أنا لو عايز آخد الولد هاخده، إيه هغلب..
-يعني إيه ياإلياس؟..
-يعني بيكون أخوكي فعلًا..نظرات حزينة لتقول:
-يعني الراجل دا مدمرنا كلنا، طيب ليه..!، طالعته تترجاه بعيناها
-اوعى تكون ناوي تقتله صح، طيب لو قولت لك بلاش علشان خاطري..
انسابت دموعها كالأنهارِ التي لا تنتهي، وكأنَّها تغسلُ كلَّ ذرةٍ من نفسها الضائعة منها..نظرت إليه بعينينِ متورمتينِ من البكاء، لكنَّها تمسَّكت و حاولت أن تجدَ فيه ما يخاف عليها، ابتعد قائلًا...
-عايزك تقعدي مع يزن، شكله راجل أوي ويعتمد عليه، ممكن تلاقي عنده اللي اتحرمت منه مني ومن راجح
شهقت تطالعه بذهول:
-لدرجة دي ياإلياس، اومأ يشير بيديه:
-يزن بيكون أخوكي ياميرال، ودا كويس، صدقيني لما يكون فيه سند وقت ماتحسي بانهزامك من أكتر شخص حبتيه، بيكون الأخ هنا قوة
-يعني إيه؟!
-يعني ايه دي هتحسيه لما تقربي منه
رددت بينها وبين نفسها يعني دا فعلًا بيكون أخويا، ليا أخ ..تراجع بجسده ينظر إليها بسخرية:
-وأخت كمان، ايه ناسية ضرتك..رفعت نظرها إليه واردفت بصوت جعلته قويًا رغم حزنها منه:
ـ تمام موافقة على كلِّ شروطك، وزي ماقولت هعيش لابني، حتى انت مابقتش تفرق معايا، اعمل اللي انت عايزه، حتى لو عايز تتجوز، اتجوز
اقتربَ منها أكثر، حتى كادت أن تشعرَ بأنفاسه، وهمسَ لها، بكلماته كانت كالرصاصِ الذي نهشُ قلبها:
"خلِّيكي فاكرة الكلمتين دول يا ميرا، لأنِّنا هنتحاسب عليهم لمَّا أفكَّر أتجوِّز تاني فعلًا"
رفعت رأسها بذهول، لا تستطيعُ تصديقَ ما سمعته، كأنَّ الدنيا قد انهارت من حولها..عيناها مليئتانِ بالدموع، ولا تعرفُ إن كانت تبكي على نفسها أو عليه:
"تتجوِّز؟! عايز تتجوِّز؟
-وليه لا، مش حقي..امشي، اطلع برَّة، وكلِّ شيء بيننا انتهى هنا، وإنتَ كمان انتهيت مش عايزة أشوفك، برَّة برَّررة..قالتها بصرخات..
انحنى يضغطُ على ذراعيها بقوَّةٍ آلمتها:
-صوتك، اتجنِّنتي، ناسية بتكلِّمي مين، مفكَّرة لمَّا تعملي كدا هتصعبي عليَّا، ولَّا أخاف منِّك، إيه مش كنت هعملها ولَّا نسيتي؟..
ارتجفَ جسدها بعنف، تهزُّ رأسها بالنفي كأنَّها تطردُ شبحًا يحاصرها، ترفضُ كلماتهِ التي اخترقت دفاعاتها.. وصوتهِ أشبهُ بخنجرٍ يُغرسُ في صدرها، حاولتأن تلتقطُ أنفاسها المتقطِّعة، ابتعد عنها بخطواتٍ ثقيلة، وشعرت بأّن الأرضَ تدورُ بها.. رفعت عينيها إليه، لترى لأول مرة بتلك العينين شيئًا مظلمًا
همسَ بصوتٍ أجش، نبرةٌ مغلَّفةٌ بالبرودِ المستفز:
-أنا راجل، وعايز ستِّ توقف جمبي،
تهوِّن عليَّا أيامي..مش واحدة ضعيفة مالهاش غير كلمتين أقتل نفسي أو طلَّقني.
كلماتٌ ماهي سوى كلمات ولكنَّها كصفعاتٍ متتاليةٍ تهوي على روحها، تزلزل بنيانها الهش..شعرت بقلبها ينهار، ودَّت لو تصرخَ لكن شفتيها خانتاها..نظرت لوجههِ القريبِ وعينيه، وآه من عينيهِ التي تغرقها بنبضٍ عنيف، لم يرحم ضعفها، ليرفعَ إبهامهِ على وجنتيها:
- شكرًا لأنِّك سمحتيلي أكمِّل حياتي من غير ذنبك، ومتخافيش أيام مش هنساها ماإنتي أوَّل حب ياميرا، بس مينفعشِ أحبِّ تاني..
-إنت كداب ياإلياس، عارف ليه..ملست بيدها على صدرها موضع قلبه، وتعلق ذراعها الأخر بعنقه، تهمس بجوار أذنه نبرة مثيرة، جعلته يشعر بأن جسده وقع فريسة عشقها الضاري، حينما استمع
-قلبك دا ملكي أنا، مش قلبك بس، انت على بعضك..رفع عيناه القريبة لعيناها التي لوحت بالتوتر عما سيفعله، ثم ابتسم ساخرًا
-غلطانة ياميرال، انت لسة قايلاها كرامتي ورجولتي، يعني كل حاجة عندي مباحة...بترت حديثهِ وانقضَّت على شفتيهِ بقبلةٍ مجنونة، تحملُ كلَّ ما ترفضُ حديثهِ وما تتمنَّاه..علَّها تُسكتُ ضجيجَ قلبها، أو تهدئُ عاصفةَ الألمِ التي أشعلتها كلماته.
أغمضَ عينيهِ للحظة، وارتعشت أنفاسهِ بين جدرانِ صموده..لكنَّ شيئًا في داخلهِ صرخَ بالرفض..ابتعدَ عنها، منتفضًا كمن يحاولُ الفرارَ من ذاته، خطواتهِ ثقيلةٌ ومرتبكة، وكأنَّ جسدهِ يتوسَّلهُ أن يبقى، أن يعودَ إليها، لكنَّهُ أدارَ ظهرهِ وخرج.
اعتدلت في مكانها تحملقُ في البابِ الذي أغلقه، وكأنَّهُ وضعها بقبر..لم يعد لديها القدرة على التنفُّس، نظرت بعينينِ فارغتينِ وتمتمت كلماتٍ لم تسمعها أذناها..ثم تهالكت على الفراش وطوت نفسها كالجنينِ تبحثُ عن دفءٍ لا يمكنها استعادتهِ منذ ابتعاده، صوتُ أنفاسها المتقطِّعةِ كان الشيءُ الوحيد الحيِّ في الغرفةِ المظلمة.
استمعت إلى صوتهِ الصارمِ مع المربية،
نبرتهِ التي حاول إخفاءَ ما شعرَ به: الولد عينك ما تنزلشِ من عليه لحظة..ممنوع حركة بيه برَّة البيت من غير معرفتي. محدش يشوفه غير ماما وأختي مفهوم؟
أومأت المربية برأسها بخضوع: اللي تؤمر بيه يا باشا.
كانت كلماتهِ تحكمُ حصارًا جديدًا، ليس فقط حولَ ابنهِ بل حول روحهِ هو..ورغم كلِّ القوَّة التي حاولَ رسمها، كانت يداهُ ترتجفان، وعيناهُ تفضحانِ حربًا داخليةً لا هوادة فيها..وهو يتطلَّعُ إلى البابِ المغلقِ بينهما، شعرَ بأنَّها بحارًا ومحيطات لم يستطع عبورها بعد الآن..
في منزلِ آدم، استيقظت إيلين على صوتِ المنبِّه..مدَّت يدها بكسلٍ لتغلقه، ثمَّ رفعت رأسها عن صدره، تستندُ بذقنها عليهِ تشعرُ بدفءِ حضنه..ابتسمت وهي تتأمَّلُ ملامحهِ الهادئة، كأنَّهُ لوحةٌ مرسومةٌ بعنايةٍ لتسرقَ قلبها كلَّ مرَّة.. تسلَّلت أناملها بخفَّةٍ بين خصلاتِ شعرهِ الناعمة، تهمسُ له بعضَ الكلماتِ بحبِّها، ثمَّ طبعت قبلةً حانيةً على وجنته..
تململَ آدمُ قليلاً وفتحَ عينيهِ بتثاقلٍ لتستقبلهُ ملامحها المتورِّدةِ بابتسامةٍ خجولةٍ خطفت أنفاسه؛ نظرَ إليها نظرةً محمَّلةٍ بعشقٍ يغمرُ الروحُ وقال بصوتٍ خافتٍ مبحوحٍ من أثرِ النوم:
صباح الوردِ يا حبيبتي...بتعكسيني؟ طيب، ما تخلِّي الحاجات الحلوة دي وأنا صاحي، عايز أشوفك كلِّك قدَّامي..
تورَّدت وجنتاها أكثر، ودسَّت وجهها في صدرهِ محاولةً إخفاءَ خجلها، وهمست:
"بس بقى يا آدم..."
رفعَ ذقنها برفقٍ يجبرها على مواجهةِ نظراتهِ التي تفيضُ بحبٍّ عميقٍ ومكرٍ خفيف:
لسه ما عملتش حاجة، أنا بصبَّح عليكي بس يا روح آدم...يلَّا بقى، عايز أصبَّح..
ضحكت بخفَّة، وزوت حاجبيها بدهشةٍ طفيفة:
"ماإنتَ صبَّحت يا آدم..."
لم يمنحها فرصةً لإكمالِ حديثها، اقتربَ منها وأطبقَ شفتيهِ على شفتيها في قبلةٍ طويلة، كانت أشبهُ بمعزوفةِ عشقٍ عزفها بشوقٍ وحنان..شعرت وكأنَّها تعيشُ لحظةً خارجَ الزمن، حيث تلاشت كلَّ الأصواتِ من حولها سوى دقَّاتِ قلبها التي تسارعت بين ذراعيه.
ابتعدت عنهُ بأنفاسها المتقطِّعة، واشتعلَ خديها حرارةً وخجلاً..جلسَ بجانبها معتدلًا، يمرِّرُ أصابعهِ بخفَّةٍ بين خصلاتِ شعرها الحريرية، وقال بابتسامةٍ يملؤها العشق:
- دلوقتي كده أقدر أقول بمزاج: صباح الورد يا حبيبتي.
رفعت عينيها لتنظرَ إليه، لتجدَ نظراتهِ تسبحُ على ملامحها وكأنَّها قطعةٌ فنيةٌ نادرةٌ لا يشبعُ منها..شعرت بنبضاتِ قلبها تتسارعُ من شدَّةِ حبِّهِ المتجسِّدِ في كلِّ نظرةٍ من نظراته..اقتربَ منها أكثر، أحاطَ خصرها بذراعيهِ بقوَّة، ودفنَ وجههِ في عنقها، تاركًا أنفاسهِ الحارَّةِ تنسابُ على بشرتها..همسَ بصوتهِ العميقِ الذي تخلَّلَ أعماقها:
-بعشقك ياإيلين...عارفة يعني إيه بعشقك؟ يعني إنتي كلِّ نفسي، كلِّ حلمي، كلِّ حاجة أنا عايش عشانها.
رفعت رأسها لتقابله، وقد تجمَّعت دموعُ التأثُّرِ في عينيها الواسعتين، فمدَّ يديهِ ليمسكَ كفَّيها، ثمَّ قبَّلهما بحنانٍ بالغٍ وهو يبتسمُ لها:
ما بقتشِ عايز حاجة تاني من الدنيا، أهمِّ حاجة عندي إنِّك تكوني في حضني بإرادتك...وبحبُّك.
لم تستطع إيلين تمالكَ مشاعرها، فرفعت يدها ببطءٍ لتلمسَ وجنتهِ بحبّ، ثمَّ اقتربت تطبعُ قبلةً طويلةً على وجنته، وهمست له بخفوت، وكلماتها التي تخصُّهُ بالحب:
إنتَ حبيب عمري يا آدم...عمري ما كرهتك، حتى بعد اللي حصل، وأنا واثقة إنِّنا هنعدِّي المحنة دي.
أنهت كلماتها، ورغم أنَّها كلماتٍ ولكن أشعلت حبَّها بقلبه، فجذبها بقوَّةٍ يضمُّها إليه بقوَّة، حتى التصقت بجسده..طبعَ قبلةً على جيدها هامسًا لها بنبرةٍ مليئةٍ بالشوق:
بعد الكلام ده، متوقعة منِّي إيه غير إنِّي أحبِّك أكتر؟ وأعمل حاجة هموت وأعملها من وقتِ ما صحيت من النوم وشوفت الخدود الحمرا دي..
-عايز تعمل إيه؟..لم تكمل حديثها ليجذبها إلى عالمهِ الخاص، عالمًا خصَّصهُ لها وحدها، لتسطرَ تلك اللحظاتِ الدفءَ والعشق، حيث اجتمعت قلوبهما تحت سقفٍ واحد، ليعدها بأنَّ الحبَّ سيظلُّ لغتهما الأبدية..
بعد فترةٍ جلست لتجفيفَ خصلاتِ شعرها أمام المرآة، استدارت فورَ خروجهِ من الحمَّام..ابتسمت وهي تقولُ بنبرةٍ مرحة:
– عندي سكشن بعد ساعة، هتوصَّلني ولَّا عندك حاجة؟
ألقى المنشفةَ جانبًا واقتربَ منها، يحيطُ مقعدها بذراعيه، ثمَّ أمالَ رأسهِ ليضعَ ذقنهِ فوق كتفها، ينظرُ إلى انعكاسِ صورتهما في المرآة:
– طيب، أسيبك تمشي كده لوحدك؟ خايف حدِّ يعاكسك وأنا مش معاكي..
رفعت رأسها قليلاً ونظرت إليهِ باستغراب، قائلةً بحزم:
– ليه حضرتك شايفني صغيرة؟ لااا، فوق يا حبيبي، أنا بعرف أجيب حقِّي وبزيادة، وبعدين محدش يقدر يقرَّب منِّي..ناسي إنِّي في نظرهم بنتِ عمَّك؟ كان عاجبك البنات اللي كل شوية: "دكتور آدم، ممكن تعيد؟".
انفجرَ بالضحكِ وهو يداعبُ أنفها برفق، متلذِّذًا بغيرتها التي بدت واضحة..ثمَّ قال بابتسامةٍ ماكرة:
– أفهم إنِّك غيرانة؟.
انتفضت متوقِّفة، تشيرُ إليه بإصبعها بغضبٍ طفولي:
– هترجع الجامعة والكلِّ هيعرف إنِّ أنا مراتك..سمعت ولَّا لأ؟
أمسكَ إصبعها بحركةٍ مفاجئةٍ ووضعهُ بين أسنانهِ بخفَّة، ممَّا جعلها تصرخُ وتدفعهُ مبتعدة:
– مابتهددش يا دكتورة يا صغنَّنة..نسيتي إنِّك إنتي اللي طلبتي محدش يعرف عن جوازنا؟
فتحت فمها لتردَّ عليه، ولكن قاطعَ حديثهما صوتُ رنينِ هاتفه..أمسكَ الهاتفَ وأجاب:
– أيوة...
– دكتور آدم، منتظرينك في النيابة للتحقيق..فيه أدلَّة جديدة ظهرت.
أنهى المكالمة بتنهيدةٍ ثقيلة، وأدارَ وجههِ نحوها قائلًا:
– جهِّزي نفسك، هوصَّلك في طريقي.
نظرت إليهِ بقلقٍ وهي تمسكُ ذراعيه:
– إيه اللي حصل؟
ردَّ بنبرةٍ جادَّة:
– عايزني في النيابة.
ربتت على كتفهِ برفقٍ ورسمت ابتسامةً مطمئنةً على وجهها، محاولةً أن تبثَّ فيه الأمل:
– وده يزعَّلك؟ بالعكس، أخيرًا هنخلص من القضية..لازم ترجع شغلك وتبدأ من جديد ياآدم.
احتضنَ يدها وربتَ عليها بخفَّة قائلاً:
– إن شاء الله يا حبيبتي.
بإحدى الكافيهاتِ في أحدِ الدول الأوروبية، كان يمسكُ بيديهِ جريدةً إخبارية، وعيناهُ مركَّزتانِ على شخصٍ ما..قطعَ تركيزهِ صوتُ رنينِ هاتفه، ليرفعَ الهاتفَ إلى أذنهِ ويجيبُ بنبرةٍ هادئة:
أيوة يا أرسلان.
عمُّو، إيه اللي أخَّرك؟ ليه لسه هناك؟ مش كلِّ حاجة تمام؟
ظلَّ كما هو يراقبُ ذاك الشخص، وأجابَ بنبرةٍ هادئةٍ تخفي الكثير:
بكرة إن شاء الله، يا حبيبي..افتكرت حاجة لازم أعملها قبلِ ما أرجع.
تمام، أنا قلقت عليك.
استدارَ قليلًا بمقعدهِ ليمنحَ اهتمامهِ الكاملِ للمكالمة وسأل:
-فيه جديد في القضية؟
أجابهُ أرسلان بنبرةٍ ممزوجةٍ من القلقِ والخيبة:
الموضوع اتعقَّد، ومشي عكس تخطيط إلياس..وشكلهم ناويين يضحُّوا بيه.
تأمَّلَ كلماتهِ بضع لحظات، ثمَّ علَّقَ بهدوءٍ كمن يستخلصُ المعاني التي ألقاها:
يعني إلياس كان بيعمل كده علشان يوصل لِّلي بيمولهم؟
-للأسف، أيوة..بس جت على دماغه، وفيه حيوان بيحاول يضغط عليه بسبب السيديهات والورق اللي اتسرق.
صمتَ للحظةٍ قبل أن يقولَ بحسم:
-تمام، بكرة راجع وهدخل أشوف آخرهم إيه، بس متخفش مش هيضحوا براجح علشان ماسكهم كويس..وبالنسبة لإلياس لازم يتعمل تنضيف حلو لمكتبه..أكيد الورق ده خرج من جوَّة مش من برَّة.
هوَّ فعلًا شغال على كده، بس معرفشِ ناوي على إيه..على فكرة، عندي خبر حلو ليك لمَّا ترجع.
لم يستطع كبحَ فضوله، فسألهُ بنبرةِ فضولٍ مخلوطةٍ بشيءٍ من الملل:
- خبر إيه؟..ياريت أسمع حاجة تفتح النفس..
خطا بخطواتٍ هادئةٍ نحو الداخل، وتمتم:
افتح الكاميرا وشوف بنفسك..
لحظاتٍ وفتحَ الكاميرا، ليتجمَّدَ في مكانهِ مذهولًا، ما رآهُ لم يكن يتوقَّعه أبدًا.كان فاروق يتحرَّكُ مستندًا إلى عصاه، ووجههِ مشرقًا بابتسامةٍ خفيفة.
هبَّ واقفًا، وخرجت الكلماتُ من فمهِ بذهول:
فاروق...إنتَ وقفت؟!
هزَّ فاروق رأسهِ بابتسامةٍ مطمئنة، وقالَ بصوتٍ هادئٍ مفعمٍ بالأمل:
- حبيبي، خلِّي بالك من نفسك..الأيام دي مفيش حاجة مضمونة.
قالها فاروق ليتسلَّلَ الشكُّ إلى قلبه، كأنَّها تحذيرًا يحملُ أكثر َممَّا يبدو عليه..ظلت الكلمات ترواد عقله، ولكنه تذكر شفاء فاروق
أغلقَ إسحاق الهاتف، والسعادةُ تتراقصُ على ملامحهِ التي غمرتها الابتسامة..مرَّرَ يدهِ على وجههِ بحركةٍ بطيئةٍ كمن يغسلُ قلبهِ بالرضا، ثمَّ تمتمَ بحمدِ الله بصوتٍ خافت..نهضَ من مكانهِ بخفَّة، متَّجهًا نحو الطاولةِ المجاورة، ألقى تحيةَ المساءِ بنبرةٍ دافئةٍ باللهجةِ الفرنسية.. واتَّجهَ إليهم ببعضِ التساؤلات، كأنَّهُ يبحثُ عن شيئٍ ما، انحنى قليلاً وهو يهمسُ بكلماتٍ مبهمةٍ مليئةٍ بالغموض..
اقتربَ منه أحدهم، ليشتعلَ بينهما حوارًا ساخنًا تتناثرُ منه شراراتُ غضبٍ مكتوم.. رغم ذلك احتفظَ إسحاق بهدوئه..ورسمَ ابتسامةٌ متَّزنةٌ وربتَ على جاكيتهِ بخفةٍ ليضعَ شيئا ما..ثمَّ استدارَ بخطواتٍ واثقةٍ متَّجهًا نحو الخارج، معتذرًا بنبرةٍ حملت مزيجًا من الأسفِ والغموض.
عند أرسلان، توقَّفَ ينظرُ بالفراغِ بعينينِ شاردتين، وبعضُ التساؤلاتِ تصفعُ عقله..همسَ لنفسهِ بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
- ما الذي يفعلهُ إسحاق دون علمه؟
قطعَ شرودهِ صوتُ ملك وهي تقفُ بجواره، تحتضنُ ذراعهِ ثمَّ قالت بنبرةٍ يغمرها الدلال:
- عايزة أخرج، ماتيجي نخرج أنا وإنتَ وغرام..من وقتِ ما خلَّصت امتحانات مخرجناش مع بعض...
ابتسمَ أرسلان ابتسامةً صغيرة، ومدَّ ذراعهِ ليحاوطَ كتفها بلطف، و تحرَّكا معًا ببطءٍ نحو المسبح، توقَّفَ واتَّجهَ بنظراتهِ إليها متسائلًا بصوتٍ هادئٍ يشوبهُ الفضول:
- هيَّ تمارا مابقتشِ تيجي هنا؟
أومأت برأسها، ثمَّ أردفت:
جت مرَّة واحدة، بس من بعدِ ماعرفت حقيقة نسبك ماجتشِ تاني.
تغيَّرت ملامحه، وانكمشت بشيءٍ من القلق، وتساءلَ بصوتٍ منخفض:
- ومين اللي قالَّها؟
هزَّت ملك أكتافها بعفويةٍ وأجابت:
- واللهِ يا أرسو معرفش..إحنا في الوقتِ ده كنَّا مع بابي في المستشفى، فجأة لقيتها بتقول: "أرسلان إزاي مطلعشِ أخوكي؟"
هزَّ أرسلان رأسهِ في تفهُّمٍ صامت، وداخلهِ صمتًا قاتلًا، استدارَ ليتحرَّك بعيدًا، لكن تشبَّثت بذراعه، وأردفت بنبرةٍ ملوَّنةٍ بدلالٍ طفولي:
- علشان خاطري يا أرسو، تعالَ نخرج...
وصلت غرام و توقَّفت بجوارهما؛ رمقتهما بنظرةٍ حادَّةٍ أشبهُ بسهمٍ يحرقهما ثمَّ نطقت بصوتٍ يحملُ في طياتهِ الغضبَ المكبوت:
-أنا عايزة أمشي، كنت وعدت ميرال إنِّي هعدِّي عليها ونسيت.
رفعَ أرسلان نظرهِ إلى ملك وابتسمَ بمكرٍ خفيف، ثمَّ قال :
-اجهزي يا ملوك، هنروح مشوار إنَّما إيه هيعجبك.
رفعت ملك نفسها لتطبعَ قبلةً حنونةً على وجنته، قبلَ أن تتمتمَ بابتسامةٍ طفولية:
-أحسن أخ دا ولَّا إيه؟
ضحكَ بخفَّةٍ وهو يراقبُ تحرُّكها سريعًا إلى الداخلِ كطفلةٍ حصلت للتوِّ على لعبتها المفضلة..أمَّا هو فظلَّ واقفًا يحملقُ في الأفقِ بنظراتٍ شاردةٍ غارقًا في أفكارهِ التي أخفاها خلفَ ملامحَ هادئة.
خطت نحوهُ بخطواتٍ ثابتةٍ وعيناها تقدحانِ بالغيرةِ المكتومة..عقدت ذراعيها أمام صدرها وأردفت بنبرةٍ مشحونة:
- ممكن أعرف ليه ملك وقفت معاك بالطريقة دي؟
التفتَ نحوها ببطء، يحملقُ فيها بملامحَ غامضةٍ وكأنَّهُ يجهلُ ما تعنيه..شعرت أنَّ تجاهلهِ يشعلُ بداخلها شيئًا أشبهُ بالنيران، اقتربت أكثر وقالت بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه مشحونًا بالحدَّة:
- أرسلان، ملك دلوقتي مش أختك... مينفعشِ التقارب ده..متنساش إنَّها كانت ممكن تبقى مراتك بعد كلام عمُّو، والصراحة أنا بقيت أضَّايق منها...مش عايزاها تقرَّب منَّك، قلبي بيقولِّي إنَّها بقت بتبصلك بطريقة مش بريئة..مش عايزة القرب دا..
لحظاتٍ محاولًا السيطرةَ على ذاته، إلَّا أنَّها غضبت من جهله، فدنت أكثر حتى تلامست أجسادهم:
-مش عايزة أيِّ اختلاط تمام، مش هستنى لمَّا حضرتك تتجوِّزها، تغيَّرت ملامحهِ فجأة، وابتسامةٌ خفيفةٌ تلاشت لتحلَّ محلَّها برودةٌ صارمة..اقتربَ منها بخطواتٍ بطيئةٍ لكنَّها ثقيلة، حتى تراجعَت خطوتينِ دون وعي، أمسكَ ذراعيها بحزمٍ وصوتهِ خرج هامسًا لكنَّهُ يحملُ تهديدًا مبطَّنًا:
- أنا ممكن أتغاضى عن أيِّ حاجة إلَّا إنِّ حد يدخل بيني وبين أختي..دي أختي، فاهمة؟ مش قلبك اللي بيقولِّك يا مدام...ده شيطانك..وأنا قولت لك قبلِ كدا أهدِّ الدنيا علشان دموعك، مش علشان أقهرك..
تركَ ذراعيها وغادرَ بخطواتٍ واثقة، تاركًا إياها متسمِّرةً في مكانها، متخبِّطةً بين الغيرةِ والخوف..
قابلتهُ صفية بابتسامةٍ دافئة:
- حبيبي، الغدا جاهز..هات مراتك وتعال..
حملَ أشياءهِ بهدوء، متجاهلًا نظراتِ والدتهِ الحانية، ثمَّ تنفَّسَ بعمقٍ قبل أن يردَّ بهدوءٍ يشوبهُ الغضب:
- آسف يا ماما، بس أنا هتغدَّى مع ميرال بنتِ عمِّي، وعدتها من إمبارح..عندها مشاكل مع إلياس، ومينفعشِ أسيبها لوحدها.
ربتت صفية على ذراعهِ برفق، وبعينينِ مليئتينِ بالطمأنينةِ وهي تقول:
- إن شاء الله كلِّ حاجة هتكون كويسة، اهدى وربِّنا يسعدك يا حبيبي.
ابتسمَ ابتسامةً صغيرة، وقبَّلَ جبينها بحنانٍ مردفًا:
ربِّنا يخلِّيكي ليَّا ياستِّ الكل..قاطعتهم ملك بدخولها المفاجئ، تشيرُ إلى فستانٍ أزرقٍ قصيرٍ يصلُ إلى فوقِ الركبة، ملامحها تعكسُ مزيجًا من الحماسِ والسعادةِ وهي تقول:
-إيه رأيك يا أرسو؟ لسه شارياه قريب، عارفة إنَّك بتحبِّ اللون الأزرق..
تأمَّلها للحظة، ثمَّ اقتربَ منها وقرصَ وجنتيها بحنانٍ كما اعتادَ أن يفعل، وهتفَ بنبرةٍ تحملُ عتابًا خفيفًا:
- بس لو طويل هيكون أحلى وأجمل على أميرتي.
مطَّت شفتيها بتذمُّرٍ طفولي، ونقلت نظرها إلى والدتها قائلةً بصوتٍ مليءٍ بالاستياء:
- طبعًا، هتقولي قولت لك قبلِ كده، صح يا ستِّ ماما؟
ضحكت صفية بهدوءٍ وهي تهزُّ رأسها، بينما أرسلان اكتفى بابتسامةٍ صغيرة، ومازال حديثُ غرام يؤلمُ قلبه..
بعد فترة، وصلَ أرسلان إلى منزلِ ميرال، كانت غارقةً مع طفلها وهي تداعبهُ وتقبِّلُ قدميه، تهمسُ له:
-حبيب مامي إمتى تكبر بقى، مرَّرت أناملها على وجههِ كأنَّها تنحتُ تفاصيلهِ الصغيرة، انحنت تستنشقُ رائحتهِ بوله، تطبقُ على جفنيها، مستلذَّةً برائحتهِ التي تشبهُ المسك، رفعت يدهِ الصغيرة، وهمست بنبرةٍ سعيدة:
-أموت أنا في ريحته ياناس، تعرف إنتَ اللي مصبَّرني على الدنيا دي، وكمان على قسوة باباك، بابا اللي بيقولِّي هتجوِّز، طيب خلِّيه يعملها كدا، وحياتك عندي لأعرَّفه الجنان بحقِّ وحقيقي، ماصدَّق قولت له كلمتين، ماشي يابنِ فريدة، صمتت متذكرة يزن،
ابتسمت وذهبت بذاكرتها بحديثهِ معها، باليومِ التالي من معرفتها به، اتَّجهت إلى فريدة:
-ماما فريدة أنا فعلًا ليَّا أخ اسمه يزن؟..
على الجانبِ الآخرِ أجابتها فريدة بصوتٍ مكتومٍ بالحزن:
-أيوة حبيبتي، بس إلياس مكنشِ يعرف إلَّا من قريب.
صمتت ميرال للحظات، وتجمَّدت الكلماتُ على شفتيها، تخشى حقيقة جديدة قد تهزُّ كيانها. تردَّدت للحظة، ثمَّ همست بصوتٍ مكسور:
"ورؤى كمان بتكون..."
توقَّفت وخانتها الحروف،و نيرانُ الغيرة والحزنِ تلتهمُ قلبها بصمت، كلَّما تذكَّرت حديثها وقربها من زوجها..شعرت فريدة بما يدورُ في داخلها فتنهَّدت وقالت بنبرةٍ حنونةٍ محاولةً تهدئتها:
- حبيبتي، هاتي يوسف وتعالي شوية. الولد وحشني جدًا، بس...
- عمِّك مصطفى تعبان.
انتفضت ميرال من مكانها، وملامحُ وجهها تملؤها القلق:
- مالُه عمو مصطفى؟
خرجت فريدة من غرفتها متَّجهةً إلى الحديقة، ومازالت تهاتفها بنبرةٍ هادئة:
يوم ما كنَّا عندك، وإلياس قال إنُّه في المستشفى، كان مصطفى اللي تعبان، لكنُّه ما حبش يقلقنا.
ازدادت نبضاتُ قلبِ ميرال، وسألت بتوترٍ وهي لا تستوعب:
- ليه يا ماما؟ إيه اللي حصل لعمُّو مصطفى؟
تنهَّدت فريدة قائلة:
- قالوا إنَّها حالة تسمُّم...لكن، حاسة الموضوع أكبر من كده.
شعرت ميرال بقبضةٍ في قلبها، وازدادت عيناها قلقًا، ثمَّ قالت:
- أنا جاية حالًا أشوفه، وهجيب يوسف معايا.
ابتسمت فريدة بخفَّةٍ لتطمئنها وقالت:
- تعالي يا حبيبتي، أنا مستنياكي.
أغلقت فريدة الهاتف، شردت بما يفعلهُ إلياس، وقعت عيناها على يزن وأرسلان يتَّجهانِ نحوها في الحديقة، نهضت من مكانها وتوجَّهت نحوهما بخطواتٍ ثابتة، ثمَّ طالعتهما بابتسامةٍ مليئة بالحنان.. التفتت إلى يزن أولًا، وقالت:
أهلًا يا حبيبي، حمدَ الله على سلامة أختك.
أومأ يزن برأسهِ شاكرًا، وقال بصوتٍ بدا فيه بعض القلق:
- كنت بحاول أتَّصل بإلياس، لكنُّه مش بيرد.
نقلت فريدة نظرتها إلى أرسلان بحيرةٍ وسألته:
-أنتم جايين مع بعض؟
هزَّ أرسلان رأسهِ نافيًا، وأشارَ إلى يزن بابتسامةٍ خفيفة:
- قابلته على الباب، حضرة الظابط قايلُّه ما يروحشِ لميرال من غيره.
ابتسمت فريدة وربتت على كتفِ يزن قائلةً بصوتٍ يطمئنه:
-ميرال كلِّمتني وقالت إنَّها جاية..ادخلوا واشربوا حاجة لحدِّ ما توصل.
وصلت ميرال بعد فترةٍ قصيرة، تحملُ طفلها بين ذراعيها، كانت عيناها تمشطانِ المكانَ تبحثُ عن متيَّمِ قلبها، ولكن توقَّفت عند أرسلان، الذي فتحَ ذراعيهِ فور رؤيتها وقال بابتسامةٍ واسعة:
"حبيب عمُّو جه!"
خطا نحوها وأخذَ الطفلَ بين ذراعيه برفق يلاعبهُ بحبٍّ صادق..أما ميرال، فوقفت في مكانها للحظات، تحدِّقُ بأرسلان بابتسامةٍ على تعلُّقهِ بيوسف، التفتت بعينيها نحو فريدة، وقع نظرها على يزن يراقبها بصمت..توقَّفت نظراتهما عند بعضها البعض، وكأنَّهما يعيشانِ حديثًا لم ينطق به أيٍّ منهما.
شعرت ميرال بفيضٍ من المشاعرِ المتضاربة، غضب، حزن، حيرة، وحتى شوقًا دفينًا لم تستطع إنكاره، حاولت أن تبدو ثابتة .. إلى أن كسرت الصمتَ بابتسامةٍ باهتة وجَّهتها إلى فريدة، قائلةً بصوتٍ منخفض:
"جبت لك يوسف يانَانَا"
ردَّت فريدة بابتسامةٍ حانيةٍ وهي تأخذُ الطفلَ بحبٍّ من أيدي أرسلان:
"حبيب نانا"
اقتربت ميرال من يزن، لم تكن تدركُ ما الذي يجبرُ قدماها على الاقترابِ منه، لكنَّها بسطت كفَّيها أمامه محاولةً أن تبدو متماسكة، رغم نبضاتِ قلبها المضطربة..ورسمت ابتسامةً باهتةً وقالت بصوتٍ خافت:
أهلًا يزن، أنا ميرال...معرفناش نتكلِّم يومها.
رفعَ يزن عينيهِ نحوها، وملامحهِ حملت مزيجًا من الحبِّ ، استنكرَ كفَّها واحتضنَ وجهها ثمَّ
تمتمَ بصوتٍ عميقٍ وهادئ:
هوَّ فيه أخت بتسلِّم على أخوها بالإيد كده؟
ارتبكت ملامحها، وارتفعت نظراتها المضطربةِ نحو أرسلان الذي أومأ لها، ثمَّ نظرت إلى فريدة التي وضعت يدها على كتفها:
- سلِّمي على أخوكي حبيبتي.
هزَّت ميرال رأسها ببطء..
-أيوه، واللهِ يا بنتي، دا أخوكي..حتى عمل تحليل من ورانا...ابنِ راجح الذكي.
قهقهَ أرسلان بصوتٍ عالٍ وهو يصفقُ بيديهِ ضاحكًا:
-حقيقي، اعتراف منِّي...معامل مصر كسبت من ورا الزنديق راجح! يارب ما أدخل المطبخ ألاقي حدِّ خارج من الحلَّة يقولِّي أنا ابنِ راجح.
أطلقت فريدة ضحكةً صغيرة، بينما اتَّسعت ابتسامةُ ميرال رغم دموعها، وهي تلتفتُ نحو يزن، الذي جذبها إليهِ يحتضنها بقوَّة.
انسابت دموعها بصمتٍ على كتفه، وهي تشعرُ بأحاسيسَ متضاربة بين الحنينِ والرهبة، حتى انتفضت على صوتٍ غاضب :
- إيه اللي بيحصل هنا؟
استدارَ الجميعُ على صوتِ إلياس واقفًا عند المدخل، يطالعهم بنظراتٍ مشتعلةٍ تنتقلُ بين يزن وميرال، وصلَ أمامها ينظرُ إليها بحدَّة وقالَ بلهجةٍ صارمة:
خرجتي من غير إذني ليه؟ دا تفاقنا..
حاولَ يزن التدخُّلَ واقتربَ خطوة، بابتسامةٍ لم تفارق وجههِ قائلاً:
-هيَّ جت تشوف أخوها ياإلياس، وبعدين دا بيت والدك..مش حدِّ غريب.
رمقهُ إلياس بنظرةٍ باردةٍ قبل أن يردَّ بصوتٍ حاد:
- هوَّ أنا طلبت منَّك تجاوب مكانها؟
جزَّ يزن على أسنانهِ وحاول السيطرة ليكتفى بتثبيتِ نظراتهِ الواثقةِ على إلياس، ثم اقتربَ من ميرال، وضعَ يدهِ على كتفها كأنَّهُ يثبت لإلياس أنه اخته نفسه..، حاولت ميرال التخفيف من حدة التوتر لتقول:
-بعد إذنك ياماما فريدة ممكن أخرج مع يزن شوية، لازم أتعرَّف عليه.
-لأ..قالها إلياس واتَّجهَ بنظرهِ الى إبنه..
-ابني مش هيروح مشاوير مع حد.
اقتربَ يزن من فريدة وحملَ طفلها بين ذراعيه، ثمَّ طبعَ قبلة على جبينهِ و قالَ بثقة:
- ابنك معاك...وأختي معايا، بعد إذنكم.
قالها وسحبها للخارج بخطواتٍ حازمة..
صرخَ إلياس خلفه، يحاولُ اللحاقَ بهما، لكن أرسلان أوقفهُ وهو يبتسم:
- ميرال محتاجة أخوها يا إلياس..خلِّيها تقرَّب منُّه.
توقَّفت ميرال في الخارجِ بجانبِ يزن، وهي تشعرُ بالخوفِ والتردُّد، تعلم إنها تسرعت و لكنَّها لم تستطع إنكارَ شعورِ الدفءِ الذي منحها يزن إيَّاها..نظرت إليه بابتسامةٍ صغيرة، قالت بصوتٍ متقطِّع:
- مش عارفة أقول إيه...بس حقيقي محتاجة أعرفك.
نظرَ إليها يزن بعينينِ مليئتينِ بالحبِّ والأمل قائلاً:
-وأنا كمان بس عايز أكِّدلك هكون جنبك في أيِّ وقت، التفتَ إلى بابِ الفيلا قائلًا:
-شكل حضرةِ الظابط بيغير، لازم نهرب قبلِ مايوصلِّنا..ابتسمت وتحرَّكت إلى أن توقَّفَ أمام دراجتهِ البخارية:
-معنديش عربية سبور زيِّ جوزك، بس عندي دي تنفع؟..
فركت يديها تنظرُ إليه بسعادةٍ وكأنَّ الله أرسلَ إليها عوضَ أيَّامِ كسرها وحزنها، أومأت بابتسامة ...
.. قاطعت شرودها الخادمة، قائلةً بخفوت:
-مدام..أرسلان بيه ومدامته تحت.
أومأت لها وأشارت إليها بالخروجِ قائلة:
-شوية نازلة، روحي إنتي وابعتي هانيا ليوسف.
-حاضر يامدام ..بالأسفلِ عند أرسلان
خطا إلى الداخلِ بخطواتٍ واثقة، عيناهُ تتفحصانِ المكانِ بعناية، اتَّجهَ إلى الصالونِ الذي يحملُ عبقَ الفخامةِ والهدوء، أخرجَ سيجارةً من جيبهِ وأشعلها، ينفثُ دخانها..ابتسمَ بخبثٍ وهو يقتربُ من إحدى الكاميرات، يحدِّقُ فيها، قاطعهُ صوتَ خطواتٍ ناعمةٍ على الدرج..استدارَ أرسلان ليجدها تقتربُ منه بخطواتها الهادئةِ ووجهها يشعُّ دفئًا وحنانًا، ابتسمَ لها بعفويةٍ قائلًا:
"هلِّ هلالك يا جميل..."
رفعت ميرال حاجبيها بمزاحٍ وهي ترد:
أخدت عليَّا بسرعة يا سيادةِ الظابط المتسلِّط.
ضحكَ بمرح، ثمَّ مدَّ يدهِ بخفَّةٍ إلى كفَّيها، وجذبها نحوهِ بحركةٍ مفاجئة..أدارها وكأنَّهما يرقصانِ على موسيقى خفية، بينما يعلِّقُ بابتسامةٍ لا تخلو من الإعجاب والمكر:
إيه الجمال ده يا ميرو؟ لا لا، أنا غيران عليكي من البأفِ أخويا، معرفشِ متجوِّزاه ليه، كانت غرام تراقبُ المشهدَ من بعيد، عيناها تفيضُ بمشاعرَ مختلطةٍ بين الحزنِ والغيرة..قلبها كان يصرخ، لكنَّها كبحت صوتهِ بداخلها..تقدَّمت ببطءٍ وخطواتٍ مثقلةٍ بما لا تستطيعُ البوحَ به من تجاهلهِ وقالت بهدوءٍ حاولت أن تجعلهُ طبيعيًا:
إزيك يا ميرال؟
استدارت ميرال مبتسمةً على الفور، وضمَّتها بحرارةِ الترحيب:
أهلا حبيبتي! إزيك؟ وحشتيني.
وقعت عيناها نحو ملك، التي كانت تقفُ بجانبِ أرسلان، وملامحُ الخجلِ تزيِّنُ وجهها..أشارت ميرال إليها باهتمام:
مين الجميلة دي؟
تحرَّكَ أرسلان نحوها بحماس،و أمسكَ كفَّها بحنانٍ وأردفَ بابتسامةٍ واسعة:
- دي ملاكي الصغير...ملوكة قلبي، أولى جامعة سياسة واقتصاد، الجامعة البريطانية..مش كدا يابتِّ ياملوكة!
ابتسمت ميرال وهي تشيرُ إلى أرسلان بمزاحٍ رقيق:
إزاي ده أخوكي؟ شكلك كيوت أوي... وهو...
قاطعَ حديثهم صوتُ غادة وهي تدخلُ بصخب، يتبعها إسلام وهو يردفُ بروحِ المزاح:
- أنا جييييت يا ميرو، أنا جيت يابت..
استدارَ أرسلان ببطءٍ نحو إسلام، وطالعهُ بنظرةٍ حادَّةٍ ومليئةٍ بالسخرية:
-جالنا حرامي الغسيل أهو، ناقص يزن، وإلياس يزرع قنبلة فينا
ردَّ إسلام بضحكةٍ ساخرة، وهو ينظرُ إليه نظرةَ تحدٍّ:
أهلًا، هوَّ إنتَ هنا؟ كنت بقول الدنيا حرّ ليه..انا لو مكانه هطخك عيارين انت والبارد التاني
لكن فجأة، توقَّفَ إسلام عن الكلام، عندما تعلَّقت عيناه بملك، وكأنَّهُ رأى شيئًا خارجًا عن المألوف..رمقها بنظرةٍ طويلةٍ قبل أن يقولَ بدهشة:
- مين حورية البحر دي؟
تحرَّكَ أرسلان بسرعة، وكأنَّهُ يحمي ملك من نظراتِ إسلام، فطوَّقها بذراعه، مشيرًا نحو إسلام برأسهِ بنبرةٍ صارمة:
- ابعد ياله عينَك عليها؟ دي ملاكي أنا.
رفعَ إسلام حاجبهِ بابتسامةٍ متهكِّمة:
- أومال فين حبيب الروح اللي كنت قارفنا بقصِّة عشقكم؟
هنا شعرت غرام وكأنَّ كلماتَ إسلام طعنةٌ كسهمٍ أطلقهُ أرسلان بلا مبالاة. تراجعت بخطواتٍ بطيئةٍ إلى الحديقة، عندما شعرت بقلبها لم يعد يحتمل..
جلست على مقعدٍ خشبيٍّ وسط الزهور، يدها تمسحُ دمعةً خانتها رغمًا عنها.. نظرت إلى السماءِ تهمسُ لنفسها بصوتٍ مكسور:
-كدا ياأرسلان هونت عليك..قالتها وقلبها يئنُّ بصمت، استمعت إلى صوتِ ضحكاتهِ بالداخل، لتغمضَ عينيها وهي تشعرُ بانسحابِ أنفاسها، دقائقَ مع نفسها المكلومة حتى شعرت به يطوِّقُ جسدها حينما جلسَ بجوارها يجذبها لصدرهِ بحنان
-حبيبي بلاش الكلام اللي قولتيه تاني، هزعل منِّك بجد، ملك أختي ياغرام، ومستحيل أتخلَّى عنها، ومش عايز حاجة تحسِّسها إنِّي هبعد عنها، مالهاش غيري...رفعت عينيها التي تلألأت بنجومها مردفةً بصوتٍ مختلطٍ بالبكاء:
-أنا بغير عليك ياأرسلان، مش حقِّي أغير..احتضنَ وجهها وطبعَ قبلةً حنونةً فوق جبينها:
-أنا ملكك، يعني مالوش لازمة الغيرة، عايزك تحبِّيني وبس، تغيري لو إنتِ مش مالية عيوني، لكن إنتِ مالية قلبي وحياتي كلَّها ياحبيبي..انحنى وطبعَ قبلةً على وجنتيها وهمسً بنبرةٍ مثيرة:
"بحبِّك ياروح أرسلان، وبدل قولت الكلمتين دول، تأكَّدي حتى لو شوفتيني وسط أسطول سيدات مفيش ستُّ هتهزِّ عرشي غيرك، تمام حبيبتي..
لمست وجنتيهِ واقتربت تطبعُ قبلةً بجوارِ شفتيه:
"بحبَّك" توسَّعت عيناهُ بذهولٍ وتجمَّدَ جسدهِ قائلًا:
-أقسم بالله إنتِ مش طبيعية، وضعَ كفَّيهِ على جبينها:
-حبيبتي إنتِ مالك بقالك فترة وحاسِّك سخنة، دفنت رأسها بصدرهِ وفجأةً بكت بشهقاتٍ لا تعلمُ مالذي أصابها..وصلت ميرال إليهم متمتمة:
-جايين ليَّا ولَّا تقعدوا مع بعض، لم يستمع إلى حديثِ ميرال، كان كلِّ اهتمامهِ بزوجتهِ وحالتها، أزالت دموعها ونهضت قائلةً وهي تنظرُ إلى ميرال:
-آسفة حبيبتي حسيت عايزة أشمِّ هوا.
سحبتها ميرال وتحرَّكت للداخلِ بخروجِ إسلام إلى أرسلان..
بمنزلِ يزن:
جلسَ على طرفِ فراشِ أخته، ينظرُ إليها بعينينِ مليئتينِ بالحزنِ والأسى، وهي تقصُّ له أحلامها المنزعجة، مرَّرَ أصابعهِ ببطءٍ على خصلاتِ شعرها كأنَّهُ يحاولُ أن يمسحَ بأطرافها ألمَ الساعاتِ القاسية التي مرَّت بها، رفعَ كفَّيها المرتجفينِ وطبعَ قبلةً طويلةً فوقهما، وتمتمَ بصوتٍ منخفضٍ كهمسة حانية:
"نامي دلوقتي وارتاحي...مش عايزك تفكَّري في أيِّ حاجة."
تشبَّثت بكفَّيهِ بقوَّةٍ و عيناها المحتجزتان بالدموعِ تحملانِ من الخوفِ مايجعلُ جسدها ينتفض:
"يزن...متسبنيش...أنا خايفة...خايفة أوي!"
انحنى بجسدهِ نحوها، وهمسَ بصوتٍ دافئ:
"حبيبتي... أنا هنا، مش هسيبك أبدًا. رحيل جاية تشوفك وهتفضل معاكي لحدِّ ما أرجع..فيه حاجة مهمَّة لازم أعملها، لازم أقفل المحضر."
هزَّت رأسها بعصبيةٍ وتمتمت بخوف:
"يزن، أرجوك...وحياتي، متروحش..دول مجرمين هيئذوك"
ربتَ على كتفها برفق، وحاولَ طمأنتها بكلماتٍ حانية، قاطعهم دلوفُ راحيل قائلة:
"عاملة إيه دلوقتي؟"
توقَّفَ يزن عند الباب، يشيرُ إلى رحيل :
"خليكي معاها..أنا رايح أشوف الظابط عايز أقوالها، وأنا مش هسمح إنَّها تروح هناك..هروح أسحب الشكوى، وأقول إنَّها كانت عند صديقتها."
نظرت رحيل إليه بعينينِ مليئتينِ بالتردُّد:
"إيه الكلام ده؟ إنتَ مجنون؟!"
لازم تاخد حقِّ أختك، عجبك حالتها كدا، بقالها اسبوع وهي كدا، ولكنَّهُ استدارَ مبتعدًا..ركضت خلفهِ تمسكُ بذراعه، وكلماتها تتعثَّرُ بين القلقِ والغضب:
"يزن...هتروح فين؟ المحامي في الطريق، وكلِّ حاجة لازم تتعمل الليلة قبل ما راجح يخرج..ما تتهورش، سيب القضية شغَّالة، من إمتى وإنتَ ضعيف كدا!"
أشارَ بيدهِ نحو غرفةِ أخته، صوتهِ صار أكثرَ حدَّةٍ وكأنَّهُ يحاربُ داخلَ نفسه:
"خليكي معاها..أنا هخلَّص اللي لازم يتعمل، اتصلت بالمأذون، وكريم هيجيبه، ما تسبهاش مهما حصل، لحدِّ ما أرجع...مفهوم، كلِّ حاجة بأوانها يارحيل.
في اليومِ التالي عند إلياس، وخاصَّةً في مكتبِ جاسر الألفي:
جلس إلياس على كرسيه، يحتسي قهوتهِ بهدوءٍ مريب، وكأنَّهُ ملكٌ أُعلنَ انتصارهِ حديثًا..عيناهُ تشعَّانِ بثقة، شفتاهُ ترتسمُ عليهما ابتسامةٍ مليئةٍ بالسخرية..حينما دخلَ راجح بخطواتٍ مثقلة، تكسوها رهبةً خفيَّة، لم يرفع عينيهِ على الفور، وكأنَّهُ يُمتِّعُ نفسهِ بلحظةٍ انتظرها طويلاً..
رفعَ راجح عينيهِ نحو الضابط بتوتر، وخرجت كلماتهِ بحدَّةٍ ممزوجةٍ بالعجز:
"أنا مش عايز أقابل حد."
نهضَ إلياس من مكانه، بخطواتٍ واثقةٍ يقتربُ منه، وكالأسدِ الذي يهوى اللعبَ بفريسته:
"تُؤ، يا راجح...إزاي مش عايز الزيارة؟ دا أنا من الفجر بلفّ على المخابز والسوبر ماركت، أجيب لك عيش وحلاوة، أهو!"
اقتربَ راجح أكثر، وصدرهِ يغلي بالغضب، ونطقَ بكلماتٍ كطلقاتِ تحذير:
"ما تفتكرشِ إنَّك كسبت، ياابنِ جمال... ورحمة أبوك، لأخرج لك، وساعتها هعرَّفك مقامك!"
ضحكَ إلياس بصوتٍ عال، صوتًا يحملُ كلَّ التحدي والغرور، وهو يشيرُ نحو الضابط:
"سجِّل، أهو يا جاسر باشا...بيهدِّدني، في أرضِ الحكومة!"
توسَّعت عينا راجح، يحاولُ استيعابَ الموقف، يهزُّ رأسهِ متلعثمًا:
"لا يا باشا، دا كلام بس..أنا ما..."
قاطعهُ جاسر بابتسامةٍ ساخرةٍ وهو يهمُّ بالخروج:
"أنا برَّة علشان تاخدوا راحتكم."
لكن راجح اعترضَ بنبرةٍ عصبية:
"ليه بتحسِّسني إنَّك هتسيبني مع مراتي؟ أنا عايز أرجع الزنزانة."
دفعهُ إلياس بيدٍ قويَّة، حتى هوى على المقعدِ خلفه..واقتربَ منهُ بخطوةٍ حاسمة، ورفعَ سبَّابتهِ مشيرًا إليهِ بقسوة:
"اقعد...لحدِّ ما أخلَّص كلامي…دا أنا مكلِّف نفسي وجايبلك زيارة مخصوص."
رفعَ كيسًا بلاستيكيًا أسودًا، يلوِّحُ به وكأنَّهُ يحملُ بداخلهِ مفاجأةً لا تُحمدُ عُقباها:
"مش جاي فاضي يا راجح...دا أنا جاي أقدِّم لك برائتك..
رفعَ عينيهِ بثقلً وابتسمَ بسخريةٍ مشوبةٍ بالاستفزاز، ثمَّ قالَ بصوتٍ خفيضٍ يكادُ يقطرُ تهكُّمًا:
– لو هتعدم، مش عايز مساعدتك ياابنِ جمال.
مطَّ إلياس شفتيه، وتحرَّكَ في الغرفةِ بخطواتٍ واثقة؛ يدورُ حولهِ كالصقرِ وهو يضعُ يدهِ على ذقنهِ وكأنَّهُ يتأمَّلُ كلماتهِ باستهزاءٍ خفِّي..فجأة، توقَّفَ وجذبَ مقعدًا، جلسَ عليه بثقةٍ وألقى بساقٍ فوق الأخرى..انحنى للأمامِ قليلاً، وصوتهِ يخرجُ مزيجًا من البرودِ والتهكُّم:
– طيب، مش تفتح الشنطة
وتشوف زيارتي يا راجح؟..
وبعدها تبقى تتكلِّم.
تراجعَ راجح في مقعده، كأنَّما يريدُ خلقَ مسافةٍ وهميةٍ يرسمُ لنفسهِ مكانة، ثمَّ انعقدَ حاجبيهِ بغضبٍ مكبوت..تحدَّثَ بصوتٍ متحشرجٍ كمن يحاولُ لملمةَ شظايا كبريائه:
– عارف أنا زعلت عليك لمَّا اتخطفت؟ عارف ليه؟ أصلي ما كنتش عارف بمخطَّط رانيا إلَّا لمَّا مصطفى الحقير، لفَّق لي قضية قذرة، سجنوني وخرَّجوني من شغلي وأنا شريف..شريف ياابنِ جمال..
صمتَ لحظة، ثمَّ تابعَ بصوتٍ أكثرُ قسوة:
– كنت فاكر إنِّ القانون هينصفني، لكن طلعت غلطان..ومن يومها وأنا بحارب الدنيا بدراعي..ولسه حساب مصطفى جاي، ما تفكرشِ إنَّك أو أمَّك أو حتى مصطفى هتفضلوا بعيد عنِّي..يومين بس وهطلع من هنا، وهطلعلكم كلُّكم.
احتدَّت ملامحهِ فجأة، وارتفعَ صوتهِ كأنَّهُ يريدُ استفزازه:
– بس وحياة رحمة أبوك، لو كنت أعرف إنُّه كان ورا كلِّ ده، كنت دفنته يوم ما بعت له ناس يخوِّفوه علشان يطلَّق فريدة، وقتها الرصاصة ما خرجتش، بس أوعدك، ياإلياس، المرَّة الجاية...
لم يُكمل جملته، حتى انقضَّ عليه إلياس كالإعصار، ممسكًا بياقةِ قميصهِ بشدةٍ جعلت أزرارهِ تتناثرُ على الأرض..وعيناه جمرتينِ مشتعلةٍ بنيرانِ الغضبِ، وهدرَ بصوتِ فحيحٍ أعمى اخترقَ أذنيه:
– قرَّب منُّه تاني يا راجح، وشوف أنا هعمل إيه..ورحمة أبويا اللي ما شفتش منُّه غير قبره، هحفر قبر مخصوص ليك وأدفنك حيّ فيه فاهمني؟
حاولَا راجح أن يتنفَّسَ بصعوبة تحت قبضته، ولم ينبس ببنتِ شفة..زادت حدَّةُ صوتِ إلياس كالسيفِ الذي يقطعُ الهواءَ قائلًا:
– قدَّامك مثلث مرعب يا راجح..أولهم أمِّي..ودي نظرة منَّك بالغلط ليها، هخليك تندم إنَّك اتولدت..تانيهم مراتي وابني.الدنيا كلَّها في كفَّة، وهمَّا الاتنين في كفَّة، والتالت أبويا وأخويا..لو فكَّرت بس تقرَّب من اسمهم، هقرقشك بأسناني قبل ما أرميك لأسد جعان ينهش فيك.
دفعهُ بقوَّة، فسقطَ راجح على الأرضِ مع المقعدِ الذي انقلبَ من تحته..وقفَ إلياس مستقيمًا، وبدا كأنَّهُ يستعيدُ هدوءهِ في لحظةٍ ثم نظرَ إليه باحتقارٍ وقال بنبرةٍ حادَّة:
– لو بإيدي أغيَّر دمِّنا اللي بيجري في عروقنا، كنت عملتها..ولو بإيدي أعلَّقك في ميادين مصر عشان تكون عبرة، ما كنتش هتأخَّر لحظة.
دار حولهِ ببطءٍ كصيَّادٍ يتلاعبُ بفريسته، ثمَّ انحنى فجأةً وأمسكَ بتلابيبهِ ليجبرهُ على الوقوف..دفعهُ بعنفٍ نحو الكيسِ الأسود، ثمَّ فتحهُ وأفرغَ محتوياتهِ على الأرض..تساقطت أقراصٌ مدمجةٌ وصورٌ بائسة، تكشفُ عن حياتهِ القذرة.
ارتعشت عينا راجح للحظةٍ وهو ينظرُ إلى الملقاةِ على الأرض، ثمَّ رفعَ رأسهِ ببطء، يتظاهرُ بالقوَّة، لكن صوتهِ خرجَ متحشرجًا:
– عايز إيه ياابنِ جمال؟
جلسَ إلياس على المقعدِ ببرود، وأشعلَ سيجارته، ينفثُ دخانها ببطءٍ وقال بهدوءٍ قاتل:
– الورق اللي اتسرق من مكتبي..كلِّ اللي كان على الجهاز، وتقولِّي مين اللي دخل وأنا مش موجود.
أطفأ سيجارتهِ فجأةً على حافَّةِ الطاولة، ثمَّ انحنى نحوهِ ليهمسَ بصوتٍ خفيضٍ كالسيف:
– مين الخاين اللي عندي يا راجح؟ وعد منِّي لو جبت لي الحقيقة ومعاها المستندات، هتنازل عن القضية.
ابتسمَ راجح بسخريةٍ واهية، محاولًا التمسَّكَ بآخرِ خيوطِ كبريائه:
– ولو رفضت؟
أشار إلياس ببرود إلى الأقراصِ الملقاةِ على الأرض، ثمَّ نظرَ إليهِ وقال بضحكةٍ لا تخلو من الاحتقار:
– دا لو كنت لوحدك يا راجح..لكن معاك مراتك النجسة دي، اللي علِّمتك القرف كلُّه..يااأخي حتى في الزبالة طلعت فنان...إعدام ياراجح، دي خيانة وارهاب، همس له وقتل قادة
اقتربَ منه بخطواتٍ ثقيلة، وصوتهِ يتسلَّلُ كالنصلِ البارد في الظلام:
– أنا مش هنا بساومك..أنا هنا أفكَّرك إنَّك في ملعب الكبير..لو الروس دول عرفوا حقارتك مع نسوانهم شوف هيعملوا فيك إيه، نظرَ إليه بعينينِ خاوية واستطردَ دون نقاش:
-أولًا تنازل منَّك عن علاقتك بميرال، ثانيًا ترجَّع اللي سرقته من مكتبي، ثالثًا ودا الأهم تنزِّل خبر حلو منَّك كدا على الكلام اللي قولته للصحفيين إنِّ ميرال بتكون بنتك المخطوفة من سنين، بلاش تلعب معايا ياراجح علشان هطفَّحك الدم، وفيه مفاجأة هتعجبك بس لمَّا تخرج.
-أنا معرفشِ مين الخاين في مكتبك، واحد بس اللي يعرف، لو مش مصدَّق إنتَ حر، عايز الورق بكرة يكون عندك والأصل وكلِّ حاجة، تكذيب خاص بميرال وقت مااخرج، فيه حاجة تانية ياإلياس باشا..
اقتربَ منه يهزُّ رأسهِ قائلًا:
-أه..عايز أعمل كدا..قالها وهو يدفعهُ بقوَّةٍ على الحائطِ لتُصدمَ رأسهِ بحافَّةِ الجدارِ حتى صرخَ متأوِّهًا بدخولِ جاسر مفزوعًا، نظر جاسر إلى راجح يهزُّ رأسهِ رافضًا مافعله:
-دا اتفاقنا ياإلياس..نفضَ كفَّيهِ كأنَّهُ لمسَ شيئًا بذيئًا، وأشارَ عليه:
-عايزه انفراد لو سمحت، لحدِّ ما يجيب الحاجات اللي سرقها، خلِّيه يتواصل قبل جلسة بكرة، والمحامي هيكون هنا على ساعتين كدا، اتَّجهَ إلى ذلك الكيسِ الملقى على الأرضيةِ، وجذبَ منهُ شيئًا من فوقِ الأرضِ ثمَّ اقتربَ منهُ وانحنى يستندُ على ركبتيه:
-ألف سلامة عليك ياراجح، رفعَ مابيدهِ أمامه وابتسمَ ساخرًا:
-شايف دي، أنا حبِّيت أقدمها لك هدية، رفعَ رأسهِ إلى جاسر وقال:
-ممتنّ لحضرتك ياجاسر باشا، صورة تذكارية وحياة راجح عندك علشان تكون تذكار حلو.
ضيَّقَ جاسر عينيهِ جاهلًا حديثه، اقتربَ بعدما أخرجَ هاتفهِ وبسطَ يدهِ إليه:
-صورة ياجاسر باشا تذكار من راجح بيه..وقعت أعينُ جاسر على تلك التي يحملها بين أناملهِ فقطبَ جبينهِ متسائلًا:
-ايه دا ياإلياس؟..رفعها بضحكاتٍ مرتفعةٍ وتمتمَ بسخرية:
-شهادة تقدير منِّي لراجح باشا على إنجازه معنا، أومااال دا تعب هوَّ والمدام علشان يوصَّلونا لأماكن مرموقة، جذبهُ من عنقهِ كاللصِّ وحاوطَ أكتافهِ قائلًا:
-اضحك ياراجح علشان الصورة تطلع حلوة، بعدما ألبسه طرحة من اللون الأحمر، مع خلعه لقميصه، ليظل بثيابه الداخلية، حدجه بنظرة مستمتعة، وغمز إلى راجح
-اضحك علشان الصورة تطلع حلوة، ثم ألتفت إلى جاسر، ماتصوَّر ياباشا علشان مصر كلَّها تعرف إن راجح اتكرَّم منِّي بشهادة تقدير.
بفيلا السيوفي..
نهضت بعدما أنهت صلاتها، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها، دلفت الخادمة إليها:
-مدام فريدة فيه واحد اسمه زين تحت.
-زين..ردَّدتها بخفوت، ثمَّ توقَّفت متَّجهةً للأسفل تسألُ الخادمة قائلة:
-مش قالِّك زين إيه؟..
بمنزلِ رؤى..
استمعت إلى رنينِ الباب، فشعرت بشيءٍ غريبٍ في قلبها، توجَّهت نحو المرآةِ بعينينِ متوترتين، ثمَّ نظرت إلى الخادمةِ وقالت بصوتٍ حاد، لكن محمَّلًا بالقلق:
استني، أنا هفتح..قالتها وتحرَّكت نحو الباب، ابتسامتها لا تُخفي التوترَ الذي يعصفُ بقلبها..حين فتحته، دخل إلياس دون أن يعيرها أيِّ اهتمام، كانت خطواتهِ ثقيلةً وكأنَّها تدقُّ في صدرها..التفتَ حولها وعيونهِ تُحدِّقانِ في كلِّ مكان؛ وكأنَّما يبحثُ عن شيء ثمَّ تمتمَ بصوتٍ منخفض:
اجهزي، هاخدك مشوار..قطبت جبينها، قلبها ينبضُ بسرعةٍ ونظرتها مليئةً بالقلق:
هنروح فين؟ نظرَ إلى ساعتهِ بنظرةٍ قاطعة، ثمَّ رفعَ نظرهِ إليها نظرةً جافَّةً تمامًا:
هترغي كتير أنا مش فاضي، خلَّصي وأنا هستناكي بعربيتي، ثمَّ تحرَّكَ مغادرًا، خطواته كانت كالعواصفِ في ذهنها، بعد فترةٍ توقَّفت السيارةُ أمام حديقةِ منزلِ ميرال، وعيناها تتبعانهُ في صمتٍ شديد، شحُبَ وجهها و همست بصوتٍ مختنق:
:- إنتَ جايبنا عند ميرال ليه؟! ترجَّلَ من السيارةِ وعينيهِ تتَّسمُ بالبرود، ثمَّ أشارَ إليها بعنف:
انزلي، مش عايز أسمع كلام كتير..دقائقَ قليلة وكانا داخلَ المنزل، اقتربت الخادمةُ منهم بخطواتٍ حذرة:
المدام نازلة ياباشا، بتنيِّم البيه الصغير.
أشارَ إلي رؤى بنظرةٍ غامضة:
هطلع أشوف ابني، ومراتي، دنا يهمسُ لها بنبرةٍ خطرة:
-ميرال مش مراتي بس، دي النفس اللي بتنفِّسه، عارفة لو نظرة بس وجعتها.. صدَّقيني هتتمنِّي الموت، قالها وتحرَّكَ بعض الخطواتِ ثمَّ التفتَ إليها:
-لو اتحرَّكتي من مكانك هجيبك، وماتلوميش غير نفسك.
صعدَ درجاتُ السلمِ بخطواتهِ السريعة، ودقَّاتهِ العنيفة، يريدُ رؤيتها بقوَّة، لايعلم إذا كان سيعاقبها على خروجها مع يزن، وضحكاتها وقربها من أرسلان بتلك الطريقة، أم يضمُّها لأحضانه، يشبعُ روحهِ الغائبةِ بها، أسئلة كادت أن تطيحَ بقلبه، كيف وصلت وتسلَّلت إليه حتى أصبحت الحياةُ والموت بنفسِ الوقت، فتحَ البابَ فجأةً ليصطدمَ بخروجها، تلاقت أعينهم للحظاتٍ ليعجزَ كلاهما عن التعبيرِ عن ما بداخلهما:
- إلياس، بتعمل إيه هنا؟ أنا نازلة، دفعها إلى الداخلِ بقوَّة،، ثمَّ هدرَ بصوتهِ العميقِ حتى يخرجَ من لحظةِ اشتياقه لها:
- ليه مابترديش على تليفونك؟ تنهَّدت بصعوبةٍ شديدةٍ تحملُ عبئًا لا يُطاق، ثمَّ رفعت عينيها إليه تطالعهُ بعينينِ مليئتينِ بالحزنِ واللومِ والاشتياق:
وأنا مش عايزة أكلِّمك..مش شرط كلِّ مرَّة تتِّصل فيها أرد عليك..لفَّ ذراعيهِ حول خصرها بقوَّة، كما لو كان يحاولُ أن يخنقَ كلماتها قبل أن تخرج، همسَ بفحيحٍ يخفي وراءهِ اشتياقهِ الكامنِ بضرباتِ قلبهِ المرتفعة:
- أنا خلقي ضيِّق يابنتِ فريدة، متخلينيش أفقد أعصابي عليكي..شهرين عدُّوا وإحنا في أشهرِ الحرم، متخلينيش أرتكب جريمة فيهم..تهكَّمت على كلماته، ثمَّ تمتمت بسخريةٍ مدمِّرة، وهتفت بصوتٍ يخرجُ بمرارةٍ لا تُوصف:
- وإنتَ بيفرق معاك أشهر حرم ولَّا غيره؟ دا لو رايح تحج وقالولك اقتل عدوَّك مش هتسكت..لوى فمهِ بابتسامةٍ ساخرة:
- تصدَّقي صح..وأهو داخلين على رمضان، يبقى أطلَّع عليكي صدقة.
-صدقة ياإلياس..نغزهُ قلبهِ من كلماتها وأفعالها..
-مش أنا اللي وصَّلتك لكدا.
-ولا أنا يابنِ عمِّي..قاطعهم طرقاتُ الخادمة:
- الباشمهندس يزن تحت يا مدام.
التفتَ إليها، يتسائلُ بدهشة:
- مين؟
يزن جه إمبارح وأنا مكنتش موجودة، أكيد جه يطمِّن عليَّا وعلى يوسف.
- أيوة صح، لازم يطَّمن على يوسف..طيب انزلي اطمِّني على أختك، رؤى تحت، اتعاملوا مع بعض.
قالها وهو يدلفُ للداخل، أمسكت ذراعهِ بشدَّة، وكأنَّها تمنعهُ من الدخول
بصوتٍ مليءٍ بالألم:
- إنتَ رايح فين؟ أشارَ إلى الغرفةِ بنظرةٍ قاسية:
هنام شوية، لمَّا تخلصوا المسرحية بتاعتكم يا أولاد راجح.
نظرت إليه بعينينِ غاضبتين، ثمَّ هتفت بصوتٍ يختنقُ من الغضب:
- تنام فين؟ دا بيتي وسريري..إنتَ مجنون! امشي اطلع برَّة، مش معنى إنِّي بخلِّيك تشوف ابنك يبقى هتدخل براحتك. جذبها من كنزتها الحريريةِ بقوَّة، حتى تطايرت أزرارها وكادت أن تتمزَّق، لم يشعر بنفسهِ وهو يدفعها للداخل، بعينيهِ المشتعلة:
- كنتِ بتقولي إيه؟ سمَّعيني كده.
اقتربت منه غضبها يشتعلُ أكثر فأكثر، دفعتهُ بعنفٍ وعيناها مليئةً بالغيرة:
-"جاي ليه؟ روح اتجوِّز، إنتَ مش عايز تتجوِّز، يا اللي رسمت لي القمر والشمس، وقلت أشعار في الحب..يا كذاب، إنتَ واحد كذاب ياإلياس!"
كانت كلماتها أشبهُ بسياطٍ جلدتهُ بها بلا رحمة، لكنَّها لم تكن سوى لألمٍ عميقٍ سكنَ قلبها، ارتجفَ صوتها مع عيناها وهي تطالعهُ غاضبة، غضبها الذي لم يكن إلَّا غطاءً هشًّا لشوقٍ قاتلٍ وحبٍّ حُكمَ عليه بالموت.
اقتربَ منها كعاصفةٍ مكبوتة، أراد أن يصرخَ بها، أن ترحمَ ضعفهِ وكبريائهِ الذي أصبحَ هشًّا أمامها، ورغمَ ذلك صاح:
"اخرسي!" قالها و داخلهِ بركانًا ثائرًا، من مشاعرَ لم يعد يستطيعُ السيطرةَ عليها، وألمٍ بقلبهِ أشدَّ من أن يتحمَّله..
-أخرس!! مش دي الحقيقة، لكمتهُ بصدرهِ بقوَّةٍ متناسيةً أمرَ كنزتها التي فُتحت بالكاملِ أمام عينيه، ناهيك عن خصلاتها التي غطَّت وجهها من كثرةِ انفعالاتها وبدأت تبكي بانهيار.
-بتقولي هتجوِّز، ماصدَّقت قولت لك كلمتين من ضيقي، يابتاع الحبِّ ياكذاب.
كفى لقد طفحَ ِكيله وضَعُفت استغاثةَ قلبه، فلم يعد لديهِ قدرةً على التحمُّل.
في لحظةٍ غير مدركًا فعلته، جذبها إليهِ بعنفٍ وقبل أن تبتعد، وجدَ نفسهِ يلتهمُ شفتيها في قبلةٍ لم تكن مجرَّدُ لمسة، بل كانت عاصفةٌ اجتاحت كيانهما معًا.
لم يكن في تلك القبلة سوى الحقيقة، حقيقةُ أن يثبتَ لها وله أنَّ حبَّها يسكنُ أعماقه..
ارتجفَ جسدها كزهرةٍ في مهبِّ الريح، حاولت التمسُّكَ بما تبقَّى من كبريائها؛ لكن سيطرتهِ بدفءِ أنفاسهِ من قبلتهِ الهالكةِ وكلماتهِ غيرُ المعلنةِ جعلها تنهارُ بين ذراعيه، ولم تشعر وهي تحيطُ عنقه، تثبتُ له أنَّها لا تريدُ الابتعاد.
نسيت كلَّ شيء، كلَّ كلماتها الجارحة، كلَّ عتابها، كلَّ لحظةٍ شعرت فيها بالخذلان.. لم يتبقَ في هذه اللحظة سوى شعورٍ واحد..أنَّها بين يدي عشقها.
رئتاها استسلمتا قبل جسدها، وأنفاسها تسارعت حتى شعرت أنَّها سُلبت منها.. شعرَ بانهيارها بين يديه، فابتعدَ فجأة، رغم احتياجهِ الكاملِ لبقائها.
تراجعت بأنفاسها المتقطِّعة، هنا شعرت وكأنَّها بين الحياةِ والموت، أغمضت عيناها بضعف، لا تريدُ أن تُسلبَ لحظاتها الجميلة.
أمَّا هو، فقد استدارَ عنها، عازمًا على كبحِ هذا الشوقِ الذي كاد أن يلتهمه..بدأ يسبُّ نفسهِ على ضعفهِ وانهيارهِ أمامها، حاولَ الثباتَ وهتفَ وكأنَّ شيئًا لم يكن قائلًا:
"غيَّري وانزلي تحت" قالها بصوتٍ قاسٍ، لكنَّهُ كان يُخفي خلف كلماتهِ مشاعرَ لا حصرَ لها، أكملَ بجفاء:"ولمِّي شعرك مش عايزه مفرود قدَّام حد مهما كانت صلةِ القرابة، وإياكِ تقربي من يزن وارسلان واسلام!"
كلماتهِ اخترقت نعيمَ قلبها السعيد بسعادة من غيرته المجنونة..ورغم ذلك لم تجبه، استدارت ببطءٍ نحو غرفةِ الملابس، خطواتها متثاقلةً تتمنَّى أن يغفرَ لها ولكن ليست الأماني بالتمنِّي.
دلفت للداخل، وقفت أمام المرآة، مدَّت يدها إلى خصلاتِ شعرها التي كانت مفرودةٌ كستارٍ من الحريرِ على كتفيها.. مرَّرت أصابعها بخفَّةٍ على شفتيها وكلَّ ماوصلَ إليها منذ قليل..أغمضت عينيها تحاولُ استرجاعَ ماشعرت به، تذكَّرت حرارةَ أنفاسه، وارتعاشةَ قلبهِ التي شعرت بها، ابتسامةٌ لعوب تجلَّت بملامحها، لترفعَ أناملها على شفتيها تهمسُ لنفسها:
-لو مش خلِّيتك تركع قدَّامي يابنِ عمِّي مااستهلشِ نظرة عينيك..فحصت فساتينها، ضغطت على شفتيها مبتسمةً ثمَّ أخرجت أحدهم، وأقسمت حواء لتزيق آدم نيران الغيرة، تذكرت ذاك اليوم الذي انتزع فستانها، ارتدت فستانًا شبيهًا له، باللون الأسود، ولكنه رسم جسدها ليجعلها أيقونة ينحني أمامها القديس الذي يمتنع عن نعيم الحياة، وضعت أحمر شفاه يجذب الأعين كما تجذب الزهور الفراشات..ابتسمت برضا، ثم فردت خصلاتها لتنساب فوق أكتافها العارية، وحاوطتها على عنقها، لتخفي صدرها المفتوح إلى حد ما..توقفت تنظر لنفسها وابتسمت تردد
-هشوف ياحضرة الظابط أنا ولا إنت
بالخارجِ بعد دخولها بقيَ في مكانه، عيناهُ معلَّقتانِ بالبابِ الذي أغلقتهُ خلفها..أرادَ أن يقتحمَ الغرفة، أن يحتضنها مرَّةً أخرى، أن يتركَ نفسهِ لعاصفةِ مشاعرهِ دون قيود، لكنَّهُ رغم ذلك وقف يئنُّ بصمتٍ وصوتُ عقلهِ يوبِّخهُ على ضعفه: "إلى متى؟ إلى متى ستظلَّ أسيرًا لها؟" لكنَّ قلبهِ كان يجيبهُ بسخرية: "حتى تنتهي كلمةُ البعدِ من قاموسِ الأبجدية، تهكَّمَ على قلبهِ فاتَّجهَ للخارجِ بخطواتهِ الواثقةِ كما وصلَ منذ قليل.
نزل إلى يزن الذي يجلس بمقابلة رؤى بجهل معرفته بها، اقترب منه يرمقه بسخرية:
-ماشاء الله المرة اللي فاتت جبتك من الجنينة المرة دي لقيتك في الصالون
حك يزن ذقنه قائلًا:
-المرة الجاية هتخرجني من اوضتك ابنك..وصل إليه يكور قبضته بغضب، ولكنه تراجع بعدما أشار إليه بضحكات مرتفعة قائلًا:
-أنا عايز أزور راجح، مش آن الآوان
ضحك إلياس بخفة يهز رأسه قائلًا:
لو لقيته، يبقى زوره..ضيق عيناه متسائلًا:
-يعني إيه؟!...قاطعهم صوت خطواتها الناعمة على الدرج، ليلتفت يزن إليها وهو يطلق صفيرًا قائلًا:
-ياريتك ماطلعتي اختي، اقسم بالله كنت طلقتك منه
لف رأسه ليرى على أي شيئا يتحدث، توقفت عيناه عليها، وهي تتحرك بدلال وابتسامة خلابة تردد بصوتها الناعم:
-لأ عايزاك اخويا طبعًا..سافر بعيناه على ما ترتديه إلى أن توقفت عيناه على خصلاتها المتمردة، وشفتيها المطلية بلون يذهب العقول ...ليشعر وكأن أحدهم سكب عليه دلو من الماء البارد، اقترب يزن ليضمها إلى صدرها قائلًا:
- لو قالولي الحورية دي تسميها إيه ..قاطعه صوته الصاخب الذي شعرت بأن جدران المنزل تهتز من قوته حينما قال
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
كيفَ لقلبٍ ظننتهُ يومًا موطني، أن يتحوَّلَ إلى منفى لروحي؟..
كيف لمن أحببتهُ حبَّاً يفوقُ الوصف، أن يزرعَ في داخلي هذا الكمِّ من الألم؟
كنت أراكَ نورًا يضيءُ عتمتي، فإذا بكَ تصبحُ ظلًّا يلتهمُ ضيائي..
كنت أظنُّك سكينةً وسلامًا، فإذا بكَ تحملُ لي عاصفةً لا تهدأ..
آهٍ من خيبةٍ جاءت ممَّن كان القلبُ يظنُّهُ الأمان..
خيبةٌ لا تُداوى، لأنَّ الجرحَ جاءَ ممَّن اعتقدتُ أنَّهُ الملاذ..
كنتَ كلَّ أحلامي، فإذا بكَ تصبحُ كلَّ أوجاعي..
كنتَ كلَّ حياتي، فإذا بك تسرقُ منِّي حتى شغفَ البقاء..
ما أقسى أن تكونَ سبب ضعفي هو ذاتك،
وما أصعبَ أن أبحثَ عن الشفاءِ من جرحٍ لا أريدُ نسيانهِ لأنَّهُ منَّك.
أحببتكَ بكلِّ ما فيَّ، ولكن يبدو أن الحبَّ وحدهُ لا يكفي..
ربَّما أنا المخطئ، وربما أنتِ، لكن ما أعرفه أنَّ هذا الألمُ سيبقى شاهداً على حبٍ لم يُكتب له أن يكتمل.
بمنزل ميرال
قاطعهُ صوتُ إلياس كالرعد، ونطقَ بنبرةٍ قاسيةٍ تحملُ من الغضبِ ما يجعلها ترتعش..نبرة قاسيةٌ في التحكُّمِ بكلِّ شيءٍ حوله:
"إن شاء الله هتسمِّيها...جثَّة"
اخترقت الكلمةُ دفاعاتها كطعنةٍ وشعرت بألمٍ يجتاحُ قلبها، حيث كانت تظنُّ أنَّهُ لن يفعلَ شيئًا بوجودِ أخيها، رفعت عينيها إليهِ وهو يقتربُ منها بخطواتٍ ثقيلةٍ باردةٍ كالليلِ الموحش، شعرت بثقلها يطبقُ على صدرها كصخرةٍ لا تُحتمل..كلَّ خطوةٍ يقتربُ منها تشعرُ بأنَّ الهواءَ يهربُ من رئتيها، دبَّ الرعبُ في أوصالها، وارتجفَ جسدها كطيرٍ صغيرٍ عالقٍ بين أنيابِ مفترس..تطلعت إلى نظرات عينيهِ التي يحرقها بها..فالتفتت إلى يزن وظنَّت أنَّ وجودَه سيكونُ حصنها بأوقاتها العصيبة، لكن نظراتهِ حطَّمت ماتبقَّى من أمانها..حدَّقَ بها كوحشٍ يتلذَّذُ بفريسته، وبصوتٍ جافٍّ كالسياطِ همسَ وهو يحاوطُ خصرها:
- مافيش حفلة رقص النهاردة...لمَّا نعمل حفلة، هبقى أجيبك تحيي الليلة."
كلماتٌ ماهي سوى كلمات ولكنَّها تحملُ في طياتها إهانة، بل سهامًا مسمومة، اخترقت أعماقها وأحالتها رمادًا..شعرت بالدموعِ تخنقها، لكن كبرياءها أصرَّ على ألا تسقط أمامه..تعلقت الأعين بتحدي ولكن ضغط على خصرها بقوة آلامتها ومازالت أنفاسه الحارقة تقتلها
-هحاسبك بعدين ...
اقتربَ يزن وابتسامةٌ لعوب وهو يرى غيرةُ إلياس الجنونية، وخاصَّةً حينما لفَّ ذراعيهِ يقرِّبها إليهِ، وهمساته و كأنَّهُ يحاولُ أن يبعدها عن عيونه، وصلَ إلى وقوفهما ثمَّ رفعَ يديهِ يمسِّدُ على خصلاتها، رمقهُ إلياس بعينينِ مشتعلتينِ بالغضب، وقاطعهُ بصوتٍ كالزئير:
"لو لمستها، هقطعلك إيدك."
صُعقَ من تهديدهِ الذي شعرَ به كالقنبلةِ انفجرت في المكان..فتوقَّفَ مذهولًا، غير قادرًا على تصديقِ ما يسمعه..لكنَّ إلياس لم يعطهِ فرصةً للاعتراضِ وأمسكَ بذراعيها بقسوةٍ جعلت الألمُ يندفعُ كتيَّارٍ كهربائيٍّ يصعقُ جسدها، حتى غُرزت أناملهِ في لحمها، أطبقت على جفنيها لتكبحَ آلامها، كانت تعلمُ ثورانهِ ولكن لم تكن تعلم أنَّهُ سيصلُ لتلك الدرجة،
رسمَ ابتسامةً باردةً على ملامحه وأردف:
-ميرال مكنتشِ تعرف إنَّك هنا، معلش يايزن هتطلع تلبس حاجة، ماهو انت لسة مهما كان غريب عليها
قالها وهو يرمقها بالصعودِ للأعلى، لكنها تحدته قائلة:
-بس يزن أخويا..قاطعها قائلًا:
-على فووووق..نطقها بنبرةٍ جافَّةٍ، وعيناهُ تقدحانِ شررًا يريدُ أن يخرجهُ ليحرقَ كلَّ ما يقابله.
صعدت بخطواتٍ سريعة، قلبها ينبضُ بعنفٍ في صدرها، وكلُّ نبضةٍ تهدِّدُ بأن تنفجرَ من رهبةِ حديثه..أغلقت البابَ خلفها بكفَّينِ يرتجفان، وعيناها تكادُ تدمعان..
يا لهوي عليك يا إلياس..معقول دي غيرة ولَّا جبروت؟
انتقلت بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو المقعد، حاولت أن تلتقطَ أنفاسها، لكن كلَّ زفيرٍ كان يشعلُ نارًا داخل صدرها..فكَّرت في كلِّ ما فعلته، أرادت أن تراهُ يغار، أن يشعرَ بما تشعرُ به، أن يراها كما تراه...لكن يبدو أنَّ الأمرَ خرجَ عن نطاقِ السيطرة.
وفي تلك اللحظة، دُفعَ البابُ بعنف، وانفجرَ إلياس في الغرفةِ كإعصار..رمقها بعينينِ تتوهجُ بالغضب، وبدونِ أن يمنحها فرصةً للحديثِ اقتربَ منها بسرعة، وقبضَ على شعرها بشدَّةٍ ورفعها بعنف، فشعرت بكلِّ عضلةٍ في جسدهِ مشدودة، كجزءٍ من عاصفةِ ثائرة..جزَّ على أسنانهِ يهدرُ بعنف، وهي ترى ارتفاعَ وهبوطَ صدره:
- بتعاندي مين؟ مش قولتلك قبل ما أنزل لمِّي المحروق دا..
لم تستطع الرد..كأنَّ الكلماتَ لم تجد الطريقَ إلى شفتيها، ولم تكن قادرةً على تبريرِ ما فعلته، حتى وإن كان ما فعلتهُ لم يكن سوى محاولةٍ مستميتةٍ للاقترابِ منه.
لم يتوقَّف عند حديثهِ اللاذع ، بل مدَّ يديهِ لينزعَ عنها الرداءَ بعنف، حتى وقعت يداهُ على جسدها، حينها شعرت وكأنَّ قبضتهِ كالسلاسلِ التي تكبِّلُ روحها، صرخَ في وجهها كالصاعقةِ التي تضربُ قلبها:
- عايزة تخلِّيني مجرم ؟ قولي لي كام مرَّة اتخانقنا علشان الموضوع دا؟
نظراتهِ إليها بالاشمئزازِ كانت كطعنةٍ في صدرها، حينها شعرت وكأنَّها تتناثرُ كالزجاجِ المنكسرِ تحت قدميه، لتشعرَ بالعجزِ عن النطق...فاقت من مأساةِ مافعلت على دفعها على الفراش، فاستسلمت وكأنَّها فقدت قوَّتها بالكامل..والغضبُ يلتهمُ ملامحَ وجههِ كما لو أنَّهُ لا يستطيعُ التخلُّصَ من النيرانِ التي تشتعلُ في قلبه من نيرانِ الغيرة.
نهضت ببطء، اقتربت منه، واحتضنتهُ من الخلفِ تهمسُ له بنبرةٍ خافتة، وهي تشعر بأنَّ الحروفَ تتناثرُ من فمها بصعوبة:
- ممكن تهدى...من فضلك، علشان خاطري؟ أرجوك اهدى..أنا آسفة واللهِ كلِّ اللي فكَّرت فيه إنِّي أغيظك، أعمل إيه وأنا شايفة كلِّ كلماتك أوامر، عارف لو بس وقفت وقولت لي بغير عليكي، مش عايز حدِّ يشوفك كنت هبقى أسعد واحدة..
رغم قولها لتلك الكلماتِ البريئة، لكنَّها لم تكن كافيةً لتطفئَ لهيبَ الغضبِ في قلبه..
استدارَ إليها بسرعة، وتطايرت نظراتهِ كالسكاكينِ التي تشتعلُ بالغيرةِ وقبض على ذراعيها بشدَّة:
-أوامر!! شايفة خوفي أوامر، شايفة لمَّا أخاف على أهلِ بيتي ومابقاش راجل ديُّوث يبقى أوامر، فيه حاجات ياهانم ماينفعشِ فيها الرأي، لازم تتنفِّذ من غير مناقشة.
-بس دا أخويا، مش غريب والفستان مكنشِ مصيبة لدرجة إنَّك تعمل كدا، ماغادة بتقعد قدَّامك بجيب شورت، ولا مرَّة اعترضت.
-غادة مش مراتي، وأنا مش من النوعية اللي أبص لأختي..إنتي مجنونة دي مش زي دي.
-بس دا اخويا..عادي لو قعدت قدَّامه كدا حتى لو من غير هدوم، إنتَ جوزي وهوَّ أخويا، يعني مش غرب.
لحظةُ صمتٍ قاتلة، ليرمقها بعينينِ تشتعلُ كالنار، وقعت عيناهُ إلى صدرِ فستانها المكشوف، وكانت نظراتهِ تلتهمُ كلَّ جزءٍ فيها..
عادي لمَّا تقعدي جنبِ أخوكي اللي لسة عرفاه من أسبوعين كده؟ كأنِّك مش شايفاني؟
هزَّت رأسها محاولةً إقناعه، لاتعلم أنَّ كلماتها أشعلت نيرانَ أوردته، لم يرد عليها، بل دفعها بقوَّةٍ على الفراشِ مرَّةً أخرى ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
-لو لسة باقية عليَّا ابعدي عن غضبي ياميرال، علشان لو غضبت عليكي بجد هخلِّيكي تكرهيني، وأنا مش عايزك تكرهيني، فيه بينا طفل، احترمي علاقتنا إنِّك مامته وأنا باباه.
توقَّفت مقتربةً منهُ تنظرُ إليه بألمِ قلبها الذي يتفتَّتُ من الوجع:
-بس أنا مش عايزة علاقتنا علشان ابننا ياإلياس، أنا عايزاك إنت.
-استدارَ يواليها ظهرهِ وأردفَ قائلًا حتى لا يقعَ تحت وطأةِ عشقه المؤلم:
-اجهزي ياميرال، أخواتك تحت...قالها وخطى بخطواتٍ سريعة، هرولت خلفهِ تمسكُ ذراعيه:
-إلياس لو سمحت بلاش القسوة دي..
نظرَ إلى كفِّها المتشبثِ بذراعهِ ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى عينيها:
-مجروح وموجوع منِّك، مينفعش..
صمتًا ثقيلًا بأنفاسها المتقطِّعة، ودموعها التي خانتها دون توقُّف، ابتعدَ بخطواتٍ يشيحُ بنظرهِ عنها، يخشى أن يضعفَ أمامَ عينيها، حاول الهروبَ منها.
- "إلياس...بالله عليك بُصِّلي، ما تخلِّينيش أحسِّ إنِّي واقفة قدَّام واحد غريب."
قالتها بصوتٍ متحشرج، وكلَّ حرفٍ يخرجُ منها كطعنةٍ بصدرها.
رفعَ رأسهِ ببطء، ونظرَ إليها نظرةً واحدةً كانت كافيةً لتفقدها توازنها الداخلي.
"ميرال...أنا تعبت منِّك، تعبت من وجعي على إيدك، إنتي هدمتي كلِّ حاجة بإيدك."
قالها بصوتٍ خافت، ورغم خفوتهِ إلَّا أنَّ داخلهِ كألفِ عاصفةٍ تدمِّرُ كلَّ ما يقابله.
خطت نحوهِ بخطواتٍ متعثِّرة، يدها ترتجفُ وهي ترفعها لتلمسَ وجهه، لكنَّهُ أمسكَ بمعصمها وأبعدَ يدها عنهُ بحزم.
"إلياس، ممكن شايفني إنِّي غلطت، بس أنا خوفت عليك، ودلوقتي مش متحمِّلة فكرة بعدك، قلبي بيموت وأنا شايفاك بتبعد."
انهارت أمامه ، وهي تمسكُ قميصهِ بيديها المرتجفتين، تحاولُ أن تجمعَ شتاتَ نفسها:
-لو كنت مكاني هتعمل كدا.
أبعدَ يديها ببطء، وكأنَّ لمسها كان يحرقه، تراجعَ خطوةً للخلف:
"ميرال، أنا اكتشفت الحبِّ لوحده مش كفاية، كلِّ مرَّة بحاول أسامحك... وللأسف أفشل، المرة دي جرحك كان عميق، لدرجة إنُّه ما بيلمِّش."
نظرت إليه برجاءٍ تحاولُ أن تحيي في قلبهِ حبَّها..
-خلاص يعني كتبت نهاية حكايتنا، كتبتها علشان اللي عملته ولَّا علشان أنا طلعت بنتِ عدوِّك..طيب هتقدر تعيش من غيري، فين حبَّك ليَّا؟..مش اللي بيحبِّ حد بيسامحه؟..
صمتَ للحظة، وكأنَّ كلماتها ضربت وتراً داخله..أغمضَ عينيهِ وحاولَ أن يتنفسَ بعمقٍ ليقاومَ الانفجارِ الذي يشعرُ به..
استدارَ إليها وتعمَّقَ بعينيها الغارقةِ بدموعها، حاولَ النطق، ولكنَّهُ شعرَ وكأنَّهُ لا يعلمُ شيئًا من الأبجدية..
توقَّفَ للحظات، جامدًا صلبًا، يسبحُ في بركةِ صراعهِ بين عقله وقلبه، أجابها ببعضِ الحروفِ الممزوجةِ بالألم، لينطقَ قائلا:
"منكرش أنا بعيش كلِّ يوم في صراع بين قلبي اللي لسه بيحبِّك وعقلي اللي بيصرخ إنُّه ما ينفعشِ أكمِّل، أبحرَ بعينيها وتابع... ميرال، حاسس إنِّك بتخنقيني، مش قادر أواجه نفسي بعد اللي عملتيه، ماضي راجح ميهمنيش، علشان اتربِّيتي على إيدي، يعني مهما يقول ويعمل مستحيل أصدَّق كلمة قالها عليكي، لأنِّي واثق في ميرال اللي مصطفى السيوفي وفريدة ربُّوها، منكرش إنِّك انضغطي، ومنكرش إنِّك عانيتي، بس إنتي نسيتي وسط دا كلُّه إنِّك ملك راجل مستعدِّ يحرق الكون علشانك، للأسف اللي عملتيه كسر جوايا حاجات مش عارف أجمعها تاني، اللي انكسر مابيتصلحش، وإنتي للأسف كسرتي قلبي لمَّا روحتي لراكان تستنجدي بيه وجوزك عايش، وبيحبِّك ويموت لو حصلِّك حاجة "
بكت بألمٍ وأردفت بصوتٍ مليءٍ بالحسرة:
"يعني خلاص كدا، مفيش أمل تسامحني؟"
استدارَ، حينما أصبحت كلماتها تزيدُ من ألمه.. خطا نحو الباب بخطواتٍ بطيئة، وكلَّ خطوةٍ تشقُّ روحهِ نصفين، توقَّفَ عند الباب ولم يلتفت ولكنَّهُ أردفَ قائلًا:
"ميرال... يمكن في يوم تسامحي نفسك، بس أنا مش قادر أسامحك، كان ممكن أطلَّقك، بس حقيقي مقدرتش، ضعفت، منكرشِ إنِّك ساعات بتضعفيني، بس برضو مش معنى إنِّي مطلقتكيش علشان سمحتك، لأ، مطلقتكيش علشان مش مسموح لحبيبة إلياس السيوفي تكون حرَّة، قولتها لك زمان، حبِّي ليكي نار بتكوي، لو بتحبِّيني بجد، سيبيني لحدِّ ماأروق، ومش مسموح لك الغلط، حتى مع أرسلان، أتمنَّى تعاملك مع يزن يكون في حدودِ الإخوة المتعارف عليها مش علشان تغيظيني زي ماكنتي بتخطَّطي." التفتَ برأسهِ وتعلَّقت الأعينُ مستأنفًا:
-أسامح في أيِّ حاجة غير إنِّك تيجي على رجولتي وقلبي، أشارَ إلى قلبهِ وقال:
-طول ما قلبي لسة بينبض باسمك مالكيش إنِّك تغلطي، يمكن لمَّا نبعد وأحسِّ حياتنا بقت مستحيلة أنساكي..قالها وفتحَ البابَ وخرج، لتجلس على المقعد كالتائهة تضغطُ بيديها على قلبها الذي بدا وكأنَّهُ ينكسرُ إلى أشلاءٍ لا يمكن جمعها...
بعد فترةٍ هبطت ميرال للأسفل، بخطواتٍ بطيئة..مازال قلبها يعتصرُ من الألمِ لكلماته، وقعت عيناها على يزن وإلياس، وهما يتحدثانِ بصوتٍ منخفض، وكأنَّهم لا يريدون أن يستمعَ أحدًا لهما. رفعَ إلياس رأسهِ إليها ثمَّ اتَّجهت عيناهُ إلى رؤى، هنا شعرت بثقلِ الهواءِ حولها.. التفتت برأسها لرؤى، التي كانت تجلسُ في ركنٍ مثل طفلةٍ معاقبة، تحملُ بين عينيها ألفَ سؤالٍ وألفَ خوف.
رفعت ميرال عينيها قليلاً لتقابلَ نظراتُ إلياس التي اخترقت دفاعاتها بسهولة، وشعرت باضطرابٍ في أنفاسها، حتى شعرت بأن المكان اصبح ضيِّقًا جدًا على احتمالها..حاولت الهروب، خطت بعيدًا عن مرمى عينيه، وألقت سؤالاً لتكسرَ صمتها الذي أصبح أكثرُ قسوة:
– تشربوا إيه؟
قالتها متَّجهةً إلى المطبخ، ولكن أوقفها إلياس قائلًا:
– استني يا ميرال.
أشار برأسهِ إلى رؤى، التي كانت تبدو وكأنَّها تنتظرُ حُكمًا بالبراءةِ أو الإدانة، ثمَّ التفتَ إلى يزن الذي بدا متردِّدًا قبل أن ينطق:
– كنت بتقول إنِّ طارق له أخت، بس ما عرفتش إذا كانت عايشة ولَّا ميتة.
أومأ يزن ببطء، عيناهُ تحملُ شيئًا من الحزنِ والدهشةِ وهو يتابعُ رؤى بعينينِ زائغتين:
– دي رؤى اللي طنط فريدة قالت عليها؟
قالها يزن لتشعرَ ميرال بأنَّ كلماتهِ كرصاصةٍ أصابت قلبها دون سابقِ إنذار، ومازالت تعاني بلعنةِ الماضي التي مازالت تخنقُ راحتها، ثورانٌ بقلبها عن مشاركتها لزوجها، هل يعاقبها الحاضرُ والماضي معًا لتُسحبَ إلى دوامةِ الغرقِ أكثر وأكثر، نظرت إلى رؤى التي كانت تحدِّقُ بهما بجهل، وهي لا تفهمُ حديثهما..
تقدَّمَ إلياس بخطواتٍ واثقةٍ نحوها، ساحبًا كفَّها بخفَّة، لكنها شعرت بالضعفِ يزحفُ إليها، وكأنَّ تلك اللمسة خلفها عاصفة، من دقائقَ كان يعاملها كشيطانة، والآن يحاوطها بحنانِ ذراعيه، رفعت رأسها تنظرُ إلى وجههِ القريبِ ولمعت دموعها حينما تسلَّلَ الشكُّ لعقلها لتقول:
-إلياس إيه اللي بيحصل؟..
توقَّفت ميرال تراقبُ المشهدَ من بعيد، وقعت عيناها على ذراعيهِ التي يحاوطُ بهما رؤى كأنَّهُ درعُ حمايةٍ لها لتشعرَ بنغزةٍ تحرقُ صدرها..لم تستطع احتمالَ ما ترى فهربت إلى المطبخ، خطواتها كانت أسرعُ من دموعها التي تكافحُ للهروب.
حاولت أن تبدو متماسكة، لكن صوتها جاءَ منكسرًا وهي تقول:
– هعمل حاجة تشربوها.
لكن صوتَ إلياس أوقفها مشحونًا بالثقلِ والغموض:
– مش لمَّا تسلِّمي على أختك الأوَّل؟
توقَّفت في مكانها بجسدٍ متجمِّدٍ وكأنَّها تحوَّلت إلى تمثالٍ عاجزٍ عن الحركة. التفتت ببطءٍ لتقابلَ عيني رؤى التي كانت تحملُ كلَّ معاني الذهول..لتهتفَ رؤى بصوتٍ مرتجفٍ بالكادِ استطاعت النطق:
– أختي؟
اقتربَ إلياس من ميرال وحاوطها من خصرها بخفَّة، لتقفَ أمام رؤى مباشرةً وتحدَّثَ بصوتٍ متَّزن، لكن كلَّ كلمةٍ منه كانت كطعنةٍ لكلتيهما:
– ميرال بتكون أختك الكبيرة يارؤى.
طالعتهُ رؤى بذهول، علَّها تستوعبَ الكلماتِ التي وقعت على أذنيها كصدى رعدٍ أصابَ أذنها بالصَّمم..التفتَ إلياس إلى يزن الذي كان يقفُ متصلِّبًا في مكانه، يحاولُ جمع شتاتِ نفسه..أشارَ إليه وقال بنبرةٍ هادئةٍ:
– وده أخوكم أنتو الاتنين..وكمان عندكم أخ تاني أكبر من ميرال، بس مش موجود دلوقتي.
هنا شعرت أنَّ قدميها لاتستطيع أن تحملها، وأنَّ جسدها أوشكَ على الانهيارِ رغم معرفتها سابقًا، تلألأت عيناها بالدموعِ تبتعدُ عن نظراتِ الجميعِ لتنزل بنظرها، اقتربَ إلياس منها ولفَّ ذراعيهِ حولها بتملُّكٍ ينظرُ إلى يزن منتظرًا ردَّةَ فعلهِ مع رؤى، خطا إليها يزن بخطواتٍ بطيئةٍ إلى أن توقَّفَ أمامها، ليشعرَ كلاهما بثقلِ الحقيقةِ التي تفصلُ بينهما. ثمَّ قالَ بنبرةٍ حزينةٍ تحملُ مرارةَ السنين:
– زي ما سمعتي، إنتي أختي أنا وميرال، كنت فاكر إنِّك ميتة، أو إنِّ راجح وصلِّك، بس ما توقعتش إنِّك تكوني قريبة من أختك وما تعرفوش بعض.
قاطعهُ صوتُ إلياس يحملُ مزيجًا من السخرية والمرارة:
– يعني جت على دي؟ أنا عشت مع أمِّي تلاتين سنة وما كنتش أعرف إنَّها أمِّي.
التفتَ بنظرهِ إلى وجهِ ميرال، التي كانت تبدو كالحاضرةِ الغائبة..غارقةً في صمتها القاسي وأكملَ بمرارة:
– وعايش مع بنتِ عمِّي وما كنتش أعرف، فطبيعي رؤى تكون عايشة وما نعرفهاش.
ضحكَ بخفَّةٍ لكنَّها كانت ضحكةً خاليةً من أيِّ فرح، يحاولُ كسرَ الجليدِ الذي يشعرون به:
– من الآخر كده، راجح عمل شبكة عنكبوتية لذيذة..بس الصراحة أجمل شبكة، مش كده يا ميرال؟
قطعَ حديثهِ بكاءَ الطفل، لتبتعدَ ميرال عن ذراعهِ منتفضةً و تحرَّكت بسرعةٍ باتِّجاهِ الطفل، ونطقت بكلماتٍ تعني الكثير والكثير :
– بدل إنتَ قلت كده ياإلياس، يبقى لازم يكون كده.
لكن أوقفها صوتُ رؤى وهي تقولُ بنبرةٍ تحملُ انكسارًا وذهولاً:
– يعني ياإلياس، إنتَ بتكون ابنِ عمِّي؟! أنا بكون بنتِ عمَّك اللي عرفته من فترة؟
أغمضت ميرال عينيها بقوَّة، شعرت وكأنَّ كلماتَ رؤى تمزِّقُ روحها إلى أشلاء، لكن ما زادَ الألمَ كان صوتُ إلياس الذي أكملَ بنبرةٍ ثقيلةٍ لكنَّها حاسمة:
– وجوز أختك كمان، تخيَّلي يعني مش بس ابنِ عمِّك، لا ده جوز أختك.
تسارعت خطواتُ ميرال، وصعدت الدرجَ وهي تحاولُ أن تهربَ من كلِّ شيء، دموعها انهمرت بلا توقُّف، وأصبحت تشعرُ أنَّها تسيرُ في ممرٍّ مظلمٍ لا نهايةَ له، كلَّ كلمةٍ سمعتها كانت خنجرًا يغرزُ في صدرها، وكلَّ حقيقةٍ انكشفت كانت تلتهمُ جزءًا من روحها...يكفي لعنات الماضي، أقسمت أنَّها سوف ترمِّمُ نفسها حتى لو وقفت بين جيوشِ العالمِ الظالمة، وصلت إلى ابنها وأخذتهُ من المربية تشيرُ إليها بالخروج:
-سبيه معايا أنا ههتمِّ بيه..إلَّا أنَّ المربية قطعت حديثها:
-مدام، الباشا قالِّي أهتمِّ بيه وبلاش إرهاق لحضرتك، اختنقَ صوتها تشيرُ إليها بالخروج:
-مفيش إرهاق روحي شوفيهم في المطبخ خلِّيهم يقدِّموا حاجة للضيوف، ويعملولي عصير فريش..هزَّت رأسها بالموافقةِ وتحرَّكت دون حديث..
أطبقت على جفنيها بعد خروجها، ولكن قاطعها بكاءَ طفلها لترفعهُ وتحتضنهُ بقوَّةِ إلى صدرها:
-مالك حبيب مامي، جعان ولَّا إيه..وضعتهُ على فراشهِ لتهيِّئ نفسها لإطعامه، ولكن ارتفعت أنفاسها من بكائهِ المستمر وهي تفتحُ زرَّ كنزتها بأناملها المرتعشة؛ ليرتجفَ جسدها بالكاملِ لعدمِ قدرتها على السيطرة على أنفاسها مع بكاءِ طفلها..جلست بجوارهِ تنظرُ إلى بكائهِ بصمت..وكأنَّها فقدت روحُ المحاربةِ للتعايش، بالأسفلِ استمعَ الى صوتِ بكائهِ المتواصل، ليهبَّ مفزوعًا ينادي على مربيته:
-الولد بيعيَّط ليه كدا؟..
أجابتهُ بصوتٍ جعلته متَّزنًا:
-المدام أخدته وقالت هتهتمِّ به، التفتَ إلى يزن ورؤى قائلًا:
هطلع أشوف يوسف، البيت بيتك يايزن..قالها ولم ينتظر حديثهِ ليأكلَ درجاتِ السلَّمِ بخطواتهِ السريعة، وصوتُ ابنهِ يخترقُ أذنه، دفعَ بابَ غرفتهِ لتقعَ عيناهُ على جلوسها بجوارهِ تطالعهِ بجسدٍ هربت منه الدماء، بل هربت منهُ الحياة، انحنى يحملُ الطفلَ بهدوءٍ وعيناهُ تحتضنُ جلوسها الذي أدمى قلبه، حاولَ تهدئةَ ابنهِ ولكن ارتفاعَ بكائهِ زلزلَ جدرانَ الغرفة..جلسَ بجوارها متمتمًا بهدوء:
-ميرال الولد مش بيسكت، ليه أخدتيه من النانا؟..
طالعتهُ بعيونٍ صامتةٍ ولكنَّها تحملُ الكثيرَ من المعاناة، رفعَ كفَّيهِ يمسِّدُ على خصلاتها:
-خدي ابنك في حضنك وسكِّتيه يالَّه،
إن شاءالله كلِّ حاجة هتكون كويسة، هزَّ رأسهِ وأشارَ إليها أن تلتقطَ ابنها..
أغمضت عينيها حتى لا تسمحَ لدموعها بالانهمار..انحنى يطبعُ قبلةً حنونةً على وجنتيها هامسًا لها:
-متأكِّد فترة صعبة علينا كلِّنا بس هتعدِّي إحنا قدَّها، يالة حبيبتي سكِّتي ابنك..قالها وهو يضعُ الطفلَ بين يديها
وضعَ الطفلَ بين يديها فشعرَ بارتجافةِ جسدها، هنا شعرَ أنَّ روحه تخترقُ
للحظة، تجمَّدت عيناهُ عليها، تبحثُ في ملامحها وداخلهِ ضجيجٍ من المشاعر المتناقضة..
ألمٌ يكادُ يخنقه، عفوٌ لا يعرف كيف يمنحه، اشتياقٌ يتآكله، واضطرابٌ يعصفُ بكلِّ شيءٍ داخله..لم يكن يعلم ما عليه فعله، لكنَّهُ كان متأكِّدًا من أمرٍ واحد: مازال قلبه ينزف منها، نعم هو مجروح..منها.
أغمضَ عينيه باستسلام، علَّهُ يستكينُ من تلك المشاعرِ العاصفة، محاولًا التمسُّكَ بصبره، كبحَ غضبهِ داخلهِ بصعوبة، ثمَّ رفعَ ذراعيهِ وجذبها إليه، يضمُّها بقوَّةٍ يشعرها بأنَّهُ حبلها الوحيد الذي يمكنهُ انتشالها من الغرق، استسلمت لذراعيه، وشيئًا بداخلها انكسرَ أكثر..وضعت رأسها على كتفهِ وهي تهتفُ بخفوت، صوتها بالكادِ يصلُ إليه، لكنَّهُ كان محمَّلًا بكلِّ ما بها من ألم:
هنفضل نعاني لحدِّ إمتى ياإلياس؟ لحدِّ إمتى الماضي هيفضل يحرق أرواحنا؟ أنا...أنا مش قادرة أقبل رؤى كأخت، حاولت من يوم ما قلت لي، حاولت والله، بس مقدرتش..كلِّ ما أتذكَّر إنَّها السبب في وجعي منَّك...بكرهها، مش قادرة أخدها في حضني، عارفة إنَّك ممكن تقول عنِّي جاحدة..بس واللهِ غصب عنِّي..
شعرَ بكلماتها كسكِّينٍ تقطعهُ ببطء..حدَّقَ في عينيها بعمق، يحاولُ أن يُغرقَ أحزانها في بحرٍ من السكينةِ التي لم يعد يملكُ منها الكثير..رفعَ خصلاتَ شعرها التي انسدلت على وجهها بحنان، وأدارَ وجهها الذي أبعدته نحوهِ ليحجزَ نظراتها المكسورةِ بعينيه، وتحدَّثَ بصوتٍ دافئٍ رغم مرارةِ مايشعرُ به، فنطقَ بنبرةٍ متَّزنةٍ بعضَ الشئ:
- ميرال، إنتي مش وحشة..مفيش حدِّ يقدر يقول عنِّك جاحدة، لأنِّك مش كده..
إنتي طيبة جدًا، بس الظروف أحيانًا بتجبرنا نعمل حاجات غصبِ عنِّنا.. دلوقتي، لازم تتقبِّليها، مش لأنَّها مجرَّد أختك..لكن لأنَّها إنسانة محتاجاكي، رؤى مش وحشة، هي بس محتاجة أمان، محتاجة تحسِّ إنَّها مش لوحدها، إنَّها وسط عيلة.
قاطعتهُ فجأة، بصوتٍ مليءٍ بالمرارةِ وكسرٍ لم تستطع إخفاءه، عيناها تفيضُ غضبًا وغيرة:
- رؤى عايزة حاجة واحدة، إلياس..عايزاك إنتَ، هيَّ قالتهالي، بكلِّ برود وثقة قالت بدل هنطلَّق، هيَّ أحقِّ بيك..تخيَّل؟ مين اللي أعطاها كلِّ الثقة دي؟ مين خلَّاها تقف قدَّامي وتقول الكلام ده؟
ضحكَ ضحكةً صاخبة، لكنَّها لم تكن من قلبه، كانت ضحكةً مشحونةً أقربُ إلى الانفجار..لكنَّها أشعلت نيرانَ الغيرةِ في عينيها أكثر..
تراجعت للخلفِ وهي تضمُّ طفلها إلى صدرها بقوَّة، كأنَّها تخافُ أن يُسلبَ منها كما سُلبَ كلَّ شيءٍ من حياتها، أشارت إليهِ بحدَّة:
- لازق فيَّا ليه؟ مش المفروض إنَّك بتعاقبني؟ روح بقى، روح للطيبة الحنونة اللي إنتَ خايف على مشاعرها ومبرَّرلها كلِّ حاجة..وأنا؟ أنا أيِّ حاجة منِّي بتعلَّق لي عليها مشنقة..
صمتَ للحظة، كلماتها شقَّت قلبهِ نصفين، زفرَ بقوَّة ثمَّ أشارَ إلى طفلهما الذي بين ذراعيها، وكأنَّهُ لم يستمع إلى حديثها:
خلِّي بالك من يوسف يا ميرال... ربِّنا يهديكي.
قالها بصوتٍ خافت.. محمَّلًا بكلِ خذلانِ العالم، ثمَّ استدارَ وغادر..ومع كلِّ خطوةٍ يبتعدها، كان يتركُ خلفهِ عالمًا من الألم، ممزوجًا بحبٍّ ممزَّق، وأحلامٍ انطفأت تحت ثقلِ الماضي.
بالجامعة وخاصة كلية الطب
توقفت بجوار صديقتها تقص لها ماصار منذ الاسبوعين المنصرمين ..عانقتها خديجة بمحبة
-ألف مبروووك، والله فرحت لك ياروحي، المهم ادم عمل ايه في القضية
زفرة حارقة اخرجتها من جوفها وكأنها اشواك تؤلمها ثم اردفت:
-الحقيرة لسة مصرة، لأ وجايبة شهود أنه هددها، وبيساومها على حاجات، ومش بس كدا رفعت قضية عليه أنه أجبرها تسقط الجنين، الحيوانة كانت حامل وسقطت وتهمت ادم
-يالهوي ياإيلين، دي شكلها قادرة
هزت رأسها قائلة:
-للأسف، وآدم هيتجنن، بس بيقولي دا جزاته وعقاب ربنا له، بس مش عارفة حاسة أنه مخبي عليا حاجة كبيرة تفتكري ايه
لكزتها تشير إلى استاذ المادة
-الدكتور دخل، مش عايزين كلمة منه، شوفتي مكنش عجبك دكتور الجثث الحليوة جالك فعلا دكتور جثث ميتين
ضغطت على أسنانها تشير إليه بعينها
-غليظ جدا، وبقيت اكره السكشن بتاعه، والله دومي كان عسل، انا معرفش دا ايه، لا واسمه شمس، دا يسموه ضلمة يخربيته..قطع حديثهما
قائلًا:
-الدكاترة اللي مش مبطلين رغي، ركزو معايا، انتوا دكاترة مش اطفال ..ذهب ببصره إلى إيلين واردف
-دكتورة إيلين ممكن لو سمحتي تيجي هنا وتشرحي لزمايلك ازاي نسحب عينة من الجثة علشان نعرف سبب الوفاة
-لما تموت يادكتور وقتها هعرف
توقف يطالعها ممتعضًا:
-لما اموت..ارتفعت ضحكات الجميع، لتطلع إليه مردفة:
-مش قصدي كدا، قصدي لما اشوف جثة هشرح لحضرتك
في صباحِ اليومِ التالي في منزلِ يزن، اجتمعَ الجميعُ على طاولةِ الطعامِ بأجواءٍ مفعمةٍ بالدفء، بعدما استعادت إيمان بسمتها بعد أسابيعٍ من الألم و الحزن..كان الضحكُ يملأُ المكان، وكأنَّ الغيومَ التي خيَّمت على البيتِ قد انقشعت أخيرًا. قطعَ كريم الأجواءَ المرحةِ بنبرةٍ واثقة:
بما إنِّنا هنعمل الخطوبة قريب، إيه رأيكم نعمل حفلة جوازكم معانا بالمرة؟ وأهو بدل ماإنتَ وراحيل تعبانين كده."
نظرت راحيل إلى كريم، ثمَّ إلى يزن، قبل أن تخفضَ عينيها سريعًا، وقد احمرَّت وجنتاها بخجل..قاطعهُ يزن بنبرةٍ هادئةٍ لكنَّها حازمة:
"لأ مش دلوقتي، خلِّينا نفرح بيكم الأوَّل، وبعد كده نبقى نقرَّر هنعمل إيه."
نهضت راحيل بعدما استمعت إلى ثقلِ كلماتهِ وهي تردِّد:
"هشوف إيمان بتعمل إيه."قالتها وخطت إلى الداخلِ بخطواتٍ متعثِّرة، تاركةً وراءها أنفاسًا مشحونةً وكلماتٍ غير منطوقة.
ظلَّ يزن يتابعُ تحرَّكاتها حتى غابت عن ناظريه، ثمَّ أطلقَ زفيرًا طويلاً وكأنَّهُ يحاولُ إفراغَ قلبهِ من ثقلٍ لا يُحتمل..لحظاتٍ من الصمتِ مرَّت كأنَّها دهرًا، حتى نطقَ كريم بنبرةٍ متفاجئة:
"مالك يا يزن؟ شكلك مش مرتاح؟"
أدارَ يزن وجههِ بعيدًا، وبدأ يشعلُ سيجارتهِ بنظراتٍ تحملُ مزيجًا من الألمِ والغضب، ثم قالَ بصوتٍ كاد يخنقه:
"أنا مش ناوي أكمِّل مع راحيل يا كريم."
اتسعت عينا كريم بذهول:
"إنت بتقول إيه؟! أومال ليه رجعت كتبت عليها تاني بعد ما طلَّقتها؟"
نفثَ يزن دخانَ سيجارتهِ ببطء، يشعرُ بأنَّ زفيرهِ يحملُ جزءًا من ألمهِ المكبوت، ثمَّ قال ببرودٍ مصطنعٍ يخفي جرحًا غائرًا:
"علشان راجح رجَّعتها، علشان أقف له.. هوَّ هيخرج من السجنِ قريب، وعايزه يعرف إنِّ كلِّ حاجة بقت تحت سيطرتي، أملاك راحيل بقت باسمي، ودي أوَّل ضربة."
تجمَّدَ كريم في مكانه، ونظرَ إلى يزن بحدَّة وقال بنبرةٍ تتأرجحُ بين الغضبِ والاستنكار:
"يعني إيه؟ رجَّعتها مش علشان بتحبَّها؟"
قهقهَ يزن بسخريةٍ مريرة، ثمَّ نظرَ إليه بعينينِ غارقتينِ بظلالِ خيبةِ أملٍ عميقة:
"أحبِّ مين يا كريم؟ أظن إنتَ فاهمني أكتر من كده..أنا أسلِّم قلبي لحدِّ تاني؟ مستحيل، الحبِّ ده لعبة أنا خسرتها زمان، أنا اتبهدلت، اتذلِّيت، وانكسر قلبي قدَّام ناس متستهلش، وراحيل...مش أكتر من جزء من خطِّتي."
وقفَ كريم فجأة، وهدرَ بنبرةٍ أشبه بعاصفةٍ تضربُ هدوءَ يزن الزائف:
"بس راحيل مالهاش ذنب في اللي حصل لك! إنتَ ليه بتظلمها معاك؟"
نظر إليه يزن بعيونٍ غارقةٍ في بحرٍ من المرارة، وقال بصوتٍ كأنَّهُ اعترافٌ مؤلم:
"وأنا مش هأذيها يا كريم..هيَّ عمرها ما كانت جزء من انتقامي، كلِّ اللي عايزه إنِّي آخد حقِّي من راجح؛ عايز أشوفه وهوَّ مذلول قدَّامي زي ما أمِّي كانت مذلولة بين إيديه وهيَّ حامل فيَّا، بتتوسَّل له علشان يودِّيها للدكتور وهوَّ رافض..
ظلمها، طردها في نصِّ الليل، وإصراره إنَّها تسقَّطني، علشان راجح باشا مش من مستواه يخلِّف من ستِّ فقيرة، وبعد ماعرف رانيا مابتخلفش قرَّر ياخدني منها..ولولا طنط فريدة كان زماني بقيت زي طارق ياأمَّا في السجن، ياأمَّا ميت زي ابنه اللي الحقير دخَّله في شغله وهوَّ مالوش في حاجة، أنا بس عايز أشوفه مكسور...زي ما كسرنا كلِّنا، بنتِ زيِّ رؤى ذنبها إيه تعيش يتيمة وأبوها عايش، دي كانت في ملجأ ياكريم..أمَّها ماتت ومالقتشِ اللي يدفنها وعارف الصدمة الأكبر إيه؟. إنِّ البنتِ جت بطريقة غير شرعية ولولا وقوف فريدة ضدُّه وتهديدها له مكنشِ البنتِ اتثبِّتت..
سحبَ نفسًا من سيجارتهِ وزفره يحرقُ رئتيهِ كإحساسٍ بالغدرِ والخسَّةِ واستطرد:
-لو شوفت حياة ميرال إزاي، كنت اقتنعت إنِّ موت راجح لا محالة منُّه، واحدة كانت من أنجح المحرِّرين..الكلِّ بيحلف بذكاءها وأسلوبها، تعالَ شوفها دلوقتي بيتهموها بالاستهتار، ومبقتشِ تنفع حتى مراسلة، ليه دا كلُّه؟..علشان حياتها اللي اتهدِّت في لحظات، غير علاقتها بجوزها اللي على صفيح ساخن، وكلِّ كلامها أنا بنتِ عدوُّه؛ إزاي هقدر أنام في حضنه وأنا شايفة في عيونه وجع من راجل يُعتبر أبويا.
اسكت ياكريم الراجل دا مسبشِ حدِّ إلَّا لمَّا أذاه، وفي الآخر لفَّق لي تهمة علشان اتجوِّزت راحيل ولمَّا معرفشِ يمسك حاجة عليَّا خطف أختي، وإنتَ شوفت رجعت إزاي، انسى مرارةِ الساعات اللي عشتها وأختي بين مجرمين..كان مفكَّر نفسه ذكي علشان يتنازل لراحيل على كلِّ حاجة، قال خايف بعد قضيةِ إلياس يسألوه من أينَ لك هذا، أهو هيطلع من المولد بلا حمص..
-أنا عارف يايزن إنَّك مجروح وموجوع، بس اللي أقصده إنَّك تكمِّل مع راحيل هيَّ متستهلش..
مينفعشِ ياكريم إحنا الاتنين مختلفين، شوف حياتها إزاي وشوف حياتي إزاي، الفترة اللي قرَّبت منها عرفت عمرنا مانتِّفق..
سادَ صمتٌ ثقيل..وكلماتُ يزن غرزت جرحًا عميقًا في روحِ كريم، الذي بات يرى أمامهِ رجلاً ليس فقط مدفوعًا برغبةِ الانتقام، بل غارقًا في جروحِ الماضي التي تأبى أن تلتئم.
هوت الصينيةُ من يديها بعدما استمعت إلى حديثهِ الذي سحبَ أنفاسها؛ لتترقرقَ عيناها بالدموعِ تهمسُ بنبرةٍ ممزوجةٍ بحروفِ الألم:
-ليه..ليه تعمل كدا؟..
تجمَّد للحظات..صمتًا قاتلًا بينهما، وكأنَّ العالمَ توقَّفَ ليشهدَ صراعَ أرواحهم، جرت ساقيها بثقلٍ إلى أن توقَّفت أمامهِ محطَّمة، وهو يحاولُ أن يخفي انكساراتهِ تحت قناعٍ بارد، كان صوتُ أنفاسها المتقطِّعةِ وضرباتِ قلبها المتسارعةِ ك جرسُ إنذارٍ يشقُّ أذنيه.
اقتربت منهُ أكثر، ودموعها تنسابُ بلا توقُّف، وصوتها يتهدَّجُ بين البكاءِ والغضب:
- كنت حاسة إنِّ في حاجة غلط، لكن ماقدرتش أصدَّق إنَّك ممكن تكون بالشكلِ ده..ليه يا يزن؟ ليه؟
نظرَ إليها بعينينِ زائغتين، وكأنَّهُ يبحثُ عن مخرجٍ من مواجهتها. .رفعَ يديهِ وكاد يلمسُ كتفها لكنَّهُ تراجع، يشعرُ بأنَّ لمسهِ لها أصبح محرَّماً عليه..ثمَّ نطقَ بصوتٍ خافت، يحملُ في طياتهِ شيئاً من الألم:
"أنا آسف..."
صرخت فيه مجددًا، بصوتٍ يملؤهُ الألم أكثر من الغضب:
- آسف؟! آسف على إيه؟ على قلبي اللي كسرته؟ ولَّا على روحي اللي دمَّرتها؟ ولَّا على الكذبة اللي عشتها وأنا فاكرة إنِّي مع حدِّ بيحبِّني؟
تراجعَ خطوتين، وأخفضَ رأسهِ بخذلان من نفسه، وأحس بأنَّ كلماتهِ خانته، لكنَّهُ نطقَ بحروفٍ ممزوجةٍ بالألم:
- أنا ماكنش عندي اختيار...كان لازم أعمل كده، مكنشِ قدَّامي طريقة تانية...
ضحكت ضحكةً مريرة، وهي تهزُّ رأسها غير مصدِّقة:
- كان لازم؟ وإيه عنِّي أنا؟ أنا مالي؟ أنا مجرَّد وسيلة؟
هزَّ رأسهِ بخفَّة، ثمَّ همس:
- مش هقدر أبرَّر لنفسي، اللي عملته غلط... وعارف إنِّك مش هتسامحيني، بس حقيقي مكنشِ قصدي أخدك لعبة.
-لعبة..يعني كنت بتلعب بمشاعري؟!..
أشارت إلى أذنها ثمَّ إلى الجهةِ الثانية حينما همسَ له بحبِّها؛ وأردفت بنبرةٍ متقطِّعةٍ تشعرُ بأنَّ الحروفَ تعاندها للخروج:
-يعني هنا لمَّا قولتي لي بحبِّك كنت بتلعب بمشاعري، تلعب بيَّا أنا!..
أشارت إلى نفسها تدورُ حولهِ بنظراتٍ مشتَّتة ضائعة:
-وأنا الهبلة اللي صدَّقتك، وعملت تنازل بكلِّ حاجة..
-آسف يارحيل بس حقِّي لازم أخده بإيدي..ومكنشِ قصدي آذيكي قالها
ثمَّ استدارَ مبتعدًا، تاركًا خلفهِ قلبها المهشَّم، وكلماتها الأخيرة تلحقُ به
بعد عدة أيام، وهو اليوم المقرَّر لخروجِ راجح من السجن، بعدما توصل إلياس إلى ماسعى إليه توقَّفت سيارةٌ سوداء فارهة أمام المحكمة، كان بداخلها إلياس وسائقهِ الخاص، فتحَ البابَ ببطء، نزعَ نظارتهِ الشمسية، ثمَّ ترجَّلَ بخطواتٍ ثابتةٍ وواثقة.
قبل أن يتمكَّنَ من التقدُّمِ أكثر، ظهرَ راجح فجأة، يتقدَّمُ نحوهِ بخطواتٍ مليئةٍ بالتحدي، ونطقَ بسخرية واضحة:
"أوعى تقولِّي إنَّك جاي تبارك لي يا ابنِ جمال."
ضغط إلياس على شفتيهِ بابتسامةٍ باردةٍ مفعمةٍ بالسخرية، وردَّ بصوتٍ هادئٍ لكنَّهُ لاذع:
"طبعًا يا راجح باشا، عربيتك الفاخرة واقفة وراك، ومراتك في البيت محضَّرة لك حمَّام سخن، يبقى استحمَّى علشان ريحتك مقرفة..وبالمرة، عندك بدلة شيك؟ روَّق بيها رانيا بدل ما هيَّ ماشية تلفِّ البلد وتلمِّ الرجالة." قالها
ثمَّ بصقَ على الأرضِ بازدراء، وأردفَ بنبرةٍ قاطعة:
"مقرفين!"
أنهى حديثهِ، وقعت عيناه على أحد السيارات المرصوفة بالجهة الاخرى، ابتسم ساخرًا يتمتم لنفسه
-ابن حلال وتستاهل، اهو دلوقتي اتكشفت انك عمي ياراجح، ياله بالشفا، قالها وارتدى نظارته متجهًا نحو سيارتهِ دون أن ينتظرَ ردًّا، تاركًا راجح يغلي من الغضب، ووجههِ قد احمرَّ كالجمرِ المشتعل.
داخلَ سيارته، أمسكَ إلياس هاتفهِ بعصبية، وبدأ يتحدَّثُ بصوتٍ حاد:
"عملت إيه يا ظابط نصِّ كم؟"
عند أرسلان وصلَ إلى المكانِ المنشود، ثمَّ صعدَ فوق السيارةِ يراقبُ فيلا راجح عن بُعد، انحنى يجذبُ بعض الفواكهَ وبدأ يلوكها بهدوءٍ وعيناهُ الصقريةِ تخترقُ الأنحاء، أمسكَ هاتفهِ وهاتفَ إسحاق:
-إسحاقو حمدالله على السلامة ياحبيبي.
على الجانبِ الآخرِ أجابهُ وهو يرتدى ثيابه:
- نازل رايح لفاروق إنتَ فين..
-أنا بسلِّم على راجح..توقَّفَ إسحاق عمَّا يفعلهُ وتساءل:
-بتخطَّط لإيه؟..
استطعم فاكته وأجابَ بنبرةٍ باردة:
-يقتل رانيا، أو هيَّ تقتله، المهمِّ نخلص من واحد فيهم.
-غلط يابنِ فاروق، لسة بدري على الخطوة دي، لازم تاخدوا حقُّكم الأوَّل بالعقل مش بالتهوُّر.
-عمُّو اتأخرت على ميعادك سلام ياإسحاقو.
-سبَّهُ الآخر وتوقَّفَ يتنهَّد، ثمَّ رفعَ هاتفهِ وتحدَّثَ مع أحدهم:
-شوف راجح الشافعي راح فين بعد خروجه من المديرية؟..وسلَّكه بعيد عن بيته..
بعد دقائقَ استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-عملت إيه؟..
- أشعلَ سيجارةً ونفثَ تبغها وأجابهُ بتهكُّم:
"العروسة مستحميِّة ولابسة بدلة الرقص وشغالة الله ينوَّر..تعجبني دماغك يا جوز ميرال."
توقَّفَ إلياس للحظة عند سماعِ اسمِ "ميرال"، وكأنَّ النارَ اشتعلت داخله، ردَّ بغضبٍ مكتوم:
"وحياة لسانك الطويل، لو قرَّبت من بيتي تاني، ما أنا راحمك..
هقطع إيدك، يا بارد!"
ضحكَ أرسلان ضحكةً مستفزة، وأردفَ بخبث:
"لو ابن ابوك اعملها، ماشي يا جوز ميرال."
اشتعلَ غضبُ إلياس أكثر، وقال بحدَّة:
"ما بحبش الهزار في حياتي الشخصية، دلوقتي ركِّز معايا..الزفتِ الِّلي اسمه راجح دا عايزك ظلُّه، صوَّر كلِّ حاجة، وياربِّ تفلح المرَّة دي"
أنهى المكالمةَ بحنقٍ واضح، وألقى هاتفهِ على المقعدِ بجانبه. أخذَ نفسًا عميقًا محاولًا تهدئةَ نفسه، ثمَّ تمتم:
"تعالَ ورِّيني شطارتك يا مسكَّر."
بينما كانت سيارتهِ تنطلق، ظلَّ يحدِّثُ نفسهِ بغضبٍ مكبوت:
"ماشي يا ميرال..فاتحة البيت شاطئ البحر الأحمر؟ بتعانديني؟"
ضغطَ بقوَّةٍ على عجلةِ القيادة، وكأنَّها تنفيسًا عن الغضبِ الذي يلتهمه.
عند فيلا راجح:
كانت رانيا تتمايلُ بخفَّةٍ بجسدها فوق طاولةٍ صغيرة، ترتدي فستانًا قصيرًا يبرزُ مفاتنها بشكلٍ صارخ، وكأنها فتاه في العشرينات، في المقابلِ كان هناكَ رجلًا جالسًا على الفراش، يتناولُ الفاكهة، وعيناهُ تلتهمانها بنظراتٍ شهوانية.
رفعَ الرجلُ صوتَ الموسيقى، ونهضَ بخفَّةٍ ليتمايلَ بجوارها، ضحكاتهِ ترتفعُ مع كلِّ حركة، ويداهُ تتجولُ بلا استئذان.
تلاعبت رانيا برباطِ روبه، وكأنَّها تغريهِ أكثر، فجأةً اندفعَ نحوها ودفعها بقوَّةٍ على الفراش، متملِّكًا اللحظةَ وكأنَّ العالمَ لا يتَّسعُ لغيرهما...
عند راجح في طريقهِ إلى الفيلا:
قبل وصولهِ إلى فيلته، رنَ هاتفه..تناولهُ من يدِ سائقهِ وأجابَ بلهجةٍ واثقة:
"ألو؟ مين معايا؟"
جاءهُ صوتًا هادئًا من أرسلان، يحملُ نبرةَ تهديد:
"أهلاً يا راجح، وحشتني يا راجل..أكيد ما تعرفنيش، أنا عمِّ الولد."
ارتبكَ راجح للحظة، وردَّ بحذر:
"عايز إيه؟"
أجابهُ بصوتٍ مصحوبًٍ بتنفيثِ دخانِ سيجارته:
"حبيت أبلَّغك إنِّ عربيتك فيها قنبلة.. وهتنفجر بعد دقيقة بالظبط."
تجمَّدَ الدمُ في عروقِ راجح، وارتفعَ صوتهِ صارخًا في سائقه:
"وقَّف العربية! بسرعة!"
حاولَ السائقُ التوقُّفَ بجنون، لكنَّهُ صاحَ بذعر:
"العربية ما بتوقفش، يا باشا!"..
مرَّت قرابةَ الساعةِ ولم يظهر راجح، اشتعلَ غضبُ أرسلان، وهو ينظرُ إلى ساعتهِ بينما راقبَ الشخصَ الذي خرجَ من فيلا رانيا، زفرَ بحدَّة كمن يحاولُ كبحَ طوفانِ الغضبِ داخله، ثمَّ قال بلهجةٍ حادة:
- راح فين الغبي دا؟ هوَّ صدَّق إنِّ العربية فيها قنبلة ولَّا إيه؟
قطعَ تفكيرهِ صوتُ رنينِ هاتفه، نظرَ إلى الشاشةِ بانزعاجٍ وهو يضغطُ أسنانهِ بغيظ:
أهو الزنان، هيبدأ ينقِّ عليَّا..
رفعَ الهاتفَ وأجابَ ببرود:
"نعم."
على الجهةِ الأخرى، تحدَّثَ إلياس وهو يقودُ سيارتهِ باتجاهِ فيلا السيوفي:
- عملت إيه؟ وراجح عمل إيه؟
ردَّ أرسلان بضيق، يشغِّلُ محرِّكَ سيارتهِ بعنف:
- مجاش، شكله مات في الطريق من الخضة..أنا مش فاضي دلوقتي، بعدين ندوَّر على حاجة تانية.
أغلقَ الهاتفَ دون أن ينتظرَ ردًّا..حدَّقَ إلياس في الهاتفِ بغضبٍ مكتوم، ثمَّ تمتمَ بسخرية:
"واللهِ كنت عارف إنَّك فاشل."
بعد عدة أيام
وصلَ إلى فيلا العائلة، دلفَ إلى الداخلِ ليجدَ والدتهِ تقفُ أمام إحدى العاملات، تشيرُ بيدها لإكمالِ تعليقِ زينةِ رمضان.. لاحظَ انشغالها فاقتربَ مبتسمًا:
-ماما، بتعملي إيه؟
التفتت إليهِ مبتسمة، وعلى وجهها علاماتُ الإرهاقِ الممتزجةِ بالفرحة:
أهلًا ياحبيبي، بنعلَّق زينة رمضان.
هزَّ رأسهِ بتفهُّمٍ ثمَّ سألَ سريعًا:
-بابا فين؟
أشارت إلى غرفةِ المكتب دون أن تتوقَّفَ عن توجيهِ التعليمات، وقبلَ أن يخطو نحوها، أوقفتهُ قائلةً بنبرةٍ هادئة:
- عدِّيت على مراتك؟ قولت لها تيجي تفطر معانا؟
تجاهلَ سؤالها واستمرَّ في طريقه، غير راغبٍ في فتحِ أيِّ نقاش..نظرت إليه بحزنٍ خنقَ روحها، وكأنَّها تراقبُ انهيارهما تدريجيًا:
وصلت غادة ، وتساءلت بخفوتٍ وهي تلاحظُ ملامحَ والدتها الشاردة:
- ماما، مالك؟
تنهَّدت والدتها وأجابت بتثاقل:
- عملتي إيه مع مرات أخوكي؟ هتيجي؟
هزَّت غادة رأسها بقلق:
- معرفشِ يا ماما، إن شاءالله تيجي هي وعدتني، بس عرفت إنَّها زعلانة جدًا من إلياس، تخيَّلي بقاله أكتر من أسبوعين ما شافشِ ابنه.
ربتت الأم على كتفِ غادة بحنانٍ وهي تحاولُ طمأنتها:
- طيب روحي شوفي إسلام صحي ولَّا لسه ياحبيبتي.
أومأت غادة وتحرَّكت نحو الطابقِ العلوي، بينما ظلَّت الأمُّ تحدِّقُ في زينةِ رمضان بحزنٍ يلفُّهُ الشجن، تهمسُ لنفسها:
- وبعدهالك يابنِ فريدة، وبعدهالك.
ساعاتٌ قليلةٌ مرَّت، والأجواءُ بدأت تهدأ مع اقترابِ لحظةِ إطلاقِ مدفعِ الإفطار، لكن الغليانَ في القلوبِ ظلَّ يتصاعدُ دون توقُّف.
دقَّت الساعةُ واقتربت لحظةُ الإفطار، لتجتمعَ العائلةَ حول المائدةِ التي زينت بأشهى الأطباق،
اتَّجهت فريدة إلى طاولةِ الطعام، تُلقي نظرةً أخيرةً عليها، تطالعها برضا وسعادة مشوبةً بشيءٍ خفيٍّ وهي تراقبُ الباب.. أخذت نفسًا عميقًا واستدارت على صوتِ إسلام:
"يااه، أخيرًا شوفت ضحكة ستِّ الكل!"
رسمت على وجهها ابتسامةً خفيفة، وجذبتهُ من أذنهِ بلطفٍ قائلة:
"وأنا كنت كشرية ياابنِ مصطفى؟"
قهقهَ بصوتٍ عالٍ محاولًا الإفلاتَ من يدها:
"أبدًا أبدًا..."
ركضت غادة نحوهما، تملأُ المكانَ بحركاتها الطفوليةِ وصوتها المرح:
"بتهزَّروا من غيري؟ أنا زعلانة"
تراجعت فريدة مبتسمةً على طفولتها الصافية، ثمَّ رمقت ساعةَ يدها بأنفاسٍ متلاحقةٍ كمن ينتظرُ شيئًا على أحرِّ من الجمر:
"ميرال اتأخرت..تفتكروا هتيجي ولَّا هترجع في كلامها زي كلِّ مرَّة؟"
جلست غادة على المقعدِ متنهدةً بحماسٍ ممتزجٍ بالأمل:
"هتيجي، أنا متأكدة..المرَّة دي لازم تيجي، ماهي بقالها كتير اوي مجتش هنا." ثمَّ أضافت بصوتٍ حالم: "هيّّ وعدتني..."
قطعَ حديثهما وصولُ رؤى التي ألقت تحيةَ المساءِ بصوتٍ هادئ:
- "مساء الخير."
ردَّت فريدة بلطفٍ ممزوجٍ بهدوءِ الأم التي تحتضنُ الجميع:
"مساء الخير يا حبيبتي، اقعدي شوية، عمِّك هينزل دلوقتي."
ثمَّ وجَّهت بصرها نحو إسلام، الذي جلسَ يتابعُ هاتفه:
"إلياس صحي ولَّا لسه ياإسلام؟"
ردَّ دون أن يرفعَ عينيه:
"بيصلِّي العصر، راحت عليه نومة."
لحظات ودوى صوتُ مدفعِ الإفطار، تزامنَ مع نزولِ مصطفى وإلياس، اقتربَ مصطفى من فريدة بخطواتٍ واثقة وحنانٍ يظهرُ في قسماتِ وجهه، ليطبعَ قبلةً على جبينها:
"رمضان كريم يا ستِّ الكل."
ردَّت بابتسامةٍ باهتةٍ وهي تنظرُ إلى بابِ الفيلا:
"كلِّ سنة وإنتَ منوَّرنا يامصطفى."
جلسَ مصطفى على المقعد بجوارها، يربتُ على كتفها بحنان:
"اقعدي يا فريدة، المغرب أذن..ولَّا ناوية تفضلي صايمة للصبح؟"
رفعَ إسلام عينيه نحوها بحزن، ثمَّ تحرَّكَ بهدوءٍ إلى غادة، التي أخفضت رأسها وكأنَّها تحاولُ إخفاءَ شعورها، تناولَ كوبًا من العصيرِ ووضعهُ أمام والدتهِ بحنو:
"اشربي يا حبيبتي."
رفعت فريدة عينيها التي لمعت بالدموع، وأغمضتهما للحظةٍ تتمنَّى خلالها أن تراها تدخلُ عليهم بابتسامتها المعتادة...وصل إلياس ملقيًا التحية على الجميع، وجلس على مقعده المخصص، وقعت عيناه على مقعد ميرال بجواره، حينما استمع الى صوت فريدة
-اقعدي جنب رؤى حبيبتي، دا كرسي مرات اخوكي، ضغطت غادة على شفتيها لتمنع عبراتها تتمنى من الله ألا تخذلهم ميرال هذه المرة، لحظات، ودلفت ميرال من البابِ بصوتها الرقيقِ وابتسامتها التي تحملُ ألفَ شعور، وهي تحملُ طفلها.
هبَّت غادة نحوها مهرولةً كطفلةٍ وجدت لعبتها المفضلة:
"مش قولتلك يا ماما؟ ميرو مستحيل تخلف وعدها معايا، صح ياميرو؟"
ضحكت ميرال تضمُّها بمحبَّة:
"أقدر أزعَّلك ياروح ميرو؟"
سحبتها غادة نحو طاولةِ الطعام، لكن مصطفى توقَّفَ فاتحًا ذراعيهِ بحماسٍ إلى حفيده:
"حبيبة عمُّو، وحشتيني، إنتي وحبيب جدُّو"
احتضنتهُ ميرال بمحبَّة، ثمَّ اتَّجهت إلى فريدة التي جذبتها بعنفوانٍ عاطفي، تحتضنها وكأنَّها غائبةٌ عنها سنوات.. شهقت فريدة بصوتٍ مرتعش، بينما الدموعُ انهمرت من عينيها:
"زعلانة منِّك أوي أوي ياميرال.. ثمَّ..."
وضعت يديها على وجنتيها، وتابعت:
-بس مش مهم، المهمِّ إنِّ حبيبة قلبي نوَّرت بيتها تاني..
ربتت على كتفها بحنانٍ قائلة:
"مقدرشِ على زعلك ياحبيبة قلبي، بس مضغوطة في الشغل والله..وقلت لعمُّو كده، لسة نازلة بقالي كام يوم ."
قاطعهم صوتُ إسلام بمزاحٍ حاولَ كسره:
"مش ناوية تسلِّمي عليَّا؟ أنا جعان وعايز آكل."
استدارت إليهِ، وابتسمت رغم دمعاتها:
"وحشتني يا سلومة، عامل إيه؟"
ردَّ بمزاحٍ ثقيل:
"أحسن منِّك يا روح سلومة، عارفة لو مش في رمضان كنت بوستك، بس يلَّا، الله يسامح رمضان."
اتَّجهت بنظراتها إلى إلياس ورسمت ابتسامة، رفعَ عينيهِ إليها، لم يستطع أن يخفي ألم اشتياقه الدفين، مر أكثر من أسبوعين لم يراها .
نظرت إليهِ للحظات، وقلبها يثقلُ بالمشاعر:
"كلِّ سنة وإنتَ طيب ياإلياس."
أجابها بهدوءٍ مخيف و ملامح ثابتة، لكن عينيهِ كانت عاصفةً بالاشتياق، ثمَّ قالَ بصوتٍ خافت:
"وإنتي طيبة."
قالها ونهضَ من مكانهِ بغتة بعدما تجرع العصير، وكأنَّ المكانَ أصبح ضيِّقًا عليهما، أوقفتهُ فريدة:
-حبيبي ماأكلتش ليه؟..توقَّفَ ولم يستدرَ إليها قائلا:
"شربت عصير وشبعت، عندي شغل لازم أخلَّصه، انحنى جهة والده يحمل طفله
-هاخده لما تخلص أكل ياحبيبي."..ثم
اتَّجهَ بنظرهِ إلى غادة وأضاف:
"خلِّيهم يعملولي قهوة."
قالها وتحرَّكَ بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو الداخل، لكنَّ صوتَ فريدة أوقفه:
"إلياس استنى"..خطت إليهِ
وتشبَّثت بذراعهِ بقوَّة، أردفت بنبرةٍ تحملُه رجاءً خفيًا:
"علشان خاطري، اقعد معانا..أنا ما صدَّقت نتجمَّع."
توقَّفت خطواتهِ لكنَّهُ لم يلتفت، قال ببرودٍ كالصقيع:
"ولازم التجمُّع يكون على الأكل؟ حضرتك عارفة أنا ماليش في الأكل."
قالها وتحرَّكَ سريعًا، مغلقًا البابَ خلفه، وقلبهِ الذي يأنُّ بعنفٍ داخله، حاولَ أن يبتعد، حاول أن ينسى، ولكنَّ قلبهُ يقبضُ عليهِ بعنف..
توقَّفت فريدة تنظرُ إلى البابِ المغلقِ بعيونٍ زائغة، بينما قالت ميرال بصوتٍ متهدِّج وهي تربتُ على كتفها:
"اقعدي، ياحبيبتي، هوَّ كده دايمًا دا إلياس يعني...المفروض تكوني حفظتيه."
-يعني إنتي مش زعلانة؟..هزَّت رأسها بالنفي ورسمت ابتسامةً على وجهها:
-هزعل ليه..قالتها وهي تنظر إلى مكانه وطعامه الذي لم يمسه، فتوقفت تجمع بعض من طعامه واردفت بهدوء
-هدخله الطبق دا، يمكن ياكل حاجة..ربتت فريدة على ظهرها
-هياكل منك صدقيني، اومأت وتحركت إلى الغرفة التي يمكث بها، كان جالسًا على الأريكة يداعب طفله وهو يضحك بصوت مرتفع، استمع الى خطواتها خلفه، رفع نظره إليها وقعت عيناه على ماتحمله، فرجع إلى إبنه
-أنا مش جعان، وانت عارفة اكلي بيكون كدا، بشرب عصير وبعد فترة باكل اي حاجة ..اقتربت تضع سرفيس من الطعام بجواره
-احنا في رمضان ودا اول افطار، لو مضايق من وجودي، ممكن امشي
-ايه اللي بتقوليه دا، لا طبعا، انا مش جعان..جلست بجوار طفلها تتطلع إليه بإشتياق
-معنى اللي عملته كدا، حتى ماهانش عليك تقولي كل سنة وانت طيبة، استنيت تليفونك طول اليوم
-وهتستنيه على طول ياميرال، مش عايز اتكلم ونوجع بعض، انا بعيد، ورغم طلبت منك ماتشتغليش غير لما الولد يكبر كالعادة روحتي لبابا واستنجدتي بيه، اللي فهمته من عمايلك أنا هامش، ويمكن كمان ماتكونيش حبتيتي، مجرد تعود قدامك، أو حبيت شخصية إلياس مش اكتر ..توقفت تتطلع إليه بصمت دون حديث، ثم تحركت للخارج، وصلت إلى جلوس الجميع، جذبُت المقعدَ لتجلس عليه، وقعت عيناها على رؤى:
-إزيك يارؤى..ابتعدت عنها قائلة:
-أهلًا ياميرال ..مطَّت ميرال شفتيها بعدمِ رضا إلى أن قاطعها مصطفى:
-عاملة إيه حبيبتي وأخبار شغلك إيه؟..
أجابتهُ مبتسمة وهي تضعُ المحرمة على ساقيها:
-الحمد لله ياعمُّو، وشكرًا لحضرتك إنَّك أقنعت إلياس أنزل الشغل.
قاطعتها رؤى تطالعهم ببغض:
-معرفشِ ليه رافض شغلك، وهوَّ مصر على الطلاق...حمحمَ إسلام قبل التهابِ الأجواء قائلًا:
-بتِّ ياميرو شوفتيني وأنا على التلفاز، إيه رأيك حلو صح؟.
التمعت عيناها بابتسامةٍ، محاولة نسيان كلمات إلياس، فأردفت قائلة:
-الله أكبر عليك ياحبيبي بجدِّ سعيدة بيك ياإسلام، ويارب أشوفك أحسن لاعب باسكت في العالم كلُّه.
رفعَ ياقةَ ملابسهِ بغرورٍ غامزًا لها :
-إن شاء الله..تطلَّعت فريدة إليها متسائلة:
-يزن راح لك، كان عايزك إنتي ورؤى تروحو تفطروا عنده النهاردة، بس أنا رفضت وقولت له أنُّكم هتفطروا معايا.
تناولت الطعامَ متذكِّرةً حديثُ إلياس ورفضهِ الخروجَ خارجَ نطاقه، فأجابتها:
-مش هعرف ياماما، وقتي ضيَّق بجي من شغلي تعبانة وابني طول الوقت مع النانا، مش موافقة، أنا هعزمه لعندي عايزة أتعرَّف على أخته وخطيبها.
أومأت فريدة متفهِّمة، كانت نظراتُ رؤى مصوَّبةً عليها حتى نطقت:
-إيه رأيك نزور بابا ونشوفه عمل فينا كدا ليه؟..
رمقتها بحدَّة وهدرت بنبرةٍ مستاءة:
-أبوكي إنتي، الراجل دا مستحيل تربطني بيه علاقة، إيه عاجبك فضايحه اللي مالية الجرايد..
استندت رؤى على الطاولةِ وحدقتها بنظرةٍ غاضبة:
-حضرتك اللي عاملة حفلة عليه، دا مهما كان أبونا، هتستفادي إيه وإنتي عمالة تسلخي فيه بالطريقة القذرة دي، ولا علشان خايفة تخسري جوزك اللي هو في الأساس مش معبرك وكل تفكيره أنه يطلقك، احسن لك فكري ازاي تحسني صورة ابوكي اللي احنا لحد دلوقتي معرفناش الحقيقة، مجرد كلام سمعناه، تقدري تقوليلي ياسيادة الصحفية فين الدليل أنه بالبشاعة دي
-رؤى..صرخَ بها إلياس يشيرُ إليها بحدَّة:
-البيت دا محترم وللناس المحترمة، عايزة تقعدي فيه يكون بأدبك وبس.
نهضت رؤى وألقت المحرمة:
-تمام ياحضرةِ الظابط، عرفت إنَّك بتطردني، بس ياترى دا شو علشان المدام ولَّا علشان بتخطَّط لحاجة تانية؟..
-اخرسي يابت..قالها واقتربَ منها كالشيطان..توقَّفت فريدة أمامه:
-خلاص ياحبيبي هيَّ ماتقصدش..أبعدَ والدته عنها، ثمَّ جذبها من ذراعيها بقوَّة، ليدفعها بعيدًا عن طاولةِ الطعام..
أوقفهُ مصطفى يصيحُ بعنف:
-دا احترامك لأبوك يامحترم..توقَّفَ عاجزًا وكأنَّ جسدهِ شُلَّ بالكامل، فلم يعد لديه القدرة على الصمت، ورغم ذلك اتَّجهَ إلى غرفةِ مكتبهِ مرَّةً أخرى دون أي ردَّةِ فعل.
تنهَّدَ الجميعُ بعد مغادرته، توقَّفت رؤى وانهارت دموعها باستياءٍ ثمَّ وزَّعت نظراتها على الجميع قائلة:
-أنا آسفة بس مهما كان دا أبويا، مش عارفة أكرهه أو بمعنى أصح مش عارفة أعمل إيه، يمكن علشان معنديش حد ولقيته إنقاذ، أو يمكن علشان طول عمري عايشة من غير أب، نفسي أعرف إحساس البنت اللي عندها اأب بيكون إيه احساسها...اقتربت من فريدة واحتضنت كفَّيها:
-أنا عارفة إنِّك مقصرتيش معايا، حضرتك وعمُّو مصطفى بس نفسي أشعر بطعمِ كلمة بابا، أنا بشوفها بس، عمري مانطقتها، يمكن قولت ماما لحضرتك، بس بابا دي معناها إيه؟. توجَّهت بنظراتها إلى ميرال:
-احمدي ربِّنا على حياتك، أنا لو مكانك هقول ربِّنا بيحبِّني أوي أوي، اتربيت مع ستِّ عظيمة، وراجل أيِّ بنت بتتمنَّى يكون أبوها، حتى لو إنِّك عارفة أنُّه مش باباكي بس كفاية منتمية لسيادةِ اللواء مصطفى السيوفي، ويوم ماتتجوِّزي تتجوِّزي راجل أيِّ بنت في الدنيا تتمناه، معاكي حاجات غيرك نفسه بربعها ...قالتها وصعدت سريعًا للأعلى.
-صمتٌ ثقيلٌ بالمكان بعد صعودها، إلى أن قطعَ الصمتَ صوتُ غادة التي تلألأت عيناها بالدموع:
-رؤى صعبانة عليَّا أوي، اليتم وحش أوي، يعني إحنا ربِّنا عوضنا بماما، بس هي لا ماما ولا بابا.
قاطعهم مصطفى يشيرُ إلى الطعام:
-افطروا وأنا هطلع لها وأراضيها..قالها وتحرَّكَ وهو يحملُ يوسف الذي وضعه إلياس على ساقه عند خروجه
توقَّفت ميرال لتأخذَ طفلها إلَّا أنَّهُ أوقفها:
-خلِّيه معايا حبيبتي، وبعدين هعدِّيه على باباه، هوَّ كان جاي ياخدله حاجة بس أنا كلَّمته بعنف، ربتَ على كتفها يشيرُ إلى الطعام:
-روحي افطري، وياعبيطة متبعديش عن جوزك حتى لو هوَّ رافض، دا مجرَّد كلام ..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ ارتفعَ صوتُ ضحكاتهم بالحديقة، قفزَ إسلام يجلسُ بجوارِ ميرال وهو يحملُ يوسف ويداعبه؛ ثمَّ حاوطَ أكتافها مقتربًا منها يهمسُ بجوارِ أذنها ليرتفعَ صوتُ ضحكاتها وهي تلكزه، وهناك أعينٌ من النيرانِ نشبت بهما مخالبَ الغيرةِ التي نهشت بصدره، ليخرجَ عن صمتهِ يدفعُ المقعدَ ويتحرَّكُ للخارج، وصلَ إلى الجمعِ ينظرُ إلى إسلام الذي يحملُ ابنه، وقعت عيناه على ذراعيه الذي يضعه على المقعد خلف ميرال وكأنه يحاوطه به..نيران أشعلت بأوردته فاقترب منه ولم يشعر بنفسه سوى وهو يتلقف ابنه ويمسك اسلام من ياقته يدفعه بعنف حتى سقط على الأرض الصلبة يصرخ متألمًا ليهب الجميع على ذلك المشهد، لم يكتفي بذلك بل جذبه وهو يوقفه، ويلكمه بقوة، يضغط بعنف على ذراعه يهمس بهسيس نيران الغيرة
-علشان تبقى تعاندي وتمشي ورا تخطيط ارسلان ..قالها ليسمع صوت ذراعه مع صرخات اسلام ..هرولت ميرال تبعده عن إسلام الذي احتضن ذراعه
-حيوان مفترس الله يخربيت خططك ياارسلان ضيع مستقبلي ..انحنت ميرال أمامه
-اسلام..صرخ بوجهها
-انسيه، ااااه ياماما، المفترس كسر دراعي، جثت بركبتيها أمامه مع وصول فريدة
-ايه اللي حصل..بحث بنظره على إلياس الذي استقل سيارته وغادر المكان بسرعة جنونية
انتهى الفصل اتمنى أن ينال إعجابكم
لا تجعلوا القراءة تنسيكم ذكر الله
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
حين يغيب صوتك، يصمت العالم من حولي، وتصبح اللحظات باهتة بلا لون، بلا طعم، بلا حياة. أشتاق إليك بكل ما فيّ، أشتاق لدفء حديثك، لنبرة صوتك التي تروي عطشي للحب، لنظراتك التي كانت تغمرني بالأمان.
#ميرال_السيوفي
العشق ليس مجرد شعور، بل هو نداء القلب حين يفتقد نبضه الآخر، هو لهفة العين لرؤية من تحب، هو ذلك الحنين الذي يسكن الروح ويجعل من الأيام دونك مجرد عبور بلا معنى. فكل لحظة تمر دونك، يزداد شوقي، ويتعاظم حنيني، وكأن المسافة بيننا تزيد من احتراقي وتوقي إليك.
يا من ملكت قلبي، أحتاجك كما تحتاج الأرض للمطر، وكما تحتاج الوردة للندى، فعد سريعًا، قبل أن يأخذني الاشتياق إلى عالم لا أجد فيه سوى ظلك وهمسك في أحلامي.
#إلياس_السيوفي
بعد دفعه لإسلام، اتجه إلى سيارته وظلَّ يدور في شوارعِ القاهرة كالتائهِ في غياهبِ الجبِّ، توقَّف أمام النيل يحدِّقُ في مياههِ الصامتةِ التي تعكسُ هدوءًا لا يملكه؛ تراجع بجسدهِ متردِّدًا وهو يستعرضُ شريطَ حياتهِ منذ أن كان طفلًا وحتى هذا اليوم..مرَّت الذكريات أمام عينيه بسرعةٍ مربكة، يحاولُ أن يحافظ على توازنهِ الداخلي كي لا يُظهرَ صراعهِ الخفي..مع من انهزم القلبَ أمامها..
توقَّفَ عند ذكرى مع متيِّمةِ قلبه، تلك الذكرى التي لم يجنِ منها سوى ألمٍ متراكم، كالنَّارِ التي تأبى أن تخمد..فمنذ أن دقَّ قلبه، وعشقهِ مليئًا بالألم، عشقًا يشبهُ الغرقَ في بحرٍ بلا شاطئ.
رنَّ هاتفه، نظر إلى شاشته فرأى اسمَ صديقهِ شريف، رفع الهاتفَ مجيبًا:
إلياس، كتب كتابي بكرة بعد صلاة التراويح متنساش، وياريت تيجي ومعاك أستاذة ميرال.
آسف يا شريف نسيت، رمضان وأوَّل يوم، دماغي مفصولة.
ولا يهمَّك يا حبيبي، المهم متنساش.
"حاضر..."
أغلقَ الهاتف، وعيناه لا تزال معلَّقةً على مياهِ النيلِ التي تعكسُ سكونًا غريبًا، يناقضُ العاصفة داخله..بقي لدقائق صامتًا، إلى أن رفع هاتفه مجدَّدًا واتَّصل.
بفيلا السيوفي، كانت ميرال تجثو بجانب إسلام، الذي كان يحتضنُ ذراعه بألمٍ ظاهر..رفع عينيهِ إليها وهدرَ غاضبًا:
-عايزة إيه أكتر من كده؟! الحمدُلله إنُّه مخرجشِ سلاحه وضربني.
ربتت ميرال على كتفهِ بحنان، محاولةً تهدئتهِ وساعدتهُ على النهوض:
أنا معرفش بتتكلِّم عن إيه..اتفاجأت زيك..طالعها بنظراتٍ مبهمةٍ ثمَّ أردف بخفوت:
-عملت كدا قولت يمكن لمَّا يغير ياخدك في حضنه، أخدني أنا في حضنه بس حضنِ المخبرين، أنا كان مالي إن شاءالله تولعو..
ضيَّقت عينيها بجهلِ كلماته، وتساءلت:
-إنتَ سخن؟..أنا مش فاهمة حاجة..
رمقها ساخرًا ليقول:
-أومال كنت بهمس لك على غادة ليه، علشان تضحكي وهوَّ يضايق لمَّا يشوفك في حضني.
-حضنك!!..حضن إيه يا مجنون؟!.
تراجع بعيدًا يطالعها متهكِّمًا..
دقائق ووصلَ مصطفى على صوتِ صراخِ إسلام:
-إيه اللي حصل؟!
تحرَّك إسلام متجاهلًا مصطفى، ينادي على غادة بصوتٍ مختنق:
تعالي سوقي العربية، شكل إيدي اتكسرت بجد.
أوقفه مصطفى متسائلًا بقلق:
- مش سامعني؟ إيه اللي حصل؟
ردَّ إسلام بتوتر وهو يحاولُ التظاهرَ بالهدوء:
- مفيش يا بابا، حادثة بسيطة... وقعت على الأرض.
في تلك اللحظة، وصلت فريدة تنظرُ مندهشةً بين ميرال وغادة، وسألت بحدَّة:
- إيه اللي حصل؟
لم تجب ميرال، بل حملت طفلها من المربيةِ بعد أن ارتفعَ صوتهِ بالبكاء. قالت بهدوءٍ وهي تحاول تهدئةَ الصغير:
- سيبيه، أنا هسكِّته.
أما غادة، فقالت بصوتٍ خافت:
معرفش، إلياس اتخانق معاه، بس ليه؟ اللهُ أعلم..
توسَّعت عينا فريدة بدهشة، تنظرُ إلى غادة غير مصدِّقة:
إلياس؟ اتخانق مع إسلام؟! ليه؟!
ليه؟!..تساءلت بها فريدة.
هزَّت كتفها بجهلٍ وعيناها على ميرال التي ارتجفت شفتيها مبتعدةً عن تجمُّعهم، بعد حديث إسلام الذي صفعها بقوة.
استمعت إلى رنينِ هاتفها، أخرجته ببطء، تنظر إلى الشاشةِ لوهلة، وكأنَّها تحاولُ أن تستجمعَ نفسها قبل أن تضغطَ على زرِّ الرد..جاءَ صوتها خافتًا ومثقلًا بالتردُّد:
-أيوة؟
لم يتأخَّر ردُّه، جاء كعادتهِ حازمًا وقاطعًا:
- متمشيش، قدَّامي ساعة وهاجي أوصَّلك.
أطلقت تنهيدةً طويلة، وكأنَّها تحملُ كلَّ ما عجزت عن قوله:
- مفيش داعي يا إلياس...زي ما جيت، هرجع.
لكنَّهُ أجابها صارمًا، لا يحتملُ اعتراضًا:
-مش باخد رأيك...قالها وأغلقَ الهاتف، تاركًا بها صمتًا ثقيلًا يحيطُ بقلبها المثقل بالألم.
تحرَّكت ببطءٍ إلى الداخل، تسحبُ قدميها بثقلِ أفكارها، صعدت إلى غرفتهِ وهي تحملُ طفلها بحذر، وكأنَّها تلجُ إلى مكانٍ مقدَّسٍ مليءٍ بالذكريات..ماإن فتحت الباب حتى استقبلتها رائحتهِ التي اخترقت صدرها بلا استئذان، فأثارت مشاعرها كأمواجٍ عاتيةٍ تغمرُ قلبها.
وقفت للحظةٍ لدى الباب تنظرُ إلى السرير، حيث ما زالت آثار نومهِ تعبثُ بالأغطية، شعرت وكأنَّ كلَّ شيءٍ هنا يصرخُ بوجوده، حتى في غيابه..اقتربت بخطواتٍ بطيئة، تخشى أن توقظَ الأشباح التي يغمرها المكان برائحته.
وضعت طفلها برفقٍ على السرير؛ ثمَّ جلست بجانبهِ تتلَّمسُ الأغطيةَ بأطرافِ أصابعها وكأنَّها تتلَّمسُ ملامحهِ الغائبة بالمكان الحاضرة بقلبها... شعرت بحرارةِ دموعها تتكوَّمُ في عينيها، لكنَّها قاومتها..ومدَّت يدها بخفَّةٍ فوق الوسادةِ تتحسَّسُ أثره.
انحنت ببطء، ودفنت وجهها في الوسادة، تسحبُ منها أنفاسهِ التي تركها ..أغمضت عينيها، وارتجفت شفتيها وهي تبتسمُ ابتسامةً شاحبة، حملت مزيجًا من اشتياقها
تمدَّدت على السرير، واحتضنت الوسادةَ كأنَّها تحتضن أثاره بين يديها..رفعت عينيها نحو طفلها الذي غفا بهدوءٍ بجانبها، لتطمئنهُ رائحةَ حضنِ والده..
مدَّت يدها تلامسُ ملامحهِ الصغيرةِ بحنانِ أمٍّ مزَّقها شوقها لأبيه..أغلقت عينيها أخيرًا، مستسلمةً لنومٍ متقطِّع، بين أحلامٍ تحاولُ أن تكتمل، وأوجاعٍ تنغِّصها.
لكن هذا السلام المؤقت لم يدم..بعد ساعةٍ أفزعها رنينَ الهاتفِ مرَّةً أخرى. فتحت عينيها بارتباك، مدَّت يدها إلى الهاتف، لتجيبَ بصوتٍ متردِّد:
-أيوة..أجابها على الطرفِ الآخر:
أنا تحت، انزلي.
ردَّت سريعًا وهي تحاولُ أن تستعيدَ توازنها:
"حاضر.."
نهضت بخطواتٍ متسارعة، ترتِّبُ ملابسها بعجلة، وتحاولُ تهدئةَ طفلها الذي استيقظَ على صوتها..حملتهُ واتَّجهت للخارج، لكن خطاها توقَّفت عند صوتِ والدتها فريدة، وهي تخرجُ بابتسامةٍ متردِّدة:
- دخلت لقيتك نايمة، مردتش أصحِّيك..إيه رأيك نشرب قهوة قبلِ ما تمشي؟
ابتسمت ميرال بخفة، محاولةً كبح شعورٍ بالذنبِ يتسلَّلُ إليها:
آسفة يا ماما، لازم أرجع علشان ألحق أرتاح شوية قبل السحور..عندي شغل بكرة.
لكن فريدة لم تخفِ ضيقها، تمتمت بنبرةٍ متذمِّرة:
مش اتفقنا إنِّ رمضان كلُّه نقضِّيه مع بعض؟
اقتربت ميرال منها، وقبَّلت يدها بحنانٍ ثم قالت بابتسامةٍ مائلة:
بكرة معزومة عند يزن، وبعده عند أرسلان، يا ستِّ ماما..شكلك نسيتي، يلا باي، إلياس مستنينا تحت.
لكن فريدة أمسكت بذراعها فجأة، ورمقتها بنظرات تحملُ مزيجًا من الحنانِ والعتاب:
- هو اللي هيوصَّلك؟
أومأت ميرال بالإيجاب دون أن تنبس بكلمة..ثمَّ نادت على المربية:
- انزلي بيه تحت للباشا.
نفَّذت المربية أمرها بطاعة، فيما استدارت ميرال إلى والدتها، التي بدت منزعجة من حياتهما..اقتربت منهابخطواتٍ ثابتة؛ وأمسكت وجه ابنتها بين يديها..وتمتمت:
ميرال، ليه مصرَّة تضيَّعي جوزك وحياتك؟ إنتي عايزة توصلي لإيه؟
صمتت ميرال، وبدت تحاولُ أن تخفي وجعًا يفضحهُ صمتها، ولكن أكملت فريدة بصوتٍ مليءٍ بالرجاء:
- حبيبتي، الحبِّ مش كفاية لوحده، لازم تصبري وتضحِّي، لمَّا إلياس يغير عليكي للدرجة دي، ويبقى مستعدِّ يعمل أي حاجة علشانك، إزاي مش شايفة ده؟ فكَّري كويس، مش عايزاكي تخسريه علشان موقف، الحياة بين الراجل والستِّ عمرها ما بتبقى كاملة، لكن إحنا بنحاول نبنيها على قدِّ ما نقدر.
شعرت ميرال وكأنَّ كلماتِ والدتها ضربت وترًا حسَّاسًا بداخلها..نظرت إليها بصمتٍ وكأنَّها تحاولُ أن تستوعب كلَّ كلمة..كانت كلماتها كمرآةٍ تعكسُ كلَّ ما تحاولُ أن تتجاهله، ولكن كيف تخبرها برفضِ إلياس ومسامحته اليها، صمتت للحظات...ثمَّ أردفت بخفوت:
-إن شاء الله حبيبتي.. قالتها وهبطت إليه
بعد قليل، كانت تجلسُ بجوارهِ في السيارة، تحاولُ أن تبدو ثابتةً لكنَّ ملامحَ وجهها تفضحُ حزنها منه، تطلَّعت عبر المرآةِ الأماميةِ للمربيةِ التي كانت تحتضنُ الطفلَ برفق، ثمَّ قالت بصوتٍ حاولت أن تخفي فيه ارتجافًا:
- لو نام، غطِّيه علشان مايبردش.
ردَّت المربية بنبرةٍ طبيعية:
- حاضر، بس الجوِّ حر يا مدام.
استدارت بجسدها للخلف فجأة، وعيناها تتفحصانِ الطفل الذي بدا هادئًا، وأشارت إلى ملابسهِ الخفيفةِ والمكيِّف، قائلة بنبرةٍ حازمةٍ تخفي خلفها قلقًا أموميًا:
-لا، هوَّ لسه صغير، والمكيف شغال..لمَّا ننزل هياخد برد، المفروض تبقي عارفة الحاجات دي كويس.
ارتبكت المربية قليلًا، وتعلَّقت عيناها بإلياس المستمعَ بصمت، فأومأت برأسها بخضوع:
"حاضر يا مدام."
التفتت لتعودَ لوضعها الطبيعي في المقعد، لكنَّ حركتها السريعةِ جعلت كتفها يلامسُ كتفه..ورغم أنَّهُ تلامسًا بسيطًا لكن جعل قلبها ينبضُ بقوَّة، بينما شعرَ هو برعشةٍ خفيَّةٍ تجتاحهُ للحظة، التفتَ سريعًا ناحيةَ النافذة، يهربُ من نظراتها التي تضعفه، بينما هي ألقت نظرةً عابرةً بصمت.
ظلَّ ينظرُ عبر النافذة، مراقبًا الطريقَ بصمتٍ ثقيل، لم يتفوَّه ببنتِ شفة، وصلوا إلى المنزل بعد دقائقَ تشعر بأنها بدت طويلة..نزلت المربية بسرعة، تحملُ الطفلَ بين ذراعيها بحرص، واتَّجهت نحو الباب..أمَّا هي، فبقيت جالسة، تراقبها إلى أن ابتعدت فاستدارت نحوهِ ببطء.
نظرت إليه لبعضِ اللحظات، ترسمُ ملامحهِ الحجريةِ الصامتة، ثمَّ نطقت بصوتٍ مبحوحٍ يفيض بشحناتٍ دفينةٍ من الألم:
-.أنا لمَّا طلبت من بابا أرجع الشغل، كنت مضطرَّة أعمل كده لأنَّك كنت رافض ترد على مكالماتي..حتى لمَّا بطَّلت تزورنا وبقيت تبعت حدِّ ياخد يوسف، مكنش عندي حل غير كده.
أخذت نفسًا عميقًا، لكن ارتجف صوتها قليلًا مستطردة:
-أنا مش متعودة أقعد كده، وإنتَ عارف ده كويس.
كانت تنتظرُ أي ردِّ فعلٍ منه، لكنَّهُ ظلَّ صامتًا كأنَّه لم يسمع، ممَّا دفعها لإكمالِ الحديث، رغم الدموعِ التي بدأت تلمعُ في عينيها:
- تعرف أنا ندمت على جوازنا ...هنا التفتَ إليها سريعًا يحدجها بنظراتٍ مميتة، هزَّت رأسها وهربت من نظراتهِ تنظرُ للخارجِ مستأنفةً حديثها:
-الأوَّل كنت بعرف أوقف قدَّامك، وأقول رأيي براحتي، كنت بستمدِّ قوِّتي من شخصيتي، بس دلوقتي بخاف، بخاف من ردِّة فعلك، حتى على أقلِّ حاجة، إنتَ زعلان علشان لجأت لغيرك، مفكرتش إنَّك اللي وصَّلتني للمرحلة دي، حاولت تسحب منِّي شخصية ميرال، ليه معرفش.. مش ذنبي إنِّي طلعت بنتِ عدوِّكم، رفعت عينيها التي تلألأت بنجومها مردفة:
-طبعًا أخباري عندك وعارف إنِّي تابعت مع دكتور، أنا من فترة تعبانة كنت مفكَّرة من الحمل، بس مبقتش قادرة أضغط على نفسي أكتر من كدا، شهر كامل وإنتَ مقاطعني، لحدِّ ما دخلت في اكتئاب، مش عيب فيك أبدًا، العيب في ضعفي واستسلامي..
سكتت للحظة، ثمَّ أضافت بصوتٍ أعمق، مشحونًا بالغصَّة:
يزن هوَّ اللي أقنعني أروح لدكتور..اتكلِّمت مع أرسلان، مع ماما فريدة، كلُّهم شافوا إنِّي محتاجة ده، بس إنتَ فين من دا..بتحافظ على كرامتك..
ارتفعت أنفاسها، ودموعها لم تعد تحتمل، لكنَّها مسحتها بسرعةٍ وكأنَّها ترفضُ أن يراها منهارة:
- عمري ما خرَّجتك من حياتي ياإلياس، لكنَّك بتجبرني كلِّ مرَّة ألجأ لغيرك.
كان يحدِّقُ بها بصمت، وكأنَّ الكلمات التي لفظتها تكسَّرت داخله كقطعِ زجاجٍ تنغرسُ في قلبه..لم يستطع الرد، أو ربما لم يكن يعرف ماذا يقول..
أدار رأسهِ نحو النافذة، محاولًا الهروب من ثقلِ الحقيقةِ التي ألقتها عليه..داخلهِ كان يتصارعُ بين كبريائهِ وندمٍ بدأ يتسلَّلُ إليه.
-آسفة لو كنت ضايقتك
بدا وكأنَّهُ لم يكن يتوقَّع هذه الجملة..رفع عينيهِ نحوها أخيرًا، لكنَّ نظراته كانت باردة، جامدة، ممَّا جعلها تضيف:
-يبقى ابعت خد يوسف زيِّ كلِّ مرَّة، من غير ماترجعلي، وكأن مش من حقِّي أعرف ابني رايح فين، المربية والأمن بقوا عارفين أكتر منِّي، فتحت الباب ونزلت بساقيها المرتعشة:
-ابنك وحقَّك في أيِّ وقت، مش هلومك، بس عايزة أوضح لك حاجة رغم عارفة إنَّك مش هتصدَّقها، بس من حقِّي عليك أبرَّأ نفسي، أنا ماليش إيد باللي حصل من إسلام، هوَّ كان بيقولِّي هيعمل في غادة مقلب وبيحكيلي، وبصفته أنُّه أخويا الصغير ضحكت على اللي هيعمله، مش علشان أخلِّيك تغير، لأنِّي لغيت حياتي معاك من وقت مادوَّرت على كرامتك ودوست على قلبي وحوَّلتني لمسخ..
أتمنى لك ليلة سعيدة ياحضرة الظابط، قالتها وتحرَّكت تخطو بسيقانٍ مرتعشةٍ ودموعٍ تفرشُ طريقها حتى اختفت الرؤية بوضوحٍ أمامها وكادت أن تسقط.
ظلَّت نظراتهِ تراقبها إلى أن اختفت خلف بابِ المنزل، شعرَ بشيءٍ ينكسرُ داخله..بل شعورًا ثقيلًا بالخسارة...كيف يقوَ على خسارتها وهي التي تعتبرُ ملاذهِ في الحياة...دقائقَ لم يشعر بها وعيناهُ على غرفتها التي أُنيرت..
أغلقَ عينيهِ وشعرَ بثقلِ تنفُّسهِ وهو يتساءل:
كيف وصلَ الأمر بينهما إلى هذا الحد؟
هل حقًا السبب فيما توصلت إليه..صراع عنيف بين قلبه وعقله، ليصفع العقل القلب كعادته واتجه مغادرا المكان
...
بفيلا العمري:
قبلَ ساعات..
جلست بجوارِ والدتها ورانيا لتناولِ إفطارهم..طالعتها رانيا متسائلة:
-راحيل إمتى هتعملي اجتماع الإدارة؟..وأه عايزة منِّك بكرة تنزلي تنقلي أملاك راجح اللي كتبها لك باسمي، بما أنُّه خرج من السجن والحمدُلله القضية طلعت هبلة فخلاص بقى انقليهم باسمي..هنا شعرت بقبضةٍ قويةٍ تعتصرُ فؤادها، وضعت كفَّيها على صدرها حينما شعرت بثقلِ تنفُّسها؛ وهي تتذكَّرُ أنَّها تنازلت عن كلِّ شيئٍ ليزن بعد الوثوقِ به..قاطع شرودها صوت رانيا:
-أنا هرجع فيلِّتي، راجح راجع بكرة..
رفعت راحيل نظراتها متسائلة:
-هوَّ عمُّو راجح كان مسافر فين؟..من يوم القضية ماشفتوش.
رمقتها رانيا بنظراتٍ جاهلةٍ ثمَّ أردفت:
-معرفش والله يارحيل، حتى المحامي مابلَّغنيش بخروجه، المهم أنُّهم عرفوا أنُّه بريئ وقرايبه دول عايزين ينتقمو منُّه.
قطبت جبينها وتصنَّعت عدم المعرفة:
-مش فاهمة ياخالتو، مين قرايبه عمرك ماكلِّمتينا عنهم؟.
جذبت رانيا إحدى الحلوياتِ وحاولت إلهاءها بالحديثِ قائلة:
-أنا فاكرة بقى معرفهمش، المهم أنا هرجع الليلة، وشكرًا إنِّك وافقتي أقعد معاكو الفترة دي.
هزَّت رأسها دون حديث، بينما أعينِ والدةِ رحيل على رانيا، نهضت رحيل من مكانها بعدما استمعت إلى رنينِ هاتفها، بينما تساءلت رباب والدة رحيل:
-مين قريب راجح يارانيا؟..إحنا عارفين راجح مكنش له غير جمال الله يرحمه، حتى ولاده منعرفش عنهم حاجة...ممكن تقوليلي مين قرايبه؟..
نهضت رانيا من مكانها وابتعدت عنها وتصنَّعت الجهلَ قائلة:
-معرفش يارباب، كلِّ اللي أعرفه قرايبه، هروح أجهَّز نفسي علشان أوصل قبل وصول راجح..
دقائقَ واستمعوا إلى صوتِ ضجَّةٍ بالخارج، خرجت رانيا لتجدَ يزن يقفُ أمام رحيل ويزأرُ كالأسدِ الهائج:
-إنتِ إزاي تكسري كلامي وتنزلي الشغل؟..
-وإنتَ مالك ومالي إن شاءالله، ليك عين تيجي توقف وتتبجَّح قدَّامي؟!..
جزَّ على أسنانهِ واقتربَ منها يضغطُ على ذراعيها:
-راحيل متخلنيش أفقد أعصابي، وأورِّيكي اللي عمرك ماشفتهوش..
طعنتها كلماتهِ بخنجر، لتشيرَ إليه بعينانِ تشتعلانِ بنيرانِ الغضب مايكفي لحرقِ مدينة، ثمَّ هدرت بحدَّةٍ بالغة:
-اسمعني يااسمك إيه، إنتَ مالكش حكم عليَّا، ومتفكرش علشان سرقتني هطاطي لأشكالك ياحرامي.
تحوَّل غضبهِ إلى شيطانٍ مارد، وتناسى كلَّ شيئٍ سوى إهانتها لشخصه، ليدفعها بقوَّةٍ سقطت من خلالها على المقعد، وأحاطها بين ذراعيهِ يهتفُ من بين أسنانه:
-أنا حرامي يارحيل؟..
-وأكبر حرامي، إنتَ ياريتك حرامي بس إنتَ شيطان، ربِّنا ينتقم منَّك يايزن، واحد حقير انتهازي.
ارتجفَ جسدهِ لتفلتَ شهقةً رغمًا عنه من بين شفتيه، حينما فقدَ الإحساس ليشعرَ بما طعنته، اعتدلَ بقلبٍ مقبوض، وغمغمَ مزمجرًا بخفوت:
-تمام إنتي اللي جبتيه لنفسك..قاطعهم وصول أحد الحرسِ الخاصِّ بها:
-راحيل هانم حضرتك محتاجة حاجة؟..
توقَّفت تحدجُ يزن بنظراتٍ مشمئزِّة، وأشارت عليه:
-خدوا الأستاذ دا ارموه برَّة وممنوع يدخل بيتي تاني.
اقتربَ منه الرجلَ يقبضُ على كتفهِ بقوَّة، وهدرَ به:
-ياله برَّة يالا، مسمعتش الهانم قالت إيه؟..
لكمَ الرجلَ بقوَّةٍ حتى سقط ثمَّ بسطَ كفَّيهِ يجذبها من خصلاتها بقوَّةٍ حتى أصبحت بأحضانه:
-بصِّي يابت، مش يزن السوهاجي اللي بنت تقلِّ منُّه، ودلوقتي هعرَّفك إزاي تخلِّي رجالة تطرد جوزك..
دلفت رانيا تصرخُ بوجهه:
-الواد دا إيه اللي دخَّله هنا؟..
دفعَ راحيل بعيدًا عنهُ ثمَّ وصلَ إليها بخطوةٍ ليطبقَ على عنقها قائلًا بهسيس:
-الواد دا سيدك، وهيرميكي في الشارع دلوقتي..قالها ثمَّ دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرضيةِ تطالعهُ بخوف، ليصرخَ بأحدِ الرجال:
-ارمو الستِّ دي برَّة، والكلبِ جوزها لو حاول يدخل البيت اكسرو رجله.
ثمَّ اقتربَ من رحيل التي تنظرُ إليه بذهول:
-جهِّزي نفسك لجوزك ياآنسة راجع لك بعد ساعتين...قالها وهو ينظرُ للرجلِ الذي يسحبُ رانيا وهي تصرخُ باسمِ راحيل..
استدارَ على صوتِ راحيل المتقطِّع:
-إنتَ مستحيل تكون جوزي، وأنا رفعت قضية طلاق عليك يالص ياحرامي..
رفعَ كفِّهِ ليلطمها على وجهها، بعدما فقدَ اتزانهِ وشعورهِ بالقهرِ من حديثها الذي طعنَ كرامته، ولكنَّهُ كوَّرَ قبضتهِ بالهواء، وتراجعَ خطوة، ثم انحنى ينظرُ إلى عينايها المتحجِّرة بالدموع:
-رغم إنِّي قولت لك هرجع لك كلِّ حاجة، بس لازم آخد حقِّي من راجح ، وعرَّفتك أسراري، لكن إنتي خذلتيني..بس معلش ملحوقة..قالها واستدارَ يشيرُ إلى الحراسة:
-المدام حبس اجباري داخل الفيلا، إياك تخرج..قالها وتحرَّك..بينما راحيل التي ظلَّت كالجسدِ الذي خرجت روحه.
عند أرسلان بفيلا الجارحي قبيلَ ساعات..انتهى الجميع من وجبة إفطارهم التي تناولوها في جوٍّ من المحبَّةِ والألفة، ثمَّ انتقلوا إلى مكانهم المعتاد لتناولِ مشروبهم المفضَّل..توقَّفت ملك وتساءلت:
-أرسو هنروح السنة دي الحسين زي السنة اللي فاتت؟،،
حاوطَ أكتافِ غرام يطالعها قائلًا:
-إحنا كلِّ سنة بنروح الحسين يوم 15 رمضان بناخد سحورنا هناك وبنلفِّ شوية، إيه رأيك تروحي معانا؟..
ابتسمت قائلة:
-أكيد..نهضت ملك واتَّجهت تجلسُ جوارها:
-أحلى غرام دي ولّا إيه، صدَّقيني هتكون خروجة تحفة..
أومأت لها قائلة:
-أكيد حبيبتي بدل هتكوني معانا، رفعت نظرها إلى أرسلان:
-إيه رأيك تكلِّم إلياس ونتقابل كلِّنا هناك؟...صفَّقت ملك كالأطفال وأردفت بسعادة:
-لا، كدا خلوها إفطار وسحور، واللهِ اليوم هيكون جنان..
تهكم ارسلان يطالعها
-روحي يابتِّ العبي بعيد..قال إفطار وسحور..توقَّف أرسلان على رنينِ هاتفه:
-أيوة ياالياس..قالها وابتعدَ عن الجمع..
توقَّف إلياس بالسيارةِ متسائلًا:
-كلِّ سنة وإنتَ طيب ياحضرةِ الظابط.
-وإنتَ طيب ياحبيبي، عامل إيه؟..
-كويس..قالها ثمَّ تنهَّدَ وتساءل:
-فيه أخبار عن راجح معرفتش مكانه؟..ذهبَ بصرهِ لإسحاق الجالسِ بالحديقة ينفثُ تبغهِ وينظر للامامِ بشرودٍ، ثمَّ أجابه:
-بدوَّر والله ياإلياس، أنا عملت زي ماقولت لي، يوميها اتَّصلت وقولت له اللي طلبته، إنِّ العربية فيها قنبلة علشان يدخل فيلته من غير العربية بس معرفش، رجع بالعربية ومن وقتها اختفى.
-تمام هيظهر هيروح فين، المهم أنا طلبت من شريف ياخد باله من ميرال من غير الحراسة، وإنتَ كمان خلِّي بالك من نفسك معرفش بيخطَّط لإيه، أكيد هيتجنِّن بعد مايعرف اللي يزن عمله...قاطعهُ متسائلًا:
-طيب يزن هيقولُّه إمتى أنُّه ابنه؟..
أخرجَ زفرةً حارًّةً ممزوجةً بتبغه، وأردف:
-لسة شوية، لمَّا نرجَّع حقِّنا، حق والدتك وكرامتها في البلد، لازم ينزل البلد الحيوان دا، ويقول الِّلي عمله فيها هوَّ ورانيا الزفت دي..الفيديو بتاع رانيا حافظ عليه علشان يخرج وقت اللزوم، علشان يعرف مين اللي بيخونه..
قهقهَ أرسلان قائلًا:
-أنا اتصدمت لمَّا عرفت البوص يكون دا ..شردَ إلياس قائلًا:
-متتهونش فيه، لازم نجيب قراره..قاطعهُ أرسلان:
-بدوَّر وراه، بس السؤال المهم..راجح عارف إنِّ الراجل دا هوَّ اللي بيحرَّكهم ولَّا لأ..
-بعد العيد هننزل السويس ونشوف الإجابة على علاماتِ الاستفهام.
بمنزلِ آدم انتهى من ارتداءِ ملابسه، ثمَّ جمعَ أشيائهِ الخاصةِ وتحرَّك للخارج، قابلتهُ وهي تحملُ كوبًا من العصيرِ وقطعٍ من بعض الحلويات، توقَّف يتطلَّعُ إلى مابيدها:
-حبيبتي رايحة فين؟..نظرت حولها لتضعَ ماتحمله، ثمَّ اتَّجهت إليه:
-إنتَ خارج ولَّا إيه؟..أومأ لها قائلًا:
-رايح مع بابا لطنط فريدة، وأحمد كمان جاي، لازم نتعرَّف عليها..
رفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ ملابسهِ وأردفت بنبرةِ حنونة:
-دومي عايزة آجي معاكم، إيه رأيك؟..
أمسكَ كفَّها وقبَّلها، ثمَّ قرَّبها يضمُّها لأحضانه:
-حبيبتي مينفعش، دا لسة تعارف وبعدين لمَّا ناخد على بعض أكيد زياراتنا هتكتر، وكمان مش عايزين نحرجها قدَّام جوزها، وبابا لسة العلاقة بينه وبينها مش القوية، فاهمة؟.،
أومأت له ثمَّ أشارت إلى كوبِ العصير:
-طيب اشرب العصير، وكنت جايبة لك البسبوسة اللي بتحبَّها..
انحنى يطبعُ قبلةً بجوار شفتيها ثمَّ همسَ بجوارِ أذنها:
-أنا بسبوستي هاكلها كلَّها لمَّا أرجع تمام..قالها وهو يغمزُ لها ثمَّ تحرَّك بعض الخطواتِ ولكنَّه توقَّفَ مستديرًا:
-هنعدِّي على الفندق علشان نقابل الشهاوي وبنته..
خطت مقتربةً منه بعيونٍ متسائلة:
-إيه اللي حصل لدا كلُّه؟..
حاوطَ أكتافها وانحنى قليلًا لمستوى وقوفها:
-لازم نخلص من الموضوع دا، أنا مش هفضل في المحاكم، للأسف لعبتها صح والشهود في صالحها، هنشوف آخرة الموضوع إيه، وإن شاءالله بابا يلاقي حل مع باباها..
ضيَّقت عيناها وتساءلت:
-هوَّ باباها لسة هنا؟ مش الراجل دا مغربي؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي وردَّدَ قائلًا:
-لا، حبيبتي هوَّ أصله مصري بس متجوِّز مغربية..بس مش مستقر لا في المغرب ولا مصر، في الولايات المتحدة، راجل واصل بمعنى أصح وتقيل، يعني لمَّا كانت بتهدِّدني كانت واثقة إنِّي هوافق على شروطها، علشان عارفة بمساندة أبوها هتعمل كلِّ حاجة.
-أومال ليه قولت إنَّها مغربية ياآدم؟..
-علشان هيَّ مغربية فعلًا، باباها معاه الجنسية المغربية ومعظم حياته بين المغرب وأمريكا، قليل لمَّا يتكلِّم عن مصر.
جاهدت في إخفاءِ الحزنِ وألمِ الماضي، هزَّت رأسها مبتعدةً بنظرها عنه:
-خلاص حاول متتأخرش..
طبعَ قبلةً حنونةً على جبهتها وغادرَ المكان..ظلَّت متوقِّفةً مكانها تراقبُ تحرُّكهِ إلى أن اختفى عن نظرها، هوت على المقعدِ وخطٍّ من الدموعِ تسلَّلَ عبر وجنتيها، تهمسُ لنفسها:
-يارب ماتخلنيش أندم ياآدم على إنِّي سامحتك وأدتلك فرصة تانية..
قالتها وهي مطبقةٌ على جفنيها ونيرانُ الغيرةِ والألمِ تحرقُ أحشاءها، تنهيداتٌ ثقيلةٌ حتى شعرت بتقطع تنفُّسها، استمعت إلى رنينِ هاتفها، توقَّفت تجذبه، ثمَّ تحرَّكت إلى الشرفة، جذبت المقعدَ وهي تستمعُ إلى المتَّصل:
-أيوة حبيبتي...أنا كويسة.
على الجانبِ الآخرِ تحدَّثت رؤى:
-إيلين عايزة أتكلِّم معاكي لو فاضية؟..
مسحت على جبينها ثمَّ زفرت بهدوء، تحاولُ ألا تغضبها قائلة:
-سمعاكي يارؤى..
-مال صوتك؟..وبعدين دكتور آدم مش موجود؟..أوعي تقولي إنِّك اتخانقتوا تاني..
أجابتها بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم:
-لأ، هنتخانق ليه، هو بس عنده شوية شغل، المهم عايزة إيه؟..سمعاكي.
-عايزة أقولِّك على حاجة مهمة بقالي فترة عايزة أتكلِّم معاكي ومتردِّدة، بس كنت بحاول أتقبَّل الفكرة.
-قولي عايزة إيه يارؤى؟..عندي مذاكرة كتيير..
-مش أنا وميرال طلعنا أخوات، وإلياس ابنِ عمِّنا.
-ميرال مين؟..نطقت بها إيلين بتيه..
أفلتت رؤى ضحكةً صاخبةً وهي تتحرَّكُ بغرفتها ثمَّ أجابتها:
-ميرال مرات إلياس، طلعت أختي، ومش بس كدا أنا طلعت بنتِ جوز خالتك، يعني إحنا قرايب.
صدمةٌ عنيفةٌ أصابت عقلها حتى هربت الحروفُ من مخارجها ولم تقدر على التفوُّه، لحظات، ربما دقائق وهي لم تستطع الحركة وكأنَّ حديثَ رؤى صاعقةً أصابت جسدها كاملًا..سحبت نفسًا بهدوءٍ وحاولت النطق:
-يعني إنتي بنت عمُّو راجح؟!!إزاي ومين قالِّك الهبل دا؟..
قصَّت لها رؤى كلَّ ما حدثَ بتلك الفترة، كانت تستمعُ إلى حديثها بذهول، ممَّا جعلَ جسدها ينتفض، وكأنَّ مااستمعت إليه صوتٍ لعويلٍ أصابها بالصمم..
بفيلا السيوفي؛
وصلَ زين بصحبةِ أبنائهِ إلى الفيلا، كان مصطفى وفريدة باستقبالهِ بناءً على مطالبةِ زين بالمقابلة، جلسَ الجميع بغرفةِ المعيشة، بوصولِ إلياس بعد معرفتهِ بصلةِ القرابة..توقَّفَ آدم حينما لمحَ دخوله، يردِّدُ الاسمَ بينه وبين نفسه:
-إلياس السيوفي!.،..استدارت فريدة إلى إلياس الذي دلفَ من البابِ ملقيًا التحية..ابتسمت إليه بحنانٍ أمومي، وتوقَّفت تنظرُ إليه وإلى زين قائلة:
-دا إلياس الكبير..نهضَ زين يدقِّقُ بملامحِ وجهه، ثمَّ ابتسمَ إليه، يشيرُ على نفسه:
-مش هتسلِّم على خالك؟..قالها بعدما توقَّفَ ينظرُ إليهم بجهل..اقتربت فريدة تربتُ على كتفه:
-حبيبي، دا خالو زين يُعتبر في مقام أخويا، هوَّ بيكون ابنِ عمي اللي حكت لك عنُّه.
ذهبَ ببصرهِ إلى مصطفى كي يشرحَ له مايصير، حمحمَ مصطفى بعدما وجدَ تجمُّدَ إلياس، يهمسُ لنفسه بالخطأ، فكان عليه إخبارهِ قبل وجودهم:
-زين الرفاعي بيكون ابنِ عمِّ مامتك حبيبي، دا اللي سافر بعد جوازها من والدك الله يرحمه، كنية ماما اللي غيَّرتها فريدة محمود الرفاعي..
التفتَ إلى والدتهِ سريعًا، لتهربَ بنظرها تنظرُ إلى زين متمتمة:
-إلياس مكنشِ يعرف زي ماقولت لك، لسة عارف من فترة بسيطة، حتى مايعرفشِ كنيتي الحقيقية..قاطعها بعدما استدارَ بكاملِ جسده إليها:
-مين قال كدا؟..أنا عارف كلِّ حاجة، وكمان عرفت بموضوع ابنِ عمِّ حضرتك، ولمَّا سألت عنُّه، عرفت أنُّه رجع مصر من خماستشر سنة، حتى عرفت مكانه، وعرفت الدكتور بيكون ابنه، بس مكنشِ فيه وقت إنِّنا نتقابل أو مكنش الوقت سامح بسببِ الظروف..
اتَّجهَ بنظرهِِ إلى زين ورسمَ ابتسامةً يبسطُ كفِّه:
-أهلًا بحضرتك يازين باشا، نوَّرت فيلا السيوفي، ثمَّ ألقى نظرةً سريعةً على آدم:
-الدنيا صغيرة يادكتور، نوَّرتنا.
ابتسمَ آدم قائلًا:
-آسف بس دا شغلي..أشارَ إليهم بالجلوس، واتَّجهَ يجلسُ بجوارِ مصطفى وهو يجيبه:
-لا بالعكس يادكتور، كبرت في نظري، أنا مكنتش عايزه، كنت عايز أتأكِّد إن التحليل الصح هيوصل زي ماهوَّ ولَّا..
-يعني كنت بتختبرني؟..
أومأ برأسهِ قائلًا:
-بالظبط كدا، أتمنى متزعلش منِّي، دا شغلي..تطلَّعت فريدة إليهِ تحاولُ أن تفهمَ مايقوله، ثمَّ تساءلت:
-أنتوا تعرفوا بعض؟..دلفت الخادمة إليهم بمشروباتهم، صمتَ إلياس إلى أن خرجت ثمَّ استأنفَ حديثه:
-قضية يامدام فريدة، اتقابلنا فيها، شغل يعني...
قطبَ زين جبينهِ متسائلًا:
-مش قولتي إن إلياس ابنك؟..ليه بيقولِّك مدام فريدة؟..
حمحمَ إلياس ورسمَ ابتسامةً ينظرُ إلى فريدة:
_ بدلَّع عليها يازين باشا، مش كدا ياماما؟..قالها بمغزى..ابتسمت تهزُّ رأسها تتطلَّعُ بعيونٍ سعيدةٍ إليه:
_ إلياس متقلِّب يازين، معلش شغله مسيطر عليه..بعد فترةٍ من التعارف، بدأت الأحاديثُ الخاصَّة بما حدث لفريدة إلى أن توقَّفَ إلياس بالسؤال:
- وحضرتك إزاي تصدَّقه كدا؟!..يعني ماما متربية مع حضرتك، تصدَّق كلام زي دا!!
أومأ زين برأسهِ وأجابَ بعد تنهيدة:
-أنا مصدَّقتش الكلام، قولت أكيد اتجوِّزت، بس معنديش معلومات، ودوَّرت في كلِّ السجلات سواء وفيات أو سجون، متزعليش منِّي يافريدة، مكنشِ عندي أمل تكوني متجوِّزة واحد زي مصطفى باشا ومغيَّرة اسمك كمان..
طأطأت رأسها بأسى، حينما تذكَّرت الماضي وبقاياه التي زادت من أنينِ روحها..
ماما..تمتمَ بها إلياس بقوة، وهو يشيرُ بعينيهِ ألَّا تنحني برأسها، رفعت عينيها التي تموَّجت بالألمِ والحزنِ قائلة:
-نصيبي الحلو يازين، رضا ربِّنا عليَّا، أو يمكن نهاية الصبر والوجع من بعدِ موت جمال..تعلَّقت عيناها بأعينِ مصطفى:
-أحلى حاجة ربِّنا كرمني بيها بعد مرار راجح ورانيا، رانيا اللي تحوِّلت لشيطان، والسبب معرفوش، وراجح اللي رسم دور الرجولة قدَّام جمال، لحدِّ ماتنازل عن حقُّه في ملكِ والده، علشان يرضي رانيا، وكان يقولِّي، متزعليش هوَّ برضو موظف ومرتَّبه مش بكفِّيه، وأنا مش محتاجه، ربِّنا كرمني الحمدُلله، كلِّ حاجة جمال اتنازل عنها علشان بس ميحسِّسوش أنُّه قليل، وشوف في الآخر عمل إيه، بدأت تقصُّ له كلَّ ما مرَّ بها منذ ولادتها لأرسلان إلى زواجِ مصطفى بها..
نهضَ إلياس من مكانهِ واتَّجهَ يجلسُ بجوارها، ولأوَّلِ مرَّةٍ يتنازلُ عن غروره، ويسحبها لأحضانهِ بعدما نزفت دموعها التي أحرقت صدرهِ قبل وجنتيها:
-وحياة كلِّ دمعة نزلت من عيونك، ماهرحمه..هزَّت رأسها تحتضنُ وجههِ مردِّدة:
-حبيبي مش عايزة حاجة كفاية وجودكم معايا إنتَ وأخوك، ربِّنا عوَّضني بيكوا، وكمان ميرال، أه منكرشِ إنَّها هوِّنت عليَّا، بس حرقت قلبهم عليها..
-ليه رانيا تعمل كدا يافريدة؟..هتجنِّن، إزاي تكون بالقسوة والجبروت دا؟!..
-السؤال دا تسأله لها، مش لماما..قالها إلياس بعصبية، وتحوَّل لوحشٍ كاسر، يهتفُ بهسيسٍ متناسيًا وجودِ والده:
-الستِّ الواطية دي هخلِّيها عريانة قدام نفسها، صدَّقني لولا ميرال كنت خلِّتها فرجة للي يسوى ومايساوش، دي مريضة حقد وغيرة، هطلَّعه على جتِّتها، الحاجة الوحيدة اللي تشفعلها عندي إنَّها أمِّ مراتي، بس برضو دا مش هيسكِّتني عن عقابها اللي تستاهله...
-إلياس..هتفَ بها مصطفى، ثمَّ أشارَ بعينيهِ أن يهدأ..نهضَ من مكانهِ معتذرًا، وأردف:
-آسف، نوَّرتوا عندي شوية شغل..التفتَ إلى والدته:
-ممكن نتسحر كلِّنا مع بعض على فكرة.،
شكرهُ زين عندما توقَّفَ وتمتم:
-لا ياحبيبي عندنا مشوار مهم، صمتَ للحظاتٍ ثمَّ تساءل:
-طيب فين مراتك نتعرَّف عليها، على الأقلّ أعرف شبه مين رانيا ولَّا راجح..
قاطعهُ سريعًا وكأنَّهُ ألقى عليهِ تعويذةً سحريةً مشمئزَّة:
-لا دا ولا دا، ولا تقرب لحدِّ فيهم، هيَّ مش موجودة دلوقتي..قالها وغادرَ المكانَ سريعًا دون حديثٍ آخر..
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن انتصف شهرُ رمضان، حاولت فيه أن تخرجَ من حزنها بانشغالها بعملها الذي كرَّست حياتها لهُ ولابنها، بعدما تعوَّدت على غيابه، ولم تعلم عنهُ شيئًا، حتى امتنعَ عن رؤيةِ طفلهما..
على الرغمِ من ثباتها وصلابتها أمام الجميع ولكنَّها كانت تخفي في داخلها انهيارًا، وخاصةً بعد انقطاعهِ الكاملِ عن كلِّ مايربطهما ببعضهما، حتى إفطارهما عند والدته..لتفعل مثله، بعد شعورها من عدم مواجهتها
ذات يوم، قام يزن بمهاتفتها.
- حبيبتي، منتظرك على الفطور النهاردة، ومش هقبل أيِّ أعذار، كلِّمت رؤى كمان لازم نتجمَّع مع بعض ياميرال، مش هنفضل كدا.
قالها بنبرةٍ دافئة، لكنَّها لم تشعر بها سوى أنَّها قيدًا من السلاسلِ الثقيلة، لأنَّها لاتريدُ أحدًا يرى ضعفها وانكسارها.. حاولت الرفض، لكن قاطعها بإصرارٍ لم يترك لها مهربًا منه، أغلقت عينيها للحظة، متمنيَّةً لو تستطيعَ الهروبَ من كلِّ تلك المشاعرِ التي تنهشها بلا رحمة...فهمست له بالموافقة..
قبل موعدِ الإفطار بساعة، انتهت من تجهيزِ نفسها، لكن قلبها ظلَّ في فوضاهِ المعتادة، هل تخبره، أم تفعل مثلما يفعلُ بها...أمسكت الهاتفَ لتخبره، ولكنَّها تراجعت، رمقت الشاشةَ بنظرةٍ مثقلة، قبل أن تلقي الهاتفَ على الطاولةِ وكأنَّها تُلقي عبئًا أثقل من قدرتها على الاحتمال.
تنهَّدت بحزن، ثمَّ التفتت إلى صغيرها، الذي بدأ في البكاءِ وكأنَّهُ يشعرُ بضعفها. كم كرهت ضعفها هذا..فقد كانت صلبة، قوية، لكن ما يعيشهُ قلبها الآن لم يكن سوى أنَّها فوق رمالٍ واهية.
صاحت على المربيةِ بصوتٍ خرجَ واهنًا رغم محاولتها اصطناعهِ ثابتًا:
- خُدي يوسف وانزلي، خلِّي الحرس يجهزوا، هنخرج ليزن.
أومأت المربية، ثمَّ حملت الطفل وغادرت..وقفت في مكانها للحظات، تنظرُ إلى البابِ المغلقِ بشرود، تشعرُ بالأنينِ الذي يحاصرها من كلِّ جهة...من جهةِ والديها، ومن الجهةِ الأخرى زوجها، ومعشوقها.
كيف لامرأة أن تُقسمَ إلى نصفينِ ولا تموت؟ كيف لقلبها أن ينبضَ بهذا الكمِّ من التناقض؟
انتشلها من اضطرابِ مشاعرها المنهكةِ رنينِ هاتفها، الذي قطعَ شرودها العميق، امتدَّت يدها إليه ببطء، كأنَّها تخشى أن يجرحها حتى قبل أن تلمسه، من ثقلِ ماتشعرُ به، نظرت لشاشتهِ التي أُنيرت باسمهِ لتنسابَ دموعها بصمت، تهمسُ اسمه بخفوتٍ وكأنَّهُ أخراج حروفُ اسمهِ شوكًا يجرحَ جوفها
"إلياس..."
أخذت نفسًا عميقًا، تحاول أن تسرقَ بعض القوةِ قبل أن تجيبه.
-أيوة...
صمتهِ في البداية ..أشعرَه بوجعها، كما لو أنَّهُ كان هناك معها، يراها، يلمسها..كيف لمجرَّدِ نبرةِ صوتها أن تجعلهُ يشعرُ وكأنَّها تتوسَّلهُ دون أن تنطق؟
- جاي لك في الطريق، جهِّزي نفسك، هنفطر عند يزن.
سمعت صوتَ رؤى بجانبه، تقولُ بحدَّةٍ لم تستطع إخفاءها:
- لسه هنعدِّي عليها؟ المدفع خلاص!..
رمقها إلياس بنظرةٍ أخرستها، ثمَّ عادَ صوتهِ إليها:
- قدَّامي خمس دقايق وأوصلِّك.
أغمضت عينيها، محاولةً أن تكتمً رجفةَ صوتها، لكنَّها لم تنجح..
-توصلِّي؟ ما أظنش، يا حضرةِ الظابط، إنَّك لسه هتوصلِّي..أنا نازلة، متتعبشِ نفسك، نتقابل هناك.
أنهت المكالمة بسرعة، وكأنَّها تخشى أن يفضحَ صوتها انهيارها..انهارت بشهقاتها حتى سقطَ الهاتفَ من يدها، وارتفعت يدها الأخرى إلى صدرها، كأنَّها تحاولُ أن تُسكِتَ قلبها الذي كان يصرخُ باسمه، وكأنَّها تستعطفُ قلبها..
ليتكَ كنتَ قاسيًا عليه...ليتكَ تكرههُ كما يحاولُ أن يكرهني...ليتكَ وليتكَ ياقلبي المتألِّم..
ولكن كيف لها أن تكرهَ من ينبضُ القلبَ باسمهِ فقط..شعرت بدوران الأرض بها وغمامةسوداء احاطتها لتهوى ساقطة
في سيارةِ إلياس...
قادَ السيارةَ بجنون، ليصلَ إليها قبل خروجها، لم يرَ ولم يسمع سوى تلك الشهقةِ المكتومةِ التي سمعها قبل أن تغلقَ الهاتف، كانت كافيةً لهدمِ كلِّ حصونه..زفرَت رؤى بضيق:
- إلياس، هدِّي السرعة هنموت كدا..
لم يلتفت إليها، ضغطَ على دوَّاسةِ الوقودِ أكثر، وعيناهُ على الطريقِ كأنَّهُ يحسبُ الخطواتِ للوصولِ اليها، دقائقَ معدودةً حتى اقتحمَ بوابةَ المنزل، ليتفاجأ الجميعُ بدخولهِ بتلك الطريقة..
ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا، يشيرُ إلى السائق:
-وصَّل أستاذة رؤى منزل يزن السوهاجي، قالها وصعدَ سريعًا إلى غرفتها بعدما وجدَ المربية تقفُ بطفله، لم يلتفت، إليها في بداية الأمر، ولكنها اوقفته قائلة:
-المدام بقالها فترة طويلة فوق، رغم أنها كانت جاهزة، دقائقَ ربما لحظات ودفعَ البابَ بقوَّة، ليجدها ملقاةً على الأرضية كالخرقةِ البالية، تجمَّدَ جسدهِ ليصل إليها بخطوةٍ واحدةٍ منتفضَ الجسد.
-ميرال..رفعَ رأسها من فوقِ الأرضية، يحملها بخوفٍ وكأنَّها شئٌ قابلٌ للكسر، وضعها بهدوءٍ على الفراش، وقامَ بفكِّ حجابها محاولًا إفاقتها:
-ميرو افتحي عيونك..قالها وهو يقرِّبُ عطرها من أنفها، رفرفت أهدابها تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ وكأنَّها تحلمُ به، ربتَ على وجنتيها مرَّةً يمرِّرُ إبهامه حتى تفيقَ بالكامل..فتحت عينيها بوهن، تشعرُ بألمٍ يضربُ رأسها وجسدها بالكامل لتشعرَ وكأنَّ جسدها مقيَّد الحركة..
-ميرال..ردَّدها مرَّةً أخرى، رفعت عينيها لتقابلَ عينيهِ القلقة، ثمَّ حاولت النهوض، تبعدُ كفَّيها من احتضانِ كفَّيهِ تهمسُ بخفوت:
-أنا كويسة، دوخت وأنا بلبس الشوز ومحستشِ بنفسي، استمعَ إلى مدفعِ الإفطار، فاتَّجهَ إلى الأسفلِ دون حديث..
بينما هي حاولت الاعتدال رغم ضعفها البائنِ عليها، توقَّفت بصعوبة، تنظرُ إلى نفسها بالمرآة، استمعت إلى آذانِ المغرب، مازالت نظراتها على نفسها لتدعي ربَّها بخفوتٍ وهي تضعُ كفَّيها على صدرها:
"يارب أنا عارفة عملت غلط كتير، بس إنتَ الرحيم بعبدك الضعيف، أنا تعبت من الحياة دي، صعبان عليَّا ابني أوي، بس مش قادرة أتحمِّل العذاب والوجع اللي في قلبي حاولت أقوى بس أنا ضعيفة؛ عارفة حكمتك يارب بس مش طالبة غير إنَّك تاخدني عندك من الدنيا دي، يارب خدني وريَّح قلبي من العذاب دا، انسابت دموعها وارتفعَ بكاؤها ومازالت تدعو ربَّها، ياتنزع حبُّه من قلبي ياتاخدني يارب..
سقطَ الكوبُ من يديهِ وهو متوقِّفًا على بابِ الغرفةِ..يطالعها بنظرةٍ لم تستطع الوصولَ لما يعنيه، ولكنَّها اتَّجهت إلى هاتفها مع ارتفاعِ رنينهِ بعدما أزالت دموعها:
-أيوة يايزن، معلش اتأخَّرت غصبِ عنِّي، لو عايز تفطر ونأجِّلها يوم تاني معنديش مشكلة لسة قدامي وقت.
قاطعها يزن ينظرُ بساعةِ يده:
-هنستناكي حبيبتي ياله، عرفت إلياس هيجيبك، التفتت بنظرها إليه مازال بمكانهِ وعينيهِ عليها ثمَّ أجابت أخيها:
-عادي معايا السواق لو حضرة الظابط مشغول، أصله دايمًا مشغول، مش عايزة أحمِّله فوق طاقته، وصلَ إليها ونزعَ الهاتفَ منها قائلًا:
-بكرة هنيجي نفطر معاك، أجِّلها لبكرة، أختك تعبانة...قالها وأغلقَ الهاتف، ملتفتًا إليها، ثمَّ أشارَ على ملابسها:
-غيَّري هدومك، هطلب أكل..قالها واستدارَ ولكنَّها أوقفته:
-مفيش داعي، عندي أكل من أسبوع في التلاجة، كلِّ يوم بسخِّنه، اقتربت منهُ وعينيها ترسلُ إليه الكثير من النظراتِ الموجعة، وشفتيها ترتعشُ بضعفٍ لما تشعرُ به، تحاولُ ابعادَ دموعها التي أصبحت كالأشواكِ توخزُ جفنيها قائلة:
-معرفشِ حسيت باليُتم قبلِ كدا ولَّا لأ، بس أنا حسِّيته اليومين اللي فاتوا وعذرت فيهم رؤى أوي، عندها حق، ماهو أنا معشتش اللي هيَّ عاشيته، ياريت يبقى تقولَّها ميرال في أسبوعين عاشت سنين عمرك كلَّها، قالتها وتوجَّهت للأسفل وهي تتمتم:
-الحق فطارك ياحضرة الظابط، أنا متعوِّدة على الأكلِ البايت، ودا مضر على معدتك.
رجفةٌ قويةٌ أصابت جسده، وهو يشعرُ بالخدرِ من صفعها بكلماتها، توقَّفَ عاجزًا لا يشعرُ سوى بالضعفِ من ترميمِ روحها، كان يظنُّ أنَّها هي التي ترفضُ الذهابَ الى فريدة، ولكن يبدو أنَّهُ أزهقَ حياتها دون أن يدري، سحبَ ساقيهِ يجرُّها بصعوبةٍ إلى أن وصلَ إلى غرفةِ الطعام بعدما استمعَ إلى حديثها:
-مكنشِ له لزوم تقومي من على أكلك، أنا هجهِّز السفرة زي كلِّ يوم، روحي افطري..
-مينفعشِ يامدام، أنا عاملة حسابي دقايق والفطار يكون جاهز، اشربي عصيرك، والباشا كمان ودقايق بس واعذريني فكَّرتك هتنزلي..وصلت المربية تنتقلُ بنظرها إليهِ قائلة:
-المدام قالت هنخرج، واتأخَّرت قلقت عليها، بسطَ ذراعيهِ يجذبُ طفلهِ ثمَّ أشارَ إليها على الداخل:
-روحي افطري..قالها وهو يتحرَّكُ بطفله إلى وقوفها في نافذةِ الغرفة، تجرَّأ بخطواتهِ إلى أن توقَّفَ خلفها، ثمَّ حاوطَ أكتافها يجذبها تحتَ حنانِ ذراعيه ونطقَ بنبرةٍ تحملُ من الألمِ مايشعرُ به:
-بتدعي عليَّا في وقتِ المغرب، دي دعوة في الأيام دي؟!..
أغمضت عينيها ولم تقوَ على التفوُّه، فيكفي ماتشعرُ به، جفَّت دموعها ولم يتبقَ سوى نزيفِ روحها...رفع ذقنها بعدما وجدَ صمتها، ثمَّ مرَّر أناملهِ على وجنتيها:
-مابترديش ليه؟؟..فيه حد يدعي على حبيبه كدا؟..
ارتعشت من تأثيرِ قربهِ المهلك، وكلمته التي ارتجف القلب عليها، لتتراجعَ للخلفِ مبتعدةً عنه:
-انا مادعتش عليك أنا دعيت على نفسي، ليه أقعد في الدنيا دي، لو على ابني ربِّنا هيتولَّاه، بس حقيقي حياتي مبقتشِ تهمِّني.
-اشش..قالها وهو يضعُ إبهامهِ على ثغرها، ثمَّ انحنى يهمسُ لها:
-كلِّ حرف قولتيه ووجع قلبي
هردُّو هولك..
-والله، غلطان ياحضرةِ الظابط، أنا مبقاش فيَّا حتة سليمة علشان تردِّ عليَّا وتزيد الألم، حضرتك قايم بالواجب وزيادة..
قاطعتهم الخادمة:
-السفرة جهزت يامدام..ثمَّ نظرت إلى أكوابِ العصير:
-حضرتِك مشربتيش العصير، طيب ليه؟..مش كفاية تعبك إمبارح، أنا آسفة ياباشا، المدام مهملة في أكلها وشربها، قاطعتها تشيرُ إليها بالخروج:
-بلاش تتعبي الباشا بكلام مالوش لازمة، روحي افطري..
اقتربَ منها ثمَّ بسطَ كفَّيهِ إليها:
-تعالي أنا جعان وعايز أفطر معاكي بجد، وقبل ماتعترضي وتحطِّي أوهام الفترة اللي فاتت مكنتش في القاهرة، ولسة راجع النهاردة وعرفت من ماما إنِّك رفضتي تروحي تفطري عندها..
تنهَّدت ثمَّ جذبت المقعد وجلست دون حديث، اتَّجهَ وجلسَ بجوارها ومازال يحملُ ابنه، نظر إليها ثمَّ نظرَ إلى الطعام:
-اممم، طيب ماالأكلِ حلو أهو ليه مش عاجبك؟..
التفتت إليه وتمتمت:
-الاستراحة بتعتك لازم تكون جاهزة ياإلياس باشا، مينفعشِ أسيب حاجة للظروف، الباشا لازم يكون على مايرام مش دا كلامك للخدَّامة؟..
-مقصدتش اللي فهمتيه..
تناولت الشوكة وجذبت صحنها أمامها قائلة:
-ولا تقصد مبقتش تفرق صدَّقني، أنا عايشة لابني وخلاص لحدِّ ماربنا يريَّحني منَّك ومن الحياة اللي انجبرت بيها.
دنا بجسده، يحدِّقُ فيها بعينينِ تحترقان بصراعاتٍ لا تنتهي، كأنَّ قربهِ منها معركةً يخوضها ضدَ نفسهِ قبل أن يخوضها معها...طالعها بأنفاسٍ متقطِّعة، صدرهِ يضيقُ ليشعرَ بسحبِ أنفاسه...وهمسَ بصوتٍ مبحوح، كأنَّهُ اعترافٌ موجع:
"مكنتش عايز أقرَّب منِّك وأنا لسه شايل، يا ميرال...عايز أرجعلك وأنا صفحة بيضا."
ارتسمت على شفتيها ابتسامةٍ ساخرة، لكنَّها لم تصل إلى عينيها، و أمالت رأسها قليلًا، تحدِّقُ فيه كأنَّها تراهُ للمرَّةِ الأولى، تزنُ كلماته بميزانِ الألم لا المنطق، قبل أن تهزَّ رأسها ببطء:
"أيوة، فعلًا...اه صفحة بيضة، وأنا كمان مش عايزة القرب ده، ابنك عندك، اعمل اللي يريَّحك..أمَّا أنا، كفاية عليَّا استنى انتهاء الباشا من عقابه..ولسه زي ما أنا، يعني طلاقي من جوازي مش فارق...في كلتا الحالتين، أنا ميرال بنتِ راجح الشافعي، اللي هوَّ عدوَّك."
قالتها بصوتٍ ثابت، لكن كلَّ حرف تنطقه كان يحطِّمُ داخلها، رفعت يدها ببطء، تشيرُ إلى الطعام ببرودٍ زائف:
"افطر... لو لسه عايز تفطر معايا."
لكن لم تكمل حديثها حينما استمعت إلى صوته الذي دوى في المكانِ كالعاصفة، حادًا، غاضبًا، موجوعًا بطريقةٍ لم تراها من قبل..ينادي على المربية، ممَّا جعلها تشهقُ بفزعٍ من هيئته، وفزع الطفل، هرولت المربية تحملُ الطفل، بعدما أشار إليها،تحرَّكُت به للخارج ..نهضت من مكانها لتهربَ من عاصفتهِ الهوجاء ولكن جذبها بقوة، حتى سقطت جالسةً على قدميه، أسيرةً لذراعيهِ اللتين حاصرتها بكلِّ قوَّةٍ كحصارِ السجانِ للمتَّهم، حاولت التملُّص، وأن تبعده، أو تحافظَ على المسافةِ بينهما، لكنَّهُ كان أقوى...
"أكِّليني يا مدام، بدل الحنية مش نافعة معاكي..."
قالها بصوتٍ أجش، متحشرج، وكأنَّهُ يتوسلُ لها بطريقةٍ غاضبة، بعدما فقد التحكُّمَ في السيطرةِ عليها، نعم لقد أضعفته، وهو لم يبخل عليها بالضعف، سيظلُّ خلفها حتى النهاية إلى أن تنهار مثله، أمال برأسه:
-معاكي للأخر ...
تجمَّدت بين يديه، ورغم ذلك خانها قلبها، لينبضَ بجنون، مما جعلَ جسدها يرتعشُ رغمًا عنها..أغمضت عينيها بقوة، تلعنُ ضعفها، تلعنُ هذا الشعور الذي يقتلها ولا يموت...لم يرحم ضعفها ، ليرفعَ أناملهِ على عنقها مرورًا بوجنتيها، إلى أن رفعَ خصلاتِ شعرها، يزيحها عن رقبتها بلمسةٍ بطيئةٍ لعنقها المرمري، لترتفعَ حرارةَ أنفاسهِ مقتربًا منهُ يداعبهُ مرَّةً بأناملهِ ومرَّةً بأنفه، ممَّا جعلها تلهثُ بصوتٍ بالكادِ استطاعت كتمانه..لم يكتفِ بذلك بل رفعَ عينيهِ ليحتضنَ عينيها التي لوَّحت بعشقه، وهمسَ بخفوت، لكن صوتهِ كان يضجُّ بالألم، بالهزيمة، بالشوقِ القاتل:
"قلبي لتاني مرَّة يكسرني يا ميرال..لتاني مرَّة تهزميني...ومقدرشِ أبعد أكتر من كده..كلِّ ماأحاول أبعد، أحبِّك أكتر وأكتر...مش عارف إيه اللي بيحصل، بس اللي متأكِّد منُّه إنِّك وجعاني أوي، يا ميرا."
رفعَ كفَّيها، وضعهما على موضعِ نبضه، كأنَّهُ يريدها أن تشعرَ به، أن تحسَّ كيف يخفقُ باسمها، كيف يخذلهُ في كلِّ مرَّةٍ يحاولُ أن يقاومها..عيناها تبرقُ بالدموع، تمتلئُ بالسخط، بالحيرة، همست بصوتٍ مرتعش، صوتٍ حملَ داخلهِ وجعًا أعمقُ مما يستطيعُ احتماله:
"أنا اللي بوجع دايمًا، ياإلياس...وإنت؟"
لم يجب...بل دفنَ وجههِ في عنقها، يلتهمهُ بشفتيهِ وكأنَّها نجاتهِ الأخيرة، وكأنَّهُ يحاولُ أن يدفنَ كلَّ الألم، كلَّ الحروب التي تصارعه، بل كلَّ ما يؤذيه..شدَّها إليه أكثر، يريدُ أن يصبحَ جزءًا منها، أن يذوبَ في هذا العناقِ الذي ينهكهما لكنَّهُ يبقيهما أحياء.
أمَّا هي، فبقيت هناك، مسجونةً بين ذراعيه، بين بُعدها وإجبارها بالبعدِ عنهُ وحبَّها الذي يذبحها، بين قلبها الذي يصرخُ به، وعقلها الذي يلعنه، وبين واقعٍ لا يسمح لهما سوى بمزيدٍ من الجحيم...
تأرجحت عيناهُ بالأسف، ليهمسَ بصوتٍ مبحوح، كأنَّه اعترافٌ مُتعثِّرٌ على شفتيه، ورجاءً يرسلهُ قلبهِ المنهك إليها لأول مرة:
– أنا آسف...
قالها بلسانٍ ثقيل، وصدرٍ منشقٍّ كلَّما تذكَّرَ دعاءها، نظرَ إليها بنظراتٍ معاتبة، ولأوَّلِ مرَّةٍ يراها بنظرةِ رجلٍ خائف، بل عاشق مرتجف، يشعر وكأنَّها قد تختفي من بين يديهِ في أيِّ لحظة..التقت نظراتهما، تحدقهُ بنظراتٍ توحي بألفِ معنى، فشعرَ بطعنةٍ صامتةٍ في صدره، بعدما أحسَّ بأنَّها تُحمِّلهُ ثِقلَ الألمِ الذي تشعرُ به..لم يحتمل صمتها القاتل لروحه، فخرجَ صوتهِ مجدَّدًا، متهدِّجًا بالشوق:
– وحشتيني...
ليتهُ لم ينطق بها، سابقًا كانت تشعرها بأنَّها ملكتهِ المتوَّجة، أمَّا الآن لم تشعر بحروفها..رمقتهُ بنظراتٍ مبلَّلةٍ بالخذلان، تبحثُ عن نفسها التي أضاعها بين كلماته، تبحثُ عن شيءٍ يثبتُ أنَّهُ لا يزال لها وحدها..بعد ثوانٍ من الصمتِ الذي خنقهُ جاءَ صوتها، خافتًا، لكنَّهُ انغرسَ في صدرهِ كخنجرٍ لا يرحم:
- أه وحشتك، صح، أفهم من كلامك إن مدِّة عقابي خلصت يا إلياس؟ وقت ما تحبِّ تعاقبني تبعد عنِّي، ووقتِ ما ترضى عنِّي ترجع لي؟ أنا كده ماليش قيمة خالص، صح؟
هنا أحسَّ أنَّ الأرضَ تزلزلت تحت قدميه، وأنَّ روحهِ تهربُ منه، فلم يمهلها ثانيةً أخرى لنطقِ باقي كلماتها المؤذية، اندفعَ إليها بجنون، يختطفُ أنفاسها بقبلةٍ حملت كلَّ جنونه، كلَّ اشتياقه، كلَّ ندمهِ الذي ينهشُ روحهِ منذ ابتعادَه عنها.
كانت قبلةً مختلفة، قبلةً مرتعشةً كقلبه، غارقةً بالألم، ملطَّخةً بالندم...كأنَّها صرخةُ حبٍّ أخيرة، كأنَّها محاولتهِ الأخيرةِ للتمسكِ بها قبلَ أن تضيعَ منهُ إلى الأبد.
أحاطها بذراعيه، يريدُ أن يذيبها بداخله، يريدُ أن يلغي المسافاتِ بينهما، يريدُ أن يجعلها جزءًا منه، جزءًا لا يُمكن اقتلاعهِ أبدًا...
لحظاتٍ بل دقائق ولم يشعر سوى أنَّهُ بجنَّةٍ بين ثغرها، الذي يعتبرهُ ملاذهِ الأخير، بعد غرقهِ بنارِ بُعدها، وبين عشقه الذي صارعه لشهور كنيران محبذة، تركها أخيرًا، رغمًا عنه، لم يستطع الابتعاد، لم يحتمل فكرة أن تعودَ المسافاتِ لتفصلَ بينهما، أسندَ جبينهِ على جبينها، يتنفَّسُ أنفاسها، يتشبثُ بقربها، وهمسَ بصوتٍ مُنطفئ، مرتعش:
– غلبتيني، يا بنتِ قلبي...جت لك راكع ومسلِّم على آخري، بقولِّك مش قادر أعيش في جنِّة بعدك، وعايز أعيش في نار قربك...مستعد أهدم جبال علشان تسامحيني.
ارتجفَ قلبها، ليرتعشَ بين ضلوعها كما لو أنَّهُ يستمعُ لتلك الكلماتِ للمرَّةِ الأولى..كان صوتهِ صادقًا حدَّ الوجع، نادمًا حدَّ الانهيار، مُتشبثًا بها حدَّ الجنون.
لكنَّها لم تعد تثق به، لم تعد قادرةً على نسيانِ ما سبَّبه لها من ألم، نظرت إليه بعينينِ ذابلتين، ممتلئتينِ بالدموعِ التي تحاولُ أن تقاومَ السقوط، ثمَّ همست بصوتٍ متقطِّع:
– أنا تعبت يا إلياس...موتِّني مرَّة واحدة، مش كلِّ مرَّة تموتي في حتَّة وتمشي.
تجمَّدَ مكانه، كأنَّ كلماتها ضربتهُ في مقتل..هل كان بهذهِ القسوة؟ هل تركها تموتُ ألفَ مرَّةٍ دون أن يدرك؟ شعرَ بأنَّ قلبهِ يتمزَّق، بأنَّ روحهِ تتهاوى أمامها، فلم يجد سوى احتضانها مجدَّدًا، بقوةٍ تكفي لإعادةِ نبضها، كأنَّهُ يريدُ أن يثبتَ لها أنَّهُ يريدُ الموتَ ببعدها، هامسًا بصوتٍ ثقيلٍ كأنَّ لسانهِ ملتفًّا بأشواكٍ جارحة:
– بعد الشرِّ عليكي...
دفنت رأسها في عنقه، استنشقت رائحتهِ بجنون، وكأنَّها تريدُ أن تملأَ رئتيها من رائحتهِ التي حُرمت منها، ثمَّ همست بصوتٍ نازفٍ، متعب:
– بحبَّك أوي..ونفسي أكرهك علشان الوجع اللي سبته جوَّايا، بس مش قادرة.
أغمضَ عينيهِ للحظة، وشعرَ بضعفهِ أمامها، أبعدها قليلًا، أمسكَ وجهها بين يديه، ينظرُ إلى عينيها طويلًا كأنَّهُ يُعيدُ اكتشافها من جديد، ثمَّ همسَ بحروفٍ حملت كلَّ عشقه:
– مش هتقدري تكرهيني، لأنِّك مخلوقة من ضلعي، يا بنتِ قلبي...
لم يتحدَّث أكثر، لم يكن هناك حاجةً للكلمات، فكلِّ شيءٍ كان يُقال بصمتهما، بنظراتهما، بارتجافِ أنفاسهما.
صمتًا قاتلًا لبعضِ لحظات، ثمَّ ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةٍ شاحبة، لكنَّها تحملُ حبًّا يعجزُ الكونُ عن استيعابه، قبلَ أن يهمسَ بنبرةٍ آمرة، لكنَّها غارقةٌ في العشق:
– مطلوب منِّك تحبِّيني وبس، عيونك دي متشوفش غير راجل واحد...
رفعت حاجبها بتحدٍّ، رغم الرعشةِ التي اجتاحت قلبها:
– على أساس كنت شايفة غير الراجل ده؟
ضحكَ بخفوت، لكنَّهُ لم يكن ضحكًا عاديًا، بل كان تنفُّسًا بعد غرقٍ طويل... كان كمن عادَ للحياةِ من جديد..
وفجأةً، انحنى وحملها بين ذراعيهِ وسط شهقةٍ صغيرةٍ أفلتت من شفتيها، قبلَ أن يهمسَ بمكر:
– غيَّرت رأيي...وعايز أفطر على حاجة تانية.
دفنت وجهها في صدره، تعرفُ جيدًا مغزى كلماته، لكنَّها لم تعترض، فقط سمحت لقلبها أن ينساقَ خلفه، للمرَّةِ الألف...
وبعدَ وقتٍ لم يُحسب، وهو غارقًا بعشقها، يكتبُ ملحمتهِ بطريقته، بعد جفاءٍ لشهور، نعم شهورٍ ونيرانٍ بالسوطِ تلتهمُ كلَّ داخله، ولكن غرورهِ ورجولتهِ جعلتهُ يتحمَّلها، إلى أن انفجرَ كالبركانِ ولم يعد يطيقُ احتمالَ كلمةِ البعد، لقد محاها كليَّةً من قاموسه، وودَّ لو يمحيها من جميعِ المعاجم، آااه محمَّلةً بكمِّ الاشتياقِ الذي صهرهُ بداخلِ أحضانها، ظلَّ يسبحُ بعينيهِ فوق ملامحها التي يرسمها بقلبه قبل عيناه، وهي تستكينُ في أحضانه، وكأنَّها لم تنم منذ عمرٍ بأكمله...
مرَّرَ أناملهِ بين خصلاتها، يتأملُ وجهها الذي شعرَ بانطفائهِ رغم كلِّ ما حدث، ثمَّ انتفضَ على وقعِ رنينِ هاتفه...
– إلياس، راجح ظهر، ورانيا راحت لعنده، وأنا براقبها...
اعتدلَ في جلسته، وعيناهُ تحاصرها بولهٍ، وكأنَّهُ يخشى أن تضيعَ منهُ في غيابه..أمسكَ بيدها، وأعدلَ نومها بعناية، كالكنزِ يخشى عليه من الضياع، ثمَّ أجابَ بحزم:
– نصِّ ساعة وهكون عندك، خلِّيك وراها.
– تمام...
نهض َمن مكانهِ واتَّجهَ إلى الحمَّامِ لدقائقَ معدودة، وحين خرج، لم يستطع منعَ نفسهِ من الاقترابِ منها مجدَّدًا، طبعَ قبلةً طويلةً فوق جبينها، استنشقَ أنفاسها مرَّةً أخيرة، كأنَّهُ يختزنها بداخلهِ قبلَ أن يغادر.
جمعَ أشيائه، ثمَّ غادرَ المكان، متَّجهًا إلى سيارته، ليُفاجأ بالخادمةِ تقتربُ منه قائلة:
– نعم يا باشا؟
لكنَّهُ لم يجب...فقط رفعَ رأسه نحو غرفتها، وكأنَّما يخوضُ معركةً جديدة، لا يعلم إن كان سينجو منها هذه المرَّة أم لا...كل ما يشعر به أنها جنة ونار، نزل بنظره إلى الخادمة قائلًا:
-المدام نايمة، مش عايز حدِّ يقلقها، وخلي بالكو من يوسف، واطلعي نزِّلي الأكل اللي فوق بهدوء..
-حاضر ياباشا..قالتها وتحرَّكت للداخل، بينما هو ظل واقفًا ينظر إلى نافذة الغرفة التي شهدت منذ قليل ملحمة دموية من العشق القاتل، ولكن بمفهوم قاموسه فقط، لا احد يستطع أن يترجمها سوى نبضهما عندما يتلاحمان، ابتسامة تجلت بعيناه كلما تذكر ماصار ثم استقل سيارته وقادَها متَّجهًا إلى وجهته.
بمنزل راجح
ظل يثور بالمكان كالثور الهائج:
-دا اموتها ازاي تعمل كدا، كل املاكي، الحيوانة هموتها ازاي تثق في الحلوف
-مش عارفة ياراجح هتجنن بجد
اومأ هو ينفث سيجاره
-يعني الشغل اللي جبته، ضيعت فرحته بنت العامري..قاطعته قائلة
-زين كلمني كذا مرة، وعزمنا على الفطار عنده بكرة
لوح بيده معترضًا:
-انا مش فاضي لهبله دا، فطار ايه وزفت ايه، انا اتفقت مع قناص محترف علشان يخلصنا من ابن فريدة، وكمان فيه واحد ورا الواد التاني..توقف للحظة متسائلًا:
-الواد دا محدش يعرف أنه مخابراتي، شكل فريدة لعبت بيا، لانه مش مخابراتي ابدا، دا فاتح نادي رياضي، وكمان بيدير شركات الجارحي
-معقولة ياراجح، شركات الجارحي كلها تكون تحت ايد الواد دا، دا ملهمش غيره وبنت
حك ذقنه يهز رأسه بتفكير، ثم أردف
- تخيلي يعني الواد دا مليلدار،
-فريدة، فريدة، دايما هي اللي ماسكة كل حاجة ..استدار يرمها بسخرية:
-طول عمرك دماغك سم يارانيا، مش قادرة تفكري في حاجة نوصلها، تعرفي وقتها هكون ايه، البوص بتاع الشرق الأوسط
زفرت جالسة ونظرت إليه بتهكم:
-يعني عايز تفهمني اللي تاعبك الفلوس والمركز، ولا فريدة نفسها
-الاتتين يارانيا، اولا لازم احافظ على مكانتي، الناس دي لو شمت خبر بوجود ولاد جمال هيفطروا بيا قبل مايفكروا في الغدا ...علشان كدا لازم اخلص منهم، والأهم إلياس علشان خطر على شغلهم، بيجهزوا لعملية كبيرة اوي هينفذوها قريب، خايف إلياس دا يعرف ووقتها الدنيا تتهد فوق دماغي
-علشان كدا عايز تخلص منه ..
-بكرة خبر موته لازم يغرق الجرايد، لأنهم امروني بتصفيته، تعرفي الحيوان كان فين من اسبوع، كان على الحدود بيصفي ناس تبعنا، ودا بيكون تبع العمليات التقيلة الخاصة، ونفذها وخلص على عدد كبير من الجماعة اياها، وهو مختفي بزي عرباوي، وهو واحدة من العمليات الخاصة ..هتجنن يارانيا ازاي عرفوا المعلومات دي، دا احنا محدش يعرفها
-طيب والعمل، من جهة إلياس ومن جهة يزن اللي كوش على كل حاجة
شرد للحظات ثم رفع هاتفه قائلًا:
-هبعتلك العنوان عايز خبر موته، الصورة عندك..قالها واغلق يرسل العنوان ..لتجحظ أعين رانيا
-دا بيت ميرال، انت اتجننت ..حدجها بنظرة مميتة
-دي هتكون طعم له، المكان الوحيد اللي نقدر نصطاده هناك ..اقتربت منه تهز رأسها بالرفض
-ابعد عن البنت ياراجح، مبقاش عندنا غيرها، كفاية طارق اللي اتحكم عليه حكم عسكري، والتاني مات، انت ازاي تكون كدا، قلبك حجر
جذبها من خصلاتها وهدر بهسيس مرعب
-اسمع صوتك هقطع لسانك، انا لازم اكون حاجة، مش هفضل انفذ أوامر وبس، تعرفي لو نجحت في العملية دي هكون ايه...قالها ثم دفعها بقوة لتسقط على الأرضية يشير إليها بسبباته
-فوقي يارانيا احنا من زمان دفنا قلوبنا، من يوم ماخطفتي ولاد اخويا، ومن يوم ماعرفت مين قتل جمال وسكت عليه، ومن يوم ماذليت مرات اخويا وعبيت في شرفها، اهدي وقولي هديت، علشان مش اخليكي تحصلي الكل
قاطعهم دلوف الخادمة قائلة:
-فيه بنت برة اسمها رؤى عايزة تقابل حضرتك ياراجح باشا
استدار إليها متسائلًا:
-مين دي، عايزة ايه
هزت راسها بجهل وأجابته:
-مقالتش بس مصرة أنها تكلمك
أشار إليها قائلاً:
-دخليها مااشوف مين دي كمان
قبل قليل بالقرب من فيلا راجح
توقفت سيارة ارسلان ينتظر إلياس، لمح دخول سيارة أجرة ويبدو بها سيدة، لم يسعفه الوقت لرؤيتها، استمع الى هاتفه
-عمو فيه حاجة..قاطعه اسحاق
-انت فين عندنا شغل مهم
حمحم معتذرًا، ثم أردف:
-آسف ياعمو، بس بنت عمي عندها جلسة عند الطبيب النفسي، وحالتها صعبة، مش هينفع اسيبها قبل ساعتين، ياريت تحاول تأجل ..في تلك الأثناء وصلت سيارة إلياس فتحدث سريعا
-مضطر اقفل دلوقتي علشان داخلين للدكتور..قالها واغلق سريعًا
مط اسحاق شفتيه ينظر بشاشة هاتفه
-طيب ياارسلان، بتكذب على عمك، طيب عايز تلعب معايا، نلعب يابن فاروق، وحشني اللعب اوي ...رفع هاتفه واردف
-عايز اتنين ينفعوا لهجوم كتيبة، يروحوا العنوان دا ..نظر إلى عنوان ميرال مبتسمًا
-مش بنت عمك تعبانة، لازم نهاديها علشان تلعب مع عمك حلو ..قالها وهو يتمتم قائلًا:
-غبي نسيت انك مدرب تحت ايدي يامتخلف ..دلف رجله الاول
-اسحاق باشا، ارسلان باشا عند فيلا راجح، وفيه قناص خرج من بيته من ساعتين بعربية تاكسي، اشترى بيت في حي الياسمين
هب فزعًا من مكانه
-تقصد ايه، مش دا حي بيت مرات الظابط ...اومأ له بالايجاب
نظر بساعة يديه ثم اتجه سريعا إلى سيارته يتحدث إلى حارسه:
-كلم رجالك يحاوط البيت مش عايز دبانة تدخل هموتكوا، ثم رفع هاتفه إلى أحد القادة
-شكلهم كشفو ابننا ياباشا، وباعتين حد يصفوه..
اجابه على الطرف الآخر:
-اتصرف يااسحاق...استقل سيارته وتحرك سريعًا متجهًا إلى منزل ميرال
وهو يحاول أن يهاتف ارسلان أو إلياس ولكن هاتفهما مغلق
عند ميرال
استيقظت من نومها بتملل وابتسامة عاشقة على وجهها بعدما تذكرت ما حدث منذ ساعات، نظرت بساعتها تضع كفيها على فمها بشهقة
-تلات ساعات ..ياه اول مرة انام كدا..
ضيقت عيناها تبحث عنه في الغرفة بعد. ما تذكرت ماقاله وما عايشها إياه
لأول مرة تشعر بأحاسيس رائعة وهي بأحضانه بتلك الطريقة، احاسيس ذكرتها بأسبوع زواجهما، أغمضت عيناها مبتسمة تضع أنامله على شفتيها، نهضت تجذب روبها واتجهت إلى الحمام تبحث عنه، ولكن لم يكن موجودا بالمكان، اخذت حمامًا تظن أنه بالاسفل بمكتبه، انتهت من حمامها، وتوقفت أمام المرآة تجفف خصلاتها، نظرت إلى اثاره التي مازالت تظهر بوضوح على عنقها وشفتيها، قاطع شرودها طرقات على باب الغرفة
-ادخل..دلفت المربية تحمل يوسف
-يوسف مش عايز يسكت، حاولت معاه بس معرفش ماله
-وديه لباباه، وانا هخلص وانزل
-بس باباه مش هنا، الباشا مشي من ساعتين تقريبا
هنا شعرت وكأن الأرض تزلزت تحت قدميها لتهمس بتقطع:
-مشي، يعني ايه ..شعرت المربية بتسرعها فحاولت تصحيح خطأها
-ممكن يكون راح شغل، انا هحاول مع يوسف تاني...قالتها وتحركت للخارج سريعا بالطفل الذي ارتفع بكاره..أمسكت الهاتف بيد مرتعشة تحاول مهاتفته، ولكنه مغلق
هوت على المقعد بملامح شاحبة تحدث نفسها:
-يعني ايه، دا قالي مش هيبعد تاني، يعني كان جاي علشان ..شهقة اخرجتها تهز رأسها بعنفوان مع انسياب عبراتها
-تاني ياالياس، بتكسرني تاني ..نهضت تدور بالغرفة وبدأت تحطم كل ماتطاله يدها وتصرخ بغضب
-ليه ..بتعمل فيا كدا ليه، اااااه صرخت بها لتهوى على الأرضية تحتضن ركبتيها وتبكي بشهقات مرتفعة...ولكن توقفت فجأة بعدما استمعت إلى صوت صراخ بالأسفل باسمه
↚
"لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك "
أحببتهُ وأسكنتهُ شرياني..
ولكن ماذا فعل ياساااادةة؟؟
جعلني أحترقُ بنارِ هواه..
وأقامَ معي معاركَ الغرور..
ألم يكتفي لحرقِ قلبي؟..
بلى!!
جعلني غربتهُ الهوجاء..
أخبروهُ إن كان هو آدم..
فأنا حوَّاء التي أخرجت آدم من جنَّةِ الخلدِ والبقاء..
اقتربَ منها مبتسمًا:
بلى سيدةُ الكون..
ماذا لو أخبرتُكِ أنَّي أُحِبُّكِ؟!
وتماديتُ حتى
ضعتُ خلف همسِ
شفتيكِ
فأنا يا حبيبتي كلَّما تمنيتكِ..
يرحلُ نبضي ليخفُقَ تحتَ
ضِلعيكِ
- ألم تسمعينَ قولَ المُتنبي :
لا السيفُ يفعلُ بي ما أنتِ فاعلةٌ
ولا لقاءُ عدوَّي مثلَ لُقياكِ
لو باتَ سهمٌ من الأعداءِ في كَبدي
ما نالَ مِنَّيَ ما نالتْهُ عيناكِ
فماذا ستفعلينَ بي ياحوَّاء
وأنا الذي أريدُ أن أدُّسكِ بين قلبي ونبضه..
فما ذنبي إن كانت النفسُ أمَّارةٌ بالشوقِ إليكِ
بمنزل ميرال
ظلَّت بمكانها جالسة، تنظرُ بضياعٍ حولها، و رغم أنَّ عقاربَ الساعة لم تخطُ سوى بضعِ دقائق، ولكنَّها شعرت وكأنَّهُ دهرًا كاملاً، احتضنت ركبتيها تحاولُ أن تلملمَ شتاتَ نفسها، تنظرُ بعيونٍ شاردةٍ ضائعة، عيونا أُطفئَ بريقها للأبد..أفكارها تتصارعُ في رأسها، لكنَّها تعودُ لنفسِ الحقيقةِ الموجعة: لقد تلاعبَ بمشاعرها، عبثَ بقلبها كدميةٍ بين يديهِ ثمَّ ألقاها دون رحمة.
انسابت دموعها كأنهارٍ جريحة، كلَّ دمعةٍ كانت تحملُ عشقهِ المؤذي، كلَّ قطرةٍ كانت ترتجفُ بأسى كلَّما تذكَّرت همسهِ المسموم، كلماتهِ التي كان ينسجها حولها كشرنقةِ حب، ثمَّ فجأةً تحوَّلت إلى قيودٍ تخنقها..وضعت ذقنها على ركبتيها، وأطبقت على جفنيها بشدَّة، تحاولُ مسحَ بصماتهِ التي تركها داخلها..كيف لها أن تنسى دفءَ أنفاسهِ حين كان يهمسُ لها بعشقهِ الأبدي؟ كيف لهذا الدفء أن يتحوَّلَ إلى بردٍ قارسٍ ينهشُ عظامها الآن؟
صوتُ كلماتهِ ما زال يتردَّدُ في أذنها، ورغم أنَّها كانت ناعمة، عذبةً بعشقها، إلَّا أنَّها أصبحت الآن كالسُمِّ يسري في روحها ببطءٍ قاتل..كانت همساتهِ فيما مضى تعويذةُ حب، أمَّا الآن، فهي لعنةٌ تحيطها بسحرٍ أسود..لمستهِ التي كانت دفئًا يحتويها، لكن الآن، كلَّ ذكرى منه تشبهُ أشواكًا حادَّةً تنغرسُ في جسدها، تمزِّقها بلا رحمة، وتتركُ على روحها جروحًا تنزفُ ألمًا لا يندمل.
شهقت شهقةً مرتجفة، كأنَّ الهواءَ صار سكِّينًا يجرحُ صدرها، وتنهيدةٌ باردةٌ أفلتت منها وهي تظنُ أنَّ هذه المرَّة نحرها بسكينٍ بارد، لا دماء تُرى، لكن الجرحَ في أعماقها لا يلتئم.
وفجأة، اخترقَ صمتها صوتًا باسمه..
-إلياس…
انتفضت، واتَّجهت إلى النافذة، عيناها الغارقةِ في الدموعِ تلتقي بترجُّلهِ من السيارةِ سريعًا، ونداءُ أحدهم باسمه، لكنَّه كان يتجوَّلُ بعينيهِ على المكان، كجندي حارسٍ للحدود، يبحثُ عن عدوه..استدارَ للذي يناديهِ واقترب منه:
-المكان يتمشَّط حلو، مش عايز دبانة تعدِّي من غير علمي، قالها وصعدَ للأعلى على رنينِ هاتفه:
-أيوة اسحاق باشا..على الجانبِ الآخر وبالقربِ من منزله:
-مش قولت متعملش حاجة بدون علمي ياإلياس..توقَّفَ عن الحركةِ واستدار ينظرُ بكافةِ الاتجاهاتِ مرَّةً أخرى:
-حضرتك اللي بعت الرسالة مش كدا؟..
-فيه ساكن قصادك، خلِّي بالك منه، وبلاش تهور، طول عمرك عاقل يابنِ السيوفي، ولَّا المرة دي أقولَّك يابنِ الشافعي.
كوَّر قبضته يضغطُ عليها بعنفٍ وأجابهُ بنبرةٍ حادة:
-متأكد إن حضرتك ورا هروبه المرَّة اللي فاتت، ومتأكد برضو إن حركتك الليلة دي علشان توقَّفني، بس بقول لحضرتك، أنا خلقي ضيَّق ومابحبش اللي بيدخَّل في حياتي الشخصية ياباشا، مع احترامي لشخصك.
-وأنا كرئيسك بأمُرك ممنوع الاقتراب من راجح ياحضرة الظابط، سمعتني ولَّا ولأ.. ولاأغيَّر نظرتي فيك...قالها وأغلقَ الهاتف ممَّا جعلَ الآخر يستشيطُ غضبًا، جلس على المقعدِ ينظرُ أمامه بشرود، قاطعهُ رنينَ هاتفه:
-إلياس عملت إيه؟..فيه حدِّ عندك في البيت فعلًا؟..تذكَّر شيئًا فتوقَّفَ سريعًا إلى سيارتهِ قائلًا:
-أرسلان خلِّي بالك من ميرال، لم ارجع ..قالها وأغلقَ الهاتفَ نهائيًا، ثمَّ قادَ السيارة متَّجهًا إلى وجهته، التي ستكشفُ له الكثير والكثير..
قاد السيارة بسرعة جنونية يريد أن يطير بها كلما تذكر ماحدث منذ قليل
قبل نصفِ ساعة:
وصلَ إلى وقوف ارسلان، ترجَّلَ من سيارتهِ وتوقَّف أمامه:
-انا هدخل لوحدي، كويس هوَّ ورانيا جوَّا، المرة دي لازم أوقَّعهم في بعض، عايز رانيا تسحب إيدها منُّه، أو حدِّ منهم يخلَّص على التاني.
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ متسائلًا:
-بس أنا مش عايز حدِّ فيهم يموت، أنا عايز أعذِّبه وبس، ولمَّا طلبت منِّي أنُّه يعرف إنِّ رانيا بتخونه في بيته مكنتش هستنى أنُّه يقتلها، كنت ناوي أوقَّعه في شرِّ أعماله علشان لمَّا يجي تحت إيدي مرحموش.
زفرَ إلياس بغضبٍ يرمقهُ بنظرةٍ حادَّة:
-إزاي هموِّته ولسة أمي بينهشوا في لحمها؟..الراجل دا لازم ينزل البلد ويبان قدَّام الكل من غير ضغط منِّنا، علشان ميرجعشِ يقول هدَّدناه وعمل كدا تحت التهديد، أنا عايز أوقَّعه في رانيا علشان يعرف الستِّ اللي كان بيأمِّن لها عملت فيه إيه، وهيَّ ورا اللي وصلُّه دا كلُّه، هوَّ مفكَّر إن بابا اللي خرَّجه بفضيحة من شغله، ميعرفشِ إنِّ مراته الحقيرة اللي عملت فيه كدا..
-إلياس كدا هيموِّتها...قالها أرسلان باعتراض..
هزَّ رأسهِ بالنفي واستطرد:
-مش هيقدر يعمل حاجة في العلن، هوَّ هيخطَّط يخلص منها بس بطريقة راجح الشافعي، علشان هيخاف على نفسه، إنتَ ناسي رانيا بتعمل إيه، المهم لازم نسحب رانيا بعيد عنُّه وبس، لازم توقَّعه قدَّام الراجل بتاعهم، علشان يبقى آخر مسمار في نعشه، وبعد كدا نستلمه على رواقة، أمَّا طول ماهوَّ ماشي ورا رانيا بتسانده وبتقوِّيه علشان تفضل الصورة الحلوة قدَّامهم، فهمتني؟..
-لا مفهمتش، كلِّ اللي عايزه أجيب حقِّنا منُّه وبس.
-أرسلان من إمتى وإنتَ متهوِّر كدا؟..عايز أفهِّمك راجح كان بيدوَّر وراك الفترة اللي فاتت علشان يوقَّعك، لولا إسحاق كان زمانه سلِّمك تسليم أهالي ياحبيبي، إسحاق خلَّاك صفحة بيضة صاحب نادي، راجح إيده طايلة فوق ماكنَّا متخيلين، وللأسف فيه ناس من جوَّا بتساعده، مين منعرفش، حبِّيت فيك هدوءك وتركيزك، وعارف ومتأكِّد لو قعدت وفكَّرت هتلاقي آخر حاجة إنِّي أخلَّص على راجح دلوقتي..لازم نعرف أبونا مات ليه وإزاي، والحاجة التانية ليه رانيا عملت فينا كدا، مش موضوع غيرة ستات لا، الموضوع أكبر من كدا، ومتنساش إنِّي ظابط، يعني مينفعش أدخل بتهوُّر، لازم كلِّ خطوة يكون معمول حسابها، إحنا دلوقتي هندخلُّه على أساس بنزوره وبس، تكون بإيدك الخفيفة دي عملت المطلوب يارب تكون فهمت..
-تمام ياإلياس فهمت..قاطعهم رنين هاتف أرسلان:
-دي غرام هردّ عليها ممكن يكون حاجة مهمة...أومأ له وتحرَّك مبتعدًا وهو يجيب على زوجته:
-أيوة حبيبتي..استمعَ الى أنينها تهمسُ بصوتٍ خافتٍ متقطِّع:
-أرسلان الحقني أنا تعبانة ومش قادرة أتحرَّك..توقَّفَ نبضهِ واتَّجهَ سريعًا إلى سيارته وهو يتمتمُ بنبرةٍ خائفة:
-عشر دقايق وأكون عندك..قالها وأغلقَ الهاتف وهو يستقلُّ سيارتهِ وتحدَّثَ إلى إلياس:
-غرام تعبانة أوي لازم أروح لها.
هزَّ رأسهِ بالموافقة وتحرَّكَ هو إلى الداخل، أوقفهُ الحرس الخاص براجح، دفعهُ بقبضته:
-إنتَ اتجنِّنت!! توقَّف إلياس السيوفي: ياحيوان، هرولَ بعض الحرس لمحاصرةِ إلياس إلَّا أنَّه أشارَ إليهم وصاحَ بصوتٍ مرتفع:
-اللي يحاول يقرَّب منِّي هموِّته، قالها ودلفَ إلى الداخل وكأنُّه لم يخشَ شيئًا...بالداخل قبلَ قليل..توقَّفت رؤى تتطلَّعُ إليه بعدما اقتربَ يتساءل:
-إنتي مين؟!
ابتسامةٌ لمعت بعينيها حينما اقتربت منه ورسمتهُ بنظرها، يبدو أنَّهُ ذو هيبة، رجلٌ يظهرُ عليه الغنى، وسيمًا رغم تقدُّمِ عمره، دقَّقت بملامحهِ كثيرًا، فطافَ أمام عيناها ملامحُ إلياس، بينهما شبهًا ولكنَّهُ ليس بالبائن، كلَّ ماخُيِّلَ لها وقوفهِ بتلك الهيئة كأنَّها ترى إلياس أمامها..فاقت على سؤالهِ مرَّةً أخرى:
-إنتي مين يابنت؟!
-بابا..تمتمت بها مع دمعةٍ تسلَّلت من عينيها، دلفت رانيا تحدجها بنظرةٍ تفصيلية، ثمَّ توقَّفت أمامها:
عايزة مين يابت؟..لم تكترث لسؤالها، واقتربت من راجح قائلة:
-أنا رؤى..قطبَ جبينهِ متسائلًا:
-رؤى مين؟..ماتقولي عايزة إيه؟ولَّا أرميكي برَّة.
-انا رؤى راجح الشافعي.
توسَّعت عيناهُ بذهول، بينما شهقت رانيا تتمتم:
-نعم ياروح أمِّك!!بنت راجح إزاي؟! هوَّ إنتَ لسة بالحقارة دي مهما أنضَّف فيك لسة زي ماإنتَ..لم يهتمّ لحديثِ رانيا ولكنَّهُ اقتربَ منها بتساؤل:
-رؤى بنتي، إنتي بنت مين، صمت متذكر ثم اقترب:
-رؤى بنتي، إنتي بنت سمية؟..هزةٌ عنيفةٌ أصابت رانيا لتستديرَ سريعًا إلى راجح تهتفُ بحدَّة:
-إنتَ اتجنِّنت ولَّا إيه، ثمَّ رمقت رؤى وهدرت بعنف:
-امشي يابت اطلعي برَّة، مش ناقصني غير بنات الشوارع.
هزَّت رأسها بالنفي وتمتمت بتقطُّع:
-لا والله..طنط فريدة وإلياس قالولي أنا بنتك، وكمان ميرال ويزن قالولي كدا..حدجها راجح بنظرةٍ ثمَّ تساءل:
-فريدة وإلياس، إنتي البنت اللي قاعدة في بيت ابنِ السيوفي؟..
هزَّت رأسها وابتسمت:
-أيوة، ولسة عارفة من شهرين أنا بنتِ مين..قاطعهم صوت جلبة بالخارج، ودخول أحدهم:
-إلياس السيوفي برَّة ياباشا ومصمِّم يدخل.
شهقت رؤى تصرخ:
-يالهوي يعني عرف أنا جيت لك، دا هيموِّتني..أشار إليها بالصمت، ثمَّ التفتَ إلى رانيا:
-إزاي عرف مكانَّا؟..مش الفيلا دي إنتي لسة شارياها؟..
هزَّت رأسها وتحرَّكت للخارج:
-إنتَ ناسي أنُّه مش هيسيبك، متفكرشِ خرَّجك من السجن علشان يريَّحك، أكيد بيخطَّط لحاجة تانية..
أشارَ الى رؤى:
-خلِّيكي هنا لحدِّ ما نرجع، حتى لو جاي ياخدك مايقدرش..توقَّفت رانيا تطالعهُ بذهول:
-إنتَ مجنون، افرض طلع زققها عليك، خلاص إتاكِّدت إنَّها بنتك..
-امشي يارانيا وبطَّلي تخلُّف.
بالخارجِ دلف إلياس إلى بابِ الفيلا الرئيسي يتجوَّلُ بعينيهِ بالمكان إلى أن وقعت عيناه على راجح الذي يهبطُ درجات السلم، ابتسمَ ساخرًا:
-لا حلوة الفيلا ياراجح، عجبتني، ياترا دي باسمِ مين، أوعى يكون باسمِ الليالي الحمراء..
قطبَ جبينهِ واقترب منه:
-عايز إيه يابنِ جمال؟..اللي بينا انتهى، أخدت اللي ليك وأنا أخدت اللي ليَّا..
أخرجَ إلياس سيجارتهِ وقام بإشعالها، وتحرَّك إلى المقعدِ يجلسُ عليه يضع ساقًا فوق الأخرى وكأنَّهُ مالكَ المنزل، ثمَّ بدأ يتلاعبُ بالقدَّاحةِ التي بيديهِ إلى أن اقتربَ منه راجح وجلسَ بمقابلته:
-مقولتش عايز إيه يابنِ جمال؟..
-حقِّي ياراجح.
-نعم!!..حقِّ إيه؟..إحنا اتصفينا، أخدت البنت واتنازلت عن كلِّ مايخصَّها، لسة إيه تاني؟..
-حقِّي في جمال الشافعي، إيه نسيت أنا ابنِ مين
اقتربت رانيا تطالعهُ باستهزاءٍ قائلة:
-أبوك مكنشِ عنده أملاك، غير محلِّ السمك ودا عندك في السويس، والبيت اتباع لو عايز حقَّك فيه معنديش مانع..
-اممم..دا اللي فهمتيه يابتاعة نضافةِ الستات
-إيَّاك تتمادى معايا يابنِ جمال، ملكشِ حق عندنا، ثمَّ اتَّجهت بنظرها إلى راجح:
-بعنا البيت بعشرة آلاف جنيه ارمي له خمسة...هبَّ من مكانهِ واقتربَ منها إلى أن تراجعت خلفَ راجح، ابتسمَ شبه ابتسامةٍ ساخرة:
-خمس آلاف جنيه يارانيا، دول ارميهم غدا لكلب، إنتي عارفة قصدي يابتاعة نضافةِ الستَّات، حقِّ جمال الشافعي وحقِّ فريدة ياراجح، هسيبك أسبوع واحد بس، تنزل السويس وتبرَّأ أمي من كلِّ التُّهم اللي إنتَ والقذرة دي رمتوها بيها...رفعت رانيا يديها وصاحت غاضبة:
-احترم نفسك، جاي تهدِّد وتتشطَّر في بيتي، دا أخلِّيهم يموِّتوك وماأخدشِ فيك يوم واحد..
دنا إليها بخطواتٍ باردة، ورغم تحرُّكهِ البطيء إلا أنَّها شعرت أنَّه يضغطُ بها فوق صدرها، توقَّفَ أمامها ينظرُ إليها باشمئزازٍ وأردفَ بصوتٍ خافت:
-هتروحي يارانيا، وهتبوسي على إيد أمي، وتطلبي منها السماح..
تخصَّرت تهزُّ نفسها وتبسَّمت بخبث:
-بتحلم يابنِ جمال، وياريت تفوق من كوابيسك دي..
أمالَ بجسدهِ يغرزُ عينيهِ بعينيها، يطالعها بنظرةٍ باردةٍ كبرودِ الثلجِ قائلًا:
-كلمة كمان وهخلِّيكي تبوسي على رجليها، أهو أحسن من القمصان الحمرا والتنطيط في الفنادق، دنا وهمس:
-والمشي ورا الجرابيع وفي الآخر يطلعوا سوابق وشغل مسهوكين..
برقت عيناها تطالعهُ باهتزاز، حاولت ابتلاعَ ريقها ولكنَّها لم تستطع حتى شعرت بأنَّ جوفها بداخلهِ أشواك، تراجعت وحاولت التماسك، ونظراتهِ المتسلِّية عليها ثمَّ اتَّجهَ إلى راجح الذي قاطعه:
-امشي اطلع برَّة يالا، بدل ماأعمل زي مارانيا قالت، وهقول هجم على بيتي..
مطَّ شفتيهِ وخطا يدورُ حوله:
-اطلع برَّة ويالا..رفعَ أناملهِ يحكُّها بأنفهِ ثمَّ هزَّ رأسهِ ومازالت نظراتهِ على الأرضِ يردِّدُ مانطقهُ راجح، دقائقَ جحيمية شعرت بها رانيا عندما وجدت صمته، إلى أن رفع رأسهِ ينظرُ إلى راجح:
-يعني واحد خلَّى أب يتنازل عن بنته قولًا وفعلًا، وسرق ورق ورجَّعه من غير حتى ماأعرف إيه هوَّ، واحد لبَّسه خمس قضايا في دقيقة ومسك في رقبته وخلَّاه زي الخاتم في صباعي، تفتكر صعب عليه يخلص منَّك بأبشع الطرق..
-أخرك يابنِ جمال..
قاطعهُ رنينُ هاتفه، فتحهُ وإذ يظهرُ أمامهِ فيديو تصوير لمنزله، فتحرَّكَ سريعًا للخارجِ دون أن ينطقَ بحرفٍ واحد..
بمنزلِ أرسلان:
وصلَ إلى منزله بدقائقَ معدودة، دلفَ للداخلِ يبحثُ عنها بلهفة، فجأةً توقَّفَ بجسدٍ متجمِّدٍ وهو يراها ملقاةً على الأرضيةٍ كالجثة، نزل على ركبتيهِ ورفعَ رأسها محاولًا إيفاقتها، دقائقَ كالسيفِ على العنقِ وهو يشعرُ بانسحابِ أنفاسهِ
عندما وجدَ وجهها الشاحب، رفرفت أهدابها تأنُّ بصمت، حملها متَّجهًا بها إلى الفراش، ورفع هاتفهِ لمهاتفةِ طبيبهم الخاص، اتَّجهَ إلى المطبخِ وأحضرَ كوبًا من المياه، ساعدها بالجلوسِ وارتشافِ بعضه، استمعَ الى تأوهها ومحاوطةِ بطنها:
-بطني ياأرسلان، مش قادرة عندي ألم فظيع..مسحَ على شعرها وضمَّها لأحضانهِ يتمتمُ بهدوء، بعدما فقد التحكُّمَ بنفسهِ كلما تذكَّرَ حالتها:
-الدكتور في الطريق حبيبتي، ارتاحي..
تمسَّكت بكفَّيهِ تضغطُ عليه:
-أنا كويسة حبيبي، يمكن ضغطي نزل..
-ارتاحي حبيبتي، الدكتور زمانه على وصول..أشارت على ثيابها:
-طيب شوف إسدالي أو أيِّ حاجة..أومأ لها يتحرَّكُ كالتائه، يتخبَّطُ بمشيه، كلَّما تذكَّرَ حالتها يكادُ يفقدُ وعيه..
بعد فترةٍ خرجَ الطبيبُ مبتسمًا:
-المدام حامل، وتأكيد تروح لدكتور نسا ياسيدي، بس أنا متأكِّد من غيره، بس طبعًا إنتَ لازم ترتاح ، على العموم ألف مبروووك مقدَّمًا.
لمعت عينيهِ بالسعادة يتمتمُ بفرحة:
-متأكد؟..داعبهُ الطبيب:
-لأ حاسس..قالها مبتسمًا..ودَّعَ الطبيبَ وتحرَّكَ متَّجهًا إليها وعيناه ترسمها:
-معقول الخبر الحلو دا..مرَّرت أناملها على بطنها قائلة:
-كنت حاسة، بس مش متأكدة..
-نعم ياختي، أومال الدكتور عرف إزاي؟..
لكمتهُ تدفنُ رأسها بصدره:
-بس بقى ياأرسلان، حاوطها تحت حنانِ ذراعيه:
-ربِّنا يبارك لنا فيه ويجي بالسلامة، المهم عايزك ترتاحي دلوقتي، وبكرة نشوف دكتور كويس نتابع معاه..
-مش هتقول لماما؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي قائلًا:
-لا حبيبتي، لمَّا نتأكِّد، مينفعشِ غير لمَّا نكشف.
رفعت حاجبها معترضةً ثمَّ نطقت:
-بس أنا متأكدة ياأرسلان، وبعدين مش اللي كشف دا دكتور ولَّا إيه؟..
نهضَ من مكانه، والتقطَ هاتفه:
-برضو ياغرامي، لازم نشوف دكتور نسا، هعمل تليفون وراجع لك ياروحي..
بمنزلِ إسحاق:
دلفَ للداخلِ مع بعض الضباط، اتَّجهَ إلى تلك الطاولة، يشيرُ إليها وهو يقومُ بنزعِ سترته:
-فرَّجوني كدا على آخر التطورات..
فردَ أحدُ الظباطِ تلك الخريطةٍ التي بيده، وبدأ يشيرُ إلى المخطَّطاتِ التي حصلوا عليها بمساعدةِ أرسلان..
صمتَ إسحاق ينظرُ إلى أهمِّ النقاطِ التي يقومونَ بوضعِ علاماتٍ مميَّزةٍ بها، هزَّ رأسهِ موافقًا على حديثه، ثمَّ ألقى عليهم المهمَّات، صمتَ متذكِّرًا ذلك القناص قائلًا:
-هتكلِّم راجلنا اللي بيراقب بيت الراجل دا، لحدِّ دلوقتي مش باين أصله، بس أيِّ حركة له موِّته على طول..
دخل البلاد على أنُّه سائح يافندم..
نقر على الطاولةِ متذكِّرًا هويته، والجنسية التي يحملُها، رفعَ رأسهِ إليهما:
-ممكن يكون تمويه، وممكن يكون طُعم، قاطعهُ الآخر قائلًا:
-وممكن فعلًا جاي علشان يخلَّص على الظابط.
أومأ قائلًا:
-علشان كدا مش عايز تهوُّر، وكويس إنِّنا تدخَّلنا قبل وصول إلياس.
استمعَ إلى رنين هاتفه:
-اسحاق عدِّي عليَّا عايزك.
-تمام..قالها وأغلقَ الهاتف يشيرُ إلى ضبَّاطهِ إلى طاولةِ الطعام:
-نتسحَّر مع بعض بقى.
بمنزلِ آدم:
تجلسُ تراجعُ على دروسها، نظرت بساعةِ يدها، ثمَّ تراجعت تستندُ على ظهرِ المقعدِ تهمسُ لنفسها:
-وبعدهالك ياآدم، إيه اللي بيحصل معاك؟..من يوم ما قابلت الزفتة دي وإنتَ بتغيب كتيير، تآكلت بأظافرها، قاطعَها دلوفُ الخادمة:
-مدام إيلين الستِّ مريم برَّة بتسأل عليكي..أومأت لها ثمَّ نهضت تجذبُ روبها وتحرَّكت للخارج:
-مريم عاملة إيه حبيبتي؟..
-الحمدُ لله ياقلبي، تعالي عايزاكي في موضوع قبل ماآدم يرجع..
جلست منتظرة حديثها، حمحمت مريم قائلة:
-عرفتي اللي حصل لراحيل بنتِ خالو؟..
ابتعدت بنظرها عنها:
-عرفت، بس بلاش نتكلِّم في حياة راحيل يامريم.
-يابنتي اسمعيني، خالو كلَّم أحمد وقال خالتو زهرة هتيجي تقعد معانا يومين، وبما أنُّه خالتو هتيجي يبقى راحيل ممكن تيجي..علشان اللي عرفته إنِّ جوزها طلع حيوان وأخد كلِّ اللي بتملكه..
-إيه..إيه اللي بتقوليه دا؟!..
ضيَّقت مريم عينيها متسائلة:
-أومال إنتي قصدك إيه؟..
هزَّت رأسها قائلة:
-كنت مفكَّرة إنِّك بتتكلِّمي عن موضوعها مع أحمد وآدم.
-قصدِك علشان الشغل يعني، لا عادي حقَّها يابنتي، ومتزعليش، آدم مالوش في شغلِ الشركات دا، هوَّ دكتور، إيه دخله في الشغل..
-أيوة بس مالهاش حقِّ تكسفه قدَّام الكلِّ في الاجتماع وتقولُّه مالكشِ حقِّ في الإدارة، إنتي عارفة لولا خالو مكنشِ راح أصلًا.
-إيلين هتفضلي كدا طول عمرك، انسي اللي حصل، واللهِ راحيل غلبانة وبتحبِّك.
-أيوة عارفة إنَّها بتحبِّني، المهم..مطلوب منِّي إيه؟..
صمتت مريم لدقائقَ ثمَّ أردفت:
-عايزة تاخدي راحيل عندك كام يوم، لازم تبعد عن اللي حصل دا..
-مش فاهمة أخدها عندي فين؟..ماهو دا بيت خالها، يعني مقدرشِ أرفض قبولها ولَّا رفضها..
-مش دا قصدي ياإيلين..
زمَّت شفتيها بتأفُّفٍ ثمَّ نطقت بنبرةٍ حادَّة:
-عندي مذاكرة يامريم، هاتي من الآخر..
-شقة آدم اللي في مدينة نصر.
-مدينة نصر!!..أكيد بتهزري، الشقة دي مقفولة بقالها سنين، غير أنا نسيتها أصلًا..
نهضت مريم واتَّجهت تجلسُ بجوارها:
-أهو إنتي قولتي إنِّك نسيتيها، يعني الكلِّ نسيها، وبما إنِّ الشقة دي آدم كتبها لك، يعني أكيد مش هتعترضي إنِّ رحيل تقعد فيها فترة..
-مريم أنا مش فاهمة عايزة توصلي لإيه؟..
-راحيل عايزة تهرب من جوزها، بس مش عارفة تروح فين، هوَّ عارف خالو زين، واللي فهمته منها إنِّ جوزها صعب، هوَّ دخل عليها بدور الرجولة، وهيَّ مش عايزة تدخَّل خالو في الموضوع، عايزة تربِّيه بمعنى أصح، بس بطريقتها..
-طيب تهرب ليه؟..دي المفروض تعلِّمه الأدب..
-والله ياحبيبتي، كلِّ اللي قالته كلِّمي آدم على الشقة، وآخد رأيك، هي مش عايزة تلجأ لحاجة من أملاكها علشان جوزها مايوصلهاش..
-طيب أقول لآدم ولَّا إيه؟..مش فاهمة..
-مش عارفة، بس لازم يعرف..
قاطعهم دلوف آدم ملقيًا السلام، نظرت بساعةِ يدها وجدتها تجاوزت الثانية بعد منتصفِ الليل.
-حمدالله على السلامة يادكتور..ابتسمَ ودلفَ للداخلِ بعدما توقَّفت مريم مجيبةً التحية..
-هنزل، زمان أحمد صحي وعايز يتسحَّر..
رمقتهُ إيلين بنظرةٍ ذات مغذى وتمتمت:
-كويس أنُّه نايم وقدَّام عيونك، مش أحسن متبقيش عارفة هوَّ فين من أربع ساعات..لكزتها مريم وسحبت قدميها مغادرة..تحرَّكت للداخلِ خلفه، توقَّفت على عتبةِ الباب تعقدُ ذراعيها:
-لسة بدري يادكتور، كنت استنى لبعدِ الفجر، وصلَ إليها بخطوةٍ واحدة، وقبضَ على ثغرها بطريقةٍ أخرستها عن الحديث، ظلَّ للحظاتٍ ينثرُ عشقهِ المترنِّم، إلى أن سحبَ أنفاسها، فتراجعَ يضمُّها إلى أحضانهِ بحنانٍ ثمَّ لثمَ جبينها:
-آسف حبيبتي عارف اتأخرت، بس كان عندي كام مشوار..
رفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه، وأردفت بدلال:
-دومي، مش مخبِّي عليَّا حاجة ياحبيبي؟..رفعَ ذقنها بأنامله:
-يارب دومي يموت لو كنت مخبِّي عليكي حاجة ياروح دومي، وضعت أناملها على شفتيه:
-بعد الشرِّ عليك ياحبيبي، مهما كان أوعى تدعي على نفسك، وبعدين ناسي إنِّنا في أيام مفترجة..
ضمَّها بحنانٍ ثم انحنى يضعُ رأسهِ بحنايا عنقها يهمسُ بأنفاسهِ الحارَّة:
-وحشتي حبيبك ياروح حبيبك..طوَّقت خصرهِ تهمسُ بخفوت:
-الفجر لسة عليه ساعة ونص على فكرة، هنا تراجع برأسهِ يدقِّقُ النظرَ بملامحها البريئة، ثمَّ انحنى يحملها بين فولاذيتهِ يهمسُ لها:
-فعلًا السحور قبلِ الفجر على طول صحِّي..أفلتت ضحكةً ناعمةً تلكمهُ بصدرهِ حتى ارتفعت ضحكاتهِ الرجوليةِ تصدحُ بالمكان...بعد فترةٍ جلسَ بجوارها على طاولةِ الطعامِ قائلًا:
معزومين بكرة بفيلا السيوفي، بابا لسة مبلَّغني من شوية..
توقَّفت عن الطعامِ تطالعهُ بذهول:
-يعني خالو اتصالح كدا مع طنط فريدة؟..ماحضرتك من يوميها ماحكتليش حاجة، ولا أعرف إيه اللي حصل..
رفعَ كفَّيهِ يعدلُ وضعية خصلاتها خلفَ أذنيها وأردف:
-حبيبتي إنتي كنتي بتمتحني، محبتش أشغل دماغك بحاجات مش مهمَّة..
أمسكت كوب الزبادي وتمتمت بتقطُّع:
-عملت إيه مع البتِّ المغربية؟..توقَّفَ عن الطعام، وسحبَ كفَّيهِ من فوق خصلاتها مبتعدًا عن نظراتها ثمَّ أجابها:
-اتفقنا، وإن شاءالله القضية تخلص على خير، أنا شبعت حبيبتي هقوم أجهز لصلاةِ الفجر..
-لسة نصِّ ساعة..توقَّفَ قائلًا:
-هقعدها في المسجد، الوقت دا حلو في الذكرِ والتسبيح، وإنتي كمان خلَّصي واتوضي علشان تستعدِّي لصلاة الفجر..قالها وانسحبَ من المكانِ بالكامل..ظلَّت تراقبهُ بنظراتها إلى أن خرجَ من المنزل، تنهيدةٌ ثقيلةٌ أخرجتها من جوفِ آلامها تردِّد:
-يارب قلبي المرة دي يخوني ياآدم وميكونشِ فيه حاجة توجعني منَّك..
بمنزلِ يزن:
جلسَ على طاولةِ الطعام يتناولُ سحورهِ مع أخوته، رفعَ عينيهِ إلى إيمان:
-حبيبتي بكرة معزومين عند طنط فريدة، الصُبح أوصَّلك عند ميرال ويبقى تروحي معاها..
أومأت مبتسمةً ثمَّ أردفت:
-مش جوزها قال هيجوا يفطروا معانا النهاردة؟..جذبَ شريحةَ الجبنة والتقمها قائلًا:
-لا طنط فريدة عزمتنا..توقَّفت عن الطعامِ متسائلة:
-طيب وراحيل؟..توقَّفَ عن مضغِ طعامه، ثمَّ اتَّجه إليها بنظرةٍ ضائعة، هربت الحروفُ من مخرجِ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ دون حديث، ثمَّ نهضَ من مكانهِ يحملُ كوبَ الشاي الخاص به متَّجهًا بهِ إلى غرفته، هوى على المقعد، يشعرُ وكأنَّ أحدهم وضعَ داخل صدرهِ وقودًا مشتعلًا، كلَّما تذكَّر إهانتها، نظراتها المحتقرة له..
ضغطَ على الكوبِ الساخنِ الذي يضمُّهُ بيديهِ إلى أن انكسرَ بكفَّيه، لم يشعر بسخونته، ولا بانكساره، كلَّ ماشعرَ به هو احتراقَ صدرهِ من نظراتها التي أشعرتهُ بمدى حقارته..دارت به الأرضُ وشعرَ بتزلزلها تحت قدميه، تناولَ هاتفهِ وتحدَّثَ مع رجالهِ الذين عيَّنهم لحمايتها بل لحجزها:
-أستاذة راحيل خرجت النهاردة؟..
-لا يافندم، ومفيش حدِّ جه خالص عندها..
-تمام خد بالك مش عايز غلطة..
بمنزلِ ميرال:
ظلَّت بغرفتها بعد خروجه، تكلِّمُ نفسها:
-ليه جه، وليه مشي، نهضت من مكانها تدورُ حول نفسها كالطائرِ الذبيح، إلى أن شعرت أنَّ قدميها لم تعد تحملها، فهوت جالسةً مرَّةً أخرى..
نظرت بالساعةِ لتبدأَ تواشيحُ الفجر، استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة..
سمحت بالدخول، دلفت الخادمة تحملُ كوبًا من اللبنِ وبعضِ الطعام:
-الفجر خلاص هيأذِّن وحضرتك رافضة تنزلي، إيه رأيك تاكلي حاجة بسيطة وتشربي اللبن دا؟..
أشارت بيدها بالرفضِ ثمَّ قالت:
-ماليش نفس، انزلي كمِّلي سحورك، وأنا هقوم أحضَّر نفسي للصلاة..اقتربت تضعُ أمامها كوبَ اللبن:
-طيب اشربي دا، متنسيش إنِّك بترضَّعي، استمعت إلى رنينِ هاتفها، أشارت إلى الخادمة:
-هاتيلي تليفوني، وسيبي اللبن، بس خُدي الأكل ماليش نفس.
نظرت لهاتفها، وجدت اسمهِ ينيرُ شاشتها، لمعت عيناها بالدموع، ثمَّ ألقتهُ بعيدًا عنها ونهضت من مكانها تحملُ كوبَ اللبن متَّجهةً إلى النافذة، وقفت تستمعُ إلى تواشيحِ الفجرِ مع ارتشافها للبن، انبثقت دمعةٌ من عينيها على الأدعيةِ التي تستمعُ إليها مع زيادةِ رنينِ الهاتف، ولكنَّها ظلَّت كما هي، ارتجفَ جسدها مع شفتيها وهي تدعي ربَّها:
"ربِّي هوِّن ثمَّ هوِّن عليَّا حياتي، ربِّي اجمعني بزوجي وارزقنا السعادة واليُسر، اللهمَّ ألِّف بين قلوبنا وأعنِّا على طاعتك ونقِّنا من شرورِ أنفسنا، دقائق وهي واقفةٌ تنظرُ إلى السماءِ مع أدعيتها إلى أن أنهت كوبها، ثمَّ تحرَّكت لتتجهَّزَ إلى صلاةِ الفجر..
بعد فترةٍ انطلقَ أذانُ الفجرِ الذي يريحُ القلوب..اتَّجهت للواحدِ القهَّار، الذي لا يغفلُ ولا ينام، فما أجملُ من المواظبينَ على صلاةِ الفجر، وماأنفعُ مايقتنيهِ الفردُ من تلك الصلاة، لا تنسى عزيزي القارئ أنَّ لصلاةِ الفجرِ أثرًا على النفسِ من الطمأنية، فهي التي حثَّنا بها الرسول عليه الصلاة والسلام بأنَّها تعدلُ قيامَ الليلِ كلِّه، حيثُ قال المصطفى صلى الله عليه وسلم:
من صلَّى الفجرَ فكأنَّما قامَ الليلَ كلِّه. يكون للمداومِ على صلاةِ الفجرِ أجرُ حجَّةٍ وعمرة، إذا بقي يذكرُ الله حتى تطلع الشمس قال -عليه السلام- «من صلَّى الغداةَ في جماعة، ثمّ قعدَ يذكرُ الله حتى تطلعُ الشمس ثمَّ صلَّى ركعتين كانت له كأجرِ حجَّةٍ وعمرة»؛ وصلاةُ الغداةِ هي صلاةُ الفجر،رواه الترمذي.
نعم سيدتي..
ويفضَّلُ صلاةُ الفجرِ للنساءِ أو بمعنى أدق فضلُ صلاةِ الفجرِ في البيتِ بالنسبةِ للمرأة، فقد ثبتَ في الصحيحِ من حديثِ جندب بنِ عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من صلَّى الصبحَ فهو في ذمَّةِ اللهِ فلا يطلبنَّكم الله من ذمَّتهِ بشيء فيدركهُ فيكبُّهُ في نارِ جهنم » أخرجهُ مسلم في صحيحه.
أنهت صلاتها وظلَّت لبعضِ الوقتِ تذكرُ ربَّها مع دعائها، حتى تناست آلامَ قلبها، فمن يلجأُ إلى ربِّهِ لن يخسر أبدًا، بل تطمئنُ الأفئدةُ وتهدأُ الأعضاء، مرَّت قرابةَ الساعتينِ حتى أنهت وردها، ابتسامةٌ مرضيةٌ وهي تمرِّرُ أناملها على كتابِ الله، ثمَّ رفعتهُ وقبَّلتهُ مع احتضانها له، ياالله كيف كنتُ غائبة عن هذا الارتياح، ماأجملَ العبدُ الذي يلجأ إلى ربِّهِ وماأحنَّ ربِّ العبادِ في لمسِ القلوبِ وزرعِ الطمانينة، فربُّ العبادِ الذي قال: "ادعوني استجب لكم"
يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً
فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ
إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ
فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ
أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً
فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ
ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلا الرَجا
وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ
وبهذهِ الكلماتِ انتهت خلوتها مع ربَّها، نهضت متَّجهةً مرَّةً أخرى لتقيمً ركعتي الضحى..فإنَّ صلاةَ الضحى من النوافلِ المستحبَّةِ ولها فضلٌ عظيم، وقد وردَ عن النبي صلَّى الله عليهِ وسلم أنُّه قال: "يُصْبِحُ عَلَىَ كُلّ سُلاَمَىَ مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ. فَكُلّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَهْلِيلَة صدقة…"
أي مجزئةً عن جميعِ الصدقاتِ المطلوبةِ على جميعِ سُلَامِيات بدنِ الإنسان -أي: عِظَامه- في كلِّ يومٍ شكرًا للهِ تعالى على نعمتهِ وفضله...
اللهمَّ اجعلنا من المواظبينَ عليها ياأرحمَ الراحمين🤲🏻🤲🏻
انتهت ميرال ثمَّ اتَّجهت إلى غرفةِ ابنها فلم تراهُ منذ ساعات، دلفت بهدوءٍ حتى لا توقظه، وجدتهُ غارقًا بنومه، توقَّفت بجوارهِ ثمَّ انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، لحظات ترسمهُ بعينيها، ترى فيه والدهِ.. فلقد جمعَ ملامحَ والدهِ بالكامل، أغمضت عينيها متنهِّدةً ثمَّ اتَّجهت إلى غرفتها..
عند إلياس:
وصلَ إلى السويس، وترجَّلَ من سيارتهِ التي توقَّفت أمام المقابرَ الخاصَّةِ بعائلةِ الشافعي، اقتربَ من قبرِ والدهِ وقامَ بالدعاءِ إليه كعادتهِ بالفترةِ الأخيرة، هرولَ المسؤولِ عن المقابرِ بعد رؤيته:
-حمدَالله على السلامة ياباشا..
أومأ له ثمَّ أردف:
-فين الراجل والستِّ اللي قولت هتوصلُّهم؟..هزَّ الرجلُ الذي يتخطَّى الخمسينَ عامًا رأسهِ وهو يشيرُ إلى الخارج:
-ليهم بيت قريب من هنا ياباشا، همَّا كانوا سابوا السويس من فترةِ المرحوم، وفجأة بعد سنين رجعوا، ولمَّا حضرتك سألت عليهم وأنا قولت لك أنُّهم سابوا البلد، مكنتش أعرف أنُّهم هيرجعوا تاني، علشان كدا اتَّصلت بيك، جايين يجوِّزوا ابنهم هنا، وباين هيرجعوا تاني..
ربتَ إلياس على كتفهِ ثمَّ التفتَ إلى مقبرةِ والده:
-اهتم بالزرعِ اللي حول القبر، وفيه حاجات في العربية عايزك توزَّعها على الناس الفقيرة، أخرجَ دفتر شيكاتهِ وقامَ بوضعِ مبلغًا ما قائلًا له:
-شوف إيه اللي الناس محتاجاه هنا في البلد واعمله، دا مبلغ كويس، وفيه حدِّ هيكون معاك..نصِّ ساعة ويكون موجود..
-مش فاهم حضرتك ياباشا متأخذنيش، يعني إيه اللي ناقص البلد؟..
توقَّفَ مستديرًا إليهِ ثمَّ نظرَ إلى الشيك الذي بيده:
-الفلوس اللي هنا دي هتروح بيها مع الراجل اللي هيوصل بعد شوية، شوف لو فيه مركز علاجي ناقص له أدوية، أو مساجد ناقص لها حاجة، مدارس..أيِّ حاجة..فلاتر ميه في الشوارع، المهمِّ اتصرَّف، إنتَ قاعد في البلد وعارف أكتر منِّنا، وبرضو هيكون معاك واحد هيخلَّص لك كلِّ حاجة..فهمت كدا؟..
ابتسمَ الرجل ودعا له:
-ربنا يراضيك يابني، ويريَّح بالك..
تحرَّكَ وهو يؤمنُ على دعائه:
"اللهمَّ آمين..ربِّنا يراضيني ويريَّح بالي"..تحرَّكَ خلفهِ إلى أن وصلَ إلى منزلِ ذاك الرجل…دقائقَ معدودةً وهو جالسًا بغرفةِ معيشته، يتجوَّلُ بعينيهِ على المنزلِ القديم، ورغمَ قدمهِ إلَّا أنَّ أثاثهِ كان فاخرًا، يبدو أنّّ ذلك الرجلَ كان يتمتّّعُ بالغنى، مايؤكِّدُ أنَّ حياتهِ ميسَّرة، لماذا غادرَ البلدَ بعد وفاةِ والده؟..هذا ماتساءلَ بها إلياس بينه وبين نفسه..
دلفَ إليه الرجلَ وقامَ بالترحيبِ به، ثمَّ جلس:
-أهلًا يابني، ماقولتليش إنتَ مين؟..
دقَّقَ إلياس النظرَ بعينيهِ حتى تعلَّقت الأعينُ ببعضها وأردف:
-إلياس..قالها وصمتَ للحظاتِ ومازال يحدجهُ بنظراتٍ مبهمةٍ إلى أن أردف:
-أو ممكن تقول يوسف جمال الشافعي.
هبَّ الرجلُ من مكانهِ وانتفضَ جسدهِ ينظرُ إليهِ بارتباك:
-يوسف مين؟..وجمال مين؟..قالها بتجلجلٍ بعدما فقدَ السيطرةَ على ذاته.
نهضَ إلياس من مكانهِ واقتربَ منه، ليتراجعَ الرجلَ هاويًا على المقعد..انحنى إلياس يحاوطُ جلوسهِ وغرزَ عينيهِ بعينيه:
-جمال الشافعي، صاحبك اللي اتقتل غدر، فاكره؟..
هزَّ رأسهِ وتجمَّعت الدموعُ بعينيه:
-أنا معرفشِ حاجة، ربِّنا لا يسيئك يابني.. واللهِ أنا جاي أجوِّز ابني وأمشي على طول، معرفشِ حاجة..
ضغطَ الياس بقوَّة على المقعد، وهمسَ من بينِ أسنانه:
-عارف إنَّك مالكشِ دخل، بس عايز أعرف إجابة واحدة بس، راجح الشافعي له يد بقتلِ أبويا ولَّا لأ؟..وليه قتلوه؟ دا كان صياد، يعني مالوش في حاجة، مين اللي غرَّق مركبه؟..
بكى الرجل يجذبُ يد إلياس:
-وحياة رحمة أبوك يابني ابعد عنِّي، أنا عايز أعيش لمَّا أجوِّز ابني وأخواته، وحياة حبيبك النبي يابني ابعد عنِّي..
رفعَ كفِّهِ وربتَ على كتفهِ محاولًا تهدئته، بعدما سحبَ نفسًا وطردهُ قائلًا:
-اسمعني ياعمُّو لو سمحت، إنتَ متعرفشِ إحنا كنَّا عايشين إزاي؟..ولا اتعمل فينا إيه؟ أنا مش طالب غير أعرف أبويا اتقتل ليه؟..وليه خطفونا أنا وأخويا؟.. دي مجرَّد غيرة من ستِّ ولَّا كان تخطيط ينتقموا من جمال وولاده؟..
-والله يابني ماأعرف، بس أنا حذَّرت أبوك وهوَّ اللي مسمعشِ منِّي، كان فاتح صدره وأهو ياحبيبي مش هنوُّه بيك ولا بأخوك..
توسَّعت عينا إلياس حتى ارتجفت شفتيهِ متسائلًا:
-مين اللي عمل فينا كدا؟..ماهو مش راجح، راجح مش قدِّ لعبة زي دي، وأبويا مين اللي قتله؟..
-معرفش...صرخَ بها الرجل، لم يشعر إلياس بنفسهِ إلَّا وهو يقبضُ على عنقهِ، وتحوَّلت عيناهُ إلى حممٍ بركانيةٍ يزأرُ بعنف:
-مين اللي قتل أبويا؟..دلفت ابنة الرجلِ التي تبلغُ من العمرِ خمسةً عشرَ عامًا، بعدما استمعت إلى صراخِ إلياس ووالدها، ولكنَّها توقَّفت تصرخُ باسمِ والدها وهرولت إليهِ بعدما وجدت إلياس يخنقه..ابتعدَ سريعًا يكوِّرُ قبضتهِ بعدما استمعَ إلى بكاءِ الفتاة، ثمَّ تراجعَ سريعًا للخارج، ركضَ بخطواتٍ متعثِّرةٍ وساقيهِ تلتفُّ حول بعضها البعض من ثقلِ مايحملهُ من غصَّاتٍ تطبقُ على صدره، رفعَ هاتفهِ وهاتفَ أخاه:
-الراجل مقالش حاجة ياأرسلان، حاولت معاه، ومعرفتش أوصل لحاجة..
اعتدلَ أرسلان يجذبُ الغطاءَ على زوجته، ثمَّ تحرَّكَ للخارجِ يتابعُ حديثهِ مع إلياس:
-كنت متأكِّد، اللي يخلِّيه يهرب يسيب بيته وأرضه وحاله كلُّه، يبقى الموضوع أكبر من أنُّه عايز يسافر لتحسين معيشته..
رفعَ كفَّيهِ بخصلاتهِ وزفرَ بقوَّةٍ متسائلًا:
-طيب هتعمل إيه؟..بقولَّك ارجع إنتَ القاهرة، وأنا هنزل السويس تاني، وهحاول أوصل لحاجة..
-يعني هتعمل أكتر من اللي عملته، الراجل كان هيموت في إيدي، تخيَّل بنته شافتني وأنا بخنقه، كنت هموِّت روح بريئة في رمضان..
تنهَّدَ أرسلان بيأس، ثمَّ صمتَ للحظاتٍ وأردفَ دون جدال:
-أنا هتصرَّف، وأعرف مين اللي ورا دا كلُّه، المهم عملت إيه عند راجح؟..
تحرَّكَ إلى سيارتهِ وأردف:
-اسأل اسحاق اللي في مرَّة من المرَّات هيكون موته على إيدي، كلِّ مرَّة يطلع بعفريت، صدَّقني أنا خُلقي بقى ضيِّق من ناحيته، خلِّيه يبعد عنِّي، هوَّ ماله ومال شغلي؟..وماله ومال راجح؟..
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ متسائلًا:
-مش فاهم، ليه إسحاق عمل إيه؟..
توقَّفَ بعدما وصلَ إلى سيارتهِ وأجابه:
-بعت لي فيديو لبيتي وبيقولِّي أنا في البيت والحق مراتك، وشوفت رسالة من غير رقم..
أفلتَ أرسلان ضحكةً وتحدَّث:
-فعلًا محدش يعمل الحركة دي غيره، بس ليه عمل كدا؟..هوَّ كلِّمني وأنا قولت له مع بنتِ عمِّي عند الدكتور.
سبّّهُ إلياس وأردف:
-معرفش إنتَ بقيت الأيام دي لا تطاق، ارجع شغلك ياأرسلان، شكل غرام أكلت عقلك..قالها وأغلقَ الهاتفَ بوجههِ وهو يردِّد:
-أستغفرُ الله العظيم يارب، الواحد مش عايز يغلط وهوَّ صايم..
مساءَ اليوم التالي:
بغرفةِ راحيل جمعت كلَّ أشياءها الخاصة، وضعتها بحقيبتها، ثمَّ اتَّجهت إلى غرفةِ ثيابها وانتقت أجملَ ثيابها، ارتدتها مع وضعِ لمساتها التجميلية التي جعلتها أيقونةً من الجمال، توقَّفت أمامَ المرآةِ تنظرُ لنفسها مع ذكرياتها مع من أدمى قلبها، خطت بعدما استمعت إلى صوتِ درَّاجتهِ بالخارج..
حملت حقيبةَ يدها وهبطت إلى الأسفل، وجدتهُ جالسًا مع والدتها، اقتربت منهما، ثمَّ أردفت بنبرةٍ باردة:
-أنا جاهزة..دنا منها يقيِّمها بنظراته:
-هتخرجي كدا؟..إيه ناسية إنِّك صايمة وفي رمضان؟..
رفعت حاجبها وتمتمت بنبرةٍ استفزازية:
-متحسِّسنيش إنَّك راجل أوي..أطبقَ على ذراعيها وهمسَ بنبرةٍ تحملُ من التهديدِ ماجعلَ قلبها ينتفضُ قائلًا:
-لو متلمتيش في كلامك معايا هنفِّذ تهديدي بتاع الصبح، إحنا رايحين لناس على أساس إنِّك مراتي حبيبتي، عايز مرات يزن السوهاجي الكلِّ يتكلِّم باحترامها، هتطلعي تلبسي حاجة كويسة ولَّا لأ؟..
-لأ..صاحت بها غاضبة، ثمَّ لكمتهُ بقوَّة:
-متخلنيش أقرف منَّك أكتر من كدا..
لو حاسس إنِّي هعريك طلَّقني..
سحبها بقوَّةٍ متَّجهًا بها إلى الأعلى ثمَّ ألقاها بغرفتها وأشارَ على ثيابها:
- لو مغيرتيش هدومك، هغيَّرلك أنا سمعتي ولَّا لأ؟..
نهضت من مكانها وأشارت على نفسها:
-تعالَ غيَّرلي، لو راجل فعلًا أنا قدَّامك أهو، أوعى تفكَّر أنا بتهدِّد، لااا فوق واعرف إنتَ واقف قدَّام مين، أنا هخرج بهدومي دي عجبك عجبك مش عاجبك اخبط دماغك في مليون حيطة، بدل أنا مقتنعة بحاجة محدش له يدَّخل في حياتي..إيه هنخرج ولَّا الباشا الميكانيكي رجع في كلامه؟..دا لو له كلمة أصلًا..
طالعها بنظراتٍ تطلقُ لهيبًا يريدُ أن يحرقها بها، رفعَ كفِّه وجذبها من خصلاتها بقوَّةٍ حتى لفَّها على كفيه:
-لا، أدفنك ولا إنِّي أتحاسب على بنتِ تافهة زيك..
دفعتهُ بقوَّةٍ بعدما شعرت بآلامِ رأسها من قوَّةِ جذبه:
-أنا بكرهك..
تحرَّكَ سريعًا مغادرًا الغرفة بعدما فقدَ القدرةَ على مانطقت به، يريدُ أن يحطِّمَ فكَّها الذي ألقاهُ بكلماتٍ كالسهامِ المسمومة..وصلَ بعد قليلٍ إلى فيلا السيوفي، اتَّجهَ إلى تجمُّعِ الجميع..ألقى التحية، توقَّفت فريدة تدقِّقُ النظرَ به:
-فين مراتك حبيبي؟..
جلسَ وهربَ من نظراتِ الجميعِ متسائلًا عن إلياس، هنا شعرت بدقَّاتِ قلبها السريعةِ منتظرةً أن يجيبها أحد، فمنذُ وصولها ولم ترَ سيارتهِ شعرت بانقباضٍ حادٍّ بصدرها، استمعت إلى إسلام الذي تمتم:
-منعرفشِ عنُّه حاجة من امبارح، اتَّجهَ بنظرهِ الى رؤى وتساءل:
-مش كان رايح معاكي بيت يزن امبارح؟.. ثمَّ رفعَ عينيهِ إلى يزن:
-هوَّ مفطرشِ عندك امبارح؟..
حاوطَ أكتافَ ميرال قائلًا:
-لا، اعتذر وقال هيفطر مع ميرو، رفعَ ذقنها متسائلًا:
-حبيبتي فين جوزك؟..
-معرفش..كلمة بسيطة بحروفٍ متألِّمةٍ نطقت بها وهي تضعُ رأسها على كتفِ يزن..طالعتها رؤى بتهكُّمٍ قائلة:
-هوَّ فيه حد ميعرفش جوزه فين؟..نهضت فريدة تنادي على غادة:
-هاتي رؤى وتعالوا نساعد البنات علشان المغرب هيدن، أرسلان في الطريق..اعتدلت ميرال واستندت على الطاولةِ أمامها تحدجُ نظراتها برؤى:
-أنا بحذَّر مرَّة واحدة وبس، صدَّقيني اللي مخلِّيني متقبلاكي هوَّ إلياس وبس، من حبِّي له أيِّ كلمة له لازم أنفِّذها حتى لو مش متقبلاها، أصلك متعرفيش يعني إيه حبِّ الحبيب، فاتلمِّي وابعدي عنِّي، علشان مقلبشِ عليكي بجناني فعلًا..قاطعهم وقوفُ سيارةِ أرسلان بالحديقة، توقَّفت رؤى واتَّجهت إليهِ وهي تتمتم:
-بيحبِّك فعلًا، علشان كدا رميكي دايمًا، وصلت إلى أرسلان:
-ازيك..ابتسمَ إليها واقتربَ وهو يحتضنُ كفَّ غرام:
-ازيك يارؤى عاملة ايه؟..أومأت مبتسمةً ثمَّ أردفت:
-الحمدُلله، إنتَ عامل إيه؟..ازيك يا غرام؟..
-كويسة حبيبتي..طافت بالمكان ثمَّ اتَّجهت بنظرها إلى أرسلان:
-هروح لميرال..وقعَ بصرهِ على ميرال القابعةِ بأحضانِ يزن، فأشارَ على الداخل:
-لا..ادخلي لماما، علشان متزعلش، ميرال أخواتها حواليها..هزَّت رأسها بالموافقة وتحرَّكت وهي تلُّوحُ بيدها إلى ميرال، بينما توقَّفَ أرسلان يضعُ كفوفهِ بجيبِ بنطالهِ وعيناهُ على رؤى..
-كنتي فين إمبارح بالليل؟..
ارتبكت تطالعهُ بعيونٍ مذهولة، لحظات وشعرت بتوقِّفِ دقَّاتِ قلبها، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ ثمَّ أردفت بنبرةٍ متقطِّعة:
-كنت عند واحدة صاحبتي، واستأذنت من طنط فريدة، ومتأخرتش، رجعت على طول..أومأ لها دون حديثٍ ثمَّ تحرَّكَ للداخل..بينما ظلَّت كما هي متوقِّفة تضعُ كفَّيها على صدرها تهمسُ لنفسها:
-معقولة يكون عرف؟!! أيوة صح نسيت أسأله هوَّ فعلًا شغال في المخابرات، بس أسأله إزاي دا ممكن يشكِّ كدا، صمتت تفكِّرُ بشيئٍ ما، ثمَّ همست مبتسمةً وكأنَّها فازت بجائزة:
-غادة، دي اللي هتقول كلِّ حاجة..
عند ميرال:
-لسة زعلانة إنتي وإلياس؟ فكَّرت اتصالحتو، تراجعت بجسدها وأغلقت عينيها تريدُ أن تنسى كلَّ مايمرُّ بها، ملَّسَ على ظهرها:
-حبيبتي لازم تفوقي علشان ابنك، دا وعدك ليَّا، مش خلاص تخطِّينا مرحلة الحزن دي، وبعدين إلياس بيحبِّك مش أنا اللي هقولك..
-أعمل إيه يايزن علشان أفقد الذاكرة، عايزة أرجع لحياتي من قبلِ خمس سنين، كنت أسعد إنسانة في الدنيا، رغم مكنتش أعرف إنِّ الشخص اللي بحبُّه بيحبِّني بس كنت سعيدة، سعيدة بثقتي بنفسي وبنجاحي، بحبِّ أمي ليَّا..انزلقت دمعةٌ من عينيها، أزالتها سريعًا وهي ترتجف:
-ياريتني ماعرفت إنَّها مش أمي، الفكرة نفسها بتموِّتني، بتمنى أكون في كابوس...وصلَ إليهم أرسلان بصحبةِ غرام، مع إيمان وغادة اللتان يلهونَ مع بعضهما بالحديث..
-عاملة إيه ياميرو؟...قالها أرسلان وعيناهُ تحاوطها:
-الحمدُلله كويسة، اتَّجهت بنظرها إلى غرام:
-مبروك ياغرام، ربنا يتمِّم حملك على خير ياروحي..
-ميرسي ياميرال، ربنا يباركلك في يوسف..
-فين أبو يوسف؟...تساءلَ بها يزن وهو يرمقُ أرسلان..
نظرَ بساعةِ يدهِ قائلًا:
-معرفش، أكيد زمانه جاي، هوَّ عارف إنِّنا هنفطر هنا..
دلفت سيارةُ زين إلى الحديقة، فنهضَ أرسلان إليهم وأشارَ إلى يزن:
-خليك زي ماإنتَ علشان الموضوع يتفهم صح..
-مين قالك إنِّي هقوم من مكاني أصلًا، لولا طنط فريدة مكنتش هاجي..تحرَّكَ أرسلان إليهم بعدما دلفوا إلى الداخل يهمسُ لنفسه:
-ربنا يستر والليلة تعدِّي على خير..
اقتربت غادة من ميرال:
-ميرو ياله جوَّا هنفضل هنا؟..
-ادخلوا أنتوا، أنا هفضل لحدِّ المغرب مايأذن..
حاوطها يزن بذراعه، لتخبئَ رأسها بكتفهُ حتى تمنعَ تلك الدمعة التي غدرت بها، وانبثقت من جفنيها، لا تريدُ أن يرى أحدًا ضعفها وانكسارها، ربتَ أخاها على كتفها وتمتمَ بنبرةٍ حنونة:
-لو عايزة نتمشَّى شوية معنديش مانع، هزَّت رأسها بالنفي وظلَّت كما هي، إلى أن استمعت إلى صوتِ إيمان:
-ياله ندخل المدفع ضرب، وعيب قاعدتنا دي، يقولوا إيه..توقَّفَ يزن وحاوطَ جسدها:
-ميرو ياله ياقلبي، وبعد الفطار نتكلِّم..قاطعهم صوتُ سيارتهِ التي دلفت من البابِ الرئيسي، ترجَّلَ من السيارةِ مع صوتِ الأذان، اتَّجهَ إلى وقوفهم وتوقَّفَ وعيناهُ تحدجها بعتاب، ثمَّ اقتربَ وبسطَ كفَّيه:
-تعالي عايز أتكلِّم معاكي..أوقفهُ يزن بعدما رأى انهيارها الداخلي:
-بعدين ياإلياس، نفطر الأوَّل، كأنَّهُ لم يستمع إليهِ واقتربَ منها يبعدُ كفَّ يزن من فوقِ أكتافها، وسحبها متجهًا للداخلِ وهو يحاوطُ خصرها:
-وحشتيني..
-كنت فين؟..تساءلت بها بنبرةٍ كادت أن تخرجَ من بين شفتيها..
قرَّبها إلى أحضانهِ وهمسَ بجوارِ أذنها
-بقولِّك وحشتيني، المفروض تردِّي وتقولي و إنتَ كمان، مش كنت فين..
توقَّفت عن السيرِ وتطلَّعت إليه بعيونٍ محجَّرةٍ بالدموع:
-ليه جيت لعندي امبارح ياإلياس؟..ليه رجعت تقلق راحتي بعد مااتعودت على بعدك؟..ليه دايمًا بتحاول تسحبني لعندك وبعد كدا تدوس عليَّا؟..خايف أخرج من تحت سيطرة إلياس السيوفي؟..
اقتربت خطوةً منه حتى لم يفصل بينهما سوى أنفاسهما وتعمَّقت بحدقتيه:
-ولَّا كنت عايز تشوف إنِّ ميرال الحلوة لسة هتمتَّع إلياس زي زمان ولَّا لأ..
رمقها بنظرةٍ مميتةٍ وأشار بسبَّباته:
-بتغلطي ياميرال، وهتندمي..
ابتسمت بدموعها التي انزلقت من جفنيها:
-مش شايف الكلمة دي ميرال تخطَّتها، شوف حاجة اقوى من كدا يابن عمي
حاوطَ خصرها وجذبها للداخل بعدما استمعَ إلى صوتِ غادة تناديهم:
-انا جاي تعبان وصدَّقيني ماليش نفس للخناق، ممكن تأجِّليه حتى بعد مالناس تمشي..
دلفَ للداخلِ ملقيًا التحيةَ على الجميع، سحبَ كفَّها واتَّجهَ يجلسُ بجوارِ والدهِ بمكانهِ المخصَّص، جذبَ مقعدها وأشارَ إليها بعينيه، جلست بهدوء، وقعت عيناها على رؤى التي تقابلها، فسحبت نظرها الى إيلين:
-نوَّرتي يادكتورة، شوفتي طلعنا قرايب..
ابتسمت إيلين تنظرُ إلى آدم:
-أيوة عرفت من آدم وكمان رؤى..
بترت حديثهما رؤى قائلة:
-مش قولت لك ياإيلي، أهو طلعنا قرايب ومش بس كدا، طنط فريدة طلعت مرات عمِّنا، رمقت ميرال بنظرةٍ باردة:
-يعني ميرال مطلعتش بنتها، مجرَّد مربية..
-تعرفي تاكلي وإنتي ساكتة يابت وماسمعشِ صوتك، وبدل مابتحكي تاريخ العيلة كدا، فكَّري إزاي هتبرَّري خروجك امبارح بالليل من غير إذني...قالها إلياس وعيناه ترمقها بسهامٍ نارية..
أفلتَ اسلام ضحكةً وهو ينظرُ إلى صحنه:
-كانت بتجري ورا الفيران..
-ااااي خفَّة ياظريف..قاطعهم أرسلان:
-لا كانت بتعدِّ النجوم في السما، وفجأة واصطدمت في عربية روبابيكيا..
-دا فطار ولَّا مسرحية هزلية بقى..كلِّ واحد ياكل وهوَّ ساكت..قالها مصطفى بعدما اعتذر من زين..
آسفين يازين باشا، الولاد متعوِّدين لمَّا بيتلمُّوا على بعض بيطلَّعوا مواهبهم..
-كلِّموا أبوكو، أنا جاي لأمي..
-لا وإنتَ قبلهم ياحضرة المهندس..التفتَ أرسلان إلى يزن:
-رد على عمُّو مصطفى إنتَ مبتسمعش؟..
-أرسلان..قالها إلياس وهو ينظرُ بعينيهِ إلى الطعام ..نهضَ من مكانهِ وجذبَ بعض الطعامِ من أمامه:
-عارف إنَّك خايف عليَّا علشان كدا بتقولِّي خد أكلك..
-بس ياله، احترم نفسك الناس تقول علينا إيه؟..
التفتَ برأسهِ إلى زين:
-حضرتك منوَّرنا والله، ياريتنا اتعرَّفنا عليك من زمان..ثمَّ اتَّجهَ إلى آدم وأحمد:
-منوَّرين والله يا ولاد خالي..مش كدا صح ياستِّ الكل؟..
ابتسمَ زين ينظرُ إلى فريدة:
-مش معقول، دا أرسلان اللي قولتي عليه؟..
-لا..قالها إلياس وهو يمضغُ طعامه، ثمَّ استأنفَ حديثه:
-دا واحد لقيينه على بابِ الجامع..
-اسمَ الله عليك ياأخويا، وإنتَ لقيناك على بابِ الدار..
قهقهَ إسلام يشيرُ على نفسه:
-وأنا لقيتوني في بطنِ سمكة، غمزَ إلى يزن ماتقولِّي ياعمِّ المهندس وإنتَ حدفوك في البحر، واتقابلنا في بطن البحر..ارتفعت الضحكات إلى أن قاطعم صوتُ فريدة وهي تطلَّعُ إلى ميرال:
-حبيبتي قرّّبي لجوزك أكله، منتظرة إيه؟..نسيتي إنِّ دا بيتك، أوعي تتعاملي على إنِّك ضيفة مهما يحصل..
دفعت رؤى الطبقَ بجهةِ إلياس قائلة:
-أصله بعيد عنَّك...وأنا عارفة إنَّك بتحبُّه، ألقى يزن نظرةً على مايحدث بين رؤى وميرال، ثمَّ انحنى برأسهِ إلى أرسلان:
-أقولَّك على حاجة..انتظرَ أرسلان أن يكملَ حديثه:
-رؤى بتكره ميرال، خايف الكره دا يخسَّرنا اللي بنخطَّط له..
-عارف، وعلى فكرة هيَّ راحت لراجح امبارح، وإلياس شافها هناك، بس ناوي على إيه معرفش.
-تفتكر تكون قالت له عليَّا؟..
-معرفش بس جايز، السؤال المهم ليه بتكره ميرال رغم أنُّهم أخوات؟..
قاطعهم صوتُ زين:
-باشمهندس يزن، بعد الفطار لازم نتكلم
-إن شاء الله..قالها بهدوء
تناولَ الجميعُ فطورهم بجوٍّ من الألفة ومحبةِ رمضان بعدما أثارت رؤى الأجواء، ولكن طريقة أرسلان وإسلام أخرجتهم بضحكاتهم المرتفعة، مع حديثِ زين عن فريدة في طفولتها، و اشتراكِ إيلين وآدم عن حديثِ والدهم عن مافعله والده بالبحثِ عنها..كان مصطفى يستمعُ بصمتٍ عن إثناءِ زين لجمال ومدحهِ المتكاملِ بشخصه، وقصةَ العشقِ التي كانت بينهما، توقَّفَ مصطفى محمحمًا باعتذار:
-آسف ياجماعة شبعت الحمدُلله، البيت بيتكم..قالها وتحرَّكَ بعيدًا عن طاولةِ الطعام، راقبهُ إلياس إلى أن خرجَ إلى الحديقةِ وخلفهِ الخادمة تحملُ قهوته، توقَّفَ هو الآخر معتذرًا، وانحنى يهمسُ إلى ميرال:
-خلَّصي أكلك براحتك، واعمليلي قهوتي، وحشتني قهوتك، قالها وتحرَّكَ خلفَ والده، بينما اندمجَ الجميعُ بحديثِ زين وشقاوةِ أرسلان مع إسلام، إلى أن انتهى فطورهم..
بالخارج:
جلسَ بجوارِ مصطفى، وسحبَ منه سيجارة:
-بابا صحِّتك، كنت وقَّفت تدخين، إيه ياسيادةِ اللوا إحنا بنكبر ونرجع في كلامنا؟..
رسمَ ابتسامةً يبتعدُ عن أعينِ ابنهِ وهتف:
-نفسي راحت لها، معرفشِ ليه، عايز أدخَّن..أمالَ بجسدهِ ينظرُ بداخلِ أعينِ والده:
-لتكون غيران ياسيادةِ اللوا؟..
قطبَ جبينهِ وتصنَّعَ جهل ما يقصده..
-لا..مش عيب تخون ذكاء ابنك برضو، أنا إلياس مصطفى السيوفي يادرش، يوسف معرفوش، وقولتها لك، ابنك دايمًا هيكون وراك وفي ضهرك، عرفت إنَّك غرت من كلام خالو زين، بس دا ماضي، يعني مالكشِ فيه مشاهد ياحضرةِ اللوا، الماضي يخصِّ جمال الشافعي، وحقِّ أمي مع ذكرياته، أمَّا الحاضر والمستقبل دا يخصَّك لوحدك، ودايمًا كان عقلك الموزون بيعجبني، حكمتك كانت طريقي يابابا، أتمنى تفضل طريقي..
رفعَ مصطفى كفَّيهِ على رأسهِ وجذبهُ إلى أحضانه:
-إنتَ نور عيني ياإلياس، صدَّقني يابني ولا لحظة حسِّيت إنَّك مش من صُلبي، عايزك دايمًا تكون سند لأبوك وأخواتك..
وصلت ميرال إليهما تحملُ قهوته:
-شوفت الدادة جايبة قهوتك، علشان كدا معملتش غير لإلياس بس..
ابتسمَ إليها ورفعَ كفَّيهِ إليها:
-تعالي حبيبة عمُّو، وحشاني، كدا أسبوعين كاملين متسأليش عن عمِّك..
جلست بجوارهِ وتحدَّثت:
-كان عندي شغل كتير والله، وكنت برجع تعبانة وأنام وكسل رمضان بقى ياعمُّو..
ملَّسَ على رأسها بحنان:
-وشِّك مخطوف ليه؟..أوعي يكون من الصيام..كان يرتشفُ قهوتهِ بهدوءٍ ظاهري، رغم النيرانِ القابعةِ بصدره،
وصلت فريدة بجوارِ زين ليتوقَّفَ مصطفى لاستقبالهم ..جلسَ الجميعُ في جوٍّ من المحبة، توقَّفَ أرسلان يسحبُ غرام معتذرًا:
-بعد إذنكم ياجماعة، لازم نمشي هنعدِّي لسة على بابا..سهرة سعيدة..
فعلَ مثلهِ يزن:
-خدني معاك، عندي مشوار مهم، بحثَ بعينيهِ عن إيمان وجدها تجلسُ بجوارِ غادة وإسلام:
-إيمي ياله..قالها وهو يتَّجهُ خلفَ أرسلان يناديه:
-أرسلان، لازم أعرف رؤى قالت إيه لراجح؟..
ربتَ على كتفهِ قائلًا:
-متخفش إلياس هيعصرها، حتى لو معرفشِ حاجة بس أنا واثق في دماغه حاجة..
بمنزلِ يزن:
كان يجلسُ في غرفته، شارداً، يستعيدُ كلماتِ راحيل التي أشعلت بداخلهِ نيرانًا لم تخمد أبدًا..قاطعهُ صوتُ هاتفه، التقطهُ بسرعة، وعيناهُ التهمتا الاسم المتوهِّج على الشاشة: راحيل!!
-أيوة يا راحيل؟
لم يسمع سوى بكائها، شهقاتها المتقطِّعة كانت كالسكاكينِ التي مزَّقت روحه، فانتفضَ واقفًا كمن مسَّتهُ نيرانُ قلقه..لم يحتج إلى أكثرِ من لحظةٍ حتى كان منطلقًا بدراجته، يعبرُ الطرقاتِ بجنون، يتحدَّى سرعةَ دراجته، وصلَ في غضونِ دقائقَ معدودة، دلفَ إلى فيلتها. لم ينتظر إذنًا، دلفَ إلى الداخلِ وعيناه تبحثانِ عنها بلهفة، كأنَّها الهواءُ الذي يحتاجهُ ليحيا. أخبرتهُ الخادمة أنَّها في غرفتها، فصعدَ بخطواتٍ لاهثة، وقلبهِ يدقُّ بجنون..
دفعَ البابَ بخفَّة، وماإن وقعَ نظرهِ عليها حتى تجمَّدَ في مكانه، انحبست أنفاسه، وعيناهُ لم تستطع الابتعادَ عن سحرِ طلَّتها..
كانت تقفُ في شرفةِ غرفتها، بردائها الأبيضِ الشفافِ الذي يلامسُ فخذيها، وخصلاتها تتطايرُ مع نسماتِ الليل، تراقبُ السماءَ بعينينِ تائهتينِ كأنَّها تشكو همومها إلى الرحمن..
دنا منها بخطواتٍ متأنِّية، كفنانٍ يرسمُ لوحةً من العشقِ بعينيه، يلتهمُ تفاصيلها بنظراتِ عاشقٍ مسحور...وقفَ خلفها تمامًا، همسَ باسمها بصوتٍ خافت، لكنَّهُ حملَ بين طيَّاتهِ ألفَ شعور:
- راحيل...
التفتت إليه بعينينِ غارقتينِ بالدموعِ لتقابلَ عيناهُ الممتلئتينِ بالقلق..لم يحتمل المسافة بينهما، فانحنى يجذبها إلى أحضانه، يحتويها بذراعيه كأنَّهُ يريدُ أن يحميها من العالمِ بأسره:
- خفت عليكي...
لم تتردَّد لحظة، حاوطت خصرهِ بقوَّة، كأنَّها تختبئُ داخله، أغمضت عينيها، وسحبت رائحته، وهمست باسمه:
-يزن...
شعرَ برجفةٍ عنيفةٍ اجتاحت جسده، لم يشعر بنفسه إلَّا وهو يهمسُ لها بصوتٍ متحشرج، محمَّلًا بكلِّ المشاعرِ التي حاولَ إنكارها:
-روح يزن...
تجمَّدت بين ذراعيه، وقلبها يصرخُ بدقَّاتهِ العنيفة..رفعت رأسها ببطء..وتاهَ الاثنانِ في نظراتِ حبٍّ لم يعد بإمكانهما إخفاءها.
رفعَ يده، ومرَّر أناملهِ برقَّةٍ على وجنتها، كأنَّها كنزهِ الوحيد، ثمَّ انحنى ببطءٍ يحتضنُ شفتيها، كانت القبلةُ انفجارًا من الشوقِ والجنون، عناقًا من الأرواحِ قبل الأجساد، لحظةً اختلطَ فيها العشقُ بالرغبة، فتعلَّقت برقبتهِ بقوَّة، وذابت معه في لذَّةٍ لا تعرفُ الحدود.
لم يدركا الزمن، لم يشعرا بشيءٍ سوى ببعضهما، وحين تركها أخيرًا، كانت أنفاسها متقطِّعة، ووجنتاها تلتهبانِ بلون العشق..رفعت كفَّيها، احتضنت وجههِ بين راحتيها، ونظرت إليه بعينينِ مترقرقتينِ بالدموع:
- يزن، أنا بحبَّك...
ارتعشَ جسده، وكأنَّ كلماتها أطلقت زلزالًا داخله..ظلَّت تحدقُ فيه، ثمَّ أكملت:
-عايزة أكون مراتك بحقِّ وحقيقي..أنا موافقة نتمِّم جوازنا...
لم يمهلها حتى تكمل، بل رفعها بين ذراعيه، كأنَّها أثمنُ ما يملك، وطارَ بها إلى جنَّةٍ لا يسكنها سواهما، حيث لا يوجدُ سوى الحب، والرغبة، وعالمًا خاصًّا بهما وحدهما...
بمنزلِ السيوفي:
صعدَ إلى الأعلى يبحثُ عنها، قابلتهُ غادة:
-بدوَّر على حاجة ياأبيه؟..
-فين إسلام مش باين ليه؟...اقتربت منه وتوقَّفت تنظرُ إليه بخبث:
-معرفش كان بيسألني من شوية عن ميرال..وصلت إليهم رؤى:
-أه وشوفتهم وهمَّا بيضحكوا عند البيسين ..فتحت غادة فمها للحديث ولكنَّهُ اختفى من أمامهما، نادتهُ رؤى ولكنَّهُ تحرَّكَ ولم يستمع الى أحدٍ..
وصلَ الحديقة وجدها تجلسُ على العشبِ تتلاعبُ مع طفلهما الذي يلاغيها بصوتٍ مرتفع، اتَّجهت بنظرها إلى فريدة:
-شوفي ياماما، بيقول إيه..نهضت فريدة واقتربت منها حتى جلست بجوارها تربتُ على كتفها:
-بكرة يقولِّك ياماما كمان، نظرت إلى فريدة وتمتمت:
-تعرفي أنا بستنى اليوم دا أوي، مش مصدَّقة يكبر علشان أتكلِّم معاه، أقولِّك على حاجة غريبة، ندمت أنُّه مش بنت، كانت هتفهمني أكتر، فاكرة لمَّا كنتي بتحكي لي عن بابا المزيف، خلِّيتيني أحبُّه وأرسم له صورة في دماغي، رغم أنُّه طلع مزيَّف بس كنت فرحانة بيه أوي..
-لا ياحبيبتي، جمال عمره ماكان مزيف، وبعدين مش اتفقنا إنِّك بنتي، ليه رجعتي تقولي إنِّك مش بنتي؟..
-علشان دي الحقيقة ياماما، تعرفي أنا اتاكِّدت إنِّ ربِّنا مش بيحبِّني، علشان أخدك منِّي، وخلَّى واحدة زي رانيا دي أمي..قطعت حديثها عندما شعرت بأحدهم يجلسُ بجوارها ويحاوطُ جسدها:
-وربِّنا بيكرهك علشان اتجوِّزتك مش كدا؟..رفعت عينيها إليه:
-صدَّقني مبقتش عارفة ياإلياس إذ كنت فرحانة ولَّا حزينة..توقَّفت فريدة لتتركَ لهم مساحةً من الوقت، ثمَّ أردفت:
-باتوا هنا حبيبي، وحشتوني أوي أنتوا الاتنين..هزَّ رأسهِ وعيناهُ على ميرال التي تصنَّعت انشغالها بطفلها، نادى على مربية طفله:
-خدي يوسف، لفوق
-بس أنا عايزة أرجع بيتي ياإلياس..
اعتدلَ بجلوسهِ وجذبها إلى داخلِ أحضانه:
-الأوضة وحشتها ريحتك ياميرا، تعرفي من آخر مرَّة كنتي هنا ومش خلِّيتهم يغيَّروا السرير، علشان ريحتك كانت فيه..
تطلَّعت إليه بذهولٍ متمتمة:
-ليه مصرّ تعمل ..بترَ حديثها بعدما اقتربَ برأسهِ يحتضنُ ثغرها، لحظاتٍ يسلبُ أنفاسها إلى أن تراجعَ قائلًا:
-مش عايز غلط ياميرا، لأنِّك هتتعاقبي ومتحاوليش تترجِّيني، قالها ونهضَ يسحبها من كفِّها متَّجهًا إلى سيارته ثم رفع هاتفه يهاتف المربية لتنزل بالطفل مرة أخرى
اتجه بنظره اليها
-هنروح بيتنا مش بيتك ..
كانت واقفةٌ بشرفةِ غرفتها، تتآكلُ من نيرانِ الغيرة، دلفت للداخلِ تدفعُ الباب بقوَّة، ثمَّ دارت بالغرفة تأكلُ أظافرها:
-مش هسيبك تتهنِّي بكلِّ حاجة، عيشتي حياة كلَّها رفاهية، وكمان تتجوِّزي واحد زيه، وأنا بعد الإهانات دي كلَّها أكون أختك على الفاضي، اصبري عليَّا ياستِّ ميرال..
وصل بعد قليل إلى منزل :
دلفت بجواره إلى الداخل ، خطواتها متردِّدة، وقلبها يخفقُ بشدَّة، خوفًا من ضعفها كعادتها..، صعد بها إلى غرفتها بعدما أوصى المربية على الطفل، توقَّفت عند العتبة، جالت بعينيها المرتعشتينِ في أرجاءِ المكان، لكنَّهُ لم يمنحها فرصةً للتراجع، جذبها نحوهِ بقوَّةٍ حتى اصطدمت بصدرهِ الصلب، يريدُ أن يغرقها في كيانه، رفعَ ذقنها بأناملهِ وتساءل:
-"كنتي بتقولي إيه أوَّل ما جيت؟ نسيت.. عارفة جوزك ذاكرته ذاكرة سمكة!"
قالها بصوتٍ خافت، لكن نظرتهِ كانت مشتعلةً بالعشقِ الدفين، رفعت عينيها نحوهِ بعناد، رغم أنَّ دموعها كانت تهدِّدُ بالانهيار..
-"مين اللي ذاكرته ذاكرة سمكة؟ ده إنتَ فاكر حاجات من عشرين سنة، يا زوجي المغرور!"
ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةً خفيفة، وعينيهِ لم تفارقا وجهها، كأنَّهما ترسمانِ حدودها وتحفرانِ وجودها داخله..مرَّر أناملهِ ببطءٍ على وجنتها، شعرَ برجفتها، أغمضت عينيها فزادَ من اقترابه، حتى باتت أنفاسهِ تلفحُ شفتيها المرتعشتين..
رفعَ أصابعهِ لتنسابَ برفقٍ وتنزعُ حجابها، بحركةٍ بطيئةٍ كأنَّها طقسٌ مقدَّس، ثمَّ جمعَ خصلاتها على جانبِ وجهها بحنانٍ فائق:
-"يعني أنا ذاكرتي قوية، صح؟"
-"كنت فين إمبارح؟ ليه سبتني وكأنِّي واحدة جيت تقضِّي ليلة معاها جبر خاطر؟"
قالتها بنبرةٍ مرتجفة، مع اهتزازِ عيناها بدموعها الحبيسة، حدَّق بها طويلًا، كأنَّها ألقت بسؤالها سكِّينًا في صدره، صمتَ قليلًا ولكن ارتفعت أنفاسه، ثمَّ فجأة، أمسكَ وجهها بين يديه، وأجبرها على الغرقِ في عمقِ عيناه، وأردفَ بصوتٍ عميق:
-"لسه بتغلطي يا ميرا؟ لسه مصرَّة إنِّي مقرف؟"
شهقت دون إرادة، وانزلقت دموعها الساخنةِ على وجنتيها، وارتجفت أناملها وهي تشيرُ إلى نفسها، تسألُ بآخرِ ما تبقَّى لها من قوَّة:
-"أنا إيه في حياتك ياإلياس؟"
تشنَّجَ جسدهِ للحظة، من سؤالها الذي اخترقَ صدرهِ بسهمٍ قاتل، واشتعلت عيناهُ بنيرانٍ لم يحاولُ إخمادها، ثمَّ ببطءٍ أشبهُ بعذابٍ يحرقُ داخله، الصق جبهتهِ بجبهتها، وأنفاسهِ الساخنةِ تتلاحق، يهمسُ بصوتٍ غلَّفهُ وجعُ العشق:
-"حياتي.."
ارتجفت شفتيها أكثر، لكنَّهُ لم ينتظر لحظة، فأطبقَ بيديهِ على وجهها، يضغطُ على وجنتيها بحنان، وهمسَ بصوتٍ قاتلٍ بالعشق:
-"حياتي وروحي..بنتِ قلبي..عصفوري الجميل اللي شبه عصافيرِ الجنة..قطِّتي الشرسة..بنتي النقية الطاهرة.."
رفعت عينيها الغارقةُ بالدموع، وعجزت عن النطق، ولكنَّها أفلتت شهقةٌ بنبضها الذي يريدُ أن يحطِّمَ صدرها من قوَّةِ خفقانه، بينما أكمل هو بصوتٍ صار أضعف، لكنَّهُ أكثرُ عمقًا، أشبهُ بوشوشةِ روحٍ تتعلَّقُ بالحياة :
-"إنتي روح وحياة إلياس..عاملة زي الميَّة للبحر، والهوا للحياة..كلِّ حاجة ياميرال، لو محسِّتيش بدا، يبقى محبتنيش."
أطلقت شهقةً عاليةً وهي تضمُّهُ بكلِّ ضعفها، تتشبَّثُ به كأنَّها تتشبَّثُ بالحياةِ نفسها، بكت بوجع، بصمت، ثمَّ نطقت بصوتها الذي يجمعُ من حروفِ الألمِ مايقتلها:
-"أنا تعبانة، تعبانة وعايزة أرتاح يا إلياس..حياتي كلَّها اتدمَّرت.."
لم يسمح لها بالنطقِ أكثر، حملها بين ذراعيهِ بسهولةٍ وكأنَّها لا تزنُ شيئًا، ورغم خفَّةِ وزنها، إلا أنَّ عشقها أثقلُ من أكبرِ الجبالِ ثقلًا، اتَّجهَ بها نحو فراشهما، يريدُ يعيدَ أنفاسهما، روحهما، وحتى قلبهما الذي تبعثرَ كثيرًا.
وضعها فوق السرير برفقٍ شديد، كأنَّها جوهرةٌ يخشى أن تنكسر، ثمَّ جلسَ بجوارها، أناملهِ أمسكت بيدها، شدَّدَ عليها بحنان، ثمَّ همسَ وهو يمسحُ دموعها بقبلاته:
-"لمَّا جوزك يموت، يبقى تقولي كدا.. طول ما أنا بتنفِّس، مش مسموح لك تتألِّمي ولا تخافي..لو حسِّيتي بكدا وإنتي في حضني، يبقى مليش لازمة."
همست بانكسار، بالكادِ وصل لمسامعه :
-"حتى لو الألم دا منَّك؟"
ابتسمَ بحزن، واقتربَ أكثر، حتى اختلطت أنفاسهِ بأنفاسها، وانخفضَ صوته حتى صارَ وشوشةُ عاشقٍ فقدَ سيطرتهِ تمامًا:
-"هداويه..ما أنا زيِّك يا روح إلياس..سم وترياق في نفسِ الوقت."
هنا، لم يبقَ بينهما سوى صوتِ نبضاتِ القلوب، التي عزفت سيمفونيةُ حبٍّ مشتعلة، تركَ لأناملهِ أن تستكشفَ تفاصيلها ببطء، وأنفاسه التي أذابتها، حتى أصبحت بين يديهِ تهمسُ بعشقه، ليزدادَ لهيبُ العشقِ ويسحبها إلى عالمهِ الذي لم يعد سوى مزيجٍ من النبض، والعشق، والجنون...
فترةٌ ليست بالقليلةِ ولا بالطويلةِ وهي تحلِّقُ تحت كنفِ نبضِ قلبهِ الذي يروي لها من العشقِ مالا تراهُ سوى لديهِ فقط، سواءً نظرةٍ أو همسةٍ أو لمسة، عشقٌ خالصٌ ممزوجٍ بالنبضِ بحروفِ اسمها فقط..قاطعهم طرقاتٌ على بابِ الغرفةِ ولكنَّهُ ابتعدَ عن كلِّ شيئٍ وكأنَّهُ الحاضرَ الغائب، لا يريدُ لأحدٍ أن ينزعَ روحهما التي ترفرفُ كبساطِ الريحِ فوق سماءٍ ربيعية..
مساءَ اليومِ التالي بفيلا راحيل:
أمسكت هاتفها:
-أيوة ياإيلين انتي فين؟..
-داخلة عليكي..نظرت من النافذة لذلك الرجلِ الذي وضعهُ يزن على بابِ الفيلا لحمايتها، ثمَّ أغلقت النافذة تهمسُ لنفسها:
-إنتَ اللي وصَّلتني لكدا يايزن..طافت بعينيها على الغرفة، إلى أن وقعت عيناها على سريرها الذي شهدَ ملحمةَ عشق.. ودَّت لو اختلفَ الزمانُ والأسباب، لأصبحت أسعدَ العاشقين، ولكنَّهُ أجبرها إلى السقوطِ الهاوية..اقتربت من السريرِ وانحنت تجذبُ سترتهِ تنظرُ إليها بدموعٍ الخزي من نفسها، ثمَّ ألقتها
وحملت حقيبتها متوجِّهةً إلى الأسفل، اتَّجهت إلى والدتها:
-ماما أنا مسافرة، وزي ماقولت لك، التواصل بينا هيكون عن طريق إيلين، أوعي ياماما يزن يعرف حاجة، توقَّفت والدتها متَّجهةً إليها:
-ليه جوزك عمل كدا ياراحيل؟..أنا مش مصدَّقة أنُّه يكون بالبشاعة دي..
قبَّلت وجنتيها ثمَّ جلست أمامها:
-ماما ماتفكريش في حاجة، المهمِّ روحي عند خالو زين، ياله إيلين جت، عايزة أخرج معاكم من غير ماحدِّ يحس..
بمنزل ميرال
فتحت عيناها حينما شعرت ببرودة المكان حولها، هبت من مكانها سريعًا تنظر حولها باضطراب انفاسها، ظنا أن ماعاشته منذ فترة كان حلمًا، تطلعت لهيئتها تهز رأسها بالنفي رافضة ماصفعه عقلها للمرة الثانية ..جذبت روبها بعدما تيقنت أنه لم يكن حلمًا ونزلت بساقيها المرتعشة تدعو ربها أن لا يخذلها فمن ارتجف القلب له، هرولت للاسفل حافية القدمين
↚
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
سوف أحِبُّكِ.. عند دخول القرن الواحد والعشرينَ.. وعند دخول القرن الخامس والعشرينَ.. وعند دخول القرن التاسع والعشرينَ.. وسوفَ أحبُّكِ.. حين تجفُّ مياهُ البَحْرِ.. وتحترقُ الغاباتْ.
. يا سيِّدتي: أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ.. ووردةُ كلِّ الحرياتْ. يكفي أن أتهجى اسمَكِ.. حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ.. وفرعون الكلماتْ.. يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ.. حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ.. وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..
يا سيِّدتي: لا تَضطربي مثلَ الطائرِ في زَمَن الأعيادْ. لَن يتغيّرَ شيءٌ منّي. لن يتوقّفَ نهرُ الحبِّ عن الجريانْ. لن يتوقف نَبضُ القلبِ عن الخفقانْ. لن يتوقف حَجَلُ الشعرِ عن الطيرانْ. حين يكون الحبُ كبيراً.. والمحبوبة قمراً.. لن يتحوّل هذا الحُبُّ لحزمَة قَشٍّ تأكلها النيرانْ..
يا سيِّدتي: ليس هنالكَ شيءٌ يملأ عَيني لا الأضواءُ.. ولا الزيناتُ.. ولا أجراس العيد.. ولا شَجَرُ الميلادْ. لا يعني لي الشارعُ شيئاً. لا تعني لي الحانةُ شيئاً. لا يعنيني أي كلامٍ يكتبُ فوق بطاقاتِ الأعيادْ.
يا سيِّدتي: لا أتذكَّرُ إلا صوتُكِ حين تدقُّ نواقيس الآحادْ. لا أتذكرُ إلا عطرُكِ حين أنام على ورق الأعشابْ. لا أتذكر إلا وجهُكِ.. حين يهرهر فوق ثيابي الثلجُ.. وأسمعُ طَقْطَقَةَ الأحطابْ..
أنتِ امرأةٌ لا أحسبها بالساعاتِ وبالأيَّامْ. أنتِ امرأةٌ.. صُنعَت من فاكهة الشِّعرِ.. ومن ذهب الأحلامْ.. أنتِ امرأةٌ.. كانت تسكن جسدي قبل ملايين الأعوامْ..
يا سيِّدتي: يالمغزولة من قطنٍ وغمامْ. يا أمطاراً من ياقوتٍ.. يا أنهاراً من نهوندٍ.. يا غاباتِ رخام.. يا من تسبح كالأسماكِ بماءِ القلبِ.. وتسكنُ في العينينِ كسربِ حمامْ
يا سيِّدتي: كم أتمنى لو سافرنا نحو بلادٍ يحكمها الغيتارْ حيث الحبُّ بلا أسوارْ والكلمات بلا أسوارْ والأحلامُ بلا أسوارْ
يا سيِّدتي: يا سيِّدة الشِعْرِ الأُولى هاتي يَدَكِ اليُمْنَى كي أتخبَّأ فيها.. هاتي يَدَكِ اليُسْرَى.. كي أستوطنَ فيها.. قولي أيَّ عبارة حُبٍّ حتى تبتدئَ الأعيادْ.
نزار قباني
❈-❈-❈
بمنزل إلياس
هبطَ إلى الأسفل، قابلتهُ الخادمة:
-السحور جاهز ياباشا، هطلَّعه للمدام فوق ولَّا هتنزل؟..توقَّفَ يلتقطُ أنفاسه، وحاولَ أن يهدِّئَ من روعه، فكلَّما تذكَّرَ حالتها كاد الألمُ يحرقُ روحه..أشارَ إليها إلى الأعلى:
-طلَّعيه فوق، بس ياريت يكون سحور متوازن، أنا مطلبتش منِّك تاخدي بالك من أكلها؟..ليه المدام خسِّت بالطريقة دي؟..
-واللهِ ياباشا كنت بحاول معاها، بس هيَّ اللي كانت بترفض، وغير معظم وقتها نايمة، ممكن لمَّا الباشمهندس يزن يكون موجود بتاكل حاجة بسيطة، وكمان الستِّ غادة بتضغط عليها، أمَّا إحنا مبنقدرشِ عليها..أومأ لها وأشارَ إليها بالحركة.
-تمام، طلَّعي السحور وأنا هعمل تليفون..
أومأت بالطاعةِ وتحرَّكت سريعًا..أمَّا هو اتَّجهَ إلى غرفةِ مكتبه، وهوى بجسدهِ أخيرًا حتى استطاعَ التنفُّسَ بهدوء، جلسَ وحاوطَ رأسهِ وذهبَ بذاكرتهِ إلى زيارةِ طبيبها..
دلفَ إلى الداخلِ بعد اتِّفاقهِ مع طبيبها إلى الاستماعِ لإحدى جلساتها العلاجية، كانت تجلسُ أمامَ الطبيبِ وتقصُّ له دون خوف، أو التحكمَّ بمكنوناتها..
-سامعك ياميرال، نكمِّل كلامنا، المرَّة اللي فاتت قولتي إنِّك فقدتي الثقة في كلِّ اللي حواليكي حتى مدام فريدة، إيه اللي وصَّلك لكدا؟..
تطَّلعت إلى الطبيبِ بتيه تخبره:
-أنا مفقدتش الثقة في ماما فريدة أبدًا، بالعكس، دي الوحيدة اللي بلاقي ميرال عندها، منكرشِ إنِّي زعلت منها في الأوَّل، بس بعدها عرفت إنِّ ربنا بيحبِّني، أنا مقهورة علشان مطلعتشِ أمِّي الحقيقة، عمرها ماحسِّستني إنِّي بنتِ عدوِّتها..
-طيب ليه وصلتي إنِّك تفقدي الثقة في كلِّ اللي حواليكي؟..
رمشت عدَّةَ مرَّاتِ تنظرُ إلى الطبيب، تهمسُ بخفوت:
-أنا فقدت الثقة في نفسي يادكتور، بقيت أخاف من أيِّ حد بيقرَّب منِّي، لأنِّي مش ضامنة نفسي، عندي يأس من بكرة، نفسي أفقد الذاكرة وأخرج من جلباب الشخصية دي، عمري ماكنت كدا..
طيب وإلياس، مش قولتي بتقوي بيه؟..
انبثقت دموعها تزيلها متمتمة:
- كنت بقوى بيه، بس دلوقتي بيضعفني..
-ليه..؟!
أطبقت على جفنيها وأجابتهُ بخفوت:
-خايفة عليه، خايفة يحرموني منُّه، معنديش غيره، أه ليَّا أخوات بس هوَّ عندي غير أيِّ حد.
-زعلانة منُّه؟...هزَّت رأسها:
-جدًا، زعلانة ومقهورة لأنِّي بقيت مهمَّشة عنده..
-مش يمكن مشغول..
-مش إلياس اللي ينشغل عن ميرال يادكتور، لا..هوَّ بيعاقبني، علشان اللي عملته..
-طيب ليه عملتي كدا؟..وإنتي عارفة أنُّه هياخد موقف.
-وكان مطلوب منِّي إيه، وأنا بتهدِّد بكلِّ حاجة..عمرك سمعت عن أب بيهدِّد بنته بأمَّها وجوزها؟..بعتلي فيديو للستِّ اللي ولدتني، صمتت وشهقةٌ أخرجتها بدموعٍ تنسابُ بكثرة واستطردت:
فيديو قذر فيه كلِّ ما يحمل قذارة لستِّ خاينة، وقالي هفضحك قدَّام الكل، الستِّ الصحفية المشهورة مرات الظابط اللي الكلِّ بيفتخر بيه، ابنِ سيادةِ اللوا اللي اسمه بيوقفله الناس يعظَّموا بسيرته، شوفتي هدمَّر كام واحد..
-ليه صدَّقتيه؟..مش يمكن بيضحك عليكي؟..
-وليه مصدَّقشِ واحد اتجوِّز مرات أخوه غصب عنها، واغتصبها وحاول يقتل بنته وابنِ أخوه..
-علشان كدا فضحتي جوزك؟..
-علشان كدا حميت اسمِ جوزي، عارفة هيزعل ويبعد، بس أهون من سيرته تكون بين زمايله، مستعدَّة أتحمِّل أيِّ حاجة ولا إنِّ حدِّ يبص له بشفقة،
-ماهو وكيل النيابة بص عليه بكدا..
-أبدًا، هوَّ حطّ نفسه مكانه، وحتى لو صعب عليه واحد ولَّا عشرة..دوَّرت على أقلِّ الخسائر..
-من شخصيته كان ممكن يطلَّقك..
-مش مهم، بس الأهم إنِّي مشفوش مكسور، حتى لو كسرني أنا بس مشفشِ في عيونه نظرة ندم..
-طيب ليه تعبانة دلوقتي؟..
-أنا مش تعبانة أنا عايزة أرجع ميرال، نفسي أرجع أقف وأقول لا، أنا خايفة من الناس، بقيت أمشي بين زمايلي وحاسة أنُّهم بيشاورا عليَّا ويقولوا بنتِ المجرم أهي، دموعًا كشلالٍ حتى اختفى وجهها خلفها..
-أنا مش بنته ومش عايزة أكون بنتِ حد، حاسة لو فضلت بنته هموِّت نفسي، مستحيل أكون بنتِ الراجل والستِّ دي..ارتفعت شهقاتها، وازدادت سرعة أنفاسها وشعرت بالاختناق، لتنهضَ من مكانها:
-أنا مستحيل أكون بنتِ الراجل دا، أموِّته وأموِّت نفسي، وتهديده مش خايفة منُّه، خلِّيه يقرَّب من ابني وجوزي والله مستعدة أموِّته وأريَّح الناس منُّه، الراجل دا مستحيل يعيش، طول ماهو بيتنفس أنا بتخنق، طول مااسمه موجود في الدنيا بيقتل كلِّ حاجة فيَّا..
-مدام ميرال ممكن تهدي، التفتت إلى الطبيب بعيونٍ باردة:
-أنا هادية، حضرتك شايفني مجنونة، أنا فعلًا هتجنِّن لو الراجل دا فضل موجود، أو أموِّت نفسي وأريَّح الكل ، أنا بقيت عالة عليهم جميعًا، ليه يتحمِّلوا بنتِ راجل مجرم زيي، ذنبه إيه يربط نفسه ببنتِ مجرم، لا لا..مستحيل، قالتها وحملت حقيبتها وخرجت سريعًا وهي تردِّد:
-مستحيل أكون بنتِ الراجل دا..
خرجَ من شرودهِ على طرقاتِ الخادمة:
-طلَّعت الأكل بس المدام كانت في الحمَّام..أومأ لها ثمَّ نهضَ متحرِّكًا، صعدَ إلى الأعلى، طاف بنظراتهِ بالغرفةِ ثمَّ اتَّجهَ إلى الحمَّامِ سريعًا حينما لم يجدها، دفعَ الباب ودلفَ بأنفاسٍ متقطِّعةٍ خوفًا أن تؤذي نفسها، لم يجدها، استدارَ إلى الغرفةِ الداخلية، وقعت عيناهُ عليها وهي جالسةً بحوضِ الجاكوزي مغلقةَ العينين، خطا إليها بهدوءٍ حتى لا يُفزعها، ظلَّ يراقبها بعينينِ غارقةٍ بالعشق، ابتسمَ على طفولتها وهي تتشاجرُ مع خصلاتها التي تسقطُ فوق جبهتها، وصلَ إليها ثمَّ انحنى بجسدهِ يهمسُ بصوتٍ خافت:
-طيب دا كلام يتعمل في رمضان، والله قلبك قاسي عليَّا أوي..
فتحت عيناها وارتفعت أنفاسها مع هبوطِ وصعودِ صدرها، حتى عجزت عن النُطق، أغمضت عينيها مرَّةً أخرى بعدما وجدت نظراتهِ التي تخترقُ جسدها لتهمسَ بتخبُّط:
-إلياس اطلع برَّة شوية وجاية، أنا بس كنت عايزة..بترَ حديثها الذي اعتبرهُ ثرثرةً ليست بمحلَّها وهو يسحبُ كفَّيها إلى أن توقَّفت بساقينِ مرتعشتين، بسطَ كفَّيهِ وجذب روبها يساعدها على ارتدائهِ بحالةٍ من الصمت، ورغم صمتهِ إلَّا أنَّ نظراتهِ تحكي لها معاناةَ عشقهِ المتألِّم..وضعت رأسها على صدرهِ وحاوطت خصره:
-متزعلش منِّي، أنا عارفة بخبَّط معاك كتير، مش عارفة ليه، بس عايزاك تتأكِّد من حاجة واحدة وبس أموت من غيرك، أنانية عارفة وفكَّرت في نفسي، بس واللهِ حاولت أعيش من غيرك مقدرتش، سامحني، ولو عايز تتجوِّز واحدة قدَّام المجتمع تليق بيك أنا موافقة، بس متبعدنيش عنَّك..
تجمَّدَ في مكانه، يشعر بصاعقةً ضربت روحهِ قبل جسده، لم يعد يشعرُ بقدميه، وكأنَّ الأرضَ سُحبت من تحته، والهواءَ صار خانقًا، ثقيلًا كجدارٍ يسحقُ صدره.. نظرَ إليها بذهولٍ، واتَّسعت عيناهُ بانكسارٍ لم يشعر به من قبل، كلَّ خليةٍ في جسدهِ كانت تصرخ، لكنَّهُ ظلَّ صامتًا، فقط يحدِّقُ فيها...
-هتبعد وتسبني في يوم من الأيام أنا عارفة...قالتها وهي تسحب نفسها من أحضانه
امتقعَ وجههِ حتى أصبح شاحبًا كالموتى، وكأنَّ الحياةَ فرَّت منهُ في لحظة، كلماتها لم تكن مجرَّد جُملًا عابرة، بل كانت سهامًا مشتعلةً انغرست في صدره، فتِّت ضلوعه، وأشعلت داخلهِ نيرانًا لم يكن لها مفر..كيف لها أن تقولَ هذا؟ كيف لها أن تقتلهُ بهذهِ السهولة؟
جفَّ حلقه، حاول أن يتحدَّثَ لكن صوتهِ خانه، حتى احس بأنَّهُ طفلٌ تائهٌ لا يعرفُ كيف ينطق، شعرَ بأنَّهُ رجلٌ غارقٌ في العتمة، يبحثُ عن طوقِ نجاة، رفعَ يديهِ المرتجفتينِ ليحيطَ وجهها، ويتأكَّدَ أنَّها أمامه، وليس كابوسا..نظرَ لعينيها وجدها باردة، بعيدة، وكأنَّها لم تعد تلك التي يعرفها، تلك التي أحبَّها حتى الجنون.
انحنى نحوها، يبحثُ عن روحهِ في عينيها، لكنَّهُ لم يجد سوى ظلامٍ دامس، شعر پانها صارت روحًا فارغة، مجرَّد جسدًا بلا حياة...لم تكن "ميرال" التي يعرفها، بل بقايا لامرأةٍ قتلها الحزن.
مرَّر لسانهِ على شفتيهِ الجافتين، يريدُ أن ينطق، يريدُ أن يصرخَ بها، أن يهزَّها بعنف، أن يجعلها تدركُ بشاعة ما تقوله، لكنَّهُ لم يجد سوى همساتٍ خرجت متقطِّعة، مذبوحةً من حلقهِ الجاف:
- أ ي ه...؟
رفعت كفَّها المرتعشة، ولمست وجنتهِ بحنانٍ موجوع، وكأنَّها تودِّعُ لمسةَ حبيبها للمرَّةِ الأخيرة، ثمَّ اقتربت، ولثمت وجنته، وبصوتٍ بالكاد سُمع، همست:
- عايزاك تتجوِّز واحدة تليق بإلياس السيوفي...مش عايزة أكون عقبة في حياتك...هموت ياإلياس لو حصلك حاجة بسببي.
شهقَ كمن تلقَّى طعنة، وتأرجحَ عقلهِ بين تصديقِ كلماتها وإنكارها، هل فقدت عقلها؟ هل تظنُّ أنَّ بإمكانها قولَ هذا ؟ هزَّ رأسهِ بعنف، يحاولُ طردَ تلك الفكرةِ القاتلةِ من ذهنه.
تحرَّك فجأةً..وحاصرَ جسدها بذراعيه، التصقَ بها حتى كاد يُذيبها داخله، يريدُ أن يسحبها إلى روحه، أن يخبِّئها في قلبه، أن يمنعها من الاختفاء..لكنَّه لم يكن يضمُّ سوى جسدٍ منهك، روحٍ مستنزفة، امرأةٍ لم تعد تقوى حتى على التمسُّكِ به.
أوقفها أمام المرآة، نظرَ إليها مطوَّلًا، انعكاسهما كان موجعًا، صورتها بجوارهِ كانت كالصورةِ الأخيرة قبل النهاية، وكأنهما يقفانِ على أعتابِ الفراقِ الأبدي..أشارَ بيدهِ إلى غرفةِ الملابس، صوتهِ خرجَ مبحوحًا، خاليًا من الحياة:
- هجبلك لبس.
لكنَّها أمسكت بذراعه، نظرت إليه برجاءٍ وهمست بصوتٍ بالكاد خرجَ من بين شفتيها المرتجفتين:
-اقعد اتسحر..أنا هدخل ألبس..ماليش نفس..أو شبعانة.
تحرَّك دون أن يهتم، وكأنَّها لم تتحدَّث، بعد لحظاتٍ توقَّف خلفها، رفعَ يدهِ ببطء، نزعَ روبها، لكنَّها..وكردِّ فعلٍ لا إرادي، اختبأت في أحضانه..ارتجفت بين ذراعيه، حينما وجدت في صدرهِ ملاذًا، ملجأها الأخير..
ابتسمَ بسخريةٍ مؤلمة، لكنَّه كان يبتلعُ مرارةً لا تُحتمل، وهمس:
- بتخبِّي نفسك منِّي في حُضني؟ طيب حلو برضو..بكرة غيرك يعمل زيك، بس يا ترى العروسة الجديدة هتختاريها زي الأفلام، ولَّا أنا اللي هدوَّر عليها، وفي الآخر تعملي الستِّ الشريرة وتنكِّدي عليَّا؟
رفعت عينيها إليهِ ببطء، ودموعها تجمَّعت في مقلتيها، تحاولُ جاهدةً ألَّا تسقط، لكنَّها لم تستطع..ظلَّت تحدِّقُ به، حتى تجمَّدَ الزمنُ بينهما، وصار الصمتُ أكثرَ وجعًا من الكلمات..
أغلقت عينيها للحظة، ثمَّ همست بصوتٍ يشبهُ شهقةُ روحٍ تحترق:
- سعادتك عندي أهمّ من أيِّ حاجة... شوف اللي يريَّحك واعمله..المهمِّ تكون سعيد..
نظرَ إليها، رأى في عينيها استسلامًا مُوجعًا، اقتربَ أكثر، ومرَّر أصابعهِ في خصلاتها المبعثرة، ثمَّ همسَ بصوتٍ أجشّ:
- سعيد؟..اممم...
أغلقَ لها منامتها الحريرية، قبلَ أن يسحبها نحو طاولةِ الطعام، أجلسها فوق ساقيهِ رغم اعتراضها، بدأ يُطعمها رغمًا عنها، يصرُّ على أن تتناولَ الطعام، وكأنَّهُ بذلك يعيدُ إليها جزءًا من الحياةِ التي كادت تفقدها.
استندت برأسها على كتفه، وهمست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
-أوَّل مرَّة نتسحَّر مع بعض..تخيَّل.. شفت حياتنا بقت إزاي؟
وضعَ الطعامَ في فمها، دون أن ينظرَ إليها، ثمَّ همس:
-أنا شايف حياتنا حلوة، آه تعبنا مع بعض شوية، بس الحبّ موجود يامدام ميرال..
ارتجفت شفتاها، وخرجت منها شهقةً مخنوقة، ثمَّ همست بصوتٍ واهن:
- الحبّ مش كلِّ حاجة...ساعات بتضطر تتخلى عنُّه علشان حياتك تكمل.
رفعَ رأسهِ إليها، واقترب حتى أصبحت أنفاسهِ تلامسُ أنفاسها، وهمسَ بصوتٍ قاتل:
- دا زمان..قبل ما نار حبِّك تحرقني يا ميرا..دلوقتي مفيش قوانين غير قانون عشق إلياس، افتكري لمَّا قلت لك زمان: "حبُّي نار هتحرقك"، دلوقتي بقولك إحنا عدِّينا مرحلة الحب...لا إنتي مسموح لك تتنازلي عنِّي، ولا أنا مسموح لي أبعد عن حضنك..بعدنا شهرين وشوفنا النتيجة..
- إلياس، لو سمحت...
-اخرسي يا ميرال، علشان مقلبشِ إلياس بجد..لو سمعت هلوسة شيطانك دي تاني، هتتعبي أوي، أوي فوق ما عقلك يتخيِّل.
أمسكَ كفَّها، وضعهُ على صدره، ثمَّ همس:
-احرقي دا...علشان بيحبِّ واحدة غبية وضعيفة زيك..فيه واحدة عاقلة تقول اللي إنتي قولتيه؟ عايزة أتجوِّز غيرك؟!
اقترب، وضعَ جبينهِ فوق جبينها، وعيناهُ تسكنانِ عينيها، ثمَّ همس:
-هتقدري تتحمِّلي تشوفيني بحضنِ واحدة تانية؟
شهقت، تغمض عينيها، وهزَّت رأسها بقوَّة، وكأنها تتوسلُ للقدرِ ألَّا يكتبَ لها هذا العذاب.
احتضنها بقوَّة، عندما شعر بأنها الشيء الوحيد الذي يُبقيهِ على قيدِ الحياة، ثمَّ همسَ بتوسُّل:
- ميرال، مستعدِّ أتنازل عن كلِّ ماأملك... بس عايزك ترجعي لحضني...حالتك دي كاسرة قلبي.
شهقت، وحاوطت عنقه، ثمَّ همست بتقطُّع:
- بعد الشرِّ عليك..يا حبيب ميرال...من كسرة القلب.
-حبيب ميرال موجوع أوي منها، ينفع كدا؟..هزَّت رأسها بضعفٍ ونطقت بحروفٍ متقطِّعة:
-هخسَّرك ياإلياس..
-عايز أخسر ياستِّي إنتي مالك، أنا راضي أخسر كلِّ حاجة بس أكسب حبِّي، حبّ أكتر من عشر سنين تفتكري سهل أتنازل عنُّه؟..
دفنت رأسها بعنقهِ وبكت بصوتٍ مرتفعٍ متمتمة:
-هموت ياإلياس لو حاولوا يضعَّفوك بيا، مش هتحمِّل إنَّك تخسر بسببي وينادوا عليك ويقولوا جوز بنتِ المجرم..
-اشش ياغبية، أومال أنا دخَّلته السجن ليه، ميقدرشِ يعمل ولا يثبت حاجة، عندي أوراق بخطِّ إيده إنِّك ماتقربيش له ولا يعرفك، واتنازل عنِّك وإنتي شهور لماما فريدة في سبيل يبعد عنها..رتِّبت كلِّ حاجة علشان ميجيش في وقت يضعَّفك، عملت حساب لكلِّ خطوة، واخد منه اعترافات وتسجيلات، وبلاوي مايقدرشِ يفتح بوقه ويقول إنِّك بنته، لأنه اتنازل عنِّك..وكمان نسبك لجمال الدين كان بتصريح منُّه، أومال هوَّ بعد عنِّك الشهور دي كلَّها ليه؟..أنا كنت بعمل كدا علشان عارف أنُّه شيطان وقادر يقلب الترابيزة على أمي..
-يعني مش هيعمل تحليل زي مابيقول ويفضحني؟..
طبعَ قبلةً على شفتيها وابتسم:
-خلِّيه يعمل تحليل وايه يعني، عندي مايثبت أنُّه مالوش حق فيكي، وأنُّه مجرَّد وسيلة إنِّك تيجي على الدنيا وبس، حبيبتي إنتي مع ماما فريدة وكان عندك أربع شهور، وهوَّ عمل شهادة وفاة بدا، بس أنا مش ضامنه، حبِّيت أضمن لك مستقبل، علشان لو حبِّ يتلاعب يبقى إنتَ اللي بعتها، ماهو أنا خلِّيت المحامي يعملُّه ورق يودِّيه في داهية لو حاول بس يقرَّب ويقول بنتي، بند أنُّه باعك وقبض التمن واتنازل عن كلِّ حاجة تخصِّك ومالوش حتى يسأل عنِّك..عارف هتزعلي من حتة بيعك دي، بس اللي زي راجح دا لازم أخنقه..
مسحت دموعها وابتسمت قائلة:
-يعني تهديده دا خوف مش أكتر؟..يعني مش هيعمل حاجة؟..
مطَّ شفتيهِ يهزُّ رأسهِ بابتسامةٍ وتمتم:
-مش بقول شايفة جوزك ضعيف علشان كدا زعلت منِّك..
حضنتهُ وأفلتت ضحكةً..ورغم أنَّها ضحكة إلَّا أنَّها ممزوجةٌ بالوجع..
-جوزي أحسن راجل في الدنيا، مكنتش بقلِّل منَّك والله، بس كنت خايفة عليك أوي، وعلى يوسف وماما فريدة، أصلك مشفتوش ياإلياس..دا أمرهم بفتحِ بطني وقتلِ ابني، يعني منزوع الرحمة..
رجعَ بجسدهِ يسحبها بقوَّةٍ لأحضانه، وحاولَ إخراجها من حالتها:
-لا عارف، بس أنا زعلان علشان فكَّرتيه أقوى منِّي..انحنت تقبِّلهُ ثمَّ مرَّرت أناملها على وجنتيهِ تسبحُ بعينيه:
-لسة زعلان؟..هزَّ رأسهِ وأغمضَ عينًا واحدةً قائلًا:
-أه..وأوي كمان..كرَّرت فعلتها بقبلةٍ أقوى وهي تتعلَّقُ بعنقهِ؛ إلى أن تولَّى قبلتها للحظاتٍ ثمَّ ابتعدَ يمسِّدُ على خصلاتها بحنان:
-عايز ميرال بتاعة زمان، ميرال اللي كانت قرفاني في عيشتي، ترجع تتنطَّط عليَّا تاني..
تلاعبت بياقةِ ثيابه:
-امم وترجع تقولِّي غبية.. ومتخلِّفة..صح؟..أفلتَ ضحكةً يقرصُ وجنتيها:
-أحلى غبية ومتخلِّفة، بس عادي هشوف واحدة هادية وذكية..التنوُّع حلو برضو، وإنتي اللي طلبتي، مش قولتي أتجوِّز..
لكزتهُ بقوَّةٍ ثمَّ دفعتهُ ونهضت من فوق ساقيه:
-طيب يبقى اعملها، وشوف هعمل فيك إيه، إنتَ ماصدَّقت، أنا كنت عارفة الرجالة كلَّها واطية، وقال مالوش في شغلِ الستَّات..
قهقهَ عليها يسحبها بقوَّةٍ لأحضانه، حتى وقعت فوقهِ تلكمهُ وهي تسبُّه..
حاوطَ جسدها وصمتَ ينظرُ إلى وجهها الذي بدأت الدموية تعودُ إليه مع لمعةِ عينيها..توقَّفت عن الحديثِ مثله، وتعلَّقت الأعينُ ببعضها، قرَّبَ رأسها لتختلطَ أنفاسهما ثمَّ همسَ ببحَّتهِ الرجولية:
-بحبِّك أوي ومستعدِّ أحرق اللي يقرَّب منِّك ويحاول يئذيكي، عايزك تثقي فيَّا..
تعمَّقت بمقلتيهِ قائلة:
-مهما كان حبَّك ليا مش قدِّ حبِّي ياإلياس، فتَّحت عيوني عليك، وكبرت وحبَّك بيكبر جوَّايا، رغم كنت بنكر دا..بس كنت بدعي بقلبي إنَّك تحبِّني وتكون نصيبي من الدنيا، ومستعدَّة أتنازل عن حياتي كلَّها..المهم تكون سعيد..
رفعَ خصلاتها بعيدًا عن عينيها، وجذبها لتضعَ رأسها فوق صدره وحضنها تحت حنانِ ذراعيه:
-ربنا مايحرمني منِّك، منكرشِ عمري ما فكَّرت في جوازنا، بس عمري ماتخيَّلت إنِّك تبعدي عنِّي، عارف كنت بعاملك بقسوة، بس واللهِ دا مش كُره فيكي، دا محاربة لقلبي اللي كان بيتجنِّن لو حدِّ قرَّب منَّك..
أغمضت عينيها تتمتم:
-لو مُتّ دلوقتي هكون مرتاحة وسعيدة، على رغمِ الوجع طول اليوم بس النهاردة أحسن يوم في حياتي كلَّها، حتى أحسن من يوم فرحنا..
أعدلَ رأسها ثمَّ رفعَ ذقنها وأردفَ معترضًا:
-لا طبعًا، يوم فرحنا دا يُعتبر أوَّل يوم بحياتنا كلَّها، من يومها وحسِّيت إنِّي عايش، أوعي اليوم دا تساويه بأيِّ يوم مهما كانت فرحتك فيه، كفاية إنِّي أوَّل مرَّة أخدك في حضني وأنام مرتاح..
ابتسامة عاشقة لتقول:
-طيب ماإنتَ رومانسي وبتعرف تتكلِّم أهو، أومال ليه بقالك سنتين عامل زي الأرضِ البور..
-أرض بور!!..، دفعها بقوة حتى سقت بجواره وهتف
-قوم يابتِّ من فوقي، واللهِ إنتي ماينفع معاكي غير الأرضِ البور فعلًا..قهقت معتدلة، ثمَّ سحبت كفَّيهِ لتعدله..أشارَ على الطعام:
-الفجر هيدَّن ونسيتي إنِّ فيه واحد هيصوم بكرة..
جذبت كوبَ الزبادي ومازالت ضحكاتها تملأُ الغرفة، وهو يتطلَّعُ عليها بعيونهِ العاشقةِ لكلِّ حركة، ثمَّ خلَّلَ أناملهِ بخصلاتها، اتَّجهت إليه تبسطُ كفَّها بالزبادي:
-اللي يسمعك وإنتَ بتتكلِّم عن الأكل يقول هتاكل خروف..نهضَ من مكانهِ بعدما جذبَ كوبَ الزبادي وأردف:
-مش مهم..المهمِّ نحسّ إنِّنا بنتسحَّر، حتى لو مش هناكل زي ماالرسول أوصانا..نظرَ إلى كوبها قائلًا:
-اشربي العصير حبيبي وكُلي الزبادي، الفجر باقي عليه ربع ساعة.
توقَّفت بجوارهِ وهو ينظرُ من الشرفة وأشارت إلى كوبه:
-لا، عايزة آكل معاك في دا..هزَّ رأسهِ وهو يضحك:
-مش هاكل ياميرال ريَّحي نفسك، كفاية الزبادي..
-علشان خاطري، حاجة بسيطة، دي جبنة يعني..وضعَ إبهامهِ على شفتيها ينظرُ لعينيها:
-أهمِّ حاجة شوفت ضحكتك، أنا كدا شبعت، مش عايز أقولِّك كنت حاسس بإيه وأنا شايفك كدا، حبيبتي أنا مش جعان، وبدل إنتي أكلتي اعتبري أنا أكلت، هتسبيني آكل الزبادي ولَّا تاخديه وأنزل للصلاة؟..
رفعت ملعقتها تشيرُ برأسها أن يفتحَ فمه، ابتسمَ على طفولتها وتقبَّلَ محاولتها إلى أن أكل ماتُطعمه، ثمَّ أشارت إلى كوبه
-ياله خلَّص علشان فيه حاجة مهمة عايزة أقولك عليها، قالتها وهي ترتشفُ عصيرها، بعد لحظاتٍ اقتربَ متسائلًا:
-عايزة تقولي إيه؟..
دنت وحاوطت عنقهِ ثمَّ طبعت قبلةً مطوَّلةً على وجنتيه:
-ربنا يخلِّيك ليَّا يامسكَّر..هشوف يوسف...قالتها وتحرَّكت للخارج ،بينما هو جلسَ يسحبُ أنفاسهِ بهدوءٍ بعدما شعرَ بتوقُّفِ نبضهِ لفترة، وضعَ الكوبُ ثمَّ توجَّهَ إلى الحمَّام..
ظهر اليوم التالي
بفيلا المالكي:
وصلَ يزن بدراجتهِ البخارية، ثمَّ دلفَ للداخلِ متسائلًا وهو يصعدُ للأعلى:
-المدام فوق؟..
-لا يابشمهندس، الهانم خرجت من الصبح..تسمَّرَ بوقوفهِ واستدارَ يتطلَّعُ إليها بعيونٍ متسائلة:
-خرجت فين وإمتى؟..وإزاي؟!!طافَ ببصرهِ على المكان وتساءل:
-مدام زهرة فين ؟!
-مدام زهرة راحت لزين باشا، هتقضَّي باقي رمضان هناك
تراجعَ وعيناهُ تنبثقُ بالعديدِ من الأسئلة.. ولكنَّهُ خرجَ سريعًا إلى الرجلِ الذي وضعهُ على بابِ الفيلا كحارسٍ شخصيٍّ لها:
-أستاذة رحيل خرجت إمتى؟..وإزاي متعرفنيش؟..
-أستاذة رحيل مخرجتش ياباشمهندس، أنا متحركتش من هنا وهيَّ منزلتش..
قطبَ جبينهِ وتاهَ بحديثِ الرجل، صفعهُ عقلهِ بقوَّة، فتراجعَ سريعًا للداخلِ يتمنَّى من اللهِ أنَّ ماتوصَّلَ إليهِ لم يكن صحيحًا، دفعَ بابَ غرفتها يبحثُ عنها كالمجنون، وتمنَّى أن يخونهُ ذكائهِ ولم تفعل به إلى مااستنتجه..وصلَ إلى سريرها وتوقَّف أمامهِ ينظرُ إليه بعمقٍ وكأنَّ أحداثَ ليلةِ أمسٍ مازالت للتو، هزَّ رأسهِ بعنفوان:
-لا مستحيل، مستحيل تعمل فيَّا كدا..وقعت عيناهُ على ورقةٍ توضعُ بجوارِ المصباح، اقتربَ يفتحها بهدوءٍ رغم ضجيجهِ الداخلي:
"أهلًا يزن، معرفشِ هتشوف الورقة ولَّا لأ، بس أنا كتبتها وأنا ونصيبي توصل لك ولَّا لأ، بس متأكدة إنّّها هتوصلَّك،
عارفة ممكن تتصدم، أو ممكن يكون الموضوع عندك عادي، المهمِّ أنا نفَّذت شرطك، طلبت تتمِّم جوازنا في سبيل إنَّك تطلَّقني وترجَّعلي حقِّي، أنا مش عايزة حق منَّك..أنا بس عايزة تطلَّقني، وزي ماإنتَ قولت أخدت حقَّك بليلة حلوة، يارب تكون اتمتَّعت ياباشمهندس؟..
راحيل مالك العمري...
كوَّرَ قبضتهِ يضغط على الورقة حتى تقطَّعت الورقةُ بيدهِ.. وركضَ للخارجِ كشيطانٍ ماردٍ يريدُ أن يحرقَ كلَّ ما يقابله..
عند راحيل توقَّفت بالمطارِ أمام إيلين:
-خلِّي بالك من ماما، وأنا هغيب كام أسبوع كدا وهرجع على الشقة، عايزة أرتاح شوية، وكمان علشان لمَّا آدم يعرف متأكدة أنُّه هيحاول يوصلِّي، ومن غبائي من أسبوع طلبت منُّه أقعد في الشقة، فأكيد هيروح على هناك..
-طيب هتكوني مرتاحة؟..في الشقة كنَّا هنكون قريبين وكمان العيد جاي..
-حبيبتي أنا متعوِّدة على السفر، المهمّ ماما خلٍّي بالِك منها، لو خالو سألك قولي له معرفشِ حاجة، ياله أسيبك علشان الطيارة..
دلفت لداخلِ المطار، ظلَّت تراقبها بعينيها حتى اختفت، استدارت للمغادرةِ ولكن وقعَ بصرها على حنين طليقةُ زوجها وهي تتوقَّفُ مع أحدهم يواليها ظهره تستندُ بذراعيها على كتفه، وكأنَّ وقوفهم يدلُّ على علاقةٍ بينهما، وخاصةً ذاك التقارب وملامسةِ الأجساد، رمقتها بنظرةٍ محتقرةٍ ثمَّ اتَّجهت إلى سيارتها وغادرت المكان..
عند رحيل، صعدت الطائرة وجلست في مكانها المخصَّص..أخذت نفسًا عميقًا وكأنَّها تحاولُ انتزاعَ ألمها من صدرها، ثمَّ تراجعت بجسدها إلى الخلف، أغمضت عينيها، لكن خانتها دمعةً ساخنةً انحدرت رغمًا عنها، على ماتوصلت إليه... غاصت في ذاكرتها، وتراجعت إلى الوراء، إلى أسبوعٍ مضى...
كانت تجلسُ في مكتبها محاولةً التركيزَ على عملها، ولكن عقلها كان سجينَ مافعلهُ بها يزن..زفرت وحاولت سحبَ نفسٍ تهدِّئُ من روعها، انكبَّت مرَّةً أخرى على عملها، ولكنَّها رفعت رأسها بعدما شعرت بوجوده..اتَّجهت إلى عملها مرَّةً أخرى ولم تكترث لوجوده، حمحمَ حتى تنظرَ إليه، ولكنَّها شدَّت أناملها على القلم، ولم ترفع عينيها عن الأوراقِ التي أمامها..دخلَ بخطواتٍ هادئة، وسحبَ مقعدًا وجلسَ قبالتها بوجهٍ جامد..
- "مش عايزك تشتغلي تاني، وكدا كدا كلِّ حاجة بقت باسمي، يعني هعرف أدير الشركة كويس."
سقطت كلماتهِ كخنجرٍ مغروسٍ في صدرها، لكنَّها لم تُظهر أيَّ ردِّ فعل، تراجعت بجسدها ورفعت القلمَ تتلاعبُ به بين أصابعها للحفاظِ على مظهرٍ هادئٍ مصطنع، ونطقت بصوتٍ ثابت، يخفي خلفهِ بركانًا من القهر:
-"تاخد كام وتطلَّقني، يا يزن؟"
-نعم...قالها مستهزئًا..
رفعت رأسها، تواجههُ بوجهٍ خالٍ من التعابير، وكأنَّها لم تُلقِ إليهِ شيئًا:
-عايزة أطَّلق منَّك، مش متحمِّلة الفكرة.. توتَّرت عضلاتُ فكِّه، واشتعلت عيناهُ بشرارةٍ مظلمة..رغم ذلك، ظلَّ صامتًا لفترةٍ ثمَّ أخرجَ سيجارةً وأشعلها ببطء، يسحبُ منها نفسًا عميقًا قبلَ أن ينفثَ الدخانَ في الفراغ، ثمَّ نظرَ إليها بطرفِ عينهِ وقال ببرودٍ قاتل:
-"تفتكري إنتي تستاهلي كام؟ مليون؟ اتنين؟ عشرة؟...ما أظنش."
مالَ بجسدهِ إلى الأمام، مستندًا بمرفقهِ على المكتب، حتى لم يعد بينهما سوى أنفاسٍ متشابكة، ثمَّ همسَ بصوتٍ منخفض، لكنَّهُ اخترقَ كيانها كالسهم:
"تستاهلي كتير أوي يا رحيل، مش سهل أتنازل عنك."
شعرت رحيل باضطربِ قلبها، ولكنَّها لم تنجرف خلفَ كلماتهِ المسمومة..سحبت عينيها عنه، لكن نظراتهِ كانت تلتفُّ حولها، تحاصرها، تأسرها كالسجان ا، جمعت شتاتَ نفسها، وردَّت بنبرةٍ حاولت أن تجعلها واثقة:
"يعني إيه؟ هترضى على نفسك أكون معاك غصب عنِّي؟"
ابتسمَ بزاويةِ فمه، وغمزَ بطرفِ عينهِ وكأنَّه يسخرُ من سؤالها، ثمَّ قالَ بثقةٍ مريبة:
- "مين قال كدا؟ إنتي معايا برضاكي، ومتأكِّد إنِّك عايزاني زي ما أنا عايزك."
ارتعشَ قلبها، و اخترقت كلماتهِ روحها وكأنَّها نصلٌ باردٌ يمزِّقها..أبعدت نظرها عنه، وحاولت أن تسيطرَ على رعشةِ أصابعها، ثمَّ قالت بصوتٍ ثابت، لكن بداخلها كانت تنهار:
"طلَّقني يا يزن..أنا ماانكرش إنِّي كنت معجبة بيك، بس دلوقتي..."
لم تُكمل، حين انتفضَ واقفًا فجأة، انحنى نحوها حتى كادت أنفاسهِ الساخنةِ تحرقُ بشرتها، ثمَّ قال بصوتٍ غاضب، لكنَّهُ يحملُ نبرةَ تهديدٍ مخفيَّة:
"ودلوقتي عايزاني يا رحيل..حتى لسنين كتير قدام، هفضل يزن اللي قلبِك دق له."
اهتزَّت شفتاها، وضربت كلماتهِ أعماقها، لكنَّها هزَّت رأسها بعنف، رافضةً أن تستسلمَ لما يقوله، ثمَّ هتفت بغضب:
-"أنا قلبي مادقش لحد، ما توهمشِ نفسك!"
اشتدَّت قبضتهِ فجأة، ثمَّ جذبها نحوهِ بقوَّةٍ إلى أن اصطدمت بصدره، تلاقت عيناهما في معركةٍ صامتة، وهمسَ بصوتٍ يشبهُ النيرانَ التي تلتهمها:
- "مش عايز أسمع كذب..عيونِك بتقول كلام تاني، قلبك بيصرخ ليَّا وإنتي بتنكريني."
دفعتهُ بكلِّ ما أوتيت من قوَّة، لكنَّها كانت تعلمُ أن قوَّتها أمامهِ واهية، مجرَّد قناعٍ ترتديهِ لتخفي ارتجافَ قلبها. وأشارت إليه بإصبعٍ مرتعش، محذَّرة:
- "إيَّاك تلمسني تاني، سمعتني؟! إنتَ كذاب وخاين!"
لم يتحرَّك من مكانه، فقط وقفَ متسمِّرًا أمامها، ارتفعت أنفاسهِ يرمقها بنظرةٍ أشبهُ بالعاصفة..ثمَّ نطقَ بصوتٍ منخفض، لكنَّه حملَ داخلهِ كلَّ شيء... الرغبة، الغضب، والألم، قائلًا:
- "هتعملي إيه، منتظرك؟ أنا جوزك، سمعتيني؟! ومش معنى إنِّي صابر على إتمام جوازنا يبقى إنِّك مش مراتي، أنا بس بحاول أكون متفاهم معاكي."
ارتعشت شفتاها، من كلماتهِ التي شعرت بأنَّها كالسيفِ الذي مزَّقَ بقايا قوَّتها.. أرادت الصراخ، البكاء، الهروب...
- "بس أنا مش عايزة أكمِّل الجواز ده."
سقطت كلماتها كالصاعقة، تقلَّصت عضلاتِ فكِّه، و اشتدَّ صدرهِ وكأنَّهُ يحاولُ كبحَ جماحِ انفجارٍ وشيك..للحظة، نظرَ إليها نظرةَ رجلٍ متألِّم، مجروح:
-عايزة تطلَّقي؟..
هزَّت رأسها بالموافقة رغم رفضِ قلبها وهتفت بقوَّة:
-ياريت، أنا مبقتشِ أمِّن لك..
خطا حتى توقَّف أمامها مباشرة، وانحنى لتتشابكَ أنفاسهما، كما تشابكت الأعين، وهمسَ بنبرةٍ رخيمةٍ بصوتهِ الأجشِّ الذي هزَّ كيانها:
-نتمِّم جوازنا، ماهو مش معقول يتقال عليَّا مش راجل، حد يتجوِّز الجمال دا ويسيبه زي ماهوَّ برضو..
لم تشعر سوى بأنَّ كلماتهِ سكينًا باترًا يغرزُ بصدرها بقوَّة، رفرفت أهدابها علهَّا تكون استمعت إلى كلماتٍ وهمية، ولكن صدمها لينجرفَ بها إلى بحرٍ من الألمِ؛ حينما مالَ أكثر حتى كادت شفتيهِ تلمس شفاهها:
-نتمِّم جوازنا يارحيل وبعدها هطلَّقك ومش بس كدا، عايزك تثبتي فعلًا إنِّك مش عايزاني، بصي في عيوني كدا قوليلي إنِّك مش بتحبِّيني، وإنِّك مش عايزاني..ابتعدت برأسها وتجمَّعت الدموعُ بعينيها تومئُ له بعدما شعرت بذبحها بطريقةٍ مؤلمة:
-أنا مش بحبَّك..وضعَ إصبعهِ على شفتيها ودنا يفعلُ كما فعلَ منذ لحظاتٍ يهمسُ بجوارِ أذنها:
-لا مش دلوقتي، وقت ماتحبِّي تطلَّقي، أكيد فاهمة كلامي، مرَّر إبهامهِ على وجنتيها:
-لو فعلًا مش بتحبِّيني يارحيل، دنا أكثر هامسًا:
-أنا بحبِّك وبحبِّك أوي كمان، ممكن أكون أذيتك في انتقامي، بس مستحيل أطلَّقك طول ماأنا شايف الحبِّ في عينيكي، عيونك كشفاكي..
-بس أنا مش بحبَّك، أنا فعلًا بكرهك.
فقط نظرَ إليها نظرةً حملت كلَّ شيءٍ من الألم، وهتف
-اثبتي انك بتكرهيني ومش عايزاني
-يعني ايه يايزن، هتفضل حابسني، وانا مش عايزاك
-كدابة يارحيل، طيب لو عايزة تخلصي مني وبتكرهيني زي ما بتقولي نتمم جوازنا ، تعمق بعيناها وابتسم ساخرا
-مش بقولك كذابة ياراحيل، لاني متأكد انك مش هتقدري تبعدي عني، ومااخبيش عليكي أنا كمان، لاني حبيتك بجد، وموضوع الشركة دا كله هيرجع لك صدقيني، ماردتش اقولك خوفت تبعدي عني، راحيل لو سمحت ادينا فرصة ..
ابتعدت عنه وهدرت بعنف
-لو كنت قولتلي دا من الاول وسبتني اختار، يمكن وقتها كنت كبرت في نظري، بس انت دبحتني، وحرقت قلبي وثقت فيك، انا دلوقتي بكرهك يايزن، سمعتني، وأنا اللي بقولك لو سمحت عايزة انسى غدرك بيا..هز رأسه ثمَّ استدارَ بخطواتٍ ثقيلة، تاركًا إياها غارقةً في عاصفةٍ من المشاعر..
خطا إلى أن توقَّف لدى الباب:
-تمام يارحيل، بتكرهيني..عايز حقِّي في مراتي، نتمِّم جوازنا، التفتَ بعينيهِ إليها واستطرد:
-هشوف مين بيضحك على مين أكيد فاهمة كلامي..قالها وتحرَّك مغادرًا المكان بالكامل.
خرجت من شرودها وازدادت دموعها بعدما فتحت عينيها ببطءٍ من ذكرياتِ الأمس، شهقةٌ مؤلمةٌ أخرجتها بكمِّ الألمِ الذي تشعرُ به، أطبقت على جفنيها علَّها تُبعدُ همسهِ بأذنها، واعترافاتهِ ليلةَ أمس، أحبَّت أن تذيقهُ عشقها وتؤلمهُ بهجرها، ولكنَّها هي التي تتألَّمُ حتى شعرت بأنَّ روحها فارقت جسدها..
لماذا تشعرُ بهذا الفراغِ القاتلِ داخلها بعدما فعلت ماكانت تسعى إليه؟!
كلَّ ماتسمعهُ كلماتهِ فقط، حتى شعرت بأنَّ رئتيها ممتلئةً بعطرهِ الممزوجةِ برائحةِ سجائره، عضَّت أناملها ندمًا على ما فعلته، كيف كانت تعتقدُ أنَّ قربهِ لم يؤثِّر بها بتلك الطريقة، هي الآن تشعرُ بالطعنِ في قلبها الذي تفتَّت، ضغطت بقوَّةٍ على الكوبِ الذي بيديها إلى أن انغرسَ الزجاجُ بكفَّيها، ليشهقَ ذلك الرجلُ الذي يجاورها:
-آنسة إيدك بتنزف..
عند يزن..قادَ درَّاجتهِ سريعًا متَّجهًا إلى منزلِ زين الرفاعي..
بمكتبِ إسحاق:
دلفَ إليهِ أرسلان ملقيًا التحية:
-صباح الخير ياعمُّو..
ابتسمَ مجيبًا ينظرُ بساعةِ يده:
-قول مساء الخير، تصبح على خير، بقيت نوتي ياأرسو..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا ثمَّ زمَّ شفتيهِ مبتعدًا بنظراتهِ قائلًا:
-الواحد صايم ومش قدِّ مناهدة، وحياتي عندك..
توقَّفَ يشيرُ إليه وتحدَّثَ قائلًا:
-بدل حلِّفتني بالغالي يبقى هسامحك، المهم فوق كدا وعايز الصقر بتاع زمان معايا..
اعتدلَ بجسدهِ يطالعهُ ويستمعُ إليهِ بعنايةٍ فيما أملاهُ عليه، مسحَ على وجههِ ثمَّ أرجعَ خصلاتهِ للخلف:
-دي فيها شهور، مش مجرَّد سفرية عادية؟..
-أيوة بس مهمة تقيلة ولازم تستوعب اللي قولته كويس، أنا واثق إنَّك قدَّها وهتقدر عليها وتنفِّذها بخبرتك..
-إن شاء الله، حضرتك عارف أنا مقدرشِ أعترض، بس ليه الدولة دي بالذات؟..
جلسَ إسحاق مرَّةً أخرى وأجابهُ بهدوء:
-متخلنيش أخون ذكائك..أومأ بتنهيدةٍ قائلًا:
-حدودية مش كدا؟..أطلقَ إسحاق ضحكةً غامزًا:
-أهو كدا صقورة حبيبي رجع لحضنِ عمُّه..
-مش عايزه ياخويا اشبع بيه..
استندَ على مكتبهِ متسائلًا:
-إيه هوَّ يالا اللي مش عايزه واشبع بيه؟..ضحكَ أرسلان يضربُ كفَّيهِ ببعضهما ثمَّ غمزَ له:
-حُضنك ياإسحاقو، هعمل بيه إيه وهوَّ بارد كدا؟..
ألقاهُ بالقلمِ بوجهه، حتى توقَّف ضاحكًا وتمتم:
-والله أنا صايم ومش هردِّ عليك..أشارَ إليه بالجلوس:
-اقعد ياغبي وفهِّمني هتعمل إيه في المهمة دي؟..
مطَّ شفتيهِ وجلسَ يتلفَّتُ حولهِ بالمكتب كأنهُ يبحثُ عن شيئٍ ثمَّ أردف:
-الواحد عايز يشرب سيجارة دلوقتي، علشان يعرف يتعامل معاك..
غمغم اسحاق ثم مسحَ على وجههِ بعنفٍ يسبُّهُ بداخلهِ، إلى أن انحنى أرسلان ينظرُ بعينيه:
-طيب متزعلش وتقفش كدا، الأوَّل تجاوبني، ليه طلبت من إلياس يدخل في العملية اللي فاتت؟..دا أمنِ دولة، يعني مالوش علاقة..
-أديك جاوبت على نفسك، مالوش علاقة ومكنشِ هيتشك فيه، علشان كدا دخل وخرج من غير ماحدِّ يقولُّه حاجة..
-بس كدا حياته ممكن تكون في خطر، حضرتك عارف اللي بيخرج لعمليات زي دي اختصاصه، وكمان مش معروفين..
-متخفشِ حبيبي أنا عارف بعمل إيه، وبعدين إلياس واثق فيه، هوَّ أه مغرور ومتكبِّر شوية، بس الواد دماغه حلوة، وزي ماشوفت خلَّص في يومين، والدنيا تمام..
-طيب إيه حكاية الراجل اللي بيراقبه؟..
نقرَ إسحاق على المكتبِ وذهبَ بشرودهِ قائلًا:
-هوَّ عارف أنُّه متراقب، يعني واخد حذره كويس...توقَّفَ أرسلان يستندُ على المكتب:
-مدخلش إلياس في شغلنا لو سمحت، إحنا عارفين ثغرات أكتر منُّه، ومش معنى أنُّه نفَّذ حاجة ونجح ومقدرش يقول لا حبًّا لبلده، يبقى نجرُّه في كلِّ العمليات ويتكشف وفي الآخر يصفُّوه مش هسمح بدا..
-واللهِ ياأرسلان من إمتى وإنتَ بتوقف قدامي،وتطلب منِّي أعمل إيه ومعملشِ إيه؟!..
سحبَ نفسًا عميقًا وتنهَّدَ محاولًا السيطرةَ على عاصفةِ غضبه، نهضَ إسحاق من مكانهِ واتَّجهَ إليهِ يجلسُ بمقابلته:
-اسمعني كويس، أوعى تفكَّر أنا مش بخاف على إلياس أو أيِّ شخص تاني، أكيد عارف عمَّك ميقدرشِ يعمل حاجة تضرِّ بيكم..
-عمُّو بلاش إلياس لو سمحت، أمِّي خسرته تلاتين سنة، منجيش إحنا ونحرمه منها الباقي من عمره..
-ياحبيبي ليه بتحسِّسني أنُّه هيحصلُّه حاجة؟..
-عمُّو بلاش تستغباني لو سمحت، إحنا عارفين الناس دي، أقلِّ حاجة يقتلوه أو يعملوا حاجة في مراته..
-دا ظابط ياأرسلان مش مذيع في قناة..
-لا والله، ولمَّا حاولوا يقتلوا النائب العام..كان إيه مذيع؟..
-أرسلان..صاحَ بها بحدَّة، فتوقَّفَ أرسلان قائلًا:
-إلياس لا..دا آخر كلام عندي، كفاية شغله وحضرتك عارف أنُّه مضغوط في شغله غير التهديدات، يعني كدا كدا حضرتك هوَّ محطوط في دايرة الخطر..
-تمام ياأرسلان، مش هطلب منُّه حاجة تاني، بس عايزك تفوق معايا للمهمَّة الجديدة..
-اعتبرها حصلت..النادي عايز أجهزة جديدة هسافر أستوردها من دولةٍ ما، وأنزل أشوف أجهزة تانية في كام دولة، ومن دولة لدولة الدنيا غامضة..
-برافو حبيبي بالتوفيق يارب..
-بس بعد يومين، بكرة معزوم عند إلياس..والنهاردة حضرتك عارف بابا مُصرّ إنِّنا نتجمَّع، أتمنَّى ماتزعلوش في موضوع تيتا لو سمحت ياعمُّو..
-حاضر، ومبروك لحملِ مراتك، إن شاءالله بالخلقة التامَّة والذرية الصالحة..ابتسمَ إليهِ قائلًا:
-ماتحتكِّش فيَّا، مش هسمِّيه إسحاق ريَّح نفسك..
-شوف الواد، لا ياخويا مش عايزك تسمِّيه إسحاق، المهمِّ ربِّنا يملي عيونك بيه حبيبي..
-اللهمَّ آمين يارب العالمين، عايز أوصِّيك عليه، لو حصلِّي حاجة ربِّيه أو ربِّيها زي ماحضرتك ربِّتني وعلِّمتني..بس أوعى تشغَّله معاك..
انتفضَ بقلبٍ متلهِّفٍ واتَّجهَ إليه يجذبهُ لأحضانه وكأنَّ قطعتهِ الغالية ستفرُّ من بين يديه..
-أوعى تقول كدا، ربِّنا يبارك لي فيك ياحبيبي، إنتَ مش مجرَّد ابنِ أخويا يالا، إنتَ ابني وحبيبي وصاحبي وكلِّ حاجة، وعلى عيني حبيبي ابعتك مهمَّات صعبة واللهِ غصبِ عنِّي..
تراجعَ مبتعدًا من أحضانه:
-مالك ياإسحاق قلبت أمينة رزق ليه؟..أنا بوصِّيك مش بقولَّك اكتب شهادة وفاتي، بقيت نكد أوفر..
دفعهُ بعيدًا عنه يسبُّهُ، نظرَ إليه يريدُ أن يطبقَ على عنقه:
-يخربيت برودك، هتجيبه من بعيد، ماإنت أخو إلياس..
قهقهَ مقتربًا منهُ ونظرَ لعينيه:
-مالك وماله؟..عمل إيه مفرَّحك منُّه كدا؟..
-أيوة فعلا مفرَّحني، مش عايز أفطر عليه وحياة أبوك..قاطعهم رنينُ هاتفِ أرسلان، نظرَ إليه وارتفعت ضحكاتهِ غامزًا لإسحاق:
-حبيبك جاي على السيرة..تراجعَ يشيرُ بيدهِ بالخروجِ ولكنَّهُ ردَّ على هاتفه:
-أيوة ياإلياس؟..
-هتروح السويس إمتى؟..نظرَ بساعتهِ وأجابه:
-خارج أهو، ووقت ماأرجع هكلِّمك..
-خلِّي بالك من نفسك، وحاول ماتعرَّفش حد إنَّك ابنِ جمال الشافعي..
-لا متخافش عامل حسابي، المهمِّ إنتَ عامل إيه؟..وميرو عاملة إيه؟..
التفتَ إلياس إلى ميرال التي مازالت تغطُّ بنومها وأجابه:
-كويسة الحمدُلله، هقفل ولو فيه أخبار جديدة عرَّفني..
-إسحاق بيسلِّم عليك..
صمتَ للحظاتٍ ثمَّ ردَّ قائلًا:
-الله يسلِّمه، وصَّله سلامي..قالها وأغلقَ الهاتفَ مستديرًا لتلك التي اعتدلت تلملمُ خصلاتها:
-صباح الخير ميرا..
رفعت عينيها مبتسمة:
-صباح الحبِّ على حبيب عيوني..
-اللهمَّ إنِّي صايم وربِّنا يسامحك..
اقتربت تدفنُ نفسها بأحضانهِ ونطقت بنبرةٍ سعيدة:
-هوَّ الصايم مينفعشِ ياخد مراته في حضنه؟..ولا يسمع كلمة حلوة؟..تعرف من إمتى مافتحتش عيوني عليك؟ من زمان أوي، يمكن من وقت ماعرفت أنا حامل في يوسف، من كترِ البعدِ مش فاكرة..
حاوطَ جسدها بين ذراعيهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-آسف ميرال، مكنش قصدي أوجعك وأتعبك، عارف إنِّي ضغطت عليكي كتير..
خرجت من بين ذراعيهِ وتعمَّقت بحدقتيه:
-أنا كمان آسفة، عارفة كنت بستفزَّك كتير، بس واللهِ ماكنت بقصد في كلِّ حاجة..
-اشش، انسي كلِّ اللي فات، نبدأ صفحة جديدة مفيهاش غير التفاهم والحبِّ اللي بينا، علشان نقدر نربِّي ولادنا..
-ولادنا..ردَّدتها مبتسمة، ثمَّ استأنفت حديثها:
-خلِّيت يوسف ولادنا؟..انحنى يهمسُ بجوار ِأذنها:
-أنا صايم ولمَّا نفطر هقولِّك مين ولادنا، أنا نازل دلوقتي عندي شغل، هرجع على الفطار، ماما اتَّصلت وإنتي نايمة علشان نفطر هناك بس أنا رفضت، النهاردة عايز أفطر مع مراتي وابني، وياريت لو الفطار محشي..
لمعت عيناها بالسعادة، رفعت أناملها على وجنتيهِ وغازلته بعينيها العاشقةِ لروحه:
-أحلى محشي لأحلى راجل في الدنيا..
ابتعدَ مفزوعًا:
-يابنتي حرام عليكي، راعي إنِّ فيه واحد صايم..أفلتت ضحكةً ناعمةً تستندُ بوجنتها على كفِّها ترسمهُ كفنان، وردَّت على كلماته:
-إنتَ عارف دا تاني رمضان مع بعض، بس أوَّل مرَّة أحسِّ بيه معاك، حتى لو يوم واحد فيه، بس بجد أنا سعيدة أوي ياإلياس، بتمنَّى نفضل كدا..
اقتربَ منها وأمالَ بجسدهِ ونظرَ لعينيها مباشرة:
-ميرا، إحنا اللي بنخلِّي نفسنا مبسوطين، وإحنا كمان اللي بنتعس نفسنا، أنا من ناحيتي أوعدك هحاول اكون لك الزوج الصالح، وهعمل كلِّ اللي ربِّنا يقدَّرني عليه علشان أسعدك..
-حبِّني بس ياإلياس، مش عايزة غير إنَّك تحبِّني وتاخدني كلِّ ليلة في حضنك، إمبارح بس حسِّيت إنِّي دفيانة ومش خايفة من عواصف الكون كلَّها، متزعلشِ منِّي بس أوَّل مرَّة ألاقي فيك الأب والأخ والحبيب، أنا سعادتي ماتتوصفش صدَّقني، وزي ماقولت لك يوم واحد في رمضان عندي بالأيام الكتيرة اللي عدِّت عليَّا من غيرك..
جذبَ رأسها وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-بحبِّك يامجنونة والله ومش كلِّ شوية هقولها، ياله هتأخَّر على شغلي..
بفيلا الشافعي:
خرجت إلى الحديقة تهاتفُ شخصًا ما:
-ابنِ السيوفي جه إمبارح وهدَّدني، شكله عارف كلِّ حاجة..
نفثَ الآخرُ سيجارتهِ بهدوء، ثمَّ أشارَ للتي تقبعُ بأحضانهِ بالخروج، ونهضَ من مكانهِ إلى أن توقَّفَ في الشرفةِ ومازال يدخِّنُ تبغهِ الغالي..
-رانيا مش عايز حاجة تهزِّك، والواد دا خلال أيام هتسمعي خبره، أوعي تكوني خايفة على راجح ليعرف؟..
-أيوة طبعًا هيموِّتني لو عرف، إنتَ عارف آخر مرَّة قالِّي إيه؟..
-ولا يقدر يعمل حاجة يارانيا، وخلِّيكي واثقة فيَّا، سيبك من راجح وتعاليلي علشان وحشتيني أوي..
ارتفعَ صوتُ ضحكاتها:
-إنتَ ناسي إحنا في رمضان ولَّا إيه ياإتش، لااا حرام..
نفثَ تبغهِ بالفراغ وهو يتخيَّلها ثمَّ أردفَ دون جدال:
-هستناكي يارانيا، علشان مزعلشِ وزعلي وحش أوي، إنتي فاكرة آخر مرَّة اتأخرتي عملت فيكي إيه؟..إيه راجح ماأخدشِ باله؟..ولَّا تكوني عايشة على ذكرياتي؟..
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ بعدما اقتربَ راجح متسائلًا:
-بتكلِّمي مين يارانيا؟..ارتبكت ثمَّ تحدَّثت بالهاتف:
-خلاص حبيبتي بالليل هكون عندك، والمسَّاج هدية منِّي ليكي علشان اتأخرنا، وهبعتلك أحسن البنات عندي مقدرشِ على زعلك..
تراجعَ راجح وعيناهُ عليها إلى أن جلسَ على مقعدهِ بالحديقة، أنهت مكالمتها واقتربت منه بدلال:
-صباح الخير ياحبيبي..
-صباح الخير، مين دي اللي زعلانة منِّك؟..زبونة؟..
هزَّت رأسها وسحبت بصرها عن عينيه:
-هتعمل إيه مع ابنِ السيوفي؟..هتسكت على إذلاله لينا؟؟
-هوَّ كان قصده إيه يارانيا؟..وإيه مواضيع الليالي الحمرا؟..
حاولت أن تبتلع ريقها ولكن جفَّ حلقها حتى مرَّرت لسانها على شفتيها محاولةً التفوُّه، لم تقوَ وهي تفكِّرُ كيف تخرجُ من تلك المعضلةِ التي أخنقها بها:
-أيوة معرفشِ كان يقصد إيه، يمكن قصده علينا، المهمِّ سيبك من كلامه التافه دا وشوف هتعمل فيه إيه..
استمعَ إلى هاتفه:
-الراجل بتاعنا جاهز ياباشا، شوف عايز يتمِّ المهمَّة إمتى..
كانت عيناهُ على رانيا التي تتهرَّبُ من نظراتهِ فردَّ قائلًا:
-خلِّيه بالليل، إحنا مش كفرة لدرجادي علشان أموِّته في نهار رمضان..
رفعت حاجبها وابتسمت ساخرة:
-لا، مؤمن أوي ياراجح..قالتها وتوقَّفت تشيرُ إليه:
-الواد دا هيضيَّعك، خلِّيك فاكر إنِّي حذَّرتك منُّه، أنا نازلة أشتري حاجات للبيوتي سنتر..ظلَّت نظراتهِ عليها إلى أن اختفت ثمَّ رفعَ هاتفه:
-المدام هتخرج دلوقتي عايزك تبقى ظلَّها، وأخبارها كلَّها تكون عندي..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ بنقطةٍ وهميةٍ ثمَّ همسَ لنفسه:
-ياويلك يارانيا تكوني سبب في اللي بيحصل معايا..
بغرفةِ رانيا أمسكت هاتفها وصاحت بغضب:
-شكله هيتراجع عن قتلِ الظابط ..على الطرفِ الآخرِ ردَّ قائلًا:
-ياريت علشان يكون بيكتب شهادة وفاته، أنا مبقتشِ عارفك يارانيا إنتي عايزة راجح ولَّا عايزة إيه بالظبط؟..
-لسة عايزاه، لازم اصفي حسابي الاول، مش عايزة اذيته، لحد مااخد حقي منه، كفاية السبب في قهرتي على ابني ولا لياليه الزفت مع الستات، لازم أطلعه فوق اوي وفي الاخر أنزله على جدور رقبته المهم لازم تبعد عنه الباشا الكبير علشان ..قاطعها بنبرة باردة
-رانيا اتأخرتي وانا بردت ...قالها واغلق الهاتف ..
بمنزلِ آدم:
خرجت من المرحاضِ بعدما استفرغت مابجوفها، هوت على المقعدِ متألِّمة، ثمَّ رفعت هاتفها تطلبُ شيئًا ما من الصيدلية، حاوطت رأسها بين راحتيها:
-معقولة أكون حامل؟..إزاي وأنا باخد البرشام؟..ياربي إيه الوقعة دي، مش وقت طفل خالص في ظروف الكلية..عادت بجسدها على الأريكة وأغمضت عينيها تحاوطُ بطنها:
-بعدين بقى أنا مش قادرة أتحمِّل الدوخة مع الوجع دا..
فردت جسدها وذهبت بنومها سريعًا..
توقَّفَ يبسطُ كفَّيهِ إليها:
-أميرتي تسمح لي بالرقصة دي؟..
ابتسمت تضعُ كفَّيها الرقيقة داخلَ كفَّيه، لتتعانقَ الأيدي كما تتعانقُ العيون..تحرَّكت إلى ساحةِ الرقص وجميعُ الأعينِ عليهما، ظلَّت تتحرَّكُ على الموسيقى الهادئة، إلى أن حاوطت عنقهِ لتهمسَ له بعضَ الكلمات:
-آدم...مبروك هتبقى بابي..
تجمَّدَ جسدهِ وتوقَّفَ عن الرقصِ ينظرُ إليها بعيونٍ جاحظة، ثمَّ أمالَ بجسدهِ لمستواها:
-حبيبتي قولتي إيه؟..
ابتسمت وحاوطت عنقهِ تشيرُ بعينيها للرقص:
-طيب أرقص الكلِّ ببصِّ علينا، وبدل مانحتفل بالبيبي لوحدنا الكلِّ هيحتفل معانا..
-إيلين إنتي قولتي إنِّك حامل..
قطبت جبينها واغروقت عيناها بالدموع:
-إنتَ زعلان ولَّا إيه؟..
لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يحتضنُ ثغرها في قبلةٍ جامحة، حتى شهقت مريم من فعلتهِ وصاحَ والدهِ بصخب..
هبَّت من نومها تنظرُ حولها بفزع، ارتفعت أنفاسها متراجعةً بجسدها، معتدلةً تغمضُ عينيها وتحمدُ ربَّها أنَّهُ حلم..دلفَ آدم يحدِّقُ بها:
-حبيبتي إنتي ماروحتيش الجامعة؟..
هزَّت رأسها وردَّت بهدوءٍ ومازالت تحت آثارِ حلمها:
-تعبانة شوية..اقتربَ إليها سريعًا، وجلسَ على عقبيهِ يحتضنُ وجهها:
-مالك ياإيلين؟..أخدك للدكتور ياروحي؟..
ابتسمت للهفتهِ وهزَّت رأسها بالرفض:
-لا، صحيت متأخَّر وكسِّلت الصراحة، المهم، إنتَ عامل إيه وكنت فين؟..دقَّقت النظرَ بثيابه.. هنا تذكَّرت ذلك الرجلَ الذي كان يرتدي نفسَ اللون، توقَّفت تسأله:
-آدم إنتَ كنت فين؟..دلفَ ينزعُ قميصهِ قائلًا:
-يزن الرفاعي جه من شوية هنا وقوَّم الدنيا على رحيل، رحت أدوَّر عليها في شقة ناصر، أصلها كانت من فترة بتكلِّمني عليها..
خطت إلى وقوفهِ ثمَّ جذبتهُ من ذراعه:
-وليه رحت على هناك على طول؟..كلامك مش مبرر..توقَّفَ عن مايفعلهُ ودقَّقَ النظرَ بها:
-شايفك مش متفاجئة من هروب رحيل، كلِّ اللي أخد بالك الشقة؟..
ابتعدت تفركُ كفَّيها مرَّة، وتزيلُ خصلاتها من فوق وجهها مرَّة ًأخرى:
-بلاش أغير عليك ياآدم؟..ولَّا مش شايفني ست؟..
سحبها من ذراعها وجذبها تحت حنانِ ذراعيهِ يضمَّها لصدره:
-أميرتي لها الدلال كلُّه، بس استغربت مش أكتر..شعرت بتقلُّبِ معدتها من رائحتهِ التي تسلَّلت إلى رئتيها، دفعتهُ وهرولت سريعًا الى الحمَّامِ وقامت بالتقيؤ الذي أضعفَ جسدها..فهوت على الأرضية تضمُّ بطنها، دلفَ خلفها سريعًا، ركضَ إلى تشبُّثها بالحوض، حاوطَ جسدها ورفعها يغسلُ وجهها ثمَّ ضمَّها وتحرَّكَ بها للخارج، دثَّرها بالغطاء، مملِّسًا على خصلاتها بحنان:
-إيلين حبيبتي واخدة برد ولَّا إيه؟..
هربت من حصارِ عينيهِ وأغمضت عينيها تسحبُ نفسًا بعدما شعرت بأنَّ الجدرانَ تطبقُ فوق صدرها..أمالَ بجسدهِ مقتربًا ينظرُ لرماديتها:
-حبيبتي مخبِّية حاجة عن جوزها حبيبها؟..طالعتهُ بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ قالت:
-تعبانة ممكن تهدِّي التكيف وتسبني شوية..رفعَ نظرهِ إلى المكيف قائلًا:
-درجته مش عالية، وكمان مغطِّيكي، أوعي تكوني بردانة؟..إحنا في الصيف..
-آدم عايزة أنام شوية ممكن..
طبعَ قبلةً على جبينها ثمَّ نهضَ من مكانه:
-نامي حبيبتي وارتاحي.
عند يزن:
وصلَ إلى منزلِ أرسلان بعد محاولتهِ الاتصالَ به، ولكن هاتفهِ مغلق:
كان منكبًّا على جهازهِ بعد إغلاقهِ جميعَ الهواتفِ حتى يستطيعَ التركيزَ بعمله، دلفت غرام إليه:
-حبيبي، يزن السوهاجي على البوابة، الأمن اتَّصل..
زوى مابين جبينهِ ونهضَ متسائلًا:
-خير..معقول يكون ميرال حصل لها حاجة؟..أشارَ إليها بالدخول، ورفعَ الهاتفَ يأذنُ له...لحظات وكان يقفُ أمامه..توقَّفَ منتظرًا حديثه:
-رحيل العامري مختفية من الصبح،
-يعني إيه مخطوفة؟..معقول راجح خطفها؟..هزَّ رأسهِ وسحبَ بصرهِ عنهُ قائلًا:
-لا..عايز أعرف مكانها فين، مفيش حد هيساعدني غيرك، أتمنَّى خلال أربعة وعشرين ساعة تكون عرفت مكانها..
-تفهَّمَ وهزَّ رأسهِ قائلًا:
-معاها تليفون؟..
-أيوة بس مقفول..
-كريد كارت..بدأ يسألهُ عن بعضِ الأشياءِ حتى أنهى حديثهِ وتحرَّكَ للخارج..
خرجت غرام بعد مغادرتهِ وتساءلت بلهفة:
-ميرال فيها حاجة؟...جلسَ يرجعُ خصلاتهِ للخلفِ بحركةٍ تنمُّ عن غضبه، فمهما حدثَ بينهما، أغضبهُ هروبها..
نزلَ بكفَّيهِ ينفخُ فيهما ثمَّ رد:
-ميرال كويسة، اجهزي علشان أعدِّيكي على بابا، عندي مشوار قبلِ الفطار..
اقتربت منهُ واحتضنت كفَّيه:
-عايزة أروح عند بابا كام يوم، زياد تعبان وممكن يعمل عملية ولازم أكون جنبه..
-عملية إيه؟..وليه معرَّفتنيش؟..ربتت على كفَّيهِ وابتسمت:
-حبيبي أنا عارفة إنَّك مشغول طول الوقت، غير تعب ميرال محبتش أشغلك بمشاكلي..
-زعلان ياغرام، زعلان منِّك وفي نفسِ الوقت مش عارف أعاتبك..
رفعت نظرها ولثمت وجنتيه:
-كدا زعلان؟..نظرَ إليها بطرفِ عينه:
-بتبوسي ابنِ أختك يا غرام لا وكمان في نهار رمضان؟..
-الله أومال أعمل إيه؟..مش قولت في نهار رمضان؟..
-عايزة تجرِّيني للرزيلة ياغرام؟..
دفنت رأسها في ذراعها وأفلتت ضحكةً ناعمة:
-مش معقول إنتَ ياأرسو..حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ إلى غرفتهما مردفًا بنبرةٍ عتابية:
-مهما أكون مشغول، متنسيش إنِّك مراتي حبيبتي اللي لازم تكون مسؤوليتي الأولى..
احتضنتهُ تضعُ رأسها على صدره:
-ربِّنا يخلِّيك ليَّا يارب، وميحرمنيش منَّك ياأبو...صمتت متسائلة:
-أيوة صح لو جبت ولد هتسمِّيه إيه؟..
جذبَ ملابسهِ يشيرُ إليها:
-اجهزي، والبيبي هينزل باسمه ياروحي، مش عايز أسبق الأحداث، يجي بالسلامة وهتلاقي كلِّ حاجة..
بمنزلِ يزن:
دلفَ إلى المنزلِ وبدأ يحطِّمُ كلَّ ما يقابله، هاتفت إيمان كريم:
-كريم معرفش إيه اللي حصل ليزن، كسَّر الأوضة جوَّا، بعد ماقفل على نفسه..
-طيب حبيبتي أنا جاي حالًا..
بالداخل..
جلسَ يمسحُ على وجههِ بعنفٍ كاد أن يقتلعَ جلده، صوتها الناعم، لمساتها همسها له بحبُّها، كاد أن يُجن، ودَّ لو أحرقَ العالمَ حتى يصلَ إليها ..بدأ يبحثُ بالهاتفِ كالمجنونِ يهمسُ لنفسه:
-هموِّتك يارحيل...هموِّتك..صرخَ بها وتوقَّفَ يدورُ حول نفسهِ كالأسدِ الحبيسِ
لييييه..استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
عملت اللي طلبته يايزن؟..خلِّيك قدِّ كلمتك ...
-صدَّقيني غلطك غير مغفور..نظرت من النافذة، وابتسامةٌ ساخرةٌ تجلَّت بملامحها تجيبه:
-إيه ياباشمهندس، رجعنا في كلامنا، ولَّا التخطِّيط خارج السيطرة؟..
-مش هرحمك يارحيل.
-اممم..أوكيه وأنا منتظرة يايزن ياشافعي..؟!
-رحيل إنتي فين؟..
-حبِّيتك أوي بس طلعت واطي أوي، بدعي ربِّنا في كلِّ وقت إنِّي أنسى أكتر واحد أذاني في الدنيا، حطَّمتني ودوست على قلبي، أخدتني انتقام ومفكرتش فيَّا، ليه؟. دا لو عدوِّتك مش هتعمل كدا..
-رحيل صدَّقيني لو مرجعتيش..صرخت به بانهيار:
-هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟..إيه رأيك البضاعة حلوة واتبسطِّ منها؟..بس عايزة أكدلك حاجة، مكنشِ في ترتيبي أكون مراتك، بس معرفشِ إزاي عملت كدا في نفسي، بس كويس علشان كلِّ ما أفتكر اللي حصل أكره نفسي أكتر وأكتر..ربِّنا يتعسك زي ماأتعستني، ياربِّ يحرق قلبك، متعرفشِ تحبِّ تاني يايزن..قالتها وأغلقت الهاتف لتهوي بجسدها تبكي بشهقاتٍ مرتفعة..
مساءَ اليوم:
ترجَّلَ من سيارتهِ ودلفَ للداخل، قابلتهُ المربيةُ وهي تحملُ طفله، متَّجهةً إلى الحديقة..أوقفها وهو يتلقَّفُ ابنهِ الذي رفعَ ذراعيهِ إليه ليحمله، حملهُ وطبعَ قبلةً على جبينه، ثمَّ تساءل:
-رايحين فين؟!
نتمشَّى في الجنينة شوية، المدام قالت خلِّيه يغيَّر جو، وأشعة الشمس دلوقتي حلوة له..
-حبيب بابا عايز تغيَّر جو ياسيادةِ الصغير ..توجَّهَ ببصرهِ إليها:
-لبسه دا عادي مش خفيف أوي؟.
ابتسمت وهي تمسِّدُ على خصلاتِ الطفلِ قائلة:
-لا الجوِّ حر أصلًا، وبعدين المدام اللي لبِّسته، متخافشِ حضرتك، مبخرحشِ من أوضته من غير أوامرها.
أومأ لها ثمَّ أعطاها طفله، وتحرَّكَ للداخل، يبحثُ عنها، قابلتهُ الخادمة:
-المدام فين؟وإنتي رايحة فين؟..
أشارت إلى المطبخ قائلة:
-المدام في المطبخ، وأنا أخدت إجازة النهاردة ياباشا، هيَّ قالت مش هتحتاجني..خلَّصت المطلوب منِّي، ووالدتي محجوزة بالمستشفى، واستأذنت من المدام..
أومأ لها وأشارَ إليها على الخارج:
-روحي لعلي خلِّيه يوصَّلك، وخلِّيه يدخل معاكي يعمل اللي والدتك محتاجاه في المستشفى.،
انحنت لتقبِّلَ كفِّه، ابتعدَ عنها يردعها بغضب:
-إنتي مجنونة، أوعي تنحني لحدِّ تاني، ياله روحي ومتنسيش إنِّك متربية في بيوتِ السيوفي يعني فرد من العيلة، أوعي أشوفك تتطاطي لأيِّ مخلوق سمعتي؟..
ترقرقت عيناها قائلة:
-ربِّنا يسعدك ياباشا..ابتسمَ لها مجيبًا:
-أهو كدا، مش اللي كنتي هتعمليه، ياله علشان متتأخريش، وخلِّيكي براحتك، إحنا هنرجع الفيلا الليلة..
أومأت وخرجت وعيناها تضجُّ بالسعادة..
قادتهُ قدماهُ إلى المطبخِ لأوَّلِ مرَّة، دلفَ بهدوء، يتجوَّلُ بعينيهِ في المكانِ حتى وقعتا عليها..كانت واقفةٌ وعيناها منشغلةٌ بما تفعله..لم يستطع منعَ نفسهِ من التحديقِ بها، كيف لها أن تبدو بتلكَ البساطة مغريةً حدَّ الفتنة؟
نزلَ ببصرهِ على هيئتها ترتدي تنورةً قصيرةً بيضاء، تعانقُ ركبتيها، وكنزةً حمراءَ بحمالاتٍ رفيعةٍ تبرزُ تفاصيلها بأنوثةٍ طاغية، أمَّا خصلاتها، فقد رفعتها بعشوائيةٍ بقلمها، تاركةً بعضها ينسدلُ على وجهها، ليزيدها سحرًا طفوليًا..ظلَّت نظراتهِ عليها، متذكِّرًا طفولتها وأنَّها دائمًا لم تكن بحاجةٍ إلى أن تبذلَ جهدًا في إغوائه، حقًّا نقيةً كقطرةِ ندا هوت فوق ورقةِ شجرةٍ في الصباحِ الباكر..
اقتربَ بصمت، خطواتهِ كانت ناعمةً كنسيمِ الليل، أرادَ أن يستمتعَ بتلك اللحظةِ أكثر، أن يراقبها بشغفٍ بل بدقَّاتِ قلبه، فالقربَ بجوارها حياةً منعَّمة، لكنَّهُ توقَّفَ فجأة، حينما تجوَّلت عيناها على بابِ المطبخِ تهمسُ لنفسها:
-دي ريحة إلياس، معقول يكون رجع، هزَّت رأسها تهمسُ لنفسها:
– "إيه الهبل اللي أنا فيه ده؟ معقول أكون حامل؟ يامصيبتي السودة! لا، أكيد علشان وحشني فتهيَّأت لي ريحته... وبعدين حامل إزاي، اتجنِّنتي يا ميرال؟ خلاص!"
شهقت بخفَّة، ثمَّ ألقت ما بيدها، وطافت بنظرها سريعًا نحو بابِ المطبخ، مرَّةً أخرى حينما امتلأت رئتيها من رائحته، استندت بكفَّيها على الطاولة، تهزُّ رأسها بيأسٍ وهي تهمسُ بتذمر:
– "جنِّنك ابنِ السيوفي، كمِّلي أكلك يا فاشلة، بدل ما يجي يتفلسف عليَّ ويعمل فيها الشيف الشربيني!"
ابتسم وظلَّ بمكانهِ بركنهِ يتابعها بشغف، كيف كان يمنعُ نفسهِ من تلك المتعةِ وهو يراقبها..عقدَ ذراعيهِ على صدره، وبقيت عيناهُ تتابعُ كلَّ تفصيلةٍ فيها، كلَّ حركةٍ صغيرةٍ تصدرُ منها. كانت كالأرضِ الخصبةِ التي يزرعُ فيها شغفه، كلَّما نظرَ إليها ازدادَ توقهِ إليها أكثر..
أخيرًا، لم يستطع منعَ نفسهِ من الاقترابِ أكثر...خطا بخطواتٍ سلحفية، حتى توقَّفَ خلفها..لم تلاحظ وجودهِ بل كانت غارقةً في بعملها ..
حاصرها بينهِ وبين الطاولة، جسدهِ الذي أطبقَ على صدرها من رائحته، رفعت رأسها، إلَّا أنَّهُ مالَ برأسهِ قليلًا وهمسَ بصوتٍ خافت، عميق، لكنَّه مشحون بالكثير المشاعر :
– "مين اللي جنِّنك يا ميرال؟"
شهقت بحدَّة، وانتفضَ جسدها قليلًا، قبل أن تستديرَ ببطء، عيناها متسعتانِ بصدمة، تلتقي بعينيهِ التي كانت تحاصرها بثبات، كصيَّادٍ صبورٍ وجد أخيرًا فريسته..
-إلياس..جذبَ رأسها إلى صدرهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-خضيتك ولَّا إيه؟..تناست كلَّ شيئٍ سوى أنَّها بأحضانهِ لتلتفتَ تحاوطُ خصره:
-حرام عليك فكَّرت نفسي اتجنِّنت لمَّا شميِّت ريحتك ومشفتكش..
ابتعدَ عنها يرفعُ ذقنها:
-ريحتي مميزة لدرجادي؟..
-أوي..قالتها بعيونٍ لامعة..حمحمَ متراجعًا:
-اللهمَّ إنِّي صايم..المهمّ بتعملي إيه ومشغولة فيه لدرجة محستيش بدخولي؟..
نظرت إلى الطعامِ وهتفت كالأطفال:
-حبيبي الصبح طلب منِّي محشي، عارفة أنُّه مش هياكل، بس أنا ماصدَّقت الصراحة يطلب منِّي حاجة واتحجِّجت علشان أعمل أيِّ حاجة..
-ياااه، لا لازم تقول لحبيبك على مجهودك الجبَّار، كفاية بس وقوفك في المطبخ برجليكي الحلوة دي، ورقبتك و..
صمتَ مستغفرًا ربَّهِ ثمَّ تحرَّكَ للخارج..
-إلياس..توقَّفَ مستديرًا برأسهِ منتظرًا حديثها، اقتربت منه مبتسمة:
-عايزة أقول لحبيبي وحشت حبيبتك أوي أوي، والنهاردة أسعد يوم في حياتها كلَّها..ظلَّ ينظرُ إليها بصمتٍ للحظاتٍ ثمَّ رد:
-وهو بيقولِّك من يوم ما لسانك نطق اسمه وأيَّامه كلَّها حلوة أوي..
هطلع ومش هنزل غير على المغرب ودا بعيدًا عن فتنةِ سيدةِ نساءِ الكون..
-سيدةُ نساءِ الكون..ردَّدتها مبتسمة..
أومأ وعانقها بعينيه:
- وسيَّدةُ قلبي حبيبتي..قالها وانطلقَ للخارج..
بعد فترةٍ وضعت الطعامَ على الطاولة، وانتهت من تجهيزِ مستلزماتها من عصائرَ وكلَّ مايُوضعُ على طاولةِ رمضان من ألذِّ وأشهى المأكولات..
صعدت إلى غرفتهما، وجدته غارقًا بالنوم، اتَّجهت إلى حمَّامها وقامت بتبديلِ ثيابها إلى رداءٍ رقيقٍ أظهرَ قوامها الرشيق، ثمَّ قامت بنثرِ عطرها المميَّز، جذبت وشاحًا خفيفًا وضعتهُ حول عنقها، ثمَّ اتَّجهت إليه بعدما استمعت إلى انطلاقِ مدفعِ الإفطار، جلست بجوارهِ على الفراشِ تخلِّلُ أناملها بخصلاتهِ تهمسُ اسمه:
-حبيبي قوم المغرب أذن...فتحَ عينيهِ بإرهاقٍ يهمسُ بخفوت:
-نمت دا كلُّه؟..توقَّفت متَّجهةً إلى إسدالها، هروح أصلِّي لمَّا تفوق..
انتفضَ وعيناهُ لا تزالانِ مثقلتينِ بالنعاس، ثمَّ أمسكَ بكفَّيها بلطف:
-"استني هتوضا بسرعة ونصلِّي جماعة."
تألقت عيناها ببريقِ الرضا، وأشارت إلى الإسدالِ بابتسامةٍ دافئة:
- "هلبس لمَّا تخلص."
هبطت بعد الصلاةِ إلى الأسفل، وقفت أمامَ المربيَّةِ بهدوء:
"هاتي يوسف وروحي افطري."
- "مينفعشِ يا مدام..."
لكنها جذبت طفلها من أحضانها برفق، وأشارت لها بابتسامةٍ حانية:
- "روحي افطري، مالكيش دعوة بيه، أنا ههتم."
قالتها بنزولِ إلياس، وعيناهُ تبحثُ عنها بين الأرجاء، وما إن وجدها تحملُ طفلهما، اقتربَ منها بحنان، طوَّقَ كتفيها بذراعهِ الدافئة، ثمَّ قادها نحو الطاولة، سحبَ مقعدها، وجذبَ طفلهِ ليجلسهُ على ساقيهِ بحب.
"حبيب بابا كان صايم هوَّ كمان؟"
ضحكت بخفوت، قرَّبت مقعدها منه، وجذبت طبقَ الطعامِ أمامه :
- "المحشي أهه...بس عادي مش هزعل لو مش هتاكل حاجة غصب عنك."
ابتسمَ بخبث، وأمسكَ بكفِّها التي تمسكُ بالشوكة، رفعها إلى فمه، وتذوَّقَ المحشي، نظرَ إليها بمكرٍ وقال:
- "كده أنا أحبِّ المحشي."
ضحكت، وأسندت رأسها على كتفه، همست بصوتٍ دافئ:
-"بس بقى علشان أصدَّق إنَّك إلياس، كده ممكن أروح منَّك."
-"لا والله؟ دا كلُّه علشان باكل محشي؟"
-"الصراحة آه، إنتَ ناسي ولَّا إيه؟"
ضحكَ بصوتٍ خافت، بينما بدأت تطعمهُ بنفسها من الطعامِ الذي أعدَّتهُ بحب، ثمَّ أردفت:
- "بس عارفة، لمَّا بتاكل حاجة غصب عنَّك بتحسِّس منها، وممكن بطنك تفضل وجعاك طول اليوم، فبلاش محشي، خلِّينا في سلطاتك ولحومك، شايلة منها كلِّ حاجة، مفيش دهون، يعني زي ما بتحبَّها."
نظرَ إليها بصمت، وكأنَّهُ يرسمُ تفاصيلَ وجهها المحبَّبة، تاهت عيناهُ في ملامحها، في ابتسامتها، في عينيها التي تعكسُ كلَّ الحبِّ إليه... فجأةً لم يشعر بنفسهِ سوى وهو يهمسُ بصوتٍ خفيض لكنَّهُ مشحونًا بالمشاعر:
-"بحبِّك."
ارتجفت أناملها، وسقطت الشوكةُ من يدها، لم تتوقَّع أن يقولها الآن، بهذهِ العفوية، بهذهِ القوة..رفعت عينيها إليه بذهول، لكنَّهُ كان ينظرُ إليها بنفسِ العشق، بنفسِ اللهفة التي تذيبها..
احتضنتهُ بعينيها، قبلَ أن تهمسَ بصوتٍ مرتعش:
- "وأنا كمان بحبَّك أوي."
رفعَ كفَّها، ولثمها برقَّةٍ جعلت قلبها يخفقُ بجنون، ثمَّ قال:
-"تسلم إيدك حبيبتي، الأكل حلو أوي، بس بلاش توقفي تاني في المطبخ، كفاية عليكي شغلك ويوسف."
- "بس أنا مش تعبانة ياإلياس، وبحبِّ الطبخ، وبكون سعيدة لمَّا تطلب حاجة."
اقتربَ أكثر، واحتضنَ ثغرها للحظات، قبلةً لم تكن مجرَّد قبلة، بل كانت وعدًا، كانت لغةً لا تحتاجُ إلى كلمات..
فصلَ قبلتهِ يحتضنُ وجهها:
"أحسن أكل، وأحسن زوجة في الدنيا."
بدأ يطعمها كما أطعمته، يبادلها الحبَّ ليس بالكلماتِ فقط، بل بالنظرات، بكلِّ لمسة، بكلِّ لحظةٍ يقضيها بجانبها.
بعد فترة، كانت تقفُ أمامَ المرآة، ترتدي عقدها، اقتربَ منها، ووقفَ خلفها، رفعَ خصلاتها الناعمة ليتمكنَ من إغلاقِ السلسلة، ثمَّ همسَ بجوارِ أذنها، بصوتٍ دافئٍ كنسيمِ الليل:
- "الحسين النهاردة هينوَّر بعصفورة قلبي."
شعرت بقشعريرةٍ دافئةٍ تسري في جسدها، استندت بجسدها إلى صدره، ثمَّ سحبت كفَّيهِ ليحيطَ بها، ثمَّ همست وهي تشيرُ إلى قلبه:
- "مش فارق معايا حبيبي أيِّ مكان، المهم أكون هنا وبس."قالتها وهي تشيرُ إلى حضنه..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
"أنا العاشق الذي لا يتوقف عن الحكي... لكن حين أراكِ، تُصبح كل الكلمات مجرد عبء، والصمت صلاة."
وان فقدتك فليس لدي ما اخسره اكثر ..
وان بقيت فلا شيء قد اتمناه بعدك ..
صرت أراك حين لا أراك
تباً لقلب صار يهذي من هواك
أيكون عشقي طرف من جنون
أهو جنون إن لم أرى في الدنيا سِواك ؟
قبلَ قليل توقَّف بجوارِ أرسلان وعيناهُ تتجوَّلُ بالمكان، وهو يتحدَّثُ إليه:
-يعني ممكن ماتعيَّدشِ هنا؟..
نفثَ سيجارتهِ وأومأ له، ثمَّ أردفَ بنبرةٍ ثقيلةٍ لا يعلمُ لماذا يشعرُ بالرَّيبة:
-إلياس خلِّي بالك من غرام طول ماأنا مش موجود، أنا وصِّيت عليها إسحاق وعارف أنَّه مش هيقصَّر معاها، بس أنا حاسس إنَّها أخدت على ميرال بسرعة، علاقتها هيَّ وملك حلوة بس مش زي ميرال، فاهمني؟..
ربتَ على كتفهِ وأومأ له قائلًا:
-متسافرشِ لوحدك لو عايزني أسافر معاك..قاطعهُ دون تكملةِ حديثه:
-لا طبعًا، تسافر فين؟..دا شغل، يعني الغلطة بموتة، والدنيا كويسة إن شاءالله، فيه واحد من فريقي واخده معايا..
استدارَ إلياس مستندًا على السياجِ الحديدي:
-أنا مش قادر أنسى أوَّل مرَّة اتقابلنا فيها هناك، كنت ممكن تتكشف..
-علشان غلطت واتسرَّعت في حاجة، متخافشِ عليَّا وبعدين دي أقدار، لولا الغلط دا مكناش قرَّبنا من بعض، أنا فاكر علاقتنا مكنتش أحسن حاجة..
استدارَ إلياس بعينيهِ على زوجتهِ مجيبًا:
-علشان شغلنا مش واحد، فكان صعب إنِّنا نتعرَّف أو نقرَّب من بعض..المهم اسمعني كويس، رؤى اتفقت مع راجح على حاجة، وأنا مش عارف إيه هيَّ، بس في نفسِ الوقت خايف منها منكرشِ دا، هيَّ كانت عايزة تسيب البيت بس أصرِّيت تفضل تحتِ عين أمِّي، وخصوصًا بعد ماعرَّفت بابا بزيارتها، مقدرتش أقول لماما، إنتَ عارف ممكن تعمل إيه..
لفتَ نظرهِ أخذُ رؤى ليوسف وتحرِّكها به، ظلَّت نظراتهِ عليها مرَّةً وعلى ميرال التي وصلت إليهم:
-هنتمشَّى شوية في البازارات اللي هنا، يوسف مع رؤى أخده ولَّا هتخلِّي بالك منُّه؟..
-متبعديش عن الحراسة..
-حاضر..قالتها وخطت خطوتينِ إلا أنَّهُ قبضَ على رسغها وسحبها إليه:
-ميرال تليفونك فين؟..
-تليفوني، ليه؟..في الشنطة، عايزه؟..
-خلِّيه في إيدك، ومتبعديش زي ما قولتلك..
-حاضر، متخافش هشوف الأنتيكات دي، شكلها عجبني، لو مش عايز أتحرَّك خلاص..
-لا، روحي بس خُدي بالك من نفسك..
ابتسمت وأومأت بعينيها:
-متخفشِ عليَّا حبيبي مش هبعد..
-حبيبك وفي الشارع، روحي ياميرال بدل ماأغيَّر رأيي..استدارت وتحرَّكت متَّجهةً إلى غرام تشعرُ بالسعادة وتدعو من الله أن يديمها عليها..
عانقت ذراعَ غرام التي رمقتها مبتسمة:
-مالك يابنتي؟. اللي يشوفك كدا يقول فازت باليانصيب..
-أعمل بيه إيه ياغرام اليانصيب دا من غير روحي..توقَّفت غرام عن الحركة تنظرُ إليها متسائلة:
-حاسة بكدا، اتصالحتوا مش كدا؟..
خطت وعيناها تلمعُ بالسعادة، وقلبها ينتفضُ بالعشقِ تهزُّ رأسها:
-مش موضوع اتصالحنا، الموضوع أكبر من الصلح، أصل ممكن تكوني زعلانة وتتصالحي وحياتك تفضل زي ماهيَّ، بس إحنا داوينا بعض، كلِّ جرح في قلوبنا التاني دواها، شعور حلو على أدِّ ماحسِّيت بمرارةِ الفراق بس نسيت كلِّ حاجة، كأنِّي فقدت الذاكرة وبأنِّب نفسي وبعاتبها على كلِّ دقيقة مستمتعش بيها.
-عندك حق ياميرال، أنا في أوَّل جوازي تعبت..بس قرَّرت أبني حياتي بنفسي من وقت ماتأكِّدت من حبِّ أرسلان ليَّا..
غمزت ميرال بعينيها:
-أرسو دا عسل يتحب من غير حاجة، خلِّي بالك منُّه يابت..
-بت، وعسل وأخلِّي بالي من جوزي، طيب لاحظي أنا بغير..
ابتسمت قائلة:
-ربِّنا يسعدك حبيبتي إنتي جميلة ورقيقة وتستاهلي واحد زي أرسلان، رغم معرفتي بيه قريبة بس حسيت إنِّي أعرفه من زمان أوي، أقولِّك سر، بعرف أتكلِّم معاه من غير خوف، ممكن أقولُّه اللي تاعبني وماقولش لإلياس..بس دلوقتي مبقتشِ أخاف من حاجة، هدوَّر على سعادتنا وبس..أنهت حديثها بعدما وصلوا إلى ملك وإيمان:
-ها ياحلوين ناوين تعملوا إيه؟..هنلفِّ شوية بس بلاش نبعد عن المربَّع دا، علشان الحراسة وكمان علشان ميتغضبشِ علينا ونروح..
-تعرفي أنا حبِّيتك أوي، شكلك بيوتي وعسل..قالتها ملك..
أشارت على نفسها تنظرُ الى غرام:
-بتعاكس أهو..ضحكت غرام تضمُّ ملك إليها:
-ملوكة دي ملاك، اسم على مسمَّى يابنتي، بتهوِّن عليَّا ساعات، اتَّجهت بنظرها إلى غادة المتوقِّفة مع إسلام وتساءلت:
-غادة مش جاية ولَّا إيه؟..أجابتهم إيمان:
-هتيجي بس إسلام نادلها..عانقت ميرال كفَّ إيمان وتحرَّكت قائلة:
-إيمي عروسة وعايزة أجبلها هدية الخطوبة، خطوبتها في العيد وأنتوا معزومين بصفتي أختها الكبيرة مش كدا إيمي؟..
أومأت قائلة:
-أحسن أخت في الدنيا، قاطعتهم غادة التي وصلت للتو:
-أنا بغير لاحظي أه..شاكستها وهي تجذبها لأحضانها:
-إنتي الحب الكبير ياصغنن، هيَّ الصغيورة وإنتي الصغيرة.
-لا والله..نطقت بها بضحكةٍ وتحرَّكوا إلى داخلِ إحدى المتاجر..
كانت تقفُ على بُعدِ بعضِ الخطواتِ وهي تحملُ يوسف، سالت دمعةً من عينيها حينما شعرت بأنَّها غير مرغوبٍ بها، خطت متحرِّكةً تنظرُ على واجهةِ المحلات، استمعت إلى رنينِ هاتفها:
-بابا، حضرتك عامل إيه؟..
-فكَّرتي في اللي قولته لك..توقَّفت منتفضةً حينما تذكَّرت لقاءها به بالأمس:
خطت إلى داخلِ الفيلا تنظرُ إلى روعتها بانبهار، تدورُ حول نفسها:
-دا بيتك!..اقتربَ منها وتصنَّعَ الحنانَ يحاوطها من ذراعيها:
-شوفي دي كلَّها بتاعتي، وعندي غيرها كمان..وكان عندي أكتر وأكتر بس ابنِ فريدة أخد كلِّ حاجة..
-قصدك مين الياس؟!..بس إلياس مش محتاج عنده كتيير..
تراجعَ إلى الخلف وتصنَّعَ الألمَ و الحزنَ باقترابِ رانيا منهما وتحدَّث:
-مش عايز حد يكون أحسن منُّه في عيلة الشافعي، من وقت ماعرف إنِّي عمه وهوَّ هيتجنِّن وعمل قضايا، حتى خلَّى بنتي تكرهني وتشهد عليَّا، تعرفي أختك عملت إيه؟..دخَّلتني السجن علشان صدَّقته هوَّ وفريدة، فريدة اللي خطفتها وطردت أمِّك وهيَّ حامل فيكي، وأخدت أخوكي منها وكانت هتهرب بيه مع ميرال لولا رانيا هاجمتها وأخدته منها غصب عنها، ضربت رانيا لحدِّ ماأُغمى عليها وخطفت ميرال وطفشت.
-مستحيل طنط فريدة تعمل كدا، دي طيبة وحنينة أوي، وبعدين ماحضرتك خطفت إلياس وأرسلان..
-كذب..قالتها رانيا التي اقتربت منها ونظرت إلى راجح واستطردت:
-فريدة كانت حرباية، جوزها مات ومشيت على حلِّ شعرها، باعت واحد للظابط اللي متجوزاه دلوقتي، والتاني باعته لناس أغنيا علشان تعرف تعمل اللي نفسها فيه، وقبضت تمنهم بدليل مثبوتين بأسماء العيل بتاعتهم، ولمَّا راجح حاول يلمَّها ومقدرش عليها خلِّيته يتجوَّزها، ماهي بنتِ عمِّي ومينفعشِ سيرة عمِّي تكون على ألسنة الناس، عمرك شوفتي ست تطلب من جوزها يتجوِّز عليها؟..أنا عملت كدا علشان أحمي سيرة عمِّي، بس هيَّ الحيوانة رفضت النعمة وفضلت زي ماهي، ولمَّا مسكتها كذا مرة حبِّت تنتقم منِّي، خطفت بنتي وضحكت علينا وقالت إنَّها موِّتتها، وهربت بيها، ولو مش مصدَّقة روحي البلد واسألي، الكل بيحتقر أيِّ واحدة اسمها فريدة بسببها.
-مش معقول، أومال ليه أخذتني عندها بعد ماعرفت إنِّي بنتِ سمية؟..
-علشان تداري على اللي عملته في أمِّك، بنقولك طردتها بالليل وهيَّ حامل فيكي؛ بعد ماطلبت من أبوكي يطلَّقها أو أمُّك تنزِّل اللي في بطنها، أومال إنتي مفكَّرة بتصرف عليكي ليه؟.،وابنها جايب لك بيت ليه؟..علشان تغفر لذنبها..
-معقول!!
-مش بس كدا، أمِّك راحت لها الدار وطلبت منها تاخدك لراجح علشان خافت من راجح ليقتلها..بس هيَّ أخدتك بعد ماوعدتها هتودِّيكي عنده، بس رميتك في الدار إيه رأيك؟..
-طيب ليه حرام تحرمني من أبويا، مش كفاية أمِّي ماتت مريضة..
-لازم تنتقمي لأمِّك اللي ماتت بحسرتها عليكي، خصوصًا بعد ماراحت الدار علشان تسأل إنَّك وصلتي لأبوكي ولَّا لأ، وهيَّ كذبت عليها وقالت لها إنِّك موتِّي في حادثة..أمِّك ماتحمِّلتش، ماتت من الزعل والمرض بعد مارمتها في مستشفى حكومي زبالة..
انسابت دموعها غير مصدِّقة ماتستمع إليه..غمزَ راجح إلى رانيا واقتربَ يحاوطُ كتفها:
-متعيطيش حبيبتي واللهِ لآخد حقِّك وحقّ أخوكي اللي الحيوان إلياس ساجنه ظلم، بعد ماخافوا أفضحهم هدِّدوني بيه وسجنوه ظلم..
-أنا ليَّا أخ تاني غير يزن؟..
-يزن مين اللي أخوكي دا!؟
يزن..مش فاكرة اسم باباه إيه، هوَّ أخدني عنده قاعد في مكان بعيد كدا، إلياس قالي دا أخوكي و ..
قطعَ حديثها حينما إردفت رانيا:
-شوفت ياراجح لسة بيعملوا ألعاب حقيرة على البنتِ اليتيمة، دلوقتي أكيد عرفوا إنِّ طارق عرف مكانها في الدار علشان كدا سجنوه، إيه ياراجح هتفضل ساكت، قتلوا هيثم قبلِ كدا، ودلوقتي عايزين يقتلوا طارق، وبينتقموا من البنتِ الحزينة دي، لازم تتصرَّف، وترجَّع ميرال وتاخد حقِّ البنت دي..جذبتها رانيا لأحضانها وتصنَّعت البكاء:
-ياحبيبتي يابنتي، خايفة عليكي يغسلوا مخِّك زي ماغسلوا مخ ميرال بالأدوية اللي فريدة بتدهالها..
-أدوية إيه؟...قطعَ حديثهم راجح وهو يحاوطها بين أحضانه:
-رؤى حبيبة أبوها هتساعده ننتقم من فريدة وابنها..
-انتقم من إلياس..ضيَّقت رانيا عيناها وأردفت بخبث:
-إيه دا!!أوعي تكوني بتحبِّيه إنتي كمان؟!..
ارتبكت تبتعدُ عنهما قائلة:
-عايزني أعمل إيه؟..
-تبعدي ميرال عنُّه..قالتها رانيا..
رمقها راجح بحدَّة وتمتم:
-بصي حبيبتي، عايز أأذيهم زي ماأذونا كلِّنا، عايز في الأوَّل كلِّ أخبارهم، تاني حاجة ميرال ترجع لحضني زيك، التالتة بقى ابنِ فريدة يطلَّع أخوكي من السجن..
-ودي أعملها إزاي؟..
-تجيبي حفيدي وأسَومه عليه.
إيه أخطف يوسف!!لا طبعًا...قالتها باعتراض، فأشارَ بعينيهِ إلى رانيا التي اقتربت منها:
-دا حفيدنا، يعني مش هنعمل فيه حاجة، إحنا عايزين ننقذ طارق، وكمان هيكون في مصلحتك..
-إزاي مصلحتي مش فاهمة؟..
-دلوقتي الولد لمَّا يتخطف هيحمِّل ميرال المسؤولية، وهتحصل بينهم مشاكل، وإنتي الملاك البريء، هتحاولي تقرَّبي لمَّا تدخَّلي الشك لميرال..بسبب اللي هيعمله فيها وإنتي وشطارتك بقى، أكيد فاهمة..
خرجت من شرودها على صوتِ راجح
-رحتي فين يابت؟..
-معاك يابابا، عايزني أعمل إيه؟..إحنا وصلنا من شوية..
-عارف وشايفك، قرَّبي من ميرال وإديها الولد دا أو تظاهري بكدا، وأنا هتصرَّف.
-حاضر..قالتها وهي تتلفَّتُ حولها، واقتربت من ميرال المنشغلة مع غادة وملك بالتحف..التفتت ميرال بعدما استمعت إلى صوتِ رؤى:
-ميرال تعالي خُدي يوسف بيعيَّط.
أومأت وربتت على كفِّ غادة:
-اختاري دي شكلها حلو لمَّا أجيب يوسف، لم تُكمل حديثها واستمعت إلى صوتِ مشاجرات، وحدثَ هرجٌ ومرجٌ وصراخٌ بالمكانِ مع استنفارِ الحرس، واتِّجاههم إلى ميرال يحاوطونها بعدما تحرَّك إلياس سريعًا يهاتفهم؛ وعيناهُ على رؤى التى اختفت في الزحام..
أرسلان لازم نتحرَّك من هنا..قالها إلياس وهو يتحرَّكُ سريعًا يتابعُ مع فريقِ أمنه:
-أمِّنوا مدام ميرال بسرعة..هرولت ميرال اتِّجاهَ ابنها وهي ترى رؤى تبتعدُ به وتحاوطهُ بذراعيها، بعدما اقتربَ منها رجلانِ ذو بنيةٍ ضخمة، علمت من هيئتهم أنَّ من أرسلهم راجح، هزَّت رأسها مبتعدة:
-لا لا..خلاص ابعدوا مش هتاخدوه، قالتها ببكاء وهي تصرخُ باسمِ إلياس..إلَّا أنَّ أحدهم لطمها بقوَّةٍ على وجهها حتى شعرت بتخدِّرِ وجهها من قوَّةِ الصفعة، هنا تيَّقنت أنَّ مافعلته ذنبًا كبيرًا بحقِّ إلياس..جثت على الأرضِ تحاوطُ يوسف بجسدها وتصرخُ باسمِ إلياس، إلَّا أنَّ أحدهم جذبها من خصلاتها بقوَّةٍ يدفعها بعيدًا مع بكاءِ الطفل، وصلت إليهم ميرال تدفعهُ بقوَّةٍ من فوق طفلها، غمزَ للرجلِ الآخر ليسحبها يشيرُ إليه:
-لازم نتحرَّك بسرعة، ولكن رؤى تشبَّثت بساقيهِ وهي تصرخُ باسمِ إلياس بعدما جذب الطفل، الآخر سحب ميرال بقوة، ازدادَ صوتُ الطلقاتِ الناريةِ مع تحرك الرجل وأخذِه للطفل، ومحاولةِ الآخرِ سحبَ ميرال التي دفعتهُ بساقيها بقوَّة، واقتربت بتمزيقِ وجهه، حاولَ صفعها إلَّا أنَّها دفعتهُ بقوَّةٍ بمنطقتهِ المحظورة، مع وقوفِ رؤى التي ضربتهُ بحقيبتها، التفتَ إلى ميرال بعدما اعتدلَ يتحدَّثُ بفحيح:
-لقد أخذتي من وقتي أيَّتها العارهة..قالها مقتربًا منها إلَّا أنَّهُ لم يُكمل حديثه، بعدما استقرَّت تلك الرصاصةِ برأسهِ ليقعَ صريعًا أمام ميرال..
رفعت نظرها الى إلياس الذي أشارَ لحرسهِ بحمايتها مع ركضهِ خلف أرسلان، الذي وصلَ إلى الممرِّ خلف الرجلِ وهو يهرولُ بالطفل، مع نظراتِ راجح بالطرفِ الآخر، فانطلق بسيارته يتحدث مع القناص
-اسحبوه برة الزحمة، اخطفوا اي حد من القرايب وانتظر تليفون..توقَّفَ إلياس بأحدِ الأركانِ وأطلقَ رصاصتهِ لتستقرَّ بظهرِ الرجلِ الذي يركضُ للهروب، مع وصولِ أرسلان برصاصتهِ الأخرى لتستقرَّ بساقهِ ليسقطَ على الأرضِ بالطفل، التقطَ أرسلان الطفلَ الذي سقطَ من بين يديه، يضمُّهُ محاولًا تهدئتهِ مع وصولِ إلياس يتلقَّفهُ منهُ بلهفة، ينظرُ إليه بتفحُّص، حاول ارسلان تهدئته قائلا:
-إن شاء الله كويس متخافش، ممكن بعيَّط من الوقعة، نظرَ إلى الرجلِ يشيرُ إلى يوسف:
-خد يوسف لميرال، خلِّي بالكم منهم، ثمَّ تحدَّثَ بسماعته، لاقترابِ الحرس منه..أومأ له الرجلُ وحملَ الطفلَ متَّجهًا إلى ميرال، بينما ظلَّ هو ينظرُ للرجلِ بعدما ركلهُ بقدمهِ لينظرَ إلى وجههِ بتفحُّص، رأى وشمًا بعنقه، رفعَ نظرهِ إلى أرسلان الذي أردف:
-مرتزقة..أومأ له بوصولِ بعض فريقهِ إليه:
-نضَّف المكان كويس، أيِّ حد مشكوك فيه اقبض عليه..ثم أشارَ إلى الرجلِ الآخر:
-اتصلوا بالإسعاف وخدوا الزبالة دي..
-تمام يافندم، تحرَّك يفحصُ المكانَ بعينيهِ الصقريةِ مع بعض رجالِ فريقه،
توقَّف مستديرًا بعدما استمعَ إلى بكائها، هرولت تُلقي نفسها بأحضانهِ وهي تحملُ طفلها:
-إنتَ كويس؟..
-ميرال اهدي أنا كويس أهو ..خرجت من أحضانهِ تفحصُ جسدهِ ثمَّ بكت قائلة:
-إيه صوت ضرب النار دا ؟..
-ميرال اهدي إحنا في الشارع، أنا كويس وابنك في حضنك..
هزَّت رأسها بالنفي وارتجفت شفتيها من البكاء:
-كانوا هيخطفوا يوسف ياإلياس..
-ويوسف في حضنك أهو ..نهدى بقى..
وصلَ أرسلان بجوارِ الفتيات:
-ميرال ادخلي الكافيه اقعدي جوا شوية وراجعين..
رفضت تعانقُ ذراعه:
-لا مش عايزة، عايزة أكون معاك.
أشارَ أرسلان إلى غرام التي اقتربت تأخذُ الطفل:
-حبيبتي اهدي، تعالي اشربي حاجة وهمَّا شوية وهيجوا..
-فين رؤى؟...تساءلَ بها إلياس..
التفتَ أرسلان في كافَّةِ الاتجاهاتِ قائلًا:
-معرفش، غرام فين رؤى؟..ردَّت غادة:
-وإسلام مش موجود كمان..
تحرَّكَ أرسلان سريعًا بعدما التقطت عيناهُ إحدى السياراتِ السوداءِ يتحدَّثُ بجهازه، بينما توقَّفَ إلياس متجمِّدًا..وعيناهُ تخترقُ الرجل الذي يضعُ السلاحَ متوجِّهًا إلى إسلام يسحبهُ إلى السيارةِ السوداء..
تحرَّكَ يهاتفُ أحدهم:
-اقفل المدخل محدش يخرج، دقائقَ عصيبة حتى تسلَّلَ الرعبُ إلى قلوبِ الجميعِ بعد اختفاءِ ارسلان وإلياس..
توقَّفَ رجالُ الأمنِ يحاصرونهم مع بكاءِ ميرال وارتجافِ جسدها؛ ولا يخلو أمرَ الخوفِ لدى غرام التي بدأت تنهار وتسلل الألم إلى احشائها، حتى شعرت بالتقيؤ..فرفعت نظرها إلى ميرال الحاضرةِ الغائبةِ وعيناها على المدخل، فترةٌ مرَّت كالسيفِ على العنقِ ليظهرَ أرسلان أخيرًا وهو يتحرَّكُ بجوارِ إسلام ..دفعت غرام الرجلَ وهرولت إليه:
-إيه اللي حصل؟..
-على العربيات..هكذا أردفَ بها أرسلان، بوقوفِ ميرال تنظرُ إلى المدخل الذي دلفَ منه أرسلان...هرولت غادة الى إسلام تحتضنهُ وتبكي:
-حبيبي إنتَ كويس؟..ضمَّ رأسها قائلًا:
-أه حبيبتي..
-فين إلياس؟!
-خطفوا رؤى وهوَّ وراهم، لازم نتحرَّك من هنا..
-إنتَ سبت أخوك لوحده؟..قالتها ميرال باعتراض
زفرَ أرسلان بغضبٍ يشيرُ إلى السيارة:
-لازم نتحرَّك من هنا ياميرال مش عايز دلع، جوزك مش عيِّل دا ظابط أمن دولة..
تراجعت تضمُّ ابنها وتمتمت بنبرةٍ باكية:
-انا مش ماشية غير لمَّا إلياس يجي، مش هتحرَّك.
اقتربَ إسلام محاولًا الضغطَ عليها:
-ميرال عايزة تستني لمَّا يجوا وياخدوا ابنك، لازم نتحرَّك..
نظرت إليه بألمٍ يخنقُ روحها وتحدَّثت بنبرةٍ متألِّمة:
-عايزة أطَّمن عليه ياإسلام..
-وبعدها لك بقى..قالها أرسلان بغضبٍ ينظرُ بساعة يده:
-كلُّه على العربيات مش عايز اعتراض..جذبتها غادة من ذراعٍ وإسلام من الآخر، يسحبونها إلى السيارةِ مع دموعها التي لم تنقطع..
تحرَّكَ وعيناهُ على كافَّةِ الأرجاءِ مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه:
-أيوة يافندم؟..
-اتحرَّك بسرعة من المخرجِ التاني، بسرعة ياأرسلان…
-حاضر، إلياس؟..تساءلَ بها..
-شريف خرج له، مينفعشِ تظهر معاه، سمعتني..توقَّفَ مقاطعًا إيَّاه:
-حضرتك عايزني أسيب أخويا!!
-أرسلان..صرخَ بها اسحاق وهدرَ معنِّفًا إياه:
-ارجع على البيت فورًا من غير ولا كلمة.
-تمام..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ صعدَ السيارةَ وتحرَّكَ بها بسرعةٍ جنونية، ليصلَ إلى فيلا السيوفي:
-انزلي ياميرال.
-إلياس، عايزة أطَّمن عليه لو سمحت ياأرسلان.
التفتَ إليها بجسده:
-انزلي وأنا هطمِّنك، يالا علشان ألحق أروح له..أومأت ونزلت تحتضنُ طفلها مع نزولِ غادة وإسلام..
أشارَ إلى إسلام:
-روح مع عربية الحراسة وصِّل إيمان وملك وغرام، لازم أروح مشوار مهم..
-حاضر..قالها إسلام وتحرَّكَ إلى السيارةِ التي بها ملك.
بمنزلِ يزن:
توقَّفَ أمام المنزلِ بعد اتصالِ أرسلان به، اقتربَ من السيارةِ بنزولِ إيمان:
-فيه إيه؟!رجعتوا ليه بسرعة؟..
نزلَ إسلام بعد دخولِ إيمان وردَّ قائلًا:
-حدِّ هاجمنا وكان هيخطف يوسف وميرال..
-راجح؟!..طيب ميرال والولد كويسين؟..
-أومأ له قائلًا:
-كويسين الحمدُلله، بس رؤى اللي اتخطفت وإلياس وراها، هوصَّل ملك.. سلام نتقابل بعدين.
-سلام..قالها ودلفَ للداخلِ وجدَ أختهِ جالسةً على الأريكةِ تنظرُ بشرود، اقتربَ منها وجذبها لأحضانه:
-حبيبتي إنتي كويسة؟..
لفَّت ذراعيها حول خصرهِ وانهارت بالبكاء:
-خفت أوي يايزن، كان فيه ضرب نار كتير، والشرطة جت، فيه ناس ماتت وناس كانت بتصرخ، وكانوا هيخطفوا ميرال، مين دول يايزن؟..
احتضنَ وجهها ولثمَ جبينها قائلًا:
-حبيبتي اهدي، دول تلاقي ناس كانوا عايزين فلوس ولَّا حاجة من إلياس، انسي خالص والحمدُلله أنُّهم كويسين، قومي غيَّري هدومك، وأنا هتِّصل بإلياس علشان أطَّمن على رؤى..
-حاضر، هوَّ معاذ نام؟..
ربتَ على ظهرها مبتسمًا:
-لا برَّة، بيلعب بالعجلة مع صحابه، قومي يالَّه غيري..
نهضت متَّجهةً إلى غرفتها، خرجَ إلى خارجِ المنزل ورفعَ هاتفه:
-أيوة ياإلياس ميرال ورؤى كويسين؟..
-كويسين..هكلِّمك بعدين ..قالها وأغلقَ الهاتف، جلسَ أمام المنزلِ يزفرُ بغضب، يكفي مايشعرُ به من فراقِ معذِّبته، رجعَ بجسدهِ على الجدارِ وشردَ بذكرى ليلتهِ الوحيدةِ التي أُنعمَ بها بأحضانها، ليتهُ كان يعلمُ أنَّها نقطةَ اللقاءِ والفراقِ في ذلك الوقت، ربَّما دعا ربِّهِ أن تطولَ لتصبحَ سبعين خريفا، أغمضَ عينيهِ بعدما ضربت ذاكرتهِ تخيُّلاتهما مع بعضهما البعض، همسها باسمهِ الذي أذابهُ وجعلَ قلبهِ كطبولِ حرب، كوَّر قبضتهِ يشعرُ بالجنونِ وصدى صوتها كصدى عويلٍ جامح..حاوطَ رأسهِ بين راحتيهِ يضغطُ عليها علَّهُ يخرجُ من شرنقةِ ذكرياتهِ معاها، جذبَ الهاتفَ ونظرَ إلى رقمها ورسائلهِ التي لم تصلَ إليها، استمعَ إلى وقوفِ سيارةِ كريم أمامهِ وترجُّلهِ منها سريعًا:
-إيه اللي حصل في الحسين وفين إيمان؟...أشارَ إلى الداخل قائلًا:
-اهدى إيمان كويسة، قصَّ له ماصارَ ليشهقَ بفزع:
-معقولة يوصل به الحال يخطفهم علني..نفثَ دخانَ سيجارته:
-دا مش مجرَّد خطف بس، لا عايز يعرَّفنا أنُّه أقوى وقادر عنِّنا، وصل مرَّة لبيت كلِّ واحد فينا ودلوقتي يخطفها في وسطِ الحراسة
أومأ كريم متفهِّمًا لعبةَ راجح القذرة، ثمَّ حمحمَ متسائلًا:
-لسة مفيش أخبار عن رحيل؟.،
هزَّ رأسهِ بالنفي متمتمًا:
-أرسلان قالي هيوصلَّها، بس بعد اللي حصل النهاردة معتقدشِ أنُّه سأل، المهم عايز مدير حسابات كويس، ومحامي أثق فيه، علشان هنزل الشركة من بكرة، مش عايز تنهار في غيابها، غير لازم أواجه راجح، مدير أعمال رحيل اتَّصل وقال راجح طالب اجتماع،
ياإمَّا يشتكينا في المحاكم..
-وانتَ ناوي على إيه؟..
نفثَ دخان سيجارتهِ في الفراغ ونطقَ بشرود:
-على كلِّ خير إن شاءالله.
بسيارةِ إلياس وهو يتحدَّثُ بجهازه:
-شريف إنتَ فين؟..
-وراك ياإلياس، إنتَ متأكِّد العربية دي فيها رؤى؟..
-أيوة..قابلني من المنعطف وخلِّي بالك، لازم العيال دي تتمسك..
-راجح معاهم؟..تساءلَ بها شريف..
-معتقدتش مشفتوش، المهمِّ اقطع الطريق وخلِّي بالك من القنَّاص ليكون معاهم..
-تمام هوصل وأشوف أسلحته وأقولَّك..
-على خيرة الله ..
بعد فترةٍ وصلت السيارةُ إلى مصنعٍ مهجورٍ بالطريقِ الصحراوي...في حين توقَّفَ شريف بعدما فقدَ أثرهم إلى أن وصلَ إليه إلياس:
-إزاي، لازم يعدُّوا من هنا..
-معدوش، من وقت مافصلت معاك وإحنا هنا..
دارَ حول نفسهِ يمسحُ على وجههِ بغضبٍ مرَّة، ثم يركلُ عجلَ السيارةِ مرَّةً أخرى..
-يعني إيه؟..دول لازم يدخلوا هنا علشان يوصلوا الطريق الرئيسي..توقَّف عن الحديثِ وتراجعَ ينظرُ بمفترقِ الطرقِ التي تبعدهم بعض الكيلومترات..ركضَ إلى سيارتهِ يشيرُ إليه:
-تعالَ لازم ندخل الطرق المتطرِّفة دي، بدل ماعدوش من هنا يبقى مش هيوصلوا لفيلا راجح، دول غيَّروا سيرهم ...
بعد دقائقَ توقَّفت سيارتهِ أمام أحدِ الطرقِ الفرعيةِ التي تؤدي إلى عددٍ من الاتِّجاهات...وصلَ أرسلان إليهِ بعد معرفتهِ بما صار..
توقَّفَ متخصِّرًا ينظرُ بكافَّةِ الطرق، ثمَّ حكَّ ذقنهِ وسحبَ نفسًا يشيرُ إلى أحدِ الطرق:
-دا رايح على مكان سكني، صعب يمشوا منه علشان الحملات الأمنية..ودا طريق زراعي آخره النيل، يبقى مفيش غير دا.. طريق لمنطقة صناعية معظمها مصانع..إيه رأيك؟..
-معنديش رأي ياأرسلان، لازم نمشي فيه لأنُّه فعلًا دا أكبر احتمال..
بعد دقائقَ وصلوا إلى ذلك المصنعِ المهجور، تفحَّصت أعيُن َالجميعِ المكانَ بالكامل..
ترجَّلَ أرسلان مبتعدًا عنهم، وتجوَّلَ بخبرتهِ يتفحُّصُ المكانِ بعينِ المخبر، بينما ظلَّ إلياس وشريف في مكانٍ مظلمٍ إلى حدٍّ ما مع فريقهم الأمني..وصلَ أرسلان إلى أحدِ المصانع، توقَّفَ أمام حارسها:
-معلش يابلدينا، أنا توهت في المكان، كنت جاي أقابل راجل.. صاحب مصنع هنا عارضه للبيع، وعربيتي عطلت، متعرفشِ ورشة هنا؟..
أجابهُ الحارس:
-المكان دا كلُّه مصانع يابني، مفهوش ورش..
-طيب متعرفشِ المصنع اللي هنا معروض للبيع فين؟..أو فيه شارع يخرَّجني على العمومي يمكن ألاقي ورشة ولَّا حاجة..
-لا يابني، الشارع دا بس، اللي هنا مصانع شغالة زي ماإنتَ شايف، ومفيش حد بيبع مصنعه..
تنهَّدَ أرسلان متسائلًا:
-يعني المصانع دي كلَّها شغالة ومفيش حاجة واقفة فيها؟..شردَ الرجلُ لبعضِ اللحظاتِ ثمَّ أردف:
-هوَّ فيه مصنع بس دا قديم أوي، يعني مش عارف صاحبه هيبيعه ولَّا لأ..
-أيوة ماهو كان قايلي أنُّه قديم، أنا عايز حاجة زي كدا..ألاقيه فين المصنع دا؟..
أشارَ إليهِ الرجل:
-بص هتمشي من هنا يمين، بعدين هتاخد شمالك وعلى أوَّل شارع هتلفِّ يمين..هتلاقي المصنع في الوش..
-شكرا يابلدينا..قالها وهو يخرجُ بعض النقودِ يعطيها للرجلِ ثمَّ ربتَ على ظهرهِ شاكرًا، وتحرَّكَ إلى المصنعِ الذي وصفه، ليصلَ إليه يتفحَّصهُ بمكانٍ مظلمٍ من خلالِ منظاره، ضغطَ على شفتيهِ يهمسُ لنفسه:
-مصنع أحذية، ودا بتاع مين ياترى؟..والعيال دي جت هنا صدفة ولَّا مرتبينها؟..
رفعَ هاتفهِ وحدَّثَ أحدهم:
-اعرفلي المصنع دا بتاع مين بسرعة، وقفل إمتى وليه قفل، كلِّ حاجة وأنا معاك خمس دقايق..قالها وأغلقَ الهاتفَ ثمَّ هاتفَ إلياس:
-انزل من العربية..قالها ثمَّ وصفَ إليه المكان..
دقائقَ معدودة ووصلَ إليه، أشارَ لمحاصرتهم للمصنع ودخولهم بهدوءٍ بعدما علمَ لمن يكون ..
بالداخلِ عند رؤى:
توقَّف أمامها رجلًا ذو بنيةٍ ضخمةٍ يشيرُ إلى الهاتف:
-تحدَّثي أيَّتها الساقطة..نظرت إلى الهاتفِ لتظهرَ صورةَ راجح أمامها:
-دا اتفاقنا يابنتِ راجح، تبعيني..
-أنا مش بعتك، بس مقدرتش، ميرال مالهاش ذنب، ولا الياس، ليه عايز تخطف ابنهم؟..إنتَ جدُّهم، ليه انا مش مصدَّقة اللي بتقوله؟..مستحيل طنط فريدة تعمل كدا، نسيت أقولَّك، أنا عارفة كلِّ حاجة..إنتَ ضحكت عليَّا، أنا مكنتش طالبة غير حمايتك وأحسِّ إنِّ ليَّا عيلة..
-يعني إيه يابنتِ سمية؟..هتطلعي تحفة زي أمِّك وتمثِّلي الفضيلة، هتتصلي بإلياس علشان ينقذك، ياأمَّا وحياة أمِّك الغالية هخلِّي التيران اللي عندك دول يتسحَّروا عليكي، سمعتي يابت؟..ياله اتِّصلي بيه خلِّيه يجي ينقذك، وبعد كدا اتِّصلي بميرال وعرَّفيها أنُّه هيموت لو مجاتشِ في المكان دا..
سقطَ الهاتفَ منها وبدأت تبكي:
-مش هتِّصل بيه، وعايز تموِّتني موِّتني، إنتَ طلعت زي مابيقولوا عليك..
-مارتن عرَّفها إزاي تعصي أوامري، هدية منِّي ليك بس بالراحة عليها..قالها وأغلقَ الهاتف...ربي ماذا يحدث قرائي الاعزاء، هل كلَّ من أنجبَ أبًا، بلى قرَّائي، فليس كلَّ من أنجبَ يُسمَّى أبًا..
فأن يكونَ لك أبًا سيِّئًا قد يكونُ جرحًا، ولكن أن تتعلَّمَ ألَّا تكونَ مثله هو أعظمُ الانتصارات، فالأبوُّةُ أفعالٌ وحنان، الأبوُّةُ أن تعلِّمني كيف ألجأُ إلى الحقِّ والصدق، وليس أن أنحرفَ عنه..
الأبوُّةُ طمأنينةٌ تُزرعُ بالقلب، ضوءًا ينيرُ طريقك، يحملُ عنك ثقلَ الأيامِ دون أن تشعر..
الأبُ حبِّهِ لا خيانةَ به، يدًا تحتضن، وجرحًا يلتئم ودفئًا للبرد، وكتفًا يُستند، قلبًا يسامحُ دون مقابل، يدًا تمتدُ بالعطاءِ دون انتظار،
أفعالًا تبقى في الذاكرة خالدة، حبًّا صادقًا دون بوح، ومشاعرَ فيَّاضةً دون وجع..
فقسوة القلب من علامات غضب الله تعالى على الإنسان؛ لأن هذه القسوة تظهر بسبب كثرة المعاصي والذُنوب، ويُعاقب الله تعالى صاحبها بنزع الرحمة من هذا القلب القاسي، وجاء عن مالك بن دينار أنه قال: "قسوة القلب عقوبةٌ للعاصي، ونزع الرحمة منه دليلٌ على غضب الله تعالى من صاحبه"...
اللهم ارزقنا الرحمة والرضا والغفران يارب العالمين ..وعافنا واعفو عنا"
اللهم لا تسلط علينا انفسنا، اللهم أعنا على أنفسنا واجعلنا اولادنا قرة اعيننا
"اللهمَّ ارحم والدي رحمةً واسعةً واجعل قبرهِ نورًا وضياء."
.
تراجعت بجسدها تبكي بشهقات بعدما اقتربَ منها الرجل:
-ماذا بكِ أيَّتها الساقطة..بتر حديثه عندما استمعَ إلى طلقاتٍ نارية:
هبَّت من مكانها تصرخُ باسمِ الياس، دفعها الرجلُ بقوَّةٍ لتصطدمَ بالحائطِ حتى هوت متأوِّهةً في الارض، تحرَّكَ للخارجِ وتمَّ تبادلُ النيران..دقائقَ عصيبة لتنجحَ قوُّاتُ الشرطة بالسيطرة، دلفَ أرسلان يبحثُ عن رؤى، بينما تحفَّظَ إلياس على ذلك الشخصِ قائلًا:
-علمتُ أنَّك تبحثُ عنِّي، فوصلتُ إليك أقرب حتى لا تشعرَ بالتعب..
تهكَّمَ الرجلُ بالسخريةِ من حديثه:
-لا تقلق، يبدو أنَّك شجاع..
-بلى..يبدو أنَّك الضعيف أيُّها الخنزير..
حاوطَ أرسلان جسدَ رؤى التي تتحرَّكُ بصعوبة، وقعت عيناها على إلياس الواقفِ أمام ذلك الجدارِ البشري..همست اسمه، اتَّجهَ بنظرهِ إليها:
-أهلًا أستاذة رؤى، حمدَالله على السلامة، يارب الضيافة تكون نضفك عقلك الزبالة، قرَّبي حسابنا بعدين..هزَّت رأسها باكية تتمتم:
-واللهِ ماعملت حاجة..استدارَ يشيرُ إلى فريقه:
-خدوا المجرمين دول، وخلُّوا بالكم من عريس الليلة، وياريت بسلاحه الحلو دا.
-لن أصمتَ عن أفعالكم الشنعاء، سوف..قاطعهُ إلياس وهو يصفعه بسلاحه وثار زعابيب غضبه:
-صوتك مزعج أيُّها العربجي..
خدوا الحيوانات دي من هنا..وقعت عينُ رؤى على أحدِ المتسلِّلين موجِّهًا سلاحهِ على صدرِ إلياس، دفعت أرسلان وركضت باتِّجاههِ لتقفَ أمامهِ وتتلقَّى تلك الرصاصة التي اخترقت صدرها، حدثَ هرجٌ ومرجٌ ومحاولةِ المجرمينَ الهروب.. ولكن تمَّت السيطرةُ على الوضعِ بعدما أطلقَ أرسلان رصاصتهِ بذلك الرجل حينما لمح َأثره..بينما نظرَ إلياس إلى رؤى التي سقطت بين ذراعيهِ ودموعها تنسابُ تهمسُ بخفوت:
-سامحني، واللهِ ماعملت حاجة..قالتها وأغلقت عينيها..حملها سريعًا يصيحُ بشريف:
-العيال دي تتاخد عندنا، مش عايز تدخل من الشرطة..قالها وغادرَ المكان وهو يحملها بين ذراعيه.
بعد قليلٍ وصلَ إلى المشفى..ترجَّلَ من السيارةِ سريعًا، متَّجهًا إلى الداخلِ
يحملها باقترابِ أحدِ المسعفين بالسريرِ المتحرِّك..
قبل وصول ارسلان إلى إلياس ...
وصلَ أرسلان إلى فيلا السيوفي، ترجلت ميرال إلى الفيلا بحالةٍ من الانهيار، قابلها مصطفى الذي علمَ بما صارَ من الفريقِ الأمني:
-حبيبتي فين جوزك؟..رفعت عيناها التي غطَّتها الدموع:
-معرفشِ ياعمُّو، كانو خاطفين إسلام ورؤى، أنقذوا إسلام وهوَّ معرفشِ راح وراهم..وصلت فريدة تلهثُ بعدما دلفت المربية بيوسف يبكي وعلمت ماصار، نظرت في كافَّةِ الأرجاء، رأت سيارةَ أرسلان تغادرُ المكانَ بأقصى سرعة، اقتربت من ميرال وأمسكت ذراعيها:
-إلياس فين؟..وأرسلان راح فين؟..
انسابت عبراتها بصمت، تهزُّ رأسها بالجهل..حاوطَ أكتافها مصطفى وسحبها للداخل:
-حبيبتي، اهدي شوية وهيرجعوا إن شاءالله، والحمدُلله إنِّ يوسف معاكي..
توقَّفت تنظرُ إليه:
-هوَّ فيه أب يعمل في بنته كدا؟! أنا مش مصدَّقة الراجل دا إزاي يكون منزوع منه الرحمة كدا، وكمان في رمضان!!
ربتَ على ظهرها:
-دا مش أبوكي حبيبتي، ادخلي وحاولي تهدي علشان ابنك، اتَّجهَ بنظرهِ الى فريدة:
-خديها واعمليلها حاجة تشربها، وأنا شوية وراجع..
توقَّفت أمامهِ مذعورة:
-إنتَ رايح فين؟..كفاية الولاد..
-فريدة بلاش جنان، لازم أعرف إيه اللي حصل، إنتي ناسية دا شغلي، شوفي بنتك المنهارة وحفيدك اللي بيعيَّط..قالها وتحرَّكَ سريعًا متَّجهًا إلى سيارته..
جلست فريدة تجذبها لأحضانها تحاولُ تهدئتها، رغم أن بداخلها انهيارًا يؤدي إلى موتها ، فكلَّما تذكَّرت ماصار ينتفضُ قلبها رعبًا على أبنائها..مرت الساعات ثقيلة على قلب فريدة رغم محاولة غادة التخفيف عليها، تظاهرت أنها على مايرام حتى لا تدخل الريبة إلى قلب ميرال، نهضت من مكانها تقف في الشرفة وتدعي الله بسريرتها أن يحفظ ابنائها وزوجها، استدارت بعدما استمعت إلى شهقات ميرال تهمس باسم إلياس..اقتربت وجلست تحاوط جسدها بأحضانها
-حبيبتي إن شاءالله هيرجع كويس..رفعت عيناها المبتلة بدموعها
-مش هيسيبه ياماما، هو قالها وحلف لي مش هيسيبه ...رغم انتفاضة قلبها وذعره إلا أنها ملست على خصلاتها
-مش هيقدر حبيبتي اللي خلى ربنا حفظهم اكتر من تلاتين سنة، هيخلي واحد قلبه مليان بالحقد زي راجح يقدر عليهم، انا واثقة في ايماني بربنا
قاطعهم صوت سيارة ارسلان، لتهتف غادة ...ارسلان جه ، هبَّت من مكانها حينما علمت بوصوله، نظرت خلفه:
-فين إلياس ياأرسلان؟..
أشارَ بيديهِ أن تهدأ وأردفَ بدخولِ إسلام من الخارج:
-اهدي، هوَّ كويس، اقتربت فريدة تتطلَّعُ إليه بقلبِ الأمِّ المذعورة على فلذةِ كبدها:
-أخوك فين حبيبي؟ وليه مجاش معاك؟..
-حبيبتي هوَّ كويس، بس رؤى اتصابت
وهوَّ أخدها المستشفى..
شهقةٌ أخرجتها ببكاء:
-إنتَ بتضحك عليَّا ياأرسلان صح؟..أنا عارفة إنِّ راجح مش هيسيبه في حاله..
-تعالي ياميرال، هاتي يوسف الدكتور يشوفه، وتروحي لإلياس..
-أخوك كويس مش كدا؟..قالتها فريدة بلسانٍ ثقيل..
اقتربَ يقبِّلُ رأسها:
-واللهِ كويس ياستِّ الكل، لازم نطمِّن على يوسف علشان وقع، إلياس قال أخده للدكتور، وإن شاء الله رؤى إصابتها متكنشِ خطيرة..
-ياحبيبتي يابنتي وإزاي اتصابت يابني؟..
معرفشِ ياماما..لمَّا إلياس يجي اسأليه، وصلت إليهِ ميرال وهي تحملُ طفلها، تلقَّفهُ منها يشيرُ إلى المربية:
-خلِّيكي هنا..قالها وتحرَّكَ إلى الخارجِ وميرال تلاحقه..وصلَ بعد قليلٍ إلى المشفى، ترجَّلت سريعًا بجوارِ أرسلان الذي يلاحقُ خطواتها السريعة وهو يحملُ الطفل:
-ميرال اهدي، قولت لك جوزك كويس..
صعدت للطابقِ المنشودِ تاركةً إيَّاهُ
أمامَ غرفةِ العمليات كان يجلسُ منتظرًا انتهاءَ الطبيبِ من العملية، رفعَ نظرهِ بعدما ردَّدت اسمهِ في أوَّلِ الممر:
-إلياس..نهضَ من مكانهِ على تحرُّكها السريعِ الذي تحوَّلَ إلى ركضٍ مع دموعها وهي تُلقي نفسها بأحضانه:
-خفت عليك كتير، إنتَ كويس؟..
-اششش اهدي حبيبتي أنا كويس، زي ماإنتي شايفة كدا، المهم إنتي عاملة إيه؟..وفين يوسف؟..
دفنت نفسها بأحضانهِ كأنَّها تستمدُّ قوَّتها من هذا الحضنِ ولم تنطق بحرفٍ واحد، وصلَ أرسلان إليهما متسائلًا:
-رؤى عاملة إيه؟..
جذبَ ميرال إلى أحدِ المقاعدِ وأجلسها:
-ميرال إحنا كويسين، خلِّيكي هنا هاخد يوسف الدكتور يشوفه..
توقَّفت قائلة:
-هاجي معاك...أومأ لها وسحبها من كفَّيها ناظرًا إلى أرسلان:
-خليك هنا..أومأ موافقًا وتحرَّك، استمعَ أرسلان إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة حبيبتي..تنهَّدت بهدوء:
-إيه الأخبار؟..إلياس ورؤى كويسين؟..
-أه حبيبتي، شوية وهعدِّي عليكي أخدك، ملك عاملة إيه؟..
-كويسة الحمدُلله، صلِّت ونامت أنا عندها في الأوضة، بس طنط صفية اللي قلقانة يبقى كلِّمها وطمِّنها..
-حاضر، خُدي بالك من نفسك لحدِّ ماأرجع لك..لا اله إلَّا الله..قالتها وأغلقت الهاتف..
جلسَ قائلًا:
-محمد رسولُ الله..مسحَ على وجههِ بهدوءٍ يعكسُ غضبهِ القابعَ بصدره، ظلَّ يهزُّ ساقيهِ نتيجةً لما يشعرُ به..دقائقَ واستمعَ إلى رنينِ الهاتفِ مرَّةً أخرى:
-مابقتشِ بتسمع الكلام، قدَّامك نصِّ ساعة وتكون عندي..
-حاضر..قالها وأغلقَ الهاتفَ يجزُّ على أسنانه:
-وبعدهالك ياإسحاق، نفسي أعرف ليه بتبعد راجح عنِّي، هتحملَّك لحدِّ إمتى..متأكِّد إنَّك اللي ورا هروبه كلِّ مرَّة، بس ليه؟..
تراجعَ بجسدهِ يرجعُ خصلاتهِ بغضبٍ مع زفرةٍ حارقة:
-أخرتك قرَّبت ياراجح، أقسم بربِّ العزَّة محدش هيرحمك منِّي..
بغرفةِ طبيبِ الأطفال..بعدما قام بفحصه:
-كويس مفهوش حاجة..
-بس دا وقع على راسه يادكتور..قالتها ميرال بريبة..ابتسمَ الطبيبُ مجيبًا:
-عادي الأطفال بيوقعوا من فوق السرير، هوَّ عنده قدِّ إيه دلوقتي؟..
-أربع شهور وأسبوعين...قالها إلياس دون تفكير..رفعت رأسها تنظرُ إليه مبتسمةً على أنَّهُ يعلمُ عمرَ ابنه..اقتربَ يمسحُ على خصلاتهِ الناعمة:
-مفيش ضرر من الوقعة يادكتور؟..
-لا هوَّ كويس، مفهوش حاجة، هكتب له على شوية فيتامينات علشان يقوِّي الكالسيوم كمان..
بعد فترةٍ وصل إلى غرفةِ العناية التي تُحتجزُ بها رؤى، توقَّفَ أرسلان على دخوله ينظرُ بساعةِ يده:
-لازم أمشي دلوقتي، أنا مسافر بكرة، خلِّي بالك من نفسك، ومش عايز خناقات مع راجح لحدِّ ماأرجع..
ابتسمَ إلياس وجذبهُ من ذراعهِ متحرِّكًا للخارجِ بعدما أشارَ إلى ميرال بالدخول:
-خلِّيكي هنا هنزل خمس دقايق وراجع،
الحرس برَّة متخافيش..ضمَّت ابنها وخطت إلى سريرِ رؤى، نزلت ببصرها على رقودها، جذبت المقعدَ وجلست بجوارها وهي تضمُّ ابنها..بسطت كفَّها تزيحُ خصلاتها من فوقِ عينيها، لا تعلمُ لماذا رقَّ قلبها إلى سكونها بدونِ حركة، لماذا أخذها راجح بانتقامه؟. ألم يلين قلبَ الأبوَّةِ الذي بداخلهِ على ملاكهِ البرئ..انفرجت شفتيها بابتسامةٍ ساخرةٍ تتذكَّرُ مافعلهُ بها، تهمسُ لنفسها:
-وليه تصعب عليه؟..دا كان هيقتل ابني في بطني، إزاي الراجل دا جامد أوي كدا؟!!..
استمعت إلى خطواتِ إلياس خلفها، نهضت من مكانها وعيناها على جسدِ رؤى الساكن:
-هيَّ إصابتها خطيرة؟..حاوطَ خصرها يجذبها إليه، ثمَّ ضمَّها بأحضانهِ هي وطفلهما هامسًا بصوتٍ عميق:
-وحشتوني أوي..رفعت رأسها تنظرُ لداخلِ مقلتيه:
-وحشناك ولَّا خوفت علينا؟..سحبها للخلفِ إلى أن هوى على السريرِ المقابلِ لفراشِ رؤى:
-الاتنين ياميرال، لازم أقلقك يعني..ملسَ على رأسِ طفله ثمَّ جذبهُ من بين ذراعيها:
-هاتيه بدل نام..وضعهُ بهدوءٍ وعيناهُ تفترسُ ملامحه، مرَّرَ أناملهِ على تورُّمِ وجنتيه..كوَّرَ قبضتهِ كلَّما تذكَّرَ أنَّه كان سيخسره..تعمَّقت بمقلتيهِ وذهبت ببصرها لكفِّهِ الذي يضغطُ عليه..فتراجعت بجسدها تدفنُ نفسها بأحضانه، ثمَّ رفعت يديهِ تلفَّها حولها:
-خوفت عليك أوي حبيبي، كدا تمشي من غير ماتطَّمني عليك؟..طيب مش خوفت علينا؟..تراجعَ بجسدهِ يجذبها لأحضانه، وتنهيدةٌ عميقةٌ من جوفِ آلامه على ماشعرَ به منذ ساعاتٍ قليلةٍ قائلًا بهمسٍ مرهق:
-لو كنت شاكك واحد من عشرة هيصيبك أذى بعد ماأمشي ماكنتش مشيت..تمسَّحت بصدرهِ كقطَّةٍ أليفةٍ تحاولُ أن تمنعَ دموعها أمامهِ لتتساءل عمَّا صار برؤى..
قصَّ لها ماصار ..هبَّت معتدلةً تتساءلُ بذعرٍ تجلَّى بملامحها:
-يعني لو موقفتش قدَّامك كنت زمانك…
اعتدلَ يحاوطُ وجهها وحاولَ امتصاصَ خوفها:
-ميرال..العمر أقدار بإيد ربِّنا، أوعي تفكَّري رؤى أنقذتني، لسة ليَّا عمر وأجل، ومهما أعمل احتياط لو ربِّنا رايد أموت في حضنك دلوقتي هموت.
شهقةٌ أخرجتها وهي تضعُ كفَّيها فوق خاصَّتهِ تهمسُ بدموعٍ لم تتحكَّم بمنعها:
-اسكت ياإلياس، مش عايزة أسمع حاجة، قالتها وارتفعَ صوتُ بكاءها..ضمَّها لأحضانه، ثمَّ طبعَ قبلةً عميقةً فوق جبينها:
-مش بقول كدا علشان تعيَّطي، بعرَّفك إنِّ الأعمار بيدِ الله، سبيها على ربِّنا أوعي تفكَّري حد بيحمي حد من الموت تمام ..
لفَّت ذراعيها حول خصرهِ ووضعت رأسها بصدرهِ وكأنَّها صمٌّ بكمٌ لا تستطيع أن تسمعَ أو تنطقَ بشيئ، لا تريدُ سوى أن تشعرَ بحنانِ أحضانه..نظرَ بساعته، فتمدَّدَ على الفراشِ وجذبها لأحضانهِ يمسِّدُ على ظهرها:
-حاولي تنامي شوية..استرخي وانسي أيِّ حاجة..افتكري حاجة واحدة بس ابنك في حضنك وكويس ودا أهمِّ حاجة...أغمضت عينيها تريدُ أن تصرخَ بوجههِ أنَّهُ أهمُّ من كلِّ الأشياءِ التي تمتلكها..رفعَ أناملهِ يحرِّرُ خصلاتها من تحت حجابها، ثمَّ تخلَّلت أناملهِ بها يمشِّطها وسحبها بقوَّةٍ حتى لم يفصل بينهما سوى أنفاسهما، وأغمضَ عينيهِ ليذهبَ بنومهِ دون مجهود..بينما ظلَّت مستيقظة، رفعت ذقنها على صدرهِ تنظرُ إلى ملامحهِ الرجولية، ثمَّ مرَّرت أناملها على وجههِ تدفنُ رأسها بعنقهِ تحمدُ ربَّها أنَّهُ موجودًا بحياتها، استمعت إلى رنينِ هاتفه، لتجذبهُ من سترتهِ التي قامَ بخلعها ووضعها على الفراشِ بجواره:
-أيوة ياماما، لا كويسة هيَّ نايمة، في العناية بس الحالة مستقرَّة..نظرت إلى إلياس الغافي وتابعت حديثها:
-نايم لمَّا يصحى هخلِّيه يكلِّمك، واللهِ ياحبيبتي نايم، هوَّ كويس، والصراحة صعبان عليَّا مش عايزة أصحِّيه، ابتسمت على طفلها الذي يتثاءبُ وأكملت:
-أه حبيبتي يوسف زي الفل، ونايم بيتاوب كمان، لحظة هصوَّرهم وأبعتها..
حملت يوسف ووضعتهُ فوق صدرِ والده، وتراجعت ملتقطةً صورةً تجمعهما، ثمَّ أرسلتها إلى فريدة:
-شوفي ياستِّ ماما ابنك وحفيدك، اتأكدي من الصورتين كدا، إلياس الكبير وإلياس الصغير..مرَّرت فريدة أناملها على صورتهما وابتسمت قائلة:
-ربِّنا يباركلك فيهم ياحبيبتي، متنسيش تتسحَّروا، أوعي تنامي علشان مترحشِ عليكي نومة، خلِّي حدِّ من الولاد ينزلوا يجبلكم سحوركم، ولَّا أبعت لكم حاجة..
-لا حبيبتي، ساعة بس إلياس ينام شوية وأصحِّيه..تصبحي على خير..
قالتها واتَّجهت ببصرها لمتيِّمِ قلبها وطفلها الغالي..أمالت تقبِّلُ جبينه، ثمَّ وضعتهُ بمكانهِ تداعبُ وجنتيه:
-حبيب مامي عايز ينام، رفرفَ الطفلُ أهدابهِ ثمَّ فتح عينيهِ مبتسمًا، حملتهُ واعتدلت بجلوسها تهمسُ إليهِ بخفوت:
-الصغنَّن مش جعان ولَّا إيه، لازم نتغذَّى كويس علشان صحِّتنا تبقى كويسة أوي أوي أوي..قالتها وهي تداعبهُ بأنفها، رفعَ الطفلُ كفَّيهِ يحاوطُ وجهها ويبتسم..أعدلت نومهِ وقامت بإرضاعهِ ونظراتها ترسمُ كلَّ إنشٍ به، ثمَّ تنظرُ لذاك الغافي..انتهت من إطعامه، ثمَّ وضعتهُ بمكانه، وتمدَّدت تستندُ على مرفقيها تداعبهُ بصوتها الحنون، إلى أن فتحَ إلياس عينيهِ ينظرُ إلى ظهرها الذي تواليهِ به..وهي تهمهمُ بصوتها الرقيقِ حتى غفا الطفل، اعتدلَ جالسًا وذهبَ ببصرهِ إلى رؤى، نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إليها بعدما استمعَ إلى همهماتها..توقَّفت معتدلةً وتساءلت:
-فيه حاجة ولَّا إيه؟!
لا مفيش، تأثير المخدِّر، هنزل أجيب لك حاجة تاكليها قبلِ الفجر..
-اسمها هتجبلنا ياحبيبي مش أجبلك..أشارَ إلى الحجاب:
-البسي حجابك علشان هخلِّي الدكتور يجي يشوف رؤى..
بعد فترةٍ انتهت من طعامها وكعادتها محاولاتها بتناولهِ لبعضِ الطعام ...
مرَّت الساعاتُ إلى أن فتحت رؤى عينيها بضعف..تنظرُ حولها تهمسُ باسمِ إلياس..وقعت عيناها على الفراشِ المقابلِ وجدته غافيا بأحضانِه ميرال..أغمضت عينيها مرَّةً أخرى وفتحتها اعتقادًا أنَّها تحلم، ظلَّت نظراتها عليهما، لتنسابَ عبراتها تبتعدُ بنظراتها عنهما..تململَ بنومهِ ثمَّ فتحَ عينيهِ ينظرُ إلى سريرها بعدما استمعَ الى شهقاتها ..أعدلَ ميرال يضعُ رأسها فوقَ الوسادةِ ثمَّ نهضَ متَّجهًا إليها:
-حمدَالله على السلامة..
أومأت بعينيها دون حديث..أمالَ بجسدهِ مقتربًا منها:
-حاسة بإيه؟..فيه حاجة بتوجعك؟..
هزَّت رأسها بالنفي وحاولت التحدُّثَ ولكنَّها لم تقو..ربتَ على ذراعها:
-خلاص اهدي وبطَّلي عياط، شوية هشوف الدكتور، الرصاصة بعيدة عن الصدر يعتبر قريبة من الكتف..الحمدُ لله مجتشِ في الصدر..
استيقظت ميرال على صوتِ إلياس فاعتدلت سريعًا متَّجهةً إليها:
-رؤى حاسة بإيه؟..ألف سلامة عليكي.
-أنا كويسة، بس صدري وجعني..
ملَّست على شعرها بحنانٍ وتمتمت:
-معلش حبيبتي مكان الرصاصة، بس الحمدُلله الدكتور طمَّني إمبارح وقالِّي مش خطيرة، ياله فوقي بسرعة علشان فيه حاجات كتيرة نعملها مع بعض..
انسابت عبراتها تنظرُ إلى إلياس وتمتمت:
-أنا مش خاينة، أنا رحت له أه..أشارَ بسبباته:
-مش عايز أسمع حاجة، اهتمي بصحِّتك دا أهمِّ حاجة دلوقتي..قالها وتراجع يسحب ميرال بعيدًا، جمع خصلاتها المتناثرة، واغلق ثيابها
-لما تكوني نايمة وقت ماتقومي تبصي على هدومك يامدام ..ذهب ببصره إلى طفله
-الواد دا مفجوع على طول كدا
ابتسمت تلكزه
-ابعد عن الولد، اياك تغلط فيه، دا حبيب مامي ..ضغط على خصرها حتى صرخت واردف
-حبك ..وضعت أناملها على شفتيه قبل أن ينطق قائلة:
-حبني إلياس وبس ..تعرف تقول كدا
رفع حاجبه ساخرا من كلماتها
- هو انت ليه بتحسسني اني اخرص، اتعدلي علشان انا صايم
-طيب الصايم له وقت بيفطر يااستاذ صايم عايزة اعرف هتعمل ايه
استمع الى طرقات على باب الغرفة، فأشار إليها بالحركة
عند ارسلان
نهض من مكانه على اتصالات اسحاق التي لم تنقطع، جذب هاتفه وتحرك للخارج، استقل سيارته يهاتف أحدهم
-فين دلوقتي!!
-تمام ..قالها واغلق الهاتف وتحرك إلى وجهته، بعد دقائق وصل إلى أحد المنازل التابعة إلى راجح بعدما علم بوجوده بها..بداخل المنزل كان يجلس مع أحدهم يتحدث بأحد أعماله ..قاطعه أحد الرجال
-ارسلان الجارحي دخل بالعربية الساحة ياباشا..هب من مكانه يشير إليهم
-اياكو يدخل بأسلحة سمعني لو رفض موتوه ..لم يكمل حديثه بعدما دفع الباب بقدمه ووصل إليه بخطوة يدفعه بقوة حتى سقط على المقعد، انحنى يحاوط جسده وهمس بفحيح واعين تطلق لهيبا من النيران
-عد ايامك على الدنيا ياراجح ياشافعي، علشان انا اتحملتك اكتر من اللازم، وحياة رحمة ابويا اللي مشفتوش لادفنك بايدي حي، هدوقك مرارة ايام، هخلي عيشتك نار ..قالها وهو يخرج قداحته ولم يستغرق ثواني ليرفعها إلى خصلاتها يشعلها، ليهب يصرخ يشير إلى حرسه الذي أصابه ارسلان برصاصة اخترقت صدره دون نقاش، والتفت إلى الرجل الجالس يغمز له
-حلو الرصاصة دي اخر واحدة في المسدس عايزها ولا اديها لصاحبك
صرخ راجح الذي اشتعلت النيران برأسه ليتجه إلى المرحاض سريعا..أشار ارسلان إلى الرجل بالخروج ثم اقترب من مكتب راجح وقام بإشعال النيران به ثم خرج من المنزل وكأنه لم يفعل شيئا تاركا راجح بالداخل
بفيلا راجح بعد ساعات:
ترجَّلَ من السيارةِ تقطعُ خطواتهِ الأرض، وصلَ إلى الداخل:
-فين رانيا؟..تساءلَ بها..
أجابتهُ الخادمة:
-خرجت ياباشا، أشارَ إليها بالخروجِ ثمَّ رفعَ هاتفه :
-المدام فين؟..
- فيلا الدمنهوري ياباشا بقالها ساعة جوَّا..ألقى الهاتفَ بالجدارِ حتى سقطَ متهشِّمًا، وبدأ يدورُ حولَ نفسه:
-آه ياحيوانة، بس الحقِّ مش عليكي، الحقِّ عليَّا إنِّي سامحتك من أوَّل مرَّة، بتلعبي عليَّا يارانيا، عايزة تضحِّي بيَّا مع اللصِّ بتاعك..طيب اصبري عليَّا..
اتَّجهَ إلى جهازهِ وهاتفَ المحامي الخاصّ به:
-عايز الحسابين يكونوا حساب واحد..
صمتَ وتساءل:
-معرفتش بنتِ المالكي فين؟..
-بندوَّر ياباشا..صاحَ بغضبٍ وهدرَ معنِّفًا إيَّاه:
-صحصح يامتر، البنتِ دي لازم تظهر وإلَّا هغرق البضاعة لازم تخرج على الشحن قبلِ مالحكومة تشمِّ خبر.
-اهدي ياراجح، أنا بدوَّر عليها ويزن السوهاجي قالب الدنيا عليها، فياريت تهدى كدا، علشان هيَّ لازم تظهر..
-طيب اسمعني، الحساب المشترك مع رانيا حوِّله كلُّه لحسابي اللي في سويسرا، أه وإيَّاك تشكِّ في حاجة..
وصلت لإيه في قضية طارق؟..قولت هنشوف حدِّ يساعدنا وبقالك شهرين ولا حس ولا خبر..
-هيحصل، بس فيه حاجة جت في بالي هتكون مكسب للكل..
أنصتَ إليهِ قائلًا:
-سامعك...حمحمَ المحامي قائلًا
-تتصالح مع ابنِ السيوفي، أنا شايف دا لمصلحتك، قاطعهُ مزمجرًا:
-تعرف تسكت ولَّا لأ، ابنِ السيوفي خسَّرني كلِّ حاجة، ومش بس كدا، خرب بيتي واتفق مع ابنِ السوهاجي ونقل أملاكي باسمه، وبتقولِّي أتصالح معاه!! دا لازم يموت.. والتاني ولع في المكتب اللي فيه كل المخططات
-راجح إنتَ اللي هتكسب، قولِّي كدا هتكسب إيه لو قتلته؟..
أطلقَ ضحكةً وتوسَّعت أعينهِ بالغدرِ والخسَّة:
-لأنُّه السبب في تدمير راجح، راجح بقى عند الكلِّ واطي ومجرم، أمُّه أخدت شبابي وولادي يامتر، وهوَّ كمِّل على سمعتي، أنا مكنشِ قصدي نوصل لكدا، بس همَّا اللي بدأوا والبادي أظلم، هاخد حقِّي منهم واحد واحد، وأوَّلهم فريدة لمَّا أحسَّرها على ابنها وأطفِّي ناري، وأقطع نسلِ الغالي من الدنيا ..قالها وأغلقَ الهاتفَ يجلسُ على المقعدِ يحتوي رأسهِ بين راحتيه:
-لازم أقطع نسلك ياجمال، وحياة كلِّ وجع اتوجعته بسببك لازم أقطع نسلك، عملت لك إيه علشان تعمل فيَّا كدا؟..كنت ليك أخ وسند، وفي الآخر تعمل في أخوك كدا..ياخسارة يابنِ أبويا، أخدتني بذنبِ أمِّي..بس يالَّه ابنك بردو هياخدوا بذنبك..
دلفَ رجلًا ذو بنيةٍ ضخمة:
-المصنع انكشف ياباشا، وقدروا يوصلوا للبنت..
هبَّ من مكانهِ ولم يشعر بنفسهِ سوى وهو يجذبُ سلاحهِ ويطلقُ رصاصتهِ لتستقرَّ بصدرِ الرجل، وصرخَ يحطِّمُ كلَّ مايقابله..
عند رانيا:
جلست تحتسي مشروبها أمامَ أحدِ الرجال:
-وبعدين بقى، هنفضل نعيد في الموضوع، قولت لك مش عايزة راجح يموت دلوقتي، وهوَّ لو شاكك فيك كان زمانه قالِّي..نهضَ من مكانهِ واتّّجهَ إلى ماحرَّمهُ الله يسكبهُ بكأسه، ثم تجرَّعهُ مرَّةً واحدة، مسحَ فمهِ بظهرِ كفِّهِ ينظرُ إليها نظراتٍ جحيمية:
-لحدِّ إمتى يارانيا؟..أنا صبرت عليه علشان كنت مفكَّر أنُّه ميعرفشِ إنِّ أخوه هوَّ السبب في قتلِ أبويا..توقَّفت وخطت إلى وقوفهِ تستندُ على ظهرهِ تتلاعبُ بثيابه:
-إنتَ وعدتني مش هضُرُّه، وأنا مكنتش أعرف واللهِ ياحبيبي، مش عايزة تعب السنين دي كلَّها يعدِّي، خلينا نصبر لحدِّ مايخلَّص على ابنِ فريدة الأوَّل..
حاوطَ جسدها يجذبها بقوَّةٍ لحضنهِ وضغطَ عليه:
-ابنِ جمال يارانيا مش ابنِ فريدة لوحدها، ومتفكريش هسيب الواد اللي شبه أبوه، هيجي دوره بس نخلص من المصيبة الكبيرة..
-وبعدين بقى هنرجع نزعل من بعض، حاوطت عنقهِ تملِّسُ عليهِ وأردفت بدلالٍ أنثوي:
-إحنا اتفقنا وإنتَ وافقت، رانيا مالهاش خاطر عندك..قالتها بغنج..ليقتحمَ ثغرها كالمفترسِ يدفعها بقوَّةٍ ليفعلَ ماحرَّمهُ الله...
بعد فترة جلست على الفراشِ تنفثُ سيجارتها تنظرُ له:
-عندي خطَّة حلوة هتخلِّينا نضرب عصفورين بحجر واحد، بسِّ ياريت المرَّة دي تسمع كلامي ومش تنفِّذ من دماغك، علشان إنتَ السبب في اللي إحنا فيه، لو سمعت كلامي من الأوَّل كنا زمنَّا مرتاحين..
شحنة الأسلحة اللي راجح حاطط فيها كلِّ فلوسه، دي هيخرَّجها في بضاعة العمري على إنَّها أجهزة إلكترونية، بلاغ لابنِ فريدة بمكان البضاعة في وجود راجح..طبعًا مش هيصدَّق يمسك عليه حاجة، وهنا واحد هيخلَّص على التاني؛ وإحنا نخلَّص على الباقي والحجَّة قتلوا بعض بسببِ الماضي، وإحنا نخرَّج البضاعة ولا من شاف ولا من دري...إيه رأيك؟..
-اسكتي يارانيا، عارفة لو عمِّي عرف الهبل اللي بتقوليه دا، أوَّل حاجة هيعملها هيضربني برصاصة، إنتي ناسية الأسلحة دي شريك فيها، غير طبعًا راجح، اللي عمِّي بيركَّبه عليَّا، تفتكري هيضحِّي بيه؟..
-أوووه ماهو لازم تفكَّر مش هتفضل دلدول لعمَّك..أنا خايفة يكون هوَّ اللي قتل أبوك علشان ياخد مكانه مش جمال ولا راجح..
-قومي روحي يارانيا شكل دماغك لسعت.
بمنزلٍ قديمٍ بإحدى القرى النائية بمحافظةِ القاهرة..دلفت بعدما خلعت نظَّارتها تنظرُ لتلك المتكوِّمةِ بأحدِ الأركانِ تنظرُ بشرودٍ بنقطةٍ وهميَّة:
-ازيك يادينا..هبَّت مستديرةً تنظرُ إليها بجسدٍ منتفض، تراجعت بعيدًا عن مرمى بصرها وهي تحاوطُ جسدها..أفلتت أحلام ضحكةً صاخبة:
-اهدي ياستِّ دينا مش هعمل فيكي حاجة، بالعكس أنا جاية أتِّفق معاكي، ومش بس كدا هرجَّع لك ابنك..
نظرت إليها بصدمةٍ فأومأت أحلام برأسها:
-تتنازلي عن كلِّ حاجة كتبها إسحاق ليكي ولابنك، وكمان ترفعي قضية خلع عليه بدل رفض الطلاق، هوَّ فقد الأمل بعد ماقلب الدنيا عليكي، دلوقتي أنا عملت لك ورق مضروب، هتسافري ايران، شوفتي أنا كريمة إزاي، وكمان هتاخدي ابنك معاكي ومش عايزة أشوف وشِّك ولا وشُّه
-ابني عايش، معقولة عايش!!
-أيوة ومش حبِّ فيه، علشان لقيت ابني الذكي كاتب كلِّ أملاكه باسمه وفي حالة موته كلِّ أملاكه هتروح للجمعيات الخيرية..وعملك الوصي عليه، وإنتي هتتنازلي ياإمَّا مش هتشوفيه..
-فين التنازل دا؟..بس أشوفه الأوَّل..
رفعت هاتفها وأردفت:
-هات الولد وادخل يابني..
عند اسحاق:
استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة فيه جديد؟..على الجانبِ الآخر:
-أحلام هانم في قرية عند ستِّ بسيطة بتبيع سجاد يدوي، بس الغريب الستِّ دي عجوزة..
-اسمها إيه الستِّ دي بسرعة؟..
-منيرة الأحمدي..هبَّ من مكانه:
ردد الاسم بينه وبين نفسه، ثم أردف:
-طيب خلي بالك وشوفها بتعمل ايه، والست دي اعرف عنها كل حاجة
بمنزلِ آدم:
جلسَ بجوارها يحتضنُ كفَّيها، يراقبُ ملامحها بعيونٍ تفيضُ حبًّا، وكأنَّها أجملَ ما رأت عيناه...انتفضَ قلبهِ كلَّما تذكَّرَ أنَّهُ سيصبحُ أبًا، شعرَ بسعادةٍ لم يعهدها من قبل...لا يعلمُ هذا الشعورِ لأنَّهُ لم يكن مجرَّد طفلٍ قادم، بل كان جزءًا منها، قطعةً من روحهما معًا.
فتحت عينيها بتثاقل، فوقعت نظراتها عليه، لتجدهُ ما زال مستيقظًا، يتأمَّلها بابتسامةٍ لم تفارق شفتيه..رفعت يدها تلامسُ وجنتهِ برقَّة، فشعرَ بقشعريرةٍ تسري في جسدهِ من أثرِ لمستها..
– "إنتَ لسة صاحي؟" همست بها بصوتٍ ناعس، فابتسمَ أكثر، وقبَّلَ راحةَ يدها بحنان:
– "أنام إزاي بعد الخبر الحلو ده؟" قالها بصوتٍ أجشٍّ مليءٍ بالسعادة.
اعتدلت في جلستها تنظرُ إليه باستغرابٍ ممزوجٍ بدهشة، وكأنَّها لا تصدِّقُ فرحتهِ العارمة:
– "معقول، دا كلُّه علشان أنا حامل؟"
لم يمهلها فرصةً للحديثِ أكثر، سحبها برفقٍ بين ذراعيهٍ لتقبعَ في أحضانه، يستنشقُ عبيرها، يحاولُ حفظَ لحظةِ السعادةِ تلك للأبد..شدَّدَ من احتضانها، ثمَّ همسَ قرب أذنها بصوتٍ اختلطت فيه النشوةُ بالعشق:
– "مكنتش عايز غير كدا...يكون ليَّا ابن من البنتِ الوحيدة اللي حبِّيتها بعمري."
شعرت بقلبها يخفقُ بقوَّة، رفعت رأسها لتنظرَ إلى عينيهِ التي تلمعُ بمزيجٍ من الحبِّ والفخر، لكنَّها سرعان ما غيَّرت نظرتها بخجلٍ وهي تهمسُ بتردُّد:
– "آدم، بجد فرحان؟ أصلي..مكنتش منتظرة الحمل خالص..وكنت باخد وسيلة، مكنتش جاهزة..."
رغم كلماتها التي أزعجتهُ ولكنَّهُ لن يغضب، بل طبعَ قبلةً طويلةً على جبينها، ثمَّ احتضنَ وجهها بين يديه، وأجبرها برفقٍ على النظر إليه:
– "حبيبتي، ربِّنا أراد..نحمد ربِّنا، وده أكبر رزق لينا، وأنا معاكي في كلِّ خطوة، مش هسيبك أبدًا."
شعرت بالأمانِ من كلماته، و ابتسمت تجذبُ يدهُ تضعها على بطنها بحنان، حاوطَ جسدها ولمعت عيناهُ بالسعادةِ يردفُ بحنانٍ :
– "إن شاء الله هنجتاز كلِّ حاجة سوا، الحمل والكلية والتعب...عارف إنَّها هتكون فترة صعبة عليكي، بس واثق إنِّك قدَّها..وأنا معاكي، عمر ماهيكون في حاجة تقلقك طالما أنا جنبك."
دمعت عيناها دون أن تشعر، لم تكن تتوقَّعُ كلَّ هذا الاحتواء..فوضعت يدها فوق يده، على بطنها، وأغمضت عينيها وهي تهمسُ بحب:
– "طول ما إنتَ معايا، مفيش حاجة تخوِّفني."
فابتسمَ آدم، وهو يدركُ أنَّ هذه كانت بدايةً جديدةً لحياتهما، بدايةَ حبٍّ يكبر... تمامًا كما سيكبرُ طفلهما بداخلها.
توقَّفَ يشيرُ إليها:
-أحلى سحور لأحلى مامي، مش عايز حركة طول ماأنا موجود..أفلتت ضحكةً ناعمةً ليتوقَّفَ مستديرًا:
-لا، إحنا متفقناش على كدا يادكتورة، أولًا علشان ابننا يجي بخير وثانيًا إحنا في رمضان..
بعد عدة أيام بمنزلِ إلياس..
خرجت من المطبخِ بعدما أملت أوامرها على الخدم، دلفَ إسلام بجوارِ غادة:
-عاملة إيه ياأمِّ يوسف؟..ياربِّ الفطار يكون حلو ويتَّاكل بس.
خطت إليهما تأخذُ الوردَ من أيدي غادة:
-وإنتَ داخل عليَّا فاضي، مفيش حتى وردة..
اتَّجهَ إلى الأريكةِ وألقى نفسهِ عليها قائلًا بمزاح:
-لا تقيلة عليَّا، وبعدين علشان هتفطَّرينا عندك هتاخدي حقِّ الأكل؟..قطعَ حديثهم دلوفِ يزن بجوارِ إيمان ومعاذ..ركضت إليه:
-حمدالله على السلامة ياحبيبي..ضمَّها بحنانٍ أخوي:
-عاملة إيه حبيبتي؟..وحبيب خالو عامل إيه؟..هرولت غادة إليه بعد نزولِ المربيةِ تجذبه:
-حبيب عمِّتو ..أنا جيت ياروحي..وصلت إليها إيمان:
-هاتيه شوية ياغادة بليز بحبِّ البيبهات أوي..بينما حاوطَ يزن أكتافها وتحرَّكَ إلى إسلام:
-إلياس هنا ولَّا في الفيلا؟..
-زمانه جاي، رؤى هتخرج النهاردة، راح مع ماما فريدة يجيبوها.
-أيوة عارف إنَّها هتخرج ..توقَّفت تطالعهُ متسائلة:
-إنتَ ليه مزرتهاش؟..سألت عليك على فكرة..
-زعلان منها ولازم أربِّيها كويس، وعايزك تنشفي معاها، البنتِ دي مش عجباني..وفكرة إنَّها راحت تتِّفق معاه عليكي دي مجنناني..
-هيَّ معذورة برضو يايزن، أنا سمعتها مرَّة بتتكلِّم مع غادة..صعبت عليَّا بجد.
ضمَّها بحنانٍ أخوي، ثمَّ حاوطَ أكتافها وتحرَّكَ للداخلِ يردِّد:
-برضو السماح الكتير بيجيب أخطاء حبيبتي..سيبك من رؤى وقوليلي عاملين أكل إيه؟..وبلاش جوزك ينطلي..فاكرة عمل معايا إيه آخر مرَّة جتلك؟..
قهقهت بصوتٍ مرتفعٍ وذهبت بذاكرتها
قبلَ شهر..
جلست أمام المسبحِ بعد سباحتها، سحبت هاتفها تردُّ عليه، اقتربت الخادمة:
-مدام ميرال الباشمهندس جه..أغلقت الهاتفَ وسحبت روبها ترتديه، ثمَّ خطت للداخلِ قائلة:
-هغيَّر هدومي، قدِّمي له حاجة..
صعدت إلى غرفتها لبعضِ الدقائق ثمَّ هبطت الى الأسفل:
-يزن...توقَّفَ يفتحُ ذراعيه إليها، ركضت بأحضانه:
-وحشتني كدا تغيب دا كلُّه..سحبَ كفَّيها واتَّجهَ بها إلى الأريكة:
-آسف كان عندي شوية شغل وانشغلت، بس إيه اللي عملتيه دا؟..ينفع تعملي كدا مع إلياس؟..
-ممكن مانتكلمش في الموضوع دا، المهم عملت إيه؟ وفعلًا رجَّعت رحيل تاني..أومأ مبتسمًا وحاولَ تغيير الموضوع:
-المهم عاملة غدا إيه؟..جاي أتغدى معاكي ولَّا أرجع للبتِّ إيمان يمكن ألاقيها مخبية بطة كدا ولَّا كدا..
شهقةٌ أخرجتها، تطالعهُ بذهولٍ ثمَّ ارتفعت ضحكاتها
-يالهوي يايزن بتاكل بط!!دقَّقت النظرَ إليه ثمَّ ملَّست على أكتافه:
-العضلات دي من البط..
ابعدي يابتِّ بامتخلِّفة إنتي..قاطعََ نشوة حديثهما صوتهِ الصاخب:
استدارت تطلَّعُ إلى دخولهِ الجنوني،
خلعَ نظارتهِ يشيرُ إلى يزن:
-جاي ليه من غير إذن؟..قالها مقتربًا منه، ثمَّ جذبها بعيدًا عن مرمى ذراعيه..ابعدي ياختي، متنسيش إنِّك لسة مراتي..
ابتسمَ يزن بمشاكسةٍ ولمعت عينيهِ بخبث، لينحني يجذبها ويضمُّها إلى أحضانه:
-دي أختي، عايزني استأذن آجي بيتها ولَّا إيه ياحضرةِ الظابط، وبعدين إنتَ اللي جاي هنا ليه؟..على ماأظنِّ أنُّكم انفصلتوا، حبيبتي مش إنتي قولتي كدا؟..
وصلَ إليه بخطوةٍ واحدةٍ يجذبهُ من ثيابه، وجرِّهِ لخارجِ المنزل يدفعهُ بقوَّة:
-على بيتكم ياحبيبي، ولمَّا تحب تيجي تتِّصل وتستأذن وأنا بعدها أفكَّر تستاهل تشوفها ولَّا لأ..
-إيه اللي بتعمله دا؟..دا أخويا..
استدارَ يرمقها بنظراتٍ ودَّت لو أحرقتها:
-خوا ياخدك، اطلعي شوفي ابنك، ولَّا الأحضان الكتيرة عجبتك؟..
اقتربت منه تصرخُ به:
-إنتَ اتجنِّنت، بتطرد أخويا من بيتي!!
اقتربَ منها يطبقُ على ذراعها:
-البيت دا بيتي، أدَّخل اللي أدخَّله ومسمعشِ صوتك سمعتي ولَّا لأ..
-ميرال..صاحَ بها يزن ودنا يحاوطُ ذراعيها ينظرُ إلى إلياس:
-زمان هيَّ كانت وحيدة ياإلياس، عارف إنَّها مراتك، بس دلوقتي الوضع اختلف، شايف إنِّكم مش متفقين، علشان كدا ياريت الانفصال بهدوء..
لم يُكمل حديثهِ عندما لكمهُ إلياس بقوَّةٍ ودفعهُ إلى أن سقطَ على الأرضيَّة، التفتَ على صراخها:
-إيه عايزة تطلَّقي؟..
نظرت إليه بألم انبثق من عينيها وتسائلت :
-هوَّ عمل إيه لدا كلُّه؟..شعر بالجنون وهدر بها:
-كلمة واحدة وبس وأنا هنفِّذ، عايزة تطلَّقي ياميرال؟..
انسابت دموعها على وجنتيها وارتجفَ جسدها؛ تطالعهُ بنظراتٍ تعني الكثيرَ من الغضبِ منه ثمَّ استدارت وصعدت إلى الأعلى..
خرجت من شرودها على صوتِ يزن:
-روحتي فين حبيبتي؟..
-ليه عملت كدا اليوم دا في إلياس
امال هامسا
-كنت عايز اتأكد أنه بيحبك ولا تملك وخلاص، اصل شخصية إلياس دي صعب تتحب
ترقرقت عيناها بالدموع
-بس هو بيحبني يايزن ..ربت على كتفها مرددا
-جدًا ياميرال، بيحبك وبيخاف عليكي اوي، حاولي تمتصي غضبه، على فكرة أنا لو مكانه بعد اللي عملتيه مكنتش هسامحك
-بس ارسلان اللي طلب مني اقول كل حاجة لوكيل النيابة ..
قالتها بدخولِ إلياس بجوارِ فريدة التي تحاوطُ رؤى..اقتربت منها:
-حمدَالله على السلامة يارؤى..
-أومأت لها دون حديث، بينما أردفَ إلياس:
-عامل إيه يايزن؟..
-كويس الحمدُلله، ذهبَ ببصرهِ إلى رؤى:
-هيَّ عاملة إيه دلوقتي؟..كويسة؟..قالها وصعدَ إلى غرفته، ساعدتها ميرال بالجلوس:
-ارتاحي حبيبتي، هبعتلك كوباية عصير، ربتت فريدة على كتفها قائلة:
-حبيبتي خلِّيتيهم يعملوا الأكل اللي قولت لك عليه؟..
-قصدك الأسماك؟..أه منال عملتهم حبيبتي، فين بابا مصطفى؟..جلست بجوارِ رؤى قائلة:
-بيعمل تليفون خلِّيهم يجهِّزوا السفرة المغرب هيدن
-حاضر، هشوف إلياس ونازلة...صعدت إلى الغرفةِ وجدتهُ يخرجُ من الحمَّام:
-إيه اللي أخرَّك كدا؟..اتَّجهَ إلى غرفةِ الملابسِ وأجابها:
-كان عندي شوية، أمسكتهُ من كتفهِ العاري:
-قابلت راجح مش كدا؟..نظرَ إلى كفِّها المتشبِّثِ به:
-أنا صايم ياميرال ابعدي عنِّي، ولا مبشفشِ القرب دا إلَّا في الصيام؟..
جزَّت على أسنانها وضربت بقدمها متحرِّكةً للخارجِ وهي تتمتم:
-مفكَّرني عبيطة، ماشي يابنِ طنط فريدة..
وصلَ إلى المائدةِ يوزِّعُ نظراتهِ عليها:
جمبري واستكوزا، مطَّ شفتيهِ ينظرُ إلى فريدة التي تبتسم، جذبَ يزن الطعامَ من أمامه:
-واللهِ أنا نفسي مفتوحة، ابنك بيدلَّع..ظلَّت نظراتهِ على الطعامِ لفترةٍ ثمَّ رفعَ نظرهِ إلى والدته:
-لازم آكل من دا؟..
-يجعلك ماأكلت أنا جعان..ضربهُ على كفِّه:
-إيدك يامتخلِّف، شوية وهتاكل دراعي..
-وآكل دراعك ليه؟..ناقص تسمُّم، مش كفاية متحمِّل وجودك، لو كنت موجود قبلِ جوازك من أختي مكنتش وافقت..
-هطردك لو مالمِّتش نفسك.. غمز يزن قائلا:
-وأنا عبيط علشان أسيب الأكل دا..
وصلت ميرال وهي تحملُ سلطةَ الخضرواتِ تضعها على المائدةِ تشيرُ إلى الخادمة:
-هاتي أكل رؤى، طالعتها بحنانٍ قائلة:
-عملت لك الأكل اللي بتحبِّيه..
-عاملة لرؤى الأكل اللي بتحبُّه، وعاملة لجوزك إيه؟..نظرت إلى فريدة التي أردفت:
-اللي قدَّامك مفيش غيره..
ظلَّت نظراتهِ على ميرال التي هربت من محاصرته..انحنى يجذبُ ذراعها بعنف:
-جمبري واستكوزا..قطعَ حديثهم وصولِ مصطفى ينظرُ للطعام:
-جمبري، ليه؟!!مش خير..
تراجعَ بجسدهِ ينظرُ لوالده:
-عندنا واحدة بتتوحَّم عليه، قالها ونهضَ يلقي محرمته..
-حسابنا بعدين...قالها وخطا بعيدًا عن المائدة..هرولت خلفهِ مع ضحكاتِ يزن:
-متزعليش منِّي ياطنط فريدة بس ابنك دا مش وشِّ نعمة والله..
-إلياس استنى، ينفع كدا تقوم من على السفرة في وجود عمِّي ويزن؟..
-أقعد غصب عنِّي يعني، إيه الأكل دا؟.. بتعاندي وخلاص.
اقتربت تتلاعبُ بملابسهِ ونطقت بنبرةٍ خافتة:
-أقدر برضو، أنا عارفة إنَّك مابتحبش الجمبري، بس واللهِ ماما فريدة اللي أصرِّت أعمله النهاردة، علشان خاطري جرَّبه، أنا برضو ماليش فيه، بس عايزة أجرَّبه معاك إيه رأيك؟..
تعلَّقت عيناهُ بدلالها ثمَّ انحنى يهمسُ لها بعضَ الكلماتِ..مما جعلها تدفنُ وجهها بصدرهِ تبتسمُ بخجل، رفعَ ذقنها وتحدَّثَ قائلًا:
-هنجرَّب الجمبري ولَّا أروح أفطر برَّة؟..
لكمتهُ تضحك، حاوطَ خصرها وتحرَّكَ إلى الطاولة، رفعَ يزن رأسهِ وأردف:
-إيه دا، إنتَ مش كنت غضبان يابني؟..
↚
لو لم تكوني أنت في لوح القدر
لكنت صورتك بصورة من الصور
كنت استعرت قطعة من القمر
وحفنة من صدف البحر وأضواء السحر
كنت استعرت البحر والمسافرين والسفر
كنت رسمت الغيم من أجل عينيك وراقصت المطر
لو لم تكوني أنتِ في الواقع
كنت اشتغلت أشهراً وأشهراً على الجبين الواسع
على الفم الرقيق والأصابع
لو لو لو لم تكوني
لو لم تكوني أنتِ في الواقع
كنت اشتغلت أشهراً وأشهراً على الجبين الواسع
على الفم الرقيق والأصابع
لو لو لو لم تكوني
كنت رسمت امرأة مثلك يا حبيبتي شفافة اليدين
كنت على أهدابها رميت نجمتين
لكنّ من مثلك يا حبيبتي ؟
نزار قباني
قبل عدَّةِ ساعات..
بمنزلِ يزن، استمعَ إلى صوتِ هاتفه، رفعه مجيبًا:
-أيوة ياإلياس؟..أجابهُ إلياس بنبرةٍ جادَّة، مما جعلهُ يركِّز بدقة:
- "يزن، فيه حاجة مش مظبوطة في مخزن الشركة، وعرفت مكان رحيل، شوف هتعمل إيه."
أجابهُ يزن منتفضًا بقلق، وهو ينهض من مقعده:
-"ابعتلي عنوان رحيل، ياإلياس، وشكرًا أوي..أمَّا موضوع المخزن، عندي معلومات عنُّه."
- "تمام، بس حبيت تتأكِّد من المعلومة دي..رحيل في شرم الشيخ، يا يزن."
شعرَ يزن بانقباضٍ في صدرهِ وازدادت دقَّاتُ قلبهِ وشردَ بها، ولكنَّهُ تمتمَ بصوتٍ ثابتٍ يخفي توتُّره:
-"طلب أخير يا إلياس، معلش..عايز طيران خلال ساعة ينفع؟"
أجابه إلياس مؤكدًا:
-اعتبره حصل، ولو عايز طيارة خاصة كمان..
- لا، مش للدرجة دي، بس كده أنا فهمت الرسالة اللي جات لي."
نهضَ إلياس من مكانهِ متسائلًا:
- رسالة إيه؟ وليه مقولتش؟"
توجَّهَ إلى خزانته، أخرجَ ثيابهِ بسرعةٍ وهو يضعُ الهاتفَ بين كتفهِ وأذنه، وأردفَ بنبرةٍ خافتة، لكنَّها محمَّلةٌ بالغضب:
- بيهدِّدني...ياأرجَّع له كلِّ حاجة، ياإما هياخد اللي بدوَّر عليه."
تمتم إلياس بقلق:
-"تمام...خلِّي بالك من نفسك، وأنا هكلِّم حد هناك يتابع معاك."
رد يزن بامتنان:
- شكرًا ياإلياس...بجد، شكرًا على كلِّ حاجة."
إبتسمَ إلياس ابتسامةً خفيفةً رغم توتره من حديثِ يزن:
- متقولش كده يا لا، إنتَ قبل ما تكون ابنِ عمِّي، أخو مراتي.
-ربِّنا يخليك ياابنِ عمِّي..وجوز أختي."
قالها بضحكة
بعد ساعات...
هبطت الطائرة في مطارِ شرم الشيخ، نظرَ إلى المكانِ حوله بتيه، ولا يعلمُ لما ارتفعت دقَّاتهِ بأنفاسهِ السريعة، فتحَ هاتفهِ واتَّصلَ بكريم:
- كريم، عرفت هتعمل إيه؟ شوف إلياس هيكون معاك، وعايز الكلِّ يعرف إنِّي في الشركة."
أجابهُ كريم بعزيمة:
-اعتبره حصل، يا معلم..."
استقلَّ سيارةَ أجرة، واتَّجهَ إلى الفندق الذي تمكثُ به رحيل، بينما تحرك كريم إلى الشركة ليعلن وجود يزن بداخل الشركة
عند رحيل قبلَ قليل...
دلفت إلى غرفتها وألقت هاتفها على الطاولة، ثمَّ نزعت حذاءها، وتحرَّكت للداخل، لحظة واحدة...وشعرت ببرودةِ شيئٍ ما يلامسُ رأسها..تجمَّدت أطرافها، ولم تستطع حتى التقاطَ أنفاسها.
نطقَ أحد الرجالِ بصوتٍ خشن: "هتتحرَّكي، هموِّتِك."
تسارعت دقَّاتُ قلبها وتوقَّف عقلها للحظات، ولكنَّها فاقت سريعًا بعدما تسلَّلَ الخوفُ لجسدها، فوقعت عيناها على المصباحِ الذي يقاربها، بسطت يدها بلا تفكير، وأمسكت بالمصباحِ بكلِّ قوَّتها وضربتهُ فوق رأسِ الرجل..سقطَ متأوِّهًا، واستغلَّت اللحظة، دفعت بابَ الغرفةِ وأغلقتهُ بسرعة، ثمَّ هرولت خارجَ الغرفةِ حافيةَ القدمين، تصرخُ طالبةً النجدة..
تلفَّتت حولها بذعر، لم تثق في أحد، رغم خروجِ بعض النزلاءِ على صوتِ صراخها..فجأة، ظهرَ أمامها ذلك الرجل... الرجلُ الذي كانت تشعرُ بمراقبتهِ لها منذ فترة...
ارتفعَ صوتهِ محاولًا تهدئتها، لكنَّ عقلها لم يستطع استيعابَ أيَّ شيء، كلَّ ما تفكِّرُ فيه هو النجاةَ من ذاك المجهول…صاحَ الرجلُ حتى وصل صياحهِ للمجهولين، ليصلوا أمنَ الفندق واقتحموا غرفتها...
بذلك الوقت...
ترجَّلَ يزن من السيارة، لم ينتظر حتى تستقرَّ قدماهُ على الأرض، اندفعَ إلى الاستقبالِ بخطواتٍ سريعة، عينيهِ تبحثانِ عنها بجنون.
دلفَ سريعًا الى أن توقَّفَ أمام الاستقبال:
- لو سمحتي، رحيل العامري نازلة في أنهي جناح؟"
نظرت الموظفةُ إلى جهازها، ثمَّ رفعت عينيها إليه بنظرةٍ متوترة..ثم أجابتهُ الموظفة بهدوءٍ رغم تجلجلِ كلماتها:
-أستاذة رحيل في غرفة المسؤولين."
انتفضَ قلبهِ وكأنَّهُ سقطَ بين ساقيه:
-مسؤولين!!ليه؟..قالها منتظرًا إجابتها بلهفةِ مقاتلٍ على الحدود، ولكن قطعَ لهفتهِ خروجها ببطء، بخطواتٍ ثقيلة، وجسدٍ هزيل، عيناها تحملانِ أثرَ الخوف، وكأنَّها خرجت للتوِّ من معركة..
هنا شعر بشيءٍ يشبهُ اللهبَ يشتعلُ في صدره، غضب..قلق..وألم، لم يعرف له اسم..تحرَّكَ نحوها دون أن يشعرَ بساقيهِ التي تطير، ليصلَ إليها ودون حديثٍ جذبها بقوةٍ بين ذراعيه..بعدما ترنَّحَ جسدها وتشوَّشت الرؤية أمامها..
عند إلياس..
كان امسكُ بهاتفهِ، عينيهِ تلمعانِ بحدَّة، وملامحهِ متجهِّمة، وكأنَّهُ يحاولُ استيعابَ حديثِ الرجلِ الذي يراقبُ رحيل....
- طيب، اتمسك ولَّا هرب؟
أجابهُ بنبرةٍ مُحمَّلةٍ بالهزيمة:
- للأسف يا باشا، هرب…بس الكاميرا لقطته.
ضغطَ إلياس أصابعهِ على المكتب، ثمَّ نقرَ عليه ببطء، وشردَ في الفراغ، وعيناهُ تنطقُ بالغضب، وعقلهِ يعملُ بدهاءٍ محاولًا الاتِّزان..تنفَّسَ ببطء، وردَّ بنبرةٍ واثقة:
- اتواصل مع جماعتنا، عندك الصور وهمَّا هيساعدوك..
- تمام يا فندم..قالها الرجل قبل أن ينهي المكالمة.
تراجعَ إلياس في كرسيه، ينظرُ إلى نقطةٍ غير مرئيةٍ في الفراغ، أفكارهِ تتصارع، وصوتُ عقلهِ يهمس:
"هشوف آخرك يا راجح…مفكَّرني همشي معاك بالقانون؟ لا..اللعب هيكون على المكشوف."
لحظةُ صمت، قبل أن يقطعها دخولُ الساعي وهو يضعُ فنجانَ القهوةِ بعنايةٍ أمامه...ثمَّ رفع رأسهِ وتطلَّعَ إليه :
- تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟
أشارَ له إلياس بالخروجِ دون أن يرفعَ عينيه:
- لا…هشرب القهوة وأروح..وإنتَ كمان، شوف شريف لو هيروح ولَّا هيبات، وبعدها امشي.
- حاضر يا باشا.
قاطعهما دخول شريف مندفعًا، تنطقُ ملامحهِ بالقلق:
-سمعت اللي حصل؟
رفعَ إلياس حاجبًا، يخفي اهتمامهِ خلف قناعِ البرود:
- خير… فيه إيه؟
تقدَّم وجذبَ مقعدًا أمامه، ثمَّ تنهَّدَ وأردفَ بصوتٍ خافتٍ لكنَّهُ متوتر:
- شركة العامري ولَّعت…وفيه أخبار بتقول إنِّ يزن السوهاجي جوا.
مرَّرَ إلياس لسانهِ على شفتيهِ ببطء، كمن يتذوَّقُ قهوته، التي رفعها يرتشفُ منها..
ولم يظهر عليه الذعر، ثم أومأ برأسهِ بهدوء:
- المطافي راحت ولَّا لسه؟
قطَّبَ شريف جبينه، اقتربَ بجسدهِ للأمام يحاولُ قراءة ملامحه:
- شايفك مش متفاجئ يعني؟…
رفعَ فنجانهِ ورشفَ منه رشفةً بطيئة، وكأنَّ الحديثَ لا يعنيه. ثمَّ وضعَّ الفنجانَ على المكتبِ ونهض، يرتِّبُ سترته ليرتديها:
- مش هتروح ولَّا إيه؟ الساعة داخلة على واحدة، قوم قوم، الليلة وترية، صلِّي ركعتين وادعي ربِّنا بترقية حلوة.
لكنه، وقفَ أمامه، بنظراتٍ متفحِّصة:
- إلياس…إنتَ السبب في حريق شركة العامري؟
توقَّفَ إلياس عن ترتيبِ سترته، ثمَّ زفرَ ببطء، و التفتَ إليه بنظرةٍ ساخرةٍ متمتًا:
- توبة يا ربي توبة على الغباءِ اللي عندي…
رمقهُ شريف بشكّ، لكن إلياس أكملَ بسخرية :
- وأنا هستفاد إيه يا غبي لمَّا أولَّع في الشركة؟
هزَّ شريف رأسه، وأردفَ بصوتٍ مليءٍ بالريبة:
- وحياة سيادة اللوا، الموضوع ده فيه إنَّ..
ابتسمَ إلياس ابتسامةً جانبيةً وهو يتِّجهُ إلى الباب، قبل أن يغمغمَ بتهكُّم:
- آه، "إنَّ" و"كان" والأسماء الخمسة وولاد عمامها…
قالها ثمَّ غادر، بينما توقف شريف والشكوك تتراقصُ في عقل
وصلَ إلياس إلى منزلهِ بعد ليلةٍ طويلة، تخلَّلها ضغوطُ العمل..ورغم ذلك تلاشى كلَّ التعب، عندما ترجَّلَ من سيارتهِ ووقعت عيناهُ عليها..
كانت تجلسُ على العشب، تحملُ طفلهما بحنان، تلاعبهُ بأناملها، وابتسامتها الهادئةِ تذيبُ أيِّ تعبٍ في الدنيا...وجهها المنيرُ تحت ضوءِ القمر كأنَّهُ لوحةً لمبدع، أبدعَ برسمها، ولما لا والمبدعُ الخالقُ هو الله، توقَّفَ لحظة، يراقبُها وروحه تتلهفها، ظلت عيناه ترسم كل حركة تفعلها، يقسم بداخله أنه ينعم بالجنة بقربها، ابتسم متذكر لحظاتهما بالأمس بعد عودتهم ثمَّ اقتربَ بلهفة، ألقى السلام بصوتٍ خافت، ثمَّ انحنى نحوها، طبعَ قبلةً دافئةً على وجنتها
-"عاملين إيه؟" همسَ وهو يمدِّ يديهِ ليحملَ يوسف، ثمَّ رفعهُ في الهواءِ عاليًا، فضجَّت ضحكاتُ الطفلِ البريئةِ تملأُ المكان بفرحٍ نقي، نظرت ميرال إليهما بابتسامةٍ حالمة، ترسمُ كلَّ تفصيلةٍ في وجهه، وكأنَّها تراهُ بعينِ عاشقةٍ للمرًَّةِ الأولى.
اقتربت منهُ برقَّة، وتناولت يوسف منه بحذر، ثمَّ نادت على مربيته، و عينيها معلقتينِ به، تراقبُ كلَّ إنشٍ في ملامحه..
غادرت المربية بيوسف عن ناظريهما، حتى اقتربت منهُ أكثر، استندت على ذراعِ المقعدِ بجواره، ثمَّ همست بنبرةٍ قلقة:
"اتأخرت ليه؟ مش كنت بتقول هنروح الفيلا النهاردة؟"
أمسكَ بكفَّيها، وجذبها نحوهِ بحركةٍ رقيقة، حتى أجلسها على ساقيه، ضمَّها بقوَّةٍ بين ذراعيه، وكأنَّهُ يخشى أن تبتعد، ودفنَ رأسهِ في عنقها، أخذَ نفسًا طويلًا، يحاولُ اختزانَ رائحتها داخله، وكأنَّها الأكسجين الوحيد الذي يحتاجهُ ليبقى...وأجابها بأنفاسٍ حارة:
- كان عندي شغل، معرفتش..قالها بصوتٍ هادئ، رفعَ رأسه، نظرَ إليها بعينينِ تحملانِ كم الاشتياقِ الذي لم يستطع قوله، ثمَّ أكملَ بصوتٍ أهدأ: "المهم...إنتي عاملة إيه؟"..وحشتيني!!
رفعت يدها تلامسُ وجنتهِ بحنان، وإبهامها يمرُّ بخفَّةٍ على ملامحهِ المتعبة، تحاولُ أن تسحبَ منه أيَّ حزنٍ صامت، غرقت في عينيهِ قائلة:
- إلياس، إنتَ مخبي عليَّا حاجة؟..هزَّ رأسهِ بالنفي..فتساءلت:
-ليه يزن سافر شرم الشيخ؟ وليه رحيل سافرت من غير ما تقولُّه؟ مش هوَّ جوزها؟"
أشاحَ بوجههِ للحظة، وتمتمَ بنبرةٍ جعلها متَّزنة، بعدما تسلَّلت الغيرةُ إلى قلبه:
"ميرال، بقولِّك وحشتيني، تسألي عن يزن ورحيل؟"رفعت يدها تلامسُ وجنتهِ بإصبعها..
-وإنتَ كمان وحشتني أوي، بس جاوب الأوَّل، ليه رحيل…
لم يمهلها الفرصة، فقاطعها فجأة:
"قومي من على رجلي."
نظرت إليهِ بذهول، وانعكست الصدمةُ على عينيها غير متوقِّعةً ردَّةَ فعلهِ بهذا الشكل، فقط لأنَّها سألت سؤالًا..تمتمت بدهشة، نبرتها منخفضة لكنّّها مشحونةً بالذهول:
"ده ليه؟ علشان بسأل عن يزن؟"
نهضَ من مكانه، وتحرَّك بخطواتٍ واسعة، ثقيلة، توجَّهَ إلى الداخلِ دون أن يلتفتَ إليها، تاركًا إيَّاها خلفهِ مذهولة..
ظلَّت مكانها للحظات، تنظرُ إلى الفراغِ الذي تركهُ خلفه، ثمَّ زفرت بضيق، همست وكأنَّها تحدِّثُ نفسها:
"وبعدين بقى..هوَّ ليه زعل بالشكلِ ده؟"
تحرَّكت للداخلِ سريعًا بعدما تذكَّرت شيئًا، دلفت إلى المطبخِ ونادت على الخادمة:
- منال..رؤى لسة نايمة؟..
- أيوة يامدام..أومأت لها وهي تجذبُ الأطباق:
-طيب هاتي العصير وخرَّجي الفراولة والكريز من التلاجة..
-حضرتك ارتاحي وانا أجهِّزهم..عارضتها تشيرُ بعينيها:
-نفِّذي وإنتي ساكتة وبس..قالتها وهي تقومُ بتقطيعِ قالبِ الكيك، ثمَّ تناولت الشيكولاتة ووضعتها باحترافيةٍ فوقه، تمَّمت كلَّ ماتريده، لتشيرَ إلى الخادمة:
-طلَّعي دي عند رؤى، ومتنسيش تديلها العلاج..قالتها وتحرَّكت تحملُ ما أنجزتهُ اليوم..ولجت إلى الداخلِ بهدوءٍ حتى لا تلفتَ انتباهه، تعلَّمُ أنَّهُ يقيمُ صلاةَ القيام، وصلت إلى الداخل، بعدما لمحت ظهرهِ وهو يصلي، وضعت مابيديها على الطاولةِ بالشرفة، وقامت بإغلاقِ الإنارة، سوى فانوسِ رمضان الذي يعلَّقُ بجانبِ الجدارِ بألوانهِ الزاهيةِ المبدعة، اتَّجهت إلى غرفةِ ملابسها وانتقت شيئًا مناسبًا، مع نثرها لعطرها المميَّز، ووضعِ القليلِ من الزينةِ التجميليةِ على وجهها، نظرت برضا على طلَّتها، ثمَّ جذبت وشاحًا خفيفًا تضعهُ على أكتافها، وخرجت متَّجهةً إلى غرفةِ ابنها، دلفت للداخلِ وجدت المربية قد أنهت استحمامه، قبَّلتهُ بحنانٍ ثمَّ أشارت إليها:
-خلِّيه كدا الجو حر أوي، بلاش تكييف لو عيَّط شغَّليه..
-حاضر يامدام..ظلَّت تنظرُ إلى طفلها للحظاتٍ ثمَّ انسحبت للخارج، قابلتها رؤى تتحرَّكُ بصعوبةٍ وهي تحتضنُ جسدها، توقَّفت أمامها:
-رايحة فين حبيبتي؟..ابتسمت لها وتمتمت:
-هتمشى شوية، تعلَّقت أعينُ رؤى بما ترتديهِ ميرال لتتساءل:
-هوَّ إنتي كنت تحت كدا؟!!إلياس وافق؟..
أشارت إلى غرفةِ صغيرها متمتمة:
-لا حبيبتي كنت بشوف يوسف..
-هوَّ إلياس فين؟..رغم شعورِ ميرال بالغضبِ من سؤالها إلَّا أنَّها أجابتها بابتسامة:
-بيصلي عايزة حاجة؟..هزَّت رأسها بالنفي، ثمَّ اقتربت منها تستعطفها:
-ميرو ممكن تخلِّيه يسامحني..ربتت على كتفها وردَّت قائلة:
-سبيه لمَّا يروق، جوزي وعرفاه، أنا اللي حبيبته عاقبني أربعة شهور، تخيَّلي إنتي هيسامحك إزاي…
ردَّت سريعًا دون تفكير:
-ماهو بيحبِّني برضو وأكيد هيسامحني بسرعة، يمكن قدِّ المدَّة بتاعتك بدليل أنُّه رفض أرجع الفيلا..
أشارت ميرال للخادمة:
-خلِّي بالك من أستاذة رؤى.
-ميرال إنتي زعلتي علشان بقولِّك هيسامحني بسرعة؟..أكيد إنتي عارفة العلاقة بينا..دقَّقت ميرال النظرَ إليها للحظات، ثمَّ أردفت بنبرةٍ تحملُ الثقة:
-لا حبيبتي هزعل ليه، يمكن فعلًا زي مابتقولي علشان علاقته الأخوية بيكي، أمَّا أنا فطبيعي يعمل كدا يارؤى، صعب لمَّا شخص تعتبره روحك ويسحب منَّك النفس أو الروح، أصلك مجربتيش الخذلان، فللأسف أنا بعترف إنِّي خذلت إلياس كتير، بس على قدِّ مازعل منِّي مقدرشِ يرتاح بعيد عنِّي، بكرة لمَّا تحبي هتحسِّي بدا، أهمِّ حاجة إنِّك تحسِّي بالإنسان دا شايفك إيه..
-وإنتي شايفة إلياس شايفك إيه ياميرال؟..قالتها بلسانٍ ثقيل..اقتربت منها خطوة وعينيها تحدجها:
-شايف فيَّا حياة إلياس يارؤى، زي ماأنا شايفة فيه حياة ميرال، يعني لو هوَّ موجود ميرال موجودة، أمَّا لو مش موجود..ميرال مالهاش وجود، ياله
انزلي اتمشي تحت بس خلِّي بالك من نفسك..قالتها ودلفت إلى جناحها تغلقُ البابَ وتستندُ عليه، تنظرُ إلى زوجها الذي مازال يصلِّي بعيونٍ محتجزةٍ بالدموع، ماذا عليها أن تفعل وهي ترى لهفةُ رؤى عليه، الفكرة نفسها كادت أن تنحرَ عنقها بسكينٍ بارد..استندت تلتقطُ أنفاسها بهدوءٍ محاولةً التنفُّس، وشردت بعلاقتهما التي أصبحت سوية، فاقت من شرودها على صوته:
-ميرال بتعملي إيه عندك؟..تعلَّقت نظراتها به بصمتٍ إلى أن اقتربَ منها:
-حبيبتي واقفة كدا ليه؟..ألقت نفسها بأحضانهِ وعانقت رقبتهِ تدفنُ نفسها بهِ كأنَّها تريدُ أن تختبئَ داخل قلعتها...ضمَّها بقوَّةٍ يرفعها إليه حتى سقطَ الوشاحَ من فوقِ أكتافها..لتظهرَ منامتها الرقيقة تحتَ عينيه، تحرَّكَ ومازالت بأحضانه، همسَ بحنان:
-إيه اللي حصل؟..وكنتي فين بالهدوم دي؟..خرجت من أحضانهِ ولم تشعر بنفسها سوى وهي تقبِّلهُ وكأنَّها تثبتُ لنفسها أنَّه ملكها وحدها، راقَ لهُ فعلتها ليتولَّى مهمَّتها بقوَّة، ونبضُ عازف، لتتلاحمَ القلوبُ قبل الأجسادِ في قصيدةِ عشقٍ..شطرها النبضُ وحروفها الهمسات التي توحي بكمِّ العشق، ناهيكَ عن نقاطِ سجعها المترادفِ بالإيقاعِ الموسيقي المتذبذبِ بالصدور، فترةٌ لا يعلمُ كم مرَّ عليهما من الوقت، لا يريدا أن يلتفتا للوقتِ حتى لا يُبترَ العزفُ باللحنِ الرومانسي، أخيرًا انتهت نيرانُ الاشتياقِ رغم ارتفاعِ النبضِ القابعِ بالصدور، خلَّل أناملهِ بخصلاتها يستمعُ إلى مايؤرقُ روحها، ليعتدلَ متَّكئًا على ذراعيهِ يفترسها بعينيه:
-وإنتي إيه رأيك بكلامك دا؟..اقتربت تدفنُ نفسها بأحضانه:
-الموضوع تعبني..بس مش شك، والله ماشك قدِّ ماهوَّ مؤلم..رفعت رأسها تنظرُ لعينيه:
-عارف إحساس إنَّك قاعد جنبِ حد وإنتَ عارف عينه على حاجة ملكك؟..
اعتدلَ يجذبُ سجائره، ثمَّ نفثَ دخانها بالفراغ، واتَّجهَ بنظرهِ إليها:
-ميرال مفيش مشاعر لرؤى من ناحيتي، أنا متأكد من اللي بقوله، ومعرفشِ ليه بتعمل كدا، بس هي شايفة فيَّا البطل اللي حبِّته، فاكرة موضوع المعيد بتاع الجامعة؟..من وقت ماغصبت عليه يتجوِّزها ويطلَّقها، هيَّ هنا فرحت بهيبة إلياس..بس مش حبّ أبدًا، عايزك متخافيش من الحتة دي..
-بس دي أختي ياإلياس..
-يعني إيه أختك ممكن أفهم؟..اعتدلت تضعُ رأسها على صدرهِ وذهبت بشرودٍ مزعج:
-مش عارفة بس هيَّ صعبانة عليَّا..
أمالَ بجسدهِ على أذنها:
-أنا شايف إنِّ جوزك اللي يصعب عليكي، علشان دمَّرتي حياته..
هبَّت من مكانها متناسيةً حالتها التي كانت عليها:
-دمَّرتك!!..أنا..ليه؟..أوعى تقولِّي حصلك حاجة في الشغل بسبب إنِّي بنتِ راجح، أيوة كنت عارفة أنُّهم لمَّا يعرفوا هيدمَّروك..وضعَ أناملهِ على شفتيها واقتربَ يهمسُ بجوارِ ثغرها حتى لمست خاصتهِ إيَّاه، ليرتفعَ نبضُ قلبها من حركتهِ وحديثهِ الذي تسلَّلَ لقلبها قبلَ أذنها حينما قال:
-دمَّرتي ثبات إلياس، ومبقاش قادر يبعد عن نار قربك، حرقتيني يابنتِ مدام فريدة، ورغم الحرقِ دا مستمتع جدًا، بقيتي عاملة زي المخدِّر اللي بيهدِّي الألم..
-ألم ياإلياس!!..أنا ألم؟..
سحبها لتقبعَ بأحضانهِ وحاوطها بذراعيه:
-أصعب ألم..مالوش علاج، شوفتي أصعب من ألم الحرق ياميرال، إنتي الحرق نفسه، قوليلي إزاي أتعافى منُّه وأنا مش قادر…لازم يوم عن يوم جرعته تزيد، علشان أتحمِّل قوِّته..
مرَّرت أناملها على وجهه، بعدما طبعت قبلةً سريعة، وغاصت بمتعةِ النظرِ إليه:
-للدرجة دي حبُّي مؤلم؟..رفعَ كفَّها وقبَّله:
-للدرجة دي برتاح في حضنك، ابتسمت وحاولت الهروبَ من نظراتهِ الافتراسية:
-عارفة إنَّك اتغيَّرت علشاني، ودا مخلِّيني أسعد انسانة في الدنيا..
كرَّر فعلتهِ بالاقتراب منها مرَّةً أخرى وهمسَ بصوتهِ الأجش:
-مش قدِّ سعادتي ياميرا، وأنا هنا..أغمضت عينيها تتذوَّقُ بسمعها حلاوةَ كلماته..
-ايه حكاية ميرا دي ياالياس
-ميرا دي خاصتي انا، هنا سكنت وعذبت وتمادت بس على قلبي زي العسل..حاوطت عنقه ولمعت عيناها بالسعادة
-عايزك كدا على طول، سعيدة، قرأت المقال اللي عملتيه على الجماعات الإرهابية اللي بيتاجروا بالدين، فخور بيكي اوي
-وأنا كمان..قالتها بهمس خافت اذابه، مما جعله ينحني يضع جبينه فوق جبينها
-وانت ايه ؟!
-فخورة بجوزي، خلتني أحب أمن الدولة اللي كنت بعاديه
ارتفعت ضحكاته غامزًا
-حلو مش كدا ..قطبت جبينها ونهضت من أحضانه متجهة إلى الحلويات التي احضرتها
-وأنا كمان حلوة ماتستهبلش
رفع حاجبه ساخرًا وردد بنبرة اعتراضية:
-دا غرور بقى ..جلست أمامه ووضعت حبة من الفراولة بفمه قائلة
-دي ثقة ياحبيبي، مش غرور، علشان تعرف استحملت ورضيت بيك، متجوز ملكة جمال تنكر اخدتها اربع سنين في الكلية والكل كان هيموت على ميرال ..دفعها حتى هوت على الفراش مع ضحكاتها بعدما أصابت هدفها
كبل ذراعيها ونظر إليها بنيران الغيرة التي اشعلتها داخل صدره
-بتقولي ايه ؟!
وضعت فراولية أخرى ثم قالت
-بقول عايزة اكل فراولة ...قالتها مع ارتفاع أنفاسها من وضعهما، دقيقة واحدة كفيلة أن يجعلها كالفراشة التي تترنم بين الازهار وهو يذيقها من العشق مايصهر القلوب
اعتدل مبتعدا وكأنه خرج من مارثون رياضي، ولم يشعر بنفسه وهو يسحب الوعاء الذي يحمل فاكهة الفراولة متحركا به إلى الشرفة
-هستناكي في البلكونة، توقف مستديرا يشير إلى قميصه
-ألبسيه ولمي شعرك، هزت رأسها بصمت مع ارتفاع أنفاسها تهرب من نظراته
بمنزلِ آدم…
دلفَ إلى غرفتهما وجدها مازالت تقيمُ صلاةَ القيام، انسحبَ بهدوءٍ متَّجهًا إلى المطبخ، تجوَّلَ بنظراتهِ على أرجاءِ المطبخِ يهمسُ لنفسه:
-طيب فين البن؟..سميحة الشغالة نايمة، أصحِّيها ولَّا أستنى لمَّا إيلين تخلَّص صلاة..تحرَّكَ يبحثُ في خزانةِ المطبخِ حتى وجده، فتحَ الثلاجة وأخرجَ علبةُ اللبن، ثمَّ قامَ بتشغيلِ ماكينةِ القهوة، وأشعلَ النارَ لتحضيرِ كوبَ لبن لزوجته..دقائقَ وانتهى ممَّا يفعلهُ بعد تجاربهِ الكثيرةِ لتحضيرِ كوبَ قهوته..
حملهُ يرتشفُ منه بعضَ الرشفات، زمَّ شفتيهِ قائلًا:
-مش بطَّال، أهو نصِّ العمى ولا العمى كلُّه يادوك، لازم تتعلِّم، جه الوقت اللي تعتمد على نفسك في كلِّ حاجة، إنتَ في السفر كنت أنشط من كدا، كان ناقص المحشي وأبقى طبَّاخ بريمو، دلوقتي فنجان القهوة مش عارف أعمله..
-آدم بتكلِّم نفسك حبيبي؟..استدارَ إليها وأفلتَ ضحكةً رجولية يشيرُ إلى كوبِ قهوته:
-بكلِّم القهوة ياروحي، بحاول أظبَّطها،
اقتربت منه وعيناها على الذي يمسكه:
-قهوة ياآدم..دلوقتي..
شهقَ مستديرًا إلى موقدِ الغاز:
-كدا اللبن اندلق، مش تصحصحي معايا ياإيلي؟..
ضحكت مقتربةً منه وسحبتهُ بعيدًا عن الموقد، ثمَّ سكبت اللبن المتبقِّى بالكوبِ وتحرَّكت معه للخارج:
-أنا برضو اللي أصحصح، امشي يادوك، شوية لبن ودلقتهم، وبتقولِّي هساعدِك..
حاوطَ أكتافها ودلفَ إلى غرفةِ المعيشة:
-اشربي اللبن، علشان نراجع مع بعض محاضرات الدوك البارد..
رفعت عيناها التي لمعت بعشقه:
-متغلطشِ في الدوك بتاعي لو سمحت، دا مش مسموح لحدِّ يغلط فيه..
مسَّدَ بكفَّيهِ على خصلاتها ثمَّ جذبها لأحضانه:
-والدوك بيقولِّك هوَّ أسعد راجل على وجهِ الأرض، بيحبِّك أوي أوي وبيشكرك علشان سامحتيه وسمحتي له بفرصة تانية..
دفنت وجهها بصدرهِ مردفة:
-حبيب قلبي إنتَ ياآدم، صعب أنسى أوَّل من دقّ له القلب يادوك.رفعَ ذقنها وانحنى يحتضنُ ثغرها لينثر لها ترانيمَ عشقهِ ..دقائقَ وهي بجنَّةِ عشقه، حتى تراجعَ يُغلقُ شاشةَ التلفازِ ويجذُبَ كتبها، يضعها أمامهِ يشيرُ إلى أحضانه:
-تعالي هنا علشان المعلومة توصل بسرعة..وضعت رأسها على كتفهِ وردَّت مبتسمة:
-لا بلاش، أنا مش ضامنة نفسي..قهقهَ عليها وهو يسحبها بقوَّةٍ حتى سقطت بأحضانه..وأردفَ من بين ضحكاته:
-متخافيش أنا ضامن نفسي..
ظلَّت ضحكاتهما لبعضِ الدقائق، صمتت تحدجهُ بنظرةٍ علمَ ماهيتها:
-أنا عارف إنِّك اضيَّقتي النهاردة من اللي حصل في الجامعة، بس واللهِ أنا كنت عايز أعملهالك مفاجأة..
-ليه البنت دي لسة بتلاحقك؟..
تراجعَ بجسدهِ يسحبها معه وأجابها:
-علشان مغرورة، إزاي أرفضها، اللي زيها بيكون مريض بيحاول يستولى بأيِّ طريقة على الإنسان اللي عرَّاه قدَّام نفسه..
-آدم أنا اضيَّقت جدًا منها، مش عارفة المرَّة الجاية ممكن أعمل إيه..
خلَّلَ أناملهِ بخصلاتها يمشِّطها بهدوءٍ وأردف:
-أنا سعيد وفخور بيكي أوي، اللي عملتيه النهاردة حسِّسني بقيمتك أوي ياإيلي، وبشكر ربِّنا إنِّك مراتي..
تمسَّحت بصدرهِ تضعُ رأسها بحضنهِ.. وذهبت بذاكرتها لصباحِ اليوم..
صعدت سريعًا إلى مكتبهِ كي تتأكَّدَ من وجوده، فتحت البابَ إذ بها تقفُ متجمِّدة وهي ترى حنين تجلسُ بمقابلتهِ تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى، وصوتها الذي تردَّدَ بأذنِ إيلين كصوتِ الرعدِ حينما قالت:
-بلاش أبارك لك يادومي..رمقها بنظرةٍ مشمئزة:
-وأنا مستغني عن المباركة دي، ليه عايزة تفكرني بأبشع ايام حياتي، رفعَ رأسهِ بعدما شعرَ بدخولِ أحدهم ليتمتم:
-إيلين ...قالها وخطا إليها بقلبٍ ينتفضُ بالخوفِ على أن تسيئَ الظن، حاوطها وسحبها للداخلِ وحاولَ التحدُّث..ولكنَّهُ فشلَ بعدما أنزلت كفَّيهِ واقتربت من حنين
-أهلًا مدام حنين، ياريتك عرَّفتينا، أو زورتينا في البيت..على الأقل كنَّا علمَّناكي الأصول..أشارت إليها بأرجاءِ الغرفة وأردفت بتذمُّر:
-آسفة معلش زي ماإنتي شايفة في الجامعة، ودا مكان طاهر، مش علِّموكي إنِّ الحرم الجامعي مكان للعلم مش للحاجات التانية؟..
هبَّت حنين مقتربةً منها تطلقها بقذائفَ من عينيها:
-إنتي بتقولي إيه يابت؟..إنتي ناسية ممكن أعمل إيه؟..ولولا وجودي وتدخُّلي مكنشِ الدكتور خرج..
اقتربت إيلين أكثر وسحبت المقعد وجلست بمقابلتها، تضعُ ساقًا فوقَ الأخرى:
-أوَّلًا هراعي شعورك، ماهو شعور الهزيمة والفشل وحش، زي نكسة 67 كدا للمصريين، طبعًا إنتي مش عارفة الشعور دا إيه، لأنِّك سوري نو إحساس، بس فيه عندنا مثل مصري بيقول الستِّ اللي تجري ورا راجل متجوِّز تبقى إيه...أوبس، لساني مش قادر ينطقها، أصلي متربيَّة ومحترمة، أمَّا لو زعلانة على كلامي، فسوري للمدام لأنَّها بتفهم بعقلها اللي يشبهها، دقَّقت النظرَ بها ورمقتها باستهزاءٍ وتابعت حديثها تحت استشاطةِ عيناها:
-أنا قصدي الجامعة للتعليم مش للمباركات، ولو كنتي جيتي بيتي كنت عرفت أرحَّب بيكي، غير طبعًا إنِّنا في نهار رمضان وصايمين، ولَّا المدام عندها عذر شرعي؟..
رمقت حنين آدم بنظراتٍ ناريةٍ تشيرُ إلى إيلين وأردفت بنبرةٍ تحملُ الغضب:
-إنتَ إزاي سايبها تشتم فيا كدا؟..دا جزاتي على اللي عملته معاك..
توقَّفت إيلين تشيرُ إلى آدم:
-آسفة حبيبي ممكن تسمح لي بالرد، التفتت قبل أن ينطقَ آدم وردَّت بقوَّة:
-عملتي إيه؟..قتلتي القتيل ومشيتي في جنازته، وعلى العموم ياستِّي شكرَ الله سعيكم..قالتها وأشارت إلى الباب:
-اتفضَّلي برَّة مش مرَّحب بيكي..
-آدم ..قالتها حنين مزمجرة..
-مش عايز أشوف وشِّك ياحنين، وعلى ماأظن أخدتي تمن عملتك، يعني زي ماقالت إيلين قتلتي القتيل وأخدتي تمنه..
قاطعتهُ إيلين مردِّدة:
-أوعي تفكَّري هتتهنِّي بأيِّ قرش أخدتيه لوي دراع، إنسانة قبيحة..قالتها وتحرَّكت للخارجِ قائلة:
-آدم هستناك في المدرَّج ..
اقتربت حنين منهُ وأردفت:
-خسارة ياآدم فكَّرتك أعقل من كدا..
-امشي ياحنين، حاولي تحافظي على شوية الكرامة اللي عندك..دا لو لسة فيه كرامة، بس أنا بشكرك على إنِّك فتَّحتي عينيَّ على حاجات كتيرة، وأوَّلها إزاي الباشا أبوكي عمل ثروة، ياريت تنفعكم..
-آدم.. دقائق ودلفت إيلين تشيرُ إلى أمنِ الجامعة:
-الستِّ دي إزاي تدخل الكلية وهي مالهاش صلة؟..لازم أعمل محضر لأنَّها جاية تهدِّدني بمسائل شخصية جوا الكلية..
توقَّفت تطالعها بصدمة، اقتربَ منها الأمنُ متسائلًا عن البطاقة..صاحت بغضبٍ تدفعهم واقتربت من إيلين:
-مش حتة بنت زيك تهدِّد حنين الشهاوي..قاطعتها إيلين:
-خدوها برَّة ولَّا تتقدِّموا للمحاسبة القانونية..لا هي مصرية ولا ليها علاقة بالجامعة كلَّها..
-دكتور آدم..إيه رأيك في كلام الدكتورة؟..استدارَ إلى إيلين التي تنظرُ إليهِ بلهفةٍ منتظرةً ردِّه، مع صيحاتِ حنين..نطقَ آدم قائلًا:
-دكتور إيلين بتقول الحقيقة، دي واحدة جاية تهدِّدنا بمسائل شخصية..
سحبها الأمن مع صرخاتها وسبِّها لآدم وإيلين..
-إيلين مكنتش أعرف إنَّها جاية، كنت عايز أعملِّك مفاجأة صدَّقيني..
-هستناك في القاعة حبيبي..قالتها وتحرَّكت سريعًا للخارج..خرجت من شرودها على فتحهِ لأحدِ الكتب، يشيرُ إليها:
-إيه رأيك نبدأ بالتقيل الأوَّل؟..
ابتسمت تهزُّ رأسها بإرهاق..شعرَ بها فبسطَ كفَّيهِ يعيدُ خصلاتها للخلف:
-حبيبتي مالك تعبانة؟..
-ضهري وجعني، يمكن علشان وقفت فترة وأنا بصلِّي القيام..
-أيوة، ليه اتأخرتي كدا في الصلاة؟..
تراجعت تستندُ بظهرها عليهِ وردَّت:
-اتعوِّدت حبيبي أصلِّي بصلي بجزء كامل..
أعدلَ جلسوها واحتضنَ وجهها:
-إيلين حبيبتي إنتي حامل مش شرط تصلِّي القيام، وبعدين دا المفروض تفطري كمان..مسموح لك بدا..
هزَّت رأسها رافضةً حديثه..ثمَّ أردفت باقتناع:
-عارف ياآدم إيه اللي بميِّز رمضان عن أيِّ شهر؟..رغم في كلِّ الأيام قيام وقرآن، إنَّك بكلِّ سنة أعضاءك كلَّها حاضرة وإنتَ عارف ومتأكِّد أنُّه شهر حسنات..لازم تتسابق فيه علشان تجني الأكتر والأكتر..ابتسمت وهزَّت رأسها قائلة:
فضل القيام في رمضان له طعم تاني، شعور مش عارفة أوصفه إزاي بس بجد طعمه زي الأمِّ المحرومة من ابنها كان في السفر وفجأة رجع لها، بتبقى مش عارفة تعملُّه إيه ولَّا إيه من كترِ فرحتها... وبعدين نسيت فضلِ القيام ولَّا إيه يادوك؟..
حاوطها بذراعهِ وأجابها بفخرٍ لما تقوله:
- لا، حبيبتي عارف فضل قيامه
"قربةٌ إلى الله ومنهاةٌ عن الإثمِ وتكفيرٍ للسيئاتِ ومطردةٍ للداءِ عن الجسد."
صفَّقت له كدعابةٍ ثمَّ أكملت:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ فِيهِ بِعَزِيمَةٍ، فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ...
شوفت يادوك الموضوع مش موضوع أنُّه ربِّنا سمح لي، الموضوع فرص بتجي لنا ببلاش للفوز بالجنة، نقوم إحنا ندلَّع علشان شوية تعب بسيطة، أومال أصحاب الأمراض يعملوا إيه إن شاءالله؟..
"أنا اسعد انسان بجد، كدا اطمِّنت على ولادنا أنُّهم هيتربُّوا صح ويتعلِّموا الدين والخلق"
بفيلا السيوفي..
هبَّت من نومها فزعةً تستغفرُ ربَّها، أضاءَ مصطفى الإنارة:
-فريدة مالك؟..قالها وهو يسحبُ كوبَ مياهٍ ويساعدها بارتشافه:
-أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيم..كابوس يامصطفى، قالتها منتفضةً من مكانها وخطت تجذبُ هاتفها..أوقفها متسائلًا:
-واخدة التليفون فين وليه؟..
هطَّمن على الولاد، قلبي وجعني يا مصطفى، نهضَ من مكانهِ وحاولَ تهدئتها، كانت تخطو كالذي يحاربُ سكراتِ الموت، ضمَّها إلى أحضانهِ بعدما انسدلت دموعها تتمتم:
-كلِّم الولاد يامصطفى أنا قلبي وجعني، حاسة فيهم حدِّ تعبان، شوف إلياس ليكون زعلان مع مراته، ولَّا أرسلان اللي معرفشِ هوَّ فين..
ربتَ على ظهرها وخطا إلى السرير، وضعها بهدوءٍ يمسحُ على رأسها:
-حاضر اهدي وأنا هكلِّم إلياس حالًا..
هزَّت رأسها تزيلُ دموعها وعيناها تثقبُ الهاتف، الذي وضعهُ على أذنه..
عند إلياس:
جلسَ على فراشهِ يُنهي بعض أعماله، تطلَّعَ على زوجتهِ التي تغفو فوق ساقيه..أمالَ بجسدهِ يلاطفها بصوتهِ الحنون:
-ميرال اتعدلي على السرير علشان رقبتك هتوجعك كدا..
ولكنَّها احتضنت ساقيها قائلة:
-لا هستنَّى لمَّا تخلص، وبعدين أنا نايمة صاحية، شوية كدا هقوم آخد شاور وأنزل للسحور..
قاطعهم صوتُ هاتفه، جذبهُ ينظرُ إلى المتصلِ ثمَّ أجابَ بلهفة:
-بابا !! فيه إيه؟..أنتوا كويسين؟..
على الجانبِ الآخر أجابهُ مصطفى:
-إحنا كويسين يابابا، مامتك بس اللي عايزة تطمِّن عليك، خد طمِّنها أصلها قلقانة..
أمسكت الهاتفَ بكفٍّ مرتعشٍ تطالعُ مصطفى الذي هز رأسهِ يشيرُ إلى الهاتف:
-كلِّمي إلياس حبيبتي..
-إلياس..قالتها بدموعٍ صامتة..نهضَ من مكانهِ سريعًا بعدما هبَّت ميرال على صوتِ مصطفى..
-ماما مالك؟..ومال صوتك؟..أنتوا كويسين؟.
-أه..لا ..آااه، شهقة أخرجتها مع بكائها دون انقطاع، ليرتجفَ جسدهِ من الخوفِ على حالتها، ممَّا جعلهُ يتحرَّكُ سريعًا إلى خزانةِ ملابسه:
-طيب اهدي ياماما مسافة الطريق وأكون عندك..
-لا ياحبيبي مفيش داعي، قلقت عليكو، إنتَ كويس؟ومراتك كويسة؟..نزعَِ كنزته وأجابها:
-حبيبتي أنا شوية وأكون عندك.
-لا ياحبيبي أنا يمكن شوفت منام وحش، علشان كدا قلقتك، أنا كويسة وحياتك عندي أنا كويسة، بس طمِّني على أخوك.. قلبي وجعني عايزة أسمع صوته، خلِّيه يكلِّمني..
-لمَّا آجي لك نكلِّمه مع بعض..
-لو بتحبِّ أمَّك فعلًا ماتنزلشِ دلوقتي، خلاص حبيبي الصبح عدِّي عليَّا نكلِّمه قبلِ ما تروح الشغل، إدِّيني ميرال أكلِّمها..استدارَ إلى ميرال التي سحبت روبها وارتدتهُ مقتربةً منه
-في إيه؟!
-كلِّميها وطمِّنيها..
-ماما حبيبتي مالك؟..
-روح ماما إنتي، أنتوا كويسين حبيبتي،
-أيوة..قالتها وعيناها على إلياس الذي يمسحُ على خصلاتهِ بغضبٍ ثمَّ أردفت:
-حبيبتي اهدي، إحنا كويسين والياس دلوقتي يكلِّم أرسلان ويطمِّنه، المهمِّ تهدي..
بعد فترةٍ انتهت المكالمة، ليرفعَ هاتفهِ محاولًا الوصولَ إلى أرسلان ولكنَّ هاتفهِ مغلق..اقتربت منهُ تمسكُ ذراعهِ ثمَّ ربتت عليه:
-حبيبي ممكن تهدى، ماما شافت حلم وحش، علشان كدا خافت، اهدى مش معنى أرسلان مابيردش يبقى فيه حاجة حصلت..
دارَ بالغرفة:
-كان المفروض يكلِّمني بس ماكلِّمنيش، ممكن يكون مشغول..تذكَّرَ حديثَ أرسلان في الصباح:
-العملية النهاردة ياإلياس ادعيلي، المكان اللي هدخلُه صعب، ياربِّ أعرف أخرج بحاجة مفيدة..
-في أمانِ الله ياحبيبي، ربِّنا يحفظك، عمر الباطل مابيفوز ياأرسلان، ممكن الحقِّ يتأخَّر شوية بس دايمًا الحقِّ قوي..
-ونعمَ بالله حبيبي، هكلِّمك لمَّا أخلص، يبقى طمِّن ماما وميرال..نسيت أسألك
يزن وصل لمراته؟..
-في الطيارة، ساعة ويكون عندها إن شاءالله، المهمِّ إنتَ خلِّي بالك من نفسك..
-لا إله إلا الله..
-محمد رسول الله..قالها وأغلقَ الهاتف..خرجَ من شرودهِ على احتضانِ ميرال إليه بعدما ظهرَ القلقُ بوجهه:
-إلياس ممكن تهدى، كلِّم عمُّه إسحاق لو قلقان، مش دا اللي معاه كلِّ حاجة؟..
أومأ متراجعًا ينظرُ بساعته:
-الوقت اتأخَّر أتِّصل دلوقتي، وممكن يكون قلق على الفاضي، هستنَّى للصبح..قالها وهو يمسحُ على وجهه محاولًا أن يصبِّرَ نفسهِ من تسلِّلِ الألم بداخله..
دنت منه وجلست بجوارهِ وأردفت بنبرةٍ هادئةٍ رغم تلهُّفها على الاطمئنانِ على أرسلان:
-حبيبي ممكن يكون نايم وقفل تليفونه، وكمان إنتَ بتقول مقالش أنُّه رايح فين، يعني ممكن يكون فرق التوقيت أو شبكة، المهمِّ اهدى وكلِّ حاجة هتبقى كويسة..
تأرجحت عيناهُ بالخوفِ فنهضَ يهزُّ رأسهِ قائلًا:
-لا، أنا عندي إحساس مش مريَّحني، هتِّصل بإسحاق وزي ماتيجي..أوَّل مرَّة من وقتِ ما عرفنا بعض يغيب كدا..
قالها وهو يبحثُ عن اسمِ إسحاق ولم يتردَّد لحظة بالاتصال..لحظات وأجابهُ إسحاق:
-أيوة ..
نهضَ من مكانهِ وحاولَ جمعَ شتاتِ نفسه، فكلَّما تخيَّلَ أنَّ أخيهِ أصابهُ مكروهًا يشعرُ بانسحابِ روحه..
-آسف إسحاق باشا، قلقت معاليك
- ولا يهمَّك ياإلياس، خير؟،،
حمحمَ ليتجلَّى صوتهِ ولأوَّلِ مرَّةٍ يشعرُ بأنَّهُ كطفلٍ يبحثُ عن مفرداتٍ تعبِّرُ عن قلقهِ بصفةٍ غير مباشرة ..لحظات إلى أن نطقَ بنبرةٍ حاولَ أن تكونَ طبيعية:
-أرسلان كلِّم حضرتك النهاردة؟..
أجابهُ إسحاق بهدوءٍ وكأنَّهُ أغلقَ منذ لحظاتٍ الاتصالَ به:
-أيوة، هوَّ كويس، بس المكان اللي فيه مفهوش شبكة، اطَّمن عليه..
-شكرًا لمعاليك..قالها مغلقًا دون الخوضِ بتفاصيلَ أخرى.
زفرةٌ حارقةٌ يشعرُ بدمويتها كبلِّورٍ يشحذُ جوفهِ قائلًا:
-الحمدُ لله..ابتسمت ميرال قائلة:
-مش قولت لك ممكن يكون شبكة، اتِّصل بماما وطمِّنها، زمانها قلقانة..
أومأ وقامَ بمهاتفةِ فريدة التي هبَّت فزعةً على رنينِ الهاتفِ ظنًّا أنَّهُ فلذةُ كبدها:
-إلياس!!
-أرسلان كويس؟.،المكان مفهوش شبكة اطمِّني، وبطَّلي تعيشي في دور أمينة رزق يامدام فريدة، قلقتي منامي على الفاضي..
أفلتت ميرال ضحكةً ناعمةً تجذبُ الهاتفَ من يديه
-ماما حبيبتي، إلياس كلِّم إسحاق وطمِّنه، ارتاحي ياستِّ الكل.،
-ربِّنا يريَّح بالكم يابنتي، لو كلِّمكم خليه يتِّصل بيَّا، وحشني أوي بقاله كام يوم مسمعنيش صوته.،
تحرَّكَ إلياس إلى الحمَّامِ وهو يشاكسها:
-متحسِّسنيش أنُّه متربي في حضنك يامدام فريدة، مش كام شهر دول..
أشارت إليهِ ميرال متذمرةً وتابعت حديثها مع فريدة:
-شوفتي ابنك بيطلع منُّه أفيهات حلوة أهو، وكان معيِّشنا في جحيم الراجل الغامض بسلامته..
ابتسمت فريدة وتمتمت:
-ربِّنا يهديكم لبعض..قالتها وأغلقت الهاتفَ تنظرُ إلى مصطفى الذي جذبها لأحضانهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-استرخي بقى وحاولي ترتاحي، قولت مليون مرَّة العصبية والزعل مش حلوين عليكي، إيه مش خايفة على جوزك؟..
-ربنا يخليك ليَّا يامصطفى، بس قلبي وجعني على الولاد أوي، لو مش مكسوفة من عيلة الجارحي كنت أصرِّيت عليه يبقى زي أخوه، لازم آخد ابني في حضني ويكون تحت عنيَّا يامصطفى، مش حقِّي؟..
غمغمَ باعتراضٍ خافت، ثمَّ أعدلَ وضعيةِ جلوسها واحتضنَ كفَّيها بين راحتيهِ يربتُ عليهما:
-فريدة إنتي المفروض تحمدي ربِّنا أوي، كنتي فين وبقيتي فين، ولادك بعد تلاتين سنة رجعوا لحضنك والاتنين، ومش بس كدا، ماشاء الله مناصب غير الناس بتحبُّهم، أنا كأب لإلياس عانيت من فكرة أنُّه يتغيَّر عليَّا، منكرشِ كنت رافض أنُّه يعرف علشان مايخرجشِ من حضني، أنا ربِّيته، دا ابني البكري اللي من نظرة بنفهم بعض، كان صعب عليَّا أنُّه يتَّاخد من بين إيدي وحضني، بس برجع وأقول إيه الطمع دا، يعني المفروض أحمد ربنا أوي، بما إنِّك أمُّه، يعني مهما يعمل ومهما تعملي هيكون في حضني كدا كدا، طيب عيلة الجارحي بقى يعملوا إيه؟..دا الراجل لمَّا حس أنُّه هيفقده عمل حادثة واتحجز وكان هيموت، ولَّا إسحاق اللي استخدم نفوذه غير تهديده ليَّا، حقُّهم يافريدة عليه، وطبعًا إنتي قعدتي مع مدام صفية وعرفتي قدِّ إيه إنَّها تستاهل إنِّ أرسلان يكون ابنها، عارف الموضوع مش سهل عليكي، بس حرام ناخد حقِّهم في تربيته، وماشاء الله طالع راجل عارف دينه قبل دنياه، وهوَّ مش بيقصَّر معاكي بيحاول يرضي الكل، أنا لمَّا ببصِّ في عيونه بحسِّ جوَّاهم صراع كبير بس ليه معرفشِ.. فبلاش لمَّا يرجع تشيَّليه فوق طاقته..
وضعت رأسها على كتفهِ تغمضُ عيناها
وأردفت بنبرةٍ راضية:
-أنا عملت إيه في دنيتي يامصطفى؟..علشان ربنا يعوَّضني بدا كلُّه..
حاوطَ جسدها يضمُّها لأحضانهِ بقوَّةٍ وردَّ بنبرةٍ واثقة:
-لأنِّك فريدة يافريدة، اسم على مسمى، أنا اللي المفروض عملت إيه..علشان ربِّنا يبعتك ليا في وقت كنت فاقد الأمل في كلِّ حاجة..أوّّل مادخلتي بيتي ربِّنا رزقنا بنعمة فضلت سنين أتمنَّاها، وأوَّل مادخلتي حضني عرفت يعني إيه إحساس الرضا والسعادة، مش بعترض على حياتي مع غادة، غادة كانت نعم الزوجة، وعمري ماأنسى أفضالها عليَّا، أوَّل دنيا ليا، وأوَّل إيد مسحت حزني بعد خسارتي لوالدي، غير أنَّها أوَّل من نبض لها القلب..
رفعت رأسها وتعمَّقت بالنظرِ إلى عينيهِ وأردفت بحاجبٍ مرفوع:
-طيب لاحظ إنِّي مراتك وفي حضنك.. وسيادة اللوا بيتغزَّل في ستِّ تانية، مع احترامي لذكرى غادة وحبِّي ليها، بس أنا مهما كنت مراتك ومن حقِّي تتكلِّم عنِّي بس..قالتها بصوتٍ مختنقٍ حتى شعرَ بأنَّها سوف تبكي.
رفعَ ذقنها وسبحَ بعينيها يمرِّرُ أناملهِ على وجهها، الذي رغم مرورِ السنينِ إلَّا أنَّها مازالت تلك التي اقتحمت حياتهِ واخترقت نبضَ قلبه، ليردفَ بصوتهِ الأجشِّ الرجولي:
-غيرانة يافريدة ؟!
خانتها دموعها لا تعلمُ لماذا تشعرُ بذلك الشعور الذي لأوَّلِ مرَّةٍ يتسرَّبُ لجوارحها، لتهزَّ رأسها مردفةً بنبرةٍ باكية لم تستطع إخفاءها:
-ليه مش راجل وتستاهل أغير عليك؟..ولَّا إنتَ شايف إنِّي مستهلشِ دا..
لم تكمل حديثها حينما انقضَّ عليها يحتضنُ ثغرها ..الذي نطق ماجعلهُ يشعرُ وكأنَّهُ شابٌّ عشرينيّ من ِقوَّةِ ماشعرَ به من خفقانِ شقِّهِ الأيسر.. تراجعَ للخلفِ يحتضنُ وجهها وآاااه أخرجها وكأنَّهُ كان يُدفنُ داخل قبر، والآن حُرِّرَ ليخرجَ آهاتهِ قائلًا:
-عارفة، كان نفسي أسمع الكلام دا من إمتى؟..
رفرفت أهدابها تنظرُ إليه منتظرةً تكملةَ حديثه..لمسَ وجنتيها، زمَّ شفتيهِ بشبهِ ابتسامةٍ قائلًا:
-من وقت ماشوفتي أرسلان وطلع جنانك بيه وإنتي ماشية تقولي جمال رجع، من وقتها وحسِّيت إنِّ حياتنا كانت سراب، حسِّيت بنقصِ جوايا معرفتش أحتويكي كويس..وأحسِّسك بالأمان والحبِّ اللي كان بيدهولك جمال، غيرت منُّه أوي، أوَّل مرَّة أكون أناني في حاجة، بس كنت بتمنَّى إنِّ أرسلان دا ميقرَّبشِ من بيتي تاني، لدرجة كلِّمت إسحاق وقولت له يبعد أرسلان عن إلياس لو هوَّ مش معترف أنُّه ابنك..
شهقت فريدة تطالعهُ بصدمة، وتمتمت بلسانٍ ثقيل:
-إنتَ يامصطفى، إنتَ تعمل كدا؟!..
هزَّ رأسهِ بتنهيدة وتابعَ مستطردًا:
-أنكرتي وجودي يافريدة، أنكرتي قلبي اللي حبِّك واتعلَّق بيكي، ومكنتيش شايفة غير أرسلان اللي يشبه جمال وبس، خلِّتيني أعاقب إلياس وهوَّ راجل علشان يقرَّب منِّك ويحاول يسحب حبِّك لأرسلان، خلِّيتيني أتِّفق مع إلياس وإسحاق أنُّهم يوافقوا على رجوعه بس بشرط اسمه يفضل زي ماهوَّ، كرهت اسمِ جمال بسبب لهفة عيونك عليه لمَّا يدخل، خلِّتيني أكره حضنِ الأمِّ لابنها علشان شوفت فيه جمال جوزك وإنتي بتحضنيه.
-اسكت يامصطفى، اسكت متكمِّلش، إيه اللي بتقوله دا!! جمال ماضي وانتهى، زي ماغادة كانت ماضي عندك، ربِّنا يشهد عليَّا عمري مافكَّرت فيه من بعدِ ما دخلت حضنك، ولا عمري فكَّرت أخونك حتى لو بالمشاعر، بس غصب عنِّي ذكرياته ساعات بتيجي على بالي مش علشان إنتَ معرفتش تحسِّسني بالحب، لا علشان من حقُّه يامصطفى، من حقِّ ولاده عليه يكون له ذكرى..
قالتها وتوقَّفت تتطلَّعُ بتيهٍ وتشتُّت تحدِّثُ نفسها:
-للدرجة دي أنا مكنتش براعي شعورك؟..خلِّيتك تحسِّ إنِّي ستِّ خاينة..
نهضَ من فوق السريرِ وتوجَّهَ إلى وقوفها يجذبها لأحضانهِ يمسِّدُ على خصلاتها:
-متزعليش منِّي، أنا حبيت أفضفض على اللي واجع روحي منِّك يافريدة، بس واللهِ عمري ماشفتك ستِّ خاينة، أوعي تقولي كدا تاني يافريدة، الكلمة وحشة وبتوجع أوي..
رفعت رأسها ونظرت بداخلِ مقلتيه:
-مصطفى إنتَ أغلى من روحي، أوعى تقول كدا تاني أنا بحبَّك أوي، ومش متخيِّلة حياتي من غيرك، وربِّنا ياخد أمانته منِّي قبلِ مايوجع قلبي عليك..
لم يتبقَّ هنا حديثًا يُقال سوى التقرُّبِ بنبضِ القلوبِ الذي ينبضُ بالصدور، ليسحبها لجنَّةِ خلدهِ يثبتُ لها وبها أنَّها الحياة..ولا حياةَ بدونها.
بفيلا راجح
دار كالأسد الجريح، وشعر بأنه سيصاب بسكتة قلبية، هبطت الدرج تطلع إليه
-معرفش ايه دا كله، اول مرة تخسر صفقة اثار
أطبق على ذراعيها يهدر كالمجنون:
-مين اللي عمل كدا، ماهو مش الواد الصايع، لانه كان جوا المخزن وقالوا اتحرق ونقلوه مستشفى البنداري، قولي مين
نظرت إليه بذهول تشير إلى نفسها
-بتخوني ياراجح، انت مجنون ..زجها بعيدًا عنه، وصعد إلى الأعلى يأكل درجات السلم، دلف إلى غرفته وقام بتحطيم كل مايقابله، ظل لفترة كالذي فقد عقله، ثم رفع هاتفه
-اسمعني كويس، بكرة الصبح هننزل السويس عايزك تأجرلي يخت يكون لحد مهم..قالها وأغلق الهاتف ينظر بشرود ثم تمتم
-بتخونيني يارانيا، والله لاخليكي وجبة للسمك اهو تونسي حبيب قلبك بدل سرحانك ورا الصايع اللي مفكراني اهبل ومش عارف بلاويكي
قاطعه صوته هاتفه
-ايه اللي حصل ياراجح، يعني انا اقف لابن اخويا وفي الاخر تطلع عيل ياراجح، انت كدا كتبت شهادة وفاتك بايدك ..قالها واغلق الهاتف ..ليهوى الآخر على المقعد
-ياولاد الكلب لعبتوها عليا
عند إلياس
استمع الى رنين هاتفه
-يزن السوهاجي في الطيارة ياباشا، بس الراجل بتاعنا كلمني وقال مدام رحيل حد بيراقبها
-اعرف لي مين دا وخلي بالك كويس، يزن وقت ماينزل من الطيارة تكون ظله
-حاضر ياباشا
عند ارسلان
جلس لبعض الوقت بالمركب، إلى أن استمع الى صوت ضحكات أنثوية بمركب يخص أحد الأثرياء بمقابلته، ازداد تعرقه ينظر بتشوش إلى جرحه، استند ليستند على ركبته يدعو الله أن تكون مايريد ..نظر من الفراغات، ليهوي متنهد يحمد الله، زحف متأوهًا إلى أن تسلل بالبحر مرة أخرى بعدما استمع الى صوت قوات الأمن يأمر بالبحث بكل السفن والمراكب
↚
تمسّكي بي كما لو أنّي آخر ملاذٍ لكِ، كما لو أن لا شيء في هذا العالم قادرٌ على تعويض وجودي في حياتكِ. دعيني أشعر أنكِ لا تستطيعين المضيّ بدوني، وأنّ غيابي عنكِ يُثقلكِ كما يُثقلني بعدكِ. امنحيني لقاءً كذاك الذي وُلِد فيه حبّي لكِ، حتى أُريكِ كيف استوطن حبّكِ أعماقي، وكيف بات قلبي لا يعرف نبضًا سواكِ.
، ما عاد للنسيان إليكِ سبيل، فقد سكنْتِ روحي حتى غدوتِ بعضي الذي لا يُفارقني. ورغم الحزن الذي ينهش أيامي، رغم الخيبات التي أحاطت بي، لا تزال روحي تهفو إليكِ، وكأنّكِ النور الوحيد وسط هذا العتمة.
أقسم لكِ، لو كان بوسعي أن أصوغ لكِ أجمل الأقدار، لجعلتُ كل لحظةٍ في حياتكِ فرحًا لا يخبو، وسعادةً لا تنطفئ، فقط لأراكِ مبتسمة. تذكّري دائمًا أنّني لم أنسكِ، وأنّ انتظاري لكِ ليس مجرّد وقتٍ يمضي، بل هو يقينٌ بأنّكِ وحدكِ من يملك مفتاح هذا القلب الذي لم يُفتح لسواكِ.
امنحيني فرصةً أخرى، لنكتب سويًا فصولًا جديدةً من الذكريات، اسمحي لوجودكِ أن يُعيدني إلى الحياة، أن يمحو عني سواد الأيام بعد رحيلكِ، فبعدكِ كل شيء فقد لونه، وكل نبضٍ في قلبي ما عاد يعرف للحياة طعمًا دونكِ.
#اسحاق الجارحي
قبل ساعات..
بشرمِ الشيخ تململت بنومها، نهضَ من فوق مقعدهِ مقتربًا منها..فتحت عينيها تضعُ كفَّيها على جبهتها متأوِّهة، دارت بعينيها بالغرفة إلى أن وقعت عيناها على وقوفه، هبَّت من نومها معتدلة:
-إنتَ بتعمل إيه هنا؟! وإزاي وصلت لي؟..
-اجهزي علشان هننزل القاهرة، سايب أخواتي لوحدهم..
هبَّت متوقِّفة وأشارت إلى بابِ الغرفة:
-امشي اطلع برَّة، محدش طلب منَّك تيجي لعندي..
تجوَّلَ بعينيهِ على الغرفة، إلى أن وصلَ لحقيبتها فخطا إليها وقام بجمعِ ثيابها، ثمَّ نزل ببصرهِ إلى أحد الأدراجِ المغلقة، قام بفتحهِ يجمعُ مابه..خطت سريعًا إليه تجذبُ منه ثيابها الداخلية:
-إنتَ إزاي تسمح لنفسك تلمس حاجاتي الخاصة؟..
توقَّفَ وألقى الحقيبة بالأرض، ثمَّ تراجعَ إلى النافذةِ يضعُ كفَّيهِ بجيبِ بنطاله:
-قدَّامك عشر دقايق تلمِّي حاجتك بدل ماأخرَّجك كدا..
ضربت قدمها بالأرضِ وصرخت هادرة:
-اسمعني علشان مش هعيد كلامي تاني..إنتَ متلزمنيش ومفيش حاجة تربطنا، سمعتني ولَّا لأ؟..
اتَّقدَ الغضبُ كالنيرانِ التي تلتهمُ سنابلَ القمح، ممَّا جعلهُ يصلُ إليها بخطوة، وقبضَ على ذراعيها يضغطُ عليهما بقوَّة:
-إنتِ مراتي سمعتي ولَّا مابتسمعيش؟..
دفعتهُ حينما أشعلت كلماتهِ صدرها كالبنزين الذي يزيدُ الاشتعال:
-هطَّلقني، أنا أصلًا مش بعتبرك جوزي، أنا مش مراتك سمعتني..
كوَّرَ قبضتهِ حتى ابيضَّت مفاصلهِ وهو يرمقها بنظرةٍ ممزوجةٍ بالنيرانِ الجحيمية..حاولت النطقَ ولكن هيئتهِ جعلتها تغلقُ فمها وابتعدت عنه تضعُ ثيابها بمكانها:
-رحيل!! نطقها بعد لحظاتٍ من الصمتِ المميتِ بينهما، ثمَّ اقتربَ منها بخطواتٍ هادئة:
-إنتي ليه مصرَّة تكرهيني؟..
-أكرهك!!..قالتها بفمٍ مزمومٍ ثمَّ دنت منه حتى اختلطت أنفاسهما، وغرزت عينيها بمقلتيه:
-يزن، أنا حبِّيتك حب مفيش واحدة حبِّته لحبيبها، لو طلبت منِّي روحي كنت هتخلَّى عنها علشانك، آه بعترف بدا، وقَّعتني في غرامك ياسيد يزن، شوفت عملت إيه، بس للأسف كسرت قلبي ودوست عليه بجزمتك، وكأنِّي حيوانة ملهاش مشاعر، انسابت دموعها رغمًا عنها، أزالتها سريعًا تشعرُ بالغضبِ من ضعفها أمامه..كلَّ ما تشعرُ به الآن من ناحيتهِ نارًا مشتعلةً تريدُ أن تحرقهُ دون رحمة..رفعت عينيها إليه وغمغمت بنبرةٍ تحملُ كمِّ الألمِ الذي لا يقوَ أحدًا على تحمِّله:
-طلَّقني يايزن، إنتَ أخدت كلِّ حاجة وأنا خسرت كلِّ حاجة، صدَّقني مفيش مشاعر غير الحقد والكره في قلبي، آخر أمل قطعته لمَّا ساومتني على الطلاق بليلة، دنت إلى غير المسموحِ حتى تلامست الشفاهُ تهمسُ بنبرةٍ مميتة:
-أنا بقيت أكره نفسي علشان لمستني، أنا خسرت وإنتَ كسبت، ودلوقتي بقولك مبروك ياباشمهندس، حرقت قلبي اللي معرفشِ الحبِّ الحقيقي غير في قربك، وفي نفسِ الوقت عرفت الكره على إيدك برضو.
ظلَّت نظراتهِ إليها جامدة، رغم شعورهِ بالجنونِ والغضب، حتى كاد أن يفقدَ أعصابه ويلطمها على وجهها، لم ترحم سيطرتهِ الجنونيةِ التي أوشكت أن تسقطها بالهاوية، ورفعت نفسها تهمسُ بجوارِ أذنه:
-هخلعك يايزن لو مطلقتنيش، وهكسبها في أوَّل جلسة..
رفعَ عينيهِ الجريحتينِ من كلماتها التي صفعتهُ بقوَّة، حتى ظنَّ أنُّه بكابوسٍ وليس بحقيقةٍ مرَّة، عقدَ جبينهِ منتظرًا تصديقَ ماتلفَّظت به..
تراجعت للخلفِ وابتسامةٍ باهتةٍ تجلَّت بملامحها بعدما وجدت حالته، وانحنت تجمعُ باقي ثيابها وتضعها بمكانها، متجاهلةً صمتهِ قبل عاصفتهِ التي ستحرقُ كلَّ نبضٍ له..
- بتقولي إيه يارحيل؟..قالها بنبرةٍ خاليةٍ من أيِّ مشاعر، نبرةٌ شاحبةٌ تحملُ انكسارًا ممَّا شعرَ به..
استدارت برأسها وألقتهُ بنظرةٍ مشمئزة:
-هخلعك لو مطلقتنيش..اهتزَّ بعنفٍ بعدما أحرقت رجولته، ونبضَ قلبهِ بقبضةٍ مميتةٍ ممَّا أصابهُ الارتفاع حتى كاد أن يتوقَّفَ عن النبض..
اقترَبَ منها كالعاصفةِ الهوجاء، يطالعها بنظراتٍ تشتعلُ بالغضبٍ، شعرَ بانكسارِ رجلٍ أُغلِقت في وجههِ كلَّ الطرقِ إلَّا طريق حبيبته، فوقفَ عندهُ عاجزًا بين حبِّه ووجعه، بين عشقهِ وكرامته.
نظرَ إليها مطوَّلًا، وكأنَّ ملامحها أصبحت لعنةٌ تطارده، ارتفعَ صوتُ أنفاسهِ المتسارعةِ حتى شعرَ بارتطامها بجدرانِ الغرفة، عيناهُ تجوبانِ وجهها وكأنَّها غريبةٌ عنه، يشعرُ بأنَّه لأوَّلِ مرَّةٍ يراها، حاولَ إخراجَ حروفهِ التي ارتطمت فوق شفتيهِ كارتطامِ الموجِ على الشاطئ:
"خلع يا رحيل؟!" قالها بصوتٍ خشن، نبرتهِ كانت نصلًا حادًّا مزَّقَ هدوءها الذي تحاولُ رسمهِ أمامه..شدَّ على ذراعيها بقوَّة:
"مش كفاية كسرتيني؟ وهربتي وكأنِّك مش على عصمة راجل؟!"
ازدردت ريقها بصعوبة، وانتفضَ جسدها تحت لمستهِ التي كانت ممزوجةً بين الغضبِ والاحتياج، رفعت عينيها المرتعشتينِ إليه، وتوسَّلت بصوتٍ مخنوق: "يزن، بالله عليك...متبقاش كده."
لكن هل يمكنهُ أن يتمسَّكَ بالصبر؟ هل يمكنهُ أن يكون هادئًا بينما هي تقطِّعهُ إربًا؟ كيف تطلبُ منه الهدوءَ والصبر، وهو الذي أصبحَ رجلاً متروكًا، منكسرًا، عاشقًا يضيعُ بين رغبتهِ في الرحيل ورغبتهِ في البقاء.
اقتربَ أكثر حتى اختلطت أنفاسها المرتعشةِ بأنفاسهِ الحارقة، عيناهُ تجتاحانها بلا رحمة، ورغم ذلك قلبهِ ينتفضُ داخل صدره..فقدَ سيطرتهِ كما فقدَ صبرهِ ليرفعَ يدهِ ويمرِّرُ أناملهِ على وجنتها، فتساقطت دمعةٌ حارقةٌ فضحت ارتعاشَ قلبها، شعرَ بما تشعرُ به، فاقتربَ أكثر حتى لمسَ شفتيها ثمَّ همسَ بانكسار:
-هعمل مسمعتش حاجة، بس في نفس الوقت لكل وقت أدان
-عايز مني ايه، جاي ورايا ليه، عايز تشوف كسرتي، اه كسرتني
التفت إليه كالذي اصابه سهمًا سامًا:
" ايه اللي بتقوليه دا، انت ازاي تعملي كدا، لسة مصرة اني غلطان وإنتي عارفة إنِّي بحبِّك،
-بتحبني، لا والله فين الحب دا ياباشمهندس، حب الخدعة، حب التمثيل ..
هزَّها بجنونٍ عاصفٍ أفقدهُ اتزانه:
- أيوة بحبِّك، عايزة تسمعي دا، عايزة تعرفي إنِّ حبُّك كسرني، وفي الآخر جاية تتبجَّحي وتقولي طلَّقني ياإمَّا تخلعيني..
رغم أنَّ صوتهِ جاءَ خافتًا، ولكن تألَّم قلبها عليه، رفعت عينيها إليه لترى وجعهِ في عينيه..
صمتت للحظاتٍ تتابعهُ بعينيها:
-عايز منِّي إيه يايزن؟..مش أخدت اللي عايزه؟..
حدَّقَ بها طويلًا، وكأنَّ كلمتها تلك أشعلت بداخلهِ حربًا جديدة، هل تصدِّقه؟ هل تعني ما تقول؟
مدَّ يدهِ ليلامسَ وجنتها، لكنَّها انكمشت قليلًا، وأغمضت عينيها:
-عايز أوجعك بس قلبي بيحاربني يارحيل، بيقولِّي مش هتقدر تئذي حبيبتك، بس إنتي أذيتيني أوي..
أردفَ بها بهمسٍ مبحوح، خائفًا، وكأنَّه يعترفُ فيها بضعفهِ أمامها، لكنَّهُ لم يعد يهتم، لم يعد قادرًا على إبعادها..
رفعت وجهها إليه، عيناها مليئتانِ بالدموع، تقابلت نظراتهما في صمتٍ موجع، لحظةٌ واحدةٌ فقط، لكنَّها كانت كفيلةٌ بأن تجعلَ كلَّ شيءٍ يتوقَّف..حتى الزمن نفسه، حينما تمتمت:
-مش قادرة أنسى إنَّك لعبت بيَّا، دوست على قلبي..
-وإنتي دوستي على رجولتي يارحيل.
-يبقى طلَّقني يايزن علشان منتعبشِ بعض..جزَّ على أسنانهِ من لسانها الذي ألقاها بنيرانِ غضبهِ الثائرةِ..ليجذبها بعنفٍ ويسحبها بقوَّةٍ مغمغمًا:
-كدا إنتي اللي جبتيه لنفسك..
حاولت التملُّصَ من قبضتهِ ولكنَّهُ كان الأقوى، مرَّت ساعاتٍ إلى أن وصلَ إلى القاهرة، كان كريم بانتظاره:
-عملت إيه؟..
-كلُّه ولع وبح، وخبر إنَّك مصاب وفي مشفى البنداري زي ماقولت، وهنا طبعًا ممنوع الاقتراب..ربتَ على كتفهِ وأردفَ بنبرةِ امتنان:
-شكرًا ياكريم..ألقى كريم نظرةً على رحيل التي زجَّها بالسيارةِ وتساءل:
-يزن ليه رحيل هربت منَّك بالطريقة دي؟..معقول اللي سمعته، دا اللي خلَّاها تعمل كدا؟..
خطا إلى السيارةِ يشيرُ إليهِ بالركوب:
-ياله على البيت، زمان إيمان هتتجنِّن علينا..
وصلَ بعد فترةٍ إلى منزله، ترجَّلَ واستدارَ يفتحُ إليها الباب:
-منتظرة أشيلك، معنديش مانع بس الواحد صايم ومش ناقص كلمة، كفاية حضرتك ضيَّعتي سحوري.
دفعتهُ وترجَّلت تقفُ بمقابلته:
-إنتَ جايبني هنا ليه؟..أنا عايزة أرجع بيتي..اقتربَ مزمجرًا كأسدٍ يريدُ الانقضاضَ على فريسته:
-لمِّي نفسك يارحيل، وادخلي، أوعي تفكَّري هنسى كلامك ولَّا هروبك، دنا أكثر وغرزَ عينيهِ بعينيها وهمسَ بفحيح:
-وحياة كسرتك ليَّا لأعلِّمك الأدب.
طالعتهُ بنظرةٍ أسقطت قلبهِ بين قدميه:
-إنتَ واطي أوي يايزن..أوي.
قالتها ودلفت للداخلِ وكأنَّها تريدُ أن تحطِّمَ كلَّ مايقابلها..
تنهَّدَ بقوَّةٍ محاولًا إبعادَ شيطانهِ على ألَّا يدخلَ خلفها ويعلِّمها كيفيةِ احترامه..
دلفت للداخلِ وبدأت تدورُ حول نفسها مرَّةً وتُرجعُ خصلاتها بعنفٍ تريدُ اقتلاعها، إلى أن دلفَ ينظرُ إلى إيمان التي هبَّت من مكانها وتوقَّفت أمامه:
-وحياتي بلاش تزعلَّها..دفعَ إيمان وسحبها بقوَّةٍ إلى غرفته، زجَّها بعنفٍ حتى هوت على الفراشِ، بعدما أغلقَ البابَ بقدمهِ وهدرَ بصخبٍ كأنَّهُ ليس الذي كان يترجَّاها منذ ساعات..
اقتربَ منها يشيرُ بيده:
-احمدي ربنا إنِّنا صايمين، أنا مش هموت عليكي..بس خلاص قرفت منِّك، هتقعدي في بيتي لحدِّ ماأخلص من راجح، دي حاجة..الحاجة التانية عايز بيبي، أصلي مش ناوي أتجوِّز تاني كفاية إنِّك كرَّهتيني في صنفِ الستات..
توسَّعت عيناها ولا تدري لماذا أصبحت بذلك الضعف..لحظات..إلى أن انتفضت تهاجمهُ بقوةٍ وكأنُّه عدوَّها اللدود:
-بيبي في عينك، دا أنا اموِّتك لو قرَّبت منِّي تاني..
-أستغفرُ الله العظيم يارب، أنا صايم، لو مش صايم كانت زمانها سألتني إن شاءالله حبيبي وهسمِّيه يزن، أصلي بعشق اسمك ياحبيبي..
-حبَّك برص يابعيد.
غمزَ بعينيهِ قائلًا:
-القمر دا برص، يابنتي راعي إنِّنا صايمين، ويمكن بعد أسبوع تيجي تحضننيني وتقوليلي مبروك ياحبيبي هيبقى عندنا يزون صغنون، ماهو جوزك مالي مركزه مش كدا ياسفري؟..
جحظت عيناها، مع تورُّدِ وجنتاها بعدما علمت مكنونَ حديثه:
-هموِّته علشان ابنك..
-لو بنتِ العامري اعمليها..دا أنا أموِّتك بدون مايرفِّ لي جفن..قالها وخرجَ يصفعُ البابَ خلفه..
نذهبُ بعيدًا إلى أحدِ المدنِ التي سافرَ إليها أرسلان..بعد إصابتهِ بطلقاتٍ نارية، سبحَ بعدما ألقى نفسهِ بالبحر، إلى أن وصلَ لإحدى الموانئ..صعدَ على متنِ أحدِ المراكبِ المتجوِّلةِ للنزهةِ في البحر، طافَ بعينيهِ بالمركبِ وجدها لم تكن بالمأمن، جلس لبعضِ الدقائقِ يستردُّ أنفاسه، ينظرُ إلى جرحه، نزعَ سترتهِ المبتلةِ ولفَّها على ساقهِ في محاولةٍ لمنعِ النزيف، بعدما فقدَ الكثيرَ من الدماء، استمعَ إلى صوتِ ضحكاتٍ لأنثى، نظرَ للأعلى بحذرٍ وجدَ إحدى الفتياتِ تتراقصُ أمام أحدهم؛ تنهَّدَ بارتياحٍ ثمَّ قفزَ بالمياهِ مرَّةً أخرى للوصولِ إلى ذلك المركبِ الكبيرِ الذي وصلَ للتو، صعدَ بهدوءٍ حذرٍ حتى لا يشعرَ به أحد، التقطت عيناهُ تلك الفتاةِ وهي تتراقصُ أمام أحدهم، أغمضَ عينيهِ حينما داعبهُ الدوار، رفعَ أناملهِ يسحبُ ذاكَ الذي حصلَ عليه، قبضَ عليه بعنفٍ يدعو ربِّهِ بسريرتهِ أن يوفِّقه، استمعَ إلى خطواتٍ أنثويةٍ متَّجهةٍ ناحيته، تمدَّد بمكانهِ حتى لا يراهُ أحدًا، دلفت تبحثُ بأعينها عليه وتمتمت بلهجتها:
-هل أنتَ بخير؟!
رفعَ رأسهِ إليها يشيرُ إلى جرحه:
-أريدُ الخروجَ من هذا المكانِ بالحال..
-كلَّا..انتظر لبعضِ الوقت، هناك استنفارًا من الأمنِ ولا نريدُ الخوضَ بالشوك..
-هيا انهضي واخرجي من هنا، حتى لا يشكَّ بكِ أحد..
انحنت تُخرجُ من حذائها مقصًا صغيرًا، وأشارت إليه:
-هذا سيفيدك، ثمَّ فتحت حقيبتها ووضعت أمامهِ بعض الأشياء:
-لابد أن تساعدَ نفسك، قاطعهم صوتُ أحدِ الرجال:
-حبيبتي لقد تأخرتي كثيرًا.
-هيا، انتظر سأنهي زينتي..
-سأترككَ إلى أن يحينَ الوقت..ازدادَ تعرُّقهِ يهزُّ رأسهِ دون حديث..تحرَّكت إلى الأعلى، أخذَ المقصَّ وقامَ بقصِّ بنطاله، واتَّجهَ إلى بعضِ الأدواتِ التى أحضرتها لكي تساعدهُ بإخراجِ الرصاصة، توقَّف حينما استمعَ إلى صوتِ رجالِ الأمن:
-عذرًا فلابدَّ أن نقومَ بالبحثِ عن لصٍ يحاولُ الفرار، لقد اقتحمَ أحد الأماكنَ المهمَّة..
-هذا المركب خاص بي..هيَّا أغرب عن وجهي، قالها ذلك الرجل بغضب، فهو رجل ذو مكانةٍ بمجتمع.،
خرجَ رجالُ الأمنِ باعتذارٍ له..تنهَّدَ أرسلان بهدوءٍ واستأنفَ ماكانَ يفعله، مرَّت الساعاتُ ثقيلةً إلى أن هبطت تلك الفتاة إليه، وجدتهُ يصارعُ الموت، بعد نزفه المستمر، ناهيك عن ارتفاع حرارته، فحصت جرحه، الذي مازالَ ينزف..تلفَّتت بحذر، وأمسكت هاتفهِا للحظاتٍ تتحدَّثُ مع أحدهم..بعد فترةِ وصلَ أحد الرجالِ إليها يحملُ قالبًا من الكيك، خرجت إليه بابتسامةٍ ووضعت بكفيَّهِ ورقةً مطويةً ثمَّ أردفت بلهجتها:
-شكرًا لك..قالتها وصعدت مرَّةً أخرى إلى الرجلِ الذي يقفُ على طرفِ المركبِ ينظرُ للبحر..بعدما قام بتحريكها لتبحرَ وسطَ البحر، طالعتهُ بذهولٍ وأردفت بحدَّةِ رغمًا عنها:
-كيف تتحرَّك دون أن تخبرني؟..هيا عد إلى الشاطئ..سحبَ منها قالبَ الكيك ووضعهُ على إحدى الطاولات، ثمَّ جذبها إلى أحضانهِ بعنفٍ لتصطدمَ بصدره:
-كيف نعودُ دون الاستمتاعِ بهذا الجمالِ أيَّتها الشقراء..
حاولت دفعهِ بعدما أصابتها ارتعاشةً بجسدها، لقد وصلت إلى التهلكةِ التي لم تخطِّط لها، بالأسفلِ كان يصارعُ الموتِ مع زيادة ارتفاعِ حرارته يهمسُ باسمِ زوجتهِ بخفوت، فتحَ عينيهِ وتشوَّشت الرؤيةُ أمامه، حاولَ النهوضَ كي يهربَ من ذلك الجحيمِ الذي استولى عليه، توقَّف مترنِّحًا، ومازالت ذراعهِ تنزف، استطاعَ أن يصعدَ بعض الدرجات، لمحت عينيهِ بتخبُّطٍ على محاولةِ الرجلِ لاغتصابِ تلك الفتاة، خطا بترنُّحٍ فهوى على الدرج متأوِّهًا، شعرَ الرجلُ بوجودِ أحدهم، ليهبَّ من فوقها وتحرَّكَ للأسفلِ لكي يرى ماذا يحدث..
بالقاهرةِ وخاصَّةً بمحافظةِ السويس،
خرجَ صباحَ اليومِ بعد اتصالِ شريف به:
-راجح سافر السويس ياإلياس هوَّ ورانيا، معرفشِ ليه..
-تمام ياشريف..نهضَ من فوق سريرهِ واتَّجهَ إلى قضاءِ صلاةِ الضحى، تململت بنومها، اعتدلت بعدما شعرت بفراغِ السرير، وقعَ بصرها على صلاته، جمعت خصلاتها ونظراتها عليه، انتهى من الصلاةِ متَّجهًا إلى غرفةِ ملابسهِ ولكنَّهُ توقَّفَ بعدما وجدها استيقظت:
-صباح الخير ياميرا..
-نهضت من فوقِ الفراشِ بعدما وجدت أنَّ الساعةَ تجاوزت الثانية عشر..
-صباح الخير حبيبي، نازل الشغل، مش كنت بتقول مش هتنزل؟..
اقتربَ منها وحاوطَ أكتافها وعيناهُ تتجوَّلُ على ملامحها التي يصرخُ القلبُ باسمها، قائلًا بصوتهِ الأجش:
-مش هتأخَّر، جهِّزي المحشي بتاعك لمَّا أرجع..ضحكت تدفنُ رأسها بصدرهِ ثمَّ حاوطت خصرهِ ممَّا جعلهُ يتراجعُ منتفضًا:
-توبة ياربي، ناوية تدخَّلني النار..ارتفعت ضحكاتها قائلة:
-دا حضن بريئ، اندفعَ إلى غرفةِ ملابسه:
بريئ ياميرا؟ ومعايا!! طيب الكلام دا مع حدِّ غيري يعني..
سارت إلى أن وصلت إلى وقوفه:
-دايمًا ظالمني ياإلياس، واللهِ بريئ..
أشارَ مبتعدًا:
-ابعدي يابت، يخربيتك، إنتي مش صايمة، ولَّا نو إحساس ياروحي..
اقتربت خطوةً تضعُ كفَّيها المتشابكينِ خلفَ ظهرها:
-روحك، طيب شوف إنتَ اللي بتجرجرني وأنا صايمة..
توقَّف عمَّا يفعلهُ يرمقها بحذرٍ ثمَّ قال:
-بتِّ ماتستهبليش، واطلعي برَّة عايز أغيَّر هدومي..روحي صلِّي الضحى، الضهر خلاص هيدَّن..
مطَّت شفتيها متذمرةً وغمغمت:
-شوف إنتَ اللي بتجرجر فيَّا أهو، قالتها وتحرَّكت للخارج ..ظلَّت نظراتهِ على خروجها إلى أن أغلقت البابَ خلفها:
-عبيطة جاية تبيع المية في حارةِ السقايين.
بعد فترةٍ وصلَ إلى السويس، قابلهُ الرجلَ الذي عيَّنهُ شريف لمراقبةِ راجح:
-أخد مدام رانيا وراح على المينا ياباشا.
-مينا؟! ليه؟..قالها بشرود، ثمَّ تحرَّكَ بسيارتهِ متَّجهًا إلى المينا مع الرجلِ الذي يراقبه، وصلَ رجلًا آخرَ إليهم:
-أجَّر يخت ياباشا..ترجَّلَ إلياس من السيارةِ ينظرُ إلى البحرِ يكلِّمُ نفسه:
-ناوي على إيه ياراجح؟ وجاي هنا ليه؟..يكونشِ هتقابل اللي مشغَّلك..طيب أعمل إيه..توقَّفَ لدقائقَ ثمَّ أشارَ إلى الرجل:
-شوف لي يخت يابني، وعايز اتنين سيَّاح، اتصرَّف بسرعة..أومأ له فتحرَّك إلياس إلى داخلِ الميناء..ولكنَّهُ توقَّفَ حينما وجد أحدِ الرجالِ يحاوطُ جسدَ دينا وكأنَّه يرغمها على الحركة، رفعَ هاتفهِ وحاول الوصولَ إلى إسحاق ولكن لا يوجد رد..
عند إسحاق قبل ساعة:
منكبًّا على عمله، استمعَ إلى صوتِ هاتفهِ برسالةٍ ما، رفعهُ ظنًّا من أرسلان ولكن وجدها من مجهول، فتحها وبدأ يقرأُ مابداخلها:
-إسحاق حمزة عايش...
ظلَّ يردِّدُ تلك الكلماتِ التي أنارت بهاتفه، ليتجمَّدَ جسده، مصدومًا يشعرُ ببرودةٍ تجتاحُ جسدهِ وكأن دلوًا من الماءِ المثلجِ سُكب عليه؛ ليهتزَّ داخلهِ وينهضَ بلهفةٍ يمسكُ هاتفهِ متحرِّكًا بخطواتٍ تأكلُ الأرض، وجرحهِ غائرًا، غائرًا جدًا كالذي أصابهُ سهمًا ليصيبَ قلبهِ الذي يترنَّحُ بداخله كالموجِ المتلاطم:
-فين أحلام هانم؟..
-للأسف ياباشا فقدنا أثرها..
احتدَّت نظراتهِ وهدرَ بصوتٍ كالضجيجِ الذي يخنقُ جوارحه
-عايزها لو في القبر، تطلَّعوها وتجبوها، سامعني..قالها لتزدادَ شراستهِ وهو يستقلُّ سيارتهِ ويتحرَّك بسرعةٍ جنونية، لتتحرَّكَ السيارةُ وكأنَّها لا تلامسُ الأرض، وعيناهُ الجامدة على الطريق، تحملُ من الألمِ مايحطِّمُ جبالًا عاتية..أطبقَ على جفنيهِ يحاولُ إسكاتَ همساتِ الشيطانِ أن يصلَ لوالدتهِ ويلقيها لحتفها حتى تصارعَ الموت..استمعَ إلى هاتفهِ مرَّةً واثنتان وهو يتجاهلهُ بعدما وجدَ اسمَ إلياس ينيرُ بشاشته ..وصلَ إلى المكانِ المنشودِ يتطلَّعُ إلى المقبرةِ التي دفنَ بها فلذةَ كبده، يشيرُ إلى آدم الذي وصلَ للتوِّ من قبل فريقِ إسحاق:
-عايز أعرف الطفل دا ابني ولَّا لأ؟..هتعرف ولَّا أشوف غيرك؟..
نظرَ آدم إليهِ بتيه وتساءل:
-مع احترامي لحضرتك، بس دي طريقة تجيب بها دكتور؟..أنا دكتور مش متَّهم..قاطعهُ رنينُ هاتفهِ مرَّةً أخرى..رفعَ هاتفهِ قائلًا:
-الدكتور عندي ياإلياس، ياريت تقولُّه بلاش محاضراته..أنا مش طالب قدَّامه في الجامعة..
-إسحاق باشا، مدام دينا في مينا السويس..قالها والتقطَ صورةً وأرسلها:
-شوف دي، وأنا معاك على التليفون..
🤍🤍🤍
زلزالًا انتفضَ بجسدهِ وكأنَّ القيامةَ قامت داخله، والعالمُ بأسرهِ ينكمشُ ثمَّ ينفجرُ دفعةً واحدةً في صدره.
شعرَ بدورانِ الأرضِ تحت قدميه، بل كانَ إحساسًا طاغيًا بأنَّ الكونَ ينهارُ فوق رأسه، ينشطرُ إلى شظايا متناثرة لا يمكنه التقاطها، لا يمكنهُ حتى أن يتنفَّسَ بينها..
حينما التقمت عيناهُ زوجتهِ وهي تحملُ طفلهِ بين ذراعيها، تضمُّهُ إلى صدرها، ثارَ كالبركانِ الذي أوشك َعلى الانفجارِ يشعرُ بأنَّ أحدهم يقتلعُ روحه، ظلَّت عيناهُ تلتهمُ ذلك المشهد..بجانبها رجلٌ آخر، يسيرُ بجوارها بخطواتٍ ثابتة، خطواتٌ كأنَّها مساميرٌ تُدقُّ في قلبه..ومازال شعورُ الألمِ ينزفُ داخله، بل يشعرُ بأنَّ أحدهم بترَ عنقهِ ولكن تركَ به روحهِ لكي ينصهرَ بكمِّ الألم..
حاولَ أن يتحرَّك، أن يصرخ، أن يصلَ إليها كالحمامِ الزاجل..و لكن قدميهِ لم تتحرَّكا، كأنَّهما جُذبتا إلى قاعٍ عميق. لم يكن مجرَّد عجز، بل كان موتًا على قيدِ الحياة.
أيُعقل هذا الشخصُ هو إسحاق..صقرُ المخابرات؟
دقائقَ كالسيفِ على العنقِ محاولًا السيطرةَ على جسدهِ المرتجفِ بنزيفِ الخيانة، رفعَ الهاتفَ بيدهِ المرتعشةِ وأنفاسهِ المتقطِّعة، وكأنَّ الهواءَ يرفضُ الدخولَ إلى صدره..ضغطَ الرقم، وصوتهِ خرجَ مخنوقًا:
-"إلياس...خلِّيك وراها...أنا في الطريق."
-تمام أنا هنا متقلقش، أتمنَّى ماتتأخرش.
لم يستمع بما نطقَ إلياس، فالألمُ فاقَ كلَّ الحواس، إلى أن أصبحَ قاسيًا كحدِّ السكين..
رفعَ نظرهِ بتيهٍ فيما حوله..نظرَ آدم إليه بشفقةٍ منتظرًا التعليمات، لكنَّهُ لم يقوَ على النطق...فقط أشارَ إليه بإصبعه، وصوتهِ خرجَ هادئًا بطريقةٍ مخيفة:
-"خليك جاهز، في أيِّ لحظة هكلِّمك."
ثمَّ التفتَ إلى أحدِ رجاله، عيناهُ تحكي كمَّ الألمِ الذي يشعرُ به، فهمسَ بخفوت :
- "رجَّعوا الدكتور من المكانِ اللي جبتوا منُّه."
قالها، ثمَّ استدارَ بسرعة، كأنَّ النارَ تحت قدميه، فتح بابَ السيارةِ بعنف، وركبها، وقبل أن يُديرَ المحرِّك، أمسكَ المقودَ بيدينِ مرتجفتين، وأنفاسهِ تتصاعدُ كأنَّها براكينٌ تريدُ أن تنفجر:
"لا، مستحيل...مش هيحصل."
ضغطَ على دوَّاسةِ الوقود، فانطلقت السيارةُ بسرعةٍ جنونية، كأنَّها تترجمُ الفوضى العارمة في رأسه..عيناه ُعلى الطريق، ولكنَّهما لم تريا الطريقَ أمامه... لم تكن هناك إلَّا صورةٌ واحدة تتكرَّرُ في ذهنه:
وهي تأخذُ طفلهِ معها، تطعنهُ دون رحمة..
ارتجفَ جسده، ليس بردًا، بل غضبًا، خذلانًا، ألمًا لم يعرف له اسمًا..
عند إلياس:
أخرجَ هاتفه، وضغطَ على اسمِ شريف،
"شريف، وصلت؟"
- "دخلت السويس خلاص، إنتَ فين؟"
ـ"تعالَ على المينا في ( )."
-"أوك، جاي."
بعد فترةٍ قصيرة، وصلَ شريف..ترجَّلَ من سيارتهِ واقتربَ منه، بينما نزلَ إلياس بمجرَّدِ أن رآه، عيناهُ تضيقانِ بحذر.
- "اسمعني كويس، فيه واحدة هنا عايز عينيك متفرقهاش لحظة."
أخذ نفسًا عميقًا، ثمَّ أضافَ بصوتٍ أكثرَ حدَّة وهو يشيرُ إلى البحر:
- "هنزل البحر وراجع لك...شريف، الستِّ دي مينفعش ِتخرج من المينا بأيِّ شكل، وقَّف أيِّ إجراءات خروج لها، لأنَّها خارجة بطريقة غير مباشرة."
رفعَ شريف حاجبهِ متسائلًا:
- "هيَّ مجرمة؟"
ربتَ على كتفهِ بجديَّة، وضعَ نظارته، ثمَّ قالَ بصوتٍ قاطع:
-"نفِّذ وإنتَ ساكت."
لم يمنحهُ فرصةً للرَّد، استدارَ ومضى مباشرةً نحو الشاطئ، تاركًا خلفهِ أسئلة بلا إجابات، وأعصابًا مشدودةً كوترٍ على وشكِ الانقطاع..وشريف يدورُ حول نفسهِ بجهلِ مايفعلهُ يتمتم:
-وبعدين ياإلياس هتفضل طول عمرك كدا، بتشكِّ في كلِّ اللي حواليك..أوف أوف..قالها وتحرَّكَ إلى الداخل..
على شاطئِ البحر، بأماكنِ السفن، وصلَ إلى أحدِ رجاله:
-عملت إيه؟!.
-اليخت جاهز ياباشا، بس راجح لسة ماخرجشِ بيه
-هوَّ فين؟..تساءل بها وهو يتلفت حوله بحذر..
في الشاليه...أومأ له وتوجَّهَ نحو اليختِ، ولكنَّهُ توقَّف حينما لمحت عيناهُ الرجلَ الذي كان يتحرَّكُ بجوارِ دينا يتحدَّثُ مع سيدة..تراجعَ متَّجهًا إليهم..توقَّفَ على بعدِ خطوات حتى يحينُ له التصرُّفَ إذا خرجَ الأمرُ عمَّا أدركه..
قطبَ جبينهِ حينما ترجَّلت من سيارتها:
-مش دي أحلام الجارحي؟..
هوَّ إيه اللي بيحصل؟!..يعني هيَّ اللي بتساعدها في الهروب، وبعدين بقى..كان ناقصني أنتوا كمان، التفتَ ببصرهِ إلى الشاطئِ حتى وصلَ الرجلُ إليه:
-أفندم ياباشا..
-راقب راجح، لو جه عرَّفني..قالها وتحرَّكَ خلفَ أحلام..
بالداخلِ عند دينا:
ولجت أحلام إلى الغرفةِ التي تحتجزها بها، جلست وعيناها ترمقُ دينا التي انزوت بأحدِ الأركانِ تحتضنُ طفلها:
-ابنك في حضنك وزي ما اتَّفقنا، هتسافري، إسحاق لو عرف حاجة متفكريش مش هعرف أجيبك..
-ليه بتعملي كدا؟..معقول علشان الفلوس؟!!..
ضحكت أحلام بسخريَّةٍ تضعُ ساقًا فوق الأخرى وأشارت إليها بإشمئزاز:
-إنتي مفكَّرة نفسك مين علشان تسألي السؤال دا؟..فكَّري في نفسك وبس، خافي على ابنك يادينا، أنا حذَّرتك كتير بس إنتي غبية اتحميتي في إسحاق، شهرين وأنا بخطط لكدا يادينا، بس اخيرا هرتاح منك، متزعليش هبعتلك اللي يساعدك هناك..قالتها تنظر إلى أظافرها ثم نزلت ببصرها إليها
-هقولك حاجة علشان ترتاحي، لازم اسحب من اسحاق كل حاجة بيحبها زي ماهو زمان سحب مني حياتي، اصلك متعرفيش سبب وجوده حياتي انقلبت ازاي
-إنت اكيد مش طبيعية دا ابنك
-اخرصي يابت، مالكيش فيه..دلفَ الرجل:
-مدام، ورق المدام ماتقبلش..
هبَّت من مكانها وهدرت بحدَّة:
-إزاي يعني ماتقبلش؟..إنتَ مجنون، لازم تتصرَّف، لازم تسافر النهاردة، سمعتني، لازم وإلَّا هقتلك..
أمسكت هاتفها وصرخت بالتليفون
-مش قولت لك عايزة كل حاجة جاهزة، اتصرف ليه ورق البت دي اترفض
-اهدي يااحلام، انا هشوف واتصرف، متخافيش مجهز خطة تانية
-البت دي لازم تسافر المكان اللي قولت لك عليه، لازم اسحاق يبعد عن المخابرات، طول ماهو قوي مش هعرف ارجع حقي منه، كفاية بقى لحد كدا
-احلام اسمعيني كويس، انا اكتر واحد عايز اخلص منه، موقف شغلي وحالي، غير مش ناسي أنه السبب في فراقنا، بس الي مصبرني عليه أنه ابنك
اقفلي وأنا هبعت حد يشوف ليه الورق اترفض رغم تغيير اسم البنت
قبل قليلٍ بداخلِ الميناءِ بإحدى الغرفِ المسؤولةِ عن خروجِ ختمِ الجوازت، دلفَ بهيبتهِ وأخرج كارتهِ الوظيفي:
-أؤمر ياباشا..فتحَ هاتفهِ وأشارَ إلى صورةِ دينا:
-أيِّ حاجة تخصِّ الستِّ دي مرفوض، سمعتني؟..
-أسبابك يافندم، قالها الرجلُ الآخر، التفتَ يرمقهُ بنظرةٍ كادت أن تحرقه:
-مش من أسرار شغلي أقول كلِّ حاجة لكلِّ من هبَّ ودبّ، أنا قولت ورقها يترفض وجاي لك بصفة رسمية..
خرجَ إلياس إلى الكافيه المقابل وجلسَ يتفحَّصُ المكانَ بعينيهِ الصقرية..رفعَ هاتفهِ ليتأكَّدَ ممَّا إذا كان أرسلان قد اتَّصلَ به دون أن يلاحظ، لكنَّهُ لم يجد شيئًا..تنهَّدَ وهو ينقرُ بأصابعهِ على الطاولةِ أمامه، قبل أن يلمحَ الرجلَ يدخلُ إلى المكتبِ المسؤولِ عن الجوازات..
توقَّف الرجلُ هناك لدقائقَ قليلة، ثمَّ خرجَ مرَّةً أخرى.
زمَّ شفتيهِ بشرود، متسائلًا في نفسه:
– يا ترى إيه اللي بيحصل في العيلة دي؟
استرجعَ ذكرياتهِ منذ أكثرَ من شهرين حين كان يجلسُ مع أرسلان…
– أيوة يا عمُّو…قالها أرسلان وهو يصغي باهتمامٍ للمكالمة…
ثمَّ أردف: تمام، خمس دقايق وأكون عندك.
أنهى المكالمة ونظرَ إلى إلياس قائلاً:
– أنا همشي دلوقتي، وهنأجِّل موضوع راكان البنداري لبعدين، بس من كلامك عنُّه، شكله هيوقف معانا، متقلقش.
قطبَ إلياس حاجبيهِ متسائلًا:
- في حاجة ولَّا إيه؟ إحنا واخدين موعد مع الراجل، وده عيب في حقِّنا.
مرَّر أرسلان يدهِ على وجههِ بضيق، ثمَّ قالَ بانفعال:
– مرات إسحاق هربت من المستشفى.
نظرَ إليهِ إلياس باندهاش: مراته؟!..
أكملَ أرسلان وهو يزفرُ بضيق:
– إنتَ عارف إنَّها كانت محجوزة بعد وفاة الطفل، والموضوع ده مرهق جدًا لإسحاق، ومينفعشِ أسيبه لوحده.
ظلَّ إلياس يحدِّقُ فيه للحظاتٍ قبل أن يقول:
– مراته؟! هوَّ إسحاق متجوِّز؟
ضيَّقَ أرسلان عينيهِ ونظرَ إليه بصمتٍ للحظات، ثمَّ قالَ بنبرةٍ هادئة:
– بقولَّك ابنه، بتقولِّي متجوِّز…
ثمَّ أضافَ بعدما زفرَ بعمق:
– إسحاق متجوِّز بقاله خمس سنين، بس هوَّ رافض حدِّ يعرف، وأنا احترمت رغبته.
ظل إلياس ينظر إليه بتركيز، ثم قال متعجبًا:
– متجوز في السر؟ ليه واحد زيه، بمكانته، يتجوز في السر؟ وبعدين حرام شرعًا يا بني.
هزّ أرسلان رأسهِ نافيًا سوءَ الفهم:
– لا، بابا وماما عارفين، وكمان أهل مراته عارفين، بس ليه مش معلن، دي كانت رغبته وأنا احترمتها..الجواز شرعي، مش اللي في دماغك.
سألهُ إلياس: مين مراته؟
– مهندسة في الشركة عندنا، شكلها بنت كويسة، وبما إنَّها قدرت توقَّع إسحاق يبقى أكيد موثوق فيها.
صمتَ إلياس لوهلة، ثمَّ قال:
– طيب ليه هربت؟
زفرَ أرسلان بضيق، وأجابَ وهو يزمُّ شفتيه:
- معرفش، بس مفيش بينهم مشاكل، من فترة، تيتا قلبت الدنيا لمَّا عرفت بالجواز، وبعدها مراته حاولت تبعد عنُّه بسبب ضغطِ تيتا، لكنُّه راضاها بعد كده، معرفشِ إيه اللي حصل…بصراحة دخلنا في موضوعنا وقصَّرت معاه.
أومأ إلياس متفهِّمًا، ثمَّ قالَ بعد لحظةِ تفكير:
– لو عايز مساعدة، متقلقش، مش هقولُّه ولا كأنَّك قلت حاجة.
تردَّد أرسلان قليلًا، ثمَّ أخرجَ هاتفهِ وأرسلَ صورة لدينا، قائلًا:
– أتمنَّى توصل لحاجة، وأنا كمان هدوَّر وأشوف..
أخذَ إلياس الهاتفَ وسجَّلَ الصورة، ثمَّ قالَ بثقة:
– هسجلَّها عندي وإن شاء الله نوصل لحاجة، وممكن هوَّ يوصلَّها من غير ما نعمل حاجة أصلاً..
ربتَ أرسلان على كتفه، قائلاً:
– لازم أمشي، وإنتَ قابل راكان وشوف هتعمل إيه.
خرجَ من شرودهِ على وصولِ أحدِ الرجالِ يبدو أنَّهُ ذو سلطة، دلفَ لدقائقَ وخرج..ظلَّت عيناهُ تراقبُ ذلك الرجلَ إلى أن وقعت عيناهُ على بعض الرجالِ الذين اقتربوا منه..
ضغطَ على شفتيهِ يهزُّ رأسهِ بسخرية:
-دا الموضوع طلع ليلة بقى، وياترى مين عريس الليلة دي؟..يعني أنا آجي لراجح ألاقي مصايب..مرَّت قرابةُ الساعتين..
تنهَّدَ ومازال يتابعُ المشهدَ من تحت نظارتهِ السوداء..
استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة..
-راجح وصل ياباشا هوَّ ورانيا
-تمام قالها وتوقَّفَ من مكانه، وسارَ إلى الشاطئ..توقَّفَ على رنينِ هاتفه:
-أيوة يافندم..
-أنا وصلت ياإلياس، استدارَ متحرِّكًا واتَّجهَ إلى مكانه:
-فين..!!
قامَ بالاتِّصالِ بشريف:
-إنتَ فين؟!.
الستِّ خرجت متَّجهة للشاطئ بس مش جهةِ السفن، على الجهة الخلفية..
التفتَ إلى إسحاق سريعًا:
-شكلهم هيسفَّروها برَّة المينا..
هرولَ إسحاق كالمجنونِ بالاتِّجاهِ المخالفِ عن المينا، بينما توقَّفَ إلياس
-خليك ورا راجح، شوفوه هيعمل إيه، وعايزك تصوَّره، سمعتني؟..
-أمرك ياباشا..خطا خلف إسحاق الذي وصلَ إلى الشاطئِ بدقائقَ معدودة..
-فيه لانشات أو أيِّ حاجة خرجت من هنا؟..
هزَّ الرجلُ رأسهِ باضطراب..اقتربَ إلياس منه وعيناهُ تخترقُ حركاتِ الرجل:
-اللانش اللي خرج من دقايق مشي لفين؟..
مفيش حاجة خرجت..قالها بتقطُّع..
اقتربَ يطبقُ على عنقه:
-متخلنيش أفقد اعصابي عليك واحنا صايمين، اللانش اللي خرج راح فين؟..
أشارَ الرجلُ بإصبعهِ على اتِّجاهِ تحرُّكه:
-عايزين واحد بسرعة..خطا إسحاق سريعًا وكأنَّهُ يدوسُ على كتلٍ نارية، نطَّ كشابٍ عشريني يشيرُ إلى إلياس أن يتركَ الرجل..
ركضَ خلفهِ بعدما وجدهُ يستعدُّ للتحرُّك..
-انزل ياإلياس بقولَّك.
-لو عايز تلحقهم ياباشا لازم نتحرَّك..طالعهُ لدقائقَ ثمَّ قادَ اللانش بأقصى سرعتهِ للِّحاقِ بهم..
كان يتحرَّكُ في عرض البحرِ وكأنَّهُ طائرة فوق السحاب، لا يرى سوى زوجتهِ التي تغادرُ بطفله..
دقائقَ معدودةً حتى ظهرَ أمامهِ ذلك اللانش الذي يحملُ دينا وطفله، أفلتت ضحكةً بعدما ظهر منتصب الجسد فوق اللانش و وجدتهُ يقتربُ منهم، همست بخفوت:
-إسحاق..قالتها بلمعةٍ من عينيها، رفعَ الرجلُ سلاحهِ تجاهَ اللانشِ الذي به إسحاق والياس..
قامَ إلياس بتبليغِ شرطةِ السواحلِ عن مكانهم دون تفكير.
-إلياس أوعى تضرب نار، ابني معاهم.
-إحنا كدا هنموت..
-نموت ياأخي، مراتي وابني معاهم..
-تمام تمام اهدى لازم نفكَّر بحل، اللانش سريع جدًا، السباحة صعبة..
انزل برأسك بس..
ظلَّت الطلقاتُ الناريةِ تصوَّبُ تجاههم، دقائقَ ووصلت شرطةُ السواحل تحاصرهم..أمسكَ أحدُ الرجالِ دينا بطفلها ووضعَ السلاحَ برأسها:
-لو قرَّبتوا هموِّتها..
تراجعَ إسحاق ينظرُ إلى إلياس:
هنزل البحر، وإنتَ حاول تلهيهم..
-مستحيل.
-نفِّذ وإنتَ ساكت.
-يافندم صعب على حضرتك السباحة في العمقِ دا..
-إنتَ ناسي أنا شغَّال إيه؟..
-اسمعني..حضرتك،اسمعني أنا ممكن أنزل البحر، وحضرتك اللي ظاهر في الوش، أكيد عارفين حضرتك..
-إلياس..نزعَ إلياس سترتهِ يشيرُ بيديه:
-خلاص مش هتفرق، أنا هعرف أتولى الأمر، متخفش.
-يابني اللي بتعمله..
-لو سمحت..قالها وهو يتِّجهُ إلى طرفِ اللانش ويقفزُ إلى البحرِ بهدوء، بعد وقوفِ إسحاق ينظرُ إلى الشرطة التي اقتربت منه، ليخبرهم عن الوضعِ دون الخوضِ بشيء..
ارتفعت صيحاتُ الشرطةِ بمكبِّرِ الصوت الذي يُسمَّى المذياع، بالتحذيرِ والمساءلةِ القانونية..
مرَّت أكثرُ من نصفِ ساعةٍ ثقيلةٍ على الجميع، محاولةِ الخارجينَ عن القانونِ بالهروب، واستخدامهم العنف، أردفَ أحدهم:
-هنعمل إيه؟..
أشارَ إلى دينا:
-دي منقذنا الوحيد، انسابت عبراتها مع بكاءِ طفلها المتواصل، ولم تردِّد سوى اسمِ زوجها، ورغم وجودهِ على بعدِ مسافةٍ قريبةٍ إلَّا أنَّها رأتها كفارقٍ بين السماءِ والارض، همست بتقطُّع:
-سبوني وأنا مش هبلَّغ عنكم، هقولُّهم كنت خارجة سياحة معاكم، لو سمحتم..
دفعها الرجلُ بقوَّةٍ إلى أن سقطت تضمُّ رضيعها مع زئيرِ إسحاق لهذا المشهدِ الدموي.
دقائقَ عصيبة، إلى أن وصلَ إلياس إلى اللانشِ المتوقِّفِ بعرضِ البحر بعد حصارهِ من كافةِ الأنحاء، ورغم ذلك مازالت دينا تحت سيطرةِ أيديهم الملطَّخةِ بالدماء..
تشبَّثَ إلياس باللانش، يتجوَّلُ بعينيه.. كيف سيصيبُ هدفهِ دون سلاح..
تسلَّلَ داخلهِ بحذر، وتحرَّكَ إلى الجهةِ الآمنة بعيدًا عن الرجالِ التابعين لرجالِ الشرطة..
تحرَّكَ وعيناهُ تفحصُ كلَّ شبرٍ إلى أن وقعت عيناهُ على زجاجةٍ للكحول، حملها وسارَ بخطاً مدروسة، إلى أن وصلَ بأحد الأركانِ متوقِّفًا يتابعُ المشهدَ عن كثب، حتى يستغلَّ الفرصة، استمعَ الى أحدِ الرجال:
-خد الستِّ دي ولفِّ الناحية التانية، وخلِّيكم مستعدِّين..لو منفذوش مطالبنا أرموها في البحر..قاطعهُ أحدهم:
-لا أنا اللي هرمي نفسي دلوقتي، مش مليون جنيه اللي تضيَّع شبابي، رفعَ الرجلُ سلاحهِ بعد اعتراضه، وأطلقَ رصاصته، واتَّجهَ بنظرهِ الى الآخر:
-زمان المركب منتظرانا، لازم نتصرَّف..
سحبَ دينا وهي تتلفَّتُ إلى إسحاق الذي اقتربَ منهم، صاحَ الرجل:
-لو قرَّبت هموِّتها..دلفَ الآخرُ إلى الجهةِ المنشودة، تحرَّكَ ليجذبهُ إلياس بقوَّةٍ يدورُ برأسهِ سريعًا ليلفظَ أنفاسهِ، مع صرخاتِ دينا التي جعلت الآخرين يلتفتونَ إليها، لحظات لم تحتاج إلى تفكيرِ إلياس حينما رفعَ سلاحَ الرجلِ وأطلقَ طلقتهِ الأولى على أحدهم..فحدثَ هرجٌ ومرجٌ وهو يدفعُ دينا لتسقطَ بابنها بأسفلِ اللانش..وظلَّ بتبادلِ الطلقاتِ الناريةِ مع اقترابِ الشرطةِ واستحواذهم عليهم
بعد فترةٍ كانت تجلسُ تنتفضُ بخوفٍ بإحدى غرفِ المينا..بينما بالخارجِ يقفُ إسحاق مع أحدِ الضباطِ للتحقيقِ فيما حدث..
توقَّفَ إسحاق أمام الرجلِ الوحيدِ الذي مازال على قيدِ الحياة..مع ذهابِ إلياس إلى راجح بعد اتِّصالِ رجله:
-باشا، راجح رمى رانيا في البحر..
-جايلك، متتحركش من مكانك، ثم قام الاتصال بشريف
-خليك مع اسحاق باشا لحد مانشوف هنعمل ايه
-إنت فين..تسائل بها شريف
-رايح لراجح، المهم عرفت اللي ورا موضوع اسحاق دا واحد تقيل وعايز يغرقه، ايه الأسباب شريف باشا هيقوم بالواجب
-هو انا مقولتلكش يابن سيادة اللوا
-لا ياحليتها ماقولتش
-مش أنا بحب التسميع ومبحبش الكتابة، إلياس شغلنا واقف خد بالك من الحتة دي
-شريف حبيبي لو عايز تتجوز وانت سليم تجبلي اخبار الراجل الغامض بسلامته، وياله صدعتني كفاية فيلم راجح
عند اسحاق
اقتربَ إسحاق من الرجلِ وعيناهُ لهيبًا من النيران:
-إنتَ تبع مين؟..وليه كنت خاطف مراتي؟..
ابتسمَ الرجلُ ساخرًا:
-إيه ياإسحاق باشا نستني..دقَّقَ إسحاق النظرَ به، ولكنَّهُ غابَ عن ذاكرته..
اقتربَ منه بهدوءِ مايسبقُ العاصفة حتى أطبقَ على عنقهِ يرفعهُ للأعلى:
-مش عايز فوازير..مين اللي سلَّطك عليَّا يالا؟..
حاولَ الضابطُ إنقاذَ الرجلَ من بينِ براثنه، ولكنَّهُ كان كشيطانٍ لايرى سوى مؤمنٍ زاهدٍ بالدنيا..تركهُ بعدما استمعَ الى صرخاتِ دينا تضمُّ ابنها:
-ابعدوا عنِّي..
استدارَ إليها حينما استمعَ إلى صوتِ أحدهم:
-يامدام اهدي، الولد لازم دكتور يشوفه..
جذبَ الرجلُ سلاحَ أمين الشرطة:
-إسحاق خد حق أبويا..قالها
وأطلقَ رصاصتهِ لتستقرَّ بصدرِ إسحاق ليرتفعَ الضجيج، حتى وصلَ الأمرُ إلى قتلِ الرجل..
بفيلا الجارحي..
دلفت صفية إلى غرام التي جلست على مصلَّاها:
-حبيبتي قاعدة كدا ليه؟.،
رفعت عينيها الباكية إلى صفية وتمتمت بتقطُّع:
-مفيش كنت بقرأ وردي القرآني..اقتربت منها وجلست بمقابلتها، ثمَّ أزالت دموعها بحنان:
-بتعيَّطي ليه يابنتي؟..دا إنتي صايمة، وحامل كمان، دماغك هتوجعك..
- مفيش ياماما، حاسَّة إنِّي مخنوقة وعايزة أعيَّط، قولت يمكن لمَّا أعيَّط أرتاح..
ضمَّتها صفية بحنانٍ أمومي تمسِّدُ على ظهرها:
-ربنا يريَّح قلبك حبيبتي، إن شاءالله جوزك يطمِّنا عليه، اصبري إسحاق يرجع وهوَّ يتصرَّف..
أزالت دموعها ورسمت ابتسامةً راضية:
-إن شاءالله، هقوم ألهي نفسي بالمطبخ، عايزة أعمل حاجة حلوة لبابا وأخدها معايا له، اذا سمحتي طبعًا..
شهقت صفية تهزُّ رأسها متذمِّرة:
-كدا ياغرام، حدِّ قالك عليَّا بخيلة؟..
-أبدًا والله ياماما، بس لازم أعرَّف حضرتك، زياد هيجي لي بعد ساعة كدا، أكون خلَّصت..
ربتت على كتفها وساعدتها بالقيام:
-قومي حبيبتي، إنتي صاحبة بيت مش تستأذني، إنتي مرات الغالي..
-شكرًا ياماما..قالتها وخطت ناحيةَ المطبخ، تنهَّدت صفية وأمسكت هاتفها تحاولُ الوصولِ إلى إسحاق، ولكن كالعادة هذا الهاتف مغلق..
بعد شهرين
كان يقف أمام غرفة العناية ينظر لذاك الجسد وكأنه فارق الحياة، اقتربت تربت على كتفه
-هتفضل كدا ..لمعت عيناه بالدموع هامسًا بصوت رجل أضاع كل ما يملك
-نفسي أضمه أوي، أنا عارف أنه حاسس بيا..عانقت ذراعه وتمتمت بنبرة تحمل مزيج من الحزن والألم :
-حبيبي لو سمحت لازم ترتاح شوية، ملست على ذقنه
-شوف دقنك بقت عاملة ازاي!!
استدار إليها بضعف رجل ماتت كل حواسه
-وايه تفيد الحياة وهو مش موجود
-طيب احنا ذنبنا ايه..؟!
-ارجعي على البيت ..همست اسمه، رمقها بنظرة كادت تقتلها لتتراجع للخلف تطبق على جفنيها بعدما فقد صبرها
بمنزل يزن
دارت إيمان حول نفسها بفستان خطوبتها، تتأمله بفرحة طفولية، ثم التفتت إلى رحيل بعينين تلمعان حماسًا:
- إيه رأيك يا رحيل؟ حلو؟ لفيت المولات كلها لحد ما لقيت اللي عجبني، غادة وميرال تعبوا معايا أوي... كان نفسي تكوني معانا، بجد.
كانت تنظر من النافذة بشرود، جسدها فقط هو الذي يجلس، أما روحها فكانت حبيسة خلف جدران هذا السجن، وكأنها تحلم بأن تهرب من بين القضبان التي أحاطها بها يزن. اخترق صوت ايمان شرودها، فالتفتت إليها ببطء، تنظر إليها بتيه والعجز يكسو وجهها، فهتفت بسخرية مريرة:
- البركة في أخوكي، اللي حابسني وكأني في سجن!
تجمدت الابتسامة على وجه إيمان، وخفضت عينيها بأسف، وشعرت بوخز الذنب في قلبها، فتمتمت بصوت خافت:
- آسفة يا رحيل... معرفش يزن بيعمل معاكي كده ليه.
لكن رحيل لم تكن بحاجة إلى أسفها، لم تكن بحاجة إلى كلمات جوفاء، اتمنى فقط الحرية! ضحكت فجأة، ضحكة خاوية، مريرة، تحولت في لحظة إلى غضب انفجر كبركان ظل مكبوتًا طويلًا، فنهضت فجأة وصرخت بعنف:
- علشان واطي!!
شهقت إيمان، ونظرت إليها بذهول، تقدمت نحوها خطوة، والعاصفة تشتعل في عينيها:
- أخوكي واطي يا إيمان! منعني عن أمي، وعن حياتي، وعن كل حاجة بحبها! بس أنا خلاص! فاض بيا! لو ما خرجنيش من السجن ده... هقتله!
- حبيبتي، ممكن تهدي؟
أهدى..قالتها مستنكرة، كيف تطلب منها الهدوء بعدما بلغ الألم مداه، وبلغ الغضب ذروته..دخل يزن في تلك اللحظة، مع عاصفتها الهوجاء.. وقفت رحيل تنظر إليه بعينين متوهجتين كجمرات تحترق، بينما قال بهدوء بارد:
- إيمان، سبينا لوحدنا.
ترددت للحظة، قبل أن تستجيب، تنسحب بصمت، تاركة خلفها قلبين يتصارعان بين الحب والكراهية، بين العذاب والانتقام.
وما إن أُغلق الباب، حتى اندفعت رحيل نحوه بكل ما تملك من ألم، تدفعه في صدره، تصرخ، تبكي، تهتز أنفاسها بعنف:
- إنت عايز مني إيه؟! ليه مصر تعذبني معاك؟! أنا بكرهك!! فاهم؟ بكرهك! مش عايزاك! مش طايقة أسمع صوتك! مش طايقة أشوفك! إنت حيوان يا يزن!!
وقف يزن، صامتًا، ملامحه لا تبوح بشيء، عينيه جامدتان، وكأن عاصفتها اماتت كل ما بداخله... للحظة، ظنت أنه لن يهتم ، لكنه نطق أخيرًا، بصوت هادئ، لكنه كان أكثر قسوة من صراخها منذ قليل :
- إنتِ طالق..!!
تجمدت في مكانها. للحظة، لم تستوعب، لم تفهم، لم تصدق. شعرت وكأن الهواء اختفى من حولها، وكأن العالم توقف، لم يرحم ضعفها ليكمل قتلها مثلما قتلته بكلماتها الدمويةا:
-النهاردة حريتك ملكك... الباب مفتوح، وخلاص، محدش هيضايقك تاني.
ثم ابتسم بسخرية، ابتسامة باردة كطعنة خنجر:
- مبروك يا مدام رحيل... الحرية.
تعلقت عيناها بعيناه، لا تعلم أتفرح أم تحزن، ولكن كل ما تشعر به أنها لم تستطع الحركة، لم تستطع التنفس، فقط شعرت بداخلها بشيء يُكسر... شيء كان متماسكًا رغم كل العذاب، لكنه الآن تهشم للأبد. هل كان هذا ما أرادته حقًا؟ الحرية؟ أم أن جدران هذا السجن كانت تخفي ألمًا آخر، أكبر وأعمق...؟
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
صاحبة عيون الغزال
لَا أُبَالِغُ مَا زَلْتُ مُذْ تَلَاقَتْ أَعْيُنُنَا
نَمَتْ أَجْنِحَتِيَ
فَأَخْفَيْتُ قِصَاصَاتِ وَرَقِ الْأَحْزَانِ
فِي جَيُوبِ النِسْيَانِ الْتِي تَحْمِلُ أَسْرَارِيَ
وَتُغَمِرُنِي بِظِلَالِ خَوْفٍ غَامِضٍ
ل أَحمد الشيخ.
توقَّفَ إسحاق أمام غرفةِ العنايةِ المركَّزة، بجسدٍ متيبِّس، روحًا مُعلَّقةً بين الرجاءِ والخوف، وعيناهُ شاخصتانِ نحو الجسدِ الممدَّد على السرير، بلا حراك..قلبهِ يضجُّ بصمتٍ قاتل، كأنَّ الزمنَ توقَّف على ذلك المشهد، ينظرُ على جسده المسجَّى تحت الأضواءِ الباردة، وتحيطُ به الأجهزة كأنَّها تصارعُ الموتَ بدلاً منه..
استندَ على الزجاجِ الشفَّاف، يودُّ لو يحطِّمَ ذلك الجدارِ الفاصلِ بينهما، ورغم أنَّه جدارًا واحدًا بل نافذةً زجاجية، إلَّا أنَّه رآهُ كقاعٍ المحيط، لن يستطيعَ الوصولَ إليه..مرَّر أناملهِ على الزجاج يتحرَّكُ بها على وجهه، يحدِّثُ نفسهِ هل هذا أرسلان، لا لا..
أين هو؟ أين روحه؟ أين ضحكته؟ أين ذلك الصوتُ الذي كان يضجُّ له القلب فرحًا و يملأ البيتَ حياةً؟
تنهَّد إسحاق بصعوبة، يشعر بأن أنفاسهِ تخرجُ مثقلةً بالألم، عيناهُ تتوسلانِ لوجهِ أرسلان بأنَّه لم يتركه..لو يستطيع لاستبدلَ نبضاتُ قلبهِ بقلْبِ ابنه، لو يستطيع، لحمل عنه الألم، لكنَّه هنا، عاجز، ضعيف، وهو الذي لم يكن يعرف الضعفَ يومًا.
اقتربت دينا بخطواتٍ ثقيلة، كأنَّها تمشي فوق أرضٍ من زجاجٍ مكسورٍ تخشى أن تطأهُ بقوَّةٍ فتصاب، وقفت بجواره، نظرت إلى أرسلان، ثمَّ إلى إسحاق، هنا شعرت بالانكسارِ الذي يغلِّفه، وكأنَّه رجلٌ يسيرُ فوق حدِّ السيف..حمحمت حتى تجلي صوتها الذي لم تستطع إخراجهِ ثمَّ قالت بحنانٍ وخوف:
- "وبعدين يا إسحاق؟ هتفضل كده؟ متنساش إنَّك لسة خارج من تعب... صحِّتك مش مستحملة كلِّ ده."
توقف و لم يرد، وكأنَّه لم يسمعها، أو ربَّما سمع لكنَّه لم يعد يملكُ طاقةً للرد..كان غارقًا في عالمه، لا يريدُ أن يرى أو يسمعَ سوى أرسلان...ارتجفت شفتاهُ وتمتمَ بصوتٍ خافتٍ يشعر بأن الكلماتَ تخرج ممزَّقةً من داخله:
-"افتح عيونك، حبيبي...حتى لو لحظة... حتى لو ثانية واحدة، طمِّّن عمَّك عليك."
لكنَّه لم يتلقَّ سوى صمتٍ مميت ٍكحالِ جسده..
مرَّت دقيقة، أو ربَّما ساعة، لا فرق، الوقت هنا بلا معنى..ظلَّ كما هو صامدًا صامتًا، لم يشعر بتعبِ قدميه، ولم يشعر بانهيارِ جسدهِ المنهك المتألِّم..
استندت إلى كتفه، وأحاطت خصرهِ بذراعها، تحاولُ أن تحتويه، أن تخفَّفَ عنه ولو جزءًا من هذا الألم.. رفعت يدها تلمسُ وجنته، و مرَّرت أناملها على ذقنهِ التي طالت، ظلَّت تحدِّقُ به، تحدِّثُ نفسها هل هذا إسحاق الذي تعرفه؟..هل هذا الرجل الذي كان يقفُ شامخًا في وجه الدنيا، الآن أصبح مجرَّد ظلٍّ باهتٍ لإنسانٍ كان يومًا قويًا...أدارت وجههِ تنظرُ لعينيه:
"دقنك طولت أوي، ووشَّك بقى شاحب خالص...علشان خاطري، لازم ترتاح، لازم تاخد بالك من نفسك."
رفع عينيهِ إليها، وطالعها بنظرةٍ، كانت كفيلةً بجعلها ترتجف.
كانت نظراتهِ لم تكن نظراتُ رجلٍ يحيا بل رجلًا في عينيهِ وجعُ العالمِ أجمع..
همسَ بصوتٍ منكسر:
-"روحي يا دينا."
- "بس..."
رفعَ إصبعهِ محذِّرًا، وأردفَ بصوتٍ هادئٍ ورغم هدوئهِ إلَّا أنَّهُ نطقها بحزمٍ قاطع:
- "ولا كلمة، روحي لابنك..أنا مش هتحرَّك من هنا غير لمَّا أسمع صوته."
قالها ثمَّ عاد ببصرهِ إلى أرسلان، بعينينِ تمتلئانِ بالدموعِ المحبوسة تأبى الانهيار..وتمتمَ بصوتٍ بالكاد يُسمع، لكنَّه كان كفيلاً بتمزيقِ أيِّ قلبٍ يسمعه:
"هنا ابني البكري..وهناك ابني الصغير... وأنا بينهم..."
قالها وهو يشعرُ وكأنَّ الحياةَ لم تعد تتَّسع له، أحس بأنه محاصرٌ بين فقدين، بين وجعين، بين قلبينِ يموتُ أحدهما أمامه، والآخرُ بعيدًا عنه لا يستطيع احتضانه.
ورغم ذلك، وقفَ يراقب، ينتظر...يشعر بأنَّ روحهِ بأكملها أصبحت معلَّقةً عند ارسلان، الابن الذي لم يربطه دمًا، بل يربطه حياة بحياته، ولكن اين هو، هو آلان يرقدُ قلبه النابض، بين الحياةِ والموت.
وصلَ إليه مصطفى وتوقَّف ينظرُ إلى جسدِ أرسلان، ثمَّ توجَّه إليه:
-مفيش جديد؟..هزَّ إسحاق رأسهِ بالنفي يتمتمُ بنبرةِ كالخطِّ المنكسر:
-لسة مفيش، إلياس عامل إيه؟..
تنهَّد بحزنٍ قائلًا:
:زي ماهوَّ، بس الحمدُلله الكلية بتسجيب، الدكتور قال يفوق من الغيبوبة وكل حاجة هتكون تمام
-الحمدُلله..همسَ بها بخفوت، ربتَ مصطفى على كتفهِ وتحدَّث بنبرةٍ يستعطفهُ بها:
-إسحاق لازم ترتاح، إنتَ خارج من غيبوبة، ارتاح وأنا هنا.
-منين الراحة وابني بيودَّع الحياة ياسيادةِ اللوا..
-أرسلان هيفوق، أنا عندي يقين بربِّنا، المهمِّ لازم ترتاح ولَّا عايزه يفوق ويلاقيك تعبان، معندكشِ يقين بقدرِ ربِّنا؟!
تطلَّع إليه بنظرةِ أملٍ ممزوجةٍ بالرَّجاءِ وكأنَّ حديثهِ جعله يستعيدُ إيمانهِ بربِّه، فهزَّ رأسهِ قائلًا:
- ونعمَ بالله العليِّ العظيم..سحبهُ بهدوءٍ وتحرَّك به إلى غرفتهِ بوقوفِ دينا تراقبُ بصمت، إلى أن دلفَ الغرفةَ التي تبتعدُ بعض الأمتارِ عن غرفةِ أرسلان..
بفيلَّا الجارحي:
جلست على سجَّادةِ صلاتها بعد قضاءِ فرضها؛ وظلَّت تدعو لابنها بدموعٍ تنسابُ فوق وجنتيها بصمت، ولجت إليها ملك ثمَّ جلست بجوارها، ووضعت رأسها فوق أكتافها تتحدَّثُ بصوتٍ خافت:
-ماما أنا حلمت باأبيه أرسلان، توقَّفت عن قراءةِ القرآن تطبقُ على جفنيها بقوة..إلى أن احتضنت ملك كفَّيها:
-أبيه أرسلان بيمسح دموعي ياماما، بيقولِّي متعيطيش ياملوكة أنا جاي لك في الطريق..
شهقةٌ خرجت من جوفِ آلامها تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، ممَّا جعلها تضعُ كفَّيها على فمها..بكت ملك على بكائها تهزُّ رأسها رافضةً أيَّ شعورٍ آخر، وصاحت بنبرةٍ باكيةٍ متقطِّعة:
-أنا أخويا هيرجع لي ياماما، والدليل على كلامي عمُّو إسحاق..الدكاترة قالوا هيموت ورجع، أبيه أرسلان هيرجع وبس..
جذبتها إلى أحضانها تبكي بدون انقطاع، إلى أن خرجت ملك من أحضانها تزيلُ دموعها..ثمَّ رفعت كفَّها تقبِّله:
-ماما صفية ابنك هيرجع، وبيتنا هيرجع يضحك زي زمان، أومأت رأسها بعيونٍ لامعةٍ تشيرُ إلى الخارج:
-بكرة غرام تولد وتجبلنا بيبي يعوَّضنا عن الحزنِ دا كلُّه..
احتوت صفيه وجهها بين راحتيها وقبَّلت جبينها قائلة:
-كبرتي ياملك، كبرتي أوي يابنتي، إن شاءالله حبيبتي..
كان يقفُ على بُعد خطواتٍ يبكي مأساته، ومن يخبرنا بأنَّ أعظمَ الآلامِ هي آلامُ فقدِ الحبيب، فلقد عانى فاروق هذة الفترة مايفوقُ حِملَ الجبال، حينما أُصيبُ إسحاق إصابتهِ الأخيرة، والآن ابنهِ الذي فقدَ الأطباءُ الأملَ بعودتهِ إلى الحياة، تراجعَ بخطواتٍ ثقيلةٍ متَّجهًا إلى غرفةِ مكتبه، ثمَّ جلسَ لبعضِ الوقت..فتذكَّرَ فريدة وحالتها ليرفعَ هاتفهِ ويقومَ بمهاتفةِ مصطفى…
عند مصطفى..
كان يجلسُ بجوارِ فراشها يحملُ كتابَ اللهِ يقرأُ بعضَ آياتِ الذكرِ الحكيم، قاطعهُ رنينُ هاتفه، رفعهُ مجيبًا بعدما علمَ بهويَّةِ المتَّصل:
-أيوة يافاروق خير فيه حاجة؟..
أجابهُ فاروق سريعًا بعدما شعرَ بلهفته:
-مفيش حاجة، أنا كنت بطَّمن بس على مدام فريدة..
ذهبَ ببصرهِ على جسدِ فريدة الذي لا حولَ له ولا قوَّة وأجابه:
-الحمدُلله كويسة، فيه أخبار جديدة على أرسلان انا كنت مع إسحاق من شوية ؟..
-لسة مفيش جديد..تعلقت عيناه بجسد فريدة وتمتم :
-إن شاءالله نطَّمن عليهم قريب، النهاردة الدكتور قال كلية إلياس اشتغلت، بس لسَّة في الغيبوبة، بس فيه أمل بدل الكلية استجابت..
-الحمدُلله، إسحاق قالِّي، ربِّنا يقوِّمه بالسلامة..
اللهمَّ آمين..قالها مصطفى ليتوقَّفَ عن الحديثِ عندما استمعَ إلى همهماتِ فريدة باسمِ إلياس..توقَّفَ متَّجهًا إليها بعد إغلاقِ فاروق:
-فريدة!!..سمعاني؟..أنا هنا حبيبتي افتحي عيونك وفوقي يافريدة، إلياس كويس..رفرفت بأهدابها وانحدرت دمعةٌ على جانبِ عينيها:
-إلياس...ردَّدتها بدموعٍ وهي تنظرُ إلى مصطفى الذي انحنى يحتوي كفَّها الحرِّ من الإبر، ثمَّ ربتَ عليهِ ورسمَ ابتسامة:
-إلياس كويس، والكلية اشتغلت الحمدُلله..
-بجد يا مصطفى ولَّا بتضحك عليَّا، رفعَ كفَّها وقبَّلهُ وأردفَ بابتسامةٍ جعلها متوازنة:
-وحياة فريدة عندي، إلياس كويس، والدكتور طمَّنا، قال المهمِّ الكلية استجابت، إنتي اللي مصبرتيش وأُغمى عليكي من قبلِ كلام الدكتور..
-أرسلان؟..
أرسلان كمان كويس..قطعَ حديثهم دلوفِ إسلام بابتسامة:
-أرسلان فاق ياماما..قالها بابتسامةٍ واسعة، جعلَ فريدة تنهضُ سريعًا تنزعُ الأبرَ رغم محاولةِ مصطفى منعها؛ ولكن كيف يستطيعُ إيقافها وهي الأمُّ التي فقدت النبضَ والروح..
-ابني، ابني يامصطفى، عايزة أشوفه..
-فريدة اهدي لو سمحتي..
نزلت بساقيها المرتعشةِ كحالِ جسدها، تشيرُ إلى إسلام أن يساعدها بالخروجِ إلى فلذةِ كبدها..خطت بجوارهِ بخطواتٍ ثقيلةٍ تجرُّ قدميها بصعوبةٍ تدعو اللهَ بسريرتها أن يحفظَ أبناءها..ما إن فُتحَ باب غرفتها حتى وجدت غادة تجلسُ بجوارِ إيمان تحملُ يوسف..انسابت دموعها..بعدما وجدت لهفةَ الطفلِ عليها وهو يرفعُ ذراعيهِ ليرتمي عليها، تلقَّفتهُ بحنانٍ تضمُّه إلى صدرها ومصطفى يحاوطها بتملك حتى لا تهوى، همسُت بخفوت:
-حبيب نانا، حبيبي ياابني، ربِّنا يرجع لك بابا بالسلامة..اقتربت غادة تأخذهُ بعدما لاحظت ترنَّحَ جسدها وارتعاشه:
-ماما هاتيه عنِّك..
-مرات أخوكي عاملة إيه ياغادة؟..ميرال عاملة إيه؟!..
-كويسة، كنت عندها جوَّا..بس الدكتور خرَّجنا، قال لازم المريضة ترتاح..
قبَّلت فريدة يوسف ثمَّ أردفت:
-هشوف أرسلان وأعدِّي عليها أشوفها.
نظر مصطفى إلى غادة نظرة ادركتها لتهز رأسها دون التفاصيل في حالة ميرال
بغرفة أرسلان:
حاولَ فتح عينيهِ ولكن لم يقوَ من شدَّةِ الإضاءة، شعرَ إسحاق بحركةِ أنامله، هنا شعرَ وكأنَّ الزمنَ توقَّف في لحظةٍ ما بين الموتِ والحياة..كلَّ شيءٍ كان ثقيلاً، نظراتهِ اليه، أنفاسه، وحتى نبضاتُ قلبهِ التي خمدت في صدرهِ ظنًّا أنَّه يتخيَّل.. حاولَ أن يتحرَّك، ليصلَ إليه، أو ربما يتأكَّد أنَّه سراب..
تمتمَ بشفاهٍ ولسانٍ ثقيل:
-أرسلان ...!!
حاولَ فتح عينيهِ مرَّةً أخرى ولكن
اخترقت الإضاءةُ عينيهِ بقسوة، كمن انتُزعَ من قبره ليواجهَ شمساً لا ترحم..
أطبقَ جفنيهِ سريعًا، متأوِّهًا بصوتٍ خافت، ارتسمت أعينَ إسحاق بابتسامةٍ ليكرِّر ندائهِ مرَّةً اخرى:
-أرسلان..قالها بصوتٍ مرتجف، ليخترقَ أذنهِ ويقومَ بفتحِ عينيهِ بعد علمهِ لصاحبِ الصوتِ الذي يعرفهُ جيدًا..
ظلَّ إسحاق للحظات، قريبًا، مترقِّبًا، يكادُ يلهثُ تحت وطأةِ الانتظار؛ ليتأكَّدَ أنَّه ليس سرابًا، إلى أن همسَ بصوتٍ بالكادِ خرجَ من بين شفتيهِ المتشقِّقتين:
إلياس...؟
هنا فقدَ إسحاق السيطرةَ ليسقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير؛ حينما لم يستطع مقاومةَ الطوفانِ الجارفِ الذي اجتاحه، فانحنى يسجدُ على الأرض، والدموعُ تسقطُ بصمتٍ مع شهقاتٍ متقطِّعة، خافتة، لاعترافهِ بالحمد، بالرهبة، بالخوف، وبالنجاةِ التي جاءت بعد ظلامٍ طويل...حينما فقدَ الأمل، نهضَ مرَّةً أخرى على صوتِ أرسلان المشبعِ بالألم :
إلياس..فين؟!
نهضَ إسحاق مسرعًا، مسحَ دموعهِ بظهرِ كفِّه، قبل أن يميلَ نحوه، ويطبعُ قبلةً طويلةً على جبينه، يحاولُ أن يطبعَ الطمأنينةَ في قلبهِ المضطرب..
حبيبي، حاسس بإيه؟
حاولَ أرسلان بلعَ ريقه، لكنَّهُ كان كمن يحاولُ ابتلاعَ صخرة، عيناهُ تائهتانِ بين الوعي والذاكرة، بين الحاضرِ والماضي الذي لا يزالُ يصرخُ داخله..
ثمَّ، بصوتٍ بالكادِ خرجَ من بين شفتينِ مرتجفتين، همس:
- عمُّو...إلياس..؟
تجمَّدَ إسحاق للحظةٍ وشعرَ بجسدهِ يبرد، كأنَّ أنفاسهِ احتُجزت قسرًا في صدره..كيف يخبره؟ كيف يواجهُ تلك العيونِ القلقةِ بالحقيقةِ التي قد تقتلهُ قبل أن يتقبَّلها؟..
رسمَ ابتسامةً مع لمسِ خصلاتهِ المبعثرة بحنان، ثمَّ أردفَ بنبرةٍ جعلها متزنة:
- إلياس كويس، حبيبي...
رفعَ أرسلان عينيهِ لتقابلَ عينا عمِّهِ التي تحملُ الوجعَ الذي تسلَّلَ بين حروفهِ رغم ابتسامته، بدأ قلبهِ يخفقُ بجنون..ارتجفَ جسده، وتثاقلت أنفاسه، وخرجَ صوتهُ متحشرجًا، ممزَّقًا بين الرجاءِ والرعب على اخيه:
إلياس فين يا عمُّو؟! أوعى يكون... قتلوه..؟!
رعشةٌ عنيفةٌ ضربت إسحاق، فأسرعَ يمسكُ بيديهِ المرتجفتين، يهزُّ رأسهِ بقوَّة:
- لا يا حبيبي، لا..إلياس عايش، الحمدُلله، هوَّ في الأوضة اللي جنبك، بخير..
- إيه...؟!
وفي تلك اللحظة، ضربته الذكرى كأنَّها صفعةُ قاتلة..
هنا تذكر كل شئ، صوتُ السلاحِ وهو يخترق جسده، الألمُ الذي انتشرَ كالنار، المياهِ الباردةِ التي غمرتهُ ككفن، وصرخةُ إلياس الأخيرةِ باسمهِ وهو يتلقَّى الطعنة عنه، كلَّ ذلك يتردَّد داخله..
اشتعلُ صدره بنيرانٍ تريد أن تحرقَ كلَّ شيءٍ في طريقها..
لم يشعر إلَّا ويداهُ تنزعانِ الأجهزةِ الموصولةِ به، بلا وعي، بلا تفكير.
- لا..لازم أشوفه، دلوقتي!!
تحرَّك ليتأكَّدَ أنَّ أخاهُ مازال على قيدِ الحياة، بسطَ أناملهِ يضربُ بأنابيبِ المحاليل، يخلعُ اللاصقات، وصوتُ الأجهزةِ ينطلقُ بجنون
- أرسلان، استنى! جسمك مش مستحمل!!
لكن لم يعد هناك مجالًا للكلمات..
سيبني!! عايز أشوفه، لو حصلُّه حاجة، أنا هموت، فاهم؟!!
ترنح جسده وشعر بأنه سيفقدَ وعيه، لم يكن يرى سوى بابِ الغرفة الذي رآه كسراب، كأنَّه الحدُّ الفاصلِ بينه وبين أخيه، لكن فجأة انفتح الباب و دخلت فريدة، ليسودَ صمتٌ ثقيل..
توقَّفت متجمِّدة، عيناها متسعتان، متجمدتانِ في صدمةٍ لم تستطع إخفاءها، وجهها شاحب، وكأنَّها رأت شبحًا خرجَ لتوِّهِ من الموت، تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ لتنسابَ عبراتها على وجنتيها، تريدُ أن تصلَ إليه بخطوةٍ واحدة، تجذبهُ بقوَّةٍ ليسكنَ داخل أحضانها، كما تسكنُ العضلات داخل الصدر، تريدُ أن تستنشقَ رائحتهِ التي تجعلها تتشبَّثُ بالحياةِ كالطفلةِ التي تتشبَّثُ بكفِّ والدها، تريدُ وتريدُ إلى أن فاقت من أحلامِ ماتبنيهِ على صوته:
-ماما...
قالها وتوقَّفَ يطالعها بعينِ الابنِ الذي فقدَ كلَّ شيءٍ داخله، لم يبقَ سوى صوته، يخرجُ كصرخةٍ أخيرة، كرجاء، كخوفٍ قاتل:
إلياس عايش ياماما؟!
اقتربت فريدة منه، بأنفاسٍ متسارعة، وخفقاتُ قلبها المتلاحقةِ هزَّت كيانها بالكامل، استندت على الجدارِ ورفعت بصرها لجسدهِ الهزيلِ الذي أنهكهُ الألم، وعيناهُ التي تحملُ اللهفة، توقَّفت للحظة، تتفحَّصُ ملامحهِ بقلبها قبل عينيها، تحاولُ أن تطمئنَ قلبها بأنَّه حي، بأنَّه ما زال أمامها، ليس خيالًا نسجتهُ أمانيها بأدعيتها، ردَّدت بلسانٍ ثقيل:
" ياالله"قالتها ليرتجفَ جسدها مع انفجارِ الدموعِ من عينيها، التي جرت كشلالٍ مندفعٍ، كيف لها أن تمنعها وهي التي نزفت صبرها انتظارًا على إفاقته؟! وصلت إليهِ وتوقَّفت أمامهِ ومازالت عيناها تتفحَّصهُ كطبيبٍ يفحصُ مريضهِ بعناية، رفعت يديها المرتعشتين، وكأنَّها تخشى لمسهِ خشيةَ أن يختفي بين أصابعها، ثمَّ همست باسمه بتردد مع رجفة قلبها، وكأنَّها تحيي روحها من جديد:
"أرسلان…"
قالتها بلهفة أمٍّ فقدت كلَّ صبرها..لم تقوَ على تتمَّةِ كلمتها؛ لتجذبهُ لأحضانها تريدُ أن تشعرَ بأنَّه حقيقةً ليست خيال، بلسانٍ ثقيلٍ ارتشفت شفتيها بصوتها المتألِّم الذي شقَّ سكونُ الغرفة:
-"آه يا قلبي، يا بني..الحمدُ لله…ربِّنا نجَّاك، الحمدُ لله، يا ربِّ لك الحمد!"
قبلاتٌ عديدةٌ على ملامحِ وجهه، ثمَّ أخرجتهُ من بين ذراعيها وتراجعت قليلاً، وما زالت عيناها تلتهمه، تحاولُ أن تسترجعَ كلَّ تفصيلةٍ في وجهه، مرَّت بأصابعها المرتعشةِ على وجنته، كنحَّاتٍ مبدع:
-"إنتَ كويس؟ فيه حاجة وجعاك يا حبيبي؟" قالتها بتقطُّع، وصوتٍ يختنقُ بين شهقاتها..
ربتَ على كفِّها ورفعهُ مقبِّلًا إياه، اقتحمت صفية الغرفة، تسبقها خطواتها اللاهثة، وبجوارها فاروق الذي لم يُخفِ توتره، تجمَّدت للحظة، كأنَّ قلبها لم يستوعب الصدمة بعد، وهي تراهُ في أحضانِ فريدة، صاحت بلهفةٍ واندفعت نحوه:
"أرسلان!"
لم تعد قدماها تحملانها فامتزج الفرحُ بالألم، والدموعُ بالابتسامات، والخوفُ بالراحة أخيرًا..
-ماما..ردَّدها بأنين، وهو يضعُ كفِّهِ على جرحه، فتوقَّفَ إسحاق متقدِّمًا إليهِ بلهفة:
-مالك ياحبيبي..رفعَ نظرهِ إلى فاروق الذي انزوى بأحدِ الأركانِ وانسابت دموعهِ بصمت، رسمَ ابتسامةً من بين آلامه، ثمَّ اتَّجهَ إلى إسحاق:
-شكل فاروق باشا مكنشِ عايزني أفوق ولَّا إيه؟..
-بعدِ الشر..قالتها صفية بلهفةٍ وهي تضمُّ رأسه، حاولَ إسحاق إبعادها:
-صفية متنسيش الولد تعبان لسة، متضغطيش على رأسه..
-اسكت ياأسحاق..قالها أرسلان، وهو يحاولُ أن يتزحزحَ ليخلو مكانًا بجوارهِ لصفية، ولكن هبَّت فريدة من مكانها تشيرُ إلى صفية:
-تعالي هنا ياصفية، ابتسمَ يقبِّلُ يدَ فريدة..خلِّيكي ياستِّ الكل، ولكنَّها تبسَّمت بعيونٍ دامعة:
-ارتاح ياحبيبي المهم صحتك، أنا من صفية مش هتفرق.
-ماما إلياس عامل إيه؟..
أومأت تبتعدُ بنظراتها عنهُ قائلة:
-هيبقى كويس حبيبي، إنتَ اهتم بصحِّتك علشان تفوق بسرعة، هسيبك وأروح أشوف اخوك..قالتها وتحرَّكت بعضَ الخطواتِ إلى أن استمعت إلى كلماتهِ التي شعرت بأنَّها خنجرٌ صوِّبَ لصدرها:
-أنا السبب، بسببي ابنك بينازع الموت، سامحيني معرفتش أحافظ عليه، ياريتني أنا اللي كنت مكانه بس واللهِ هوَّ اللي وقف قدامي و..التفتت إليهِ سريعًا وازدادَ بكاؤها بعدما وصلت إليهِ بخطوةٍ تجذبهُ لأحضانها متناسيةً جرحه، وآااه متألِّمة بكت بها وهي تردفُ من بين شهقاتها:
-إنتَ إيه وهوَّ إيه يابني..تقدَّمَ فاروق أخيرًا وعيناهُ عليهما قائلًا:
-إنتَ وإلياس واحد متقولشِ كدا حبيبي، وإن شاء الله إلياس هيفوق ويبقى كويس، والحمدُ لله إنَّك فوقت، بلاش تحمِّل مامتك فوق طاقتها..كفاية وجعها على إلياس..
بعد فترةٍ جلست بجوارهِ غرام وهي تحتضنُ كفِّهِ وهو غافيًا بسببِ الأدوية، ملَّست على خصلاتهِ بحنان، قاطعها طرقاتُ الباب، دلفَ أخيها ووالدها، توقَّفت تزيلُ دموعها، ثمَّ همست:
-بابا..ولجَ والدها إليها يضمُّها بحنانٍ أبوي قائلًا:
-حمدَالله على سلامة جوزك حبيبتي..بكت بأحضانِ والدها:
-أرسلان فاق يابابا، بعد شهرين من الغيبوبة، بعد مافقدت الأمل، ابني هيجي وأبوه موجود يابابا..
ملَّسَ والدها على رأسها قائلًا:
-الحمدُ لله ياحبيبتي، ربِّنا يباركلك فيه ويكمِّل شفاه على خير..
حاوطت أحشاءها وابتسمت تزيلُ بكفِّها الآخر دموعها:
-اللهمَّ آمين ياربَّ العالمين، التفت إلى زياد:
-زيزو عامل إيه حبيبي؟ ومبروك الأوَّل على دفعتك..
-الله يبارك فيكي حبيبتي، حمدَالله على سلامة أبيه أرسلان..استمعت إلى همهمات..استدارت إليه:
-أرسلان حبيبي..فتحَ عينيهِ على صوتها، ومازال لسانهِ يردِّدُ اسمَ أخيه..
-حمدَالله على السلامة يابني..قالها محمود والد غرام..حاول أرسلان أن يعتدلَ ولكنَّه أفلتَ تأوُّهًا، هرولت إليهِ لتساعدهُ فأوقفها بكفِّه:
-غرام متنسيش إنِّك حامل..قالها بصعوبة، بينما اقتربَ زياد وانحنى ليساعدهُ قائلًا:
-خلاص أساعدك أنا..
-حمدَ الله على سلامتك يابني، تمتمَ بها محمود..أومأ له مبتسمًا، دلفَ إسحاق ملقيًا السلام:
-أهلًا يامحمود..
-أهلًا ياسيادةِ العقيد، حمدَ الله على سلامة حضرتك..قطبَ أرسلان جبينهِ متسائلًا:
-عمُّو!! إنتَ كنت تعبان؟!..اقتربَ منه وهو يجذبُ مقعدًا وابتسمَ وهو يربتُ على كتفهِ بحنان:
-عين وصابتنا حبيبي، الحمدُ لله على كلِّ حال..
-إيه اللي حصل؟...
قبلَ شهرين:
وصلَ إلياس إلى المركبِ التي بها شريف وأحدِ الأشخاصِ الذي عينهما بمراقبُة راجح:
-إيه الاخبار ؟..تساءلَ بها إلياس مع اقترابِ شريف منه:
-إيه المية دي؟..هدومك كلَّها مية..
رفعَ رأسهِ باعتراضٍ وأردفَ بنبرةٍ حادَّة:
-أنا بسألك عملتو إيه؟..
-راجح رمى رانيا في البحر، ومشي..
وبعدين؟..
حمحمَ أحدُ الأشخاصِ وهو يبسطُ كفِّهِ بالكاميرا:
-دا اللي حصل ياباشا زي ماحضرتك أمرت.
تناولَ منه الكاميرا وبدأ يقلِّبُ بالصور، ثمَّ رفعَ عينيهِ إليه:
-مفيش فيديوهات كلُّه صور؟..أخرجَ شريف هاتفه:
-هنا فيديو بالتفصيل، بس مقولتش ليه عايز دول؟..
-ورانيا فين؟..أوعى تقولي أنُّكم سبتوها تموت..
-لا، الغواص أنقذها زي ماأمرت، وأخدناها المكان اللي قولت عليه.
-تمام..قالها وهو يغادرُ المكانَ مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه:
-إسحاق باشا انضرب بالنار، والرصاصة في القلب.
توقَّفَ متجمِّدًا يردِّدُ مااستمعَ إليه، ثمَّ تساءل: مين اللي ضربه؟..
-الواد اللي كان خاطف مراته، والغريب أنُّه اتحوَّل لحالة من الضحكِ الهستيري، وفرحان باللي عمله.
-الواد دا مش قريب عطوة برضو؟..
-ابنِ الراجل اللي شغال تحت إيده، اللي إسحاق باشا موِّته في قضية جمال الشافعي..اللي حضرتك طالبت راكان باشا بفتحِ قضية موته..
ضيَّقَ عينيهِ وبدأت الأفكارُ تضربُ عقله، حتى شعرَ بأنَّه داخل حلبةِ مصارعةٍ من الأفكار:
- دا إيه الحملة الصليبية اللي انفجرت عليَّا مرَّة واحدة، هلاقيها من راجح ولَّا من عطوة ولَّا من اللي بيحرَّك الكل، دا عش الدبابير أرحم.
تنهيدةٌ مثقلةٌ بكمِّ الهمومِ التي أطبقت على صدره، تحرَّكَ مغادرًا المكانَ متَّجهًا إلى المشفى التي تم حجزَ إسحاق بها..
عدَّةُ ساعاتٍ بغرفةِ العملياتِ إلى أن انتهى الطبيب:
-عملنا اللي علينا والمريض بين يدي الله، قالها بوصولِ فاروق متلهِّفًا يبحثُ عنه بقلبهِ قبل عينيه:
-إسحاق ماله يادكتور؟..
-الإصابة خطيرة يافندم، الرصاصة بالقربِ من القلب، خرَّجنا الرصاصة بس لسة الخطر موجود.
هوى فاروق على المقعدِ مردِّدًا:
-لا نقولُ إلَّا ما يرضي الله ،قدَّرَ الله وماشاءَ فعل، إن شاءَ الله ربنا هينجيه..
وقعت عيناهُ على إلياس المتوقِّف بجوارِ الطبيب:
-إيه اللي حصل؟!! مين اللي ضرب إسحاق بالنار؟..
-معرفش، أنا كنت بزور قبرِ والدي، خرجت على المينا وعرفت بالصُدفة أنُّه في السويس..
ظلَّت حربُ النظراتِ بينهما إلى أن انسحبَ بعدما أردف:
-معافى إن شاءالله...بعد عدَّةِ ساعاتٍ وصلَ إلى القاهرة، دلفَ إلى مكتبه، وأخرجَ جهازهِ ليحفظَ به فيديوهاته..
قاطعهُ رنينُ هاتفه، رجعَ بجسدهِ بعدما التقطَ هاتفهِ وتغيَّرَ حاله:
-خلَّصتي الفطار ولَّا إيه؟..
-المغرب هيدن اتأخرت..نظرَ بساعةِ يدهِ ثمَّ أجابها:
-لسة نصِّ ساعة، عشر دقايق وأكون عندك إن شاءالله..
-تيجي بالسلامة..قالتها ميرال وأغلقت الهاتفَ تتطلَّعُ على طفلها الذي يحاولُ الوقوفَ بفراشه، داعبت خصلاتهِ بابتسامةٍ حانية:
-حبيب مامي، ياله ننزل تحت علشان نستقبل بابي..رفعَ الطفلُ ذراعيهِ وأطلقَ ضحكاتهِ الطفولية، تراجعت بعدما استمعت إلى رنينِ هاتفها:
-غرام عاملة إيه حبيبتي؟..
-الحمدُ لله، إنتِ عاملة إيه؟..وحضرة الظابط عامل إيه؟..
-كويسين الحمدُ لله..المهم إنتِ في الفيلا ولَّا في بيتك؟..
-لا أنا عند بابا، هفطر عنده لسة واصلة من شوية، كنت بسألك أرسلان متصلشِ بإلياس؟..من امبارح مكلِّمنيش وقلقت عليه..
حمحمت ميرال ليتجلَّى صوتها بثبات، بعدما تذكَّرت حديثَ فريدة وقلقها ثمَّ أجابتها:
-إلياس في السويس من الصُبح، خرج بدري ولسة مرجعش، لمَّا يرجع هطمِّنك أكيد..بس قوليلي أوَّل مرَّة أرسلان يتأخَّر في اتصاله؟..
-لا، فيه أوقات بيعدِّي كام يوم، بس كنت بطمِّن من عمُّو إسحاق، لكن هوَّ مش موجود فقلقت مش أكتر، ممكن معندوش فرصة يكلِّمني..
حاولت ميرال تهدئتها قائلة:
-إن شاءالله..ممكن يكلِّمك بعد الفطار، متنسيش فرق التوقيت..
-إن شاءَ الله حبيبتي..أنهت اتِّصالها وحملت طفلها متَّجهةً إلى الأسفل، قابلتها المربية:
-كنت لسة هطلع له علشان أكِّله..وضعتهُ على كرسيهِ الخاص، ثمَّ أشارت إلى الخادمة:
-هاتي أكل يوسف؟..بعدَ دقائقَ معدودة وصلَ إلياس إلى منزله، بنزولِ رؤى وهي ترتدي بدلةً نسائيةً بيضاءَ اللونِ وحجابًا باللونِ الفيروزي ممَّا أعطاها صورةً هائلة..اتَّجهت إلى نزولهِ من السيارة:
-حمدَ الله على السلامة اتأخرت..تحرَّكَ متجاهلًا مقابلتها قائلًا:
-الله يسلمك، وتأخيري يهمِّك في إيه؟..
توقَّفَ مستديرًا برأسهِ وأكملَ حديثه:
-قبل ما تكوني أختِ مراتي، فانتي أختي زيك زي غادة، وحطِّي تحت دي مليون خط، اتظبطي علشان مش عجباني، وسيبك من شغلِ المخطَّطات الفاشلة بتاعة البنات اللي تشبه شغلِ الرقاصين، علشان أنا معرفشِ النوع دا من البنات...قاطعهم وصول ميرال:
-إلياس..استدارَ إليها مبتسمًا، فتحرَّكت نحوه، اقتربَ منها ثمَّ انحنى طابعًا قبلةً فوق جبينها:
-عاملة إيه؟..
طوَّقت ذراعهِ متحرَّكةً معهُ للداخل:
-عاملة صينية رقاق وبشاميل وجلاش..
توقَّفَ متسمِّرًا يطالعها بأعينٍ متَّسعة:
-أكيد بتهزَّري، أوعي، ناوية تفرسيني وتخلِّيني أروح أفطر مع أمِّي..
قهقهت بصوتها الذي سلبَ روحهِ مما جعله يتمايلُ على أذنها:
-اغريني يابنتِ مدام فريدة، وضيَّعي صيامي قبلِ المغرب بدقايق، علشان أطلَّعه عليكي بعد الفطار..
دفنت رأسها بصدرهِ ومازالت ضحكاتها تصدحُ بالمكان، حاوطَ جسدها وتحرَّكَ إلى الداخلِ مع وقوفِ رؤى تنظرُ إليهم بأعينٍ مشوَّشةٍ بالبكاء.
عند أرسلان قبل ساعات..
صعدَ إلى متنِ المركبِ بعدما سمعَ صوتَ استغاثةِ الفتاة..تحرَّكَ مترنِّحًا، فالرؤيةُ أمامهِ كانت مشوَّشة، وجسدهِ المثقلِ بالنزيفِ يكادُ يفقدهُ توازنهِ بالكامل، ظلَّ يتحرَّكُ بثقلٍ حتى وصلَ الدرج، هنا خانتهُ قدماهُ وسقط، لكنَّهُ لم ييأس و تحاملَ على نفسه، مستجمعًا ما تبقَّى من قوَّته، ليواصلَ صعودهِ حتى وصلَ إلى سطحِ السفينة على صرخاتِ الفتاةِ التي تمتزجُ بضجيجِ صوتِ الأمواج، ظلَّت تحاولُ باستماتةٍ الدفاعَ عن نفسها، حتى تمنعَ ذلك الوحشَ من الانقضاضِ عليها، زحفَ أرسلان بجسدهِ الواهن، ورغم خطواتهِ التي أخذت أكثرَ مما تبقَّى من طاقته، لكنَّه لم يتراجع، وقعت عيناهُ على تلك الفتاةِ التي قامت بمساعدته، هنا شعر بنيرانٍ متأجِّجة بصدره، وخطا بما تبقَّى له من قوَّة، ليدفعَ الرجلَ بعيدًا عنها، ويقعَ كلاهما أرضًا..ارتجفَ جسدها وزاغت عينيها في كلِّ الاتِّجاهات بهلع، لكنَّها لم تستسلم..بحثت بعينيها عن أيِّ شيءٍ يمكنها الدفاعَ به عن أرسلان، الذي كان يضغطُ على ذراعهِ المصاب وهو يتأوَّه، رأت فوق علبةِ البيتزا إضاءةً لنصلِ السكينِ تحت ضوءِ القمر، اندفعت نحوهِ والتقطته، ثمَّ تحرَّكت بسرعةٍ نحو الرجلِ الذي بدأ بالنهوض، متوجِّهًا نحو أرسلان بسخط..
- "من أنتَ أيها الأحمقُ لتتجرَّأَ على التدخل؟!"
رفعَ أرسلان ساقهِ السليمةِ وبمهارة ركلهُ بقوَّة، فاختلَّ توازنُ المعتدي وسقطَ على ظهره، عندها اعتدلَ أرسلان ببطء، يلتقطُ السكينَ من يدِ الفتاة، وهبطَ فوقهِ بجسدهِ وأدارَ نظرهِ نحو عنقهِ بعينينِ متوقِّدتينِ وهو يحرِّكُ السكين:
- "إذا اقتربتَ منها مرَّةً أخرى، سأقتلك." قالها بنبرةٍ تهديديةٍ جامدة، ثمَّ طالعهُ بأعينٍ متوقِّدةٍ بعد صمته، ولكن هنا نظراتهِ كانت توحي أكثرَ مما تفعلُ الكلمات، ثمَّ التفتَ إلى الفتاةِ قائلاً: "هيا، تحرَّكي من هنا."
تردَّدت للحظة، ثمَّ جذبت حقيبتها وأغلقت رداءها حول جسدها المرتجف، لكنَّها لم تتحرَّك فورًا، بل نظرت إليه بقلق:
- "يجب أن تخرج من هنا أيضًا."
طالعها بنظرةٍ آمرةٍ وهو يقول بصوتٍ متقطِّعٍ من الألم:
- "لا بأس، أنقذي نفسك أولًا."
تردَّدت للحظة، ثمَّ استدارت وهي تنظرُ حولها بحثًا عن مهرب..ولكن توقَّفت متجمِّدةً وكأن ضربتها صفعةٌ حينما تذكَّرت أنَّ السفينةَ ابتعدت عن الشاطئ.. نظرت إلى البحرِ الممتدِّ بلا نهاية، ثمَّ إلى أرسلان الذي يراقبها بجهلٍ من توقُّفها..
ضحكَ الرجلُ بسخرية، رغم حدَّةِ النصلِ الذي يستقرُّ عند عنقه:
-"ستموتين هنا أيتها الحمقاء، مع هذا الأبله."
ازدادَ تألِّمِ أرسلان، ورغم ذلك أخرجت كلماتُ ذلك الرجلِ شياطينه، مما جعلهُ يحرِّكُ السكينَ قليلًا ليضغطَ أكثر على جلدهِ وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
"اصمت، لا أريدُ أن أسمعَ صوتك أيها القذر."..أشارَ إليها:
-اجلبي شيئا حتى أقيِّدَ ذلك الحيوان، هرولت إلى الأسفلِ تبحثُ عن شيئٍ حتى عثرت على حبلٍ من السلكِ المعدني، سحبتهُ وهرولت إليه تبسطُ كفَّيها به، وجدت تعرُّقهِ يزدادُ على جبينهِ فأردفت بلهجةٍ أخرى حتى لا يعلمَ الرجلُ ماذا تقول:
-يجب إخراجُ الرصاصة..أشارَ إلى أيدي الرجل:
-هيا امسكي ذراعيه، يجب أن نعودَ إلى الشاطئِ قبل أن يشعرَ بنا أحدهم..
بعد معاناةٍ طويلة، نجحَ المركبُ أخيرًا في العودةِ إلى الشاطئ، لكنَّ جسدهِ كانَ قد استسلمَ تمامًا...وازدادت تشنُّجاتهِ حتى فقدَ السيطرةَ على نفسهِ بالكامل، هرعت نحو هاتفها بيدٍ مرتجفة، بعدما وجدت سوءَ حالته، رفعت هاتفها واتَّصلت بشخصٍ ما، وهاتفتهُ بصوتٍ يختنقُ بين الخوفِ والاستغاثة..
مرَّت الدقائقُ عليها كسكينٍ ينهشُ العنقَ ، كلَّ ثانيةٍ كانت تسرقُ جزءًا من أملها بعدما استمعت إلى شهقاتهِ المتقطِّعة..التي امتزجت بهذيانٍ لم تفهم كلماته، وهو يهمسُ باسمِ زوجته، وكأنَّ روحهِ تحاولُ أن تتعلَّقَ بها، كان يقاوم، فتحَ عينيهِ حتى لا يسقطَ في بئرِ فقدانِ الوعي، ولكن خارت قواهُ بالكاملِ وأغلقَ عينيهِ على الرجلِ الذي يقيَّدُ بركنٍ ويُوضعُ اللاصقُ على فمه، هنا تراجعَت خطوتينِ إلى الخلف، تحاولُ الصمود، لكنَّها شعرت بجسدها ينهار، الألمُ ينهشُ أطرافها، والخوفُ يكبِّلُ أنفاسها...بعدما فقدَ وعيهِ بالكامل، اقتربت منهُ في محاولةٍ لإفاقته، في ذلك الوقتِ وصل رجلُ الأمنِ الخاصِّ بالرجلِ الثري، انطلقَ إلى الداخل، وسلَّطَ عينيهِ على المكانِ بحذر، لكنَّهُ توقَّفَ فجأةً في مكانهِ وهو يحدِّقُ في مظهرِ سيدهِ المقيَّد..التقطَ سلاحهِ بحركةٍ سريعة، وسار فوق أرضيةِ المركبِ بخطواتٍ محسوبةٍ يتلفَّتُ حوله..
في تلك اللحظة، كانت تحاولُ إيقاظَ أرسلان، تهمسُ باسمه، تهزُّهُ برفق، لكن قبل أن تستوعبَ ما يحدث، التقطت أذناها صوتَ خطواتٍ خلفها، التفتت بحدَّة، وقلبها يخفقُ كطائرٍ مذعور..لم يمنحها الوقتُ لاستيعابِ مايحدث، فجأةً اقتحمَ المركبَ عددًا من الرجالِ المجهولين، تشاهدهم يسحبونَ أرسلان بعيدًا، ارتجفَ جسدها حين شعرت بأيديهمِ القوية تجرَّها معه، وفي اللحظةِ ذاتها دوى صوتُ رصاصة..الرجلُ الذي كان يمسكُ بسلاحهِِ أطلقَ رصاصتهِ لتستقرَّ بصدرِ تلك الفتاة، هنا تدخَّلَ الأمنُ وحدثَ هرجٌ ومرج، اشتعلَ المكان بفوضى عارمة..الفريقُ الأمني كان قد وصل أخيرًا، لكن المعركة قد بدأت بالفعلِ باختطافِ أرسلان بعد إصابته مرة أخرى بطلق ناري في محاولة قتله من فريق أمن الرجل الثري ، ليختطف لوجهةٍ غير معلومة..
بمنزلِ يزن السوهاجي..بعد أسبوع من ذهاب رحيل، احتمى بغرفتهِ يحترقُ داخليًا، وكأنَّ صدرهِ ككتلةِ نار، حتى تحوَّلت عيناهُ إلى لهيبٍ يريدُ أن يحرقَ كلَّ مايراه..كلَّما تذكَّرَ حديثها وإهانتها، دارَ حول نفسهِ بالغرفة كالأسدِ الجريح، يكوِّرُ قبضتهِ ويلكمها بقوة، لترتجفَ أنفاسهِ وهو يمرِّرُ يدهِ على وجهه، كأنَّهُ يحاولُ مسحَ أثرِ كلماتها التي لازالت ترنُّ في أذنيهِ كجرسِ إنذار..وقفَ متصلِّبًا، يضغطُ أسنانهِ بقوةٍ حتى كادَ يسمعُ صوتَ احتكاكها، وتحوَّلت عيناهُ كجمرةٍ تحت الرماد، ناهيك عن صدرهِ الذي يعلو ويهبط كأنَّهُ يحاربُ كي لا يختنق..
-لييييه، بتعملي فيا كدا ليه؟!
قالها ومدَّ يدهِ المرتجفةِ إلى صدره، يضغطُ فوق قلبهِ كأنَّه يريدُ أن ينتزعهُ من مكانه، ليتخلَّصَ من هذا الوجع الذي ينهشهُ بلا رحمة...
-ليه..ردَّدها مرَّةً أخرى، كلمة من ثلاثةِ حروفٍ خفيفةُ النطقِ ولكنَّها ثقيلة، ثقيلةٌ حتى شعرَ بأنَّها دموية، لتخرجَ منهُ كالبلورِ الذي يشحذُ بالحلق، ليشعرَ بكمِّ الألمِ الذي أحدثته..
هوى على الأرضيةِ بعدما فقدَ اتزانه، يضربُ رأسهِ بالجدارِ بقوة، لعلَّهُ يوقفُ نزيفَ روحه؛ ولكن كيف يتوقَّفُ ذلك الألم..والجرحُ يفوق أيَّ ألمٍ ليعجزَ الأطباءُ عن الدواء.
أطلقَ زفرةً ثقيلة، وكأنَّ روحهِ خرجت معها، وألقى برأسهِ على الجدارِ مجدَّدًا، مغلقًا عينيه، ليرى صورتها تضربُ مخيِّلته، وابتسامتها التي كانت يومًا ملاذه، أمَّا اليوم صارت سكينًا يذبحه ببطء..هنا شعر أنَّه منهكًا، محطَّمًا، وكلماتها مازالت تصفعهُ بقوة، أيقنَ حينها أنَّ بعض الجروحِ لا تُشفى أبدًا..هنا توقَّفَ وثارت نيرانُ صدرهِ فانطلقَ في الغرفةِ دون وعيٍ يدفعُ المكتبَ الذي يوجدُ بأحدِ أركان الغرفة، ليتناثرَ مافوقهِ ويسقطَ محدثًا ضجيجًا قطعَ انهياره، ليهوى مرةً أخرى بجسدهِ على المقعد يرجعُ خصلاتهِ للخلفِ بقوةٍ كاد أن يقتلعها ..
قطع حربهِ مع نفسه دخولُ كريم..
طافت أعينُ كريم بالغرفة، ثمَّ خطا إلى جلوسه:
-وبعدين هتفضل كدا كتير؟..بقالك يومين قافل على نفسك..
نهضَ من مكانهِ وجذبَ منشفتهِ قائلًا بصوتٍ جعلهُ متزنًا بعضَ الشيء:
-أنا مش قافل على نفسي ولا حاجة كنت بخلَّص شغل..
-أيوة أيوة عارف إنَّك شغال، طيب ياعمِّ الشغال علشان تشتغل أكتر وأكتر
رحيل سافرت هيَّ ووالدتها..
التفتَ إليه سريعًا وعيناهُ ترسلُ الكثيرَ من الأسئلة، إلَّا أنَّه رسمَ عدم المبالاةِ واستدارَ متَّجهًا للحمَّامِ وهو يتمتم:
-مايهمنيش..قالها وأغلقَ البابَ خلفه، متوقِّفًا لعدَّةِ دقائقَ يحاولُ السيطرة على ذاته..
بالخارجِ عند كريم..ظلَّ لبعضِ الوقتِ ونظراتهِ مصوَّبة على البابِ الذي أُغلق، دلفت إيمان إليه:
-يزن فين؟!
أشارَ إلى الحمَّام ثم تحرَّكَ للخارج:
-عمِّي اتوفى ولازم أسافر البلد، هقعد كام يوم هناك، عايزك تاخدي بالك من نفسك..وكمان فيه حاجة أتمنى متزعليش، هنأجِّل الخطوبة شهرين تلاتة علشان..قاطعتهُ سريعًا:
-خلاص ولا يهمَّك، البقاء لله، وكويس إننا نأجِّل متنساش امتحاناتي بعد العيد على طول، وعايزة أركِّز شوية، محبتشِ أزعَّلك وأطلب نأجِّل..
ابتسمَ مقتربًا منها وعيناهُ ترسمها بعيونِ عاشقٍ حدَّ النخاع:
-لو مش حرام كنت حضنتك دلوقتي، هضطَّر أصبر كام شهر كمان..
تورَّدت وجنتيها مبتعدةً عنه بنظراتها، بسطَ كفِّهِ إلى وجهها يديره:
-بتبعدي ليه بعيونك الحلوة دي؟..فزعت مبتعدةً تفركُ بكفَّيها وتمتمت بتقطُّع:
-كريم لو سمحت، مينفعش يبقى فيه تلامس..ومفيش بينا رابط رسمي.
ابتعدَ معتذرًا:
-آسف مكنشِ قصدي، المهم نسِّتيتي كنت جاي لك ليه..
ابتسمت تهزُّ رأسها:
-علشان تعرف إيه اللي حصل ليزن ورحيل مش كدا؟..
أومأ لها بعدما أطلقَ ضحكةً رجوليةً قائلًا:
-أيوة كدا بالظبط..حبيبتي ذكية وبتفهمها وهيَّ طايرة، قالها بغمزةٍ من عينيه..قاطعَهُ يزن قائلًا:
-حبَّك بورص ياخويا، مااتلمِّ نفسك، أومال لمَّا تكتب هتعمل إيه؟..
استدارَ إليه ضاحكًا واستطرد:
-لا مش هقولَّك علشان عيب؛ تحرَّكت سريعًا من أمامهما بعدما تورَّدَ وجهها بالكاملِ وشعرت بالخجل من حديثه، ظلَّت عيناهُ تراقبها إلى أن اختفت من أمامه، ليحمحمَ يزن قائلًا:
-أنا جاهز ياله، علشان منتأخرش، لازم أرجع بالليل مينفعشِ أسيب أخواتي يباتوا لوحدهم، وكمان إحنا الاتنين مش موجودين..توقَّفَ قائلًا:
-ولَّا أعديهم على ميرال لحدِّ ماأرجع...قاطعهُ كريم بالرفضِ القاطع:
-لا..ابتلعَ ريقهِ وتمتمَ بإبانة:
-متنساش إلياس غريب مهما كان، ومينفعشِ إيمان تكون هناك..
رفعَ يزن حاحبهِ ساخرًا ثمَّ تحدَّث:
-لا والله، أولًا دا جوز أختها، ثانيًا في حكمِ ابنِ عمَّها، يعني هوَّ قريب لها..
-لا يايزن مش قريبها، هوَّ قريبك إنتَ بس، إنما إيمان لا، حتى لو قريب لها، برضو مش موافق إنَّها تكون هناك..
سحبَ يزن مفتاحهِ يشيرُ للخارج:
-على الرغمِ إنِّي مش مقتنع بكلامك، لأنِّي واثق في إلياس، بس هحترم رأيك لأنُّه من حقَّك من وجهة نظري، نصيحة منِّي..إلياس وأرسلان دول بعدي ياكريم بالنسبة لأخواتي، حتى لو لسة معرفتنا جديدة، بس أنا أعرف أقيِّم معادن الناس كويس..
ربت كريم على كتفهِ قائلًا:
-متزعلشِ منِّي بس دا من حقِّي..توقَّفَ مستديرًا برأسه:
-هعتبر كدا على أساس إنَّك خطيبها تمام؟...فهمَ كريم مايحوي كلماته، فهزَّ رأسهِ بصمتٍ وتحرَّكَ للخارج، بينما توقَّفَ يزن ينادي على أخته:
-حبيبتي أنا هسافر مع كريم أحضر دفنة عمُّه، وإنتي خلِّي بالك من معاذ، إن شاءالله هحاول متأخرش..
-ترجع بالسلامة ياأبيه، اقتربَ يطبعُ قبلةً مطوَّلةً فوق جبينها ثم أردف:
-لو احتجتي حاجة كلِّميني، وإن شاءالله مش هتأخَّر..
-متقلقشِ علينا، خلِّي بالك من نفسك..
ابتسمَ لها وتحرَّكَ بعض الخطواتِ إلى أن توقَّفَ على صوتها:
-يزن لا إله إلَّا الله..التفتَ وعيناهُ عليها:
-محمد رسول الله حبيبتي.
بأحدِ الدولِ الأوروبيةِ ألا وهي إيطاليا، خرجت من منزلها متَّجهةً إلى عملها الجديد، وهو العملُ بأحدِ الشركاتِ الكبرى التي وصلت إليها عن طريقِ صديقٍ لوالدها، واستطاعت أن المشاركة، دلفت إلى الشركةِ بخطواتها الواثقةِ وكأنَّها تعملُ بها منذ سنواتٍ وليس منذ يومين، وصلت إلى مكتبها وخلفها السكرتيرةُ الخاصَّة بها:
-مواعيد حضرتك النهاردة ياأستاذة رحيل، الأستاذ بيتر دخل لمستر يعقوب من نصِّ ساعة تقريبًا..
-شكرا نادين..توقَّفت نادين تطالعها بابتسامةٍ بشوشة:
-بتشكريني على إيه؟..أنا اللي عايزة أشكرك بجد، من وقت ماعرفت إنِّ فيه مصرية هتشاركنا ، وأنا السعادة مش سيعاني..
-ميرسي ياجميلة، ممكن بقى فنجان قهوتي، وتسبيني أشتغل قبل مامستر يعقوب يشيلنا خصم..
ضحكت نادين متراجعة
-وعلى إيه بلاش ياأستاذة، قالتها وتحرَّكت للمغادرة إلَّا أنَّها توقَّفت واستدارت تطالعها بأعينٍ متسائلة، لتهزَّ رحيل رأسها تشيرُ إليها للتحدُّث:
-فيه حاجة، ليه واقفة ؟!
-هوَّ إنتي فعلًا بنتِ مالك العمري؟..هنا ارتجفَ جسدها وصفعاتٍ من ماضي تريدُ أن تحرقها بقوَّة، أسبوعًا مرَّ عليها كقرنٍ وهي تحاولُ أن تدفنَ آلامها داخلها، ولكن كيف لها أن تدفنَ ماضٍ مازال يُنزفُ روحها التي مازالت متعلِّقةً بنبضها المسلوبِ عنوة..
حمحمت نادين معتذرة:
-آسفة أستاذة رحيل..بس، أشارت إليها بالخروج:
-أكمِّل شغلي وبعدين نتكلِّم في المسائل الشخصية..ممكن؟..
أومأت لها دون اعتراضٍ وتحرَّكت للخارج، بينما تراجعت رحيل بجسدها على المقعدِ تغمضُ عينيها..لتخترقَ ذاكرتها صورتهِ التي قبضت قلبها المسلوبِ بقوَّة، لتفتحَ عينيها مع نزولِ دموعها رغمًا عنها، تتمتمُ لنفسها:
-لسة بتبكي عليه..علشان إيه؟..دا واحد غدر وباع، وداس، انسيه يارحيل، موِّتيه جوَّاكي وأوعي تشتاقي له تاني..
ولكن تمرَّدَ قلبها عليها وازدادت نبضاتهِ من مجرَّدِ تخيُّله، مما جعلها تضعُ كفَّها موضعَ نبضها:
-مش قادرة، قلبي وجعني أوي، كسرتني يايزن، ليه تعمل فيا كدا بعد الحبِّ دا كلُّه؟..
أطبقت على جفنيها تشعرُ بنيرانِ قلبها الملتهبِ بالاشتياق، كلَّما مرَّت ذكراهُ أمام عيناها..احتضنت رأسها لتتساقطَ خصلاتها على وجهها وانسابت عبراتها بصمت، دلفَ يعقوب قائلًا:
-أستاذة رحيل..هيا سيبدأ اجتماع اليوم، وجودك مهمًّا جدًا في هذا الاجتماع، كي تعلمين كلَّ ما يرتبطُ بذلكَ المشروع..
اعتدلت بعدما أزالت عبراتها، اقتربَ بعدما لاحظَ خيوطَ الدموعِ على وجنتيها:
-هل أنتِ بخير؟..
-نعم سيدي، قالتها وجمعت أشياءها تشيرُ إليه:
-هيا سنتأخَّر عن الاجتماع.
-حسنًا..قالها وهو يدقِّقُ النظرَ بعينيها التي ابتعدت بها وتصنَّعت اهتمامها ببعضِ الاوراق..
بفيلا راجح:
خرجَ من مكتبهِ بعدما أخبرتهُ الخادمة:
-فيه واحد برَّة عايز يقابل حضرتك ياباشا..ضيَّق عينيهِ متسائلًا:
-مين دا؟!..
بسطت كفَّها إليه بالبطاقةِ التعريفية، تناولَ الكارت ينظرُ إليه بشفتينِ مذمومتين، ثمَّ أشارَ إليها بالخروج:
-تمام دخَّليه وأنا جاي وراكي..خرجَ بعد عشرِ دقائق، وجدهُ متوقِّفًا أمام إحدى اللوحاتِ الزيتية المعلَّقة، يتأمَّلها بصمت، كما لو كان يقرأُ تاريخًا خفيًّا خلفها.
-عاجبتك؟..التفتَ عطوة إليهِ ببطء، بنظراتٍ هادئة، لكنَّها تحملُ شيئًا لا يُقرأ بسهولة...طالعهُ للحظاتٍ قبلَ أن يهزَّ رأسهِ مستخفًّا، ثم أشارَ له راجح بالجلوسِ قائلاً بنبرةٍ ساخرة:
-اتفضَّل ياباشا، ولَّا أقولك ياعطوة..
اتَّجهَ إلى المقعدِ وجلسَ يضعُ ساقًا فوق الأخرى، ثمَّ أخرجَ تبغهِ الغالي ينفثهُ بهدوء، وعيناهُ على جلوسِ راجح الهادي:
-عرفت من إمتى ياراجح؟..
تهكَّمَ راجح وهو يجذبُ سيجارتهِ من فوق المنضدة وقام بإشعالها ونفثها بالهواءِ الطلق، ونظرَ نظراتٍ خبيثةٍ إلى عطوة مجيبًا:
-من زمان أوي ياعطوة، ولَّا أقولَّك ياهشام يادمنهوري..
تغيَّرت ملامحُ عطوة لوهلة، لكنَّهُ استعادَ رباطةِ جأشهِ سريعًا، مطَّ شفتيهِ في ابتسامةٍ مائلة، وهزَّ رأسهِ متأمِّلاً قبلَ أن يقولَ بصوتٍ منخفض:
"طيب، ماأنتَ شاطر وعارف كلِّ حاجة، يا راجح…أومال ليه عامل عبده العبيط؟"
جزَّ راجح على أسنانه، وعيناهُ اشتعلتا بلونٍ لا يبشِّرُ بالخير…
-علشان تيجي لحدِّ عندي وتقولِّي ليه عملت فيَّ أنا وأخويا كدا، وأوعى تستهبل عليَّا أنا مش رانيا..
زمَّ شفتيهِ ثم توقَّفَ بعدما ألقى تبغهِ بالمطفأة وعيناهُ ترسمُ حركاتُ راجح الانفعالية:
-اسمعني ياراجح، علشان إنتَ المفروض تشكرني، أو بمعنى أصح تشكر رانيا، علشان لولاها كنت زمانك مدفون جنبِ أخوك..
هبَّ راجح من مكانهِ واقتربَ منهُ كالأسدِ المنتظر فريسته، وهمسَ بفحيحٍ أعمى:
-محدش له حاجة عندي، أوعى تفكَّر مش عارف تخطيطك إنتَ والزبالة رانيا، لا فوق واعرف إنتَ واقف قدَّام مين..
-راجح..صاحَ بها هشام الذي يُدعى عطوة يشيرُ إليهِ بتحذير:
-متنساش نفسك، بفضلي لسة ليك صوت في الدنيا، أنا مش جاي أحاسبك، أنا جاي دلوقتي بطلب منَّك طلب واحد ومش طلب لا دا أمر، ابنِ جمال لازم يموت، ومتفكرش إنِّنا مش عارفين إنَّك بتحاول منعرفشِ أنُّهم ولاد جمال..نسيت إنِّي اللي حطتهم في المكان دا..
-عايز إيه ياعطوة؟..
-فين رانيا ياراجح؟..
-وإنتَ مالك، هيَّ مراتي ولَّا مراتك..
-طيب اسمعني ياراجح علشان أنا صبرت عليك كتير أوي، قدامك يومين بس لازم تموِّت ابنِ اخوك، ياإما الكلِّ يعرف إن ابنِ أخوك ظابط، وبيدوَّر وراك شوف بقى هتعمل إيه، ثانيًا إياك تقرَّب من رانيا، لو عرفت إنَّك أذيتها مش هرحمك..
-اطلع برَّة أنا مابتهدِّدش، برَّة..صاحَ بها ينادي على الأمن وأشارَ إليه:
-خرَّجوه برَّة..طالعهُ بنظراتٍ مستهزئة وأومأ برأسه:
-تمام ياراجح، هطلع بس متنساش تجهِّز قبرك، مش هشام الدمنهوري اللي ينطرد..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان بالكامل، هوى على المقعد بعد خروجهِ يسبُّه، ثمَّ تراجعَ بجسدهِ يطبقُ على جفنيهِ وذهبَ بذاكرتهِ قبل عدَّةِ أيام..
وصلَ راجح بصحبةِ رانيا إلى السويس، تلفَّتت حولها متسائلة:
-جايبنا هنا ليه ياراجح؟!..مش قولت هنشوف البرج اللي بتبنيه؟..
ارتدى نظَّارتهِ الشمسية وأشارَ إليها بالنزول:
-انزلي يارانيا مش عايز أسمع صوتك.
أوف أوف..أنا سايبة شغلي مش فاضية للتفاهات دي..حدجها بنظرةٍ صامتة، ثمَّ استدارَ وتحرَّكَ إلى الشخصِ الذي ينتظره:
-اليخت جاهز يابني؟..
-أيوة ياباشا، هتحتاج حدِّ معاك ولَّا..أشارَ إليهِ بالصمت، ثمَّ بسطَ كفِّهِ يسحبها بجوارهِ ينظرُ إلى البحرِ قائلًا:
-فاكرة المكان دا يارانيا؟..
لمعت عيناها بخطٍّ من الدموعِ وذكرياتِ الماضي تضربُ عقلها، ثم توقَّفت قبلَ وصولهم إلى الشاطئ:
-إحنا رايحين فين ياراجح؟!
خطا بخطواتٍ متَّزنةٍ ولم يعيرَ لحديثها أيِّ اهتمام، إلى أن وصلَ إلى أحدِ الشواطئِ الهادئة، التي تحاصرها بعض الشاليهات وأردفَ قائلًا
-بحيِّ الذكريات يارانيا، إيه مش عايزة نرجَّع ذكريات حبِّنا..
-حبِّنا، راجح إنتَ مالك فيه إيه النهاردة؟!..
وصلَ إلى اليخت، ثم جذبَ كفَّها وصعدَ على متنه:
-عايز أفسَّح مراتي، ولَّا مش أستاهل بعد خمسة وتلاتين سنة يارانيا؟..
-نتفسَّح وفي رمضان؟!..غمغمت بها بتساؤل، اتَّجهَ نحو محرِّكِ اليخت، وانطلقَ في البحر..ظلَّت تنظرُ إليهِ بصمتٍ إلى أن قطعَ مسافةً طويلةً ثم توقَّف ونهضَ من مكانهِ متَّجهًا نحوها:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟..
سارت إلى أحد المقعد الموجودة وجلست تضع ساقًا فوق الأخرى تطالعه بعيون متسائلة، اومأ بفم مذموم
-فضولك هيقتلك مش كدا ..؟!
-مالك النهاردة ياراجح، مش طبيعي ليه؟..نظرَ إلى سطحِ اليختِ يومئُ برأسهِ مستهزئًا ويردِّدُ حديثها:
-مالك ياراجح النهاردة؟!! أممم، لا يامدام رانيا المفروض تقولي ليه صبرت عليَّا دا كلُّه ياراجح..
نهضت تصيحُ بنبرةٍ حادة:
-لا ماهو إنتَ مش جايبني لألغازك، أنا مش فاضية قولت لك..
توقَّف دقيقةً متجمِّدًا بمكانهِ كجبلِ الجليدِ ونظراتهِ تحرقُ وقوفها وغضبها، إلى أن اقتربت منه وتعمَّقت بعينيه:
-راجح أنا معرفشِ إنتَ عايز توصل لإيه، وليه جبتني هنا وو..رفعَ كفِّهِ إليها لتصمت:
-أنا عايز أعرف كلِّ حاجة يارانيا، ليه جبتك هنا، علشان أعرف ليه تعملي فيا كدا، زمان لمَّا اكتشفت إنِّك ورا خطف ولاد جمال وضحكتي عليَّا بكلامك التافه عن فريدة، وأنا الحمار اللي صدَّقت واحدة زبالة زيك، وفضلت ماشي وراكي لحدِّ ماسلبتي منِّي كلِّ حاجة، ليه يارانيا، ليه عايزة تخلصي منِّي بعد الحبِّ اللي حبتهولك، بعد مااتنازلت عن كلِّ حاجة..
-اتنازلت لا والله، وياترى اتنازلت عن إيه ياراجح؟..على سهرك كلِّ ليلة في حضن واحدة، ولا على خطرفتك باسمِ فريدة وإنتَ جايلي سكران، ليك عين تتكلِّم..
وصلَ إليها بخطوةٍ وأطبقَ على ذراعيها بقوةٍ آلمتها وهتفَ بهسيسٍ مرعب:
- ودا من إيه يازبالة، مش لمَّا عرفت إنِّك اتجوِّزتيني كُبري علشان تكوني جنب جمال، إيه نسيتي حبيب القلب اللي موِّتي ابني بسبب زعلك عليه، ولَّا صريخك بالليل باسمه، ولَّا كلامك لصحبتك..وإنتي بتقولي لها كنت مستعدة أكون خدامة تحت رجله بس كان يحبِّني ربع حبُّه لفريدة...لطمةٌ قويةٌ على وجهها ثمَّ جذبها بقوةٍ من خصلاتها:
-وفي الآخر تلبِّسيني العمَّة وتخونيني مع ابنِ غوازي، أنا تلعبي بيَّا لابنِ الدمنهوري بعد ماموِّتوا أخويا وولاده..
دفعتهُ بقوةٍ وصرخت تعدِّلُ خصلاتها التي آلمتها:
-لا متعملشِ فيها البريء ياراجح، إنتَ كنت عارف كلِّ حاجة وعارف ليه الدمنهوري قتل جمال، ورغم كدا وافقت تشتغل معاه..
رفعت عيناها الدامعة تلاقي عيناهُ واستطردت:
-متعملش بريء ياراجح، إنتَ الشيطان يتعلِّم منَّك، آه مش حبِّيتك وحبِّيت جمال..وكنت أتمنَّى أعيش يوم واحد معاه وإن شالله بعدها أموت، بس أخوك يستاهل اللي حصلُّه علشان رفض حبِّي وطلع يجري ورا فريدة، ويوم ماأتجوِّز ألاقي جوزي بيحبِّ الستِّ الوحيدة اللي مكرهتش في حياتي قدَّها، مش هيَّ بنتِ عمِّي..بس بكرهها زي مابكرهك بالظبط ياراجح، بكرهها علشان كانت عارفة إنِّي بحبِّ جمال وراحت اتجوِّزته، وبكرهك علشان كلِّ مرة تقرَّب منِّي مكنتش شايفني..مكنشِ فيه على لسانك غير فريدة وبس، علشان كدا حسَّرتها على ولادها..بس عطوة الغبي مسمعشِ الكلام وقتلهم، طلعت محظوظة زي ماطول عمرها محظوظة والكلِّ شايفها البريئة اللي مبتغلطش..
جذبها يجرُّها من خصلاتها حتى هوت على سطحِ اليخت تصرخ:
-شعري..
شعرك دا أنا هولَّع فيكي، مبقتش راجح العبيط الِّلي بيسمع كلامك، أنا كنت بطاطي يارانيا علشان أوصل اللي أنا فيه دلوقتي..انحنى يرفعها من خصلاتها يهمسُ بجوارِ أذنها:
-هوَّ أنا ماقولتكيش، مش إسماعيل الدمنهوري عيَّني الراجل الكبير في المنطقة..بعد ماعرف وساختك إنتي وابنِ أخوه اللي اتَّفق مع ناس علشان يقتلوه وياخد مكان أبوه..
جحظت عيناها تهزُّ رأسها بذعرٍ بعدما علمت بما ينويه:
-محصلشِ ياراجح، عطوة مش ناوي يقتل عمُّه..
ارتفعت ضحكاتهِ وهو يدفعها لتسقطَ بكاملِ جسدها وقامَ بإشعال سيجارة مغمغمًا:
-ضحَّكتيني ولازم أحتفل بسيجارة، ربِّنا يسامحني بقى في نهار رمضان،أكيد هيسامحني بعد اللي بعمله فيكي، ماهو هخلَّص البشرية منِّك..
نهضت من مكانها تحدجهُ بنظراتٍ نارية:
-مش هتقدر ياراجح، علشان إنتَ أمر موتك خلاص نفذ، بعد مارفضت قتل ابنِ السيوفي، أوعى تفكَّر إنِّي غبية ومعرفشِ لعبتك إنَّك تجيب قناص علشان تبيِّن للكلِّ إنَّك هتموُّته، وفي الآخر تضحك على الكل، أنا عارفة إنَّك بتحاول تحميه، بس مبقاش رانيا لو خلِّيت فيه نفس واحد بعد الليلة..
رفعَ حاجبهِ ساخرًا ثمَّ نفثَ تبغهِ بالهواء يلوِّحُ بيديهِ وكأنَّهُ يستمعُ إلى مقطوعةٍ موسيقية:
-غنِّي يارانيا صوتك رائع..الله الله، قالها واقتربَ منها بخطواتٍ سلحفيةٍ وعيناهُ ترسمُ رعبها وتراجعها للخلف، انحنى بجسدهِ ينظرُ إلى مقلتيها:
-مش لمَّا ترجعي الشطِّ التاني يارانيا،
دارَ حولها يغمغمُ بصوتٍ هادئٍ كأنهُ يغني ثم توقَّف يلفُّ ذراعيهِ حول جسدها يقرِّبها إليه يهمسُ بجوارِ أذنها:
-خنتيني يارانيا، خنتي جوزك مع راجل تاني وإنتي على ذمتي..قدرتي تخوني راجح اللي باع كلُّه علشانك، أه حبيت فريدة بس الولاء كلُّه كان لرانيا، خلِّتيني أرمي ولادي علشانك، رميت مرات أخويا بالباطل علشانك، حاولت أقتل ولاد أخويا علشانك، وفي الآخر واحدة أخرها تشتغل رقاصة تخون راجح الشافعي..قالها بعيونٍ تنطقُ نيرانًا جحيميةً ليضعطَ على عنقها حتى كادت أن تلفظَ أنفاسها ليدفعها بقوةٍ وتسقطَ على الأرض، خطا مقتربًا منها ثمَّ ضغطَ بقدمهِ على جسدها:
-أنا تخونيني يازبالة، يعني خيانة في الأوَّل وخيانة في الآخر.
-محصلشِ ياراجح، صدَّقني بيكذبوا عليك..أمالَ يرفعها من ذراعها ثمَّ وصلَ إلى حافةِ اليختِ يميلُ برأسها إلى البحر:
-هموِّتك موتة تستهاليها يارانيا، هخليكي وجبة لسمكِ البحر، ومتخافيش الحقير التاني هيلحقك، هنضَّف نفسي منِّك ومن اللي وسَّخوا راجح الشافعي، كلِّ واحد هياخد حقُّه، حتى أنا..
-لا ياراجح، متعملشِ كدا، وحياة بنتنا الوحيدة ياراجح متعملش فيَّا كدا، ووعد مش هقرَّب تاني من الدمنهوري وابنه..جرَّها إلى أن أوقفها ولم يرفّ له جفنًا ليقومَ بإلقائها متمتمًا:
-بنتك هتدعيلي علشان خلَّصتها من واحدة قذرة زيك..قالها وظلَّ لبعضِ الدقائقَ ينظرُ إلى محاولاتها التي باءت بالفشل، ثم تحرَّكَ باليختِ متراجعًا إلى الشاطئ وقامَ بإبلاغِ شرطةِ السواحل:
-مراتي نزلت البحر من ساعتين ولسة مرجعتش ...
خرجَ من شرودهِ على صوتِ الخادمة:
-هيَّ المدام مش هترجع الليلة ياباشا؟..
أشارَ إليها بالخروج:
-اطلعي برَّة معرفش، قالها وتناولَ سيجارهِ ينفثهُ بغضب، ثمَّ تناولَ هاتفه:
-إيه آخر الاخبار؟..
-إلياس جه المكتب متأخَّر قعد ساعة ونزل ودلوقتي هوَّ في بيته..
-طيب أخوه التاني اللي هوَّ أرسلان؟.
-لا ياباشا مشفتوش مجاش..
تنهَّدَ ثمَّ صمتَ ثواني قائلًا:
-طيب خلِّي القناص يجهز، علشان لازم نخلص من إلياس دا في أقرب وقت، وعايزك تشوف المحامي عايز أقابل طارق، بقالي تلات شهور مش عارف أقابله..
-هحاول ياباشا، متنساش أنُّه في قضية سياسية.
-اتصرَّف، لازم أخرَّجه، حتى لو موِّت كل اللي حاول يوقَّعني بيه..
فصلَ اتصالهِ بعدما وجدَ اتصال الدمنهوري:
-أيوة ياباشا..على الجانبِ الآخر:
-أنا هسافر بالليل وإنتَ استلم كلِّ حاجة مش عايز غلطة ياراجح، وهشام ابعد عنُّه ياراجح، إياك تقرَّب منه.
أغلقَ الهاتف وألقاهُ بعيدًا متمتمًا:
-عيوني ياباشا، مش هقرَّب منه بس دا هبعتهولك في صندوق..
بمنزلِ زين الرفاعي..
-آدم عملت إيه في القضية الأخيرة؟..
تساءلَ بها زين وهو يتِّجهُ إلى مائدةِ الطعامِ لتناولِ وجبةِ الإفطار، جذبَ آدم مقعدهِ وجلسَ بجوارِ والده:
-للأسف يابابا، القضية كبيرة أوي، والبنت ماتت مقتولة، ولسة التحقيقات شغَّالة، وصلت إيلين وهي تحملُ أكوابَ العصائر:
-حمدَ الله على السلامة حبيبي اتأخرت ليه كدا؟..توقَّف يجذبُ منها أكوابَ العصير:
-طلع عندي شغل مهمّ، المهمِّ إنتي عاملة إيه والبيبي عامل إيه؟..
جلست تحاوطُ بطنها مبتسمةً ثمَّ رفعت عينيها إلى زين:
-كويس، وبعد إذنك ياآدم أنا قرَّرت لو جبت ولد هسمِّيه زين ..توقَّفَ زين عن التسبيح ورفعَ عينيهِ إليها ولمعت عيناهُ بالدموع:
-إنتي بتقولي إيه يابنتي؟!..سحبت كوبًا ثم رفعت نصفَ جسدها ووضعتهُ أمامه:
-بقول جهِّز هدية لزين الصغير ياجدُّو، ماهو مش هسمِّي ابني ببلاش، خلِّي بالك..
ضحكةٌ رنانةٌ أطلقها زين وهو ينظرُ إلى آدم:
-سمعت مراتك بتقول إيه، يعني هتسمِّي ابنك زين..وصلَ أحمد بجوارِ مريم قائلًا:
-ماتضحَّكونا معاكم يابابا، خير فيه إيه؟..
أشارَ إلى إيلين قائلًا:
-إيلين عايزة تسمِّي ابنها زين..أومأ أحمد مبتسمًا:
-لفتة حلوة ياإيلين..قاطعهم رنينُ هاتفِ آدم، رفعهُ ثمَّ قطبَ جبينهِ متسائلًا:
-دا إلياس، قالها وأجابَ على الهاتفِ بالحال:
-أيوة ياإلياس..على الجانبِ الآخرِ كان جالسًا بمكتبهِ فتحدَّثَ قائلًا:
-آدم بعد الفطار تعالَ عايزك في موضوع مهم.
-حاضر..قالها وأغلقَ الهاتفَ ينظرُ إلى والده:
-عايزني في شغل..أومأ زين يشيرُ إلى أبنائه:
-افطروا الأذان رفع..
عند إلياس..
أنهى مكالمتهِ ينظرُ إلى جهازهِ ينقرُ بقلمهِ على المكتب، دلفت إليه ميرال:
-المغرب أذن، معقول ماسمعتش؟!..نهضَ من مكانهِ متَّجهًا إليها، ثمَّ بسطَ كفِّه إليها:
-آسف ميرا، كان معايا تليفون، عانقت ذراعهِ تضغطُ عليه:
-خلاص سماح ياحضرةِ الظابط، وصلَ إلى طاولةِ الطعام يجذبُ مقعدها يشيرُ إليها بالجلوس:
-اتفضلي سموّ الملكة...رفعت حاجبها تطلَّعُ إليهِ بتهكُّم:
-إلياس السيوفي والغزل، لا كدا يُغمى عليَّا..
ابتسمَ وهو يرفعُ كوبَ عصيرهِ يرتشفُ بعضهِ بعدما ردَّد دعاءَ الإفطار، ثمَّ رفعَ كوبها واتَّجهَ إليها:
-ماشربتيش عصيرك ليه؟..
هزَّت رأسها بالرفض:
-لا حاسة السُّكر عندي عالي، فبلاش سكريات..رفعهُ أمام وجهها:
-اشربي شوية حبيبتي علشان خاطري..
وضعت كفَّها فوق كفِّهِ ورفعهُ لفمها لترتشفَ بعضه، ابتسمَ بحنانٍ عليها ثمَّ جذبَ الطعامَ يضعهُ أمامها..
رفعَ عينيهِ نحوها، تأمَّل جلوسها المتحفِّز، نظرَ إلى أصابعها فوق حافَّةِ الكوبِ وهي تديره، وتحاولُ إبعادَ نظراتها عن مقابلته مباشرة..ابتسمَ داخلهِ ساخرًا لأنَّه يعرفها جيدًا، يعرفُ متى تحاولُ أن تُخفي شيئًا، ومتى تخشى المواجهة..جذبَ صحنهِ وبدأ يتناولُ طعامهِ في صمتٍ لمدَّةِ دقيقتينِ إلى أن نطقَ متسائلًا:
"عملتي إيه النهاردة؟" سألها بنبرةٍ هادئة، لكن عيناهُ لم تُخفيا فضولهِ المتحفِّز هل ستقصُّ له أم أنَّها تُخفي ماتحاولُ أن تفعله..
هزَّت كتفيها بلا مبالاة، ولم ترفع عينيها إليه وأجابت:
"عادي، مخرجتش النهاردة، مكنشِ عندي شُغل كتير، خلَّصته في البيت، وعملت شوية حاجات مع غادة."
ظلَّ يراقبُ تحرُّكاتِ وجهها بالكاملِ وهي تجيبه، ثم عادَ إلى طعامهِ ببطء، لكنَّهُ، كان يحرِّكُ الملعقةَ بين أصابعهِ واردف بغموض:
"ماكلمتيش حد؟"
تجمَّدت يدها للحظةٍ فوق الكوبِ قبل أن تضعهُ برفقٍ على الطاولة، ثمَّ رفعت عينيها نحوهِ أخيرًا، حينما علمت أنَّه لم يكن سؤالاً بريئًا
"طيب ما أنتَ عارف ليه السؤال، إلياس..." تنهَّدت ببطء، تكبحُ توَّترها، تحاولُ أن تحافظَ على هدوئها، "عارفة إنَّك خايف عليَّا، بس دا ميمنعشِ تديني شوية خصوصية."
ابتسمَ بسخرية، لكنَّ الابتسامةَ لم تصل لعينيه، وضعَ الملعقةَ جانبًا وأسندَ كوعهِ على الطاولة، وعيناهُ تحاصرها، قائلًا بنبرةٍ تشوبها الحدَّة:
"هوَّ فيه خصوصية بين الراجل ومراته يا ميرا؟"
شعرت بانقباضٍ في صدرها، ليس من كلماته، بل من الطريقةِ التي نطقَ بها..
أسندت ذقنها على كفِّها وتنهَّدت:
"إنتَ مش مجرَّد جوزي ياإلياس...بس دا ميمنعشِ يكون ليا حاجة خاصة لنفسي وبس."
راقبها بصمت، وحاولُ ألَّا يُدخلَ الحوارَ إلى نفقٍ مظلم، حتى لا يجعلَ النقاشَ يتحوَّلُ إلى معركةٍ أخرى بينهما..مدَّ يدهِ بهدوء، ورفعَ ذقنها برفقٍ لتلتقي عيناها بعينيه، يرى ما تُخفيهِ خلف تلك السحبِ التي بدأت تتكاثفُ تحت جفنيها:
"حبيبتي، الناس دول مش سهلين، ومش عايز أوصَّلك لليوم اللي راجح يبعت حدِّ يقتلك، إنتي عارفة أنُّه تبع الناس اللي بتهاجميها بمقالاتك دي، غير الحملة اللي مش موقِّفاها رغم تحذير رئيس التحرير."
تراجعت قليلًا، ثم نظرت إليه بعينينِ مشتعلةٍ بالغضبِ المكبوت، الذي يحاولُ أن يخفيهِ بنبرتهِ الهادئةِ وأردفت:
"وأنا مش هنافق في شُغلي حتى لو كان ابني ياإلياس..الناس دي تستاهل كده، إنتَ عارف أنُّهم بيضحكوا على أولاد صغيرين بحجِّةِ الدين، بياخدوهم للدواعش، وبعد كده يعملوا منظمات إرهابية يقتلوا فيها ناس مالهاش ذنب.. عارف اللي وجعني أوي؟ إنهم بيختاروا شباب صغير يادوب بيعرفوا يعني إيه دنيا، وبعدِ كده بيعملوا لهم دنيا تانية في دماغهم."
كانت كلماتها تخرجُ كالرصاص، تحملُ غضبها، قهرها، خوفها غير المعلن..نظرت إليه بعينينِ مليئتينِ بالرجاء:
"أنا بحاول من خلال رسالتي أحمي ابني وابنِ غيري زي ماإنتَ بتحاول تدافع عن بلدك...أنا كمان، بس مش بالسلاح."
نظرَ إليها، هنا شعر قلبهِ بالانقباض، شعورًا بالعجزِ امتزجَ بحبٍّ لا يعرفُ كيف يتعاملُ معه..مدَّ يدهِ إلى خصلاتها ومسحَ عليها برفق، كأنَّها قطعةُ زجاجٍ يخشى أن تنكسرَ بين يديه:
"كمِّلي فطارك...وبعدها نكمِّل كلامنا."
أشارَ إلى الطعام، وأردفَ بصوتٍ أهدأ لكنَّه مشبعٌ بالإصرار:
"أنا مش طالب منِّك غير إنك ماتحاوليش تخبِّي عليَّ حاجة، وموضوع التليفون التاني اللي بتشتغلي بيه من ورايا...بلاش منه، ميرال..أتمنَّى تحافظي على نفسك، وتأكدي...هعرف أيِّ حاجة مهما حاولتي تخبيها."
ابتلعت ريقها، لم ترد...وحاولت أن تستعطفه:
"أنا عايزة منَّك تساندني بس، إلياس... مش عايزة الخوف يسيطر عليَّا."
مطَّ شفتيهِ باعتراض، وهزَّ رأسه، ثمَّ أردفَ بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه لا يقبلُ الجدال:
"مش هقدر أوعدك، لأن لو في حاجة هتضرِّك...مستحيل أوافق عليها."
نظرت إليهِ طويلًا، ثمَّ همست بابتسامةٍ ساخرة:
"شفت؟ إنتَ قلتها بنفسك."
أمسكَ بيدها، وسحبها نحوهِ بلطف، ثم طبعَ قبلةً على كفِّها وهو يهمس:
"قلت إيه؟ قلت إنِّي مش مستعدِّ أضحي بيكي...صح ولَّا إيه؟"
شعرت بالهواءِ يثقلُ في صدرها، كأنَّها على وشكِ الانهيار، اقتربت منهُ بجسدها ودفنت رأسها بصدره، أغمضت عينيها وتنهيدةٌ طويلةٌ خرجت منها كأنها تفرغُ كلَّ ما بداخلها دون كلمات:
"نفسي أرتاح من كلِّ حاجة ياإلياس... نفسي راجح ياخد جزاؤه على اللي عمله فينا، خايفة يخطفك من حضني أوي، عندي إحساس كبير إنِّ سعادتي مش هتدوم معرفشِ ليه"
أخرجها من أحضانهِ وبعيونٍ مكتظَّةٍ بالغضبِ استرسلَ بتساؤل:
"يعني بتعملي ده كلُّه علشان توقَّعي راجح...مش كده؟"
رسمت ابتسامةً ساخرة، مالت برأسها قليلًا وهي تجيبهُ بنبرةٍ خبيثة:
"زي ماإنتَ يا حضرةِ الظابط بتحاول توقَّع راجح ورانيا، علشان متأكِّد أنهم مش هيسكتوا، وجاي توقَّعني في الكلام."
رغم توتُّرهِ الداخلي، لم يستطع منعَ نفسهِ من الضحك..هزَّ رأسه، وتأمَّلها لوهلةٍ ثم قال وهو يميلُ نحوها:
"بتعملي ذكية عليَّا ياحضرةِ الأستاذة... نسيتي إنِّك قدَّام إلياس السيوفي؟"
ضحكت بخفة، تلك الضحكة التي لم يكن يعرف إن كانت تمازحهُ أم تتحدَّاه، لكنَّها بدأت تتناولُ طعامها بصمت، بينما هو ظلَّ يراقبها، وصدرهِ يغلي من الداخل، كلَّما تخيَّلَ نتيجة ماتفعله...
مر يومين لينتهي الشهر المعظم بروائحه، توقفت أمام المرآة تنظر إلى بطنها التي بدأت بالظهور تملس عليها بإبتسامة
-ابنك بيكبر وانت بعيد، ياترى ايه اللي اخرك، اتمنى عمو فاروق يكون بيقولي الحقيقة وتكون كويس
ابتسمت تحدث جنينها كأنه يدرك ماتنطقه
-حبيبي بابا وحشك انت كمان، انا زعلانة منه، بس عندي امل أنه بعد شوية يدخل علشان يعيد علينا
بتر حديثهم صوت ملك مع إسلام بالخارج..خطت إلى خارج غرفتها وجدت اسلام متوقفا على باب منزلها
-ازيك ياأم عتريس
ابتسمت واقتربت بخطواتها منه تنظر للذي يحمله، ثم أشارت عليه
-ايه دا يا اسلام
نظر للحقيبة التي بيديه ثم رفع نظره إليها قائلا
-ماما بعتت لك الحاجات دي، بتقولك لوازم العيد، خديها بس متخلصهاش كلها علشان انا والبت غادة وميرو هنصلي العيد ونيجي نتغدى هنا
قطبت جبينها تنظر لما تحتويه تلك الحقيبه
-ايه دا كله، ماما صفية لسة بعتالي حاجات قد كدا
زم شفتيه باعتراض
-بقولك ايه ياست الكل انا ماليش دعوة، انا عبد الرسول ..خد دا يا اسلام تمام، تليفون ماما معاكي اتكلموا وحاسبوا بعض ..قالها وهو يتطلع إلى ملك
حمحم بعدما تحدثت غرام:
-شايفة رجلك اخدت علينا ياحضرة المهندس..
-أنا مين قال كدا، اتجه بنظره الى ملك
-صحيح انت شايفة زي ماهي بتقول
تحركت مبتعدة عنهما بعدما توردت وجنتيها ..راقب تحركها بعينيه حتى قاطعته غرام
-ميرال عاملة ايه ..التفت اليها يهز رأسه
-تمام كويسة، همشي بقى ولو عوزتي حاجة كلميني مش تكلمي ميرال تمام
افلتت ضحكة مستديرة تنظر إلى ملك التي توقفت وتصنعت الانشغال بهاتفها، ثم التفت إليه تهز رأسها بابتسامة قائلة
-تدفع كام ..
تحرك مغادرا بعدما لوح بيديه
-بتاخدوا عليا بسرعة
في منزل إلياس، بعد ساعات من الاستعداد، تأملت انعكاسها في المرآة، أمالت رأسها قليلًا وهي تدور بجسدها، تتفحص نفسها بعيون يلمع فيها الرضا، بمنامتها الحريرية الناعمة التي تلامس بشرتها كهمسات عاشق، تنسدل على جسدها بتناغم فريد، تصل إلى أعلى ركبتها، تحتضن تفاصيلها بدقة، وأكتافها العارية فتزيدها فتنة، مررت يدها برفق على خصلاتها المتموجة الناعمة، ثم أمسكت بأحمر الشفاه القاني، مررته برقة على شفتيها، وكأنها تخط توقيعًا أخيرًا على لوحة عشق متقنة، تتخيله توقفت تجلب عطرها، نثرته بكثرة، تعرف أنه يثير جنونه، انتشرت رائحته في المكان، ثم استدارت وأطفأت الأضواء الرئيسية،
في منزل إلياس، بعد ساعات من الاستعداد، تأملت انعكاسها في المرآة، أمالت رأسها قليلًا وهي تدور بجسدها، تتفحص نفسها بعيون يلمع فيها الرضا، بمنامتها الحريرية الناعمة التي تلامس بشرتها كهمسات عاشق، تنسدل على جسدها بتناغم فريد، تصل إلى أعلى ركبتها، تحتضن تفاصيلها بدقة، وأكتافها العارية فتزيدها فتنة، مررت يدها برفق على خصلاتها المتموجة الناعمة، ثم أمسكت بأحمر الشفاه القاني، مررته برقة على شفتيها، وكأنها تخط توقيعًا أخيرًا على لوحة عشق متقنة، تتخيله توقفت تجلب عطرها، نثرته بكثرة، تعرف أنه يثير جنونه، انتشرت رائحته في المكان، ثم استدارت وأطفأت الأضواء الرئيسية، وأشعلت الشموع ذات العطر الدافئ، فانعكس وهجها الرومانسي على وجهها، مما زادها سحرًا. أغلقت عينيها للحظات، وهي تستمع... تتنفس بصمت، تترقب صوت خطواته التي تشبه موسيقاها المفضلة، ذلك الإيقاع الذي يسرّع دقات قلبها قبل أن تراه، بعدما استمعت إلى صوت السيارة
لم يطل انتظارها... فتح الباب ودلف إلى الداخل، توقّف للحظة، وعيناه تعكسان الدهشة والانبهار، كما لو أنه يراها لأول مرة، وقف، يتأملها كفنان مهووس بلوحته الأجمل، أو كعاشق أدرك أنه في قلب جنته، لم يستطع مقاومة فتنتها فتقدم، وكأنها مغناطيس يجذبه بلا مقاومة. اقترب منها حتى بات خلفها تمامًا، رفع يديه ببطء، ولمس ذراعيها بأطراف أصابعه، فشعر برعشتها التي لم تستطع إخفاءها، همس بصوت خافت حمل بين طياته كل أشواقه:
"عيد سعيد، ميرا، اوعي يكون دا كله احتفال بالعيد"
قالها بأنفاسه الدافئة التي لافحت بشرتها، فارتجف جسدها استجابة له، قشعريرة لذيذة تسلّلت على طول عمودها الفقري، جعلتها تستسلم بين ذراعيه وكأنها قطعة موسيقية يعزفها بأنفاسه ولمساته، شعر باهتزازها بين يديه، فشدد من احتضانه، دار بها ببطء على أنغام الموسيقى، يهمس بكلمات الأغنية التي تصدح في المكان بصوته الخفيض العاشق.
رفعت رأسها نحوه، عيناها متعلقة بعينيه، وكأنهما مرآة تعكس كل المشاعر التي في داخلها. ثم رفعت ذراعيها ببطء، وأحاطت عنقه برقة، وقربت شفتيها من أذنه وهمست بابتسامة دافئة:
" كل عيد وانت معايا وجوا حضني ياالياس، اه بحتفل بالعيد لجوزي، زعلان ولا هتقولي هبل
هز رأسه ومازالت عيناه ترسمها بشغف
- تؤ مش هبل، بس اتفاجأت ماتوقعتش منك كدا
تلاعبت بزر قميصه حتى فتحت اول زر منه وداعبته بعيونها اللامعة وكلماتها الرقيقة
- ماهو انت مش مديني فرصتي ياحبيبي
رفع حاجبه مرددا حديثها
-فرصتك!!..وياترى عايزة فرصتك في ايه
مررت أناملها على زر اخر ومازالت تتلاعب بمشاعره قائلة
-عايزة أرقص... أنا سعيدة جدًا، اول عيد نكون لوحدنا مع بعض نفسي اعمل حاجة تسعدك"
توقف للحظة، وحدّق في عينيها بدهشة، وكأن هذه الكلمات تعني له أكثر، فانخفض بصوت خافت ممتلئ بالشغف، سألها:
" الرقص هيسعدك ولا يسعدني؟"
أومأت برأسها برقة، ثم وقفت على أطراف أصابعها، وطبعت قبلة بجوار ثغره، ولمسته برقة حتى قضت على ثباته ، ثم نظرت إليه بعينيها السوداويتين التي اشتعلت ببريق خاص به وحده و تمتمت بدلال:
" مش هسعدك يعني، حتى ولو، طيب انا لازم أكون أسعد واحدة... مش وقعت إلياس السيوفي في حبي؟"
ابتسمت عيناه قبل شفتيه، ونطق بنبرة دافئة امتزجت بالسعادة و قال:
"وأنا أعترف بذلك... والاعتراف سيد الأدلة... إلياس بيحبك يا ميرو."
قالها واناملها تداعب جسدها برقة اذابتها
أغلقت عينيها للحظة، وكأنها تريد أن تحفظ هذه اللحظة في قلبها إلى الأبد، ، هذه اللمسة، هذا الحب... فتحت عينيها لتجده ما زال يحدّق بها وكأنه يراها لأول مرة، مرّت لحظات من الصمت، ولكن حديث العيون لم ينقطع، تريد أن يصرخ بحبها وليس بهمسه، ورغم ذلك اردفت
-بتحبني قد ايه
-كتيير..قالها وهو يسحب من جيبه صندوقًا صغيرًا، فتحه أمامها ببطء، وكشف عن عقد ماسي يتوسّطه اسمه محفورًا بدقة متناهية. رفعه أمام عينيها، ثم همس لها بحنان عميق:
"وعشان دايمًا أكون في قلبك... دي هديتي ليكي."
نظرت إلى العقد، ثم إلى عينيه، شعرت وبأن حبّه يلفّها كما يلفّ هذا العقد عنقها، ابتسمت بمكر، ومالت نحوه هامسة بدلال طفولي:
"هدية ولا عيدية؟ لازم توضح."
رفع حاجبه مستنكرًا، ضيّق عينيه وسأل بمكر مماثل:
"تفرق؟"
هزّت رأسها، واقتربت أكثر، وكأنها تزيد من إثارة مشاعره، همست بصوت خافت:
"لو هدية، هكون عايزة العيدية... ولو عيدية، هكون عايزة الهدية، وخلي بالك دا اسمك مش اسمي، متعرفش إن اسمك محفور كالوشم في قلبي، مش منتظرة هدية"
قلبته بين أناملها واكملت دلالها
-لا محبتش الفكرة، عايزة ميرال جوا حروف إلياس، دي هعتبره عيدية، ياله اطلع بالهدية ولازم تكون بحبك ياميرا، وانا اصقف واقولك بعشقك ياقلب ميرا
انت عارف دا شغل الافلام الابيض والأسود
ارتفعت ضحكاته، بضحكة خافتة عميقة، فتح كفيه مستسلمًا:
"طيب... وفين عيديتي؟"
لم تمنحه فرصة للحديث أكثر، اقتربت منه ببطء، وضعت يديها على وجنتيه، مرّرت إبهامها على شفتيه، ثم طبعت عليهما قبلة عميقة، قبلة حملت كل حبها، كل شغفها، كل امتنانها لهذه اللحظة. ثم تراجعت بخفة، نظرت إليه بعينيها اللامعتين، وقالت بصوت ناعم:
"دي عيديتي لك."
طالعها بنظرات مبهرة وكأنه فقد القدرة على الكلام، فقط نظر إليها يحاول استيعاب السحر الذي أغرقته به، اقترب منها، أمسك بخصرها ورفعها قليلاً، عانق عينيها وهمس بشغف:
"هتقدري تديني عيدية تساوي حبي؟"
وضعت جبينها فوق جبينه، لتمتزج أنفاسهما، وهمست بصوتها العذب:
"هحاول اعايدك بقلب ميرال، ولو بتحب ميرال، مستحيل تنساها."
ابتسم ابتسامة تحمل كل معاني العشق، سحبته برقة، وغيّرت الموسيقى إلى أغنية أخرى أكثر رومانسية، وبدأت تتمايل أمامه بأنوثة آسرة. كان ينظر إليها وكأنه يُحفظ تفاصيلها في ذاكرته، كل حركة، كل لمحة، كل نفس... لم يكن يريد أن يضيع أي لحظة منها..اقتربت مع تمايل جسدها تجذبه بدلال تهمس له كلماتها العاشقة، ليمرر أنامله على منامتها التي أنهكته بالكامل
في الخارج، كانت رؤى تشتعل بغيرة لم تستطع كبحها. قلب يشتعل بالغضب، أنامل ترتجف بعنف، وصوت الموسيقى بداخل غرفتها تفقد سيطرتها، ويذكّرها بالعشق الدفين، عضت على أناملها بغيظ تهمس لنفسها
-ليه مش انا اللي جوا، هي احسن مني في ايه، توقفت تدور حول نفسها
-بيعملوا ايه دا كله..تذكرت يوسف، فانسحبت إلى غرفته وجدت المربية تضعه بمخدعه
-سبيه انا هكون معاه
مرت دقائق حتى كُسر سحر اللحظة بطرقٍ مفاجئ على الباب. استدار إلياس نحو الصوت، وأشار إلى ميرال :
"هشوف مين؟"
نظرت إليه، ثم سحبت روبها الحريري ببطء، تمتمت وهي تتقدم نحو الباب:
"ممكن يكون يوسف زهقان من نانا... خليك، أنا هشوفه."
توقف يرمقها بنظر اوقفتها صامتة، ثم تراجعت لفراشهما
فتح الباب وجد مربية ابنه تحمل يوسف الذي يبكي بشهقات
-يوسف معرفش ماله مش مبطل عياط
أشار إليه بالصمت واردف:
-إنت هنا شغالة علشان ايه، شغلك تسكتيه وتاخدي بالك منه، خمس دقايق ومسمعش صوته، ياإما تمشي واشوف له واحدة تعرف يعني ايه تربي طفل
-ياله ارجعي لاوضته وشوفي شغلك، وممنوع تزعجيني تاني
هرولت إليه ميرال بعد ارتفاع صوته، وتوقفت خلفه تجذبه من ثيابه
-خلاص ياالياس أنا هشوفه
-كل سنة وانتي طيبة ياميرال..قالها بعدما اغلق الباب وتحرك للداخل
ضغطت باسنانها على شفتيها قائلة:
-وباظت الليلة الله يخربيت اللي يكلمك يااخي
بعد أسبوع..
خرجَ من مكتبهِ متَّجهًا إلى المشفى التي يُحجزُ بها إسحاق، دلفَ للداخلِ وجدَ فاروق يقفُ بجوارِ أحدهما، ووجههِ لايوحي سوى بأنَّهُ فقدَ شيئًا عزيزًا، ظلَّ متوقِّفًا يراقبهُ إلى أن تحرَّك الرجلُ فاتَّجهَ إليهِ ودون حديثٍ تساءل:
-أرسلان بقاله اكتر من أسبوعين ومش عارف أوصلُّه، ووالدتي قلقانة، أتمنَّى من حضرتك تعرَّفني إيه اللي بيحصل؟..
ظلَّ فاروق ينظرُ إليه بصمتٍ لبعضِ الدقائقِ..إلى أن فقدَ إلياس صبرهِ واقتربَ منهُ أكثر..
-فاروق باشا لو سمحت طمِّني على أخويا، أوَّل مرَّة تنقطع أخباره بالشكلِ دا..لوسمحت من فضلك..
-أرسلان مخطوف ياإلياس ومنعرفشِ من مين، وإسحاق الوحيد اللي يعرف خطِّ سيره، ودا في غيبوبة، كدا ارتحت..
التفتَ للخلفِ بعدما استمعَ إلى ارتطامِ شيئًا ثقيلًا على الأرض..
↚
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
وكأن الحياة اختارت أن تختبر صبري في أقسى مواضعه… في قلبي وفلذة روحي..ألم تعلم أن
غيابك يشبه يتمًا مباغتًا في عز البرد، حيث لا حضن يدفئ، ولا صوت يطمئن، ولا يد تمسح على الروح المنهكة... كنت أظن أن الرحيل كذبة، حتى جاءني بكامل قسوته، حتى اقتلعني من جذوري، وتركني عارية إلا من الحنين إليك
ليت الرحيل لم يُخلق أبدًا، ليته لم يمر على دياري، فوالله لبنيت لك ألف عذر يمنعك من الذهاب، لكنك رحلت وكسرتني كسرًا لا جبر له.
مدني حزينة، وأريافي تئن، وجدراني لا تزال تحمل صورتك كأنك غائب، ولو قُسّم حبك على هذا العالم لأعاد نبضه إلى القلوب الميتة
توقَّفَ بجسدٍ متجمِّد، وعينانِ متسعتانِ في ذهول، يردِّدُ بصوتٍ متحشرجٍ وقعَ على أذنهِ كالصاعقة: أخاه مخطوف!!كيف يمكن أن يحدثَ ذلك؟ كيف يُختطفُ شخصٌ مثل أرسلان يعرفُ كم هو ذكي وحذر؟!! ارتعدت أطرافهِ وهو يحاولُ استيعابَ الصدمة،
نزعَ ذهولهِ صوتُ ارتطامٍ قويٍّ خلفهِ، استدارَ بسرعة، وقلبهِ يكادُ يقفزُ من صدره، وهو يرى والدتهِ ملقاةٌ على الأرض، شاحبةٌ كالموتى، وكأنَّ الحياةَ انسحبت من وجهها في لحظة..
انحنى سريعًا يردِّد اسمها..
- ماما!! نطقَ بها بلهفة، لكن صوتهِ خرجَ مرتعشًا، وكأنَّه يخشى أن تكون قد رحلت عن عالمه، نهضَ بجسدٍ مذعور، يرفعها بين ذراعيهِ المرتجفتين، ينادي اسمها بفزع، كطفلٍ فقدَ والديهِ ليواجهَ العالمَ منفردًا..
كرَّر اسمها برجاء، وهو يصيحُ باسمِ الطبيب، مع اقترابِ فاروق منهُ بوصولِ دينا لتقفَ على ذلك المشهدِ كالذي فقدَ النُطق، وهي ترى فريدة بتلك الحالة، رفعت عينيها إلى فاروق بعدما حملَ إلياس والدتهِ إلى الغرفة، وتساءلت
-إيه اللي حصل؟!
مسحَ على وجههِ بإرهاق وهو يستغفرُ ربِّه، كيف سيصمدُ أمام تلك العاصفة:
-عرفت موضوع أرسلان..
-موضوع أرسلان؟!..تساءلت بها باستفسارٍ جاهل..
ليه هوَّ أرسلان ماله، أوعى يكون تأخيره فيه حاجة؟..دا إسحاق يموت فيها..
أشارَ إليها بالصمت، ثمَّ اتجهَ بنظرهِ إلى غرفةِ أخيهِ المسجَّى على فراشه، كالجثةِ الهامدةِ وأردف:
-عايزك تيجيبي مفتاح مكتب إسحاق، هتلاقيه في خزنة في دولابه، الخزنة رموزها باسمِ حمزة، هاتي المفتاح وأنا هنا مع إسحاق..
-طيب أفهم إيه اللي بيحصل وليه عايز المفتاح، متزعلش منِّي، معنديش أوامر حدِّ يقرَّب من أيِّ حاجة تخصِّ إسحاق..
رفعَ عينيهِ ورمقها بنظرةٍ أخرستها، ثم أشارَ بعينيه:
-نصِّ ساعة وترجعي بالمفتاح، وإياكي حدِّ يعرف حاجة حتى اللي شغالين في طاقمه، ولا إلياس السيوفي..
-بس..مابسش، ياله الوقت مش في صالح ابني.
بداخلِ الغرفة..
مرَّت دقائق كالسيفِ على العنق، وهو واقفًا يتابعُ الطبيبَ الذي يفحصُ والدته...رفع الطبيبُ رأسهِ يشيرُ إلى الممرضة:
-جهِّزي غرفة العناية، المريضة لازم تتحجز..
نطقَ بها الطبيبُ حتى شعرَ إلياس بنبضهِ يضربُ صدرهِ بعنف:
- مالها يادكتور؟!..تساءل بها بلسانٍ ثقيل..أجابه الطبيب:
- أزمة قلبية حادَّة..
شعرَ كأنَّ الهواءَ قد انسحبَ من حوله، والغرفة تدورُ به، وهو يستمعُ إلى الطبيب..
-الحالة صعبة، وممكن توصل لجلطة.
مرت ساعات وهو جالسًا يحتضنُ رأسه، وكأنَّه يحملُ ثقلًا كثقلِ الجبالِ فوق رأسه، عاجزًا لم يستطع الوصولَ إلى شيئ، وصل إليه إسلام:
-إلياس مراتك مش مبطَّلة اتصال، رد عليها طمِّنها، رفعَ رأسهِ ينظرُ إلى إسلام بصمت، ثمَّ نهضَ من مكانهِ يربتُ على كتفه:
-خليك جنب ماما وبابا، وأنا عندي مشوار نصِّ ساعة وأرجع.
أمسكهُ إسلام من ذراعه:
-رايح فين؟..أنا بقولك رد على ميرال، ماهيَّ كدا كدا هتعرف، أحسن إنَّك تجبها تشوف ماما فريدة..
أومأَ وتحرَّك دون حديث، خرجَ إلى سيارته، رفعَ هاتفه:
-شريف، حاول تعرف لي مين اللي في طقم إسحاق الجارحي، غير أرسلان.
-هحاول يا إلياس، بس دا صعب، ربِّنا ييسَّر..
-هييسَّر إن شاءالله ياشريف..صعدَ سيارتهِ وتحرَّك إلى وجهته، وصلَ بعد قليل، ترجَّلَ منها ثمَّ دلفَ للداخل:
-فيه جديد؟!.
-لسة في الغيبوبة يافندم، دلفَ للداخلِ ينظرُ إلى جسدها الساكنِ للحظات، ثم اقتربَ وانحنى بجسده:
-ماهو مش أخطَّط لدا كلُّه وفي الآخر تدخلي غيبوبة، فوقي يارانيا لازم أعرف مين اللي قتل أبويا، ومحدش هيوصَّلني غيرك، زفر بحدَّة يمسحُ على وجهه:
-كلِّ حاجة جت فوق دماغي دلوقتي، رانيا من جهة وإسحاق وأرسلان، أطبقَ على جفنيهِ متذكِّرًا مصيرَ أخيه...اعتدلَ وعينيهِ تحاصرُ جسدها ورجعَ بذاكرتهِ لذاكَ اليوم الذي ألقاها راجح في البحر..
قبل عدَّةِ أيامٍ بعدما ألقاها راجح، وصلَ إلى البحرِ بعد إنقاذِ دينا:
-إيه اللي حصل ؟!.
راجح رماها في البحر، والغطَّاس نزل ينقذها، رانيا بتعوم على فكرة علشان فضل واقف فترة لحدِّ ما تعبت وفي الآخر مشي..
أومأ متفهِّمًا ثمَّ أردف:
-أه، بس مهما كانت شاطرة في العوم، البحر موجه عالي أوي..خرجَ الغوَّاص من البحر، فقرَّب إليه اليخت وقامَ بنقلها إلى إحدى العياداتِ الخاصة للكشفِ عليها..
جلسَ إلياس أمام الطبيب يترقَّبُ كلماته:
"هتتحجز لحدِّ الصبح للاطمئنان."
أومأ إلياس رأسهِ بتفهُّم، ثمَّ سأل:
"تمام، فيه حد هيكون مرافق معاها؟"
لكن قبل أن يتلقَّى الإجابة، قطعَ حديثهِ صوتُ رنينِ هاتفه، التقطهُ بسرعة، وما إن وضعهُ على أذنه أردفَ أحدهم:
-"إسحاق انضرب واتنقل المستشفى العسكري!"
نهضَ إلياس، ألقى نظرةً سريعةً على الطبيبِ وكأنَّه يعتذرُ على مغادرتهِ المفاجئة، ثمَّ خرجَ مسرعًا متوجِّهًا إلى المشفى.
بعد عدَّةِ ساعات...
وصلَ فاروق إلى المستشفى بخطواتٍ متسارعة، عيناهُ تبحثُ عن إلياس الذي هاتفهُ حتى وجدهُ يقفُ شاردًا أمام الغرفة..اقتربَ منه متسائلاً بنبرةٍ تحملُ مزيجًا من التوترِ والقلق:
-"إيه اللي حصل؟"
لكن قبل أن يجيبه، وقعت عينيهِ على دينا التي جلست في أحدِ الأركان، تحتضنُ طفلها بقوَّة، ودموعها تنهمرُ بصمت.. اقتربَ منها ببطء، ثمَّ نادى عليها بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه لم يخلُ من الذهول:
-"دينا...!!"
نهضت دينا بعينينِ متورمتينِ من البكاء، وأشارت بيدها المرتجفةِ إلى الغرفة التي يُحتجزُ بها إسحاق، قبل أن تهمسَ برجاءٍ مخنوق:
- "قولِّي هيعيش...طمِّن قلبي يا فاروق بيه، لو سمحت."
ظلَّت عيناهُ عليها بذهول، اقتربَ إلياس منهما، ونظرَ إلى فاروق قبل أن يقول:
- "كنت بزور قبر والدي وعديت على المينا وعرفت اللي حصل...جيت أطَّمن عليه."لم يقتنع فاروق بحديثه وظل يطالعه بغموض حتى صارت النظرات كحرب بينهما، انتقلت عيناهُ على دينا التي مازالت لم تبتعد، وعقلهِ يعملُ في كافةِ الاتِّجاهاتِ محاولًا استيعابَ مايحدث..ولكن هناك ماصدمهُ أكثر حينما استمعَ إلى صوتِ الطفلِ الصغيرِ يبكي..
تشنَّج جسدُ فاروق، وتحوَّلت نظراتهِ إلى دينا التي احتضنت الطفلَ بشدَّة، وكأنَّها تحميهِ من أحدهم..تراجعَ للخلفِ بخطواتٍ مهتزَّة، وصدمةٌ عنيفةٌ تضربُ كيانه.
- "دا حمزة..هوَّ عايش؟!"
نطقها بصوتٍ خرجَ ثقيلًا وهو لم يصدِّق عينيه، وتسارعَ نبضهِ بجنون، وكأنَّ الأرضَ تدورُ من تحته، ثمَّ استدارَ إليها بنظرةٍ اشتعلت بالغضب:
- "عملتي إيه؟! إنتي ضحكتي علينا؟! خطفتي الولد من حضنِ أبوه؟!"
صرخت دينا بصوتٍ مخنوق، وكأنَّها تُخرج ُألماً دفينًا:
- "لاااا"
بكى الطفلُ من صوتها العالي، فاقتربَ إلياس منها بسرعة، وقبل أن تنهارَ تمامًا، تلقَّفَ الطفلُ من بين يديها، محاولًا تهدئتها قبل أن تفقدَ وعيها.
-"اهدي، مدام دينا..ولكن قبضَ فاروق على ذراعيها وصاحَ بنبرةٍ حادَّةٍ غاضبة:
-احكيلي اللي حصل!"
بأنفاسٍ متقطِّعة، ودموعٍ لا تتوقَّف، بدأت تروي ما حدث، بينما كان فاروق لا يزال متجمِّدًا في مكانه، يشعرُ باختناقٍ يجتاحُ صدره، وأنَّ الهواءَ من حولهِ أصبحَ ثقيلاً، وكلماتُ دينا عن ما فعلتهُ والدتهِ كاد أن يصيبهُ بذبحةٍ صدرية، هوى على المقعدِ عندما فقدَ اتِّزانهِ يشعرُ بأن العالمَ انهارَ من حوله..
خرجَ إلياس من شرودهِ على همهماتِ رانيا:
-أشرب..اعتدلَ مقتربًا من جسدها بعدما استدعى الطبيب:
-مدام رانيا سمعاني، لو سمعاني افتحي عيونك..
رفرفت اهدابها عدَّةِ مراتٍ إلى أن فتحت جفنيها، لتقابلَ عيناها عيني إلياس
-إنتَ..!! قالتها بنبرة بطيئة كادت تُسمع
-حمدَ الله على السلامة يامدام..
نظرت حولها بخوف، حاولت أن تتحَّدث ولكن ثقُلَ لسانها بدخولِ الطبيبِ الذي قامَ بفحصها يهزُّ رأسهِ برضا:
-كلُّه تمام، المدام كويسة.
تنهيدةٌ مثقلةٌ أخرجها بعدما شعرَ بالراحة..دلفت الممرضةُ ليشيرَ إليها إلياس:
-ساعدي المدام، الشنطة فيها هدوم، مش كدا تخرج عادي يادكتور؟..
-نظرَ إلى كشفها وأومأ له:
-بس لازم مرافقة طول الوقت..اقتربَ من رانيا وابتسامةٌ ساخرةٌ على ملامحه:
-لا دي متقلقشِ يادكتور..
خرج الطبيبُ بعدما أخبرهُ بما يجب فعله، جذبَ المقعدَ وجلس يضعُ ساقًا فوق الأخرى:
-طبعًا المفروض تشكريني..لولا وجودي كنتي زمانك وجبة للسمك والقرش، الصراحة مش إنتي بس اللي المفروض تشكريني، المسؤولين عن البحرِ والصيادين..
قطبت جبينها منتظرةً حديثه...انحنى بجسدهِ يحدِّقُ بعينيها:
-لو السمك أكلك كنتي سمِّمتيه، ومش بعيد سمِّمتي ميِّة البحر، ماهو القذر اللي زيك هننتظر منُّه إيه، شوفتي أنا أنقذت الكائنات البحرية إزاي..
-عايز منِّي إيه يابنِ جمال؟..
-أيوة كدا..برافو عليكي مدام رانيا، شغَّلتي عقلك القذر..
هقولِّك بس مش دلوقتي ياستِّ الميتة، راجح أعلن وفاتك، إزاي معرفش بس هوَّ لص وإنتي أدرى بحقارته..بترت حديثه:
-إنتَ إزاي أنقذتني؟..
-كنت مراقبكم، ودلوقتي سؤال واحد وعايز إجابة وبعد كدا هنتِّفق هنعمل مع بعض إيه..
-راجح هوَّ اللي قتل أبويا؟..
قابلت عينيهِ الناريَّةِ بسؤالهِ الذي نطقهُ، وأجابت بعد صمتٍ دامَ لثوان:
-هتفرق عندك.؟.اقتربَ بأنفاسٍ حارةٍ كالنيرانِ التي تشتعلُ بداخلهِ ونطقَ بهسيسٍ مُرعب:
-إنتي ميِّتة عند الكلّ، فبلاش شغل الاستفزاز معايا..إجابة السؤال وبس، راجح هوَّ اللي قتل أبويا؟..
-مش هوَّ اللي نفِّذ، بس كان عارف أنُّه هيتقتل..هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسده، رغم أنَّه كان على ريبةٍ من الأمر، ولكنَّه لم يتوقع أنَّ شكِّهِ يكون بمحله، اعتدلَ وعيناهُ تخترقُ جلوسها، يريدُ أن يطبقَ على عنقها وهي تستطرد:
-جمال طول عمره كان شايف نفسه على راجح، وطبعًا راجح كان جاب أخره معاه وخصوصًا بعد ماأبوك إتجوِّز أمَّك؛ وهوَّ عارف إنِّ راجح بيحبَّها ورغم كدا راح اتجوِّزها..
-اخرسي، أنا مطلبتش منِّك تقولي حاجة، استدارَ وخرجَ بخطواتٍ تأكلُ الأرض، وهو يتمنَّى أن يصلَ إلى راجح، توقَّف على رنينِ هاتفه:
-إلياس عدِّي عليَّا في المكتب عايزك.
-فيه جديد ياراكان باشا؟!
-لماَّ تيجي هتعرف...
تمام..قالها وأغلقَ الهاتف، ينظرُ بشرودٍ إلى شاشته، اتَّجهَ إلى مهاتفةِ شريف:
-شريف عرفت تسحب حاجة من عزيز باشا؟..
-للأسف ياإلياس، محدِّش يعرف غير إسحاق باشا..كوَّر قبضتهِ يضغطُ عليها بأسنانهِ كلَّما عجزَ عن الوصولِ إلى أخيه..
باليومِ التالي ذهبَ إلى المشفى التي يُحتجزُ بها إسحاق، توقَّف أمام النافذةِ الزجاجيةِ ينظرُ إلى جسدهِ الساكن، وصلت دينا إليه:
-أهلًا بحضرتك..أومأ اليها وتساءل:
-مفيش جديد؟..هزَّت رأسها بالنفي وعيناها عليه، ثمَّ أردفت:
-ليه عملوا فيه كدا!!ومين الناس دي؟!.
استدارَ ينظرُ إليها بصمت، إلى أن نطقَ متسائلًا:
-مدام دينا أنا اللي المفروض أسألك، مين اللي عمل كدا؟..فتحت فاهها للتحدُّث، ولكن قطعَ حديثهم وصولُ ملك بجوارِ فاروق، التفتَ إلى فاروق:
-أنا جاي لحضرتك فكَّرتك هنا..
أومأ له وابتعدَ بعضَ الخطواتِ إلى أن توقَّف بعيدًا عن وقوفِ ملك ودينا:
-مفيش أخبار عن أرسلان؟..
-كلِّ اللي عرفته أنُّه في دولة حدودية، أخرجَ ورقة من جيبه:
-دا مرسوم عن المكان وطبعًا المكان متشفَّر..
-ليه ماكلِّمتش الجهات المختصَّة؟.
-مينفعش، لأنُّه في نظري معرفشِ عنُّه حاجة..هزَّ رأسهِ متفهِّمًا ثمَّ أمسكَ الورقةَ يقلِّبها بين أصابعه:
-بحر..ودا رمز لدولة أوروبية، يعني كدا هوَّ مش في دولة عربية..بس فيه كذا دولة وكذا اتِّجاه، رفعَ عينيهِ يستعطفه:
-أنا متأكِّد إنَّك تقدر توصل لمعلومات أكتر من كدا..ابتعدَ فاروق عن نظراتهِ ينظرُ إلى دينا وملك وتحدَّث:
-كلِّ اللي أعرفه قولته لك.
قبضَ على الورقة وتحرَّك منسحبًا، يتخبَّطُ بمشيهِ إلى أن وصلَ إلى غرفةِ والدتهِ بدخولِ ميرال تبكي، ثمَّ دفعتهُ فجأة:
-ماما محجوزة بقالها يومين في المستشفى وإنتَ مخبِّي عليَّا، لولا بتِّصل بالفيلا بالصدفة مكنتش عرفت حاجة عن أمِّي، هتفضل لحدِّ إمتى كدا!..
-ميرال أسكتي شوية، أنا مش ناقص اللي فيَّا مكفِّيني..
سحبتها غادة للخارج:
-ميرال اهدي إنتي مش شايفة حالته، من جهة أرسلان ومن جهة ماما..
خلِّي بالك من يوسف...قالتها ميرال وتوجَّهت إليهِ وجدتهُ يتحدَّثُ بهاتفه، ظلَّت تراقبهُ إلى أن انتهى، غرسَ أناملهِ بخصلاتهِ يجذبها للخلف وزفرةٌ حادَّةٌ علَّهُ يخرجُ بها مايطبقُ على صدره، اقتربت منهُ بهدوء، ثمَّ ربتت على كتفهِ قائلة:
-آسفة ياإلياس، أنا اضايقت جدًا لمَّا شوفت حالة أمِّي..استدارَ إليها سريعًا يرمقها بغضب:
-دي أمِّي أنا كمان، على ماأظن مش هتخافي عليها أكتر منِّي...كلمات ماهي سوى كلمات ولكنَّها اخترقت صدرها كالرصاصِ المسموم، حدجتهُ بنظراتِ ملامة، ثمَّ هزَّت رأسها بأسف، مبتلعةً غصَّتها التي شعرت وكأنَّها أشواكًا مدبَّبة بحلقها، وهمست بتقطُّع رغم ثقلِ الحروف:
-عارفة إنَّها والدتك، بس أنا بخاف عليها أكتر من أيِّ حاجة، لأنِّي معرفشِ أمّ غيرها..قالتها وتحرَّكت من أمامهِ سريعًا، ودموعها تفترشُ خطواتها، ولجت إلى مرحاضِ المشفى، تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها، ثمَّ هوت بمكانها تبكي بشهقاتٍ فشلت في منعها..
بينما توقَّف إلياس بجسدٍ منتفضٍ بعدما نطقت كلماتها، يتابعُ تحرُّكها بقلبٍ يتجرَّعُ الألمَ لما لفظتهُ بها، تحرَّك خلفها يبحثُ عنها ولكنَّه لم يجدها، قابلتهُ رؤى:
-إلياس ماما فريدة عاملة إيه؟..تلفَّتَ حولهِ يبحثُ بعينيهِ عنها، وقعت عيناهُ على غادة وهي تجلسُ محتضنةً يوسف بجوارِ إسلام، تحرَّك إليها:
-غادة فين ميرال؟..
تطلَّعت نحو الجهةِ التي تحرَّكت إليها ميرال قائلة:
-هيَّ مشيت من هنا، قالت خلِّي بالك من يوسف، جلست رؤى بجوارِ غادة تتلقَّفُ يوسف منها:
-حبيب خالتو ماما سابتك لوحدك وراحت فين..رمقها إلياس بنظرةِ حادَّة:
-قومي شوفي أختك في الحمَّام ولَّا لأ، وبطَّلي كلامك التافه، ثمَّ اتجهَ بنظرهِ الى غادة و إسلام:
-بابا لسة جوا ولَّا خرج؟..
-لا جوا..تحرَّك للداخل، فتحَ الباب ودلف، وجدَ والدهِ يحتضنُ كفَّها..
خطا إلى جلوسِ والده، وعيناهُ على والدته:
-عاملة إيه دلوقتي؟..
رفعَ رأسهِ وحاورهُ بأعينٍ حزينةٍ حتى ظهرَ خطٌّ من الدموعِ بعينيه:
-قولي عملت إيه مع فاروق، ولسة إسحاق في الغيبوبة؟..
جذبَ المقعدَ وجلسَ بجوارهِ متنهدًا ثم تحدَّث:
- فاروق مش هنخرج منُّه بحاجة، علشان كدا بقول لو حضرتك تشوف حدِّ يوصَّلنا لأيِّ خيط، عايز أعرف هوَّ في أنهي دولة بس..
اتَّجهَ بنظراتهِ إلى فريدة وأردفَ بقلبٍ حزين:
-مش هتوصل لحاجة، أنا متاكد إنِّ الجهاز اتحرَّك أصلًا من وقتِ ماعرفوا، مستحيل يضحُّوا بيه، الخوف يكون وقع في إيد العصابات السياسية..
عند آدم..
خرجَ من القاعةِ متَّجهًا إلى مكتبه، استوقفهُ صوتٌ مألوف:
"عامل إيه يا بني؟"
التفتَ آدم نحو مصدرِ الصوت، ليجدَ أمامه راجح، فنظرَ إليه بذهول:
"عمُّو راجح! خير، في حاجة ولَّا إيه؟"
لم يجبهُ راجح مباشرة، بل أمسكَ بذراعهِ وسحبهُ إلى داخل المكتبِ بخطواتٍ متوَّترة:
"في موضوع مهمّ لازم تعرفه، علشان تقوله لوالدك."
قطبَ آدم جبينه، وهو يضعُ حقيبتهِ فوق المكتب، ثمَّ استدارَ إليه بقلق:
"خير، إن شاء الله؟"
جلسَ راجح قبالته، تنهَّدَ ورسمَ الحزنَ بصوتهِ قائلًا:
- "من يومين، روحت أنا وعمِّتك السويس..قالت لي إنَّها عايزة تزور أصدقاء وتفطر معاهم..وصلنا الظهر، وبعدها طلبت تتمشَّى على البحر، ما كنتش حاسس بحاجة غريبة وقتها، بس بعد شوية، عرفت إنَّها ركبت اليخت اللي كنت اشتريته لها في عيد جوازنا...ومن ساعتها، مرجعتش!"
حدَّقَ فيه آدم مصدومًا، بينما أكملَ راجح بصوتٍ مرتجف:
-"دوَّرت عليها في كلِّ مكان، لقيت اليخت وهيَّ مش موجودة، بس هدومها كانت هناك..شكلها نزلت تعوم، والموج كان عالي...وغرقت."
اتَّسعت عينا آدم، ونهضَ من مكانهِ مذهولًا، الكلمات وقعت عليهِ كالصاعقة:
-"يعني قصدك..عمِّتو غرقت؟! طيب، فين فرق الإنقاذ؟ واللي أعرفه إنِّ عمِّتو بتعوم كويس جدًا! وجثتها...مش المفروض تكون موجودة؟!"
أطرقَ راجح برأسهِ وأردفَ بصوتٍ متهدِّج:
- "فريق الإنقاذ بقاله يومين بيدوَّر... لقيوا جثة، بس من غير معالم واضحة..هيَّ في مشرحة السويس، وأنا عندي سفرية مهمَّة بكرة، وإجراءات الحكومة هتاخد وقت، أنا متأكد إنَّها رانيا...علشان كده يا بني، ياريت تكلِّم حد من زمايلك هناك يخلَّص الموضوع بسرعة، إكرام الميت دفنه."
شعرَ آدم بقلبهِ ينقبض، حاول التقاطِ أنفاسه بصعوبة، وهو يتمتمُ في ذهول:
-"إيه اللي حضرتك بتقوله ده؟!"
توقَّف من مكانهِ واتَّجهَ يستعطفه:
-الموت علينا حق يادكتور، لازم يابني تساعدني، لو اضطرِّيت تمشِّي الموضوع خاص من تحتِ إيدك أكون شاكر..
ظلَّ واقفًا بمكانهِ يتطلَّعُ إليه بصمتٍ متذكرًا حديثَ إلياس وفريدة عليه، تراجعَ إلى مقعدهِ يهزُّ رأسهِ ثم تحدَّث:
-هشوف وأبلَّغك..
بعد فترةٍ اتَّجه إلى مكتبِ والده، دلفَ إليه بعدما أذنَ بالدخول:
-آدم خير؟!
-عمِّتو رانيا ماتت.
هبَّ فزعًا من مكانهِ وتساءلَ بنبرةٍ مذهولة:
-إيه اللي بتقوله دا؟!! إزاي ماتت يعني، حادثة ولَّا إيه؟..
قصَّ له آدم ماصار، جمعَ أشيائهِ وتحرَّك للخارجِ بعدما أردف:
-لا دا اتجنِّن، يعني إيه أختي تموت وعايز يدفنها من غير ماأعرف!..
بشقَّةِ آدم..
خرجت من الحمَّامِ بعدما أخرجت مافي جوفها، احتضنت معدتها متألِّمةً وهوت بجسدها الثقيلِ على الأريكة، استمعت إلى طرقاتٍ قويةٍ على بابِ شقتها، اعتدلت بصعوبة، واستندت متَّجهةً إلى البابِ وقامت بفتحه:
-هوَّ إنتي!! لو عرفت مكنتش تعبت وقومت لوحدة زيك...دفعتها سهام وتحرَّكت للداخل:
-دا استقابلك لمرات أبوكي اللي هيَّ في مقام أمِّك..
-أمِّي مين ياحرباية ياخرابة البيوت، إنتي إيه اللي جابك بيتي أصلًا؟..ياله اطلعي برَّة مش مرَّحب بيكي..
اقتربت منها وهي تهمسُ بهسيسٍ مُرعب:
-تعرفي ياإيلين، إنتي أكتر شخص في الدنيا دا بكرهه، تعرفي ليه؟..علشان بسببك كنت هموت، بسببك جوازي من أبوكي اتلغى وأبويا اتفضح في الحتة،
أمِّك لمَّا عرفت إنِّ أنا وأبوكي على علاقة حبِّت تنتقم منِّي وحملت فيكي، رغم الدكاترة منعوها من الحمل، إزاي تخلِّي أبوكي يتهنَّى..أكيد لأ، بس وحياتك موَّتها من القهرة، وإن شاء الله هتحصَّليها يابنتِ زهرة..قالتها ودفعتها بقوةٍ حتى اختلَّ اتزانِ إيلين وسقطت متأوِّهة، لتصرخَ بوصولِ مريم أختها التي شهقت ممَّا رأته، قامت بخلعِ حذائها وهجمت على سهام مع صرخاتها إلى أن ارتفعَ الصياح ليتجمَّعَ من بالمنزل..
قامَ أحمد أخ آدم بتخليصِ سهام بصعوبةٍ بعد انقضاضِ مريم عليها، تراجعت تسبُّهما تنظرُ إلى إيلين بشماتة على بكائها:
-يارب تنزِّليه زي ماأمِّك قهرتني وحرمتني من إنِّي أكون أم، يارب ابنك يموت يابنتِ زهرة..
هبَّت مريم من مكانها واتَّجهت إليها بعدما دفعت أحمد وجذبتها من خصلاتها:
-وحياة رحمة أمِّي ماأنا سايباكي ياقذرة ياخرابة البيوت..صاحَ أحمد بغضبٍ يسحبها بقوةٍ ثمَّ أشارَ إلى سهام:
-امشي ياله دلوقتي..
بشركةِ العامري..
بقاعةِ الاجتماعات كان يجلسُ يترأسُ الاجتماعَ يستمعُ إلى بعض الاقتراحاتِ للمشروعِ الجديد، دفعَ راجح الباب ودلفَ للداخل:
-إنتَ مين يالا، علشان تعمل اجتماع وأصحاب رأسِ المال مش موجودين؟!..
اقتربَ منه أمنُ الشركةِ لإخراجه، ولكن أشار لهم يزن بالتوقُّف:
-سبوه، ثمَّ استدارَ إلى أعضاءِ المجلس:
-آسف ياجماعة، هنأجِّل الاجتماع لوقتِ تاني..جُنَّ راجح واقتربَ منه كالمجنون:
-إنتَ بتقول إيه ياحيوان، ياحرامي، هيَّ فين اللي مشغَّلاك ماإنتَ جوز المدام..
-راجح ياشافعي، مش عايز أسمع صوتك، إنتَ واقف في ملكي واللي ليك تعالَ خده بالقانون، ودلوقتي اطلع برَّة طابق على صدري.
قالها وهو يشيرُ الى رجالِ أمنه:
-الراجل دا ارموه برَّا، ولو حاول يدخل تاني اطلبوله الشرطة، تمتمَ بها واستدارَ يجذبُ سجائرهِ وتحرَّك إلى الشرفةِ ينفثُ رمادها باستمتاعٍ مع صرخاتِ راجح ومحاولاتهِ الإفلات من قبضةِ الامن، سحبهُ الأمنُ الى أن وصلَ إلى بابِ القاعة:
-هموِّتك يايزن، اعمل حسابك ياجعان هحسرك على كلِّ أحبابك..
بفيلَّا الجارحي..
فتحت عينيها التي ثقُلت بالدموعِ تهمسُ اسمهِ بأنينٍ ينزعُ ضلوعه
- معقول طول الوقت مشغول، ومعرفتش تكلمني، ولا ناوي وترجع من غير ماتقولِّي، مسَّدت على بطنها واستأنفت حديثها:
-بابا وحشني أوي ياحبيبي، نفسي أرتمي في حضنه، معرفشِ ليه قلبي وجعني..
استمعت إلى طرقاتٍ على بابِ غرفتها.. أذنت بالدخول، دلفت ملك تحملُ كوبًا من العصير:
-غرام، ماما عملت لك العصير دا وقالت لازم تشربيه، قطعَ حديثها دفعُ تمارا لبابِ الغرفة:
-لا والله وبتخدميها كمان، اعتدلت غرام تنظرُ إليها باستفهام:
-إيه اللي جاب البنتِ دي هنا؟!..استمعوا إلى صرخاتِ أحلام بالخارج، فنهضت من فوقِ الفراش رغم ترنُّحِ جسدها توقَّفت ملك أمامها:
-غرام رايحة فين إنتي تعبانة..سحبت روبها ترتديهِ وعيناها على تمارا:
-خلِّي البنتِ دي تطلع من أوضتي ياملك، وخلِّي جدِّتك ماتجبش سيرة أهلي..
اقتربت منها تمارا عاقدةً ذراعيها وأردفت متهكِّمة:
-لا والله، بتطرديني من بيتي، دا بيت ماما، مش جربوعة زيك، قالتها واقتربت تسحبها من ذراعها تهدرُ بغضب ثمَّ دفعتها للخارجِ بعنف:
-أنا هعرَّفك يازبالة إزاي تقولي لستِّك اطلعي برة..
صرخت ملك بها ثمَّ صاحت على اسمِ والدتها التي هرولت إلى مكانهما، رغم كلماتِ أحلام، لطمةٌ قويةٌ من صفية على وجهِ تمارا بعدما وجدت غرام على الأرض تحتضنُ بطنها وتبكي بشهقات، وصلت أحلام على ضربها لتمارا، فاشتعلت نيرانُ الغضبِ الجحيمية، لتقتربَ منها كالأسدِ الذي يريدُ الانقضاضِ على فريستهِ صارخةً:
-مبقاش إلَّا الخدامين اللي يطلَّعونا من بيتنا، ساعدت صفية غرام على النهوضِ واتَّجهت بنظرها نحو ملك:
- اتِّصلي بدكتورة مرات أخوكي بسرعة..قالتها وتحرَّكت متجاهلةً صرخاتِ أحلام، مما جعلَ أحلام تصلُ إليها وتجذبها من ذراعها بقوة:
-إنتي إزاي تسبيني أتكلِّم ياصفية؟!..
نظرت إلى يدها التي تطبقُ بها على ذراعها، ثمَّ رفعت عينيها لتغرزها بمقلتيها قائلة:
-زمان كنت بحترمك علشان أرسلان، بس دلوقتي حرام عليَّا الاحترام لأمثالك، يالله خُدي بنتِ بنتك واطلعوا برَّة بيتي، بدل ماأخلِّي الأمن يطردكم..
تجمَّدت تنظرُ إليها بذهول لكلماتها التي وقعت على أذنها كعويل..
-الله الله، والله طلع لك لسان ياصفية..
ملك صاحت بها وهي تشيرُ الى غرام:
-ساعدي مرات أخوكي حبيبتي..
قاطعتها أحلام وهي تسحبُ ملك:
-مرات أخو مين ياختي، شكلك نسيتي إنَّها بنتِ الجارحي، إنَّما الواد اللي لبِّستيه لعيلة الجارحي اصبري عليَّا..دا أنا هلبِّسك الكلابوش ياصفية، وهثبت إنِّك أقذر ست، فوقي أنا مش فاروق..
-إيه اللي بتقوليه دا يانانا!! ماما صفية عمرها ماتعمل حاجة وحشة..
جحظت أعينُ صفية تجزُّ على أسنانها:
-واحدة مريضة طول عمرها شايفة نفسها أعلى من اللي حواليها، لا، فوقي ياأحلام هانم، ملك بنتي أنا ومالكيش حق فيها، أنا زمان كنت بسكت علشان موضوع أرسلان بس دلوقتي الكلِّ عرف..
اقتربت خطوةً منها ورفعت رأسها تتطلَّعُ إليها بعيونٍ تنطقُ بالتهديد، وأردفت بصوتٍ حاد:
-اللي يقرَّب من ولادي هاكله بأسناني، وأوعي تفكَّري أنا ستِّ ضعيفة، يكفيكي شرِّ الستِّ اللي بيحاولوا يبعدوها عن ولادها وجوزها، أنا اسكندرانية ياأحلام، روحي اسألي عشيقك عن ستَّات اسكندرية؛ ويالَّة تعبتيني وأنا قلبي وجعني وصايمة ماليش في المناهدة..أشارت على الفيلا واسترسلت قائلة:
-الفيلا وكل أملاك فاروق واسحاق باسم ارسلان، يعني انت هنا مالكيش حق، وقبل ماتتشطري علينا، روحي عاتبي ولادك دا لو قدرتي ياأم فاروق واسحاق، اقتربت صفيه وهمست بأذنها
-اسحاق هيفوق يااحلام، ويحاسبك، وحياة وجع قلبي على ابني أنه هيحاسبك وانا متأكدة من دا، نصيحة مني دوري على قبر لمي نفسك فيه
ربتت أحلام بقوَّة على كتفها وهمست بفحيحٍ أعمى:
-وعد من أحلام ياصفية لأخليكي تبوسي رجلي باعتذار على اللي قولتيه، الصبر حلو..قالتها وصاحت باسمِ الخادمة:
-شنطي في العربية طلَّعيهم أوضتي، قالتها بابتسامةٍ ساخرة حينما وجدت الذهولَ على وجهِ صفية..ثمَّ استدارت تجذبُ تمارا ومازالت تصرخُ بالجميع..
داخلَ غرفةٍ طبيةٍ مجهَّزةٍ بأحدثِ الأجهزة، علت أصواتُ أجهزةِ المراقبة للحالة، وقف الطبيبُ فوق رأسِ أرسلان، يتابعُ مؤشراتهِ الحيوية بعينينِ يقظتين، بينما تحيطُ به الممرضات، يراقبنَ أدنى تغيير..
-ما زال تحت تأثيرِ المخدِّر؟
أجابتهُ إحدى الممرضات بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه قلق:
- نعم، سيدي، لقد أعطيتهُ الجرعة التي طلبتها، لكنَّه ما زال متأثرًا بالضرب..لقد فقدَ الكثيرَ من الدماء.
ارتسمت على وجهِ الطبيبِ ملامحَ التوترِ والقلق، ثم أمرَ بحزم:
-أريد مراقبةِ الحالة أربعة وعشرين ساعة؛ دلف أحدُ الأشخاص الذي يبدو على ملامحهِ أنَّه شخصًا ذو مكانة:
-هل من مستجدِّات بحالته؟..هزَّ رأسهِ بعمليَّةٍ مجيبًا:
-الآن لا يوجد مايقلق والحالةُ ستكون على مايرام..لا تقلق سيدي..
نظرَ بساعةِ يدهِ مردفًا:
-علينا التحرُّك قبل الصباح، هل هذا يُعدُّ خطرًا على حياته؟..
-لا أعلم ولكنِّي أتمنَّى أن يحدثَ تطورًا بحالته..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ توقَّفت سيارةٌ أمام أحدِ المباني السكنية، ترجَّلَ أحدُ الأشخاص وقامَ بحملهِ مع السائقِ إلى أحدِ الشقق، دلفَ بهدوءٍ وتمَّ وضعهِ على الفراشِ المجهَّزِ لحالته:
-لابدَّ أن نغادرَ قبل أن يشكَّ بنا أحدهم..
أشارَ إليهم الشخصُ بالخروجِ مع دلوفِ الطبيبِ لفحصِ حالة أرسلان:
-المركب ستغادرُ البلادَ فجرًا، هل نستطيعُ المجازفة؟..
-مستحيل سيدي، فحالتهُ خطرةً للغاية..
عند إلياس..
وقفَ في ردهةِ المشفى، بقلبٍ مفتَّتٍ بالوجع، ناهيكَ عن الإرهاقِ الذي حفر خطوطًا عميقةً على ملامحه، شخصت عينيهِ نحو الطبيبِ الذي وقف أمامهِ بنظرةٍ متأسِّفة، لم تحمل جديدًا، ثم أردف:
-الأمر بيدِ الله، للأسف الحالة زي ما هيَّ..
رفع عينيهِ التي أرسلت إليه سؤالًا يأملُ في أيِّ بارقةِ أمل، لكنَّه قُطعَ فجأةً برنينِ هاتفه، زفرَ بضيق، وتراجعَ معتذرًا للطبيبِ وسحب الهاتفَ من جيبه:
- أيوة يا بابا؟
على الطرفِ الآخر، أردفَ مصطفى بنبرةٍ جادَّة تحملُ شيئًا من القلق:
- تعالَ على المستشفى يا إلياس.
استقامَ في وقفتهِ سريعًا مع انتفاضةِ كلِّ خليةٍ في جسده، حتى شعرَ بتلاشي الأصواتِ من حوله، وقلبهِ يخفقُ بقوةٍ متسائلًا في تلهُّف:
-ماما كويسة يابابا؟
صمتَ للحظةٍ بدت كدهر، ثمَّ جاء صوتُ والدهِ مطمئنًا لكنَّه متعب:
- أيوة حبيبي، متخافش.
أغلقَ إلياس المكالمة دون أن يضيفَ شيئًا، ثمَّ ألقى نظرةً سريعةً على غرفةِ إسحاق من خلفِ الزجاج، يهمسُ لنفسه:
-حياة أخويا متعلَّقة بيك ياإسحاق، لو سمحت لازم تفوق..قالها ثم تنهَّدَ بثقل، متَّجهًا نحو بابِ المشفى، عازمًا على المغادرة، لكن خطواتهِ تباطأت عندما وقعت عيناهُ على دينا..
خلعَ نظارتهِ ببطء، وكأنَّه يسحبُ بين أصابعهِ صبرهِ على تحملِّ مايمرُّ به، ثم قال بصوتٍ هادئ، لكنَّه محمَّلًا بألمٍ دفين:
- سلامته إن شاء الله..
أومأت دينا برأسها دون أن ترد..ظلَّ بينهما صمتًا مشحونًا لثوان، ثم رفعَ عينيهِ إليها يستعطفها بنظراتهِ مع حديثهِ المشحونِ بالألم:
- أستاذة دينا، محتاج منِّك خدمة لو سمحتي..
رفعت حاجبيها قليلًا، وهزَّت رأسها بالموافقة:
- اتفضل.
اقترب خطوة، ومازال مصوِّبًا نظراتهِ على وجهها:
- عايز تليفون إسحاق باشا ضروري.
تغيَّرت ملامحها، لكنَّها أخفت ذلك بسرعة وهي تعقدُ ذراعيها أمام صدرها:
-وحضرتك مفكَّر إنِّي ممكن أدهولك يا حضرةِ الظابط؟
قالتها وهي تنظرُ إليه بثبات، لكن عينيها التقطتا أدقَّ التفاصيلَ في وجهه..الإجهاد المتراكم، العروقُ البارزة في يده، الطريقة التي شدَّ بها فكِّه..هذا الرجلُ ليس هنا بصفتهِ ضابطَ شرطة فقط، بل أخًا يبحثُ عن نصفهِ الآخر، هل ظلمهُ إسحاق مثلما أخبرها عن علاقتهِ بأرسلان..ظلَّت صامتةً بنظراتها، هزَّ رأسهِ بعدما وجد صمتها، رفعَ كفَّيه ومرَّر أصابعهِ في شعره، يزفرُ بقوة، كأنَّ الكلماتَ تخونه، لكنَّه قال أخيرًا بصوتٍ يحملُ يأسًا:
- عارف إنِّك هترفضي، بس أنا بحاول أوصل لأيِّ معلومة توصَّلني لأخويا لو سمحتِ، لو عارفة أيِّ حاجة قوليلي..
للحظة، خُيِّلَ له أنها ستقولُ شيئًا..بدا وكأنَّ هناك صراعًا في عينيها، كأنها تفكِّر في كلامه، ولكنها حسمت الأمر سريعًا، وألقت كلماتها كمن يغلقُ الأملَ للأبد:
- أنا معرفشِ حاجة، شكل حضرتك نسيت إنِّي مكنتش موجودة..
حدَّق فيها للحظات، كأنَّه يحاولُ اختراقَ عينيها، لكنَّه أدركَ أن لا جدوى..شدَّ على فكِّه، ثمَّ ارتدى نظارتهِ من جديد:
- تمام، آسف على الإزعاج.
بشركةِ العامري..
انتهى من الاجتماعِ الذي جعلهُ يقسمُ بداخلهِ أن يجعلَ تلك الشركة مثلما تركها العامري..استمعَ إلى طرقاتٍ على بابِ المكتب..
دلفت السكرتيرة الخاصَّة به:
-فيه ورق عايز إمضى ياباشمهندس..نقرَ بالقلمِ على مكتبه ينظرُ إليها بصمتٍ ثم أردفَ متسائلًا:
-إيه أكتر الدول اللي كانت بتتعامل معاكم؟..
-يعني إيه يافندم؟..استقامَ بجسدهِ متوقِّفًا ثمَّ استدارَ إلى وقوفها:
-عايز أعرف أكبر المموِّلين للشركة، وابعتيلي المحاسب الخاص، والمسؤول عن إدارةِ المشروعات..
-أمرك يافندم، أيِّ أوامر تانية؟..
-لا..
هبعت لحضرتك المهندس عادل فورًا، قالتها وتحرَّكت للخارج..
بعد فترةٍ وصلَ إلى منزلهِ بترجُّلِ كريم من سيارته..
-حمدَ الله على السلامة ياكبير.
نزلَ من فوقِ درَّاجتهِ البخارية وخلعَ الخوذة وهو يبتسم:
-أهلًا يادوك، عامل إيه، رجعت إمتى من البلد؟.
من ساعات قالها وهو يدلفُ للداخل..
-حمدَ الله على السلامة ياعم، شكلك هتفطر معانا ولَّا إيه، أوعى تكون عازم نفسك؟..خرجت إيمان على أصواتهم:
-حمدَ الله على السلامة..اقتربَ يزن يحتضنها من أكتافها ثم أردفَ بمشاكشة:
-ودي ليَّا ولَّا للدكتور ياإيمي؟.
تورَّدت وجنتيها قائلة:
-إنتَ طبعًا ياحبيبي..
-لا والله، يعني بعتيني في أوَّل اختبار.
هزَّت كتفها بجهل..فضحكَ يزن يشيرُ إلى أخته:
-ياله حبيبتي جهِّزي السفرة واقع من الجوع
-طيب اتِّصل بميرال ورؤى شوفهم اتأخَّروا ليه؟.
جذبَ المقعدَ وجلسَ عليه ثمَّ أشارَ إلى كريم:
-اقعد يابني، مفيش حدِّ جاي، ميرال، طنط فريدة اتحجزت في المستشفى، هاكل وأعدِّي عليهم..
قطبَ جبينهِ متسائلًا بحيرة:
-خير مالها؟..مسحَ على وجههِ ينفخُ بكفَّيهِ ثم تحدَّث قائلًا:
-أرسلان ميعرفوش عنُّه حاجة، بقاله أسبوعين محدش عارف يوصلُّه..المهمِّ ياكريم عرفت توصل لحاجة في موضوع راحيل؟..
-راحيل سافرت بعد ماطلَّقتها بأسبوع الإمارات..بس هيَّ مش في الإمارات سافرت مكان تاني، وطبعًا مش هنعرف، أومأ متفهِّمًا..
عند إلياس..
جلسَ بمقابلةِ والدهِ وعيناهُ على والدته:
-الدكتور قالَّك حاجة؟..توقَّف مصطفى يشيرُ إليه بالخروج:
-تعالَ نتكلِّم برة...
وصلَ إلى أحد الكافيهاتِ الموجودةِ بجوارِ المشفى، جلسَ يشيرُ إليه بالجلوس..
جلسَ بجوارِ النافذةِ يتطلَّع إلى أضواءِ النجومِ المنيرةِ بالسماء التي تغطِّي الكرة الأرضية قائلًا:
-النهاردة زعلت ميرال منِّي يابابا، وهي متستهالشِ مني دا، حاسس إنِّي ضايع وبخبَّط في الكل، اختفاء أرسلان كسرني رغم إنُّه مش عشرة عمري، ولا اتربِّينا مع بعض، بس دابحني من جوا يابابا، وكمان رقدة أمِّي بين الحياة والموت، ضعفت يابابا..
تنهَّد مصطفى بصوتٍ عالٍ ثمَّ نطق:
-إلياس السيوفي مش ضعيف، والواد اللي قاعد يولول زيِّ الستَّات دا مش ابنِ مصطفى السيوفي، فوق ياإلياس وشوف إنتَ مين وابنِ مين، مش إلياس اللي يهزُّه الريح، طول ماأخوك مالوش جُثة يبقى أملك في ربِّنا لازم يكون أقوى من كدا، أخوك مش هيرجع وإنتَ بتعدِّ النجوم، وأمَّك مش هتقوم وإنتَ بتشكي لها حالك، إنتَ راجل يالا مش عيل شوية ريح هتهدُّه..
سحبَ مصطفى نفسًا عميقًا ثمَّ زفره:
-عارف إنِّي بقسى عليك بالكلام، بس ياحبيبي أنا مبحبش أشوفك ضعيف كدا، أخرجَ ورقةً من جيبه:
-أرسلان المفروض يكون في الدولة دي، وفي المدينة المتشفَّرة دي، هتعرف توصلُّه؟..
-إن شاءالله يابابا، أنا بس كنت محتاج خيط أمشي وراه، بس ليه المدينة حروف متشبكة؟..
-إيه ياحضرةِ الظابط هوَّ أنا اللي هقولك ولَّا إيه، بس إنتَ ناسي حاجة مهمَّة أوي، إنَّك مينفعشِ تسافر من غير إذن، إنتَ ناسي وظيفتك؟..
-هقدِّم على إجازة وبكدا هعرف أتصرَّف..رفعَ فنجانَ قهوتهِ وارتشفَ بعضه:
-أتمنَّى تعرف تتصرَّف، متفكرشِ الموضوع هنا سهل، بالعكس هتواجهك مشاكل أكتر..
-سيبها على ربِّنا، واللي عند ربنا مابيخسرش..
-ونعمَ بالله ياحبيبي..
بالمشفى كانت تجلسُ بجوارِ النافذةِ تحتضنُ طفلها وتنظرُ بشرودٍ للمارَّة كالحاضرِ الغائب، جذبَ المقعدَ وجلسَ بمقابلتها:
-سرحانة في إيه؟..
التفتت على صوتهِ ورسمت ابتسامة:
-أهلًا حبيبي، عامل إيه؟..
رفعَ حاجبهِ يهزُّ رأسه:
-أنا كويس، بس إنتي اللي مش كويسة، بقالي ساعة واقف بكلِّمك وإنتي مابترديش..
-آسفة مسمعتش..
فين إلياس؟..
نطقَ بها متسائلًا بعدما تلقَّف يوسف منها، تلفَّتت حولها وكأنَّها تبحثُ عنه ثمَّ ردَّت قائلة:
-كان هنا من شوية، ممكن يكون عند ماما وعمُّو جوا..قطعَ حديثهما وصولُ إلياس:
-عامل إيه يايزن ؟..
-أنا كويس، كنت لسة بسأل عليك، جلسَ بجوارِ ميرال يمسحُ على وجههِ بإرهاق قائلًا:
-خير فيه جديد، قابلت راجح ولا حاجة؟..
-إيه اللي سمعته دا ياإلياس، هيَّ رانيا ماتت فعلًا؟!!
شهقت ميرال تطلَّعُ إليه بذهولٍ مردِّدة:
-ماتت، إزاي؟!..
تجمَّدت عيناهُ عليها قائلًا:
-زعلانة عليها ولَّا إيه؟!!
لوَّحت عيناها بخطٍّ من الدموعِ ثم نهضت دون أن تجيبهُ متَّجهةً إلى يزن:
-هدخل أشوف ما..توقَّفت عن تكملةِ النطق، وارتجفت شفتيها بغصَّتها المتألمةِ كالأشواكِ لتستطردَ قائلة:
-هشوف طنط فريدة وتاخدني في طريقك..
ارتجافةٌ عميقةٌ اجتاحت روحهِ من نبرتها المتهدِّجةِ بالبكاء، نهضَ من مكانهِ وتحرَّك خلفها دون إضافةِ أيِّ حديثٍ آخر مع يزن، وصلت إلى بابِ الغرفةِ وبسطت كفَّها تفتحُ البابَ بدموعِ عينيها التي فشلت في حجزها؛ وضعَ كفِّه فوق كفِّها وسحبها بهدوءٍ دون أن ينطقَ بحرفٍ إلى أحدِ الغرفِ التي تُحجزُ لوالدهِ للإقامةِ بها مرافقًا لفريدة..
دلفت خلفهِ تاركةً نفسها دون اعتراض، أغلقَ البابَ خلفهِ ثمَّ جذبها لأحضانهِ يعتصرها حتى شعرت بإذابةِ ضلوعها..
أخرجها يحتوي وجهها بين راحتيه، يتعمَّقُ بالنظرِ لغزالتهِ التي كانت غارقةً بدفءِ أحضانه:
-آسف..رغم أنَّها بسيطة وحروفٌ قليلة إلَّا أنَّها شعرت بأنها تزنُ حروفَ اللغاتِ جميعًا؛ وهي ترى ندمهِ الذي تجلَّى بملامحهِ ونبرتهِ المتألِّمة..
رفعت كفَّيها تمرِّرها على وجنتيه، وأردفت بصوتٍ متهدِّجٍ بالحزنِ الذي يكوي صدرها:
-رغم إنِّي اتوجعت منَّك أوي بس خلاص مش زعلانة منَّك، كفاية عيونك دي..
أمالَ يقبِّلها بتمهُّل، أغمضت عينيها من فرطِ ماشعرت به وهي بين أحضانه، ولكن قبلاتهِ شعرت بأنَّ بها شيئًا مريبًا، وكأنَّه يحاولُ أن يبتعدَ بها عن مايحيطه، لم تعترض على ما يفعلهُ رغم أنَّه ليس من طبيعته، دفعتهُ بعدما فقدت أنفاسها حدَّ الاختناق..
تراجعَ معتذرًا يطبقُ على جفنيهِ ينهرُ حاله، اقتربت منه وعيناها تتفحَّصُ هيئته:
-إلياس إنتَ كويس؟..
هزَّ رأسهِ دون حديثٍ واستدارَ للمغادرة إلَّا أنها أمسكت كفِّهِ تحتضنُ ذراعه:
-مش عايز تقولِّي مالك؟..هوَّ أنا مش مراتك ولَّا شايف مش من حقِّي أعرف جوزي فيه إيه..
احتضنَ وجهها وطبعَ قبلةَ اعتذارٍ فوق جبينها ثمَّ أردف:
-ميرال أنا كويس، قلقان بس على ماما وأرسلان، ياله علشان نروَّح..
-إنتَ هتروح معايا؟..أومأ وتحرَّك للخارجِ قائلًا:
-هوصَّلك وأعدِّي ساعة على المكتب كدا، كنت طلبت من شريف يدوَّر على حاجة توصَّلنا بأرسلان..
بفيلا راجح..
بعد إعلانِ خبر وفاةِ رانيا، ومساعدةِ أعوانهِ ببيانِ الجثة، ذهبَ إلى زيارةِ ابنه، جلس بمقابلته:
-عامل إيه ياطارق؟..
-حضرتك شايف إيه، قولت لي كام أسبوع وهخرَّجك، دخلت في سنة وزي ماأنا، ليه حضرتك ساكت؟!.
-خلاص النقض اتقبل وإن شاءالله هتخرج في الجلسة الجاية، أنا محتاجك معايا، حمحمَ ثم أردف:
-رانيا ماتت..
-إيه!..نطقَ بها مفزوعًا ثمَّ تساءلَ:
-إزاي يعني ماما ماتت!..وليه محدش قالِّي؟..
-اقعد يابنِ راجح وبطَّل تنطيط، ماتت من قرفها لأنَّها ستِّ طماعة وواطية، ومالهاش غالي..
-يعني إيه يابابا؟!
-يعني رانيا مش أمَّك ياروح أبوك، علشان تزعل عليها، افتكر انها السبب في رميتك هنا لولا خططها الهابطة مكنشِ زمانك مسجون..
جزَّ على أسنانهِ يضربُ فوق المنضدة الموضوعة أمامه:
-أنا هنا بسبب ابنِ السيوفي والبنتِ اللي اسمها ميرال، قسمًا عظمًا لأموِّتهم لمَّا أخرج.
-طارق ..صاحَ بها غاضبًا ثمَّ اقترب بجسدهِ مستندًا على الطاولة:
-إحنا ورانا شغل، لا فاضيين لابنِ السيوفي ولا غيره، أبوك دلوقتي بقى المسؤول الأوَّل في مصر، وقريبًا هيكون في الشرق الأوسط، دلوقتي لازم نفكَّر إزاي نرجَّع حقِّنا من بنتِ العامري والصعلوك جوزها، عايزك تتكتك في الكام يوم دول إزاي أرجَّع مالي اللي اتسرق، اللي حضرتك كنت السبب فيه بعد ما كتبته لبنتِ الشحَّاتين..
نار تحرقُ كرامتهِ كلَّما تذكَّر ماصار له، وصراعُ الشياطينِ يضربُ داخل عقلهِ المريض وهو يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-كلِّ واحد هياخد حقُّه من اللي عملوه فيَّا يابابا، وأوَّلهم بنتك الحلوة..
قطعَ حديثهم الشرطي:
-الزيارة انتهت..نهضَ راجح من مكانهِ بعدما سحبهُ الشرطي وهو يقول:
-فكَّر في اللي قولته، وإن شاءالله خلال شهر واحد هتخرج من هنا.
مرَّت الايامُ سريعًا إلى أن سافرَ إلياس إلى إحدى الدولِ..وخاصةً تلك المدينةِ التي وصل إليها بعد محاولاتٍ كثيرة..
ظلَّ يبحثُ ببعض الأماكنِ المشكوكِ بها، وصل خبرُ سفرهِ إلى فاروق الذي جنَّ جنونهِ وذهب إلى مصطفى:
-إنتَ عارف إلياس سافر ورا أرسلان؟..
تطلَّع عليه بعدمِ فهم، اقتربَ فاروق وأشار بيدهِ محذَّرًا إياه:
-إنتَ كدا بتحطِّ الاتنين في خطر، اتِّصل بيه خليه يرجع فورًا، أرسلان هيرجع أنا متأكِّد، بس سفر إلياس ممكن يوقَّع الدنيا..
دقَّق النظرَ إليه بعيونٍ متسائلة:
-وإيه المشكلة في سفر إلياس؟..إحنا عدِّينا شهرين يافاروق باشا ومفيش أخبار جديدة، إنتَ مش فارق معاك بس أنا مراتي بتموت..
-غلط اللي بتعمله غلط، مراتك مش حاسة بحاجة، ويوم ماتفوق هتعيط شوية لأنُّه هيرجع، إنَّما هتعمل إيه لو فاقت والتاني مش موجود؟..
طالعهُ بنظراتٍ معترضة:
-إلياس هيوصل لأخوه وهيجيبه دا لو عايش، إنَّما لو حضرتك عندك معلومة بغير كدا تبقى دي المصيبة فعلًا، وابني وقع في المصيدة..
هزَّ رأسهِ قائلًا:
-مش عارف أقولَّك إيه، بس ادعي ربنا أنُّه يرجع بالسلامة دا لو سبوه عايش أصلًا.
أسبوعٌ آخر مرَّ والحالُ كما هو، مع تحرُّكاتِ إلياس بحذرٍ بحثًا عن أخيه، علم بوجودهِ أحدُ الأشخاصِ المساعدين لأرسلان، ذات ليلةٍ دلف لأحدِ المقاهي، وجلسَ يتناولُ مشروبًا ساخنًا بسبب برودةِ الجوِّ التي بدأت تجتاحُ المكان، اقتربَ منه أحد الأشخاصِ وجذب مقعدًا بمقابلتهِ مبتسمًا..وبدأ يلقي عليه حديثًا بلهجةِ تلك البلدة كأنَّه يعرفهُ منذ زمن..ضيَّق عينيهِ وحاولَ أن يستنبطَ شيئًا ممَّا يدور، إلى أن ابتسمَ وفعلَ كما يفعل، توقَّف الرجلُ يرتدي نظارته:
-شكرًا لك، مذاقُ القهوةِ حقًّا رائع..قالها وهو يشيرُ للفنجانِ بطرفِ عينيه..
ظلَّت نظراتُ إلياس على فنجانِ قهوتهِ كشيفرةٍ أمامهِ يريدُ حلَّها، حتى توقَّف بعدما قرأَ اسمَ الشركةِ المصنِّعة لذاكَ الفنجان..ظلَّ يبحثُ عن أيِّ مكانٍ لهذا الاسمِ إلى أن عرقلَ أحدهم سيرهِ ودارت مناوشات بينهما، أدَّت إلى عراكٍ ولم يشعر بتلك الإبرةِ التي غُرزت بعنقه..
بتلك الأثناءِ حاولَ مصطفى الوصولَ إليه ولكن هاتفهِ مغلق، ثلاثة أيامٍ ولا يعلمُ عنهُ شيئًا..
دلفَ إلى الداخل، بأنفاسٍ متقطِّعةٍ تحت وطأةِ الألم، توجَّهَ بعينيهِ الذابلتينِ لوالده، الذي كان متشبِّثًا بكفِّها وكأنَّ روحهِ تتلاشى، اقتربَ بخطواتٍ متردِّدة، وكأنَّ قلبهِ يرفضُ أن يراها بتلك الحالة، وصل إلى والدهِ وربتَ على كتفه، وأردفَ بصوتٍ واهن، محمَّلًا بكمِّ الألمِ والانكسارِ الذي يمرُّون به:
-بابا..وبعدين؟ إحنا المفروض نعمل إيه؟ عملنا إيه علشان نستحقِّ كلِّ دا؟ ليه الوجع دا كلُّه؟
رفع رأسهِ ببطء، كأنَّ كلَّ سنواتِ عمرهِ قد انسكبت فوق ملامحه..وعكست عينيهِ حزنًا عميقًا لا دواءَ له، ثم نطقَ بصوتٍ خافت:
متقولشِ كده، يا بني..أحيانًا، ربِّنا بيبتلينا مش علشان يعذِّبنا، لكن علشان يرفع عنا…الألم، رغم قسوته، ممكن يكون باب للفرج…حتى لو إحنا مش شايفين الحكمة دلوقتي..
هزَّ رأسهِ في ضعف، وطافَ على جسدها الشاحبِ بعينينِ زائغتين، وكأنَّ روحهِ ترفرفُ على حافَّةِ الانهيار..بلع ريقهِ بصعوبة، وكلماتهِ خرجت كأنَّها تستنزفُ آخر ما تبقَّى منه:
-اللي أعرفه إن الستِّ دي تعبت…شالت فوق طاقتها…واتحمِّلت وجع الكون كلُّه..
ساد صمتٌ يصرخ، ينزف، ينهار، بين ضلوعهم كوحشٍ لا يرحم..
إلى أن نطقَ جملتهِ وكأنَّه يلفظُ الشهادةَ حينما قال:
وأنا عندي يقين أنُّهم هيرجعوا وقريب كمان حتى لو إسحاق فضل في الغيبوبة..هنعرف نوصلُّهم، استخدم نفوذك ولو مرَّة واحدة يابابا، حضرتك مابتعملشِ حاجة حرام، ولا بتخون بلدك..
بإيطاليا خرجت بعد انتهاءِ عملها، متَّجهةً إلى الطبيبِ للفحصِ بعد شعورها بأعراضِ الحمل، تسطَّحت على فراشِ الكشفِ بعدما أخبرت الطبيب بما تشعرُ به، قام بفحصها ثمَّ أشارَ إلى الممرضة:
-اعتني بها..اعتدلت تزيلُ ذلك السائلَ بعد مساعدةِ الممرضة، ثم توجَّهت نحو المقعدِ تجلسُ بمقابلةِ الطبيب:
-يجب عليكي أن تعتني بطفلكِ أكثر من ذلك مدام راحيل..
رفعت رأسها ببطء، وتسمَّرت عيناها القلقتانِ على الطبيب، كأنَّها لم تستوعب كلماته، وتسارعَ نبضُ قلبها كالمتسابقِ بمارثون رياضي..
ابتسمَ الطبيبُ ابتسامةً هادئة، وأردفَ قائلًا وهو ينظرُ إلى الملفِ أمامه:
-"يجب عليكِ الاهتمام بنفسكِ، سيدتي، فالجنين يحتاجُ بعض العناية..."
قطَّبت جبينها بجهلٍ للمرةِ الثانية وتردَّدت كلماتهِ في عقلها كتعويذةٍ سحريةٍ مستحيلة…ثمَّ تساءلت بصوتٍ متردِّد، وحروفٍ خرجت بصعوبةٍ من بين شفتيها:
-"ماذا…ماذا تقصد؟"
أغلقَ الطبيبُ الملفَّ ونظرَ إليها بابتسامةٍ مطمئنة، بعدما وجدَ قلقها البائن بملامحها، ونطقَ بنبرةٍ سعيدة، وكأنَّه يزفُّ لها خبرًا سعيدًا:
-"مبروك، مدام...أنتِ حامل في شهرك الثاني، ألم تشكِّين."
شعرت وكأنَّ الأرض تميدُ تحت قدميها..
ازدحمت صورُ تلك الليلةِ بعقلها، تردِّدُ في ذهنها..حامل؟!
لم تشعر إلا بجسدها يرتجفُ قليلًا، وكأنَّ قوَّتها تخونها للحظة، رفعت يدها على بطنها دون وعي، تحدِّقُ ببطنها وكأنَّها تنتظرُ أن تشعرَ بشيء…بأيِّ دليلٍ يؤكدُ ما سمعتهُ للتو، ثمَّ رفعت عينيها مجددًا نحو الطبيب، نظرةً تحمل مزيجًا من الذهولِ والخوفِ والدهشةِ تكسو ملامحها، بينما تسلَّلت همسةٌ ضعيفةٌ من بين شفتيها:
"حامل...؟!"
أغمضت عينيها بعدما هزَّ الطبيبُ رأسهِ دليلًا على صدقِ حديثه، حجزت دموعها تحت أهدابها بعدما تراجعَ الماضي بكلِّ آلامهِ وهمسه يتردَّد بأذنها بتلك الليلة، نهضت بترنُّحٍ تخطو خطواتٍ متعثِّرة ولم ترَ أمامها سوى صورتهِ بتلك الليلة بانفجارِ مشاعرِ كلاهما..استندت على الجدارِ بعدما اهتزَّ جسدها وكادت أن تفقدَ وعيها، لتهرولَ الممرضةَ إليها، ولكنَّها رفعت كفَّها قائلة:
-أنا على مايرام أشكرك..قالتها وتحرَّكت بساقينِ ثقيلتين، تسيرُ بالشوارعِ دون هدي، حتى وصلت إلى إحدى الشواطئِ تجلسُ أمام البحر، وهنا تركت انفجارَ عيناها تبكي بصوتٍ مرتفعٍ حتى جثت على ركبتيها وآاااه صارخة كادت أن تفقدَ بها حنجرتها..تضربُ بكفَّيها على رمالِ الشاطئ:
-لييييييه، ليه بيحصل معايا كدا..
عند يزن..
خرجَ من الشركةِ متَّجهًا إلى دراجته، شعر بحركةٍ خلفه، استدارَ سريعًا يلتفتُ حوله، وصلَ إليه أحدُ رجالِ أمنه:
-في حاجة يابيه، تحرَّك يزن من مكانهِ ذاهبًا إلى جهتهِ وأردف:
-لا، بس خلِّي لم يكمل حديثهِ لتنطلقَ رصاصةُ الغدرِ تخترقُ جسدَ الرجلِ الذي توقَّفَ بمكانِ يزن ليهوى جسدهِ على الأرض، مع وصولِ باقي الأمن وتبادلِ الطلقاتِ النارية، بينما يزن الذي جثى على ركبتيهِ محاولًا إسعافَ الرجل، وصياحه:
-إسعاف بسرعة…
بمنزل إلياس وخاصة بغرفة ميرال الذي يسودها الظلام
جلست تحتضن هاتفها، مررت أناملها التي ترتعش كحال شفتاها ترتجفان وهي تلامس صورته بأطراف أناملها، اغروقت عيناها بدموع لا تنضب، وخرج صوتها هامسًا، كأنها تحاكيه:
– حبيبي... انت فين؟ هونت عليك متعرفنيش؟ روحت فين يا إلياس؟
شهقة ممزقة أفلتت منها، شعرت بها تمزق صدرها ، وانسابت الدموع على وجنتيها بصمت قاتل، كأنها صارت منهكة حتى من البكاء. أخيرًا، رفعت هاتفها بتردد، تبحث عن اسم مصطفى بيد مرتجفة، ثم ضغطت على زر الاتصال، تتشبث ببصيص أمل.
رنّ الهاتف للحظات، بدت لها دهرًا كاملاً، قبل أن يأتيها صوته المبحوح، المثقل بالوجع:
- عمو مصطفى، مفيش أخبار جديدة؟
أطلق تنهيدة طويلة، وكأنه يبحث عن كلمات تهوّن عليها دون أن يخدعها، فقال بصوت مختنق بالحزن:
- هيرجع، حبيبتي... إن شاء الله هيرجع.
ضغطت ميرال أسنانها على شفتيها، تحاول كتم شهقاتها، لكنها لم تستطع، فخرج صوتها مرتجفًا، يفيض بالدموع:
- إن شاء الله...
أنهت المكالمة بيد مرتخية، كأنها فقدت القدرة على التمسك بأي شئ، أغمضت عينيها بقوة، ارتفع صوت يوسف وهو يبكي لييقظها من دوامة الحزن، فرفعت رأسها ببطء لترى رؤى تدخل الغرفة حاملة الطفل بين ذراعيها، بنظرات متبرمة.
- يوسف بيعيط وعايزك... هتفضلي قافلة على نفسك كده؟ وليه قاعدة في الضلمة؟
حدقت بها ميرال ثم بسطت ذراعيها إلى طفلها، احتضنته بقوة، دفنت وجهها في عنقه الصغير، وهي تشهق بين أنفاسه، كأنها تسحب رائحة زوجها، تهمس بشفتين مرتعشتين
-حبيبي ريحة باباك فيك، جلست رؤى بجانبها، تنظر إليها بنظرات صامتة لبعض اللحظات، ثم نطقت بجملة أشعلت النار في هشيم روح ميرال الممزقة:
- أنا مش قادرة أفهم... إزاي إلياس بيحبك وماقالكيش هو فين؟ حب إيه ده؟
رفعت ميرال عينيها إليها ببطء، بنظرات مثل بحر هائج، يغلي بالغضب والقهر، بقيت صامتة لثوان، ثم اردفت بنبرة هادئة وصلت الى رؤى كأنها مميتة كالسهم المسموم:
- خلصتي كلامك؟
حاولت رؤى الرد، لكنها أشارت بيدها إلى الباب قائلة بصوت جليدي:
- أنا لما وافقت أقعدك معايا هنا، كان علشان أحس إن عندي أخت، علشان أحاول أشوف فيكي حاجة من غادة. رغم إن إلياس رفض، لكني قلت "أختي". رغم قلبك اللي دايمًا مليان ناحيتي بالغل، لكني تغاضيت. لكن تيجي تشككي في حب جوزي ليا؟ لا. دي حدودي. والباب اهو... لو مش عجبك كلامي.
تراجعت رؤى قليلًا بجلوسها تتلفت حولها وتمتم بكلمات غير منظمة
-أنا خايفة عليكي، يمكن إلياس بيدبر حاجة لراجح، مالت ميرال على يوسف، واحتضنته بقوة، كأنها لا تريد أن تستمع للمزيد، ثم رفعت عينيها إليها مجددًا، وقالت بصوت متحشرج:
-مش هسمح لأي مخلوق على وش الأرض يدخل بيني وبين جوزي. بيحبني؟ ليا لوحدي. حتى لو بيكرهني؟ ليا لوحدي. والآن... اتفضلي على أوضتك، أنا تعبانة، وماليش خلق للمناهدة.
لم تجد رؤى ما ترد به. فقط حدقت بها للحظات، ثم استدارت بصمت، تاركة ميرال تحتضن صغيرها وكأنها تخشى أن يسلبها القدر آخر ما تبقى لها.
عند إلياس..
رفرفَ بأهدابهِ عدَّةَ مرات، لقوَّة ِالإضاءة ثم اعتدلَ بعدما استفاقَ بالكامل، وجدَ أحدُ الأشخاصِ يجلسُ على مقعدٍ بجوارِ الفراش:
- حمدَ الله على السلامة
-إنتَ مين؟!
نهضَ من فوق مقعدهِ ينظرُ بساعةِ يدهِ:
-لازم نتحرَّك، ميعاد الطيارة بعد تلاتين دقيقة بالظبط..
-ممكن أعرف مين حضرتك؟..
-التفتَ إليه الرجلُ وأشارَ إليه ِبسبَّباتهِ وتشدَّق:
-أخوك معاك على الطيارة، وكلِّ حاجة خلصانة، الوقت بيعدِّي ياحضرةِ الظابط، وياريت بعد كدا بلاش شغلِ التزوير، عيب دا حتى إنتَ ظابط يعني رجل قانون.
ضيق عيناه باستفهام مردفًا:
-أنا مش هتحرك من هنا من غير مااعرف انت مين؟!
اقترب منه الرجل وحدجه بتحفز:
-إلياس ياسيوفي، ولا اقولك ياشافعي، ألحق الطيارة، قبل مايوصلوا لأرسلان
الأمن مستنفر في كل مكان، مش عايز اقولك خسرنا ايه علشان نخرج من هنا،وأحمد ربنا أننا وصلنا لك قبل ماحد يوصلك
اومأ له قائلاً:
-طيب ليه ارسلان ماقابلنيش بدل عارف اني هنا
-اخوك في غيبوبة، وخرجناه من هنا على أساس جثة لأحد الأقارب لرجال أعمال...كدا اطمنت
-لا ..عايز تليفوني، لازم اطمن !!
بسط كفيه بهاتفه وأردف:
-مينفعش تليفونك، ممكن تستخدم دا
- اجابه إلياس بنبرة غاضبة
-وأنا بقول لحضرتك انا مش واثق فيك عايز تليفوني
زم شفتيه وأخرج هاتفه يبسطه إليه
-اتفضل
-قالها وتحرَّكَ للخارجِ دون إضافةِ شيئٍ آخر.
رفع الهاتف يفتحه إذ به يتلقى الكثير من الرسائل فتح اول رسالة قابلته
عند اسحاق
كانت تحتضن كفيه تقص له ماصار اليوم، ف منذ دخوله الغيبوبة، تجلس بجواره تقص له يومياتها بالكامل
-اسمع ياسيدي، اخوك فاروق اتخانق من كام يوم مع مصطفى السيوفي، علشان إلياس سافر ورا ارسلان، بس تعرف يااسحاق مكنتش اعرف انهم هيحبوا بعض اوي كدا، سبحان الله عمر الدم مايكون مية..اه في حاجة كمان انا معرفتش فاروق ارسلان فين، لقيت الخرايط بتاعتك، بس مقدرتش اعمل حاجة بيها، خوفت علشان عارفة أنها مسؤلية كبيرة ..رفعت كفيها على خصلاته، ثم مررتها على ذقنه
-حبيبي ياله بقى افتح عيونك، بقالك كتيير اوي، اسحاق لازم تفوق، احلام هانم بتدور عليا زي المجنونة، خايفة اوي تيجي في أي وقت، حبيبي ممكن تموت حمزة، دي كانت بتقول أنه مش ابنك، وقالت هطلع شهادة طبية بأنك عميق، فاروق كتر خيره لحد دلوقتي، بيحاول يحمينا، بس انا خايفة، تخيل ابنك موجود في مكان انا معرفش غير اسمه، قالي دا المكان الوحيد اللي محدش يقدر يوصله، معرفش انت عارفه ولا لأ، بس انا شوفت الظابط المسؤل عن حماية ابننا اسمه جاسر الألفي، وكمان الحي باسم عيلته، اسم حي الألفي، على الرغم اني معرفوش، بس قلبي مرتاح أنه هناك، ولما اتكلمت مع الظابط حسسني بأمان غير عادي، يارب يكون احساسي صح يااسحاق،
سحبت نفسا وزفرته وهي تحتضن كفيه، ثم رفعته ولثمته قائلة:
-معرفش اني بحبك اوي كدا، علشان خاطري لازم تفوق كلنا محتاجينك، ارسلان ممكن مايرجعش يااسحاق لو فضلت كدا
اقتربت من أذنه تهمس بداخلها
-اسحاق ارسلان مخطوف، ومحدش عارف يوصله ممكن يموتوه، فوق علشان تنقذ ابنك، مش كنت دايما تقولي ارسلان ابني، ابنك بيموت دلوقتي ومفيش حد بينقذه..قالتها وتراجعت بجسدها بدموع بعدما فقدت الامل، تتذكر حديث الطبيب بأنها تحادثه
مرت عدة ساعات حتى غفت وهي تحتضن انامله، فتحت عيناها على حركة أنامله بين اصابعها، دققت النظر ظننًا أنها تحلم، ولكن حركة أنامله مرة أخرى جعلتها تضحك وتبكي بصوت مرتفع حتى وصل بكاؤها الى صرخات
-اسحاق فاق، فاروق اسحاق فاق.. قالتها بدخول صفية وفاروق إلى الغرفة
عند راجح..
جلسَ في مكتبه، يتأمَّل مشروبهِ المحرَّم في كأسه، يستمعُ إلى الموسيقى باستمتاع، أغمضَ عينيهِ للحظة، لكن أفاقهُ رنينُ الهاتف..
رفعَ الهاتفَ إلى أذنه يستمعُ باهتمامٍ كأنَّه ينتظرُ أحدِ الأخبارِ المهمَّة..
- العملية فشلت يا باشا...ورجل الأمن هوَّ اللي اتصاب.
تجمَّدت ملامحهِ لثوانٍ ثم ضغطَ بأسنانهِ على شفتيهِ وزمجر:
- فاشل...
أغلقَ الهاتف بحدَّة، وقذفهُ بقوةٍ على المكتب، نهضَ غاضبًا، واشتعلت عينيهِ بنيرانِ الغضب وهو يضربُ بقبضتهِ على سطحِ المكتب:
- شوية فشلة...أنا مشغَّل شوية فشلة..
قطعَ غضبهِ طرقاتٍ خفيفةٍ على الباب، ثمَّ دخلت الخادمة بتردُّد:
- فيه واحد برَّا عايز يقابل حضرتك، يا باشا.
لم يكلِّف نفسهِ عناءَ النظرِ إليها وهو يردُّ بنبرةٍ حادة:
- مش عايز أقابل حد، امشي من هنا..
استدارت الخادمة لتنصرف، لكن صوتَ خطواتٍ ثابتةٍ ملأ الغرفة، رفعَ راجح بصرهِ ليرى هشام يتقدَّمُ بثقة، يشيرُ للخادمة دون أن ينظرَ إليها:
- اعمليلي قهوة سادة.
أومأت الخادمة برأسها سريعًا وخرجت، بينما طافت عينا هشام بالمكتب، يتفحَّصهُ بنظرةٍ ساخرة، هزَّ رأسهِ بإعجابٍ مصطنع وهو يقول:
- حلو مكتبك يا راجح..عجبني ذوقك.
رفعَ راجح قدمهِ فوق المكتب، مائلًا بجسدهِ إلى الخلف، ناظرًا إليه ببرود:
- عايز إيه يا عطوة؟…ولَّا أقولَّك، يا هشام؟
أخرجَ هشام سيجارةً من علبته، أشعلها ببطءٍ وزفرَ الدخانَ بابتسامةٍ جانبية:
- هشام "بيه" يا راجح…بلاش تقلب عليَّ..
رفعَ راجح حاجبهِ ساخرًا، وقال بنبرةٍ لا تخلو من السخرية:
- بيه؟ وياترى البيه دا على إيه؟ قتل الناس، ولَّا خطفهم؟ ولا تجارةِ المخدرات والسلاح؟ ولَّا اللعب بعقولِ الشباب باسمِ الدين، يا سيادةِ البيه؟
تبدَّلت ملامحُ هشام في لحظة، وتصلَّبت عضلاتُ وجهه، واحتدَّت نظراتهِ وهو يضغطُ على أسنانهِ قبل أن ينطقَ بصوتٍ منخفض، لكنَّه مفعمٌ بالغضبِ المكبوت:
-راجح...
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
بكيتُ وهل بُكاء القلب يُجدي ؟!
فراقُ أحبتي وحنينُ وجدي ..
فما معنى الحياة إذا افترقنا؟؟
وهل يُجدي النحيبُ فلست أدري؟!
فلا التذكارُ يرحمني فأنسى..
ولا الأشواق تتركني لنومي..
وحتى لقائكِ سأظل أبكي ......وحتى لقائكِ سأظلُ أبكي
توقف عطوة الذي يدعى بهشام وصاح بنبرة غاضبة:
- راجح اتجنِّنت ولَّا إيه، إنتَ ناسي مين اللي واقف قدامك؟!!
اقتربَ راجح منهُ وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-إنتَ اللي تفوق يابنِ الدمنهوري، واعرف حدودك معايا، أوعى تفكَّر اللي واقف قدَّامك دا ضعيف ولَّا مكسور، ولو سكتِّ زمان، فسكتِّ علشان راجح عايز كدا، وتاني مرة لمَّا تتكلِّم معايا تتكلِّم بأدب واحترام، إنتَ حتة عيل
يالا كنت شغال تحت إيدي.
ارتفعت ضحكاتُ عطوة المدعو بهشام، ثم صفَّقَ بيديهِ يحكُّ ذقنه، وخطا خطوةً للوراءِ يغمزُ إليه مع هزَّةٍ طفيفةٍ من رأسه:
-لا برافو، عجبتني ياحضرةِ الظابط المطرود قديمًا..
وصلَ إليه بخطوةٍ واحدةٍ ليطبقَ على عنقهِ ويهمسُ كفحيحِ أفعى:
-أنا أموِّتك من غير مايرفلي جفن يالا، ولا تهمِّني ولا إنتَ ولا اللي مشغلينك، دا أنا حاولت أقتل ولادي، هغلب فيك يابنِ الدمنهوري..
شحبَ وجهُ عطوة، ورفع يديهِ بوهنٍ ليتخلَّصَ من قبضته، دفعهُ راجح ليهوى بجسدهِ على المقعد، يسعلُ بقوة..
ثمَّ جلسَ راجح بمقابلتهِ وأخرجَ سجائره، ينظرُ إليهِ بشفاهٍ ملتوية:
-مش كلِّ اللي يتاكل لحمه، أنا مش رانيا، ومتفكرنيش كنت نايم على وداني، لا..أنا سايبك تلعب براحتك بدل اللعب جاي بمصلحتي..
طالعهُ بعيونٍ تطلقُ شزرًا، اقتربَ بجسدهِ مستندًا على الطاولة، ينظرُ إلى مقلتيهِ وبعيونٍ غاضبة:
-صدَّقني هدفَّعك غالي ياراجح أوي، فوق ماتتخيَّل، قالها ونهضَ منتفضًا ثم أشار إليهِ وأردف بنبرةٍ تهديدية:
-حياتك وحياة ابنك قصاد حياة ولاد أخوك، عايز تعيش جوا مصر معزَّز مكرَّم تتخلَّص من ولاد جمال، ودا آخر تحذير، بعد كدا ماتلومشِ غير نفسك..
نفثَ راجح غبارَ دخانهِ وكأنَّه لم يستمع إلى تهديدهِ وتراجعَ بجسدهِ يفردُ ذراعيهِ على المقعد:
-اتكلِّم على قدَّك ياشاطر، مش راجح الشافعي اللي ياخد أوامره من حتِّة شمَّام، واسمع آخر كلامي، أنا مش هقتل حد، وأعلى مافي خيلك اركبه إنتَ واللي مشغلَّك.
زمَّ شفتيهِ ثمَّ اقتربَ منه بخطواتٍ بطيئةٍ منحنيًا إلى مستواه، يحدِّقُ به قائلًا:
-فيه فيديو حلو هيوصلك بعد شوية، شوفه الأوَّل وبعد كدا قرَّر يا…أه حضرةِ الظابطِ المتقاعد، نمشي كدا دلوقتي...قالها واعتدلَ ناصبًا قامته، ثم رفع هاتفهِ وأرسلَ إليه بعضَ الفيديوهات التي تدلُّ على تورُّطهِ بإحدى العملياتِ الخطيرةِ التي تؤدِّي إلى إعدامه، ثم بعثَ إليه صورةً وهو يدفعُ رانيا بالبحر..
تراجعَ بجسده يلوِّحُ بيدهِ وتمتم:
-إلياس السيوفي!!..توقَّف واستدارَ برأسهِ غامزًا بعينيه:
-مصوَّرك وإنتَ بتقتل رانيا ياراجح، يعني لو مش موِّته هيموِّتك يا..حضرة المطرود..قالها واستدارَ متحرِّكًا، ينظرُ للأمامِ وعيناهُ تنطقُ بالكثيرِ من الشرّ، وصلَ إلى سيارتهِ ورفعَ هاتفه:
-أيوة ياعمِّي، قصَّ له ماصارَ ثم تحدَّث:
-هيوافق متخافش، هوَّ لسة مفكَّر إننا أعداء، خلال يومين هيخلَّص كلِّ حاجة وهيجيب الورق، رتِّب نفسك على كدا، صفِّي كلِّ حاجة قبل مايشك، وخلِّيه منه للروس الكبيرة، إحنا خلاص هناخد حقِّ أبويا ودا اللي اشتغلنا عليه، زمان جمال مات، ودلوقتي هوَّ قتل رانيا، وهيقتل ولاد أخوه، وبكدا يبقى كتب نهايته ونتخلَّص من كلِّ اللي أذونا، لازم أريَّح أبويا، علشان محدش يستجرى يجيب اسمه بكلمة بعد كدا، أبويا اتغدر بيه من حتِّة صياد مايساويش مليم..
-خلاص ياهشام، ارجع السويس وشوف هتعمل إيه، وأنا هخلَّص الكام عملية اللي قدَّامي، وهكلِّمك علشان لو راجح ماتصرفشِ أشوف طريقة تانية..
-إنتَ بتقول إيه ياعمِّي، هنفضل ساكتين لحدِّ إمتى، لازم ينفِّذ من غير ولا كلمة، مش هتفضل مدَّاري وهربان، لازم نخرج من البلد بأيِّ طريقة، والحيوان راجح دا هو اللي هيقدر يشطب اسمك من الممنوعين، مش هتفضل منسوب للمجرمين طول الوقت..
عند إلياس..
وصلَ قبل عدَّةِ ساعات، وتمَّ نقل أرسلان إلى غرفةِ العناية، تحرَّك للخارجِ بعد الاطمئنانِ على حالته، رغم أنَّه مازال بالغيبوبة..
-خرجَ متراجعًا بجسدهِ على الجدار، أطبقَ على جفنيهِ وأحداثُ تلك الأيام يمرُّ أمام عينيهِ كشريطٍ سينمائي..
-إلياس..تمتمَ بها إسلام الذي يتحرَّكُ نحوهِ بلهفةٍ كالطفلِ الذي وجد والديه، اقتربَ ملقيًا نفسهِ بأحضانه، ليفقدَ السيطرةَ على نفسهِ مع دموعهِ التي لم تتوقَّف يتمتمُ بتقطُّع:
-كدا تقلقنا عليك، إنتَ أخ إنت، موِّتنا من الرعب والخوف ياأخي..
تجمَّدَ جسدهِ غير مصدِّقًا ما فعلهُ إسلام، حتى أنَّه لم يشعر بخروجِ إسلام من أحضانهِ ليفيقَ على صوتهِ الممتزجِ بالبكاء:
-إنتَ عارف أنا حسيت بإيه وإحنا مش عارفين نوصلَّك، حسيت إنِّي اتيتمت ومبقاش ليَّا سند، لا، حسيت إنِّي تايه، أنا زعلان منَّك علشان حسِّستني الإحساس دا، واللي أسمعه يقول إنَّك مش أخويا هدخَّل إيدي في زوره وأخلع لسانه..
دقيقة وهو متجمِّدًا بمكانهِ وعيناهُ تتشابكُ بردِّ فعلِ أخيه الغيرِ متوقَّع، وداخلهِ يحدِّثه، هل بداخلهِ جبلًا من الجليدِ ليفقدَ ذلك الشعور، أم أنَّ اختفاءِ أرسلان وخوفهِ من فقدانهِ أنساهُ أخاهُ الأصغر،
أخاه الأصغر..ردَّدها القلبُ قبل العقل، ليرفعَ عينيهِ إليه مع كفَّيه يمسِّدُ على رأسه:
"آسف حبيبي، انشغلت و..."
قطعَ حديثهم دخولُ مصطفى، توقَّف ينظرُ إليه بمشاعر ممزوجةٍ باللهفةِ والاشتياقِ الذي يحملهُ أبٌ فقد طفله، ثمَّ وجدهُ فجأة، عائدًا من أعماقِ الغياب، اقتربَ منه وهناك الكثيرُ من النظراتِ التي امتلأت بالكلماتِ حتى عجز لسانهِ عن نطقها، خرج صوتهِ محمَّلًا بكلِّ ما لم يستطع قوله:
– إلياس...حمد الله على سلامتك.
ابتعدَ إلياس عن إسلام، وقلبهِ يخفقُ بين ضلوعهِ كطائرٍ أخيرًا وجد عشَّه، اقترب من والدهِ الذي كان يحدِّقُ به وكأنَّه يخشى أن يكون مجرَّدُ سراب.. نظراتهِ تحكي الكثيرَ من القلق، عن خوفٍ يثور، وعن شوقٍ كاد يقتله..
– بابا...نطقها بعدما رأى حالةَ والدهِ المتشعِّبة بالألم..
ابتسمَ مصطفى بارتجافة، وفتح ذراعيهِ يريد أن يطمئنَ قلبهِ أنَّه ليس حلمًا، وأردفَ بصوتٍ جعلهُ ثابتًا:
– أسبوعين ياابنِ مصطفى، منعرفشِ عنَّك حاجة!..
احتضنهُ إلياس بقوَّة، ليشعرهُ بحرارةِ هذا الحضن الدافئ، وحرارةِ اشتياقهِ هو الآخر، فأراد أن يخفِّف عنه الحزنُ الذي ينهشُ بصدره، ثمَّ قال بمزاحٍ مختنق:
– علشان أوحشك يا سيادة اللوا، وأشوف أنا غالي قدِّ إيه؟
ضحكَ مصطفى رغم مرارة شعوره، ثم ربتَ على كتفِ ابنه:
– مش لايق عليك الأفيهات ياابنِ السيوفي، على رأي ميرو...آخرك يعيِّنوك على منصةِ الإعدام.
هنا فاقَ من تضاربِ مشاعره، ليشعرَ بنبضٍ يضربُ بقوَّة داخل صدرهِ لاشتياقهِ لمعذِّبةِ القلب، فراحَ يتلفَّتُ حوله، يبحثُ عنها بين الوجوه، متمنيًا أن تخرجَ إليه بحنانِ ذراعيها، أن يجدها كما وجدَ والده، لكن الأمنيات ليست بالضرورة تتحقَّق.
أخرجهُ صوتُ إسلام من دوَّامةِ الاشتياقِ حينما قال:
– ماما قلقانة عليك، لازم تطمِّنها ضروري...يمكن لمَّا تسمع صوتك تهدى..
تذكَّر حالة والدتهِ التي حمَّلتهُ وجعًا آخر، فكم من قلبٍ قد أنهكهُ غيابه؟ قالها إسلام ليقطعَ تكملة حديثهِ صوتُ صفية المرتعشِ بالقلق، قاطعًا كلَّ شيء:
– أرسلان! فين أرسلان ياابني؟
وصلَ فاروق الذي كان يهرولُ وكأنَّه يسابقُ الزمن، يسابقُ خوفهِ على فلذةِ كبده:
– اهدي حضرتك، هوَّ جوَّا...
لكنَّها لم تدعهُ يكمل حديثه، بل تحرَّكت بسرعة إلى الداخل، وفاروق يهرعُ خلفها، يدعو بسريرته أن يطمئنَّ قلبهِ على فلذة كبدهِ الوحيد..
ربتَ مصطفى على كتفهِ بحنوٍّ صامت، فرفع إلياس رأسهِ ببطءٍ نحو والده، وعيناهُ مثقلتانِ بالإرهاق..
– روح ارتاح...وطمِّن مراتك هتتجنِّن عليك.
أومأ إلياس برأسه، ثمَّ تراجعَ للخلف مستندًا إلى الجدار، كأنَّ جسدهِ لم يعد يقوى على الوقوف، وأطلق تنهيدةً عميقةً خرجت من صدرهِ بألمِ مايشعرُ به ثمَّ أردفَ بنبرةٍ مرهقة:
– هطمِّن على ماما...وأعدِّي على الجهاز، دلوقتي أكيد عندهم علم بكلِّ حاجة.
تقدَّم مصطفى خطوة، ونظرَ إليه نظرةً غامضةً تحملُ مزيجًا من القلقِ والتحذير:
– مالكشِ دعوة بالجهاز دلوقتي، أهمِّ حاجة إنَّك ترتاح.
فتح فاههِ للرد، ولكن قاطعهم صوتُ خطواتِ فاروق وهو يقتربُ بسرعة، تطلَّع إلى إلياس بعينينِ تضجُّ بالأسئلة:
– إلياس، لقيت أرسلان إزاي؟
مسحَ إلياس على وجههِ بكفِّه، ثمَّ نظر إلى فاروق بعينينِ زائغتينِ وقال:
-إزاي المخابرات عرفوا بمكاني؟
قطبَ فاروق حاجبيه، وتقدَّم خطوةً للأمامِ متسائلًا بارتباك:
- مش فاهم...!!
اعتدلَ إلياس في وقفتهِ، ورفع رأسهِ كمن تذكَّر شيئًا مهمًّا، وهزَّ رأسهِ ببطء قائلاً:
- خلاص..مفيش حاجة، ربِّنا كان معايا، والدنيا عدِّت على خير، المهم إنِّنا رجعنا..أرسلان في غيبوبة، مضروب في صدره، وكمان في رجله..دا اللي قدرت أعرفه، لازم ننقله مستشفى عسكري.
اعترضَ فاروق بحزمٍ وهو يلوِّحُ بيده:
– مينفعش..هنا كويس، وأنا واخد كل احتياطاتي..وأمرت بنقلِ إسحاق هنا كمان..
اشتعلَ الغضبُ في عيني إلياس، واقتربَ خطوةً وهو يشيرُ بيدهِ بقوَّة:
- حضرتك غلطان، حضرتك متعرفشِ إنُّهم هنا في خطر حقيقي..إسحاق باشا مضروب بالنار من عصابة، أمَّا أرسلان..دا دخل دولة، واضرَّب هناك، وانكشف لبعض الجماعات الارهابية، وخرج بمعجزة! اقترب حتى لم يفصل بينهما شيئا وهمس بصوت خافت
-دا صفى حد مهم ياباشا، وجاي تقولِّي مينفعش؟! أنا حاولت أفهِّمك خطورة اللي بنعمله، بس حضرتك أصرِّيت نجيبه هنا.. حضرتك كده بتقدِّمه للموت بإيدك.
صمتَ فاروق لحظة، ثمَّ ردَّ بنبرةٍ هادئةٍ تُخفي تحتها عنادًا شديدًا:
– أنا شاكر لحضرتك يا حضرةِ الظابط، بس اللي متعرفوش، إنِّي كنت مظبَّط كلِّ حاجة، ومجهِّز نزوله على مصر من زمان، واتأخَّر بسبب وجودك هناك.. مكنشِ ينفع أضحِّي بيك، عملت كلِّ اللي أقدر عليه علشان أوصَّلكم لهنا، فياريت تحترم رأيي..أنا شايف إنِّ هنا أفضل، ومش عايز شوشرة برَّه، ولا ابني ينكشف للجماعات الإرهابية.
ضحكَ إلياس ضحكةً قصيرةً خاويةً من الرُّوح، ثمَّ نظرَ إليه نظرةً طويلةً وقال:
-على أساس إنُّه ما انكشفش!..أشارَ محذِّرًا واستطرد:
-إحنا نزلنا مصر على أساس أنُّه جثة وأنا كنت مزوَّر جواز سفري ياباشا.
حاول مصطفى إنهاءَ الحوارِ بينهما بعدما اشتدَّت نظراتُ إلياس بالغضبِ
فأردفَ بنبرةٍ هادئة:
-خلاص اهدوا أنتوا الاتنين، المهمِّ أنُّه رجع بالسلامة، التفتَ إلى إلياس وتحدَّث:
-متخافشِ عليه ياحبيبي، فاروق أبوه وعمره مايعرَّضه للخطر، وأكيد هوَّ عنده معلومات أكتر مننا..
هزَّ رأسهِ باعتراضٍ قبل أن يتحرَّك مغادرًا المكان..
بعد فترةٍ ليست بالقصيرة، وصلَ إلى منزله..كانت تجلسُ في شرفةِ غرفتها، تتكئُ بجسدها على الجدار، تحدِّقُ في السماءِ التي تزيَّنت بالمصابيحِ الربانية، التمعت عينيها بالدموع، وشحبت ملامحها من بُعدِ حبيبِ الروح والجسد..
قطعَ وصلةِ انسامجها مع النجوم، صوتُ توقُّفِ السيارة، انتفضَ قلبها قبل جسدها، ولا تعلمُ لماذا شعرت بهذا النبضِ السريع، لاحت بنظرها سريعًا ظنًّا أنَّه إسلام، هنا علمت لماذا ارتجفَ نبضُ قلبها، حينما رأتهُ يترجَّلُ من السيارة يتحدَّثُ إلى إسلام ويشيرُ له بيده، فعرفت أنَّه هو...إلياس.
لحظةً واحدةً لتهبَّ واقفةً كأنَّ الحياةَ دبَّت فيها من جديد، هرولت إلى الأسفلِ حافيةَ القدمين، كطفلةٍ تركضُ صوبَ حضنِ والدها بعد فراقٍ موجع، وخصلاتها التي تضربُ ظهرها بقوَّةِ لهفتها، لم تفكِّر، لم تخجل، لم تتردَّد...فقط اشتاقت لحبيبها..
بالخارجِ صعد بضعَ درجاتٍ من السلَّمِ الخارجي لكنَّه تجمَّدَ في مكانهِ حين رأى بابَ المنزلِ يُفتح، وهي تندفعُ نحوهِ والدموعُ تتساقطُ من عينيها فرحًا وحنينًا..همست باسمهِ بصوتٍ متهدِّج:
- إلياس...
نطقتها بتلهُّف، كأنَّ اسمهِ أعادها للحياة، ثمَّ اندفعت إلى حضنهِ تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، تلف يدها حول عنقه، تمزج ُبين الفرحِ والحنينِ والألم..عانقها بشوقٍ كاد أن يحرقَ قلبه، وكأنَّه يحاولُ أن يعوِّضها عن كلِّ لحظةٍ غاب فيها عنها، أشار بيدهِ للحرسِ أن يغادروا المكان بعدما وجدها بتلك الحالة، ثم تحرَّك بها ببطء، وهي متعلِّقةً بعنقه، لا تريدُ أن تفلتَ منه، وكأنَّ ذراعيهِ هما موطنها، وسكينتها، وملاذها الأخير..دخل إلى البيتِ بصمت، ورائحةُ عطرها تملأُ صدره، فتزيدُ شوقهِ واحتراقه.
أغلقَ البابَ بقدمه، وهو يحاول جسدها، توقف خلف الباب ثمَّ أوقفها برفق، وأمسكَ وجهها ب حنان، يرسمها كفنَّانٍ يذوبُ بلوحتهِ هامسًا بحنين:
-وحشتيني...
قالها بهمسٍ عميقٍ ليشعرها بأنَّها أغلى من كلِّ كلماتِ الدنيا...كلمةٌ وحيدةٌ جمعت معاني الاشتياق بالنسبةِ اليهما، لم تنتظر أكثر، لترفعَ رأسها إليه، وقبَّلتهُ بشغف..
غاصَ معها في تلك اللحظة، ناسيًا كلَّ شيء...ناسيًا مامرَّ به، فقط يريدُ أن يروي قلبهِ المتلهِّف، ضعفت وخارَ جسدها بين ذراعيه، لم تعد تقوى على الثبات، فأمسكَ بكفِّها، وقادها بصمتٍ إلى أعلى، دون حديث..
بلندن وخاصَّةً بمنزلِ رحيل..
دلفت والدتها اليها، وجدتها تجلسُ بجوارِ النافذة تنظرُ للخارج، تقدَّمت نحوها تطالعُ ابنتها بعيونٍ حزينةٍ على ماصار بها..
توقَّفت خلفها وبسطت كفَّيها تمسِّدُ على خصلاتها قائلة:
-قافلة على نفسك ليه من وقت مارجعتي حبيبتي؟..أزالت دموعها سريعًا، ثمَّ اعتدلت تنظرُ إلى والدتها:
-مفيش حبيبتي، عندي مشروع وبفكَّر فيه، بحاول أجمع ميزانية كويسة علشان أرجع أقف على رجلي تاني..
سحبت مقعدها وجلست بمقابلتها وتعمَّقت بالنظرِ إليها:
-خلاص يارحيل قرَّرتي تسيبي كلِّ تعب أبوكي لابنِ راجح؟..
مسحت على وجهها تزفرُ بألمٍ كاد يهشِّمها كالزجاج، ثم تراجعت بجسدها على المقعدِ تنظرُ لوالدتها:
-ماما أنا اتنازلت عن كلِّ مايربطني بمصر، وأنا قولت لك ظروفي وحياتي، والحمدُ لله عندنا دخل كويس وعملت شراكة كويسة مع شركة محترمة، ادعيلي بس ياماما، وعايزة من حضرتك تنسي كلِّ حاجة مرتبطة بمصر، ولو على خالو يبقى هخلِّيكي تُزوريه كلِّ فترة بس مستحيل أرجع مصر تاني ياماما....
-طيب حبيبتي دلوقتي إنتي حامل، وأبو الطفل لازم يعرف بيه، مينفعشِ اللي إنتي ناوية تعمليه دا..
-ماما لو سمحتي..مش عايزة من حضرتك تفتحي الموضوع دا تاني، وتأكَّدي لو مش حرام كنت سقَّطه، أنا هربِّي ابني من غير أبوه مايعرف، ولا عايزة أفتكره أصلًا، أرجوكي لو بتحبِّيني بلاش تفتحي الموضوع دا تاني..قالتها ببكاءٍ فتَّت قلبَ والدتها، لتقتربَ منها وتجذبها لأحضانها تمسِّدُ على ظهرها بحنانٍ أمومي:
-حاضر حبيبتي، بس خايفة عليكي من المسؤولية الكبيرة دي، إنتي لوحدك يابنتي، والدنيا مابترحمش..
ارتفعَ بكاءها تدفنُ نفسها بأحضانِ والدتها:
-أنا تعبانة ياماما، قلبي مولَّع نار، نفسي أرتاح من كلِّ دا، نفسي أرجع زي زمان، ليه الدنيا ظلمتني أوي كدا..
أخرجتها والدتها من أحضانها واحتضنت وجهها:
-حبيبتي يابنتي اسمعيني كويس، إنتي لسة صغيرة ولسة ياما هتشوفي، أنا معرفشِ إيه اللي حصل بينك وبين جوزك، بس قلبي بيقولي أنُّه ابنِ حلال، بغضِّ النظر على اللي عمله بس هوَّ فيه بذرة كويسة..
ابتعدت عن أحضانِ والدتها وأزالت دموعها متوقِّفة:
-ربنا يسهلُّه ياماما، بس أنا خلاص مبقاش ينفع أرجع له أو أتقبله في حياتي، بعد إذنك هدخل آخد شاور علشان عايزة أنام عندي ميتينج الصبح بدري..
توقَّفت والدتها تهزُّ رأسها وأردفت:
-حاضر حبيبتي، أنا هصلِّي القيام وأقعد أقرأ شوية في المصحف لو احتجتي حاجة عرَّفيني..
بمنزلِ زين الرفاعي..
كانوا يجلسونَ يتناولون العشاء، رفعَ زين رأسهِ إلى إيلين التي تتلاعبُ بطعامها دون أن يمسُّه فمها:
-إيلين مابتكليش ليه حبيبتي؟..تطلَّعت إليه بعدما وضعت شوكتها:
-خالو ليه بابا اتجوز سهام؟..اللي أعرفه أنُّه كان متجوز ماما بعد قصِّة حب..
جذبَ زين محرمتهُ ومسح فمهِ ثمَّ نهضَ من مكانهِ وعيناهُ على آدم:
-خلَّص أكل واجهز علشان هنروح نشوف عمِّتك فريدة، عرفت إنِّ ولادها رجعوا بالسلامة.
أومأ له دون حديث، خطا زين إلى مكتبهِ تبعتهُ إيلين بعدما أمرت الخادمة بجلبِ قهوته..
جلسَ خلف مكتبهِ وأشارَ إليها بالجلوس، جلست بمقابلتهِ وانتظرت حديثه، فتح درجَ مكتبهِ وارتدى نظَّارتهِ يقلِّبُ بين أوراقِ خزنته، ليصلَ إلى ورقةٍ وضعها أمام إيلين:
-اقرأي الورقة دي وإنتي تعرفي ليه باباكي اتجوِّز على مامتك..
قرأت مايدوَّنُ بالورقة، رفعت عينيها قائلة:
-مش فاهمة حاجة، دا عمُّو جمال جوز طنط فريدة..
أومأ لها ثمَّ نهضَ من مكانهِ وجلسَ على الأريكةِ يشيرُ إليها أن تقترب؛ جلست بجوارهِ ليقومَ بقصِّ ماصار قديمًا:
-جمال كان بيحبِّ فريدة، وكان له صديق وأمِّك الله يرحمها كانت شايفة في صديقه فتى أحلامها، جدِّك حس بنظرات والدتك للراجل دا، في الوقتِ دا أبوكي كان له مركب صغيرة وقال لجمال إيه رأيك تبيع مركبك وأبيع مركبي ونشتري واحدة كبيرة، والرزق بالنُّص، جمال رفض الفكرة في الأوَّل، لأنُّه كان بيدرس وبيشتغل يصرف على نفسه وعلى كليِّته، المهمِّ راح حكى لجدِّك، جدِّك كان مبسوط من حماس أبوكي أوي، والصراحة أبوكي كان شاطر وبيعرف يجيب القرش كويس، جمال خلَّص كليِّته واهتمّ بمحلِّ أبوه والرزق بقى حلو معاه، بس في ليلة واحدة صحي من النوم لقي المركب بتاعته ولَّعت..زعل عليها أوي، جدِّك وقتها وقف معاه وكمان أبوكي، أنا كنت في آخر سنة وعمَّال أزنِّ على جدِّك علشان أسافر أكمِّل تعليمي برَّة، وكان جدِّك له صاحب ابنِ حلال وفضل يقولُّه هوَّ فيه حد يبقى عنده ولد في كلية هندسة وشاطر كدا وماتسفروش، المهم أقنع أبويا في الوقتِ دا، وبدأت أجهِّز ورقي..
سحبَ نفسًا وذكرى الماضي تروادهُ واستأنف:
أبوكي وقف مع جمال لحدِّ مااشتروا مركب كبيرة والدنيا مشيت معاهم كويس، بس صاحب جمال دا مكنشِ عجبه فكرة الشراكة بينهم، وفضل يوقَّع بينهم، فاكر قبل سفري بيوم.. جدِّك بعتلي وقالِّي جمال طالب إيد فريدة إنتَ إيه رأيك؟..
-قولت له جمال راجل يابا، والراجل اللي يعرف ربُّه ميتخافشِ منُّه، سألني يعني أمشي على خيرةِ الله، قولت له لو هيَّ موافقة وافق، بس وقتها قالِّي طيب أختك نورا عينها من صاحبه، وأنا الواد دا مش مرتحله، أنا ضحكت وقولت له نورا إيه دي يابا دي لسة في أولى ثانوي، وسمير كبير عليها الفرق بينهم مش أقلِّ من تمن سنين، لا دي عيِّلة ومع الوقت هتنسى، المهمِّ سافرت على طول بعد خطوبة جمال وفريدة، ومرِّت السنين وجدِّك مات وأنا نزلت بعد موته، فريدة كانت متجوِّزة في الوقتِ دا وحامل، ووقتها مامتك كانت في أولى جامعة، وعرفت إنِّ أبوكي عايز يتقدملها، أنا رفضت في البداية علشان هوَّ كان معاه دبلوم، وأمِّك تعليمها عالي، المهمِّ سافرنا أنا وهيَّ وخالتك، في الوقتِ دا كنت عملت قرشين كويسين، واتعرَّفت على مالك العامري، عرض عليَّا شراكة وعملنا شركة صغيرة وربنا كرمنا والشركة كبرت، واتعلَّقت بأخته، واتقدمت لها، بس هيَّ شرطت عليَّا نعمل الفرح في مصر، نزل مالك قبلنا بكام شهر و اشترى البيت دا، وأمِّك نزلت كمِّلت تعليمها في القاهرة، ومعرفشِ قابلت محمود فين تاني، وإيه اللي حصل بينهم، لقيته جايلي في الشركة وبيطلبها منِّي تاني، بس المرَّة دي والدتك وقفت في وشِّي وقالت لي هتتجوِّزه، اضطريت أوافق لمّّا شوفتها متمسكة بيه، عدى سنتين من جوازهم وكانت الدنيا بينهم حلوة، وأنا سافرت كام سنة ولمَّا رجعت شوفت الحياة الوردية اللي كانت بينهم ضاعت، بس أمِّك ماكنتشِ بتحكي حاحة، ومرِّت سنين كتيرة لحدِّ ما رجعت واستقرِّيت هنا وعرفت اللي حصل لجمال وطبعًا الباقي إنتي عرفاه، بس قبل ماوالدتك ماتموت بكام سنة حصل خناقة كبيرة في بداية تعبها، وقتها عرفت إنِّ محمود لقي الورقة دي في كتب أمِّك، وطبعًا الجواب كلُّه حب وعشق زي ماإنتي قرأتيه كدا، محمود أخدها على رجولته إزاي تتجوِّزيني علشان تنسي واحد تاني، وأقسم ليدوَّقها الويل..
-بس ماما إزاي تعمل كدا؟..والجواب دا عمُّو جمال شافه؟..
-الجواب دا فيه حاجة معرفتش أوصلَّها، ليه هيَّ كتبته لجمال، وإيه اللي حصل بين سمير وجمال؟!..
أنا معرفشِ بس اتفاجأت من كلام والدتك وهي بتقولِّي اسأل جمال،
.يعني تفتكر عمُّو جمال عرف حاجة عن صاحبه دا وهوَّ السبب، أنا مش فاهمة حاجة..
-معرفشِ لأن جمال مات، ومتقابلناش، ولمَّا نزلت السويس عرفت إنِّ سمير دا بقى غني أوي، بس زي ماجدِّك قال عليه زمان، مشيُه كان غلط، وفعلًا كان هربان من الحكومة، فيه الِّلي يقول كان بيتاجر في المخدرات، وفيه اللي يقول لا دا كان بيموِّل سلاح وبيتاجر في الأعضاء، بس اللي متأكِّد منُّه بعد اللي حصل دا..إنِّ الراجل دا هوَّ السبب في اللي حصل لجمال..
نظرت إلى الورقة وبدأت تعيدُ قراءتها، ثمَّ رفعت عينيها إلى زين:
-يعني بابا عرف أنُّه هوَّ اللي كان مقصود إنَّها هتتجوِّزه علشان تنسى سمير دا؟!..
-للأسف أه، علشان أبوكي كان بيحبَّها جدًا، ورفض الجواز، بس لمَّا قرَّب منها واتجوزوا عرف إنَّها كانت بتحبِّ سمير
-خالو أنا مبقتشِ فاهمة حاجة، إيه الحوارات دي كلَّها!!
هزَّ رأسهِ ممتعضًا وأردفَ قائلًا:
-وسهام كانت بنتِ مرات أبو سمير
برَّقت عينيها تطالعهُ بصدمة:
-يعني إيه، أوعى تقولِّي كانت بتحبِّ بابا علشان كدا اتجوِّزته تنتقم منُّه ومن ماما؟..
نهضَ من مكانهِ متَّجهًا نحو مكتبه:
-حبيبتي ماتشغليش نفسك بالماضي، حاولي ماتسأليش، قومي شوفي جوزك علشان لازم نخرج وجهزي نفسك، عايزك تقربي انت ومريم من عمتك فريدة، هي كويسة جدًا، غير اللي راجح قاله زمان عليها
-ماما برضو مصدقتش ولا كلمة ..
ربت على كتفها وأشار إليها بالخروج
مرّت أسابيعٌ ثقيلة، لم يتغيَّر فيها شيء سوى استعادةِ إسحاق بعضًا من عافيته، لكنَّه ما إن علمَ بما حدث لأرسلان ليشعرَ بزيادةِ آلامٍ أقوى من آلامِ المرض، حاول النهوض رغم تحذيرِ الأطباء ولكنَّه لم يستمع لتحذيراتهم، نهض بصعوبةٍ من سريره رغم آلامه، وكأنَّ أبوَّتهِ وحدها هي التي تقودهُ للوصولِ إلى أرسلان..
ساعدتهُ دينا والممرِّضات في الوصولِ إلى غرفة فلذةِ كبده، دلف إلى الداخل، وقعت عيناهُ على غرام، التي كانت تغفو على المقعد بجوارِ السرير، دقَّقَ النظرَ بملامحها الشاحبة، وعيناها المتورمتين من البكاء حتى حاولت الهروبَ منه بالنوم، نزل ببصرهِ على بطنها التي بدأ يظهرُ عليها آثارُ الحمل..
شعرت بدخولِ أحدهم، فانتفضت متأوِّهة، رفعت رأسها بسرعة، وحين رأتهُ تجمَّدت في مكانها، وكأنَّ رؤيتهِ أعادت الأمل..ردَّدت اسمهِ بدموعٍ تهوي على وجنتيها بلا توقُّف، خنقت شهقتها وهي تهمسُ بصوتٍ متهدِّج:
"عمُّو إسحاق..!"
رفعَ إسحاق نظرهِ إلى دينا، مشيرًا إليها أن تدفعَ كرسيهِ للاقترابِ من السرير، ورغم أنَّ الحركة كانت تؤلمه، لكنَّ الوجعَ الأكبر كان ذاك الذي يتمدَّدُ على الفراشِ كالجثُّةِ الهامدة، هنا شعرَ بقلبهِ يعصفُ كنيرانٍ متأجِّجة، دنا من أرسلان، ثمَّ التفتَ إلى غرام وأشارَ إليها أن تقترب..
خطت نحوهِ ببطء، تشعرُ بأنَّ قدميها مقيَّدتانِ بثقلِ الحزن، ودموعها لا تزال تنسابُ بلا إرادةٍ منها، اقتربت أكثر، حتى باتت قريبةً بما يكفي لرؤيةِ الألمِ المنعكسِ في عينيه، رغم ما يشعرُ به إلَّا أنَّه رسمَ ابتسامةً واهنة، بعينينِ تلمعانِ بالرجاء، ثمَّ همسَ بصوتٍ مبحوح:
- "هيفوق..متأكِّد من كده.."
شهقت غرام، تضع كفَّيها المرتجفتينِ على فمها، وابتعدت قليلًا وكأنَّها تخشى أن تمنحها كلماتهِ أملًا يخونها..أمَّا إسحاق، فقد أخذَ كفَّ أرسلان بين يديه، ضمَّهُ بقوة، ثمَّ رفعهُ إلى شفتيه، يطبعُ عليه قبلةً عميقة، وكأنَّ قبلتهِ رجاءً خاصًّا يرجوهُ أن يعود، ليهمسَ بخفوتٍ وقلبٍ يأنّ:
- "حبيبي..ألف سلامة عليك..يا ريت أنا الِّلي كنت مكانك.."
انفجرَ بكائهِ كعاصفةٍ اجتاحت حصونهِ التي ظنَّها منيعة..لأوَّلِ مرَّة أمام دينا، التي رأت تهاوي الرجلُ الذي لم ينحنِ يومًا، الرجلُ الذي لم يعرف للضعفِ طريقًا، لكنَّه الآن مجرَّدُ أبٍ تخلَّت عنه قوَّته، ينهارُ أمام ابنهِ المسجَّى، يراقبُ حياتهِ تتسرَّبُ من بين يديهِ كحفنةِ رملٍ تتتسرب من بين انامله
شهقَ شهقةً مكتومة، و الألمُ يسحقُ صدره، يشعرُ بأنَّ الضلوعَ تضيقُ على قلبهِ في محاولةٍ لكتمِ نحيبه، لكنَّه لم يستطع، استندَ بكفِّه يتألَّم، ليصلَ إلى جبينه، ولكنَّه سقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير، لترتفعَ شهقاته، اقتربت دينا وغرام سريعًا منه، ولكنَّه أشارَ لهما بالابتعاد، ثمَّ بسطَ يديهِ وأمسك ِبيد أرسلان الباردة، ضمَّها إلى وجنتيهِ ودموعهِ تتساقطُ فوقها كرجاءٍ أخير.. "أرسلان..حبيبي آسف ياحبيب عمَّك، كنت عارف الموضوع صعب، وعارف حياتك هتكون في خطر ورغم كدا بعتَّك هناك، حبيبي متعملشِ فيَّا كدا، يالَّه حبيبي فوق، عمَّك هيموت من غيرك، لسة فيه حاجات كتيرة عايز نعملها مع بعض..
دلفت فريدة يجاورها إلياس، ولكنَّها
توقَّفت في مكانها، وكأنَّ الزمنَ قد توقَّف من حولها، ترى ذلك المشهدَ بقلبٍ مضطربٍ وعينينِ غارقتينِ في الدموع، هل هذا اسحاق الذي كان يهدِّدها، الآن هو جاثيًا على ركبتيهِ بجوارِ ابنها، الرجلُ الذي يهابهُ الجميع، الرجلُ الذي لم يُرَ يومًا إلَّا واقفًا شامخًا، صلبًا كالصخر، يركعُ الآن بقلبٍ خاضعٍ منكسرٍ بحزنٍ أمام صغيرها..
تسارعت أنفاسها وهي تراقبُ تلك اللحظةِ التي لم تكن تحلمُ برؤيتها، لحظة سقطت فيها الأقنعة وظهرَ الوجهُ الآخر للرجل..الذي اعتقدت يومًا أنَّ الرحمةَ لا تعرفُ طريقًا إليه، امتلأت عينيها بالدموع، لكنَّها لم تكن دموعُ خوفٍ أو صدمة، بل كانت دموعُ امتنان، دموعُ أمٍّ رأت لطفَ اللهِ يتجلَّى أمامها في أبسطِ صورةٍ وأعمقها في آنٍ واحد.
خطت خطوةً بالقربِ منهما، وقلبها يعتصرُ بين الألمِ والدهشة، رفعت يدها المرتعشةِ تغطِّي فمها، وكأنَّها تمنعُ شهقةً كادت تفلتُ منها، وهي تستمعُ إلى رجاءِ وتوسُّلاتِ اسحاق لابنها، صغيرها الذي لطالما خشيت عليه من بطشِ الزمن، ها هو اليوم ينالُ حنانًا من رجلٍ لم تكن تظنُّ أنَّه يملكه.
تذكَّرت الليالي التي أمضتها تدعو الله بحمايةِ أولادها، أن يضعَ في طريقهم من يخشى عليهم كما تفعل هي..
واليوم..ترى الإجابة أمامها، في مشهدٍ لم تكن تتخيَّلهُ حتى في أعمقِ أحلامها.
بصوتٍ مرتعش، بالكادِ استطاعت أن تهمس:
"سبحانك ربي..كم أنت رحيمٌ بعبادك!"
نظرَ إليها إلياس، كأنَّه قد وجدَ نفسهِ في انعكاسِ دموعها..لم يقل شيئًا، لكنَّه كان يعلمُ أنَّ الله أحنُّ على عبده من الأم...نعم عزيزي القارئ
فحبُّ الله لعبادهِ ورحمتهِ بهم لا حدودَ له، وهو أقربُ إليهم من أنفسهم، يسمعُ دعاءهم، ويعلمُ خفايا قلوبهم، ويغفرُ زلاتهم إذا تابوا...قال تعالى: "ونحن أقربُ إليه من حبلِ الوريد" فاللهُ أقربُ إلينا بعلمهِ ورحمته، فلا يحتاجُ العبدُ إلى وسيطٍ بينه وبين ربِّه..
ومن رحمتهِ أنَّهُ يفتحُ أبوابَ التوبةِ في كلِّ لحظة، يقولُ النبي ﷺ: "إنَّ الله يبسطُ يدهِ بالليلِ ليتوبَ مُسيءَ النهار، ويبسطُ يدهِ بالنهارِ ليتوبَ مسيءَ الليل" (رواه مسلم).
إذا ضاقت بك الدنيا، فاذكر أنَّ اللهَ معك، يسمعُ أنينك، ويرى دموعك، ويرحمُ ضعفك، ويفرِّجُ كربك..فهو الرحمنُ الذي لا تتبدَّلُ رحمته، وهو الغفورُ الذي لا ينفدُ عفوه، وهو الودودُ الذي يحبُّ عبادهِ أكثر مما يتخيَّلون.
اللهمَّ اجعلنا من الذين يحبونكَ ويأنسونَ بقربك، ولا تحرمنا لذَّةَ مناجاتكَ ورحمتكَ الواسعة.
اقترب منه إلياس يربتُ على كتفه، ثمَّ ساعدهُ بالجلوسِ على مقعده، لم يقل شيئًا سوى:
-رجَّعوني أوضتي...قالها ليدفعَ المقعد إلياس، بينما اقتربت غرام من فريدة تبكي بشهقاتٍ مرتفعة، ضمَّتها فريدة تمسِّدُ على ظهرها بحنانٍ أمومي قائلة:
-أرسلان هيفوق صدَّقيني، عمره ربِّي ماخذلني، أنا واثقة في رحمة ربِّي حبيبتي، ادعي وقولي يارب عبدك بين رحمتك، فارحمه، ماهو إحنا عايشين برحمة ربِّنا، ربِّنا أحنّ على عبده أكتر من أيِّ حد...قالتها بشرودٍ ومشاهدُ الماضي من خطفِ أبنائها تمرُّ أمامَ عينيها..
عدَّةَ أيامٍ أخرى والوضعُ كما هو...
ذهب إلياس إلى عمله، وقلبهِ مثقلًا بالهموم، وكأنَّهُ منشطرٌ نصفينِ بين ألمِ أمِّه الساكنة بجوارِ أرسلان، وغضبه المكبوتِ تجاه كلِّ ما يجري حوله.. ثلاثةُ شهور وأرسلان لا يزال في غيبوبة، محنةٌ لا يعلمَ إن كانت ستنتهي أم لا..زفرَ بضيقٍ وهو يركنُ سيارتهِ أمام عمله، نزلَ منها بخطواتٍ مثقلة، وكأنَّ الأرض تلتصقُ بقدميهِ، لا يريدُ أن يصابَ بفراقِ أخيه..
وصل إلى مكتبهِ وباشرَ عملهِ محاولًا الالتهاءَ بقضاياه، ورغم انشغاله، لكنَّ عقله ظلَّ معلَّقًا بحالةِ أرسلان، قطع شرودهِ رنينُ هاتفهِ الحاد، نظر إلى الشاشةِ بجمودٍ قبل أن يجيبَ بلهجةٍ مقتضبة:
- خير؟ في حاجة؟
أتاهُ صوتُ أحدِ رجاله متردِّدًا:
- مدام رانيا مش مبطَّلة تخبيط على الباب من الصبح، ومن امبارح رافضة الأكل خالص.
أغمضَ عينيهِ للحظة، لكن سرعان ما اكتسى وجههِ بجمودٍ قاسٍ..فرك جبينهِ بتوتُّرٍ قبل أن يتمتمَ ببرودٍ متصنِّع:
-خلِّيها تموت، مش ناقص قرف على الصبح.
قالها وهو يغلقُ الهاتف بعنف، ثمَّ التقطَ هاتفًا آخر واتَّصل بأحدِ رجاله:
- إيه آخر أخبار راجح؟
أتاه الردُّ سريعًا:
- مفيش يا باشا، بيبني مصنع جديد للمجمَّدات، من الشغلِ للبيت، والخدَّامة بتقول إنُّه بقى قليل الخروج جدًا، عكس الأوَّل..
قبضَ إلياس على القلم في يدهِ بقوَّة حتى كاد ينكسر، أخذ نفسًا عميقًا وأردفَ بحزم:
- فتح عينيك كويس، أيِّ خبر حتى لو تافه عايز أعرفه.
أنهى المكالمة وألقى الهاتف على المكتب، ثمَّ أسند ظهرهِ للكرسي وحدَّق في السقفِ بشرود..همس لنفسهِ بسخريةٍ مريرة:
- يا ترى بترتب لإيه يا راجح؟ هل هتسمع كلام ابنِ الدمنهوري وتقتلني، ولَّا أخيرًا هتعمل حاجة صح في حياتك؟
قاطعهُ طرقاتٍ على الباب ليدخلَ شريف دون انتظارِ إذن، متوجِّهًا إلى مكتبهِ وجلس قبالتهِ وهو يسأل باهتمام :
-أرسلان عامل إيه؟
هزَّ إلياس رأسه، ومسحَ على وجههِ بتعبٍ وردَّ بصوتٍ خافت:
-زيِّ ماهو، مفيش جديد...
لم يعلِّق شريف، لكنَّ الحزنَ في عينيهِ كان كافيًا، وكأنَّ الكلام صار بلا فائدة.. اعتدل في مقعدهِ وحدَّق فيه بحدَّة وأصدرَ أمره:
- عايزك تنقل طارق الشافعي في حبس منفرد، وممنوع زيارات، حتى من راجح نفسه.
تجعَّد جبينُ شريف بقلق وهو يسألُ مستنكرًا:
-ليه؟!
نظر إليه بجمودٍ وقال بصرامةٍ قاطعة:
-من غير ليه، نفِّذ وبس.
اكتفى بإيماءةٍ صغيرةٍ ونهضَ مغادرًا، تاركًا إلياس ليعودَ إلى عمله وهو يهمسُ لنفسه:
-لمَّا أشوف أخرتها معاك إيه ياعمِّي..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ عاد إلياس إلى فيلا السيوفي، بدا عليهِ الإرهاق رغم محاولاتهِ الصارمة لإخفائه، دلفَ إلى الداخل وجدَ ميرال بانتظاره، تطلَّع إليها بعينينِ تنبضانِ بالقلق، من وقفتها وتوتُّرها الواضح..
رفعَ حاجبيهِ متسائلًا بحذر:
- خير..رايحة فين؟!
ردَّت بعينينِ مليئتينِ بالغضب والضيق:
- عايزة أروح لغرام..ماما كلِّمتني وقالت إنَّها تعبت، وإسحاق أجبرها على مغادرة المستشفى..
شهقت وهي تحاولُ تهدئةِ أنفاسها، وتابعت بصوتٍ مختنقٍ بالاستنكار:
- انهارت طبعًا، مش عايزة تسيب جوزها..إزاي يعمل كده؟!..إزاي يبعدها عنُّه وهوَّ في الحالة دي؟!
نظرَ إليها إلياس بصمتٍ لوهلة، ثمَّ زفر ببطء، يحاولُ امتصاصَ ثورةِ غضبها:
- اطلعي غيَّري هدومك..مفيش خروج.
قالها بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه حازم بجملةٍ لا تحتملُ النقاش..واستطردَ بوضوح:
- كويس اللي إسحاق عمله، ثمَّ تابع ببرود، متجاهلًا رعشةَ الغضبِ التي بدأت بالوضوحِ على ملامحها:
- لازم يأمِّن المستشفى كويس..أرسلان دلوقتي مكشوف لناس ماكانشِ ينفع يظهر قدَّامهم..فكده أحسن، كفاية عليه خوفه على أرسلان، ميبقاش الاتنين.
فتحت فمها بدهشة، تكادُ لا تصدِّقُ ما تسمعه، ثمَّ ضاقت عينيها بانفعالٍ وهي تهتف:
- أكيد بتهزر؟!..
حدقها بنظرةٍ قاتلةٍ كانت كافية لصمتها..لكنَّها رفعت ذقنها بتحدٍّ، محاولةً أن تكبحَ رعشةَ الغضبِ في صوتها:
- غرام مش بخير..كلِّمتها عشرين مرَّة وما بتردش!!ملك قالت لي إنَّها منهارة، بتعيَّط ومش قادرة تستوعب اللي بيحصل، إزاي توافق إنُّه يبعدها عن جوزها بالقوة؟!
توقَّفَ في منتصفِ خطواته، واستدار إليها ببطء، يطالعها بنظراتٍ تدلُّ على رفضهِ القاطعِ بملامحهِ الجامدة، وردَّ بنبرةٍ لا جدالَ بها:
- ولو قولت لأ؟ هتعارضيني ياميرال؟!
همست بارتباك، وصوتها ينخفضُ رغمًا عنها:
- إلياس..مش قصِّة معارضة، دي غرام!! مش هقدر أسيبها لوحدها في اللي هيَّ فيه..
قالتها وهي تستجديهِ بعينيها للحظة، لكنَّه لم يكن رجلًا يُقادُ بالعاطفة..ظلَّ يتابعها بنظراتٍ صامتة.
تقدَّمت نحوهِ خطوةً أخرى، أمسكت بكفَّيهِ بين يديها، نظرت إليه بتلك بنظرة مشوبة بالرجاء
- حبيبي، اسمعني..خدني معاك، لمَّا تروح لأرسلان، عدِّي بيا على غرام.. أطمِّن عليها، وبعدها نرجع سوا..
شيء ما في ملامحه تغيَّر، لكنَّه لم يكن ما تمنت..نظر إلى كفَّيهِ المحصورينِ بين راحتيها:
-حبيبك..طيب ياروح حبيبك أكيد مش هغيَّر كلامي، وبلاش شغلِ المراهقين دا، إحنا مش في أوضةِ النوم..قالها مبتعدًا يسحبُ كفَّيه، واستأنفَ حديثه:
-بكرة هوديكي بس دلوقتي صعب أوي تمام..قالها وصعدَ إلى غرفتهِ دون إضافةِ شيئًا آخر..
توقَّفت تطلَّعُ إلى صعودهِ بقلبٍ مضطرب، شعرت بما يشعرُ به، نعم هي تعلمُ أنَّه تحمَّلَ فوق طاقته، جلست لبعضِ الدقائق تسحبُ أنفاسها عدَّة مراتٍ حتى تتحكَّمُ في موجةِ غضبها، ثم نهضت متَّجهةً إليه،
دلفت للداخلِ بخروجهِ من الحمَّام متوجِّهًا إلى غرفةِ ثيابه، تقدَّمت نحوه تفركُ كفَّيها والكثيرُ من الكلماتِ تتوقَّفُ على شفتيها، لا تعلمُ أهي كلماتُ عتابٍ أم رجاءٍ أم غير ذلك، توقَّفت خلفهِ مباشرةً تهمسُ اسمهِ بخفوتٍ متقطِّع..
جذبَ كنزتهِ مستديرًا إليها وأشار بسبَّباته:
-ميرال أنا تعبان ومش قادر أجادل، هتسبيني أرتاح شوية ولَّا أروح المستشفى..
تحرَّكت إلى أن التصقت بجسدهِ تلفُّ ذراعيها حول خصره، ووضعت رأسها بأحضانه:
-أسفة عارفة ضغطت عليك بكلامي، بس واللهِ غرام صعبت عليَّا مش أكتر، وإنتَ عارف أختها صغيرة غير إنَّها عايشة بعيد جدًا عن أهلها، حسِّيت بوحدتها وحبيت أخفِّف عنها، بس بدل إنتَ شايف مينفعش خلاص مش هروح..
رفع كفَّيهِ فوق خصلاتها يمسِّدها، ثمَّ طبع قبلةً فوقها وأردف:
-أنا كمان اتعصبت عليكي، متزعليش منِّي، حقيقي محتاج أنام ساعتين مش قادر أصلب طولي..
رفعت رأسها وطبعت قبلةً على وجنتيه، وابتسمت تنظرُ إليه بعيونٍ لامعةٍ بعشقهِ قائلة:
-ارتاح وأنا هنزل أعملَّك الغدا بإيدي، وكمان أجهز حاجة لماما فريدة..
احتضنَ رأسها مغمضَ العينينِ وتحدَّث:
-مش عايز آكل ولا عايز حاجة غير أنام وبس، وأتمنَّى مراتي هيَّ اللي تنيِّمني..
سحبت كفِّهِ وتحرَّكت إلى السرير، ثمَّ أشارت إلى المنشفة:
-هتنام بالفوطة، يالَّه البس هدومك، وأنا هغيَّر وأرجعلك..قالتها وانسحبت متَّجهةً نحو خزانة ثيابها، دقائقَ معدودة حتى عادت إليه وجدتهُ غارقًا بنومه، اقتربت تجذبُ الغطاءَ فوقهِ بعدما نظرت إلى حرارةِ المكيف، ثمَّ دثَّرت نفسها بأحضانهِ تضعُ رأسها على صدرهِ محتضنةً ذراعيه:
-ربنا يخلِّيك ليَّا يارب، قالتها ثمَّ قبَّلت وجنتيه..ظلَّت بجوارهِ لبعض ِالوقت، بعد فترةٍ نهضت متَّجهةً إلى المطبخ لإعدادِ وجبةِ طعامه.
بمنزلِ يزن..
جلس على طاولةِ الطعام ينظرُ إلى أختهِ التي تتلاعبُ بالطعام، حمحم وهو يلوكُ طعامه:
-كريم كلِّمك النهاردة؟..هزَّت رأسها ثمَّ رفعت عينيها إلى أخيها الأصغر:
-معاذ عايز يقدِّم في النادي لتدريب الكرة، وقالِّي أقول لحضرتك..
مضغَ طعامه، ثمَّ تطلَّع إلى أخيهِ وتمتم:
أشوف نتيجتك الأوَّل، لو كويسة هقدملَّك في النادي، أمَّا لو ماقفلتش انسى حتى اللعب في الشارع،
اتَّجهَ إلى أخته:
-عاملة إيه في الكلية؟..
-كويسة الحمدُ لله، هزَّ رأسهِ عدَّة مرَّات، ومازال يتابعُ هروب عينيها ليهتفَ مردِّدًا:
-زعلانة ليه من كريم؟..
رسمت الذهول ثمَّ جذبت الخبزَ متصنِّعةً انشغالها بالطعام..قطب جبينهِ من صمتها فأردفَ متسائلًا:
-أنا اللي أجِّلت الخطوبة السنة دي، أوَّلًا خال كريم اللي اتوفى، ثانيًا حالة أرسلان، ثالثًا والأهم عايزك تاخدي سنتين على الأقلِّ في الكلية، لأنِّي متأكِّد وقت ماكريم يكتب كتابه هيقول عايز يتجوِّز، ومش هقدر أقولُّه لا..فهمتي قصدي؟..
فركت كفَّيها تهزُّ أكتافها باعتراض:
-أنا مش زعلانة علشان كدا، مين اللي قالَّك الكلام دا؟!.
-كريم..
جحظت عيناها تطلَّعُ إليه مصدومةً بما فعلهُ كريم، نهض من مكانه:
-اعمليلي شاي وتعالي على أوضتي عايز أتكلِّم معاكي شوية، وإنتَ يامعاذ اطلع العب شوية مع صحابك..لمَّا أخلَّص كلامي مع أختك علشان تيجي معايا المستشفى.
مرّت أيَّام أخرى، والحال كما هو... أرسلان لا يزال غائبًا، معلَّقًا بين الحياةِ والغيبوبة..بغرفة فريظة
تجمَّعَ أولادها حولها في المستشفى، يحاولونَ التخفيفَ عنها، وكلًّا منهم يُخفي وجعهِ خلف ابتسامةٍ باهتة.
وفي المساء دلف زين برفقةِ آدم وإيلين، وجوههم مشبعة بالشوقِ والقلق.
اقتربَ زين الذي يطالعها بنظرةٍ حزينة، ينطقُ بصوتٍ دافئ:
– حمدَ الله على السلامة يافريدة.
ابتسمت له ابتسامةً واهنة، وكأنَّها تُجاهدُ لتظهرَ قوَّتها:
- الله يسلمك يابنِ عمِّي.
تقدَّم َمصطفى من خلفهم، احتضنَ كفَّ زين برفق، ثم تنحَّى جانبًا ليتركَ المجال لإيلين..
اقتربت إيلين واحتضنت فريدة بحنان، وهمست بقلبٍ مفعمٍ بالحب:
– ألف سلامة عليكي يا عمِّتو...الحمدُ لله إنك عدِّيتي الأزمة، احنا جينا لحضرتك قبل كدا، بس الدكتور كان مانع الزيارة، انا اتكلمت مع الدكتور، طمني الحمد لله ،بس بجد، لازم تاخدي بالك من نفسك، قلبك مش ناقص وجع أكتر من كده..
تكوَّرت الدموعُ في عيني فريدة، ولم تستطع الرد سوى بهمسةٍ مبحوحة:
- تسلميلي يا حبيبتي...
ثمَّ لاحظت بطنَ إيلين المنتفخة قليلًا، فذهبت ببصرها نحوها وربتت على كفَّيها المتشابكتينِ فوقها، وهمست بدهشةٍ دافئة:
- إنتي...حامل؟!..
قاطعهم آدم وهو يسحبُ مقعدًا ليجلسَ بجانب فريدة:
-عاملة ايه ياعمتو، إنما اللي بيتححز في المستشفى بيحلو كدا
شقت شفتيها ابتسامة، لترفع عيناها إلى زين
-آدم فيه كتير منك يازين ..!!
اومأ زين برأسه قائلًا:
-علشان كدا هيسمي ابنه زين...نقلت فريدة بصرها إلى ايلين قائلة
– مبروك ياحبيبتي؟
ابتسمت إيلين ابتسامةً خجولة، ودمعةٌ فرَّت من عينيها:
– الله يبارك فيكي عقبال ماتفرحي بابنِ أرسلان يارب..
هنا لم تقوَ فريدة على كبحِ دموعها، وبكت بحرقة، قائلةً من بين بكائها:
- ربنا يتمملك على خير يا بنتي... وتفرحي بيه، وتعيشي اللي محروم منُّه قلبي.
اقترب زين، ووضعَ يدهِ على كتفها:
– إن شاء الله أرسلان هيقوم..ويحضر كلِّ لحظة حلوة جاية، أنا واثق من كدا..
ردَّ مصطفى بيقين:
- وأنا متأكِّد من كدا..
سادَ صمتٌ مليء بالرجاء، قبل أن تهمسَ فريدة:
- كلِّمته كتير يا مصطفى، وهوَّ مش حاسس بيا، قولت أروح له أشكي له وجع قلبي يمكن يسمعني، يمكن قلبه يرد عليَّا ويفوق لمَّا يعرف أمه هتموت عليه..
قاطعتها إيلين وهي تمسكُ يدها:
- هوَّ أكيد سامعك...والأمل جواكي هو اللي هيصحِّيه، إن شاءالله ياعمِّتو هيفوق..
-تفتكري بعد الوقت دا كلُّه هيفوق..
قالتها فريدة توزع نظراتها بينهما
ساد الصمتُ في المكانِ لوهلةٍ بعد كلماتها التي لامست قلوبُ الجميع، وامتزجت نظراتهم بالحزن، وارتسمت على وجوههم علاماتُ الشجن، حتى قاطعهم دخولُ إلياس بهدوءٍ مرسومٍ رغم ثقلِ تحرُّكِ قدميه..دلفَ ولكن ليس كطبيعتهِ كأنَّهُ يجرُّ ساقيهِ رغمًا عنه..
تجوَّل بنظرهِ بينهم، ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
- مساء الخير...؟!
التمعت عينا فريدة ببريقٍ لامع، رغم انطفائها منذ سفر أرسلان، تلاقت نظراتها بإلياس، فبادرته بهمسةٍ دافئةٍ اختلط فيها الحبُّ بالحنانِ الأمومي:
-مساء النور عليك...ياحبيبي.
أوقفَ آدم وزين حديثهما مع مصطفى ليردَّا التحية، اقتربَ إلياس وجلس بينهم،أمَّا ميرال اتَّجهت إلى فريدة وانحنت تطبعُ قبلةً حنونةً فوق جبينها:
-عاملة إيه النهاردة ياستِّ الكل، لم ترد على ميرال ولكن عيناها كانت تتأمَّلهُ وكأنَّها تخشى أن يختفي مثل أخيه، شعرَ إلياس بثقلِ تلك النظرات، فابتسمَ بخفَّةٍ ونهض يقتربُ منها، ثمَّ مدَّ يدهِ نحو كفِّها برفق، وهو يقولُ مازحًا:
-لحظة يا ميرال، علشان مدام فريدة راجعة تاني بنظرات السهوكة دي..
ضحكت ميرال رغم الألم، ونظرت إلى فريدة ممازحة:
- لو ماقالش "مدام فريدة" يبقى ابنك أكيد عيان..
تشابكت أصابعها بكفِّه، ثمَّ نظرت إليه بعمق، وتمنَّت أن تضمُّه، علَّها تجدُ به رائحةَ أخيه، ولكن خاب تمنِّيها حينما جلسَ بجوارها وتحدَّث بنبرةٍ ثابتةٍ علَّه يخرجُ حزنها:
-مش لايق عليكي الرقدة دي، إحنا عدِّينا الليفل دا، يعني دا كان زمان علشان تتأكِّدي إننا خايفين عليكي، دلوقتي ليه الضعف والبؤس اللي حضرتك بتحاولي تبينيهم!!
-إلياس إيه اللي بتقوله دا؟!...نطقتها ميرال بنبرةٍ غاضبة، ولكنَّه لم يهتم ومازالت نظراتهِ صوبَ فريدة وتابعَ مستطردًا:
-فريدة السيوفي مش ضعيفة للنوم دا، لازم توقف على رجليها..قاطعته عندما ألقتهُ بسؤالها الذي جعلهُ
عاجزًا عن الرد:
- لمَّا رحت لأخوك...كان زي ما هوَّ، يعني إنتَ ما اتكلمتش معاه؟..قالتها بانسيابِ دموعها..
صمتَ لبعضِ اللحظات..ودارت نظراتهِ بالغرفة يتهرَّبُ من النظرِ لدموعها التي أضعفته، حتى وقعت عينيهِ على مصطفى وزين اللذان كانا منشغلانِ بأحاديثهما الجانبية، لفَّت وجههِ بعدما علمت بثقلِ كلماتها عليه، ثمَّ تساءلت مرةً أخرى:
-مش بتردِّ على أمَّك ليه يابنِ جمال؟..إنتَ مفكَّرني مش حاسة بيك، انحنى ليطبعَ قبلةً دافئةً على جبينها، وقال بصوتٍ مكسوٍّ بالأسى:
- ماما...أرسلان اتصاب قبل ماأسافر، يعني لا أنا شُفته...ولا هوَّ شافني.
هزَّت رأسها بدموعها قائلة:
- قولت لك قلبي وجعني عليه، بس إنتَ قولت إيه وقتها، بطَّلي ترسمي الدور، قولِّي أعمل فيك إيه دلوقتي..
-اللي إنتي عايزاه...لفظها متوقِّفًا ثمَّ توجَّهَ بنظرهِ إلى زوجته:
-عندي شغل مهم، ماتخرجيش من غير حراسة، وخلِّي بالك من يوسف...قالها واستدارَ معتذرًا من الجالسين وغادرَ المكان..
نهضَ مصطفى بعدما شعر بالأسى بخطواته، واتَّجهَ إلى فريدة وميرال:
-إلياس مشي ليه؟!..
ضغطت ميرال على شفتيها تمنعُ دموعها، الآن شعرت بكمِّ الألمِ الذي يحملهُ فوق طاقته..هزَّت رأسها قائلة:
-هشوف النانا برَّة مع يوسف..قالتها وتحرَّكت سريعًا خلفهِ علَّها تلحقُ به..
بالخارجِ وصل إلى سيارتهِ فتحها ولكنَّه توقَّفَ حينما استمعَ لصيحاتها باسمه:
-إلياس..تلفَّتَ ظنًّا أنَّ بها شيئًا..ولكنَّها هرولت إليهِ ولم تكترث لوجودِ بعض الأشخاصِ وألقت نفسها بأحضانهِ تهمسُ إليه:
-متزعلشِ من ماما، عارفة أنا ضغطت عليك من شوية وكمان ماما..
تراجعَ يُخرجها من أحضانهِ بعدما وجد النظراتِ مصوَّبةً عليهما ثمَّ تحدَّث:
-مش زعلان..خلِّي بالك منها، وعدِّي على أرسلان، روحت أشوفه لقيت طنط صفية هناك، اتحرجت، يبقى ألقي نظرة عليه، وخلِّي بالك من الممرضات متثقيش في أيِّ مخلوق..
أومأت لهُ وتراجعت للخلف
بفيلا راجح..
دلفت الخادمة إليه مردفة:
-زين باشا برَّة عايز يقابل حضرتك ياباشا.
لوَّح بيدهِ بالانصراف دون حديثٍ ثمَّ أغلقَ حاسوبهِ ينظرُ بغموض:
-ياترى إيه اللي جابك يازين بعد خناقتك الأخيرة معايا؟..نهضَ من مكانهِ وتحرَّكَ للخارج وجدهُ يقف ينظرُ للحديقة، اقترب منهُ قائلًا بنبرةٍ تشوبها الغرابة:
-زين واقف برَّة ليه، إيه خلاص بنيت عدواة معايا ومش عايز تدخل؟!..ماهو راجح بقى الوحش في العيلة؛ بعد ماصدَّقت مرات جمال ومشيت ورا كلامها..
استدارَ إليه زين يرمقهُ بنظرةٍ غاضبة:
-راجح ماتستخفش بزين، أنا جاي بسأل سؤال وتجاوب عليه..اقتربَ يحدجهُ بنظرةٍ ناريةٍ واستطرد:
-فين رانيا، وإزاي تدفن أختي من غير ماأشوفها، إيه البجاحة اللي إنتَ فيها دي؟!..
قطبَ جبينهِ يردِّد جملته، ثمَّ تراجعَ يضعُ كفوفهِ بجيبِ بنطاله..ويلتفتُ بنظراتهِ بجميعِ الاتجاهاتِ قائلًا:
-إيه، كنت عايزني أسيب الجثة تتعفن، حضرتك مكنتش موجود؛ وأنا روحت لابنك لحدِّ عنده حتى طلبت أنُّه يساعدني في الإجراءات، أكيد ابنك قالَّك..
-راجح ماتلفش وتدور، ليه مااتصلتش بيا وأنا كنت أنزلك على أوَّل طيارة؛ إنتَ استغليت سفري لرحيل اللي حضرتك فضلت وراها لحدِّ ماطفشتها من البلد..
-لا..لا استنى يازين أنا مش هسمح لك إنَّك تتهمني بسفر رحيل، روح اسأل الواد الصايع اللي كانت متجوزاه عمل فيها إيه..
-راجح، قولت لك بلاش تستهبل زين، أنا عرفت كلِّ حاجة، عرفت تهديدك وخطف أختِ الواد علشان يطلَّق رحيل، عارف كلِّ بلاويك..
-أنا معملتش حاجة، لو عندك إثبات قدِّمه.
-بقى كدا..أخرجَ سيجارهِ ينفثهُ بالهواءِ الطلق، ثمَّ رمقهُ يهزُّ رأسهِ باستخفاف:
-أه كدا..وصل إليهُ زين وحدجهُ بتعمُّق:
-بتغلط وهتندم ياراجح ..قالها وتحرَّكَ مغادرًا المكان..لحظات واستمعَ الى رنينِ هاتفه:
-أيوة ياراجح، الدنيا تمام، وجه الأمر من فوق، لازم تصفِّي الواد اللي هبعتلك صورته حالًا، والليلة دون تهاون بالأوامر، ياإمَّا كدا، ياإمَّا تقول على نفسك يارحمن يارحيم.
أغلقَ الهاتف، يطبقُ عليهِ بقوَّة، يجزُّ على أسنانهِ يهتفُ بفحيح:
-نفسي أخلَّص عليكم وأنتهي من قرفكم بقى، شوية أجناس حقيرة..استمعَ إلى رنينٍ بوصولِ رسالة، فتحَ الهاتف، ينظرُ بالصورة لتجحظَ عيناهُ بذهول:
-جمال!!..دقائق واقفًا بجسدٍ مشدودٍ وذكرياتُ الماضي تصفعهُ بقوَّة، ذكرى مؤلمة مرَّت أمامَ ناظريهِ كفيلم سينمائي حينما علمَ سببَ موت جمال لأوَّل مرَّة، وتمرُّ سنوات إلى أن يصلَ الأمر إلى موتِ ابنه..دارَ حول نفسهِ يحدِّثُ نفسه:
-يعني عرفوا أنهم ولاد جمال، طيب هتموُّته ياراجح، طب المرَّة اللي فاتت مكنتش تعرف، إيه..هتسمع كلامهم، هتموِّت ابنِ أخوك، لا، لا، فوق ياراجح، إنتَ تهدِّد أه، بس تموِّتهم لا..
ظلَّ دقائق يحدِّثُ نفسهِ كالمجنونِ الذي فقدَ عقلهِ إلى أن وصلت سيارة لبعضِ الأشخاص، ترجَّل منها أحدهم:
-الأوامر اللي عندنا نتحرَّك بعد دقايق، قدَّامنا خماستشر دقيقة داخل المستشفى، علشان في الوقتِ دا رجالتنا تعرف تتعامل كويس..
-ولو رفضت العملية؟..نطق بها راجح اقتربَ الرجلُ قائلًا:
-اتِّصل وعرَّفهم، معنديش أوامر بكدا، أنا هنا تحت أوامر معاليك ياراجح باشا، ظلَّ يدقِّقُ في الرجلِ بشرودٍ إلى أن رفع هاتفهِ مرةً أخرى يتحدَّثُ مع أحدهم:
-طارق خلال يومين يبقى برَّة السجن، وأكيد إنتَ عارف أنا هموِّت مين..
ارتفعت ضحكاتُ الآخر ثمَّ قال:
-معلش ياراجح بتحصل في أحسن العائلات، ماهو ياروحك ياروحهم..
عند إلياس..
ظلَّ عدَّةَ ساعاتٍ منكبًّا على عملهِ إلى أن أُنهكَ جسده، أمسكَ هاتفه وتحدَّثَ إلى الأمنِ الخاص به ليطمئنَّ على الجميع، أجابهُ أحد أفرادِ الأمن:
-كلُّه تمام ياباشا، مدام ميرال رجعت البيت مع إسلام باشا ويزن باشا كان معاهم، وإسحاق باشا لسة خارج من حوالي دقيقتين بالظبط، قال هيروح يغيَّر هدومه ويرجع تاني، ومصطفى باشا في أوضة فريدة هانم..
سحبَ نفسًا وزفرهُ بهدوء، ثمَّ نظرَ بساعةِ يدهِ قائلًا:
-قدامي ساعة وأكون عندك، فتَّح عيونك كويس، ماتقوفشِ تحت وبس، كلِّ عشر دقايق تطلع فوق، خلِّي بالك من أوضة فريدة هانم وأرسلان..
-عُلم ياباشا..قالها وأغلقَ الهاتف، ليعودَ إلياس إلى عملهِ مرَّةً أخرى، بعضُ دقائق منهكة إلى أن عادَ بجسدهِ مغلقًا عينيهِ يتنفسُ بهدوء، حتى غفا لدقائقَ معدودة بمكانه..
توقَّف يستندُ برأسهِ على الزجاجِ الشفَّاف، ينظرُ إلى الطبيبِ الذي يحاولُ إنعاشَ جسدِ أخيه، دقيقة خلف دقيقة، وكأنَّه يسيرُ فوقَ فجوةٍ بركانيةٍ ينظرُ إلى الطبيبِ بقلبٍ ينتفض، إلى أن وضعَ الطبيبُ جهازَ الصدماتِ متَّجهًا ينظرُ إليه بأسى:
البقاء لله...
كلماتٌ ماهي سوى حروفٍ باهتة، لكنَّها شقَّت صدرهِ كما لو أنَّها خنجرًا في خاصرته..
قالها الطبيب ومضى، أمَّا هو...وقفَ كمن سُلبت روحه، عيناهُ تبحثُ في الفراغِ عن معنى الكلمة التي أحرقتهُ
كأنَّ الأرضَ تبدَّلت فجأة..وشعر بثقلٍ بصدره، كأنَّ الهواءَ أثقل من أن يُتنفس.
كيف لفقدٍ واحدٍ أن يُطفئَ كلَّ أضواءِ الدنيا؟!..
كيف لحياةٍ كانت تمضي بثبات، أن تتهاوى فجأةً تحتَ وطأةِ الفراق؟!
لم يعد يسمع من حوله، لا بكاء، لا مواساة،
كلُّ شيءٍ بدا بعيداً...إلَّا صدى من رحل، لا يغيب، لا يهدأ.
توقَّف بجمودٍ لايبكي، لايصرخ،
لكنَّه ينهارُ بصمت، كمن يحملُ جبلاً من الحزنِ فوق صدره،
ولا أحد يشعرُ به سوى الذي مرَّ بتلك التجربة...هبَّ من نومهِ مستغفرًا ربه، بسطَ كفِّهِ الذي ارتعشَ رغمًا عنه يرتشفُ بعض قطراتِ الماءِ بصعوبة، ثمَّ نهضَ من مكانه يحملُ سلاحه، وتحرَّكَ سريعًا للخارج..
وصلَ إلى المشفى خلال دقائقَ معدودة، أنفاس سريعة متلاحقة، وعيناهُ تنبضُ بالقلق، ترجَّلَ من سيارتهِ يتلفَّتُ حوله، يراقبُ كافةَ الاتجاهات.. استقبلهُ رجلَ الأمنِ الخاص به، وقال بصوتٍ يحملُ مزيجًا من الاحترام :
-حمدَ الله على السلامة ياباشا.
أومأَ برأسهِ دون حديث، ومضى كالعاصفة، بخطواتٍ واسعة، كطائرٍ فقدَ عشُّهِ ويحاولُ اطمئنانَ قلبه، وصل إلى غرفةِ والدته، فتح بابها ببطء، وجدها نائمة، يسكنها الهدوء، فزفرَ بحرقة، حينما وقعت عينيهِ على المقعدِ الذي بجوارها، ليجد والدهِ غارقًا في النوم، رأسهِ مائل ويداهُ متشابكتانِ على صدره، كأنَّه غفا رغمًا عنه.
تراجعَ بهدوء، وعيناهُ معلَّقتانِ عليهما، ثمَّ اتَّجه نحو غرفةِ أرسلان..
دلفَ بخطواتٍ مرتجفة، وقلبًا يئنُّ بالألم، استمعَ إلى صوتِ الأجهزة الذي يملأُ الغرفة..
اقتربَ من السرير، وعيناهُ تحترق.. جسدهِ على ذاك الفراشِ الأبيض، كأنَّ الموتَ مرَّ عليه ثمَّ قرَّر أن يمنحهُ مهلة..
اقتربَ ثمَّ انحنى لأوَّل مرَّة، وطبع قبلة فوق جبينهِ بدموعٍ متحجِّرة في عينيه:
- أرسلان…طوِّلت أوي…مش متعوِّد منَّك على كده..فوق بقى.
شهقَ بخفوت، وكأنَّ صوتهِ كسرَ شيئًا في داخله:
- إيه!! مش ناوي تقتل راجح؟ طيب، قوم…واللهِ لأخلِّيك تقتله، يلا فوق، أنا ماصدقت اتلمينا..
جذب المقعد بعدما أخرج سلاحه يضع بجوار الفراش، وجلس يتطلع إليه ارتجفت أهدابُ أرسلان، وتحرَّكت شفتيهِ الجافتينِ بصوتٍ يكادُ يُسمع:
-أشرب…
اتَّسعت عينا إلياس، وفاضت ضحكةٌ صغيرةٌ من بين دموعه، ضحكة امتزجت بالذهولِ والفرحةِ والاشتياق، نهض من مكانه، وضعَ جبينهِ فوق جبينِ أخيه، ونطقَ بهمس:
-يخرب بيتك…ما تقومش غير لمَّا قولت لك هتموِّت راجح؟! ياريتني قولتلك من زمان…قالها بابتسامة..
فتحَ أرسلان عينيه، ثم أغمضهما، ثمَّ أعادَ فتحهما، يقاومُ الإضاءة..
مسحَ إلياس على رأسهِ بحنانٍ جارف، كأنَّه يطبطبُ على جرحهِ قائلاً:
- حمدَ الله على سلامتك…إنتَ كويس؟ هكلِّم الدكتور حالًا..
تلفَّتَ أرسلان بعينيهِ بالغرفة:
- أنا فين؟…إنتَ جيت إزاي؟..همس بها بصوت خافت متقطع من أثر التعب
– اسكت دلوقتي، هشوف الدكتور… وراجعلك.
مدَّ يدهِ لفتحِ الباب، لكن صوتَ اندفاعِ الباب قاطعه، اندفعَ ثلاثةُ رجالٍ بقوَّة للداخل، يرتدون زي الاطباء، طالعوه مذهولين،من وجوده، لأنهم يعلمون أنه بالمكتب...انتاب إلياس ريبة من اشكالهم، فاقترب يوزع نظراته بينهم
-انتوا مين، لكن لم تكن لديهم فرصة للجواب إذ أخرجَ أحدهم سلاحه، ولكن دفعَه إلياس وأسقطهُ، ونشبَ صراعًا بينهما، اقتربَ أحدهم،، بيدهِ إبرة يتَّجهُ بها نحو أرسلان؛ ليهتفَ الآخر الذي يقاتلُ إلياس بعد دفعهِ للآخر:
- خلَّص عليه بسرعة لازم نتحرَّك..
لكن إلياس كان أسرعُ منهم، ليصدمَ أحدهم بالجدار، ويركلَ الآخر ليصلَ إلى ضربِ “الطبيب” برأسهِ بقوَّةٍ على الحائط، ثمَّ عاد إلى خصمهِ الأوَّل في اشتباكٍ دامٍ، عنيف، صراع على الحياةِ والموت، لإنقاذِ أخيه..
حاولَ أرسلان النهوض، ولكن جسدهِ ثقيل، خانتهُ عضلاته، خانتهُ قوَّتهِ الضعيفة، كلَّ مااستطاعهُ هو أن يراقبَ أخاهُ يقاتل لأجله، وقعت عينيهِ على سلاحِ إلياس الذي وضعهُ على الكومودينو بجوارِ الفراش، أرادَ أن يصلَ إليه…لكنَّه لم يستطع، حاول الاعتدالَ بصعوبة، بسطَ كفِّهِ يزحفُ بجسده حتى وصل إليه يلتقطهُ سريعًا، حملهُ بيدٍ مرتعشة، ورغم شعورهِ بألمٍ يفتكُ به، رفعهُ مع ارتعاشِ جسدهِ بالكامل، ويطلقُ رصاصتهِ ولكن لم تصب هدفها، ليصلَ الرجلَ الذي أسقطهُ إلياس أرضًا إليهِ ويقومَ بضربهِ بقوَّةٍ على صدره؛ لم يحتاج أرسلان إلى الكثير ليتألم كاملَ جسدهِ يصرخ، مع اندفاعِ الدماء من صدرهِ وغمامةً تضربهُ بقوَّة، لتسودَ عليه صورةُ إلياس وأحدِ الرجالِ يقومُ بطعنه..
طعنةٌ مباغتة اخترقت جنبهِ بعدما قام بإلواءِ عنقِ أحدهم ليقعَ صريعًا حتى يصلَ إلى إنقاذِ أخيه، ولكن طعنةَ الغدرِ شقَّت جنبه، يتلوَّى، يتألَّم، والدمُ ينزفُ بقوة..لم يرحمهُ الرجل
بل رفعَ سلاحهِ الأبيض من جديد، عندما حاولَ إلياس الدفاعَ عن نفسه، لكن ترنَّحَ جسدهِ وفقدَ السيطرة مع كلماتِ الرجل:
- جيت أقتل واحد، بس دلوقتي… هقتل الاتنين.
همسها وهو يرفعُ السلاح بطعنةٍ غادرةٍ أخرى ليهوى بجسدهِ كاملًا؛ يضربُ الأرضيةِ مع اندفاعِ إسحاق يصدحُ صوتهِ مع رجلِ الأمنِ الخاص:
- إلياااااااس!
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
الأماكنُ لا تساوي شيئًا،
إن خلتْ ممّن نحبُّ،
والحنينُ...
هو ذاكَ الشعورُ الدافئُ بالشوقِ،
لشخصٍ ما،
لمكانٍ ما،
لشعورٍ عابرٍ،
لحُلمٍ مضى،
لأشياءَ تلاشتْ، واندثرتْ،
لكنّ عطرَها
ما زالَ يملأُ ذاكرتَنا ومكانَنا...
نتمنّى أن تعودَ إلينا،
وأن نعودَ إليها،
في محاولةٍ بائسةٍ
لإحياء لحظاتٍ جميلة،
لزمانٍ رائعٍ
أدارَ ظهرَهُ لنا،
ورحلَ كالحُلمِ الهادئ...
فإنْ كانَ النسيانُ
قافلةً تمضي،
فالحنينُ...
قاطعُ طريق.
❈-❈-❈
اتَّسعت حدقتا إسحاق كأنَّهما على وشكِ الانفجار، وارتجَّ جسدهِ مع اندفاعِ فريقِ الأمن إلى الغرفةِ كعاصفةٍ هوجاء، توقَّفت عينيهِ عن الرؤية سوى جسدِ إلياس الداني، تقدَّم بخطوةٍ أثقلُ من أن تحملها قدماه، وقلبهِ يدقُّ كطبولِ القيامة، ولم تتزحزح عينيهِ عن الجسدِ المسجَّى وسطَ بركةٍ من الدماء، هامدًا لا حراكَ فيه، وكأنَّ الحياةَ قد لفظته.
اقتربَ أكثر، وانحنى يرفعُ رأسهِ المرتخي بين يديهِ المرتجفتين، ثمَّ تمتمَ بصوتٍ مخنوقٍ كأنَّ حنجرتهِ تختنقُ بكلِّ حرف:
- إلياس...سامعني؟ إلياس؟! رد عليَّ...
كرَّر النداء، ليفتحَ إلياس عينيهِ بإرهاقٍ يُقاومُ الموت، همسَ بنبرةٍ ضعيفة، ولكنَّها لم تصل اليه، حاول رفعَ كفَّيهِ المرتجفتين، يشيرُ إلى جسدِ أخيه الذي سقطَ مطروحًا كدُميةٍ محطَّمة، وعليها آثارُ عذابٍ لا تُحتمل..
- أرسلان...
همس بها، وكأنَّ اسمهِ آخر ما تبقّى له من الدنيا، ليغمضَ عينيه، وغاص في ظلامٍ عميق
وصل همسهِ إلى إسحاق، لتخترق أذنيهِ اسمَ فلذةِ كبده، كالسيفِ يخترق السكون، تجمَّد واستدارَ برعب، ورفع رأسهِ ببطء، حتى سقطت عينيهِ على دماءٍ متناثرة، وفراشٍ ملطَّخٍ بالدماء، ناهيك عن صوتِ إنذارٍ يملأُ الفراغَ بأزيزِ الجنون، لحظة اثنين ثلاثة ليفيقَ من بشاعةِ المشهد ويهبَّ فزعًا..
يصرخُ بجنون..بصوتٍ خرج من أعماقِ روحه، صوتٌ تمزَّقَ فيه القلب قبل الحنجرة:
- دكتوووور!!
قالها بصرخة زلزلت المكان، ارتجَّت لها الجدران، لو استمعت اليه الطيورُ لتفزع في السماء، وترتعد الأرواحُ النائمة..
ثوانٍ فقط...واقتحم الأطباءُ الغرفةَ كجيشٍ جاء من القيامة، يحملونَ بين أيديهم ما بين الحياةِ والموت، ما بين الرجاءِ والقدر..مع دخولِ مصطفى مفزوعًا يتجوَّلُ بعينيهِ في الغرفةِ التي أصبحت ساحةً لمعركةٍ دامية..
خطا بخطواتٍ ثقيلة..واقترابِ الجميع من الغرفة بعد حدوثِ هرجٍ ومرجٍ مع أصوات الطلقاتِ النارية بالداخلِ والخارج، اباختلاط انذار الأجهزة
اقترب مصطفى ببطء، كأنَّ خطواتهِ تقودهُ إلى جهنم، لا إلى جسدِ أبنه، توسَّعت عيناهُ بفزع، لا تُصدِّقُ ما ترى، وهو ممددًا، لا يتحرَّك، كأنَّ الحياةَ قد انسحبت من جسدهِ وتركتهُ بارداً، خاليًا من النبض.
ارتجفت ركبتيهِ وسقطَ على الأرضِ كمن خارت قواه، بل كمن سقط قلبهِ قبل جسده، وانحنى فوق إلياس، لا بجسده، بل بروحٍ تحترق، وهمس باسمهِ وتمنَّى بتلك الهمسة أن تكون قادرة على إعادته:
إيلي...إلياس...، ابني ...
قالها بنبرةٍ مبحوحة، يشعرُ بشروخِ نبرته، وكأنَّ حلقهِ تمزَّق من الداخل.. وفي لحظةٍ كالإعصارِ دخل إسلام كمن انسلخَ عن عقله، يركضُ إلى أخيه، ولكن منعهُ المسعفون، إلَّا أنَّه دفعهم و سقط، يزحفُ حتى وصل اليه، بصراخهِ كالطفلِ وهو يجذب جسدَ أخيهِ إلى حضنه:
لااااا!! مستحيل! مستحيل! إلياس افتح عيونك، إلياس إنتَ قولت لي إيه..قالها بصرخاتٍ كالذي فقد عقلهِ تمامًا، هجم عليه الأطباء مع المسعفون، يحاولونَ منعهِ الوصولَ إلى جسدِ إلياس، لكن إسلام التصقَ به كأنَّهم سيخطفونهُ للأبد..
تأزَّم الوضعُ في حالة ضياعٍ وانهيارٍ بالكاملِ لمصطفى الحاضرِ الغائب، وكأنَّه ليس موجودًا بالمكان، ولكن إذا رأى أحدًا حالته، سيقسمُ أنَّه يعاني من خروجِ الروح من الجسد، عيونهِ التي تبدَّلت وارتعاشةِ جسدهِ بالكامل، حتى سقط يرتجفُ يتمنَّى من الله أن يصيبهُ بالعمى من ذلك المشهدِ الباكي ..
سحبَ المسعفونَ إلياس بصعوبة من بين يديهِ متَّجهينَ به إلى الفراش، مع صرخاتِ إسلام، ولكن أوقفهُ الطبيب محذِّرًا إياه:
-خرَّجوه برة..أنا مقدَّر حالتكم بس لا..
عايزين نشوف شغلنا، لازم نعرف إذا في نبض، لسة عايش ولَّا مات..
اقتربَ إسلام يريد أن يطبقَ على عنقهِ وهو يصرخ:
- لأاااااااااا!! هوَّ عايش، سامعني! إلياس سامعني!!
ومع تلك الكلمات، دوى صوتُ طبيب اخر:
لسه عايش الحمدُ لله لازم ننقله عمليات بسرعة..
وقعت الكلمات على قلبِ مصطفى كالسهمِ المسموم، تحجَّرت عينيه، وانطفأت روحه، وهزَّ رأسهِ مرارًا، هامسًا لنفسه:
عايز ابني، ابني لازم يعيش يادكتور، سامعني، لازم ابني يعيش..
-إن شاء الله سيادةِ اللوا.
نظر إلى إسلام وهو يبكي كطفلٍ فُجع.. كأنَّهُ فقدهُ للأبد، وارتفاع شهقاتهِ كانت شروخًا في قلبِ مصطفى الذي فقد الحركة والشعور ، أغمضَ عينيهِ يهربُ من صوت ابنه، وبكائه، نظر إلى ارتعاشةِ يديهِ الملطَّخة بدماءِ ابنه، ثمَّ صاحَ فجأة بصوتٍ أفزعه:
-باااااس، مش عايز أسمع صوتك، إنتَ إيه يالا، طفل، أخوك لسة عايش..هدأت نبرتهِ واختتقَ صوتهِ وهو يتمتم:
-أيوة لسة عايش، إلياس لسة عايش، مش عايز نفس، ابني عايش سمعتني، امسح دموعك إيَّاك أشوفك بتعيط، أومال سبت إيه لغادة وفر..ارتجفت شفتيهِ وتوقَّف لسانهِ عن تكملةِ اسمها، يستندُ على الجدارِ متوقِّفا:
-لله الأمرُ من قبل ومن بعد..ربِّي لا أسألك ردَّ القضاء ولكن أسألك اللطف فيه..
اقتربَ ينظر لوالدهِ بأسى، وألقى نفسهِ بأحضانهِ يبكي:
-هيقوم يابابا، أنا عارف أنُّه هيقوم..استدار يتَّكئُ على الجدارِ يجرُّ خطواتهِ بصعوبة، إلى أن وقعت عينيهِ على المسعفينَ يركضونَ بجسدِ أرسلان، يحملونه وكأنَّهم يحاولون أن أن يسرقوا من فمهِ الموت، همس اسمهِ بصراخِ قلبه حينما وجد الأطباءَ يحاولونَ إنعاشَ قلبهِ الذي توقَّف، أطبقَ على جفنيه:
-كتير على قلبك يافريدة، إذا إحنا وكدا، اللهمَّ إنِّي أشكو إليكَ ضعفي وقلَّة حيلتي " قالها وسحب جسدهِ بصعوبة، كمن يُساقُ إلى غرفةِ إعدامه، فكيف سيواجهُ زوجتهِ بعدَ الذي حدث..
دقائقَ معدودة حتى انقلبت المشفى إلى جحيمِ صفَّارات، وصُراخ، أقدام تركض، ضباط يقتحمونَ المكانَ بعد تسرُّبِ الخبر.
أصبحت المشفى سكنة عسكرية، وجوهٌ جامدة، وعيونٌ تفتِّشُ على يدِ الغدر التي فعلت ذلك، وأسئلة لا صوتَ لها: "من فعل هذا؟"، "كيف؟"، "لماذا؟".
أمَّا الحقيقة، فكانت تصرخُ في أذهانِ الجميع:
"من لا يملك قلبًا، لا ينتمي لدينٍ ولا وطن."
بمنزلِ يزن..
جلسَ على جهازهِ يُنهي بعض أعماله، استمع إلى رنينِ هاتفه، حملهُ مبتسمًا بعدما وجد اسمها ينيرُ فوق شاشته، فتحدَّث:
-أوعي تقولي وحشتك، أنا لسة سايبك من ساعتين تقريبًا...نهضت ميرال من جوارِ طفلها وتحرَّكت إلى الشرفة، رفعت أناملها تعيدُ خصلاتها التي تطايرت بسبب الهواء وأجابته:
-أكيد وحشتني، بس أنا ماتصلتش علشان كدا..
تراجعَ بجسدهِ يستمعُ إليها باهتمام بعدما أحسَّ بنبرةِ صوتها الحزين، حمحمَ قائلًا:
-سامعك حبيبتي محتاجة حاجة، هوَّ إلياس رجع ولَّا لسة؟..
جذبت المقعدَ وجلست عليهِ تتجوَّلُ بعينيها في الحديقةِ قائلة:
-لا..لسة بس احتمال يبات الليلة هناك، عمُّو مصطفى بقاله فترة طويلة أوي مرجعشِ بيته، قالِّي لازم يقنعه، حتى قالي هلعب على وتر ابنها ولازم أكون جنبها..فبكدا عمُّو مصطفى هيوافق ويرجع يرتاح شوية، المهم مش دا اللي عايزة أقولَّك عليه..
-أنا سامعك خير فيه حاجة؟..
أخرجت تنهيدة شقَّت صدرها، لتقول:
-رؤى يايزن، رؤى لازم نقعد نتكلِّم معاها، بقت صعبة أوي ومبتسمعشِ منِّي أيِّ كلمة، وخايفة إلياس يعرف تغيُّرها يقلب عليها، خلِّي بالك هوَّ سامحها المرَّة اللي فاتت علشان أنا اتحايلت عليه، بس أفعالها تجاوزت كلِّ الحدود، تخيَّل بقت تسهر وترجع بعد الساعة اتناشر، لسة راجعة من شوية، وحمدت ربِّنا إنِّ إلياس مش هنا.
أجابها معترضًا على حديثها:
-أنا طلبت أخدها عندي وإنتي اللي رفضتي ياميرال..قاطعتهُ ممتعضة:
-كنت محتاجة أقرَّب منها، قولت يمكن لمَّا نقرَّب من بعض أعرف أشيل الحقد اللي جوايا منها، بس دلوقتي بقت تتمادى، أنا مش هتحمِّل تماديها دا.
-هيَّ عملت إيه ياميرال مخليكي مضايقة منها كدا؟..
حاولت تغيير الموضوع وسحبهِ إلى حديثٍ آخر فأردفت متسائلة:
-بكرة تيجي نتكلِّم معاها مع بعض، ونشوف هيَّ ناوية على إيه، وكمان لازم تقولِّي إيه اللي حصل بينك وبين رحيل، مجتشِ فرصة تحكي لي بسبب اللي حصل لأرسلان وماما فريدة..
نظر بشاشةِ هاتفهِ بعدما استمع إلى انتظارِ مكالمة فأجابها سريعًا:
-تمام بكرة هجيلك ونتكلِّم معاها، معايا تليفون مهم هكلِّمك تاني..
-أوكيه..قالتها وأغلقت الهاتف تنظرُ للخارجِ بشرود، بينما أجاب يزن سريعًا على هاتفه:
-فيه إيه، عرفت أخبار عن رحيل؟..
-لا ياباشا، المستشفى اللي فيها أرسلان الجارحي مقلوبة، كلِّمني حد من فريقِ الأمن وقال أرسلان الجارحي حدِّ حاول يقتله، رحت علشان أتأكد للأسف الوضع هنا صعب أوي..
هبَّ من مكانهِ يصرخ به:
-إنت بتنقَّطني ماتقول إيه اللي حصل عندك، أنا كنت هناك من ساعتين.
-للأسف ياباشمهندس، فيه حد هجم على أوضة أرسلان الجارحي وإلياس باشا اتصاب وحالته خطيرة جدًا، عرفت أنُّه بالعمليات...لم ينتظر تكملةَ حديثه، حمل هاتفهِ وتحرَّك للخارجِ مع مهاتفةِ كريم، بخروجِ إيمان التي خرجت على صوتهِ العالي:
-أبيه يزن فيه حاجة؟..نظرَ إلى هاتفهِ الذي أعطاهُ انشغال كريم بمكالمة، ثمَّ أشارَ على يدها:
-اقفلي مع كريم عايزه ضروري، قالها واتَّجه إلى دراجتهِ البخارية ومازال يحاولُ مهاتفةَ كريم:
-أيوة قابلني في المستشفى اللي فيها أرسلان الجارحي، فيه حد حاول يموِّته..
❈-❈-❈
عند ميرال..
نهضت من مكانها ودلفت إلى غرفةِ طفلها، راقبت نومهِ للحظات ثمَّ انحنت تقبِّله، تمرِّرُ أناملها على خصلاتهِ مرَّةً وعلى وجنتيهِ مرَّة، ظلَّت تحدجهُ لفترةٍ وثغرها مبتسمًا ترى فيه صورةَ زوجها المصغَّرة، رفع ذراعيهِ يتثاءب، فشقَّت ابتسامتها على طفولتهِ البريئة..أشارت إلى مربيَّته:
-خلِّيكي جنبه لحدِّ ما يروح في النوم، ولو جاع أكَّليه فواكه، بلاش أكل تقيل علشان ينام براحته، ومتنسيش اللبن، أنا حضَّرته له وجبته جاهزة..
-حاضر يامدام..تحرَّكت للخارج ونظراتها مازالت متعلِّقة عليهِ إلى أن خرجت وأغلقت البابَ خلفها، قابلتها رؤى تحملُ قهوتها، توقَّفت أمامها متسائلة:
-فين الشغالة؟..معقول مفيش حد يعملي فنجان قهوة!..خطت من جوارها قائلة:
-هوَّ جريمة تعملي لنفسك قهوة، أنا مشيتها، والدتها تعبانة، ومش محتاجاها، أنا طول الوقت برَّة من شغلي للمستشفى، وكمان إلياس، ولمَّا بيرجع مابحبِّش حد يعملُّه حاجة..توقَّفت واستدارت إليها تحدجها واستطردت:
-من وقت مااتجوزنا وهو مبقاش ياكل غير من إيدي..قطبت جبينها تشيرُ إليها:
-معقولة ياميرال بتوقفي في المطبخ، علشان تعملي أكل!!..
رفعت ميرال حاحبها مستغربةً ردَّها فأجابتها:
-أنا اللي مستغربة كلامك، يعني المفروض عشتي فترة كبيرة في الملجأ، المفروض الموضوع يكون عادي لمَّا أقوله، مش تكبر زي مابتتكلِّمي، اقتربت خطوةً منها وتابعت حديثها:
-وعلى العموم أنا بكون سعيدة جدًا، وأنا شايفة جوزي مش عجبه أكل غير أكلي..
-والله، ومن إمتى دا، مش شايفة إنِّ إلياس متحكِّم زيادة عن اللزوم؟..
أفلتت ضحكةً صغيرة تهزُّ رأسها ساخرةً من حديثها:
-متحكِّم، ياشيخة مش شايفة الكلمة كبيرة أوي عليكي، مابلاش إنتي يارؤى، إحنا لسة متكلِّمين في الموضوع دا من كام يوم..خطت خطوةً أخرى إلى أن توقَّفت أمامها ولم يفصلها سوى أنفاسهما وتابعت حديثها:
-رؤى لآخر مرَّة هحذَّرك تدخلي بيني وبين جوزي، وعلى فكرة إنتي من بكرة هتنقلي عند يزن، هوَّ عايزك عنده، شايف إنِّك الأولى تقعدي عند أخوكي مش جوز أختك..
-واللهِ ياميرال، بتطرديني من بيت إلياس..وياترى بتطرديني خوف ولَّا..قاطعتها ميرال ترفعُ أناملها بتحذير وارتفعت نبرتها حتى احمرَّ وجهها من الغضب:
- ولا كلمة، وبلاش أحلامك الهبلة الغير منطقية، وبعدين دا مش بيت إلياس دا بيتي أنا، اللي متعرفهوش كتبه باسمي من أوَّل مانقلنا هنا، حتى لو بيته ماهو جوزي وليَّا الحق أقعَّد اللي يريَّحني؛ واللي ميريحنيش زي حضرتك أقولُّه مع السلامة..
-أفهم من كدا إيه ياميرال؟..
استدارت للمغادرة ونطقت:
-أخوكي أولى بيكي، على الأقل لو قعدتي قدَّامه بقميص نوم اسمه أخوكي..توقَّفت وأدارت رأسها ترمقها باحتقارٍ وتمتمت بنبرةٍ مشمئزة:
-بدل ماأقعد في بيت راجل غريب وأظبَّط مواعيده وأخرج له بحجج فارغة، عيب عليكي احترمي حتى الدم اللي بينا، وافتكري إنِّ دا جوز أختك..بس لحدِّ كدا وكفاية، إلياس مبقاش عايزك في البيت..
-كدَّابة..قالتها سريعًا واقتربت منها وهتفت بنبرةٍ خرجت غاضبة اخترقت صدرَ ميرال حينما قالت:
-إنتي اللي ألَّفتي كدا، خايفة..ماهو هتفضلي خايفة منِّي، ماأنا البنت اللي كانت هتخطف جوزك، اقتربت أكثر وبخَّت حديثها كالسمِّ القاتل:
-إيه نسيتي لو إنِّك مانتحرتي كنت زماني مراته وإنتي برَّة حياته، وقتها كان فين الحبِّ اللي بتقولي وتنفخي نفسك بيه، أنا متأكِّدة هوَّ اضطر يكمِّل معاكي بعد تحذير الدكتور له، ماهو ياحرام حاولتي بدل المرة تلاتة تتخلَّصي من حياتك، كان لازم يجاريكي لحدِّ مايطمِّن، بس مكنشِ يعرف أنُّه هيتورَّط بابنك..فوقي وبصي لنفسك؛ لولا الدكتور مكنشِ كمِّل معاكي وإنتي متأكِّدة وكلِّنا عارفين أنُّه انجبر يرجع لك..
لطمة قوية على وجهها ثمَّ أشارت إليها بالخروج:
-اطلعي برَّة بيتي حالًا، مش عايزة أشوفك..لوت شفتيها:
-إيه عرِّيت حقيقتك قدَّام نفسك دا لو كنتي مش عرفاها أصلًا..بلاش تنفخي نفسك ياميرال إنتي مش أقلِّ مني، إحنا بنات راجح ياحبيبتي، راجح اللي شردهم، تخيلي واحد هيحب واحدة ابوها قتل ابوه، واغتص. ب امه، دا لو محاولش ينتقم منك وحاول اللي يعمل اللي ابوكي عمله مع أمه يعمله معاكي، ايه مش إلياس حاول يعملها
سحبتها ميرال بقوَّةٍ تدفعها خارج المنزلِ ثمَّ أشارت إلى الأمنِ الخاصِّ بالفيلا:
-خد البنتِ دي ودِّيها عند يزن، ممنوع تدخل بيتي تاني، التفتَت لها قائلة:
-متستهليش الشفقة يابنتِ راجح..قالتها وأغلقت البابَ خلفها بقوةٍ جعلت جسدَ رؤى ينتفض، سحبها الرجلُ إلى السيارة في محاولةٍ منها لإبعاده، ولكن كان الأقوى في السيطرةِ عليها، بينما جلست ميرال خلف الباب تبكي بشهقاتٍ تضعُ كفَّيها على فمها تمنعُ شهقاتها وحديثُ رؤى يخترقُ آذانها:
-إحنا بنات راجح..ظلَّت الكلمات كصوتِ رعدٍ تتذلَّلُ له الآذان..نهضت من مكانها سريعًا، وصعدت غرفتها، وقامت بتبديلِ ثيابها مع إزالةِ عبراتها التي أغرقت وجهها، حملت حقيبتها تضعُ هاتفها بها، هبطت للأسفل متَّجهةً سريعًا إلى سيارتها، تحرَّكت بخطواتٍ مبعثرةٍ، ولم تشعرُ بأنَّ حارسها الشخصي قد اقترب، ظنًّا أنَّها علمت ماحدثَ لزوجها بسبب حالتها التي كانت بها..
ألف سلامة على الباشا ياهانم، إن شاء الله يقوم بالسلامة.
لم تستمع إلى حديثهِ جيدًا، فنبضُ قلبها كان كبركانٍ يثورُ بداخلها، يشوِّشُ كلَّ شيءٍ من حولها..
فتحت باب السيارة بجسدٍ مرتعش، فتقدَّم هو ووقفَ أمامها مشيرًا إلى المقعدِ الخلفي قائلاً:
-أنا هوصَّل حضرتك للمستشفى، مينفعشِ تسوقي وإنتي في الحالة دي..
تمتمَ بها لتشعرَ بها كطعنةٍ في صدرها، فأشارت له بالابتعاد، وقد عجزَ لسانها عن النطقِ للحظات، تحاول لملمةَ شتاتها، ثمَّ همست بصوتٍ خافتٍ بالكادِ وصل أذنه:
-أنا...عايزة أسوق..تعالَ ورايا..
قالتها وصعدت إلى السيارة دون أن تضيفَ كلمةٍ واحدة..
مرَّت الدقائقُ وهي جالسةً في مقعد القيادة، لا تتحرَّك..
فقط دموعها تنسابُ على وجنتيها، وكأنَّها نارٌ تحرقها من الداخل..
رفعت الهاتفَ بيدٍ مرتجفة، أرادت أن تحادثه..أن تسمعَ صوتهِ فقط، تشتاقُ لاحتضانه، لصوتهِ الحنونِ يربتُ على قلبها الهش، لا تريدهُ أن يبتعدَ الآن، لا تريدُ من هذا العالم سوى شيءٍ واحد...هو فقط ...
مرَّ الرنينُ عليها كدهرٍ وهو لم يجب عليها، تحرَّكت بالسيارة بعدما فقدت الأمل في الوصولِ إليه، تمنَّت لو أنَّ لديها أجنحة لتطيرَ اليه، تلقي نفسها بأحضانه.
بعد فترةٍ وصلت إلى المشفى، ولكن توقَّفت تلتفتُ حولها بذهول من كمِّ الأمن الذي يحاصرُ المشفى، ازداد نبضها ظنًّا أنَّ أرسلان أصابهُ مكروه، خطت بعض الخطواتِ للداخل، ولكن أوقفها الأمن يهتفُ بنبرةٍ غاضبة:
-ممنوع الدخول ياأستاذة، قسم الطوارئ بالجهة التانية.
قطبت جبينها باعتراض وأتت للتحدُّث ولكن قاطعها رجلُ الأمن الخاص بها:
-ابعد يابني دي مدام إلياس باشا السيوفي ..
دقَّق بملامحها للحظات ثمَّ رفع نظرهِ للرجلِ قائلا:
"معنديش أوامر أدخَّل أيِّ مخلوق!"
صرخ به الأمني بصرامة، واقترب ليعترضَ طريقها بجسده، لكنَّها لم تتحرَّك، بل نظرت إليه بنظرةٍ ممزوجةٍ بالدهشة، فتحت فاهها للرد ولكن قاطعها صوتُ رجلِ الأمنِ الحادِّ الغاضب:
"مين رئيسك؟ دي مدام إلياس السيوفي، من حقَّها تدخل."
أخرج بطاقتهِ ببطء،ثمَّ أكمل:
"وأنا رئيس طقمِ الأمن الخاص بالباشا، ولَّا علشان متصاب هتتحكِّموا فينا؟!"
تدخَّل الآخر، يعترضُ بنبرةٍ لا تخلو من الاتهام:
"طيب، بدل حضرتك رجل أمن وعارف خطورة الوضع، مش من حق أيِّ حد يدخل قبل ما نتأكِّد إنِّ المستشفى خالية من الخطر، ولَّا ناوي تضحِّي بيها زي جوزها؟"
تجمَّد الزمن حولها للحظة...
"زي جوزها؟"
الكلمة ضربت داخلها كطلقةٍ باردة.. نظرت لهم بحدَّة، تتساءلُ بعينيها قبل لسانها:
"هوَّ إيه اللي بيحصل؟ إزاي تمنعني أدخل، إنتَ متعرفش أنا مين؟"
التفتت نحو رجلها الخاص، الذي شحُبَ كأنَّ روحهِ انسحبت وهتفت:
"اتِّصل بإلياس، خليه ينزل يشوف ليه مش عايزني أدخل!"
نظر إليها بعينيهِ التي تريدُ أن تخبرها بشيءٍ لا يُقال، ثمَّ التقت نظراتهِ بعينِ رجلِ الأمن، الذي تنحَّى جانبًا وأشارَ لها بالدخول..دون كلمة..
تحرَّك الرجلُ معها بصمت، عيناهُ تراقبُ الأجواء..
المستشفى انقلبت في دقائق لثكنةٍ عسكرية...ظلَّا يتحركانِ إلى أن أوقفهم المسؤولُ صارخًا:
"مين سمح لكم تدخلوا؟ اتفضلوا برَّه بدل ما نعمل مشكلة!"
اقتربَ رجلها منه، همس بنبرةٍ محذِّرة وهو يُخرجُ بطاقتهِ مرَّةً أخرى:
"مدام إلياس...هي متعرفشِ اللي حصل، أرجوك خلِّيها تطلع."
تحوَّلت نظراتُ المسؤولِ نحو ميرال، التي كانت تتابعهم دون فهم، يدها على هاتفها، تحاولُ الاتصالَ بإلياس... ولكن لا رد..
ضغطت أكثر، قلبها يضربُ صدرها كطبولِ الحرب.
اقتربت، ثمَّ صرخت بنبرةٍ مخنوقة:
"أنا ميرال السيوفي، وماما محجوزة فوق، لازم أطلع لها!! بحاول أوصل لجوزي ومش عارفة هوَّ فين، إحنا مش مجرمين!"
أشارت على نفسها، وعيناها تدمع:
"أكيد شكلي مش شكلِ مجرمة؟!"
تبادلَ الرجالُ نظراتٍ سريعة، ثمَّ أشار أحدهم لرجلِ الأمن:
"معاهم ياابني لحدِّ فوق."
تحرَّكت بجانبه، بخطواتٍ سريعة، تتساءل:
"هوَّ فيه إيه؟ أرسلان وماما كويسين؟"
التزم الرجلُ الصمت، وصمتهِ كان أفظع من أيِّ جواب، جعل قلبها يصرخُ من الخوف..تحرَّكت حتى وصلت إلى الطابقِ المنشود، خرجت من المصعد تخطو في أوَّلِ الردهة، ولكن توقَّفت حينما وقعت عيناها على مشهدٍ شعرت بخنقِ أنفاسها:
يزن يحتضنُ إسلام، ويحاول السيطرةَ عليه، وجهُ إسلام محمَّر، وعيناهُ دامعتان
خطت نحوهم بخطواتٍ ثقيلة رغم استعجالها، وكلَّ سيناريو مرعب يعصفُ برأسها...
هل أصابَ والدتها مكروه؟ هل أرسلان بخير؟
وقفت أمامهم، ووزَّعت نظراتِ القلق والرجاء عليهما ثمَّ تساءلت بصوتٍ مرتجف:
"ماما...ماما حصلَّها حاجة؟"
تجمَّد جسدُ يزن، وجحظت عيناه...
نسيَ تمامًا أنَّها لم تعرف بعد..
نسيَ أنَّ صدمتها ستصبحُ أكبر ماتتحمَّله..
❈-❈-❈
ميرال ردَّدها مقتربًا منها، جيتي إزاي؟..
تذكَّرت رؤى، فأردفت بصوتٍ مختنقٍ بالكادِ خرج من بين شفتيها، لكنَّه اخترقَ أعماقَ يزن كالسهم، حينما أردفت:
-لسة واصلة، عايزة إلياس، كلَّمته كتير ومبيردش، تنهَّدت بحزنٍ وتابعت:
-أنا روَّحت رؤى بيتك..ولكنَّها توقَّفت بعدما أدركت وجوده:
-إنتَ هنا بتعمل إيه؟..إحنا كنَّا بنكلِّم بعض من نصِّ ساعة تقريبًا، ومقولتش إنَّك جاي، ثمَّ وقعت عيناها على إسلام الذي تراجعَ يزيلُ دموعه، محاولًا السيطرة على بكائهِ أمامها:
-إسلام ماله؟!..اقتربت منهُ وأمسكت ذراعه:
-ماما فريدة كويسة، أوعى يكون حصل لها حاجة، إسلام، ماما فريدة كويسة؟..
هزَّ رأسهِ دون حديث، يبتعدُ بنظراتهِ عن مرمى عينيها، شهقت تتطلَّعُ إليه:
-ياربي أرسلان، أيوة هو، علشان كدا إلياس مابيردش، حسِّيت إنِّ فيه حاجة في المستشفى..دول منعونا من الدخول، بس معرفشِ أحمد قالُّهم إيه..
سحبتهُ من ذراعه:
-إسلام..فين إلياس تلاقيه دلوقتي هيتجنِّن على أخوه، أنا عارفة ومتأكدة مهما يحاول يداري، دقَّقت بملامحهِ بعدما كثُرت دموعهِ بغزارةٍ على وجنتيه..
-هوَّ إنتَ مابتردش عليَّا ليه؟..انتقلت ببصرها إلى يزن الذي يطالعها بألمٍ يشقُّ صدرهِ ثمَّ قالت:
-هوَّ حالته خطيرة أوي كدا يايزن، إيه اللي حصل، هوَّ مش كان كويس؟..
أنتوا مابتردوش عليَّا ليه؟..خطت قائلة:
-أنا لازم ألاقي جوزي دلوقتي، لازم أكون جنبه، قالتها وتحركت بعض الخطوات
تجمَّد يزن مكانه، للحظة شعر بأنَّ قلبهِ سيخرجُ من صدرهِ من حديثها:
-استني ياميرال..مش هتلاقيه.
ضاقت عينيها بتعجُّبٍ وهي تراقبُ ملامحَ إسلام الباكية، ووجههِ الشاحب، نظراتهِ الشاردة بكافَّةِ الاتجاهات، فسألتهُ بقلقٍ خانق:
– في إيه ياإسلام، معقول كنت بتحبِّ أرسلان أوي كدا؟
ولكن توقَّفت عن الحديثِ عندما وصلت الممرضة، وبكلماتٍ قليلة، ألقت قنبلتها:
– أنتو قرايب الظابط اللي انضرب، فين والده أو أيِّ حد قريب من الدرجة الأولى؟..ابتلعَ إسلام ريقهِ بصعوبة، وأجابها بنبرةٍ تصرخُ بالألم:
-أنا أخوه، وبابا جاي أهو، هوَّ فيه إيه؟..
-هوَّ المريض كان بكلية واحدة؟..
شهقت ميرال، والتفتت تنظرُ للممرضة وكأنَّها تتحدَّثُ بلغةٍ أخرى، تطلَّعت إليها بعينينِ مذهولتينِ تجاهدُ لفهمِ ماقيل، بينما إسلام، لم يستطع أن يتنفَّس، وكأنَّ شيئًا ثقيلًا ضربَ صدرهِ حتى أخرج شهقةً كشهقةِ إخراجِ الروح، ليضعَ يدهِ فوق فمه، محاولًا منعَ صرخةٍ حارقةٍ من الانفجار،
ليرتجفَ جسده، ممَّا جعل قدميهِ لم تساعدهُ على الوقوف..فتراجعَ يصطدمُ بالجدارِ بقوةٍ بعدما علمَ بما حدث..
بينما ميرال التي التفتت ببطء تتساءل:
-هوَّ مين اللي بتتكلِّمي عنُّه؟!..
ردت الممرضة سريعًا
-الظابط اللي انضرب من شوية، للأسف محتاجين حدِّ من أقاربه.. الدكتور عايزه ضروري..قالتها بوصولِ مصطفى الذي يتحرَّكُ بتثاقلٍ كأنَّ عمرهِ زاد الضعف متسائلًا بنبرةٍ مكسورةٍ متقطِّعة:
-فيه إيه يابنتي؟..
-حضرتك لازم تنزل الاستعلامات..
-ليه ؟!
-مش حضرتك والد حضرةِ الظابط إلياس السيوفي، قالتها بعدما نظرت بدفترها، ثمَّ أكملت:
-الحالة محتاجة حضرتك ضروري يافندم.
استدارت ميرال بجسدها كلِّه، على كلماتِ الممرضة الذي يتردَّدُ كصفعةٍ قاتلة، وكأنَّها نطقت حكمًا بالإعدام حينما قالت:
– للأسف...الكلية التانية متضرِّرة جدًا، وهنضطَّر نستأصلها...
توقَّفت، ثمَّ ختمت حديثها المُدمي:
– أتمنَّى تلاقوا متبرع في أقرب وقت، الدكتور هيفهم حضرتك اكتر مني
صدمة بل صاعقة ضربتهم حتى شعروا باهتزازِ جسدهم الذي كان يصرخ لهم بكمِّ الوجع:
-إنتي قصدك مين؟!
تساءلت بها ميرال بجهل..
اقترب يزن يحاوطُ جسدها، يضمُّها وأردف:
-هيكون كويس إن شاءالله حبيبتي..
-هوَّ مين؟! قالتها بتيه تنظرُ إلى مصطفى الذي شعرَ وكأنَّ الأرضَ تُسحبُ من تحت قدميه..
وميرال التي كانت على وشكِ الانهيار، طالعتهم بوجه شاحبًا كأنَّ الدم فارق ملامحها..
أمَّا إسلام، فقد انهارَ تمامًا، وخرج صوتهِ مكسورًا، نحيب في هيئة كلمات:
-يعني ممكن يموت ...قالها اسلام بتقطع
القسم الثاني من الفصل 42
أيها الجريء لا تخلق اعذارا لظلمك ولا تلقى الملامه على الاخرين لا تغمض عينك وانظر إلى كل مايدور من حولك لأنك تدرى بأن بلاؤك من صنع يديك اصنعت شئ لم ترى له ظلاً اغرست بذرة ولم تحصدها كل ما صنعت من روحك وجسدك وسيأتي اليوم ترى فيه البلاء كطفل
جلال الدين الرومي
تحرك مصطفى يجر ساقيه التي تلتصق بالأرض، متوجهًا نحو غرفة الطبيب، فتح الباب ودلف بنظرات مرتجفة إلى الطبيب، ناهيك عن قلبه الذي ينتفض بزعر داخل قفصه الصدري
-خير يادكتور؟!
تسائل بها بعيونًا ضائعة..تنهد الطبيب متأسفًا..ثم أشار إليه بالجلوس
-اقعد ياسيادة اللواء، مش خير ..
خرَّ مصطفى على المقعدِ حينما خانتهُ ساقيه بعد أن أثقلهما الوجع، وشحُبَ وجههِ وكأنَّ الحياة ذبُلت فيه، ارتفعت عينيهِ إلى الطبيبِ وتمتمَ بصوتٍ مبحوح:
– للهِ الأمرُ من قبل ومن بعد...ربِّي، لا أسألك ردَّ القضاء، ولكن أسألك اللّطف فيه.
تقدَّم يزن إليه مسرعًا، وقد اكتسى صوتهِ بنبرةٍ تُخفي الحزن:
-عمُّو لازم تقوى،
أمَّا ميرال بالخارج، فوقفت ساكنة تحدِّقُ بهم بذهول، بجبينٍ معقود، وكأنَّها لم تستوعب مايُقال، فتبعت خطواتهم بوجهٍ جامدٍ وعينينِ تائهتين، وكلماتُ الممرضة تصدحُ بأذنها..هزَّت رأسها بالرفض:
-لا..أكيد ماتقصدشِ إلياس..قالتها بنبضٍ يضربُ صدرها بقوةٍ كادت أن تخترقَ عظامها..
دلفت إلى غرفةِ الطبيب..
وجدت مصطفى يجلس كالميِّتِ الحي، بوجههِ الشاحب، وعيناهُ الزائغتانِ اللتان لا تُركِّزان، رفع عينيهِ إلى الطبيبِ وتمتم بنبرةٍ خرجت من بين شفتيهِ مثقلةً بوجعٍ لايُحتمل:
-خير يادكتور، طمِّني..
اعتدلَ الطبيب، وعدَّلَ نظارتهِ الطبية، وسحب نفسًا عميقًا كأنَّ صدرهِ قد ضاقَ بالكلمات، ورغم ذلك قال بصوتٍ هادئ:
– سيادةِ اللواء...أنا مش هلفِّ وأدور عليك، حضرة الظابط كان بيعيش بكلية واحدة، ومع الأسف، نتيجة الاعتداء الوحشي اللي اتعرض له، تأذَّت الكلية التانية بأذى بالغ..وحصل نزيف داخلي شديد، علشان كدا لازم نستأصلها، قبل النزيف مايدمَّر أعضاء تانية
سقطت الكلماتُ كالصاعقة على الجميع، ممَّا جعل ميرال تتطلَّعُ إليهم بعينينِ متسعتين، وتراجعت خطوةً كأنَّها صُدمت بالكهرباء..شهقةٌ خرجت منها، ممزوجةٌ بالذعرِ والرفض:
-هوَّ يقصد مين يايزن!! مين اللي عايش بكلية واحدة غير إلياس؟..هزَّت رأسها رافضةً ما تلفَّظ بهِ الطبيب:
-لا، إلياس كويس، هوَّ عند أرسلان، أكيد يقصد حدِّ تاني..
-حبيبتي ممكن تهدي، إنتي مش شايفة عمُّو مصطفى، ضيَّقت عينيها متسائلة بنبرةٍ متقطِّعة:
-هوَّ..إل ياس..سحب بصره يهزُّ رأسهِ بالإيجاب..انحنت على ركبتيها فجأة، حتى اصطدمت بالأرضِ لتصدرَ صوتًا قويًا مع تراخي جسدها، فقد انهارت قواها، وأمسكت برأسها تهزُّهُ بعنف، كأنَّها تطردُ الكابوس:
– لا..لا! مستحيل!..إلياس كلِّمني من شوية،، تعثَّرت كلماتها وسطَ دموعها، وعقلها يرفضُ التصديق..اقتربَ يزن منها، وحاولَ أن يرفعَ جسدها من فوقِ الارض:
- ميرال، اهدي.
لكنَّها صرخت، وراحت تضربهُ بكفَّيها، بقلبٍ انفجرَ من الألم:
-بيقول إلياس يايزن، إلياس هوَّ اللي يقصده، قولِّي لا مش هوَّ..رفعت رأسها تنظرُ لأخيها بدموعها التي تتدفَّقُ كالشلالِ، تهتفُ بنبرةٍ مغموسةٍ بالألم تترجَّاه قائلة:
-وحياة أغلى حاجة عندك، قولِّي مش هوَّ يايزن، هوَّ كلِّمني واللهِ، وقالِّي هيبات مع أرسلان هنا، علشان عمُّو إسحاق يرتاح، هزَّت رأسها ودموعها كالشلال حتى أخفت وجهها قائلةً بصوتٍ باكي:
-أه هو َّخاف إسحاق يتعب، قالِّي كفاية أرسلان، أنا مش حمل حدِّ تاني، لو كنت أعرف أنُّه جاي هنا علشان يحصل له كدا، كنت منعته..واللهِ كنت منعته حتى لو هيطلَّقني، قالتها وكأنَّ الحياة تنهارُ بين يديها، وقلبها يُسحبُ من صدرها قسرًا..
ضمَّ رأسها لأحضانهِ ينظرُ إلى مصطفى الذي لايقلُّ ألمًا عنها ثمَّ قال:
ميرال...إلياس كان ضحية لمحاولة اغتيال..طعنوه في جنبه كذا مرة، إحنا كنَّا شاكين قبل ماالدكتور يقول..
سقطت الكلمات على قلبها كالسيف..
تراجعت مذعورة، تزحفُ بجسدها الذي اهتزَّ كأوراقِ الشجرِ في مهبِّ الريح، وصرخةٌ خرجت من أعماقها:
-لا...لا..أمسكَ بها يزن مرَّةً أخرى، وأردفَ بصوتٍ مرتجف:
- حبيبتي إن شاءَ الله هيكون كويس، ادعيله، اهدي عايزين نشوف الدكتور عايز يقول إيه..مش هوَّ هيكون كويس يادكتور..قالها يزن يطالعُ الطبيب بعيونٍ مترجية..
- أكيد دا كابوس، لا كابوس، دا كدا هيموت، معندوش كلية تانية، كدا هيموت..ظلَّت تتمتم بها مع انتفاضةِ جسدها، إلى أن انهارت بين ذراعي يزن، تتمسَّك بقميصهِ كطفلةٍ اقتُلعَت من حضنِ والديها وأُلقيت في قاعِ الجُبّ..
نهضَ الطبيب بعد إحضارِ إبرةٍ مهدئة ليغرزها بوريدها ممَّا جعلَ يزن يحملها ويخرجُ بها إلى غرفة أخرى..
عدَّةُ ساعاتٍ مرَّت والجميعُ في حالةِ ترقُّب، عيونهم متشبثة ببابِ غرفة العمليات، بوجوهٍ يكسوها الألم والحزن..
وصلَ زين وأولادهِ بعد أن تسرَّب الخبر، فوجد مصطفى جالسًا على المقعد، بجسدٍ منهكٍ وكأنَّ الحياةَ انسحبت منه..
اقتربَ منه زين يواسيه، ثمَّ جلس إلى جواره، وقال بنبرةٍ خافتة:
- إن شاء الله يقوم بالسلامة...أنا لسه عارف من آدم لمَّا الخبر نزل على المواقع..
أومأ له مصطفى بصمت، ولسانـهِ معقود، لا يقوى على الكلام.
ربتَ زين على كتفهِ بلطف وقال:
– استودعناه عند ربِّنا، وإن شاء الله يرجعلك بالسلامة...
همسَ مصطفى بانكسار:
– اللهمَّ لا اعتراض...
فجأة، دوت صفاراتُ الإنذار من داخلِ غرفة العمليات..
هبَّ الجميعُ مذعورين، وخرجت الممرضة مسرعةً دون أن تنطقَ بكلمة، فيما تدافعت الأسئلة من أفواههم، والقلق ينهشُ قلوبهم..
بمنزلِ راجح..
قبل عدَّةِ ساعاتٍ استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-تمام ياباشا، الولاد خلَّصوا المهمة، بس اتنين ماتوا، والتالت اتمسك..
-يعني قتلوا الظابط؟..تساءلَ بها بتقطُّعٍ وقلبهِ الذي يصفعهُ على ما فعله..
أجابهُ الآخر:
-الاتنين ياباشا، آخر المعلومات أخوه الكبير كان هناك، هقفل معاك علشان أخبر الباشا الكبير، علشان إفراج العفو..
هوى راجح على مقعدهِ عندما اختلَّ توازنه، يدورُ بأنظارهِ بالغرفةِ بأكملها، ولم يشعر بتلك الدمعة التي تحرَّرت من مقلتيه..
-آاااااه..صارخة يطيحُ بكلِّ مايُوضعُ على مكتبهِ وصرخَ بصوتٍ مرتفع:
-ليييييه، ليه عملت كدا، آاااه، ردَّدها عدَّة مراتٍ إلى أن توقَّف يدمِّرُ كلَّ ما يقابلهُ حتى أُنهكَ جسده، وهوى على الأرضيةِ يبكي بصرخاتٍ مرَّة، ويضربُ رأسهِ بالجدارِ مرةً أخرى:
-ليه..مبسوط دلوقتي، بدل ماتنضَّف نفسك بتغرق أكتر وأكتر، المرَّة دي إيدك ملوَّثة بدمِ أخوك وعياله ياراجح، حاولت تبعد ومادوَّرشِ عليهم علشان ماتوصلشِ لكدا، وفي الآخر حصل اللي كنت خايف منُّه، إنتَ قذر ياراجح قذر، قذر علشان سمعت كلام واحدة نجسة زي رانيا لحدِّ ماعرفت..
آااه يارانيا لو لسة عايشة كنت زماني دفنتك حية، هوى برأسهِ على ركبتيهِ يبكي لأوَّلِ مرَّة..يضغطُ بقوةٍ على ركبتيه:
-شوفت يابا ابنك اللي كنت بتتفاخر أنُّه ظابط، النهاردة قتل ولاد أخوه ووافق زمان على قتلِ أخوه، أنا بحمد ربنا إنَّك مت قبل ماتشوف ابنك وصل لإيه..
تراجعَ بجسدهِ مستندًا على الجدارِ يحدِّثُ نفسهِ وابتسمَ ساخرًا:
-كنت عايز تتوب، كنت بتحاول تكبر جنبهم علشان توقَّعهم وتاخد تار أخوك، أهم لعبوا عليك ياراجح وسبقوك وورَّطوك بدم ولاد أخوك، إيه كنت عامل عبيط ومفكَّر أنُّهم مش هيقدروا يموُّتوهم..هنا فاقَ من صدمتهِ ونهض من مكانهِ يدورُ بالغرفة:
-إزاي قتلوهم، هوَّ مش إلياس كان في المكتب؟. الواد قالِّي أنُّه في المكتب، أكيد في حاجة غلط..تمتمَ بها ورفع هاتفهِ وقامَ بالاتصالِ برؤى، لحظات وأجابت على الهاتف:
-أيوة مين؟،،
-رؤى، إلياس السيوفي عايش ولَّا مات؟..
ابتعدت عن الجميع وتحدَّثت بنبرةٍ غاضبة:
-إنتَ اللي عملت كدا، إنتَ اللي بعتّ ناس يموِّتوه؟..
-بقولِّك مات ولَّا عايش؟..جاوبي وبس..
-لسة عايش ياباشا، وإن شاءالله يقوم بالسلامة وينتقم من كلِّ اللي عمل فيه كدا...قالتها وأغلقت الهاتف، ليتراجعَ راجح بهدوء ولا يعلم لماذا ابتسم:
-عايش، عايش..طب جمال اسمه إيه الواد التاني بنسى اسمه..تحرَّك إلى المقعدِ مع دلوفِ رجلهِ الأوَّل المسؤولِ عن عملياتهِ المشبوهة:
-راجح باشا، العيال نفذوا المهمة، بس مفيش خبر يؤكِّد موتهم، بس عيونَّا في المستشفى.
رسمَ ابتسامةٍ ونهضَ من مكانهِ قائلًا:
-هيموتوا ياعوض، العيال اللي اتعيِّنوا للمهمَّة على أكمل وجه وعارفين بيعملوا إيه، المهم سيبك من الموضوع دا، وقولِّي إيه أخبار الدمنهوري مع هشام، لسة فيه خلافات بينهم زي مابيقول؟..
-أكيد ياباشا، ومش بس كدا، دا طرده علشان جالك هنا وهدَّدك.
شقَّت ثغرهِ ابتسامةٍ ساخرة، وتحرَّك نحو البار، يسحبُ كاسًا ويتناولُ ماحرَّم الله قائلًا:
-يستاهل...ثمَّ التفتَ إليه وقال بنبرةٍ آمرة:
-خلَّص الشغل، عايزين نحتفل بالعملية الأخيرة، قبل ماالباشا يقولِّنا هنصفِّي مين المرَّة الجاية..قالها وأشار إليهِ بالخروج..غادرَ الرجل، ليُلقي راجح الكوبَ من يدهِ ويسبُّهُ بعدما خرجَ متمتمًا بهسيسٍ مرعب:
-واللهِ لأندِّمك ياخاين ياحقير، اصبر عليَّا أوصل للِّي عايزه..
عند رحيل..
جلست بمقابلةِ يعقوب يتحدَّثون عن العملِ المشتركِ بينهما، قاطعهم دلوفُ كارمن:
-صباح الخير، هعطَّلكم .توقَّف يرفعُ يديهِ ويجذبها لأحضانه:
-زوجتي الجميلة، أنرتي الشركة كما أنرتي حياتي..راقبتهما رحيل بعيونٍ سعيدة، ثمَّ توقَّفت قائلة:
-طيب نكمِّل بعدين..أوقفها بإشارةٍ من يديه:
-انتظري رحيل..لم نكمل بعد، كارمن ستغادر، ابتسمت إليه زوجتهِ وبسطت كفَّيها بصندوقٍ قائلة:
-Happy birthday
قهقهَ بصوتهِ الرجولي:
-كنت أعلم أنَّكِ لن تنسين..جلست بجوارِ رحيل، بعدما ارتفعَ رنينُ هاتفه، فاعتذرَ مبتعدًا:
-عفوًا..جلست بجوارها وتحدَّثت:
-عاملة ايه، زعلانة منك علشان رفضتي دعوتي
-اسفة كنت تعبانة، ومقدرتش أخرج
-يعقوب قالي كدا، وقالي كمان انك حامل، ألف مبروووك
-ميرسي ..تأففت تنظر إليه وهو يتحدث بعصبية بهاتفه، ثم اردفت
- رغم انه نسي عيد ميلاده، فقولت أعدِّي بهدية، وكانت دي النتيجة، بيزعق في التليفون
ابتسمت رحيل بإعجابٍ لحياتهما ثمَّ تساءلت:
-لسة محتفظة باللهجة المصرية..
-طبعا علشان ولادي، مكنشِ ينفع مايعرفوش لغتهم، غير كمان حفَّظتهم بعض سور من القرآن.
-ربِّنا يبارك لك فيهم، ولادكم كبار؟..
-مش أوي، عندنا بنت وولد.
-ماشاء الله ربِّنا يحفظهم، مسميينهم إيه بقى؟..مش تطفُّل بس يمكن الاسم يعجني..
-ربِّنا يكمِّلك على خير..إحنا معانا جواد اتناشر سنة، وغزل سبعة..
قطبت رحيل جبينها مردِّدةً الاسمين:
-جواد وغزل..وااااو حلوين أوي..
طبعًا...قالتها كارمن بابتسامةٍ سعيدة واستطردت:
-جواد دا اسم عمُّو جواد اللي رباني بعد بابا الله يرحمه، وغزل مراته، إن شاء الله لمَّا ننزل مصر يبقى أعملِّك دعوة وأعرَّفك عليهم..رفعت يديها وكأنَّها تذكَّرت شيئًا:
-غزل دي دكتورة وعندها مستشفى..
ارتشفت من قهوتها تهزُّ رأسها بابتسامةٍ سعيدة:
-أيوة إنتي تعرفيها؟..أيوة صح دي مشهورة جدًا في مصر، ودايمًا بتعمل ندوات طبية عن مرض الكانسر، أكيد عرفتيها من شهرتها؟..
هزَّت رأسها بالنفي وأجابتها:
-لا ..الحقيقة بابا اتجحز عندهم شوية، فافتكرت، بس شكلك بتحبِّيها أوي بدليل إنِّك تسمِّي ولادك على أسمائهم..
-طنط غزل وعمُّو جواد دول معنى يعني إيه حب، وعيلة وحنان، كل حاجة ...على فكرة من وقت حكيتي لي وأنا بفكَّر ولازم نتكلِّم لو بتعتبريني صديقة، بس مش في وجود يعقوب..
-أوكيه..
-إن شاءالله، سعيدة اني اتعرفت عليكي..قاطعهم وصول يعقوب
-رحيل سأخرج، عليك الاستكمال
-فيه حاجة..تسائلت بها كارمن
-نعم..هيا بنا سنخرج
بعد فترةٍ وصلت إلى منزلها تشعرُ بإرهاقٍ بجسدها، قابلتها والدتها:
-حمدَ الله على السلامة ياحبيبتي.
-الله يسلِّمك ياماما..تناولت الخادمة حقيبتها، ثم ألقت نفسها فوق الأريكة..
-حاسة عايزة أنام، معرفشِ النهاردة راسي تقيلة أوي ياماما.
ربتت والدتها على كتفها وأردفت:
-علشان كدا بقولِّك اللي بتعمليه غلط ياحبيبتي، دي أعراض الحمل..
- ماما..قالتها باعتراض حتى لا تتحدَّث والدتها مرَّةً أخرى..
توقَّفت مبتعدةً عنها ثمَّ قالت:
-إنتي كنتي تعرفي بموضوع فريدة السيوفي؟..
رفعت عينيها بجهل وتساءلت:
-مالها؟..أنا معرفهاش غير إنَّها مرات عم..صمتت ولم تقوَ على تكملةِ حديثها، جلست والدتها ترمقها واستطردت:
-حتى اسمه مش قادرة تقوليه، طيب يارحيل الِّلي يوصَّلك إنِّك تكرهي شخص بالطريقة دي..يبقى أكيد عمل فيكي حاجات تانية غير اللي حكيتها، مش موضوع أنُّه اتجوِّزك علشان ياخد الشركة من راجح ..
تنهَّدت بحرقة، وأحداثُ الماضي تضربُ عقلها لينتفضَ قلبها بنبضاتهِ ولا تعلم هنا، لما هذا النبض؟..هل غضبًا ام اشتياقًا؟.قاطعت شرودها والدتها:
-يزن عمل فيكي إيه يارحيل غير موضوع أنُّه خبَّى عليكي أنُّه ابنِ راجح؟..
-وحضرتك شايفة موضوع أنُّه يخبِّي عليَّا دي بسيطة؟..
دقَّقت والدتها النظرَ بهروبها ثمَّ تساءلت:
-رحيل إنتي حملتي من يزن إزاي وإنتي بتكرهيه كدا؟..أوعي يكون اغتص..هبَّت من مكانها منتفضةً رافضةً حديثَ والدتها..
-إيه اللي حضرتك بتقوليه دا ياماما!! أنا تعبانة ومش قادرة أتكلِّم قالتها..ثم صعدت إلى غرفتها هاربةً من نظراتِ والدتها.
دلفت للداخل بعيون متحجرة، هوت على فراشها تبكي بصمت، رفعت كفيها تضعها فوق احشائها
-ياترى اللي هعمله فيك دا صح ولا غلط، حاولت اسامح باباك بس مش قادرة، الخيانة صعبة اوي، بكرة لما تكبر احكي لك ..ابتسمت حينما تذكرت أنها سترزق بجنين، اعتدلت ونهضت متجهة للمرآة، تنظر بهيئتها، تحرك أناملها على احشائها، ثم اردفت
-ياترى هتكون شبهي، ولا شبه باباك، المهم تعرف اني بحبك ومستحيل اتخلى عنك ..استمعت الى رنين هاتفها، فاتجهت والتقطته
-إيلين ..عاملة ايه
-أنا كويسة حبيبتي، بتصل بخالتو مابتردش، ممكن تديلها التليفون عايزاها ضروري
-حبيبتي صوتك ماله، خالو كويس ..
-أيوة الحمد لله، على فكرة ابن عمتو فريدة مضروب وحالته خطيرة
-ابن عمتو فريدة مين
سحبت ايلين نفسا واردفت:
-إلياس السيوفي، ايه يزن مالقكيش
هنا تذكرت حديث يزن، فتحركت إلى والدتها قائلة
-مااهتمتش اصلا، كل اللي اعرفه انه له ابن عم، بس مين ماسألتش
-طيب عايزة خالتو ضروري ..بسطت كفها لوالدتها
-إيلين عايزة تكلمك ضروري
تناولت الهاتف بلهفة بعد الحاحها
-إيلين حبيبتي خير...استمعت إلى شهقاتها فأردفت بتساؤل
-ماما خانت بابا ياخالتو مع ابن الدمنهوري ...هبت من مكانها بعيونا جاحظة ثم تسائلت
-مين قالك كدا...استمعت إلى شهقاتها واستطردت:
-ليه عمو جمال مات ياخالتو، ليه انا عرفت الحقيقة
-مش صح ياحبيبتي، ايه اللي بتقوليه دا، امك مستحيل تعمل كدا
صاحت بغضب قائلة:
-الراجل دا قتل عمو جمال لما منعها تهرب معاه مش كدا
-لا مش كدا يابنت محمود، ومعرفش جمال مات ازاي، وبعدين جمال مركبه غرقت ايه اللي جاب امك في الموضوع...لأنها هي السبب ياخالتو، انا لقيت جواباتها، عمو جمال مات بسبب امي ..هو اتقتل المركب ماغرقتش
-اخرصي يابت واياكي اسمعك تقولي كدا، سمعتيني
بالمشفى عند إلياس..
خرجَ الطبيبُ أخيرًا، والإرهاق خيرُ دليل على صعوبةِ الوقتِ الذي مكثهُ بالداخل..توقَّف مصطفى أمامه:
-خير يادكتور..
-الحمدُ لله النزيف وقف، واستأصلنا الكلية، بس للأسف المريض دخل في غيبوبة..
شهقة أخرجتها ميرال وكأنَّ روحها صعدت إلى بارئها لتتقدَّمَ بخطواتٍ متعثِّرة:
-عايزة أشوفه، مش أشوفه بس عايزة سرير جنبه.
-مينفعشِ يامدام..نطقَ بها الطبيب سريعًا..التفتت إلى مصطفى وعيناها كمجرى لشلالٍ قائلة:
-قولُّه ياعمُّو، قوله خلِّيني جنبه، مش هقدر أتنفس وبينا باب..
جذبَ رأسها لأحضانهِ ينظرُ للطبيب:
-خلِّيها معاه يادكتور، بس عايز أعرف إيه اللي المفروض يتعمل دلوقتي هوَّ من غير كلى؟..
-هنعمل غسيل كلوي كلِّ فترة، نحمد ربنا تأذِّي الكلية ماأثَّرشِ على أعضاء تانية، بس ياريت نشوف متبرِّع بسرعة، الكلية دي كانت مزروعة، مش كدا ..
اومأ مصطفى بعد تذكره بتبرع فريدة له
-ايوة، من هو طفل، جاله فشل كلوي، بسبب دواء غلط، وعملنا زرع كلى،
-لازم نشوف متبرع في اسرع وقت، وإن شاء الله الغيبوبة ماطوِّلش..
-لمَّا أكون جنبه هيصحى، لو سمحت.. قالتها ميرال برجاء
صمتَ الطبيبُ للحظاتٍ ثمَّ هزَّ رأسهِ قائلًا:
-تمام..هخلِّي الممرضة تدخلك كلِّ تلات ساعات عنده شوية، بس مينفعشِ تكوني ملازمة معاه، دا علشانه مش علشان أمنعك..مُعافى إن شاءَ الله..تمتمَ بها الطبيبُ وتحرَّك..لتشهقَ ببكاءٍ مرتفعٍ بأحضانِ مصطفى:
-أنا خايفة أوي عليه، قلبي مش عايز يطمِّني، طفِّي ناري ياعمُّو وقولِّي هيقوم بالسلامة، طمِّني عليه لو سمحت ياعمُّوو..
سحبها يزن من أحضانِ مصطفى بعدما وجدَ حالته، اقتربَ زين يساعدُ مصطفى بالجلوس:
-خير إن شاءَ الله، ربِّنا يحميه ويقوِّمه بالسلامة، بس دلوقتي فريدة إزاي هنقولَّها؟..
-لا لا..فريدة مش لازم تعرف حاجة، دي ممكن تموت فيها.
-خلاص اهدى، إن شاء الله تعدِّي على خير، أنا هنزل أشوف فاروق الجارحي، وأطَّمن على أرسلان، هوَّ خرج من العمليات من ساعتين، والحمدُ لله الدكاترة طمِّنونا، هنزل أبص عليه وأرجع لك..قالها زين وهو يرمقهُ بنظرةٍ متألمة..أومأ مصطفى دون حديث..مما جعل زين ينسحبُ للمغادرة، بينما يزن حاوطَ جسدَ ميرال يجذبها إلى المقعد، أجلسها عليه، وحاوطَ وجهها:
-حبيبتي ممكن تهدي، عايزك أقوى من كدا، مينفعشِ انهيارك دا، لازم تقوي علشان طنط فريدة، وكمان يوسف، ينفع إلياس يفوق وتبقي كدا..
وضعت كفَّها على صدرها تنظرُ لأخيها بعيونها التي تحوَّلت إلى بركةٍ من الدماء:
-دا بيوجعني أوي يايزن، ومش هيبطَّل وجع طول ماهو جوا، أنا ماليش حياة من غيره، قولِّي إزاي أعيش وأتماسك وحياتي مش ملكي، حياتي جوَّا، جوا بين الحيا والموت..
احتضنَ كفَّيها يربت عليهما بحنانٍ أخوي:
-اختبار حبيبتي، ولازم تكوني قدُّه، أنا مكنتش أعرف إن إلياس بكلية واحدة، بس تقبَّلت قدر ربنا، مش يمكن فيه حاجة في علم الغيب إحنا منعرفهاش..
-آاااه..ياقلبي
بمكتبِ وكيل النيابة:
-جلس راكان مع أحدِ الضباط الذي تمَّ تعيينهِ بالقضية:
-إحنا بنحقَّق مع الولد اللي اتمسك، بس ماطلعناش بحاجة، هنحوِّله لحضرتك..
أومأ له ثمَّ نظرَ إلى أوراقِ القضية:
-ابعتهولي، وممنوع عنُّه الزيارات نهائي، والأفضل يكون انفرادي، وحاجة أخيرة مش عايز أيِّ حد يقرَّب منُّه، حتى لو كان عسكري، عيونك ماتفرقوش..
نهض الضابط قائلًا:
-تمام، دا اللي عملته بالفعل، بس حضرتك متنساش إنِّ أمنِ الدولة طلبته، وإحنا مش هنقدر نرفض.
-القضية ماتخصهمش، دا واحد مضروب في مستشفى خاصة، يعني مالوش علاقة بالسياسة..
-بس يافندم الظابط يخصُّهم..سحب راكان سيجارتهِ يشعلها ثمَّ رفع رأسهِ إليه وأردفَ بمغذى:
-دا لو مفيش معايا أدلة إنِّ القضية قضية شخصية، محدش يقدر ياخده،
طالعهُ باعتراضٍ متمتمًا:
-بس النية قتل أخوه، الِّلي محدش كان يعرف أنُّه أخوه أصلًا ولا بيشتغل إيه..
مطَّ راكان شفتيهِ معترضًا على حديثه:
-اعمل اللي قولت لك عليه وبس
- تمام..قالها وتحرَّك للخارج..بينما رفع راكان هاتفهِ وهاتفَ أحدهم:
-إنتَ يابني هتفضل عندك كتير؟..
أجابهُ الآخر ضاحكًا بعدما ابتعدَ عن الجميع:
-أوعى تكون متَّصل بيا علشان وحشتك؟..
-لا يافاشل، علشان محتاجك هنا، توحشني ليه هوَّ إنتَ مراتي.،
قهقه جاسر قائلًا:
-وأنا لو واحدة ستِّ هرفضك..أفلتَ راكان ضحكةً حتى دمعت عيناه؛ ونهض من مكانهِ متَّجهًا إلى النافذةِ واستأنفَ حديثه:
-مغرور يابنِ الألفي.
-طبعًا وأمور كمان والبنات بتقع في حبُّي..
-أيوة عارف ومتأكِّد من كدا، هتقولِّي، احترم شيبتك ياأخويا، ولادك بقوا طولك..قاطعهم صوتُ جنى:
-جاسر بتكلِّم مين؟..
-راكان حبيبتي، شوية وجاي..
هزَّت رأسها وتحرَّكت تنادي على أولادها..أردفَ راكان بجدية:
-إلياس السيوفي حاولوا يقتلوه، هوَّ وأرسلان الجارحي..
-أيوة شوفت الأخبار، وعرفت إنَّك مسكت القضية، فيه حاجة ولَّا إيه؟..
-أه، القضية دي مش متركِّبة طبيعي، مش معقول عمُّه هيحاول يقتلهم في مستشفى وفيهم واحد في غيبوبة..
-بالعكسِ ياراكان، المستشفى أسهلُّه، وخاصةً إنَّها مش عسكري.
-لا ياجاسر، أنا متأكد مش هوَّ، فيه حاجة مش مفهومة، يعني أخوه يختفي تلات شهور، وفجأة يظهر حد طلع عليه وضربه ويدخل غيبوبة، وبعد كدا يحاولوا يقتلوه، فيه حاجة ناقصة..
-أممم...مش إلياس كان جابلك فيديوهات توريط عمُّه في أعمال مشبوهة..يمكن عرفوا بكدا علشان كدا حاولوا يتخلَّصوا منهم، بدأوا بأخوه، وبعدين هوَّ..
-لا دا إنتَ الإجازة ضربت عقلك، يابني هيروحوا يقتلوا إلياس وهوَّ عند أخوه، أنا بقول كانوا قاصدين أخوه، أنا دوَّرت وراهم منكرش، ابنِ الجارحي كان مسافر، بس مش بلد واحدة، دا عدِّة بلاد وتوقيت مختلف..
-إنتَ تقصد إيه مش فاهم؟..
-شغل أرسلان ياجاسر، دا مربط الفرس، الواد جاي من برَّة مضروب، يعني مش مضروب في مصر..
قطبَ جاسر جبينهِ متسائلًا:
-إزاي هيجي مضروب من برَّة؟..إنتَ بتهزر، مش لازم يكون السفارة عندها علم
-اقفل ياجاسر، جنى بتنادي عليك، دا لو بشرح لكنان ابنك العيل كان طلع بمعلومة، مش قولت ظابط فاشل..
-هردهالك على فكرة، أعمل إيه القلب والعقل مشغولين دلوقتي..
قهقهَ راكان يهزُّ رأسه:
-بحقد عليك يابنِ الألفي..
مرَّت الأيام والقلوبُ مشتعلةً كالجمر، بل ثقيلة كأنَّها جبالٌ تنهارُ على صدرها، والساعاتُ تُقطِّع قلبها رويدًا رويدًا، وكأنَّ الزمن توقّفَ عند أنينِ الأجهزة وأزيزِ أنفاسهِ الضعيفة..جلست بجوارهِ كما اعتادت، ولكن كلَّ يومٍ يمرُّ كان يأكلُ من روحها قطعة، ويُطفئُ من عينيها وهجَ الحياة.
بسطت كفَّها الذي ارتجفَ من شدَّةُ حزنها ومرَّرتهُ على وجههِ الباهت، تبحثُ في ملامحهِ عن روحهِ التي فقدتها تلك الأجهزة اللعينة، ظلَّت تمرِّرها حتى توقَّفت على شفتيهِ التي شحُبَ لونها، تاهت ابتسامته، رغمَ أنَّها قليلة ولكنَّها كانت تبعثُ الطمأنينة في قلبها، أمسكت بمحرمةٍ ورقية، بللَّتها دموعها قبل أن تلمسَ بها جبينهِ البارد..
وبدأت تمسحُ وجههِ، كأنَّها تحاولُ إعادةَ الدفءِ إليه بلمستها المرتعشة، وهمست بصوتٍ اختنقَ بالعبرات:
دقنك طولت شوية، ينفع أحلقها، بس عارف شكلك قمر فيها..انحنت تضعُ جبينها فوق جبينه..هنا عجزت دموعها بالاختباء، فانفجرت كالبرك:
-إلياس..أنا وحيدة، ماليش غيرك، أوعى توجعني كدا حبيبي، أنا ماليش أهل غيرك، مش عايزة لا يزن ولا رؤى، عايزاك إنت، أوعى تعملها معايا، لأن مفيش حنان في الدنيا غير حضنك، أنا دلوقتي فهمت كلمتك لمَّا قولت لي يمكن اللي مش لقتيه عندي تلاقيه عند يزن..لا حبيبي أنا لقيت معاك كلِّ حاجة، أوعى تخلِّ بوعدك، هزعل منك، هتسيب مراتك وابنك في الدنيا يتعذِّبوا من غيرك؟.
ارتجفَ صوتها وهي تتذكَّر كلماتهِ القديمة..
وضعت رأسها فوق صدرهِ وحاوطت جسدهِ بذراعيها، تحاولُ سحبه من غيبوبتهِ بعنفِ الحب، وصراخ قلبها..
شهقة عالية خرجت منها لتشعرَ بتمزُّقِ أحشاءها، كأنَّ القلبَ ينهارُ من الداخل، ثمَّ تابعت بصوتٍ تائه:
– أنا بموت...واللهِ بموت، مش قادرة أتنفس...رجَّعلي روحي ياإلياس... رجَّعلي عمري، مراتك بتموت من غيرك، مش إنتَ قولت لي إنَّك بتحبِّني، طيب اثبت لي ياإلياس..اثبت لحبيبتك إنَّك بتحبِّني..قاطعها دخولُ مصطفى، يتحرَّكُ بجسدٍ كالظل، ذابت ملامحهِ من الحزن، من يراهُ لا يصدِّقُ أنَّ الذي يرقدُ على فراشهِ ليس من دمه، اقتربَ منها، وبسطَ كفِّه على رأسها بحنانٍ أبوي موجوع:
- قومي حبيبتي، ارتاحي شوية، شوفي ابنك بيسأل عليكي.
هزَّت رأسها، بعينينِ غارقتين:
- أرتاح إزاي وهو بيتألِّم كدا؟ أرتاح إزاي وقلبي بيتقطَّع؟ أنا مستعدة أتنازل عن حياتي كلَّها عشان يرجع يفتح عيونه بس، قولُّه ياعمُّو، قولُّه يفتح عيونه وأنا أعملُّه اللي عايزه، قولُّه ميرال مش هتقدر تعيش من غيرك.
تنهَّد مصطفى، كأنَّهُ يسحبُ من روحه آخر ما تبقَّى من أمل:
– إن شاء الله هيقوم، وترجعي تتخانقي معاه، وتيجي تشتكي لي منُّه زي زمان...
ابتسمت بمرارةٍ وهي تتهاوى في حضنهِ مع ارتفاعِ شهقاتها:
- مش هشتكي تاني...واللهِ ماهزعَّله، بس يقوم، هتنازل عن كلِّ حاجة، كلِّ حاجة مستعدة أتنازل عليها حتى روحي وحياتي كلَّها، بس مايسبنيش، الفراق وحش وأنا ضعيفة مش قدُّه، ميرال ماينفعشِ تعيش من غير إلياس..واللهِ ماتعرف تعيش من غيره..
انهارَ مصطفى مع دموعهِ التي خانته، تسقطُ بصمت، وهو يهمس:
– مش إنتي بس ياحبيبتي اللي متعرفيش تعيشي من غيره، كلِّنا... وربِّنا مش هيضرِّنا فيه..لازم نفضل متمسِّكين، قولي يارب...
أومأت برأسها، أمسكت دموعها بصعوبة، تمسحُها بقوة، وحاولت أن تتماسك:
-حاضر...عندك حق، لازم أتماسك علشان هوَّ يقوم..
ربتَ على ظهرها بحنان بعدما ضمَّ رأسها لأحضانه:
-برافو عليكي حبيبتى، أهو كدا أقول إنِّي عرفت أربِّي، يالَّه امسحي دموعك وروحي زوري والدتك، بتسأل عليكي مش عايزين نحسِّسها بحاجة، ماصدَّقنا إنَّها اقتنعت بسفر إلياس في شغل..حاضر هعدِّي على ماما بس بعد شوية، لازم أسند نفسي علشان ماضعفش قدَّامها..قاطعهما دلوفُ الطبيب، اقترب، ثمَّ فحصَ إلياس بهدوءٍ يثيرُ الرعب، ثمَّ نظر إلى مصطفى بنبرةٍ مختصرة:
– لقيتوا متبرع؟.الغسيل على حالته تقيل، دلوقتي هوَّ في غيبوبة ومش حاسس، بس لمَّا يفوق هيكون صعب عليه..
ارتجفَ قلبُ ميرال، ثم نظرت إليه بتلهُّف:
-هيَّ الغيبوبة من الكلى يا دكتور؟
– لا، من النزيف اللي حصل...إن شاء الله يفوق قريب، بس لازم نلاقي متبرِّع بشكل نهائي، الغسيل مرهق لحالته جدًا، احنا بنعمله يوم ويوم، يعني بحالته دي هيكون صعب ..قاطعه مصطفى:
-كلِّنا عملنا التحليل ولسة بانتظار النتيجة، إن شاءالله حد مننا يتطابق..
تركتهما وخرجت من الغرفة بعينيها المتعلقتينِ بجسده، حتى أغلقت الباب..وجدت غادة أمامها، ضمَّتها دون كلمة:
-إيه الدكتور مقالشِ فيه جديد، ما تقوليش مفيش جديد؟...
أجابت بنبرةٍ مبحوحة:
- مفيش، فيه رحمة ربِّنا ياغادة...
وقعت عينيها على يزن يحملُ صغيرها..لم تحتمل، ركضت إليه، ثمَّ تلقَّفتهُ بلهفةٍ تحتضنهُ كأنَّها تغرسُ وجهها في حضنهِ الصغير، لتستنشق رائحة الغائب منه:
– حبيبي...وحشتني...
ضربها بكفِّه الصغير، وقال:
– با...با...
كأنَّها سُمِّرت، شهقت، ثمَّ جثت على الأرضِ تحتضنهُ تبكي:
- يا روح بابا...يااارب ما تحرمنا منُّه...
اقتربَ يزن، يأخذ طفلها ثم ضمَّها:
– ينفع كدا يا ميرال؟! طب سبتي لماما فريدة إيه؟ محتاجة تقوي شوية، لازم تروحي لها، بتسأل عليكي كلِّ شوية، جوزك لسه عايش، بلاش ضعفك دا.،
-آااه..قلبي مولَّع نار يايزن، بحاول بس كلِّ اللي بيحصل أقوى منِّي..
حاوطَ جسدها بحنانِ ذراعيهِ يشيرُ إلى غادة
-خدي يوسف ياغادة، ثم التفت اليها -حبيبتي إن شاءالله يفوق، عايزك تقوي، إنتي مرات إلياس السيوفي، لازم تقوي عن كدا، الإعلام كلُّه برَّة..هتخرجي إزاي بشكلك دا، دي مش مرات إلياس، اعرفي إنِّ جوزك يستاهل الدنيا كلَّها تعرف أنُّه اتغدر بيه من ناس لا دين ولا قيم..
رفعت عينيها التي انطفأت وتمتمت:
-زي أبونا يايزن، مش بعيد أنُّه هوَّ اللي عمل كدا...تسمَّر جسدهِ للحظات:
-لا..ماأظنش، وهوّّ يقتله ليه؟.لو عايز كان قتله من زمان..
أشارت إلى غادة وأردفت:
-خدي يوسف وروحي ياغادة، خلِّي بالك منُّه..ثمَّ التفتت إلى يزن:
– عايزة أشوف أرسلان، ودِّيني عنده...
– لأ، ممنوع الزيارات، أنا حتى مشوفتوش، الِّلي عنده إسحاق بس...
هزَّت رأسها، بعينينِ تشتعلان بإصرار:
– اتِّصل بيه، لازم أشوفه...ده مش أيِّ حد، ده ابنِ عمِّنا، وأخو جوزي... محدِّش يقدر يمنعني، قالتها ثمَّ انطلقت إلى الأسفل، وقلبها يسبقُ خطواتها، متَّجهةً للطابقِ الذي يُحتجز فيه أرسلان، وكأنَّ خلف ذلك الباب، جزء من الأجوبة، لما صار ذلك لزوجها؟
مرَّت عدَّة أيامٍ أخرى، لم تخلو من شيئٍ سوى معرفةِ فريدة بما صار لابنها، تقبَّلت الخبر بنفسٍ راضية
-بتخبي عليا يا مصطفى، يعني تلاتين سنة وانا صابرة على بعده، مش هتحمل الخبر دا
-فريدة عيطي، مش عايزك كدا، طلعي اللي جواكي
-مش هتتحمله يامصطفى، انا مش زعلانة، ربنا رحيم، بعد اللي حصل ماليش اختل برحمة ربنا يا مصطفى، متأكدة من عظمة الخالق، اللي يحرمني منهم تلاتين سنة ويرجعوا لحضني تاني وهم بالشكل دا، يبقى لترتيبه حكم ومواعظ يامصطفى، ولادي الاتنين بين ايد اللي احسن مني ومنك، لو ربنا رايد اذيتهم مكنش وقعهم مع ناس كدا تلاتين سنة، دا ربنا رحمهم، ارجع لسورة الكهف يامصطفى وشوف رحمة ربنا في آياته من سفينة غرقت علشان ملك ظالم، وجدار حمى ملك يتامي، اقتربت تنظر بمقلتيه
وطفل وحيد والديه قُتل علشان هيكون سبب لنزع الايمان في قلوبهم، يبقى انا أكون ايه علشان اعترض على حكمه، بعد مااتربوا كدا، وبقوا وسط ناس الكل بيضرب بيهم المثل، بكرة اتفاخر بيهم ويقولوا ولاد فريدة اهم
قالتها بنبرة مبحوحة، تشكر بسكين ينخر جوفها، ثم رفعت عيناها التي يختزن بها حزن العالم قائلة:
-قوم ياابو يوسف، وديني عند ابني، يمكن يحس بامه اللي محستش بيه تلاتين سنة وهي بتربيه، تلاتين سنة بيكبر قدامي ومعرفتش أنه ابني، يبقى ماليش اعترض واقول ليه يارب، لا المفروض اقول .. الحمد لله أن ربنا رضاني بعد سنين عذاب بحضنهم وكلمة ماما، كفاية عليا مكنش طماعة، واعترض على حكمه، أمانة ربنا يامصطفى وهديته، وأنا عندي يقين بيه أنه هيردهم، بس لازم ادفع تمن حب وكرم ربنا ليا ..قوم ياابو يوسف قوم، وارمي حمولك على الخالق
ذهبت إليه وبدأت الزيارة عدَّةَ مرَّاتٍ بمساعدةِ مصطفى، ولكن افزعهم واعجزهم التحاليل بما يناسبه،
كانت تغطُّ بجوارهِ تضعُ رأسها على الوسادة بجواره، وجسدها منسابًا على المقعد، فتحَ عيناهُ لعدَّةِ مرَّاتٍ يهمسُ اسمَ أخيه بخفوت، تململت ظنًّا أنُّه حلمًا ولكن حركة أناملهِ التي تضعها على وجهها جعلها تقفزُ من نومها تتأكَّدُ بما تشعرُ به..
-أرسلان ياميرال..ابتسمت تقبِّلُ جبينه:
-كويس حبيب ميرال إنتَ حاسس بإيه؟..ضغطت على زرِّ المساعدة، حتى وصلت الممرضة:
-فاق..وصلَ الطبيبُ يتفحَّصه، ولكن بنظراتٍ غير راضية أشارَ إلى مصطفى:
-محتاجين متبرِّع ياسيادةِ اللواء..
-بندوَّر، ونزِّلنا إعلان في كلِّ مكان، التحاليل كلَّها سلبية للأسف..
بعد فترة دلف الطبيب وجدها تحتضن كفه، وعيونا دبت بها الحياة مرة اخرى، اقترب منها بدخول مصطفى ويزن، فأردف الطبيب
-مدام ميرال عملت التحاليل بتاعتها، والحمد لله النتيجة ايجابية؟..
-بلاش ميرال لو سمحت..وصلت إليهم ميرال بعدما استمعت إلى حديثهم الجانبي:
-إيه يادكتور فيه حاجة، إلياس كويس؟..
-مدام ميرال تحاليلك الوحيدة المتَّفقة مع المريض، دون تفكيرٍ أجابته:
-أنا جاهزة، حضَّر العمليات..قالتها واتَّجهت إلى إلياس الذي يحاولُ أن يظلَّ بوعيه، توقفت تنظر إليه بحب، تهمس لنفسها:
-مستحيل اسمع كلامهم، اقتربت منه قائلة:
-إلياس حاسس بإيه..أغمضَ عينيه، استندت على جبينهِ تهمسُ له:
-حبيبي سامعني؟..
-تعبان، شوفي الدكتور..قالها بتقطع، مع دخول فريدة
-عامل ايه ياحبيبي
-الحمد لله..قالها واغمض عيناه متألمًا، انزلقت عبرة رغمًا عنها، اقتربت تلثم جبينه
-فداك عمري كله ياحبيبي..فتح عيناه إليها يهمس بخفوت
-ماما عايز اشوف ارسلان
مسحت على وجهه مع انسياب دموعها
-ارسلان كويس، انت شد حيلك، إن شاءالله بكرة تعمل العملية وتشوفه
-عملية ايه...تراجعت تنهر نفسها، ثم استدارت لتخرج سريعا قائلة
-حبيبتي خلي بالك من جوزك..اتجه بنظره إلى ميرال وحاول الحديث، ولكن انهك جسده، ولم يقو، دلفت الممرضة، فحصت اعضائه ثم رفعت نظرها إلى ميرال
-الورقة دي فيها كل حاجة علشان تجهزي للعملية بكرة إن شاءالله، ربنا يقومكم بالسلامة، ياريت تتبعي كل اللي فيها
-اومأت لها وعيناها على إلياس الذي يتطلع إليها بعيونا متسائلة، اقتربت منه بعدما لاحظت آلامه التي تجلت بملامحه
-تعرف انا اتأكدت انك اغلى من روحي، عارف انا مش عايزة غير حاجة واحدة بس، تعرف ايه هي..كان يتابعها بصمت، رفعت كفيه تقبلهما ثم نطقت
-ترجع تستقوى عليا وتطلع كل غلك فيك، وترجع تقول ماشي يابنت مدام فريدة ..انحنت تطبع قبلة بجوار خاصته:
-مستعدة أضحي بعمري كله، ولا اشوفك كدا، انا بحبك اوي، وتأكد أنك احسن حاجة حصلت لي في الدنيا دي، زي ماانا متأكدة أن ربنا بيحبني اوي اوي علشان اتجوزتك
-مير. ال ..مخبية عليا ايه..قالها بثقل لسانه ..طبعت قبلة سريعة، تنظر لعيناه القريبة بعشق ثم غمزت له
-دمك تقيل يابن عمي، ولازم حبيتك تخففه ..
ارتفعت أنفاسه من شدة الامه، مما جعلها تستدعي الطبيب الذي فحصه، قائلا
-جرعة بسيطة قبل العملية، إن شاءالله كله هيكون تمام، وبعدين المفروض تتحمل ياحضرة الظابط، حد يبقى عنده ست بتحبه كدا ويفضل نايم على السرير
-ايه الألم دا يادكتور، فيه ايه
-إلياس بكرة هنعملك زرع كلى، مدام ميرال هي المتبرع
سقطت الكلمات فوقه كصقيع ترتجف له الأبدان
-لا ..لا ..كررها محاولا النهوض، مع ارتفاع صرخاته المتألمة، صوت اذيذ الأجهزة
-إلياس لو سمحت مينفعش، حالتك خطرة جدا، لازم العملية، وضعك مش هيتحمل الغسيل كتير
-مراتي لا..رمقها بنظرة حزينة قائلاً:
-اياكي تعمليها، سمعاني ..تمتم بها مع شحوب وجهها حاول الطبيب إنعاش قلبه بعض شحوب وجهه، اقتربت منه تمسد فوق خصلاته:
-ارتاح دلوقتي، إلياس متعملش كدا
اغمض عيناه بين النوم واليقظة هامسًا
-هطلقك لو عملتيها..
انزلقت دموعها وآلامه الصارخة التي شقت قلبها لنصفين، ليخرجها الطبيب بعدما اغلق عينيه كأنه لم يعد لديه قوة للحياة، ورفع جهاز الصدمات في محاولة أخرى لإنعاش قلبه .. دقائق مرت عصبية تفصل الحياة بالموت، إلى أن استمع الى النبض مرة اخرى، ليتنهد الطبيب بارتياح اخيرًا
ذاتَ ليلة بعدما عجز الجميعُ عن إفاقةِ أرسلان، بعدما استخدمَ معه الأطباءُ كلَّ الطرقِ العلاجية، حتى فُقدَ الأمل إلَّا أنَّ القدرة الإلهية كان لها تدبيرًا آخر..
اخترقت الإضاءةُ عيناهُ بقسوة، كمن انتُزعَ من قبرهِ ليواجهَ شمسًا ساطعةً فوق الرؤوس..
أطبقَ جفنيهِ سريعًا، متأوِّهًا بصوتٍ خافت، ارتسمت أعينُ إسحاق بابتسامةٍ ليكرَّر ندائهِ مرَّةً أخرى:
-أرسلان!.قالها
بصوتٍ مرتجف، ليخترقَ أذنهِ ويقومَ بفتحِ عينيه بعد علمهِ لصاحبِ الصوت..
ظلَّ إسحاق للحظات ، قريبًا، مترقبًا، يكاد يلهثُ تحت وطأةِ الانتظار..ليتأكَّد أنَّه ليس سراب، إلى أن همسَ بصوتٍ بالكادِ خرج من بين شفتيهِ المتشقَّقتين:
إلياس...؟
هنا فقدَ إسحاق السيطرة ليسقطَ على ركبتيهِ بجوارِ السرير حينما لم يستطع مقاومةَ الطوفانِ الجارفِ الذي اجتاحه، فانحنى يسجدُ على الأرض، والدموعُ تسقط بصمتٍ كسره.. شهقاتٌ متقطِّعة، خافتة، لاعترافهِ بالحمد، بالرهبة، بالخوف، وبالنجاةِ التي جاءت بعد ظلامٍ طويل...حينما فقدَ الأمل، نهضَ مرةً أخرى على صوتِ أرسلان المشبعِ بالألم :
إلياس...فين؟!
نهضَ إسحاق مسرعًا، مسحَ دموعهِ بظهرِ كفِّه، قبل أن يميلَ نحوه، ويطبعُ قبلةً طويلةً على جبينه، يحاولُ أن يطبعَ الطمأنينةَ في قلبهِ المضطرب..
حبيبي، حاسس بإيه؟
حاول أرسلان بلعَ ريقه، لكنَّه كان كمن يحاولُ ابتلاع َصخرة، عيناهُ تائهتانِ بين الوعي والذاكرة، بين الحاضرِ والماضي الذي لا يزالُ يصرخ داخله.
ثمَّ، بصوتِ بالكادِ خرج من بين شفتينِ مرتجفتين، همس:
عمُّو... إلياس...؟
تجمَّد إسحاق للحظة وشعر بجسدهِ يبرد، كأنَّ أنفاسه احتُجزت قسرًا في صدره..كيف يخبره؟ كيف يواجهُ تلك العيونِ القلقة بالحقيقة التي قد تقتلهُ قبل أن يتقبَّلها؟
رسمَ ابتسامةٍ مع لمسِ خصلاتهِ المبعثرة بحنان، ثمَّ أردفَ بنبرةٍ جعلها متَّزنة:
إلياس كويس، حبيبي...
لكن عجزت الشفاهُ عن النطق، ولم تعد لديها القدرة على الكلام..
رفع أرسلان عينيهِ إليه لتقابلَ عيناه التي تحملُ الوجع الذي تسللَّ بين حروفهِ رغم ابتسامته، بدأ قلبه يخفقُ بجنون..وارتجفَ جسده، وتثاقلت أنفاسه، وخرج صوتهِ متحشرجًا، ممزَّقًا بين الرجاءِ والرعب:
إلياس فين يا عمُّو؟!..أوعى يكون... قتلوه..!
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
رؤية الأم لابنها معلقًا بين الحياة والموت، أشبه بأن تُسحب أنفاسها دون أن تموت، وألا تذوق طعم الحياة ولا تُدرك طعم الموت.
فكيف لأم أن ترى اثنين من أولادها بين الحياة والموت
عن بطلة شظايا قلوب محترقة اتحدث
💔💔💔
يا وجعي... أراكما تتألمان أمامي، ولا أملك سوى أن أضمّ الدعاء إلى صدري، وأخبئ انهياري عن عينيكما
كل الأجهزة التي تُبقيكما هنا... لا تشبه حضنكما، لا تشبه صوتكما، لا تشبه الحياة التي كنتَا تملؤها ضوءًا.
أمّكما يا صغيراي، باتت نصفها معكما في سريركما الأبيض، ونصفها الآخر يحاول أن يقف على حافة الانهيار دون أن يسقط.
بين كل نبضة وآخرى، أراقبكما... أُحصي أنفاسكما كأنها أنفاسي، وأعيش الموت ألف مرة وأنا أراكما لا تردا
يا الله... إن كان لي عمرٌ باقٍ، فامنحه لهما، ولا تتركني أعيشه فقدانهما
#فريدة_السيوفي
بغرفة إلياس، قبل العملية بعدة ساعات بعدما استمع الى حديث الطبيب بأن المتبرع ميرال، وإصراره بالرفض...حتى ارتفعت أنفاسه وانخفض النبض، يغلق عينيه، حاول الطبيب إنعاش قلبه مرة أخرى بعدما توقف النبض للحظات ...هدأ الطبيب بعدما نجح في إعادة النبض مرة أخرى
بعد فترة
رفرفَ أهدابهِ ببطء، محاولًا العودةَ للحياةِ مرَّةً أخرى، ظلت تدعو ربها بأن يعود للحياةً مرَّةً أخرى، ولكن؟!كيف؟..و جسدهِ ساكن، وروحهِ تتأرجحُ بين الحياةِ والموت، انحنت تطبعُ قبلةً على جبينه، قبلةً مرتعشةً تحملُ فيها وجعها، عمرها، دعواتها، وكلَّ ماتبقَّى لها من أمل، شهقةٌ انفجرت من صدرها كأنَّها خرجت من هوَّةٍ سحيقةٍ من الألم، شهقةٌ ليست كأيِّ شهقة، بل نزيفًا من جوفها، كسكينٍ صدئة تنخرُ في العظام وتدوي في كلِّ ذرةٍ من جسدها.
"إلياس...حبيبي عامل إيه؟!"
نطقتها بصوتٍ منكسر، وحروفٍ مرتجفة..بعدما فتح عينيه
اقتربت ميرال منه، تركعُ أمامهِ كمن يركعُ للرحمة، واحتضنت كفِّه بين راحتيها، تتطلَّعُ إليه بعينينِ تمتلئُ بالخوف..واحتضنت كفيه تتسائل بدمع عينيها:
-حبيبي حاسس بإيه، اجبلك الدكتور؟..
فتح عينيه، ولكن عينيهِ لم تكن نفس العيون، لم يكن هو...كان ظلًّا، طيفًا باهتًا من ماضيه..همس بصوتٍ خافت، متعب:
"الحمدُ لله..."، أنا كويس..مسَّدت فريدة على رأسه:
-دايمًا كويس حبيبي وحسَّك في الدنيا..
تعلَّقت عيناهُ بعينيها التي رآها كأنها خلت من الحياة، شقَّ شفتيهِ الجافتينِ هامسًا:
-أنا آسف..متزعليش منِّي..نطقها بأنفاسٍ مرتفعة، كالذي يصعدُ أعلى قمَّةٍ جبليةٍ في وقتٍ قياسي..
تقطَّعت أنفاسها، وتمزَّق قلبها، فهل هذا صوتُ ابنها؟! أين ضحكتهِ التي كانت تشقُّ السماء؟! أين ملامحهِ التي كانت تفيضُ حياة؟!
لقد شقَّ قلبها صوتُ ضعفه، شعرت وكأنَّ سكينًا تُغرسُ في كلِّ شريانٍ من شرايينها. نظرت إليه، كأنَّها ترى احتضارهِ بأعينها ولا تملكُ أن تصرخ..
"هل هذا فلذةُ كبدي؟!
أين الشباب؟ أين الحيوية؟ أين روحكَ الغائبة؟!
يا حبَّةَ القلبِ والعين، قلبي يصرخُ بالألم، ينزف، يناديك، ولا يسمعُ سوى صدى وجعي!"
رفعت عينيها للسماء، مبتعدةً عن احتضانهِ لعينيها، عندما شعرت بأنَّه يودِّعها، هنا لم تتمالك دعاءها ولا دموعها:
"رحماك ربِّي بقلبِ أمٍّ مكلومةٍ على فلذةِ كبدها...رحماك ربي بعبدكَ المستجير، لا طاقةَ لي بهذا الابتلاء..."
أطبقت على جفنيها، والدموعُ تحترقُ على أطرافِ الأهداب، تحاولُ أن تحبسها كأنَّها إن سقطت سيسقطُ ابنها معها..
"ماما..."
كلمة خرجت من بين شفتيهِ وكأنها خرجت من قاعِ الألم، أشعرتها برجاءٍ من طفلٍ يطلبُ صدرَ أمِّه لينجو.
انحنت على جبينه، ويداها ترتجفان، تملِّسُ على وجنتيهِ كأنَّها تحاولُ أن تمحو الألمَ بلمستها، أن تعيدهُ طفلها من جديد..
"قلب أمَّك...يا نور عيني، يا ضيِّ عمري..."
ابتسم، رغم أنفاسهِ التي تعلو وتنهار، رغم الألم الذي ينهشُ جسده..همس بصعوبة، وكأنَّ الحياةَ كلَّها تلخَّصت في هذه الكلمة:
"أنا بحبِّك..."
- آااااه...
خرجت من قلبها لا من فمها، صرخة تشبهُ ميلادًا جديدًا، يختلطُ فيه الوجع بالفرحة، الألمُ بالحب، والدمعةُ بالبسمة.
-لمس كفَّها بكفِّه المغروسِ بالأبر:
-مش عايز غير حضنك..
شهقت، وهي تشعرُ وكأنَّ الروح انتفضت فيها، واحتوتهُ بين ذراعيها بحنانٍ يفيضُ عن العالم.
-سامحيني ياماما، مفيش أغلى منِّك..
دفنت وجهها بصدره، وصرخةٌ مزَّقت صدرها، شعر بأنها ليست مجرَّدُ صرخة بل زلزلةُ شعور، صدى وجعٍ صدحَ في أركان الغرفة...احتوتهُ بذراعيها كأنَّها تريد أن تُلصقَ روحهِ بروحها، أن تتقاسمَ الحياةَ بينهما.. ورغم تراقصِ قلبها بسعادةٍ حين نطقَ كلماته، ولكنَّه انتفض يرتجفُ تحت ثقلِ الخوف، أحاسيس متضاربة، رغم مرارةِ اللحظة، كانت كلمتهُ نسمةً رطبة، بردًا وسلامًا على قلبها وسطَ نيرانٍ كادت تهشِّمها...
بينما ميرال التي تراجعت مبتعدةً بذعرٍ من حديثه، هل هذا وداع، لما يقول هذه الكلمات، انسابت دموعها بكثرة ولم تقوَ على منعها، نهضت بهدوءٍ حتى لم يشعر بها، وانتفض جسدها بالكامل، وهي ترى زوجها وكأنه يحتضر، ياالله ماله من شعور قاسٍ، ابتعدت تريد أن تخرج صرخاتها، تريد أن يقف من أعلى قمة جبلية ليتهشم جسدها ولا تشعر بكم هذا الألم..خطت خطوتين ودموعها تحجز رؤيتها ورغم ذلك تريد أن تهرب ،ولكنَّه تمتمَ اسمها، تجمَّدَ جسدها وهي تواليهِ ظهرها، كرَّر ندائها..
فاستدارت إليهِ بوجهٍ اختفى خلف دموعها، شعرت فريدة بما تشعرُ به، فوقفت وتحرَّكت إلى مكانِ وقوفها:
-حبيبتي، جوزك كويس، سمعتي قالِّي إيه..سحبت نفسًا تضغط على شفتيها حتى تمنع دموعها التي لم تتوقف، ابتسم يمد يده إليها، بينما اردفت فريدة
-سمعتي ياميرال إلياس بيحبني اكتر منك...أومأت بإبتسامة مختلطة بدموعها وتعلَّقت بعينيهِ قائلة:
-أه..سمعت ياماما وغيرانة، ازدادت آلامه، فأطبقَ على جفنيهِ حتى لا تشعرانِ به..بينما مسحت فريدة دموعَ ميرال وضمَّتها لأحضانها:
-اجمدي حبيبتي، أنا محتاجاكي، لازم نقوِّي بعض...قالتها فريدة بهمسٍ خافت حتى لا يصلَ إليه..ثمَّ ربتت على كتفها قائلة:
-أنا تعبت هروح أرتاح وإنتي كمان ارتاحي، وخلِّي إسلام جنبه، كفاية عليكي كدا..
أزالت دموعها مقتربةً من فراشه قائلة:
-تعبي بعيد عنُّه ياماما، هنا راحتي..ابتسمت فريدة بحنانٍ أمومي ثمَّ خرجت..
اقتربت من فراشهِ بخطواتٍ ترتجفُ كثقلِ نبض قلبها، كان مغمضَ العينين، وهدوءهِ يرعبها...ظنَّت أنَّه عاد إلى غيبوبتهِ من جديد، جلست بجوارهِ بصمتٍ يقطرُ وجعًا، ترسمُ ملامحهِ بدموعها وكأنَّها تحفرُ صورتهِ في قلبها قبل ذاكرتها، تخشى أن تُسرقَ منها في أيِّ لحظة، وضعت رأسها بجوارِ رأسه، تهمسُ بأضعف ما تبقَّى فيها:
– يارب…ماتحرمنيش منه، خد عمري كلُّه، بس ما تخلينيش أعيش لحظة فراقه، ما توجعنيش فيه، يارب..
صوتها المرتعش، المضمَّخ بالدمع، وصل إليه كأنَّ قلبهِ استشعر انكسارها..فتح عينيهِ بصعوبة، ودار برأسهِ نحوها..كانت قريبة، أقربُ من أيِّ وجعٍ يشعرُ به، امتزجت أنفاسها بأنفاسهِ يريدُ أن يسحبها لأحضانه، رفع كفَّيه المرتجفين، وأزال دموعها بأطرافِ أصابعهِ الهشة، وهمس بصوتهِ المتهالك من الألم:
- بعد الشر عليكي…ليه بتقولي كده يا ميرال؟ نسيتي يوسف؟ اسمعيني، أنا مستحيل أوافق تعملي العملية…حتى لو هموت..
هنا تهاوت، وتفجَّرت شهقاتها بقوَّة، بعدما حاولت دفنها داخلها ليحترقَ كلَّ مابها، فانهارت فجأةً بعد عجزها أمامه، تبكي كما لم تبكِ من قبل، بكاءُ امرأةٍ خافت أن تفقدَ قلبها:
– أنا من غيرك ميِّتة، يا إلياس…بعيش وقلبي بينزف، بتمنَّى أكون مكانك، بس ماشوفكش بتتوجع كده.
رفعت كفَّيهِ تقبلهما بانهيار:
-بلاش تموِّتني كدا..
أشار بعينيهِ المرتعشتينِ أن تقترب، اقتربت منه أكثر، ثم انحنت عليه، فرفعَ ذراعيهِ بصعوبة يجاهدُ الألم، واحتضنَ رأسها إلى صدره:
– بلاش إنتي..أنا خايف عليكي، لو بتحبِّيني بجد…ما تعمليش العملية.. أوعديني…لو بتحبِّيني، ما تكمِّليش فيها.
رفعت رأسها لتقابلَ عيناهُ القريبة، تهمسُ بصوتٍ مخنوق، صوتًا يحفرُ في قلبه:
- مش قادرة أشوفك بتتوجع…لو تعرف أنا بحبَّك قدِّ إيه، كنت فهمت أنا مستعدة أقدِّم عمري كلُّه علشانك.
– اشش…اسكتي، وبطَّلي كلامك الأهبل.
– حبي ليك هبل؟!
نظرَ لها نظرةً طويلة، عميقة، كأنَّ فيها كلَّ التعبِ والحنينِ والخوف، لمسَ وجهها بأناملَ ضعيفة، وأزالَ عبراتها كمن يطبطبُ على قلبه:
– بتحبِّيني..بجد؟
هزَّت رأسها بنعم، ودموعها لا تتوقَّف، كأنَّها تعترفُ بكلِّ حبِّها دون حاجةٍ للكلام.
– يبقى ما تعمليش العملية…لو بتحبِّي إلياس، حافظي عليه بيكي…ما تخليش قلبي خايف عليكي، مش هتحمِّل وجعك حبيبة قلبي..
انهارت أكثر، ودفنت وجهها في عنقهِ تستمدُّ الأمانَ في صدره الضعيف، تبكي وتهمسُ بكلِّ مافيها:
– أنا بعشقك، وبموت فيك، مش بس بحبَّك…إنتَ روحي، قول لقلبك ميرال بتموت من غيرك.
ضمَّّها بقوَّةٍ تفوقُ ألمه، وهمسَ كأنَّ نفسهِ الأخيرِ مرهونًا بحضنها:
– وأنا…أنا هموت لو حصلك حاجة.
رفعت وجهها، بدموعها ولهفتها، ثم طبعت قبلةً على شفتيه، قبلةً تفيضُ بكلِّ ما عجزت الكلماتُ عن قوله، قبلةً فيها انهيارها، وانكسارها، واشتياقها، ثمَّ ابتعدت قليلًا، وضعت رأسها بجانبِ رأسه، تحاوطُ جسدهِ بذراعيها، تمنت أن ذراعيها تخلقُ له درعًا من قلبها:
– أدفع عمري…وأنام في حضنك تاني...صدَّقني حبيبي، مستعدة أضحِّي بحياتي
-مش هتعمليها ياميرال، وزي ماإنتي خايفة عليَّا أنا هموت عليكي..
-اوعديني، لو بتحبيني..قالها وهو يزيل عبراتها بحنو ..ظلت متعلقة بعينيه ثم اومأت تطبق على جفنيها
-حاضر ياالياس
-حاضر ايه ..صمتت ومازالت متعلقة بعينيه لتردف:
-مش هعمل العملية ...
هز رأسه بالنفي قائلًا:
-لا مش كدا، اسمها بحبك وخايفة على زعلك علشان كدا مش هتعمليها، مش انت خايفة على زعلي
هزت راسها دون النطق بحرف ..
قاطعهم دخولُ راكان، ملقيًا التحيَّة..
نهضت ميرال من مقعدها بسرعةٍ ما إن رأت راكان يدخلُ الغرفة، ورسمت على وجهها ابتسامةً خفيفة..
– أهلاً بحضرتك...
أومأ لها دون أن ينبسَّ ببنتِ شفة، توجَّه بعينيهِ نحو إلياس..ثم تقدَّم نحوهِ بخطواتٍ بطيئة، فيها تروٍّ، ثمَّ حيَّاهُ قائلا:
- حمدَ الله على السلامة، عامل إيه؟
ردَّ إلياس بصوتٍ متهدِّجٍ وهو يضغطُ على ألمهِ كي لايظهره:
- الحمدُ لله...
التفتَ إلى المقعدِ الذي يجاورُ فراشه، ثمَّ جلس عليه، طافت عيناهُ تراقبانِ ملامحَ إلياس المتعبة، ثمَّ نظر إلى ميرال وقالَ بهدوء:
- ممكن تسبينا شوية؟
تطلَّعت ميرال إلى إلياس الذي أومأ بعينيه؟ بصمت، سحبت خطواتها وخرجت ببطءٍ تشعرُ بانتزاعِ قلبها، حينما تركتهُ وحيدًا..
سادَ الصمتُ للحظاتٍ ليحمحمَ راكان قائلاً:
- عارف إنَّك تعبان، ومش جاي كمحقِّق..ممكن نمشِّيها صداقة، رغم إنَّك صغير عليَّا..
تحرَّكت شفتا إلياس بصعوبة، وتسلَّلت ابتسامةٌ باهتةٌ إلى وجههِ وهو يتمتم: – ليَّا الشرف طبعًا.
ابتسم راكان بمحبَّةٍ خافتةٍ وأردفَ بنبرةٍ هادئة:
- والله جيت أطمِّن عليك، مش علشان الشغل...
توقَّفَ لحظة، يراقبُ ردَّةِ فعلِ إلياس، ثمَّ أكمل:
– عايزك تجاوبني كصديق زي ماقولت من شوية، وتأكَّد دا مالوش علاقة بالشغل، مش إنتَ اللي كنت المقصود، صح؟ أخوك كان الهدف.
أغمضَ إلياس عينيه، وكأنَّ الكلماتَ أثقلت على صدره، حينما تذكَّر أرسلان ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
- هتفرق مع حضرتك؟
مال راكان بجسدهِ للأمام، وأردفَ بنبرةٍ حادَّة:
- طبعًا، لو إنتَ المقصود، يبقى في احتمال شغلك، أمَّا لو أخوك، فاحنا بنتعامل مع حد بيحاول يخلص منكم بذكاء...
صمت لثوانٍ ثمَّ أضاف:
– يعني لو قولنا أرسلان صاحب جيم... ليه حد يحاول يقتله؟
رفع إلياس نظرهِ إليه، وعلم بلعبتهِ فقال:
- عايز توصل لإيه يا سيادةِ المستشار؟
– مين اللي كان عايز يقتل أرسلان يا إلياس؟ ومتحاولش تخون ذكائي، أنا متأكِّد إنَّك مش المقصود.
نظر إليه إلياس نظرةً طويلة، ثمَّ قال ببرود:
لمَّا حضرتك متأكِّد...بتسألني ليه؟
– زيادة تأكيد...مش أكتر..
لمعت ابتسامةً خفيفةً على وجهِ إلياس، ثمَّ قال بهدوء:
– لو حصلِّي حاجة، عايز حقِّ أخويا وأبويا، يا سيادةِ المستشار. هسألك يوم مانتقابل..حقِّ أبويا وأخويا فين؟
تراجعَ راكان في جلستهِ قليلًا،
وارتسمت ابتسامةُ انتصارٍ صغيرةٍ على وجهه، ثمَّ نظرَ إلى إلياس بتمعُّن:
– أفهم من كده إنَّك هتقولِّي اللي حصل؟
– اللي حصل...إنِّ عمِّي عايز يخلص منِّنا..شغله في كفَّة، وحياتنا في كفَّة تانية..هدِّدوه، قالوله حياتنا مقابل حياته.
قطب راكان جبينهِ واقتربَ أكثر: طب ليه بدأوا بأرسلان؟
– معرفش...
تنهَّد راكان، وضرب كفًّا بكفٍّ بتأفُّف:
ما كنَّا ماشين حلو، رجعنا نلبَّخ ليه؟
رمقهُ إلياس بنظرةٍ مرهقة وقال بسخريةٍ مريرة:
– نلبّخ؟! حضرتك شايف دا شكل واحد عنده طاقة يلبَّخ؟
– إلياس..
قالها راكان بحدَّة دون قصد، ثمَّ استغفرَ بصوتٍ مسموعٍ وهو يهدِّئُ نبرته:
-آسف...بس فيه حاجة ناقصة..أولاً، إزاي عرفوا إنُّكم إخوات؟راجح مستحيل يقول، لأن زي ماقولت هوَّ المعرَّض للخطر..
وثانيًا، ليه عايزين يخلصوا من أرسلان بالتحديد؟
نظر إليه إلياس بثبات وقال:
-وليه حضرتك ماتقولش...إنُّهم كانوا عايزين يموُّتوني أنا؟
توقَّف راكان لثوانٍ، يطالعُ ملامحه المتعبة، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا:
- كنت متأكد إنَّك مش هتفيدني.
تأوَّه إلياس قليلًا، وملامحهِ تتلوَّى من الألم، فأردفَ راكان:
– كده بتضيَّع الحق اللي بتسألني عليه...
– أنا تعبان...ومش قادر أتكلم.
ساد الصمتُ من جديد، لكن حديث العيونِ يخفي الكثير...حتى توقَّف راكان معتذرًا:
-ألف سلامة عليك، همشي..وأعدِّي عليك في وقتِ تاني..
بعد دقائق، دلفَ يزن إلى الغرفةِ بخطا حذرة..
لم يكن بحاجةٍ إلى كلمات، نظراتُ إلياس وحدها كانت كافيةً لتدعوهُ للجلوس..
جلس يزن قريبًا منه، يترقَّبُ حديثهِ بصمت..
رفع إلياس عينيهِ نحو ميرال، وأردفَ بصوتٍ خافت:
- ارجعي على البيت...وهاتيلي يوسف، عايز أشوفه.
نظرت إليه بقلقٍ شديد، وارتبكت ملامحها:
– البيت دلوقتي ياإلياس؟ الساعة عشرة!..
هزَّ رأسهِ بإصرار، رغم الإرهاقِ الذي بدا واضحًا في ملامحه:
– أيوه هاتيه، خدي إسلام معاكي... عايز أشوف يوسف.
تردَّدت، ثمَّ اقتربت منه بخطواتٍ بطيئة، وامتلأت عيناها بدموعٍ متحجِّرة:
– بس مينفعش، حبيبي...
أغمضَ عينيهِ قليلًا، حينما شعر بالألمِ ينهشُ أنفاسهِ فالتفتَ يزن نحوها، واقترب منها أكثر، وقال بصوتٍ يحملُ مزيجًا من الحنان :
– هاتيه يا ميرو، وأنا هبقى معاه..أنا عارف إنِّك قلقانة وخايفة، بس أنا هنا، مش هسيبه.
دمعت عيناها بقوَّة، بعدما فشلت دموعها بالاختباء ونظرت إليه كأنَّها تراهُ للمرَّةِ الأخيرة، ثمَّ اقتربت منه، وانحنت لتطوِّقَ جسدهِ بذراعيها:
– حاضر...هجبلك يوسف، سحبت نفسًا وعيناها تحتضنُ عيناهُ قائلة:
– عارفة إنَّك عايزني أمشي، بس خليك متأكد إنَّك كده بتكسر قلبي.
أمسك يديها، وقرَّبهما من فمهِ وقبَّلهما برقةٍ مرتعشة، ثمَّ تمتم:
– وإنتي تأكَّدي إنِّي بعشقك.
انسابت دموعها على وجهه، لم تعد تملك أيِّ مقاومة، لتدفن رأسها في عنقه، تجمع رائحتهِ برئتيها، ثم همست بتقطُّع باكٍ:
– مش عايزة أسيبك ياإلياس...خلِّيني جنبك، وهخلِّي إسلام يروح ليوسف.
رفعَ كفَّيه يحاوطُ عنقها، يريد أن يضمَّها لصدره، ولكنَّه عاجزًا عن فعل ذلك، همسَ بخفوتٍ عاشق:
– مينفعشِ حبيبتي...روحي، بيتنا مش وحشك؟
أجابته بصوتٍ منكسر:
– ويوحشني ليه؟ وإنتَ مش فيه يا إلياس...أنا مش عايزة حاجة إنتَ مش فيها..
– ميرال..لو سمحتي!!
قالها بصوتٍ مجهد، يشعر بإنسحابُ الهواء كما ينسحبُ الضوءُ من النهار، رفعت عينيها وتعلَّقت بعينيهِ القريبة.. للحظات تمرِّرُ أناملها على وجهه ممَّا جعلهُ يغلقُ عينيه من لمستها الدافئة، أومأت برأسها، ثمَّ همست وهي تستدير:
– حاضر..همشي.
غادرت، وهو يتابعها بعينيهِ وكأنَّ خطواتها تشبهُ خطواتِ وداع..أغلقت البابَ خلفها ليغمضَ عيناه..
اقترب يزن من السرير، وهو مغمضُ العينين، يحاولُ السيطرةَ على أنفاسهِ المتسارعة، انحنى يسأله:
– أنادي الدكتور؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي، ثمَّ فتحَ عينيهِ بصعوبة، وقال بصوتٍ خافتٍ مرهق:
– يزن..اسمعني كويس...يمكن ما نتقابلشِ تاني.
– أنا مش عايز ميرال تعمل العملية..هيَّ قالت مش هتعملها...أنا مش مصدَّقها...أنا عارفها..
أخذ نفسًا عميقًا، لكنَّه كان مثقلاً بالوجع، ثمَّ قال:
– أنا من أوَّل مرَّة شفتك، حتى قبل ما أعرف إنِّنا قرايب، شوفت فيك الرجولة، حاول تقنع ميرال...مينفعش إحنا الاتنين علشان يوسف..طالعهُ بعينيهِ وكأنَّه يترجَّاه:
-العمليات دي نسبة نجاحها قليلة ومش أحسن حاجة، مش عايز ابني يتيتم، أم وأب، فاهمني؟
علشان كدا، أنا واثق فيك، وهتحافظ عليهم..مراتي وابني...وصيتك.
سقطت كلماتهِ على قلبِ يزن كأنَّها حجارةٌ باردة، حتى انتفضَ جسدهِ من وقعها، لكنَّه تماسَك، وضعَ يدهِ على صدرِ إلياس وهمس:
- إلياس، إنتَ هتقوم بالسلامة..إنتَ ومراتك، ومحدش هيربِّي ابنك غيرك، صدَّقني.
لكنَّه أغلقَ عينيهِ للحظة، قبل أن يفتحها مجدَّدًا ويهمسَ بتعبٍ أكبر:
– يزن، اسمعني...ميرال لأ…مستحيل أسمح لها تضحِّي بنفسها، هيَّ جسمها ما يستحملش، ضغطها دايمًا مش مظبوط، والدكتور قال في متبرِّع تاني... بلاش ميرال، أرجوك..
قالها بأنفاسٍ متسارعة، حتى شعر بإنهاكِ صدره من الألم، ناهيكَ عن آلام جسدهِ الأخرى..
أومأ يزن سريعًا، محاولًا تهدئته:
– تمام...اهدى بس، علشان متتعبش.
أغمضَ إلياس عينيهِ بهدوء، وكأنَّ الصمتَ صار ملاذهِ الأخير، ثمَّ ابتلعَ ريقهِ يبسطُ كفَّيه:
-أوعدني الأوَّل، أوعدني تحافظ على مراتي وابني، إسلام لسة صغير، ولو طلبت منُّه كدا هينهار، مفيش قدَّامي غيرك..
ربتَ على كفَّيهِ محاولًا تهدئته:
-من غير ماتطلب منِّي كدا، أوعدك أحافظ عليهم بروحي..أغمضَ عينيه أخيرًا بارتياح، مع دخولِ غادة بجوارِ رؤى..
انحنت على ركبتيها بعد خروج يزن، وضعت رأسها بأحضانه تبكي بصمت
-وحشتني، وحشتني أوي..رفع يده يمسدها على رأسها
-انت كمان وحشتيني، رفع رأسها وأزال عبراتها، قائلًا بابتسامة خافتة
-بتعيطي ليه، هو أنا مُت..شهقت بصوت مرتفع تهز رأسها وارتفع صوتها الباكي
-بعد الشر عليك ياحبيبي، يارب أنا وأنت لا
-اشش، مسمعش صوتك، كبرتي يابت وبتدعي على نفسك
-إلياس أنا خايفة، خايفة عليك اوي
-ليه ياغادة، هي أول مرة، اخوكي بسبع ارواح متخافيش، وبعدين مش هموت غير لما اجوزك واطلع عين الحيلة إن شاءالله
ابتسمت من بين دموعها تهز رأسها
-إن شاءالله ياحبيبي..رفع عيناه الى رؤى التي تستمع إليهم بصمت ثم أشار إليها بالقرب، اقتربت بهدوء وعينين مترقرقتين
-عاملة ايه...تسائل بها وعيناه تتفحص ملامحها
-مش كويسة من غيرك ..
ابتسم واجابها
-اكيد، انت مش شايفة غادة اهي زيك، مش انت مش كويسة من غيري ياغادة
دفنت رأسها بحضنه بقوة مما اغمض عينيه محاولا تحمل جسدها عليه، رفع كفيه وحاوط كتفها
-احنا قولنا ايه، ليه بتحسسيني اني هموت خلاص وجاين تودعوني
-بس بقى ياالياس..قالتها غادة بحزن تدفعه عيناها من نظرات إليه ..جلست رؤى بجوارها ونظرت إليه
-انت كويس
-الحمد لله كويس اوي، يعني لما يبقى عندي أختين حلوين ومش مبطلين عياط، عمالين يفولوا على اخوهم هكون ازاي يعني
-إلياس بطل هزار ..جاي تهزر في الظروف دي ..قالتها رؤى بعدما سحبت كفيه تحتضنه ، تعمق بالنظر إليها ثم قال
-رؤى خلي بالك من مراتي، اياكي تزعليها..
-وأنا هزعلها ليه ياالياس، بالعكس أنا زعلانة علشانها..رفع كفيه إليها
-كفاية مش قادر، قالها واغمض عيناه
بمنزلِ زين..
كانت تعملُ على جهازها المحمول، دلف آدم ملقيًا السلام، ثمَّ هوى بجسدهِ جوارها قائلًا:
-النهاردة اليوم كان مرهق أوي..التفتت إليه تطالعهُ بتفحُّص:
-مالك حبيبي فيه حاجة حصلت؟..
أغمض عينيهِ ثمَّ سحب نفسًا طويلًا يزفرهُ على مهل:
-كان عندي شغل كتير برَّة الجامعة، وكمان عدِّيت على طنط فريدة..أغلقت جهازها واستدارت تجلسُ بجوارهِ تشيرُ إلى ساقيها:
-نام أعمل لك مساج، هترتاح شوية، وشَّك مُجهد أوي..تمدَّد يحتضنُ ساقيه، خلَّلت أناملها الناعمة بشعرهِ الغزير، وبدأت تحرِّكها بهدوء، ثمَّ تساءلت:
-آدم..فاكر عمُّو جمال جوز طنط فريدة؟..
اعتدلَ على ظهرهِ ينظرُ إليها:
-إيه اللي فكَّرك بيه حبيبتي، وبعدين دا ميِّت قبل ماتولد، سمعت عنُّه..
-معرفشِ بس لمَّا شوفت إلياس وأرسلان، كنت عايزة أعرف عنُّه أيِّ حاجة، أكيد كان جدع أوي، بيقولوا الابن بيكون أفعال أبوه..
أغمضَ عينيهِ ثمَّ وضع أناملهِ فوق جبينهِ ومازال متمدِّدًا على ظهره، وساقيها وسادته..
- مش شرط، بس أنا سمعت عنُّه أنُّه كان راجل أوي وكويس..
-يعني غير عمُّو راجح؟..فرك جبينهِ يهزُّ أكتافهِ بجهل:
-معرفش ياإيلين، كلِّ اللي أعرفه أنُّه كان كويس..اعتدل متكئًا على مرفقيهِ يتعمَّقُ بعينيها:
-مش هتقوليلي بتسألي ليه؟...
-طيب تعرف بابا وماما اتجوِّزوا إزاي، كان حب؟..
اعتدلَ جالسًا، ومازالت نظراتهِ المستفهمة ترسمها:
-حبيبتي مالك فيه حاجة ليه بتسألي؟!
نهضت من مكانها بعدما لملمت شتاتَ عقلها وأجابته:
-بفكَّر بس ياآدم، إيه اللي يخلِّي بابا يرمينا بالطريقة دي، ويروح يتجوِّز واحدة زيِّ سهام دي، عايزة أعرف بس.
قطبَ جبينهِ ممتعضًا، وتحدَّث بنبرةٍ ممزوجةٍ بعدمِ الاقتناع:
-بعد السنين دي كلَّها ياإيلين، جاية تسألي عن باباكي؟!..دا متجوِّز وإنتي عندك عشر سنين، يعني بعد اتناشر سنة جاية بتسألي ليه باباكي اتجوِّز على مامتك؟!..
انسحبت بهدوءٍ بعدما فشلت في معرفةِ الوصولِ لشيء..تحرَّك خلفها، حاوطَ جسدها قبل دخولها المطبخ:
-حبيبتي إنتي زعلتي، أنا بس مستغرب حبيبتي..
استدارت إليه ورسمت ابتسامةً تهزُّ رأسها:
-خلاص انسى، غيَّر هدومك لما أجهَّز السفرة، أنا جعانة أوي، ماأكلتش طول اليوم..
بعد فترةٍ نزلت إلى منزلِ خالها، قابلتها مريم أختها:
-إيلين إنتي لسة صاحية، تعبانة ولَّا إيه؟..
هزَّت رأسها وتلفَّتت تبحثُ عن زين فتساءلت:
-فين خالو نام؟!
-لا خالو مش هنا، في المستشفى عندك خالتو فريدة..استدارت قائلة:
-كنت محتاجاه في حاجة، لمَّا يرجع بالسلامة
بالمشفى:
خرج إسحاق من غرفة أرسلان وهو يتنهّد بارتياح، وكأن ثقلاً جاثمًا قد انزاح عن صدره. لم يكد يخطو خطوتين حتى وقعت عيناه على فاروق، الواقف بالقرب من الطبيب، ما إن رآه حتى اندفع نحوه بلهفة:
– أرسلان فاق... صح؟!
أومأ إسحاق برأسه وابتسامة خفيفة ترتسم على وجهه المتعب، ثم قال بصوتٍ هادئ لكنه يحمل في نبرته شيئًا من الحذر:
– إهدى، لسه تحت تأثير المخدر... ومتنساش، بقاله أكتر من تلات شهور في غيبوبة...المهم، سأل على إلياس... أنا قولتله إنه بخير، بس تعبان شوية. هو شافهم وهما بيضربوه، وماعندوش فكرة خالص عن موضوع الكلية ده...
اقترب منه أكثر، وأردف بنبرة ممزوجة بشيئًا من الجدية:
– خليك جنبه... ممنوع أي مخلوق يدخل عليه، غير دكتورته، والممرضة اللي من المستشفى العسكري. فاهم؟ ممنوع يا فاروق تسيبه، لحد ما أرجع.
وقبل أن يدير له ظهره، شدّ فاروق على ذراعه بقلق، وسأله بعينين يتراقص فيهما الخوف:
– رايح فين؟!
تنهد إسحاق، وخرج صوته خافت وكأنه يهمس لنفسه :
- شغل يا فاروق...
- إنت مجنون! لسه خارج من تعب وموت ، متفكرش إنك أقوى من أرسلان!
ربّت على كتفه في صمت، وابتسم له ابتسامة ثقة ثم همس:
- متخافش... مشوار وراجع.
بعد قليل، دلف إلى مقر جهاز المخابرات بخطى ثابتة، ورغم الإرهاق البادي على ملامحه، كانت عيناه يقظتين كأنهما ترصدان الخطر من بعيد. وجد بعض القادة في انتظاره، فألقى التحية العسكرية، ثم جلس معهم... ظلوا يتناقشون في ما علمه من أرسلان، حتى قاطعه أحدهم بنبرة متسائلة، تحمل توترًا:
– الجيش... كتيبة في الجيش؟ طيب، وصلوا للمعلومات إزاي؟
نقر قائدًا اخر بقلمه على الطاولة بإيقاع سريع، ثم قال:
– أنا تواصلت مع أحد القادة، في ظابط على كفاءة عالية وثقة، هيتولى المهمة... لازم نوصل لباقي المعلومات ونعرف مين دول، و ناويين على إيه... قوات الجيش مسيطرة هناك، واللي يخلي الظابط ده يسيطر على مكان محاصر بالإرهابيين بالشكل ده، أكيد يقدر يعمل المطلوب.
بينما تسود لحظة من الصمت المتوتر، دلف أحدهم إلى القاعة، وألقى التحية بصوت قوي.
أشار إليه أحد القادة:
– تعالَ، ياسين... عرّف عن نفسك.
مرّ بعينيه على الموجودين، وكأنه يزنهم بنظرة عسكرية مدروسة، ثم قال بثبات:
- المقدم ياسين جواد الألفي، قائد كتيبة ". ." في (....)
أشار إليه إسحاق بالجلوس، وتبادلوا النظرات، ثم انطلقت من جديد نقاشاتهم، تدور حول ما يُراد فعله... وكانت الخطورة تتسلل من بين كلماتهم، كأنهم يمسكون بجمرٍ لا مجال لتركه.
خرج ياسين بعد فترة ليست بالقليلة، رفع هاتفه وهاتف والده
-سيادة اللوا، عامل ايه حضرتك..أجابه على الجانب الآخر جواد
-أنا كويس حبيبي، انت هترجع امتى؟!
حك مؤخرة رأسه ينظر لحركة السيارات السريعة وتحرك وهو يتحدث
-اسف يابابا، مش هينفع انزل عندي شغل مهم
-في آمان الله ياحبيبي، خد بالك من نفسك ...قاطعه خروج اسحاق متجها إلى سيارته، اقترب منه وعيناه تتفحصه بدقة، توقف ومازالت عيناه تخترقه:
-انت ابن اللوا جواد الألفي
-اومأ قائلًا:
-أيوة يافندم ...ابتسامة اطمئنان شفت ثغر اسحاق، فاقترب يربت على كتفه:
-مايعملش كدا غير صقر فعلًا، ربنا معاك
ابتسم ياسين وتحدث بنبرة ممتنة
-شكرًا لحضرتك ..ارتدى اسحاق نظارته ولوح بيده قائلاً:
-شكلنا هنتقابل كتير ياحضرة المقدم ..
بالمنزلِ الذي تُحتجز به رانيا...وضع الرجلُ الطعامَ أمامها:
-كلي ومش عايز دوشة، معنديش أوامر بحاجة غير إنِّك تاكلي وبس.
نهضت محاولةً الهروب، ولكنَّه دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرض وأشار إليها مردفًا بحدَّة:
-أنا بحاول أتعامل معاكي كبني آدمة، بلاش تخلِّيني أفقد أعصابي، اللي واقف قدَّامك كان شغَّال في عمليات خاصة، ياريت تستوعبي الكلمة، أنا خلقي ضيَّق..قالها الرجلُ بعدما رمقها باشمئزازٍ وخرج يغلقُ البابَ خلفه، ظلَّت تضربُ رأسها بالجدار:
-واللهِ لأندمكم كلُّكم، ماشي اصبروا عليَّا ياكلاب، نهضت تدورُ حول نفسها بغضب:
-بعد دا كلُّه وفريدة تنتصر عليَّا، لا مستحيل، أنا معملتش دا كلُّه علشان هي تتهنَّى بحياتها، لازم أفكَّر في حل، فيه اتنين لازم أوصلهم همَّا اللي هيخلَّصوني من هنا، بس إزاي أوصل لعطوة، وميرال..إزاي..آاااه صرخت بها تحطِّمُ كلَّ ما يقابلها..
بمنزلِ راجح.،
كان يتابع الأحداثَ عن طريقِ ممرضةٍ قام برشيها بكثيرٍ من الأموال...تذكَّر ماحدث منذ يومين.. (قبل يومين)
رفع هاتفهِ وتساءلَ بلهفةٍ أخفاها:
-أخبار إلياس السيوفي إيه؟..
أجابتهُ على الطرفِ الآخر وهي تتلفَّتُ حولها:
-هيعمل عملية نقل كلى، مصطفى السيوفي هيجيب له دكتور مشهور أوي من برَّة، وعرفت كمان مراته هي اللي هتتبرَّع له.
ارتفعت أنفاسهِ كالمتصارع، ثمَّ سألها:
-العملية خطيرة، يعني ممكن يموت؟..
أجابتهُ بتمهُّل وحذر:
-جدًّا، وممكن يموت فيها، وكمان عرفت مراته عندها مشكلة، بس هيَّ أصرَّت وطلبت من الدكتور مايعرَّفشِ حدِّ خالص؛ وأه كمان جوزها ميعرفشِ إنَّها هيَّ اللي هتتبرَّع له، أوَّل ماعرف رفض يعمل العملية، بس بعدها هيَّ اتفقت مع الدكتور يقول له فيه متبرع..
نظر بشرودٍ ثمَّ أردف:
-تمام اقفلي وأيِّ جديد عرَّفيني..
ظلَّ لفترةٍ جالسًا بمكانه، ثمَّ أخذَ هاتفهِ وقام واتَّجهَ إلى المشفى، دلف بعدما أعلمَ الاستقبال عن هويته:
- انا متبرِّع، رفعت السماعة وهاتفت المسؤولين ثمَّ أشارت إليه:
-هتطلع من هنا، ممنوع الدخول من الباب الرئيسي، أومأ وتحرَّك صاعدًا للأعلى..
هبَّت ميرال من مكانها فجأة، وعيناها تقدحانِ شررًا، وكأنَّها رأت شبحًا من ماضٍ أسود..اقتربت من راجح بخطًا سريعة، وصوتها يكاد يخنقُ تنفُّسها:
– إنت بتعمل إيه هنا؟! إزاي سمحوا لك تدخل؟!
أدار وجههِ إليها بنظرةٍ باردة، وكأنَّ وجودها لايعني له شيئًا وأردفَ بنبرةٍ باردة:
- اسكتي يابت، مش عايز أسمع نفسك، نسيتي إنِّي أبوكي..
خرج مصطفى من غرفةِ فريدة على صوتِ الشجار، وعيناهُ تحوَّلت لجمرٍ مشتعل، توقَّف للحظة، وكأنَّه لايصدِّقُ ما يرى، ثمَّ زأر بغضبٍ كأسدٍ جريح:
– مين سمحلك تيجي هنا يامجرم؟!
اقترب منه، وكاد ينقضُّ عليه، لكن تدخلَ يزن وتوقَّف أمامهِ بخطوةٍ وابتسامةٍ لاذعةٍ على وجهه:
– أهلًا راجح باشا...كنت قلتلنا إنَّك جاي، كنا رشِّينا فينيك وخلِّينا البوابين يعلَّقوا فص ثوم..
راحت عينا راجح تدورُ في وجوههم، حتى استقرَّت على يزن، وأشار له بتحذير:
– ابعد عنِّي ياله، إنتَ مالك؟ لتكون محامي العيلة الجديد؟!
اقترب منه يزن ورمقهُ بنظرةٍ قاتلة:
- اللي جوَّه ده ابنِ أخويا، وأنا أكتر واحد ليه الحق فيه...
قهقه يزن يصفِّقُ بيديه، حتى أوقفهُ مصطفى مقتربًا من راجح:
-إنتَ إزاي تتجرَّأ وتيجي هنا، ابنِ مين ياأبو ابن، مابلاش تلعب معايا ياراجح..
-أنا عايز أتبرَّع لإلياس، شوفت الإعلان، متنساش إنِّي عمُّه.
ارتفعت ضحكاتهِ أكثر، ثمَّ اقترب يمسكهُ من تلابيبهِ يتصنَّعُ اعتدالها:
-عارف لو مش قدَّامنا غيرك، وهوَّ هيموت، أنا هاخده كدا أدفنه وهوَّ حي، ولا إنِّي ألوِّثه بدمَّك القذر، عارف دمَّك القذر، كفاية الدم اللي حمَّلته لناس كلِّ ذنبهم أنُّهم ولادك..دم نجس فاسد..
برقت عيناهُ يودُّ لو يطبقُ على عنقه حتى يلفظَ أنفاسه:
-جريء يامشحم، الصبر حلو..
فُتح باب غرفةِ فريدة فجأة، وخرجت بمساعدةِ رؤى وغادة..ورغم شحوبِ وجهها، إلا أنَّ عينيها تشتعلان..تقدَّمت حتى وقفت أمام راجح، و نظراتها تخترقهُ كالسكاكين..
– أقسم بالله يا راجح، لو ليك يد في اللي حصل لأولادي، لأفتح بطنك وأطعم مصارينك للكلاب الجربانة..
صرخت ميرال فجأة، كأنَّ شيطانًا تلبَّسها..اقتربت منه بجسدها، وقبضت على قميصهِ تنظرُ إليه بحقدٍ دفين:
– أنا اللي هشرب من دمَّك، سمعتني؟ هشرب من دمَّك الزفر يا راجح...
يا قاتل القتلة..
-بتقولي لأبوكي كدا..
-اخرررررس..قالتها وهي تهزُّ رأسها كالمجنونة، تدفعهُ بقوةٍ تصرخُ مرَّة، وتضربهُ مرَّة..
-أنا بكرهك، بكرهك، إنتَ مستحيل تكون أب، ربِّنا ياخدك، ربِّنا ياخدك ياأقذر أب أنجبته البشرية..
أطبقَ على ذراعيها بقوَّة:
-اسمعيني يابت، متفكريش هسكت على قلِّة أدبك دي، لااا فوقي يابنتِ راجح..دفعةٌ قويةٌ من يزن حتى تراجعَ جسدهِ وكاد أن يسقطَ على ظهره..
-اتجنِّنت علشان تمسكها بالطريقة دي وإحنا واقفين..
جحظت عيناهُ يتطلَّع إليه بريبةٍ من أمره، أزاحَ يزن ميرال بعيدًا عنه وهمسَ بهسيسٍ مرعب:
-إيدك تتمدِّ عليها تاني هكسرهالك، وديني أكسَّرلك عضمك كلُّه، ويالَّه امشي من هنا، قطعت الهوا وفيه عيانين مش عايزينهم يموتوا..
-إنتَ مين ياله، رفع عينيهِ إلى مصطفى وأردفَ بنبرةٍ خبيثة:
-جايبه بودي جارد يحميك منِّي، طيب اسمعوني كلُّكم، أنا مستعد أطلع من هنا وأفضحكم كلُّكم، وأقول للناس كلَّها، أنُّكم أكبر مزوِّرين..
-آاااه..قالها يزن وهو يرفعُ المقعدَ المعدني واقتربَ يودُّ أن يحطِّمَ به جسده...أوقفهُ مصطفى يجذبهُ من ذراعه:
-مش دا اللي تضيَّع نفسك عليه يابني، سيبه لنفسه ربِّنا يتولاه..بصقت فريدة بوجهه..
توقَّف راجح، يتلقَّى لعناتهم كأنَّها مطرُ شتاء...
– فريدة، ده أقلِّ من إنِّك تكلِّميه، ماينفعشِ تنزلي لمستوى متدني..
لكن راجح، رغم الإهانة أردف:
– أنا عايز أشوف ابنِ جمال...
قبل أن يكمل، ظهر إسحاق كالعاصفة، يشيرُ للأمن:
– ارموه برة...ولو رجع هنا تاني، موِّتوه من غير ما ترجعولي.
اقترب أحدُ الحرَّاس، لكن راجح رفع يده، محاولًا أن يحافظَ على كرامةٍ مهشَّمة:
– إنت عارف بتقول إيه؟!
لكن إسحاق قاطعهُ واقترب، ونطق بنبرةٍ تقطرُ تهديدًا:
– لمَّا تتكلِّم مع إسحاق الجارحي، تتكلِّم وراسك في الأرض، أنا هسيبك تمشي دلوقتي زي الكلب..
امشي دلوقتي ياراجح، وادعي ربَّك تموت قبل ماأشوفك تاني.
رغم رعشةٍ في أطرافه، رسمَ الجمود وأردف:
– على مهلك يا إسحاق باشا...أنا راجح الشافعي، وإنتَ عارف أنا أقدر أعمل إيه.
اقتربَ إسحاق وربتَ على كتفهِ بقوَّةٍ مؤلمةٍ تهزُّ الجبال:
– وأنا عارفك أكتر من نفسك ياراجح... لكن محبتش ألعب معك، خلِّي بالك من نفسك، لحدِّ ماأطمِّن على ابني، وقتها اللعب هيكون على المكشوف..
انسحبَ راجح بخطواتٍ ثقيلة، وهو بيلمِّ جاكيته، عيناهُ تبحثُ عن أيِّ تعاطف...لكن النظرات إليهِ كعدو، كدمار..توقَّف بلحظةٍ عفوية، ونظرهِ سكنَ على فريدة في أحضانِ مصطفى...تقابلت الأعين للحظات.. أعين تريدُ تدميره، أمَّا عيناه أرادت الصفحَ والعفو، فأردف:
-أنا جيت أشوف يوسف يافريدة، مكنتش جاي قاصد شر..
-دا بيقول شر..حد يمشِّي الراجل دا بدل ماأموِّته..هكذا قالها يزن وهو يشيرُ إليه..اقتربت ميرال منه تتعمَّقُ بالنظرِ إليه:
-إنتَ اللي عملت في إلياس كدا، إنتَ ياراجح؟!..
رمقها بنظرةٍ صامتة، ثمَّ رفع عينيهِ إلى فريدة..هزَّت رأسها بعنفٍ بعدما تأكَّدت من فعلته، ارتجفَ جسدها وانسابت دموعها بغزارة، حتى استدار وانسحبَ من المكانِ بالكامل، هنا هوت على الأرضية تبكي بصرخاتٍ مرتفعة، وتحوَّلت إلى حالةٍ من الجنون..هبط يزن بجوارها يضمُّها بحنان:
-معلش حبيبتي حظِّنا كدا..دفنت رأسها بصدرِ أخيها تهتفُ ببكاء:
-آاااه..ذنبي إيه يكون ليَّا أب كدا، أبويا هوَّ اللي حاول يقتل جوزي يايزن، أبوك هوَّ اللي حاول يقتله..
-اخرسي..هتفَ بها مصطفى وانحنى يرفعها من فوق الأرضِ يمسحُ دموعها بحنانٍ رغم نبرتهِ الحادَّة:
-إياكي أسمعك تقولي على الراجل دا أبوكي..أنا اللي ربِّيتك، أنا بس اللي ليَّا الحق تقولي له بابا، والستِّ دي أمِّك، أومال جوزك عمل دا كلُّه ليه، علشان واحد كلب زي دا ميقدرشِ يفتح بوقه..
هربَ سريعًا بعدما استمعَ إلى كلماتِ مصطفى التي أشعرتهُ بأنَّه لا يريدُ سوى الموت..
خرجَ من شرودهِ بعدما دلفت الخادمة إليه:
-فيه ظابط برة عايزك
-ظابط !!
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض"
مَن يُطفِئُ الآنَ نارَ الظنونْ؟
وكنتَ الحياةَ… أجل، كنتَ كلّي،
فمن ذا يُعيدُ إليّ السكونْ؟
تركتَ ارتجافي على ضفّةِ الصمتِ،
كأنّي جدارٌ… تقاومَ دونَ سكونْ.
نسيتَ الذي كانَ بيني وبَينَك،
ونسيتَ نبضي، وخافقَ عُيونْ!
فيا من تملّكتَ عمري وسري،
أما كنتَ تدري؟ أما تسمعونْ؟
مَضيتَ… وخلّفتَ فيَّ الخرابَ،
كأنك كنتَ الزمانَ المصونْ.
فلا أنتَ حيٌّ، لأحضنَ ظلك،
ولا أنتَ ميتٌ… لأبكيك دُونْ.
تُرى: من أُعاتبُ بعدكَ؟ ربي؟
أم اللّيل؟ أم هؤلاء الساكنونْ؟
أنا والحنينُ…من غيرك بيتٌ خريبٌ،
وغيمٌ ثقيلٌ… ونبضٌ يخونْ.**
بمكتبِ راكان، يخيِّمُ السكونُ على المكان إلَّا من حركة أناملهِ على جهازهِ الذي يعملُ عليه مرة، وعلى أوراقه مرة
دلف جاسر بخطواتٍ ثابتة، وعينينِ تنطقُ بالشوقِ لصديقِ الأمس واليومِ والغد..
"هالو..هالو بالليل يا حضرةِ المستشار العبقرينو..."
قالها وهو يقتربُ منه..
رفع راكان عينيه ببطء بعدما كان منكبًّا على أوراقه وجهازه، ثمَّ ابتسم ابتسامةً اتَّسعت معها روحه، ونهض متوقِّفًا يحتضنه:
"أهلين وسهلين، وأنا بقول الشمس غابت ورا الغيوم ليه!"
قهقهَ جاسر بخفَّة، ثمَّ ألقى بجسدهِ على أقربِ كرسي كأنَّه يحملُ تعبَ أيام ماضية..
"لا والله، ليه؟ حد قالَّك إحنا في الشتا؟"
ضحك راكان بصوتٍ عال، وضغط زرًّا خفيًا في مكتبه..
دخل الساعي سريعًا، فلوَّح له راكان بكفِّه بنغمةٍ آمرةٍ محبَّبة:
"قهوة جاسر باشا ياابني..وقهوتي كمان، وخفِّ علينا في السكر كفاية سيادة الظابط"
انصرفَ الساعي مبتسمًا، فيما نهض راكان وجلسَ قبالةَ جاسر، يمدُّ ساقهِ بتراخٍ ويرتخي بظهرهِ إلى الوراء، ثمَّ غمزَ له بمكر:
"أوعى تقولِّي قطعت الإجازة علشان وحشتك؟"
-أنا أقدر أعيش من غيرك، دا أنا بقعد معاك أكتر مابقعد مع مراتي وولادي..
-لا والله..كلام كبير.
مدَّ جاسر يدهِ إلى علبةِ سجائرِ راكان، يقلِّبها بفضول، ثمَّ نظر إليه بطرفِ عينه بسخريةٍ لاذعة:
"كلِّ شهر ليك نوع سجاير؟ ياعمِّ إهدى علينا، ربِّنا يعطينا زيَّك."
أشعلَ راكان سيجارتهِ بهدوء، ثمَّ همس وهو ينفثُ الدخان:
"الله أكبر في عنيك..."
رفع جاسر حاجبهِ ممتعضًا بتصنع:
"أنا بحسد ولَّا إيه؟ علشان تخمِّس في وشِّي؟ دا إحنا تُقال برضو..بس أبويا، ربِّنا يخلِّيه للشعب، بيقول: إهدار صحة وإهدار مال، بياخد حقِّ الدولة منِّي، بيحسِّسني أنا الشعب."
ضحكَ راكان حتى دمعت عيناه، واهتزَّ جسده، ويدهِ تغطِّي نصفَ وجهه من شدَّةِ الضحك..ثمَّ اقتربَ من جاسر، محدِّقًا فيه بنظرةٍ ذات مغزى:
"جواد باشا دا كتاب للتدريس يابني... إنَّما إنتَ..."
أمالَ جاسر للأمام، يحدِّقُ بعينيهِ بشراسةٍ ساخرة:
"أنا إيه؟"
انفجرَ بالضحكِ مجدَّدًا وهو يضرب كفيه ببعضهما:
"الأمور المغرور."
ضحكَ الاثنانِ معًا، ضحكةَ صدقٍ ومودَّة، خفتت تدريجيًّا، ثمَّ حلَّ صمتٌ حنون، صمتٌ يربتُ على القلوبِ المتعبة.
تنهَّد راكان، ثمَّ نظر في عينيهِ طويلًا، وسألهُ بهدوء:
"صحيح...قطعت أجازتك ليه؟"
نفث جاسر دخانَ سيجارتهِ بعينٍ شاردة:
"جواد باشا أمر يا سيدي...بيجاد مسافر بعد يومين، وعايزنا كلِّنا حواليه قبل مايمشي."
مال راكان برأسه:
-بجدِّ أبوك دا أحطُّه أسطورة، كلِّ حاجة بتاخد حقَّها، أنا سمعت عنُّه كتير أوي، وتمنِّيت أشتغل معاه، بس يالَّه النصيب، ملحقتش، فوقَّعني فيك..
-بتشتمني خلِّي بالك وأنا قلبي رهيَّف وبزعل..هزَّ رأسهِ ضاحكًا:
- لا طلعت بتحس وعندك blood ، دا أنا أوَّل مرَّة شوفتك قولت الواد دا إزاي يكون ابنِ جواد الألفي..واللهِ شكِّيت فيك..
رفع جاسر حاجبهِ مستخفًّا بكلماته:
-بتغلط تاني، تصدَّق أنا اللي غلطان إنِّي عبَّرتك وجيت أشرب القهوة معاك، كنت قعدت مع قصص أبويا أحسن.
جذبهُ من ذراعهِ يشيرُ إليه بالجلوس:
-اقعد يابني ماتبقاش قفوش زيِّ كيان بنتي كدا..
جحظت أعينُ جاسر يشيرُ إلى نفسهِ بتقطُّع:
-أنا كيان، واللهِ إنَّك فعلًا صاحب لسانه طويل..
ارتفعت ضحكاتهِ حتى نهضَ من مكانه:
-يخربيتك ضيَّعت الهيبة، يابني المفروض كانوا عيَّنوك ظابط أداب..
-لا كدا كتير، واللهِ ماقاعد معاك..قالها وخطا بتصنُّعٍ للخارجِ فناداه:
-تعالَ بجدِّ عايزك، قولِّي بس بيجاد
هوَّ هنا ولَّا لسه في إسكندرية؟
"لسه جاي من شوية...قرَّر السفر نهائي، بس أنا زعلان أوي..الولاد قالبين البيت عزا، وبابا بيحاول يسيطر على الوضع."
هزَّ راكان رأسهِ بتفهُّم:
"أمم...فهمت، ولاد بيجاد كبار على ما أظن؟ سفيان قدِّ أمير؟"
حرَّك جاسر يدهِ على مقبضِ الباب وأجابه:
"لا، أكبر بسنتين، سفيان في تالتة ثانوي، وعلشان كدا عايزهم يسافروا، يكمِّلوا تعليمهم هناك."
"بالتوفيق إن شاء الله..." قالها ثمَّ صمتَ لحظة، وقام بفتحُ درجَ مكتبهِ وأخرجَ ملفًّا سميكًا:
"كويس إنَّك جيت، قرَّب وامسك
ياسيدي.
قطبَ جاسر جبينهِ متسائلًا:
-إيه دا؟..
-عايزك تمسك قضية إلياس السيوفي.. تجيب من تحت البلاط..مش عايز هفوة ياجاسر."
"فيه جديد؟"
تراجع راكان في مقعده، وعينيهِ تشعَّانِ شكًّا:
"عايز أوصل للحقيقة...ليه عايزين يقتلوه؟ أنا مش متأكِّد من موضوع راجح دا."
أردفَ جاسر بنبرةٍ مؤكدة، ملوِّحًا بسيجارته:
"بس دا مجرم يا راكان! وممكن يعمل أيِّ حاجة...إنتَ ناسي شغله؟..أنا مش فاهم ليه ساكت عليه؟!"
حدَّق راكان النافذة، وغرقَ بنظراته :
"مرتين أطلَّع أمر قبض عليه... ويتـرفض."
شهقَ جاسر بدهشة، يميلُ للأمامِ فجأة:
"ليه؟ ومين بيرفضه؟!"
استدارَ راكان ببطء، واستطرد:
"لحدِّ شهر مكنتش أعرف...تخيَّل مين؟"
"مين؟!"
"إسحاق الجارحي."
صُدمَ جاسر للحظة، ثمَّ قطبَ جبينه:
"ليه؟ وبعدين دا مش مخابرات..هو إيه اللخبطة دي؟!"
رفعَ راكان كتفيهِ باستسلام:
"شكلهم عايزين يوصلوا لحاجة من خلاله."
"أو يكون راجح شغَّال معاهم..."
قالها جاسر بهدوء، لكن الكلمة وقعت على مسامعِ راكان كالصاعقة..
توقَّف عن الحركة، ليشهقَ بخفَّة، ثمَّ تراجعَ فجأةً بظهرٍ مشدود:
"لا، مستحيل..إنتَ بتقول إيه؟ معقول؟!"..لا دا إلياس عنده حاجات تعدمه، لا مش دا اللي المخابرات تعتمد عليه..
-طيب ليه آخر عمليات للخلايا الإرهابية اللي هنا فشلت، مش يمكن راجح بينقل أخبارهم؟..
-مستحيل، أنا قعدت مع الراجل دا، دا واحد عنده غل وحقد، وشكله بيكره أخوه أوي وكلِّ حاجة بتربطه..
-تفتكر هيكون هوَّ السبب في خطفِ إلياس وأخوه، وبعدين إزاي مراته تموت غريقة وتندفن بنفسِ اليوم؟..
-سيبك إنتَ من دا، ادرس القضية وشوف هتطلع بإيه.
-تمام يابوص..بس إدِّيني يومين مع أهلي علشان غنى ماتزعلش.
-براحتك، أنا عندي سفرية للولاد وهرجع بعد أسبوع..
في غرفةِ أرسلان...
كانت تجلسُ بجواره، تحدِّقُ في ملامحهِ الساكنة، ويدها تمسِّدُ على بطنها المنتفخ قليلًا..تحدث جنينها كأنها يشعر بها ويفهما:
– عايزاك تطلع شبه باباك...شُفته؟ أمُّور إزاي؟
سحبت نفسًا عميقًا، وترقرقت عيونها بالدموع، تهمسُ لنفسها:
– وحشني أوي...نفسي يفتح عيونه، خايفة تيجي للدنيا وتلاقيه زيِّ ماهو...
رفعت رأسها للسماء، تتوسَّلُ ربَّها بدموعها:
– يارب ما تحرمنيش منُّه...
قطعَ حديثها دخولُ صفية وملك..
خطت صفية بخطواتها المشتاقة، وعيناها تعانقُ جسدَ ابنها بنظرةِ أمٍّ تئنُّ بالشوق..
– حبيبتي...عامل إيه؟ لسه زيِّ ماهو؟
أومأت برأسها وهي تمسحُ دموعها سريعًا، ثمَّ نظرت إليهِ مجددًا:
– نفسي يفتح عيونه ياماما...خايفة يفضل كدا...
شهقت صفية، وتكلَّمت بنبرةٍ حاولت أن تبثَّ فيها أملًا:
-بعيد الشر يابنتي...إن شاء الله هيفوق، طول ماقلبه بينبض، يبقى لسه في أمل كبير..
المهم، قومي ننزل للدكتورة نطَّمن على البيبي...وملك تفضل مع أرسلان.
هزَّت رأسها رافضة، بعينينِ دامعتين:
- لا يا ماما...أنا مش هروح للدكتور غير لمَّا أطَّمن على جوزي.
تنهَّدت صفية، واقتربت تمسكُ بكفَّيها:
– لأ، بقالك أكتر من شهرين ما رحتيش للدكتور..لازم نطَّمن على البيبي...
أومال لمَّا يفتح عيونه ويسأل عن ابنه، نقول له إيه؟!
نظرت إليها بتوسُّل، وقلبها يشتعلُ خوفًا:
-علشان خاطري يا ماما...أنا هتعب أكتر لو رحت والدنيا من غيره،
ده أوَّل فرحتنا، إزاي أروح لوحدي؟
تنهَّدت صفية بحرقة، ثمَّ قالت بصوتٍ شبه يائس:
– ولو فضِل كدا...مش هتروحي؟
-لا طبعًا، هوَّ مستحيل يسبني كدا..اقتربت من فراشهِ وبسطت كفَّيها على رأسه تحدِّثه:
-مش كدا ياأرسلان، إنتَ مستحيل تخلي بوعدك معايا..ربتت على ظهرها:
-إن شاءالله حبيبتي..وقعت عيناها على ابنتها الحاضرة الغائبة:
-ملك..مالك يابنتي، قاعدة كدا ليه؟!..أخوكي كويس، وإن شاءالله هيفوق..
نزلت دمعةٌ تسيلُ عبر وجنتيها:
-يارب ياماما، أنا كلِّ ماأفتكر حالة غادة قلبي بيوجعني، إحساس صعب أوي، والدكتور مش مطمِّنهم..
-حبيبتي إن شاءالله يقوم بالسلامة، تذكَّرت حالة فريدة فاستدارت الى غرام متسائلة:
-فريدة مجتش هنا من إمبارح...جلست غرام وتعلَّقت عيناها بأناملِ أرسلان التي يحرِّكهما، فصرخت بسعادة:
-أرسلان فاق، أرسلان فاق..قالتها بسعادةِ طفلةٍ عاد والدها من سفرٍ طويلِ الأمد..
صباحَ اليومِ التالي..
نهضت من فوق فراشها المجاورَ لسريرهِ بخفَّة، خطت بخوفٍ كأنَّ الأرضَ تحتها هشَّة، كلَّ خطوةٍ تقطعها تنذرها بانهيار، اقتربت منهُ ببطء، كان ساكنًا..سكونهِ يرعبها، لا تعلم أهوَ نائم؟ أم أنَّ جسدهِ استسلمَ لحالةٍ بين الحياة والموت؟ لم تعد تفرِّق..كلَّ ما تعرفه أنَّ البُعدَ عنهُ يفتكُ بروحها.
ركعت على ركبتيها أمامَ سريره، مدَّت يدها بارتجاف، تمرِّرُ أصابعها على وجههِ الذي لم يعد يشبهُ إلياس الذي تعرفه..التهمَ الشحوبُ ملامحه، كأنَّ الحياةَ انسحبت بهدوءٍ وتركت فقط قشرته.
دفنت وجهها في عنقه، تسحبُ من جلدهِ أنفاسها، بل رائحته، تحاولُ أن تختزنها في رئتيها، كأنَّها تتنفَّسُ آخرَ ماتبقَّى منه..رفعت رأسها، تتفحَّصُ كلَّ إنشٍ فيه بعينيها المرتجفتين، توثِّقُ تفاصيلهِ بذاكرتها خوفًا من أن تختفي.. اقتربت من وجههِ أكثر..استنشقت أنفاسهِ التي كانت خافتة، حمدت اللهَ أنَّه يتنفَّس وأنَّه موجود، موجود، هذه الكلمة "موجود" ردَّدتها بينها وبين نفسها حتى شعرت بأنَّها عزاءها الوحيد.
تجوَّلت بعينيها فوق ملامحهِ كرسَّامٍ عاشق، يرسمُ تفاصيلَ معشوقهِ من الذاكرة...
إلى أن وقعت عيناها على وجهه، نزلت برأسها تحتضنه، تطبعُ قبلةً فوق خاصَّته، قبلةً فيها لهفةً وخوف، كأنَّها قبلةُ الحياة...لكنَّه لم يتحرَّك..لم يشعر بها، كأنَّهُ ذهب من جديد، في غيبوبتهِ المعتادة.
شهقت...شهقة بكلِّ مافيها، ضمَّتهُ كمن يتمسَّكُ بطوقِ نجاة، دفنُت رأسها بصدرهِ تحاولُ أن تهربَ من واقعٍ لا يرحم، وأردفت بصوتٍ باكٍ:
– "كتير على قلبي...أنا هموت..مش قادرة..مش قادرة أتنفِّس ياإلياس... بخـــتنق..."
دخلت الممرضة، وجهها خالٍ من التعبير، كأنَّها لا ترى مايحدث، فقط تقومُ بعملها:
– "مدام، جهِّزي نفسك، فاضل وقت قليل."
أشارت لها ميرال بصمتٍ ألَّا تتكلَّم، ثمَّ همست:
– "روحي، وأنا جاية وراكي."
– "ما تتأخريش، غرفة العمليات جاهزة."
أومأت ميرال دون أن تنبسَّ بكلمة، ثمَّ التفتت إليه، ظلَّت لثوانٍ تتأمَّله، كأنَّها تودِّعه، كأنَّها تقولُ لعينيه "ابقَ حيًّا من أجلي"، ثمَّ تحرَّكت للخارج..قابلتها فريدة ومصطفى..
ضمَّتها فريدة بحضنٍ أمومي محاولة فيه من تعزيز صلابتها:
– "ميرو، ماتنسيش تقرأي آية الكرسي، وتدعي، وقبل أيِّ حاجة خلِّي قلبك عند ربنا."
طبعَت ميرال قبلةً فوق جبينِ فريدة، وهمست:
– "ابني أمانتك ياماما..لو مارجعتش، ربِّيه زي ماربِّيتيني..ولو إلياس فاق، قولي له ميرال كانت بتحبَّك..فوق ما يتخيَّل."
ضمَّتها فريدة بقوَّة، تبكي وتتمتمُ بدعواتٍ ممزوجةٍ برجفةِ الأمومة:
– "بعد الشرِّ عليكي يا بنتي..إن شاء الله تقومي بالسلامة، وترجعي لحضنه."
رفعت نظرها لمصطفى..اتَّسعت ذراعيه، فاتَّجهت له تختبئُ بداخلهِ كطفلةٍ خائفة:
– "أنا بحبَّك أوي يابابا مصطفى... ادعيلي، ادعيلنا نرجع لبعض."
طبعَ قبلةً حانيةً على جبينها، وأردفَ بصوتٍ مبحوحٍ بالعاطفة:
– "وبابا مصطفى بيحبِّك أكتر يامرات الغالي."
نادتها الممرضة من جديد..
مسحت دموعها سريعًا، رفعت رأسها، ونظرت للجميع كأنَّها تلتقطُ وجوههم للأبد..تختزنُ صورهم بداخلها، اقتربَ منها يزن، وطوَّقها بذراعيه:
– "مش فاهم هما بيعيَّطوا ليه، دي داخلة عملية، مش رايحة تنتحر."
ضحكت بدموعها:
-"أحسن أخ في الدنيا...ربِّنا يسعدك
ياحبيبي..رغم الوقتِ القصير، حاسَّة إنِّي اتربيت معاك...أنا بحبَّك أوي أوي... خلِّي بالك من ابنِ أختك."
ضمَّها إليه أكثر وهمسَ في أذنها:
- "وأخوكي بيموت فيكي...عارفة إيه الحاجة الوحيدة اللي المفروض أشكر راجح عليها؟ إنُّه دخَّلني حياتك."
نظرت إلى رؤى، التي تقفُ بجوارِ غادة، تبكي في صمت..تلاقت العيون، وخرجت رؤى بخطواتٍ خجولة:
- "متزعليش منِّي..."
أمَّا غادة، فكانت تبكي في حضنِ إسلام، شهقاتها تقطعُ القلب، فاقتربت ميرال منها وربتت على كتفها:
-"بطَّلي عياط يا بت...بتفوِّلي عليَّا؟ جتك ضربة تاخدك"
ضحكَ الجميع، لكنها كانت ضحكةً باهتة، مجرَّدةً من الفرح...مجرَّدةً من الأمل...
تقابلت بأعين غادة التي نزعت نفسها من أحضان اسلام، وضمتها بقوة لأحضانها، تبكي وكأنها لم تبك من قبل
-أنا بحبك اوي ياميرال، عايزاكي ترجعيلي بسرعة، علشان نعمل حاجات حلوة مع بعض
ضمت وجهها بين راحتيها تزيل عبراتها، وهمست لها:
-وأنا بحبك اوي يااجمل اخت في الدنيا، يوسف الصغير في امانتك، مع يوسف الكبير..قالتها وابتعدت عنها
ثمَّ نظرت إليهم نظرةً طويلة، كأنَّها تطلبُ منهم أن يحملوها في قلوبهم... ثمَّ دخلت، وأُغلقَ البابَ خلفها.
وبعد وقت...وبعد محاولاتٍ طويلةٍ من الطبيب...
بغرفةِ إلياس..
بعد وقت..محاولاتٍ طويلةٍ من الطبيب، لإيقاظ إلياس بسببِ أدويته... لحظة بدت كأنَّها فاصلة بين الحياةِ والموت..
دقائقَ ثقيلة انقضت، ثمَّ بدأت أنفاسهِ ترتجفُ ببطء، واستعادَ وعيهِ شيئًا فشيئًا.
اقتربَ مصطفى إليه بقلبٍ يقطرُ دمًا، والقلقُ يتشبَّثُ بكلِّ خليةٍ من روحه..
حبيبي عامل إيه دلوقتي؟..
أومأ له وردَّ قائلاً:
-الحمدُ لله..
أشار الطبيبُ للممرِّضةِ بلهجةٍ حاسمة:
-"جهِّزيه.."
ثمَّ التفتَ إليه بابتسامةٍ ممزوجةٍ بالرجاء:
- جاهز يابطل..
مسَّدَ مصطفى على خصلاتهِ بحنانٍ أبوي يُبكي الحجر:
-حبيبي عايز إيمانك بربِّنا كبير، ماتفقدشِ الأمل..
- ليه بتقول كدا يابابا، أنا كويس حتى لو معملتش العملية، بحمد ربِّنا على كلِّ حال ..
ربتَ مصطفى على أكتافهِ برفق، كأنَّما يحتضنهُ من بعيد:
-إن شاءالله تقوم بالسلامة وترجع تنوَّر بيتك من جديد..
- إن شاءالله..
تلفَّتَ إلياس بالغرفة بعينينِ تبحثُ عن ميرال، ثمَّ تساءلَ بقلق:
- فين ميرال..؟
صمتَ مصطفى للحظاتٍ متوتِّراً، ثمَّ رفع رأسهِ للطبيبِ متصنِّعًا عدم معرفتهِ بشيء:
-هيَّ مراته راحت فين يادكتور؟..
-كانت هنا من شوية..تطلَّع إليهِ قائلاً:
يمكن خرجت شوية وراجعة، هتروح فين، أو ممكن راحت تشوف يوسف على السريع، إنتَ عارف وقت ماتخرج من العملية مش هتسيبك..
ودِّيني لأرسلان يابابا عايز أشوفه.
مسَّدَ على خصلاتهِ بحنانٍ أبوي قائلاً:
-حبيبي مينفعش، تقوم بالسلامة إن شاء وبعد كدا تروح له..
رفع نظرهِ لوالدهِ وتمتمَ بصوتٍ خافت، ولكنَّهُ مثقلًا بما لا يُحتمل:
أرسلان فاق يابابا، بس همَّا كانوا جايين علشان يقتلوه..
استمعَ إليه مصطفى باهتمامٍ مشوبٍ بالذعر، وارتفعت أنفاسهِ بينما إلياس تابع:
عرَّف أسحاق إنِّ أرسلان اتكشف، وهيحاولوا يقتلوه تاني، دخل مقرَّهم ونقل داتا مهمة، ودا بالنسبة للجماعات دي مش هزار، خلِّيه يحميه كويس..
أومأ له مصطفى وأردفَ بحنانٍ يُخفي رعشةَ قلقه:
-طيب حبيبي بلاش تتكلِّم علشان ماتتعبش..
عايز أشوفه لو سمحت يابابا، دقيقة واحدة قبل ما أدخل العمليات..
في تلك اللحظة، دلفت فريدة بخطواتٍ ثقيلة، كأنَّها تُساقُ إلى غرفةِ إعدامها، تشعرُ بأنَّ قدماها تحملانها بصعوبة..
توقَّف مصطفى بعدما وصلت إليهما، فجلست بجوارهِ على الفراش، وابتسمت بحنانٍ يفيضُ حزنًا:
- عارفة إنَّك مش هتخذل أمَّك، وهتدخل العمليات وتطلع بالسلامة، مش كدا ياإلياس؟..
-إن شاءالله..
تمتمَ بها بخفوت، بينما أغمضت عينيها محاولةً ألَّا تبكي، وتابعت بصوتٍ يرتجف:
-يالَّه حبيبي علشان الدكاترة منتظرينك،
قام المسعفونَ بمساعدتهِ على الانتقالِ إلى فراشٍ متحرِّك، ومع كلِّ حركةٍ لهُ كان يشعرُ بأنَّ أوجاعهِ تنخرُ عظامهِ بصمت..
همسَ لوالدهِ وهو يتشبَّثُ بكفَّيهِ المرتعشين:
- أرسلان يابابا..
توقَّف المسعفُ بعدما خرج من الغرفة، فالتفتَ مصطفى إليه وقال بإصرارٍ لا يقبلُ الرفض:
عدِّيه خمس دقايق بس على أوضة 502 يابني، خلِّيه يشوف أخوه.
توسَّعت أعينُ فريدة بذهول، وتمتمت بنبرةٍ تصرخُ حزنًا، كأنَّها تستجدي القدر:
- بلاش ياحبيبي لمَّا ترجع إن شاءالله..
لكنّّه لم يستمع...وظلَّت نظراتهِ على مصطفى الذي قام بدفعِ مقعدهِ المتحرِّك بقلبٍ يمزِّقهُ الخوف، واتَّجهَ به نحو الغرفة...كأنَّما يقودهُ إلى مصيرٍ لا يُرجى منه سوى وداعٍ لا يشبههُ وداعُ الموتى..
وصلَ إلى غرفة أرسلان مع خروجِ صفية، التي توقَّفت أمامهِ تبتسمُ ابتسامةً خافتةً أنهكتها الأيام:
- ألف سلامة عليك ياابني...
أومأ برأسه، وهمسَ بنبرةٍ خافتةٍ خرجت من بين شفتيهِ بإرهاق:
- متشكِّر...أرسلان عامل إيه؟
- صحي للحظات ورجع نام تاني، الدكتور طمَّنا..قال ده طبيعي بعد ما قضى الفترة دي كلَّها في الغيبوبة...
تمتم وهو ينظرُ إلى الأرض، كأنَّ الكلمات ثقيلة لتربط لسانه عن التفوه:
- الحمدُ لله..ممكن أدخله؟
- طبعًا ياابني، إنتَ بتستأذن؟
قالتها وهي تلمحُ مصطفى الواقفُ بصمتٍ يكتمُ أنفاسه، ثمَّ تابعت بنبرةٍ حنونة:
- سلامته ياسيادة اللواء...
أومأ لها مصطفى، وحرَّك كرسيه نحو الغرفة..دخل في صمتٍ بأنفاسٍ ثقيلةٍ يشعرُ بأنَّ الهواءَ بداخلهِ يئن، اقترب من فراشِ أخيه، تطلَّع إلى جسدهِ الساكن، جسدًا يحملُ آثار معركةٍ لم يُكتب فيها نصرٌ أو هزيمة بجسدهِ الساكن...مرَّر أناملهِ على رأسهِ بحنان..
انحنى، ورفع كفِّهِ بين يديه، ضمَّها برفقٍ كما لو كان يخشى تألُّمه، وربتَ عليها بنبرةٍ مبلَّلةٍ بالحزن:
– حمدَ الله على سلامتك يا حبيبي... كان نفسي تفتح عيونك وتكلِّمني...المهم انك رجعت للدنيا من تاني..الحمدُ لله...
رفع نظرهِ نحو والده، ثمَّ أشار إلى أرسلان وقال بصوتٍ متهدِّج:
- لمَّا يصحى...قولُّه إنِّي جيت...إنِّي كنت محتاج حضنه قبل ما...
قاطعهُ مصطفى وربتَ على كتفهِ محاولًا التماسك:
- حبيبي...إنتَ اللي هتقولُّه بنفسك... يلا بينا، اتأخرنا...وإن شاء الله تخرج وتلاقيه مستنيك...
غادر غرفةَ أخيهِ متَّجهًا إلى غرفة العمليات، طافت عيناهُ تبحثُ في الوجوه، بل قلبهِ يفتِّش عنها بلوعةِ الاشتياقِ والخوفِ من يهمس له قلبه، فاردف متسائلا:
- ميرال فين...؟؟
سألها والقلقُ يسكنُ صوته، فردَّت غادة سريعًا:
- مقدرتش تشوفك وإنتَ داخل العمليات...اعذرها ياحبيبي...
التفتَ إلى يزن، الذي أدارَ وجههِ بعيدًا يهربُ من عينيه..
- ميرال فين يايزن؟
قالها إلياس بإصرار، وعيناهُ تتفحَّصه.
ردَّ يزن بصوتٍ متردِّد:
- اعذرها ياإلياس...هيَّ صعب عليها تشوفك كده...!!
قاطع كلامهِ بنفاذِ صبرٍ ونبرةٍ تحملُ رجاءً:
- بس أنا عايز أشوفها، كلِّمها..خلِّيها تيجي.
قاطعهم صوتُ الممرضة التي أتتهُ على عجلةٍ من أمرها :
- يلَّا يافندم، المفروض تكون جوَّه من خمس دقايق...
-عايز أشوف مراتي الأوَّل..
اقتربت فريدة، وضعت يدها على كتفه، وابتسمت بمرارة:
- حبيبي..ادخل..البنت حالتها صعبة، ومنهارة..بلاش تضغط عليها أكتر...إن شاء الله تقوم بالسلامة وهتلاقيها جنبك...
تنهَّد إلياس، وسحبَ نفسًا عميقًا كمن يبتلعُ كلَّ مخاوفهِ من عدمِ رؤيتها مرَّةً أخرى، ثمَّ نظرَ إلى الممرضة:
- عايز أشوف مين المتبرِّع...قبل ما أدخل العمليات.
توسَّعت أعينُ الجميع، والتفتوا ينظرونَ لأنفسهم، إلى أن هتفَ مصطفى بسرعة، يكسرُ الصدمة:
-عايز تشوفه ليه يابني، أهو واحد وخلاص، و هتلاقيه جوَّه أكيد...الدكتور جهَّزه قبلك، مش كده يابنتي؟
أومأت الممرضة:
– فعلاً...اتخدَّر ومستني حضرتك... علشان كده بقولَّك اتأخرنا...
سحب الممرضُ مقعده، من كفِّ والده الذي شعرَ بانسحابِ أنفاسه، وعيناهُ على فلذةِ كبده وهو ينساقُ للداخل، كمن ينساقُ إلى قبره..
شهقةٌ ملتاعةٌ بداخله، كادت أن تحرقهُ حينما فقد اتزانهِ وفشل في اخفاءِ دموعه..ظلَّت عيناهُ على ابنهِ حتى غاب طيفه، التفتَ إلى فريدة التي هوت على المقعد تضعُ كفَّيها على صدرها تدعو ربَّها بسكينةً:
"اللهمَّ إنِّي استودعتك إيَّاه، فاحفظه..
يارب، ياقابضَ الأرواحِ ورازقها، يامن لا يُعجزهُ شيئًا في الأرضِ ولا في السماء...
إليك رفعتُ كفِّي، ومالي سواك يا رجاءَ الأملِ الكسير...
ياربّ، هذا ابني...قطعةٌ من قلبي، ونبضُ عمري..
هاهو الآن يذبلُ كغصنٍ عطشان،
يرتجفُ بين الحياةِ والموت،
وأنفاسي تُطعنُ كلَّما شهقتُ باسمه...
يارب، أنا الأمُّ، وهل في الأرض قلبٌ يضاهي هذا الوجع؟
لكنِّي أمتُكَ، وأعلمُ أنَّ الأمرَ كلّهُ بيدك،
فصبِّرني، واسندني، وعلِّقني بك حين تسقطُ الدنيا من تحتِ أقدامي...
اقتربَ منها بخطواتٍ متعثِّرة، وجسدٍ أوشك على السقوط..جلس بجوارها ودون تردُّدٍ سحبها لأحضانهِ يزيلُ عبراتها الصامتة التي اختلطت بدموعِ دعائها وتوسُّلها لربِّ العالمين..
-فريدة ابكي، أنا موجود..دفنت رأسها بصدرهِ تنسابُ دموعها بصمت:
-ولادنا بين إيد ربِّنا يامصطفى، مفيش أحنِّ منُّه، عارفة أنُّه اختبار عظيم، ادعيلي ربنا يربط على قلبي لحدِّ ماأشوفهم تاني..
وصل إليهما إسلام وركعَ بركبتيهِ أمام فريدة، يتحدَّثُ بصوتهِ الباكي:
-هيقوموا ياماما، أنا متأكِّد أنُّهم هيقوموا..
-إن شاءالله ياحبيبي، إن شاءالله..
عند إلياس..
دلفَ للداخل، كأنَّما يحملُ فوق كتفيهِ ثقلَ الشتاءِ كلِّه، ارتجفَ جسدهِ كلوحِ ثلجٍ تاهَ في عاصفةِ الخوف، فكيف لك ياانسان ألَّا تخافَ من لقاءِ الله، رغم قوَّته، رغم إيمانه، ولكن عند الله أضعفُ من جناحِ بعوضة، دخل يلتفتُ بعينينِ ضائعتينِ يبحثُ عن ذلك الرجل...ذلك الغريب الذي يمنحهُ الحياةَ إن أرادَ ربُّ العالمين..
أسندهُ المسعفُ على سريرِ العمليات، ثمَّ انسحبَ بخفَّةٍ حين ولج الطبيبُ المختصِّ بالتخدير..خيَّم صمتٌ للحظات، كأنَّ الزمنَ توقَّف في هذه اللحظة، وهو يرى انسحابهِ بإبرةِ التخدير، رفع عينيهِ الذابلةِ وسألهُ بصوتٍ متحشرجٍ وعقلهِ يؤِّلُ إلى زوجته:
– فين المتبرِّع؟ مش المفروض يكون هنا...؟
قالها والطبيبُ يسحبُ إبرةَ المخدِّرِ من وريده، لحظاتٌ قصيرةٌ كانت كافيةٌ ليبدأ جسدهِ بالاستسلام، ولسانهِ يثقل، ورؤيتهِ تتشوَّش...في تلك اللحظة دخلت ميرال، اقتربت كمن يزحفُ على أطرافِ سيفٍ مدبَّب، قلبها يئنُّ بضجيجِ الفقدان، انحنت بطيفها الباهت، تطبعُ قبلةً مرتجفةً بجوارِ شفتيه، وهمست بصوتٍ متقطِّع:
- إن شاءالله نقوم بالسلامة...ونربِّي ابننا سوا، سامحني..عارفة وعدتك، بس مقدرتش أشوفك بتتألِّم وأفضل أتفرَّج.
دمعةٌ خرساء انسابت من طرفِ عينه، كأنَّها توقيعهِ الأخيرِ على وجعٍ لم يختره، همسَ من بين أنفاسٍ تتخبَّطُ بالمخدِّر:
– ليه..ليه عملتي كدا..إنتي وعدتيني؟
انحنت أكثر، واحتوتهُ بذراعيها كأنَّها تحاولُ تخبئتهِ بين ضلوعها، تتمنَّى أن يسحقها كما كان يفعل ...شهقت وهي تقول:
– علشان بحبَّك...وبموت من غيرك.
تاه وعيهِ شيئًا فشيئًا، وابتلعَ المخدِّرَ صوتهِ وهو يهمس:
– زعلان منِّك، أشار بضعف للطبيب
-مش عايز اعمل العملية، مش عايز..قالها بخفوت يكاد أن يصل للاذن، لمست وجنتيه تحفر كل ماله من ملامح:
-متعملش كدا حبيبي لو سمحت...قابلها بنظراته التي تصرخ من الخوف عليها، ليهمس بين الوعي واللاوعي، لو عملتي كدا اعتبري دا آخر مابينا..قالها وأغلقَ عينيهِ كأنَّها نهايةُ فصلٍ مؤلمٍ من رواية...اقتربت الممرضةُ بنبرةٍ عملية:
– يلَّا يا مدام، لو سمحتي.
قبَّلت جبينهِ قبلةً أخيرة، وهمست بجوار أذنه
-لو معملتش كدا هموت، عايز تبعد ابعد بس المهم تكون كويس..قالتها ثم اعتدلت وكأنَّها لم تسمع شيئًا، ثمَّ أردفت بعينينِ لا تفارقُ ملامحه:
- "أنا جاهزة"..قالتها وخطت إلى فراشها
تمدَّدت إلى جواره، وعيونها تسكنهُ حتى خطفها المخدِّرَ إلى غيبوبةٍ مماثلة...جسدان على سريرين، لكن بينهما وطنًا من الألمِ والحبِّ والتضحية.
مرَّت الساعاتُ وكأنَّ الزمنَ قد توقَّف وبدا ثقيلًا خانقًا، لا يتحرَّك، لترتفعَ النبضاتُ داخل الصدور..
جلست فريدة في الركنِ البعيد، بجسدٍ منكفئٍ على المصحف، وعيناها تنزفُ دون صوت، كأنَّها تستجدي من كلماتِ اللهِ معجزةً تُعيدُ لها الصبر على الابتلاء..أمَّا مصطفى، فكان ظلًا لرجل، غابت ملامحهِ تحت طبقاتٍ من الحزن، ينطقُ بصوتٍ متحشرجٍ لا يردِّدُ سوى: الحمدُ لله...الحمدُّ لله على كلِّ حال..قل لن يصيبنا إلا ماكتبَ اللهُ لنا، قالها كمن يُعانقُ الألمَ تسليمًا لا ضعفًا.
دقائقَ من السكونِ الذي يخنقهُ الصمتَ سوى من النبضِ الذي لا يحتملُ وجعَ القلب، شهقةُ بكاء، تبعتها صرخةٌ مبلَّلةٌ برجاءٍ من اللهِ أن يربطَ على القلب:
- طوِّلوا أوي ياإسلام...قولِّي هيكونوا كويسين، قولِّي إلياس هيرجع لنا... قالتها غادة بانهيار
ضمَّها إسلام إلى صدره، وقبَّلَ جبينها المرتجف، يبتعدُ من نظراتها الباكية التي تحرقُ روحه:
- إن شاء الله، حبيبتي...إن شاء الله.
بينما يزن راحَ يزرعُ المكانَ كالمسعور، خطواتهِ تفضحُ ما يحاولُ كتمه، ووجههِ عبارةً عن لوحةٍ من الألمِ والخوف..
فجأةً دخلت غرام، وطافت بين الوجوهِ واحدًا تلوَ الآخر، حتى استقرَّت على فريدة..تقدَّمت بخطواتٍ مرتعشة، وقالت بهمسٍ راجف:
- أرسلان فاق..يا ماما فريدة، فاق!
قفزت فريدة كأنَّما بُعثت من بين أحزانها، وتمسَّكت بكلماتها كما يتمسَّكُ الغريقُ بطوقِ نجاة:
- حبيبي يابني!! قالتها وهي تحاولُ أن تسنُدَ نفسها حتى لا يخونها جسدها بالسقوط...وقعت عيناها على مصطفى الساكنِ كأنَّه لا يشعرُ بما حوله..
فاستدارت تتشبَّثُ بكفِّ غرام:
-اسنديني يابنتي..قالتها وجرت أقدامها بصعوبة، وكأنَّها تتحرَّكُ على حممٍ من النيرانِ المشتعلة، وصلت إلى بابِ غرفته، لتقعَ عيناها على ذلك الجسدِ الهزيلِ الذي التهمهُ المرضَ والألم..تاهت نظراتها وكأنَّه إلياس الذي أمامها..ياالله اربط على قلبي ولا تجعلني أعيشُ فقدانِ أحدهما، خطت ولم تعد تميِّزُ أهوَ حلمٌ أم حقيقة... تحرَّك إسلام خلفها، وأسرعَ إليها..
طالت ساعات أخرى حتى غدت دهرًا، إلى أن خرجَ الطبيبُ أخيرًا..بوجهٍ شاحب، مُنهك، كأنَّه كان بمعركةٍ خسرَ فيها جزءًا من روحه.
هبَّ يزن نحوه، بينما بقيَ مصطفى جالسًا، عيناهُ لا تفارقُ الطبيب، كأنَّما سيسمعُ منه حكمَ الحياةِ أو الموت.
مرَّر الطبيبُ نظراتهِ على الوجوهِ المتعبة، ثمَّ قال بصوتٍ لا يخلو من وجع:
- عملنا الِّلي نقدر عليه...لسه بدري نقول العملية نجحت، لازم ننتظر ٤٨ ساعة...إن شاء الله خير...سلامتهم
قالها وتحرَّك للمغادرة.
ساد الصمتُ المكان، بعد جملةِ الطبيب، لكنَّه هذه المرَّة لم يكن هدوءًا...كان رجفةً بالقلوب..انتظار، وجمرةُ أملٍ معلَّقةً بخيطٍ رفيعٍ بين الأرضِ والسماء...ولسانًا يرِّددُ الدعاءَ بالنجاح..
بعد يومينِ بمنزلِ رحيل..
كان السكونُ يسودُ المكان، لا يُسمعُ سوى صوتِ الملاعقِ المتهادي على الأطباق، حتَّى قطعت والدتها الصمت بنبرةٍ حاولت أن تُخفي اضطرابها:
– أنا عايزة أنزل مصر يومين، خالك اتَّصل بيا...قال لازم نتجمَّع قريب..معرفشِ عايز إيه بالظبط.
رفعت رحيل رأسها ببطء، تتطلَّعُ في وجهِ والدتها، تحاولُ أن تفهمَ إن كانت تمزح..ثمَّ تساءلت بصوتٍ مبحوحٍ من الدهشة:
- يعني إيه الكلام دا؟ هوَّ خالو فاكرنا في مصر؟! بينَّا ساعتين؟! وبعدين عايزنا ليه؟ أنا اتَّفقت معاه من الأوَّل إنِّنا هنعيش هنا...ليه غيَّر رأيه؟!
جزاتي يعني إنِّي عرَّفته مكانَّا؟!
رفعت الأم حاجبيها، تطالعها بدهشةٍ ممزوجةٍ بالغضبِ الذي تجلَّى بعينيها،واردفت بحدَّةٍ ناعمة:
– وإنتي كنتي عايزة أخويا الوحيد مايعرفشِ مكانَّا يارحيل؟! إنتي مالك بقيتي كده؟ أنا سكت علشان متكونيش لوحدك، بس ده مش معناه أوافق على كلِّ حاجة بتعمليها..
انقبضَ قلبُ رحيل، كأنَّ حديثَ والدتها ضغطَ على جرحٍ مفتوح. ألقت محرمتها بعنفٍ ونهضت، بعينينِ تغليانِ بالدموع:
- خلاص، انزلي له، محدش غصبك تيجي معايا أصلاً..عايزة أحجزلك دلوقتي؟ ماعنديش مانع..قالتها
ثمَّ استدارت تتحرَّكُ كمن يفرُّ من عدوِّه، خطت بخطواتٍ تضربُ الأرضَ وكأنَّها تسحقُ وجعها تحت قدميها..
احتضنت والدتها رأسها، تستغفرُ ربَّها في سرِّها، ثمَّ رفعت نظرها نحو الدرج، تراقبُ تحرُّكاتِ ابنتها الغاضبة..
في الأعلى، ألقت رحيل بنفسها على الفراش، وانفجرت دموعها في شهقاتٍ مدوية، كأنَّها تُخرجُ من صدرها بقايا الأملِ المهشَّم...تشعر بأن صدرها لا يتَّسعُ لأنفاسها، وكأنَّ بكاءها يحاولُ اقتلاعَ شيئًا عالقًا في روحها."
– آآآه..ليه؟ ليه بيحصل معايا كده؟!
خرجَ صوتها مُوجعًا، بما يتحمَّلهُ قلبها..
استمعت والدتها لبكائها، فنهضت على الفور، بقلبٍ يتفتَّتُ مع كلِّ شهقةٍ تصدرها ابنتها.
دخلت عليها، وجلست بهدوءٍ بجوارها، وخلَّلت أصابعها تسرحُ في خصلاتها كأنَّها طفلةٌ تحتاجُ للحنوّ..ثمَّ تحدَّثت بنبرةٍ هادئةٍ حنونة:
– كده؟ هتفضلي كده يا حبيبتي؟ الِّلي بتعمليه في نفسك ده محدش بينضَّر منُّه غيرك، ياقلبي.
صرخت رحيل وهي تتعلَّقُ بيدِ والدتها:
تحاولُ أن تُخرجَ كلَّ آلامها التي تحرقُ روحها
-عملت ايه ايه ياماما للغدر دا، انا حبيته، والله حبيته بس هو طلع غدار ومخادع ..مسدت والدتها على رأسها
-طب اهدي حبيبتي، بس لو اعرف ايه اللي حصل بينكم، أنا متأكدة أنه بيحبك برضو
-ماما احضنيني...تعبانة...واللهِ تعبانة من كلِّ حاجة..أنا مش قادرة...نفسي أرتاح، نفسي أرتاح…
ضمَّتها والدتها لصدرها، تقرأُ في سرِّها ما تيسَّر من القرآن، تحاولُ أن تسكبَ السكينةَ في قلبها الموجوع، حتى هدأت أنفاسها شيئًا فشيئًا، ونامت بين ذراعيها كطفلةٍ كسيرة.
مسحت دمعةً انحدرت من عينها، وساعدتها على التمدُّد، ثمَّ دثَّرتها جيدًا، كأنَّها تخشى أن تتسلَّل الأحلامُ المؤلمةُ إلى نومها.
وقفت تنظرُ إليها قليلًا، ثمَّ التقطت هاتفها من على الكومود، تأمَّلته بُرهة، وقالت في نفسها:
- مش هسيبك تئذي نفسك أكتر من كده يارحيل...
بدأت تبحثُ عن الرقم…لم تجده.
– معقول؟! مسحتي رقمه؟! يا ترى عمل فيكي إيه يزن يخلِّيكي توصلي لكده؟!
قلَّبت بين الأسماء حتى وجدت رقماً محفوظًا باسم:
"المخادع."
لم تتردَّد.
ضغـطـت على زرِّ الاتصال...
وقلبها يخفقُ كأنَّها تفتحُ بوابةً الألم من جديد
عند يزن..
ظلَّ الجميعُ على صفيحٍ من الانتظار، القلوبُ معلَّقة بين دعاءٍ وهمس، ساعاتٍ تمرُّ ببطءٍ قاتل، كأنَّها تعصرُ الروحُ عصرًا..اخترق رنينُ هاتفِه الصمت والترقب، نظرَ يزن إلى الشاشة، رقم دولي غريب، عقدَ حاجبيه، ثمَّ رفعَ الهاتفَ إلى أذنه:
– ألو...
قالها بنبرةٍ هادئةٍ تُخفي اضطرابًا من خلفِ صوته..
– إزيك ياباشمهندس، يارب تكون بخير...
تجمَّدت ملامحه، وتسلَّل الشكُ إلى صوته:
– مين معايا؟..قالها
ونهضَ مبتعدًا..
في غرفةِ أرسلان..
كان كلُّ شيءٍ ساكنًا، كأنَّ العالمَ توقَّف ليمنحهم لحظةَ حياة...جلست غرام بجوارهِ مبتسمة، تسلَّلت أصابعها إلى خصلاتِ شعرهِ بلطف، تنظرُ إليه باشتياقٍ وكأنَّها كانت تنتظرُ معجزة..
مدَّ يدهِ ليمسكَ كفَّها، وعيناهُ تبحثُ عن إجابة:
- مخبِّيين عليَّا إيه يا غرام؟ ليه ماما ما جتشِ من إمبارح؟..معقول تكون تعبت تاني؟
لمست وجنتيهِ بحنانٍ خافت، أردفت بنبرةٍ كانت كنسمةِ خريفٍ حزينة:
– ماما تعبت أوي ياأرسلان...بس من فرحتها بيك، قاومت الألم وقالت تيجي تشوفك، حتى لو هتزحف، بس الدكتور منعها من الحركة الكتيرة..
فجأة، دلفت ملك بشقاوتها المعتادة، لكنَّها هذه المرَّة مختلطةً بدموعٍ وفرحٍ مجنون:
– أرسووو، حبيب قلبي، فااااق!
ارتمت على صدره، حتى صرخ بألمٍ حاد:
– آه...
ابتعدت فورًا، ولمعت الدموعُ في عينيها:
– آسفة...آسفة والله، من فرحتي نسيت...
ربتَ على كتفها وضمَّها بقلبهِ قبل ذراعيه:
– وحشتيني ياملوكة...
طبعت قبلةً دافئةً على وجنته، وهمست:
– إنتَ أكتر، ياحبيب ملوكة...
رفعت بصرها نحو غرام، وبضحكةٍ باكيةٍ قالت:
- عارفة إنِّك بتغيري عليه، بس أنا مشتقاله أوي..
دفنت وجهها في صدره، ودموعها تنسابُ كأنَّها تعتذرُ عن الفرحِ وسط الوجع.
بسطت غرام كفَّها على شعرها بلطف:
– لا ياحبيبتي، مش بغير..دا أخوكي، ومن حقِّك تدلَّعي عليه.
رفع أرسلان رأسهِ إليها، وابتسامةُ سخريةٍ حنونةٍ مرسومةٍ على شفته:
– خلاص كده؟ مدام غرام بيعاني؟ تعبي قوَّى قلبك عليَّا وخلاص؟
ضحكت غرام، وترقرقَ الدمعُ بعينيها، وانحنت تطبعُ قبلةً قرب شفتيهِ وهمست بنبرةٍ مخنوقةٍ بالعشقِ الذي كان سيتسرَّبُ من بين يديها:
- الحياة من غيرك كانت كابوس، ربِّنا يخلِّيك لقلبي، لحياتي، لنفسي...ربِّنا ما يحرمني منَّك يارب..
أزاحت ملك خصلاتها الشاردة بخفَّةٍ خلف أذنها، بعد اعتدالها، وقالت بمكرٍ طفولي:
– ياكناري الحب فيه عصفور صغير بيغنِّي هنا لوحده..
ابتسم أرسلان، ومدَّ يدهِ يلامسُ خصلاتها، ثمَّ تذكَّر صفية، فارتسمت على وجههِ نظرةُ قلقٍ مفاجئة:
– ماما صفية..فين؟
– متقلقش، تحت...بتطَّمن على إلياس، بتشوفه رجع لوعيه ولَّا لسة، وكمان عرفت بخطورة حالة ميرال، صعبت عليَّا أوي..ولمَّا ماما عرفت بتعب طنط فريدة كمان..برقت غرام عينيها، حتى تصمت..
لاحظَ أرسلان، فحاولَ النهوض، لكن قبل أن يتحرَّك، دخل إسحاق بسرعة..
– أخيرًا شمس الدنيا نوَّرت من تاني..
لكن أرسلان لم يرد، وبدأ ينتزعُ الإبر من كفِّه بقوَّة..تطلَّعت إليهِ غرام تهزُّ رأسها بذهول، بينما اقتربَ منه إسحاق بلهفة:
– إنتَ بتعمل إيه؟!
– لو سمحت...ابعد عنِّي.
قالها بنبرةٍ جافَّةٍ كسكينٍ حاد، قطعت قلبَ إسحاق ممَّا جعلَ جسدهِ ينتفضُ ويتراجعُ خطوة.
أزاحَ الغطاء، أنزلَ قدميه، بصعوبة وضغطَ زرَّ النداء..
دخلت الممرضة:
– أفندم؟
- إلياس السيوفي..في المستشفى دي؟
– أيوه..
-بيعمل إيه؟..
-كان بيعمل عملية من كام يوم تقريبًا.
-عملية!..تمتمَ بها بجهلٍ ثمَّ تساءل:
-عملية إيه دي؟!
-زرع كلى !!
رجفةٌ قويةٌ حتى شعر بجسدهِ ينتفضُ برعب، ابتلع غصَّةً أحرقت جوفه:
-زرع كلى!.. ليه؟..قصَّت الممرضة ما تعلمه، في حالةِ صمتٍ مرعبٍ من الجميع، وبكاءِ ملك وفركها بكفّّيها لما وصل إليهِ الأمر بسببها..
ارتجفت أنفاسها، كمن يختنق، فأشار إلى الممرضة :
– ساعديني أروحله.
وقف إسحاق أمامهِ في محاولةٍ لمنعه، لكن أرسلان صرخَ فجأة، صرخةً قطعت نياطَ قلبه، ورغم شعورهِ بآلامٍ تفتكُ بصدرهِ إلَّا أنَّه دفعَ الأدويةَ والمحاليل أرضًا:
– مش عايز كلمة، طفل صغير علشان تضحكوا عليَّا؟ أخويا بيصارع الموت بسببي؟ ليه محدش قالِّي؟!
ليه خبيتوا عليَّا؟..
قالها بصوتٍ متقطِّع، وأنفاسهِ تتلاحقُ كعدَّاءٍ فقد طريقه...
جثا إسحاق أمامه، يمدُّ كفِّه برجاء:
– أرسلان...حبيبي، اسمعني، إلياس كويس...
غرز أرسلان نظراتهِ في عينيه، بنبرةٍ تصهرُ الحجر:
– إنتَ كذبت عليَّا ياإسحاق باشا... كذبت، وخبِّيت، وحرمتني من حقِّي إنِّي أعرف..مكنتش عايز غير أعرف..استكترت أحسِّ بأخويا..دا أخويا ياإسحاق باشا، زمان حرمتني منُّه، قولت حقَّك، بس دلوقتي مالكشِ حق تمنعني أكون جنبِ أخويا
"سكتَ إسحاق، وهرب بعينيهِ من نظراتِ أرسلان المشتعلة..والحقيقة التي أطلقها بوجههِ أقسى من أن تصفَ الشعورُ المؤلمُ الذي يعصفُ بكيانه..قالها وتوقَّفَ مع اختلالِ جسده، اقتربت منه غرام ولكنَّه أشار إليها:
-متقربيش منِّي..
سادَ الصمت، ثقيلًا كالموت، وكأنَّ الغرفةَ اختنقت من ردَّةِ فعله..
بمنزل محمود والد ايلين
استمعت سهام الى طرقات على باب منزلها، نهضت تجذب روبها، وصاحت للطارق
- حاضر أنا جاية، ايه مسروع على ايه
فتحت الباب ..رفعت حاجبها بسخرية تضرب كفيها ببعضهما:
-هو أنتِ..اهلا ياست الدكتورة، ابوكي مش هنا سافر، جاية ليه
دفعتها ايلين ودلفت للداخل قائلة
-عارفة بابا مش هنا، انا جاية لك انت
انكمشت ملامحها بسخرية، وخطت تتهادى بخطواتها حتى جلست على المقعد تضع ساقًا فوق الأخرى
-ليه الدكتور رماكي، ولا الحمل جننه ومش متحمل يصبر
ألقت ايلين حقيبتها بغضب، وأشارت باصبعها ونطقت بنبرة حادة ممزوجة بالغضب:
-سهام قلة ادب مش هسكت، خليكي ست محترمة مرة واحدة، انت ايه مفيش غير شغل الرقاصين دا
مصمصت شفتيها تطلع إليها بامتعاض
-عايزة ايه ياست الدكتورة المؤدبة، جاية تكملي العلقة بتاعت اختك
-لا ..قالتها وجلست تتعمق بالنظر إليها وتسائلت:
-تعرفي واحد اسمه جمال الشافعي..هبت من مكانها فزعة، وتمتمت بارتباك واضح
-مين الراجل دا، لا معرفوش..توقفت ايلين واقتربت منها وعيناها تحاوطها
-جمال الشافعي دا كان شريك بابا، ايه بابا مش كلمك عليه
ابتعدت مستديرة تواليها ظهرها
-لا معرفوش، مش دا قريب راجح، اه اكيد اسمه زي اسم راجح جوز خالتك
اقتربت ايلين وضغطت عليها بحديثها
-بس عمو راجح قال انك كنتي تعرفي جمال اخوه، وقالي حاجة تانية، تحبي تعرفيها ..استدارت إليها سريعا تتسائل بلسان ثقيل
-أنا معرفوش
بفيلا الجارحي
دلفت الخادمة إليها تهمس بنبرة خافتة
-اسحاق باشا والست دينا جم تحت ياهانم، ومش بس كدا، كمان الست غرام مرات الباشا الصغير، ومعاها شنط كبيرة
ارتجف جسدها وارتفعت انفاسها، فأشارت إليها بالخروج..راحت تتحرك بالغرفة ذهابًا وايابًا..تهمس لنفسها
-دينا..ياترى يادينا كنتي مختفية فين الوقت دا كله..
فركت كفيها بقوة، ثم دثرت أناملها بخصلاتها تجذبها بعنف
-قالت له حاجة..لا ..لا هي أضعف من كدا..ياريتك مشيتي يااحلام
قطع حديثها مع نفسها دفع اسحاق للباب، ثم أشار لرجلين
-المريضة اهي، اعملوا اللازم
جحظت عيناها باتساع كاتساع السموات والأرض، وشل جسدها وهي ترى شخصين يرتدون زي ابيض، يبدو أنهم يعملون بمشفى
جذبها أحدهم بعنف، فدفعته تصرخ
-انت بتعمل ايه، ابعد عني ..؟!
جذبها اسحاق من ذراعيها بقوة كادت أن تسحقها ثم نظر اليها بعينين تتوهجان بنيران جحيمية، وهمس بهسيس مرعب:
-هخليكي تتمني الموت يااحلام هانم، زمان سكت على أفعالك علشان وصية ابويا، فاكرة ابويا، بس خلاص طاقتي نفذت واستهلكت
هزت رأسها برعب من شكل الرجلين، وتراجعت بجسدها للخلف
-انت هتعمل ايه، اسحاق انا امك، ايه ناوي تموت امك
-ياريت..ياريت يااحلام هانم، بس القتل عند ربنا عظيم، فأنا شوفت حاجة تستحقيها ..
أشار للرجلين :
-خدوها، ولو حد زارها هولع فيكم ..
لا ..لا ..قالتها وهي تهرول صارخة
-مين دول، متعملش فيا كدا يااسحاق علشان خاطري
-خاطرك..خاطر ايه يامدام احلام، ابني اللي سرقتيه من حضني، ولا مراتي اللي عذبتيها، ولا خطبتي اللي موتيها يوم خطوبتنا، ولا عمايلك مع صفية، وصل إليها بخطوة وكاد أن يطبق على عنقها واستطرد
-ولا ارسلان اللي حاولتي تسمميه كذا مرة قبل ماتعرفي أننا كتبنا كل حاجة باسمه..اهدي يااحلام هانم لسة دا اول مسمار
-انت هتعمل فيا ايه
-استضافة جميلة لحضرتك في مستشفى امراض عقلية، مخك عايز يتظبط يمكن تموتي وتريحيني وهو موتة ربانية، أو نعقلك هناك
خدوها....قالها بصوت صاخب، مع صرخاتها وتوسلها
-أنا مش هسكت، والله لاندمك يااسحاق...فااااااروق، انت فين، تعالى شوف اخوك بيعمل في امك ايه
بعد شهر، وقف أمام المرآة يُغلقُ أزرارَ حلَّتهِ الداكنة بملامحَ جامدة، تكادُ لا تُقرأ، وعيناهُ مطفأتان كأنَّهما تسكنهما حربًا وحزنًا لم تنتهِ بعد...انحنى ببطء، التقطَ سلاحه...لقد تغيَّرَ حالهِ كثيرًا ولم يعد ذلك الشخص…
دخلت غرام الغرفة تحملُ صينيةَ الطعام، توقَّفت للحظةٍ تتأمَّله في صمتٍ مذهول، ثمَّ قالت بتوتُّر:
-إنتَ خارج؟! أنا جهزتلك الأكل.
لم يلتفت، ولكنَّه أجابها بنبرةٍ خافتة:
-ماليش نفس..
وضعت الطعامَ على الطاولةِ بتردُّدٍ واقتربت منه بخطواتٍ بطيئة:
- رايح المستشفى؟ خدني معاك، عايزة أطَّمن على ميرال.
انحنى ليلتقطَ مفاتيحهُ وهاتفه، ثمَّ نظرَ نحوها للحظاتٍ قبل أن يقولَ بنبرةٍ قاسية:
- لا..
تقدّمت إليه وهي تكادُ لا تقوى على الوقوف، وترقرقَ الدمعُ في عينيها وتحدَّثت بنبرةٍ ضعيفةٍ منكسرة:
- هتفضل مخاصمني لحدِّ إمتى؟ أنا تعبت، أرسلان...واللهِ تعبت...قالتها بصوتٍ كالصراخِ مع انسيابِ دموعها..
ظلَّ واقفًا للحظات، ثمَّ أدار وجههِ إليها ببطء، وقال بجمودٍ باردٍ يُخفي غليانِ قلبه:
- غرام...أنا قلت إيه؟ لمَّا تتكلِّمي معايا..إياكي تعلِّي صوتك تاني،
ولمَّا تسأليني زعلان ليه، فزعلان عشان ماكنتش متوقِّع اللي عملتيه.
مدَّت يدها تتشبَّثُ بذراعه، تمسكهُ وكأنَّها تستنجدُ به ألَّا يبتعد:
- أرسلان، أنا تعبانة، وقلبي وجعني، ما صدَّقت إنَّك ترجع لي..شهور وأنا بدعي ربِّنا، وفي الآخر دا حق انتظاري ودعواتي...
-اجهزي، السوَّاق يوصَّلك عند باباكي، اقعدي هناك كام يوم، غيَّري جو..
-توسَّعت عيناها بدموعها..
وقبل أن ترد، انفتحَ البابُ بعنف، ودخل إسحاق كالإعصار، بعينينِ تتوهَّجُ بغضبٍ مكبوت:
– أنتَ ناوي على إيه؟! ليه مستدعي العيال دي؟!
لم يتحرَّك أرسلان، وكأنَّه لم يستمع إلى شيء، بل أدارَ جسدهِ ببطءٍ نحوه، ووضع سلاحهِ بحزامهِ دون أن يرفَّ له جفن:
-أنا بكلِّمك يالا..
- حضرتك عمِّي، على عيني وراسي... بس دخولك أوضتي وأنا مع مراتي كدا؟ عيب في حقّ إسحاق الجارحي.
انفجرَ صوتُ إسحاق بالغضب:
-إنتَ اتجنِّنت ياابني؟! الكام شهر اللي غبت فيهم عن الوعي نسُّوك الأدب؟!
لم يرد عليه، مرَّ بجانبهِ بهدوءٍ ينذرُ بالعاصفة، لكنَّ إسحاق جذبهُ من ذراعهِ بعنف:
- أرسلان، جاوبني...إنتَ ناوي على إيه؟ أوعى تفكَّر أسيبك تعمل عمل مجنون، يبقى بتحلم..
سحبَ أرسلان ذراعهِ بقوَّة، ونظر إليه بعيونٍ تتوهجُ بنيرانٍ كقاعِ جهنَّم،
وخرجَ صوتهِ كزمجرةٍ مكتومة:
- ماتقفشِ قدامي..
حقِّي...وحقِّ أخويا...وحقِّ أمِّي، أنا هجيبه ياسيادةِ العقيد..
واللي هيقف بيني وبينه...مش هرحمه، حتى لو كنت إنت.
قالها وأدارَ ظهرهِ ببطء، ثمَّ تحرَّكَ للخارج، وخطواتهِ تُحدثُ صوتًا عنيفًا على الأرض، كأنّّها تُعلنُ أنَّ مابعد خروجهِ لن يعودَ كما كان...
بعدَ فترة، دلفَ بسيارتهِ المصفَّحة واقتحمَ فيلا راجح الشافعي، ترجَّلَ من السيارةِ يشيرُ إلى حرسه:
-مش عايز حدِّ سليم، وفي نفس الوقت مش عايز موت، جمَّعوهم في العربية..دقائق وتحوَّل المكان إلى معركةٍ عنيفة، دفعَ أرسلان البابَ بقدمهِ بعدما أطلقَ رصاصةً لينفتحَ البابَ على مصراعيه..
بالأعلى بمكتبِ راجح..
كان يجلسُ يتناولُ قهوتهِ مع إنهاءِ بعض أعمالهِ المشبوهة، استمعَ إلى صراعٍ وكأنَّها حرب..نهض من مكانهِ مع دخولِ أحدِ حرَّاسه:
-إلحق ياباشا، أرسلان الجارحي تحت واقتحم البوَّابة..
هبَّ فزعًا، إنتَ بتقول إيه..لم يُكمل حديثهِ بسببِ طلقةٍ ناريةٍ أصابت قدمَ الرَّجلِ حتى سقطَ أمام راجح على الأرض..
تقابلت النظراتُ بينهما، إلى أن هتفَ أرسلان بنبرةٍ باردة:
-أهلًا ياراجح ياشافعي، إيه مكنتش متخيِّل هجيلك؟..
-عايز إيه يابنِ جمال، و إزاي تدخل بالهمجية دي!..إنتَ مفكَّر البلد مفيهاش قانون؟..
دفعَ المقعدَ بقدمه، واقتربَ منه متناسبًا كلَّ شي، ثمَّ انحنى يجذبهُ بقوَّةٍ على المقعد:
-النهاردة ياراجح أنا قانونك، أنا تنازلت عن كلِّ حاجة، تنازلت عن مستقبلي واسمي وكلِّ حاجة، وجيت لك بصفتي
جمال جمال الشافعي..قالها وهو يسحبُ من أحدِ رجالهِ سلاحًا أبيض..بدخولِ إسحاق:
-أرسلان..إياك، ماتتهورشِ بلاش..
لم يتهاون حتى غرسَ السكين بطولِ جنبهِ مع صرخاتِ راجح..واقتربَ من أذنهِ يهمسُ بهسيسٍ مرعب وهو يحرك السكين بجنبه:
-السنِّ بالسن، والعين بالعين، والبادئ أظلم." قالها وهو يخرجُ السك ينَ لعدَّةِ مرَّاتٍ حتى هوى راجح على الأرضيةِ غارقًا ببركةِ دمائه..
اقتربَ إسحاق ينظرُ إليهِ كالمجنون، أشارَ إليه أرسلان:
-نضَّف ياباشا، زي ماكنت بتنضَّف ورايا زمان، ماهو دا بردو عمل وطني..
قالها وهو يُلقي الس. كين من يديه، يمسح يديه من الدماء
-قذر، نصيبنا يبقى عمي قذر
-اسف يااسحاق باشا، اكيد مقصدش جنابك، اصلك مش عمي، ماهو لو انا ابن اخوك فعلًا، مكنتش سكت على دم اخويا، قالها ، ثمَّ أشارَ لأحدِ رجاله:
-عايز الفيلا دي رماد، اتَّجهَ ينظرُ إلى إسحاق بسخريَّة:
-إسحاق باشا، خلِّيهم وهمَّا بيستأصلوا الكلية يرموها بعيد، الكلاب ممكن يتسمِّموا..
قالها وتحرَّك وكأنَّه لم يفعل شيئا..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
في العِشقِ الحقيقي، لا تُحسب الخُطى، ولا تُوزَن التضحيات بمكيالِ العقل…
بل يُلقى القلبُ في ساحةِ الهيام،
عارياً من الأنانية، نابضاً بالولاء.
أُضحّي بنفسي لا ضعفاً..
بل لأن حبك يستحق أن أُفنى لأجله…
لأنني حين أحببتك
لم أرَ العالم إلا من خلالك،
ولم أعد أطلب من الحياة سوى أن تبقى فيها.
فإن كان بقائي يؤلمك..
سأرحل وأنا أبتسم…
وإن كان رحيلي يُبكيك
سأبقى، ولو كان في البقاء فنائي.
فالعشقُ عندي، أن أكون ظلك إن غبت، ودمعك إن بكيت،
وروحك إن وُهبتني الرحيل.
أعشقك حد التلاشي،أذوب في تفاصيلك كما تذوب النّار في الشمع
لا أنتظر جزاءً، ولا أرجو مكافأة
فالعشقُ الذي يُقايَض… ليس عشقاً، بل صفقة.
قدّمتُ نفسي لك طوعاً،
لا بطلةً، بل عاشقة…
تدرك أن التضحية ليست موتاً،
بل حياةً من نوعٍ آخر…
حياةٌ تُكتب في ظلال من تُحب،
ولو لم يُكتب لها أن تُروى.
وإن طُلب منّي أن أُفنى ليحيا عشقنا، فخذني كُلي،
وابنِ من رمادي قصيدةً
يُتلى فيها اسمك،
ويُحفر فيها وجعي قرباناً لخلودك.
#ميرال_السيوفي
خرجَ أرسلان من فيلا راجح، يشيرُ إلى الرجالِ المقيَّدين بإشارةٍ حاسمة:
"خدوهم، احبسوهم في أيِّ مكان.. مش عايز حاجة تبع راجح تفضل سليمة…أكيد عارفين إيه المفروض تعملوه."
ردَّ عليه أحدُ رجاله:
"تحت أمرك ياأرسلان باشا."
دقائقَ فقط، وكانت سيارةُ الإسعاف قد وصلت..وضع نظارتهِ الشمسية بهدوءٍ وهو يتأمَّل رجالَ الإسعافِ يهرعونَ إلى الداخل، لحظات..خرجوا وهم يحملونَ راجح على نقَّالةِ الإنقاذ.
ابتسمَ أرسلان بسخريةٍ وهو يطالعُ إسحاق، الذي وقف واضعًا يديهِ على خصره، يرمقهُ بنظراتٍ مشتعلة.
فتح بابَ سيارتهِ واستعدَّ للمغادرة، اقترب إسحاق بغضب، ووقفَ أمام السيارة، يضربُ على مقدِّمتها بقوَّة:
"انزل يالا، بدل ما أكسَّر العربية فوق دماغك!"
أطلَّ أرسلان برأسهِ من النافذة، يشيرُ إليه بابتسامةٍ باردة:
"إلحق راجح ياباشا…يمكن يحتاجك تتبرَّعلُه بالدم!"
قالها، ثمَّ تراجعَ للخلفِ فجأة، وانطلق بسيارتهِ بسرعةٍ جنونية، غير مكترثًا بإسحاق الذي بقيَ واقفًا، يُحدِّق في غبارهِ المتصاعد..
بعد فترةٍ من الانتظارِ المضني، وصل أخيرًا إلى المستشفى..
بدأ يتحرك بثبات وعيناه تتجول بكل اتجاه، والوقت يُلقي بظلاله، رائحةُ المطهِّراتِ تملأ المكان كأنَّها تذكِّرهُ بالألمِ الذي كان هنا منذ أيام..
دلف للداخلِ بخطواتٍ واثقة، لكنَّها كانت ثقيلة، يشعر بأن كلَّ خطوةٍ تحملُ ثِقل خوفهِ على من يحب..
بسط كفِّه ليفتحَ باب الغرفة، ولكن سبقهُ إسلام بفتحه..
تنهَّد بارتياح، وتطلَّع اليه بنظرةٍ مرهقة، بدا وكأنَّه لم ينم وقتًا كافيًا،
ورغم ذلك انفرجت ملامحهِ قليلًا، حينما وجد أرسلان:
-كويس إنَّك جيت.
وقف قبالتهِ وسأله بصوتٍ ممزوجٍ بارتعاشةِ خوف، فتساءلَ سريعًا:
-ليه فيه إيه، إلياس كويس؟..
أومأ له بهدوءٍ ثمَّ حدَّق في ساعتهِ بعجلة:
-هوَّ كويس، نايم دلوقتي، بس عندي امتحان واتأخَّرت، يزن كلِّمني وقالِّي جاي، بس معرفشِ اتاخَّر ليه..خليك معاه محبتش أقلق بابا وهوَّ مصر أنُّه يخرج من المستشفى..
ربت على كتفهِ برفق، ثمَّ نظَر إليه بعينينِ تفيضُ بالعطفِ والحنان، و قال بنبرةٍ ثابتة:
- بالتوفيق إن شاء الله..هشوف ميرال الأوَّل بدل نايم.
تنهَّد إسلام، ثمَّ قال بصوتٍ خافت:
– غادة هناك، بتجهِّزها علشان هتروح، أخيرًا هتعمل مغادرة..قالها بضحكةٍ خافتة..
لكزهُ أرسلان بخفَّةٍ بصدرهِ ثمَّ أردف مازحًا:
-إنتَ غيران يابني، الحبّ بيعمل المعجزات..
تهكَّم ينظرُ بساعته، ثمَّ سار بجوارهِ يلوِّحُ بكفَّيه:
-الحبِّ وسنينه وساعاته ومرارته..
ضحك أرسلان بمحبَّةٍ على كلماته، قائلًا:
-بالتوفيق إن شاء الله.
قالها وتحرَّك نحو غرفةِ الطبيب،
وقف أمامَ الباب، طرقهُ بخفَّة، وانتظر الإذن، ثمَّ دخل حين سمعَ صوتَ الطبيبِ يأذنُ بالدخول.
جلسَ قبالته، بعدما ألقى التحيةَ :
-ميرال السيوفي هتخرج النهاردة، كدا كلِّ حاجة تمام..طيب ليه حضرتك مصر على وجود إلياس؟..
أومأ الطبيبُ بابتسامةٍ حاول بها أن يسكِّنَ القلقَ الذي تجلَّى بملامحِ أرسلان:
مدام ميرال حالتها كويسة، وكان المفروض تخرج من أسبوع لكن إلياس الِّلي رفض، أصر إنَّها تنزل من هنا تتمرَّن في النادي..قالها الطبيب بابتسامة..ثمَّ استأنف:
-فخروجها طبيعي.
-طيب إلياس، حضرتك مخبِّي حاجة؟..قالها أرسلان بقلق..
ابتسمَ الطبيبُ مجدَّدًا، وفي عينيهِ شفقة امتزجت بالحرص:
– أبدًا…مفيش حاجة حالته مستقرِّة… لكن دا خارج من غيبوبة، بسبب نزيف حاد، وعملية نقلِ كلى، وقلبه وقف كذا مرة أثناء الجراحة..من الطبيعي يفضل تحت المراقبة شوية، وبعدين هوَّ عِنَدي جدًا، عارف ومتأكِّد وقت مايخرج من المستشفى ممكن ينزل شغله عادي، علشان كدا حضرةِ اللوا أصَّر أنُّه يفضل كام يوم كمان، متخافش حيتجاوز، بإذنِ الله.
هدأ بعد حديثه، ثمَّ توقَّف يحدِّثهُ بنبرةٍ ممتنَّةٍ وشكره، ثمَّ اتَّجه متحرِّكًا من غرفةِ الطبيب، متوجِّهًا إلى غرفة أخيه..
تنفَّس بعمق، وأدار المقبضَ بهدوء، ودخل ينظرُ بأرجاءِ الغرفة، كانت الغرفة غارقةً في ضوءٍ خافت، ساكنة..
اقتربَ من السرير ببطءٍ شديد..وجد إلياس غافيًا بنومه، كأنَّه لم ينم منذ زمن..اغروقت عيناهُ بالدموع حينما تذكَّر دخولهِ عليهِ بعدما أجرى العملية، لقد تبدَّل الحال، ذهب بذاكرتهِ منذ عدَّةِ أيام....فلاش بعد العملية بعدة ايام
.كان ممدَّدًا كأنُّه جُثَّةٌ لم تُعلَن وفاتها بعد، شاحبَ الوجه، ساكنَ القسمات..
جلس على الكرسي الذي بجوارِ فراشه، طأطأ رأسه، وأسندَ كفَّيه على ركبتيه، يحدِّق فيه بصمت، كأنَّّ النظرةَ وحدها باتت لغةُ العجزِ الأخيرة.
مدَّ يده، وأمسكَ بكفِّه...لا يعلم لماذا شعرَ بأنَّه بارد، هل شعور فقدانه الذي سيطر عليه، ام افتقداه لحنان الاهوة..ورغم ما يشعر به
ظلَّ ممسكًا به، يشعر بأنَّه لو ترك يدهِ ستنسحبُ منه دون رحمة، .قبَّل يدهِ بدموعٍ لم يقو على منعها..
لأول مرة يشعر بذلك الشعور
ثمَّ همس، كأنَّ قلبهِ هو الذي ينطقُ لا لسانه:
-إلياس أوعى توجعني كدا، متوجعشِ قلوبنا عليك، إنتَ هنا بسببي بلاش تموِّتني بالذنب..
سكت قليلًا، ثمَّ أردف بصوتٍ يشبهُ البكاءَ المكتوم:
-آسف..مكنتش أعرف دا هيحصل، عرفت إنَّك سافرت ورايا، ليه تعرَّض حياتك للخطر، ليه تعمل كدا، مفكرتش في ماما، طيب ابنك ومراتك ذنبهم إيه؟..
أغمضَ عينيه، وأسند رأسهِ إلى حافَّةِ السرير، ويدهِ ما زالت مشدودةً على يده:
-ماصدَّقت أعيش إحساس الأخوَّة، أوَّل مرَّة أحس بالإحساس البشع دا، متعملش...
قاطعهُ دخولُ فريدة...
أطلَّت عليهما وعيناها تفيضُ بالألم، وقلبها يخفقُ كأنَّ كلَّ نبضةٍ فيه تصرخ..تقدَّمت نحوهِ بخطا متردِّدة، كمن تمشي فوق جراحها، ثمَّ وضعت كفَّها على رأسهِ برفقٍ مرتجف:
– أخوك كويس ياحبيبي...متنساش إنَّك لسة تعبان، كفاية وجعي على واحد..
رفع وجههِ إليها...نظر اليها بدموعهِ التي تنحدرُ كالسيل، دموعًا تحملُ أكثر ممَّا يُحتمل..نهض من مكانه، وصوتهِ مشروخًا، كأنَّه يُخرجُ الكلماتَ من قلبه لا من فمه:
– بسببي ياماما، هوَّ هنا بسببي، أنا اللي كنت مقصود، ياريته ماعرفني، ولا وجعتك عليه بالشكلِ دا..
احتضنتهُ بقوَّة وكأنَّها تحاولُ أن تُلملمَ ما تبقَّى منه، خرجت شهقاتها من عمقِ جرحها الذي ينزف، وأردفت بصوتٍ مرتجف:
-إنتَ إيه وهوَّ إيه ياحبيبي، أنتوا الاتنين نور عيوني..ارتفعت شهقاتهِ لأوَّل مرَّة، لأوَّل مرة يخرُّ ضعيفًا عاجزًا، أين ذلك الشخص الذي يتمتَّعُ بالمرحِ والحيوية..قاطعهم دخولُ مصطفى
قائلًا بصوتٍ جادٍ يحاولُ أن يخرجهم من حالةِ حزنهما:
-إحنا قولنا إيه، مش عايز زعل ولا بكى يافريدة، اتَّجه بنظرهِ إلى أرسلان:
-أخوك كويس وهيقوم إن شاء الله.. الحمدُ لله الدكتور طمِّنا، أشار إلى فريدة:
-روحي شوفي ميرال، مش مبطَّلة تسأل على جوزها..
مسحت دموعها تهزُّ رأسها:
-أنا رايحة لعندها، جيت لمَّا عرفت إنِّ أرسلان هنا..
أومأ لها وأردف:
-روحي علشان تطمِّنيها على جوزها.
ربتَ على كتفِ أرسلان:
-الحمدُ لله، لازم نحمد ربنا، والدتك مش حملِ تعب، زي ماإنتَ شايف، مش عايز نضعف قدَّامها، لمَّا إحنا نعمل كدا، يبقى هيَّ تعمل إيه..
-إزاي إلياس بيزرع كلى ياعمُّو، لدرجة دي عذِّبوه، عملوا فيه إيه علشان يوصله لكدا؟..
احتضنَ مصطفى وجهه، ونظرَ لمقلتيهِ يهزُّ وجههِ بحنوّ:
-أرسلان، الِّلي حصل حصل، مش هنبكي على اللبن المسكوب، أنا دلوقتي الِّلي يهمِّني حاجة واحدة بس، ابني يقوم بالسلامة، ووالدتك ترجع تاخدكم في حضنها، هتساعدني على كدا، ولَّا تقعد تبكي زيِّ البنات..
-لمَّا أعرف ليه عملوا فيه كدا، إيه اللي عمله ليوصلوا بيه بالبشاعة دي؟..
-إلياس عايش بكلية واحدة من هوَّ عنده خمستاشر سنة ياأرسلان، وكمان زرع..
شهقة أخرجها يتطلَّعُ إليه بعينينِ متَّسعتين..هزَّ مصطفى رأسهِ واستطرد:
-والدتك اتبرَّعت له قبل كدا..
-ماما!..قالها بذهول، ثمَّ أردف:
-يعني ماما عايشة بكلية واحدة؟!..
أومأ مصطفى متنهِّدًا، وذهب ببصرهِ إلى إلياس الحاضرِ الغائب، ثمَّ أشار إليه:
-خليك جنبه، هروح أطَّمن على ميرال من الدكتور، هيَّ كمان عندها سيولة في الدم، عملت تجلُّط دموي أثناء العملية، رغم تحذيرات الدكتور بخطورة وضعها بس هيَّ أصرِّت.. وزورت التحاليل
-صعب عليها هيَّ كمان..بس ليه خلِّيتها تعمل كدا، مكنشِ فيه متبرِّع غيرها؟..
هزَّ مصطفى رأسه:
-مكنتش أعرف، رتَّبت مع الدكتور كلِّ حاجة، صدَّقني لو عرفت كنت منعتها، بس الحمدُ لله الدكتور طمَّني قال قدر يسيطر على الوضع..وأخدت جرعات لازمة، بس تعبت برضو، علشان كدا
-إلياس يعرف؟...تساءلَ بها أرسلان..
أجابهُ مصطفى بيقين:
-لا ماأظنش، هوَّ أصلًا معرفشِ إنَّها هيَّ المتبرع..
-إن شاءالله تقوم بالسلامة..
-إن شاءالله..قالها مصطفى واستدارَ للمغادرة..
نزلت دمعة واحدة، خفيفة، لكنَّها ثقيلة بما تحملهُ من وجع..
مسحها سريعًا كأنَّها خيانةً لثباتهِ أمامه،
ثمَّ اقتربَ أكثر، شدَّ على يده، وهمس:
- وحياة رقدتك دي لآخد حقَّك وحقِّنا كلِّنا..
فجأة…تحرَّك إصبع إلياس،
حركة بسيطة، باهتة، لكنَّها كافية لتزرعَ رجفةً في جسده.
حدَّق إليه بعينينِ مذهولتين، كأنَّ الزمنَ توقَّف عند تلك اللحظة..زحف بجسدهِ نحوهِ ببطء، كمن يقتربُ من حلمٍ يخشى أن يتلاشى، وهمسَ بصوتٍ مرتعشٍ بالكادِ يُسمع:
– إلياس؟...
لم يجبه، لكن صدرهِ ظلَّ يعلو ويهبط بهدوء، وصوتُ الأجهزةِ حوله يملأُ المكان بثبات...شقَّ ثغرهِ ابتسامةَ أملٍ لشفاءِ أخيه..
انسابت دموعهِ بلا مقاومة، لم يدرِ أكانت فرحًا أم حزنًا، أو ربَّما مزيجًا مؤلمًا من الاثنين..مدَّ يدهِ المرتجفة، يحرِّكُ أناملَ إلياس بحذر، فإذا بها تستجيبُ بحركةٍ خفيفة..شهق أرسلان، وتجمَّدَ مكانه، ثمَّ انحنى يحيطُ جسدَ أخيهِ المرتخي بين ذراعيهِ كمن يريد أن يحميهِ بروحه..
– إلياس..سامعني؟!
رفرفت أهدابُ إلياس ببطء..كأنَّ النورَ يؤلمه، ثمَّ ردَّد اسم زوجتهِ بين شفتيهِ اليابستينِ كأنَّه دعاء:
– ميرال…
كرَّرها همسًا، كأنَّها نبضُ قلبه..تهدَّج صوتُ أرسلان وضحكَ ببكاء، يقتربُ منه أكثر ويطبعُ جبينهِ على جبين أخيه:
- حمدَ لله على سلامتك، ياحبيبي… واللهِ وحشتني.
همسَ إلياس باسمها مجدَّدًا، فأجابهُ أرسلان فورًا:
– ميرال كويسة، وماما معاها… مستنياك تقوم.
فتحَ إلياس فمهُ بصعوبة، يتمتم:
– أر…سلان…
ابتسم أرسلان، واحتضنَ وجههِ بين يديه، وقال بقلبهِ قبل لسانه:
– فداك يا حبيبي…أنا هنا، ومش هسيبك.
تابع إلياس، بصوتٍ متقطِّع:
– ودِّيني عند ميرال…
قالها وأغمضَ عينيهِ ثانية، وكأنَّه اطمأنَّ فعادَ للنوم. مرَّر أرسلان يدهِ على خصلاتهِ بحنان، وقبَّله فوق جبينه:
– فوق الأوَّل وهودِّيك…المهم تقوم بالسلامة.
مسحَ دموعهِ بدخولِ "يزن" قطعَ لحظته، ينظرُ بينهما بدهشة:
– أرسلان؟! واقف كده ليه؟
اعتدلَ أرسلان، يتأوَّهُ وهو يستندُ إلى حافةِ السرير، فإصاباته لم تُشفَ بعد:
– أنا كويس…إلياس فاق.
اقتربَ يزن بسرعة، وعيونهِ تلمعُ بسعادةٍ قائلًا بنبرةٍ سعيدة:
- واللهِ فاق؟! أخيرًا الحمدُ لله..
ثم التفت إليه وسأله بسرعة:
– عديت على أختك؟
– أيوة، طنط فريدة وغادة عندها…هيَّ كويسة، بس عايزة تيجي تشوف إلياس.
هزَّ أرسلان رأسه، وابتسامة هادئة على وجهه:
– هوَّ كمان…أوَّل ما فتح عيونه، سأل عليها.
فاقَ أرسلان من شرودهِ على صوتِ فتحِ الباب ببطء، تبعهُ دخولِ يزن بخطواتٍ هادئة، وألقى تحيَّةَ السلام كنسمةٍ تطرقُ بابَ الروح:
– السلام عليكم.
رفعَ أرسلان رأسهِ بتثاقل، يشعر بأنَّه يحملُ فوق كتفيهِ أثقلُ من أن يُحتمل، ثمَّ قال بصوتٍ خافتٍ أجوف:
-عليكم السلام..اقترب بخطواتهِ الهادئة، حتى لا يصدرَ صوتًا ويرهق جسدَ النائم، فتساءل:
- جيت إمتى؟
تراجع أرسلان بجسدهِ إلى الخلف، استند إلى المقعدِ ممدِّدًا ساقيهِ للأمام، ثمَّ رفع كفَّيهِ إلى شعرهِ يمرِّرهما بين خصلاتهِ بإرهاقٍ بيّن، وزفر زفرةً طويلةً تحملُ وجعًا غير معلن:
-من شوية...
إنتَ هنا من زمان ولَّا إيه، إسلام قالِّي إنَّك المفروض تكون هنا من بدري..
اقترب، وعيناهُ تطوفُ على جسدِ إلياس الممدَّد في صمت، ثمَّ هزَّ رأسهِ نافيًا وقال:
– لسة واصل من عشر دقايق كده...
أومأ متفهِّمًا ثمَّ سأله:
- عدِّيت على ميرال.؟..
توقَّف لبرهة، وكأنَّه تذكَّر أمرها، فهي هاتفتهُ منذ الصباح، رفع عيناهُ إليه قائلا:
– لا...قولت أشوف إسلام الأوَّل، معرفتش إنَّك هنا.
رفع أرسلان عينيهِ إليه، نظرةٌ مشبعةٌ بالعرفان، بامتنانٍ يشوبهُ تعبُ السنين،
ثمَّ قال بهدوءٍ:
– روح شوف أختك، ووصلَّها للبيت، وخلِّيك معاها، متسبهاش لوحدها... وأنا بالليل هعدِّي عليها أنا وغرام.
تنفَّس يزن بعمق، ثمَّ قال بنبرةٍ مُطَمئنَّةٍ وهو يشبكُ كفَّيه أمام صدره:
– إيمان هتقعد معاها، متقلقش... وكمان طنط فريدة مستحيل تسبها لوحدها.
أومأ أرسلان ببطء، كمن يُسلِّم بما لا طاقةَ له، ثمَّ استدار قليلًا ولوَّح بيدهِ دون أن ينظر:
– طيب هشوفها...بس معتقدش إنَّها تسيب إلياس وتمشي.
ارتسمت على شفتيهِ ابتسامةً ساخرةً باهتة، وقال بلهجةٍ هادئةٍ لكنَّها لاذعة:
– لا...أختك عاملة زعلانة، متخافش، هتمشي.
ضحكَ يزن، ضحكةً سريعةً لا تحملُ بهجة، ثمَّ تحرَّك خارج الغرفة..في حين رنَّ هاتفُ أرسلان فجأة، فامتدَّت يدهِ إليه:
– نعم يابابا؟
جاءهُ الصوتُ من الجهةِ الأخرى مشوبًا بقلقٍ مكبوت:
– إنتَ فين يابابا؟
قطبَ أرسلان حاجبيه، وانتصب جسدهِ قليلًا، وقال بحدَّةٍ مستترة:
– هوَّ أنا طفل يا بابا؟ ولَّا خايف من كلام إسحاق؟ على العموم اطمِّن..أنا ماليش مزاج لحاجة وقاعد عند إلياس.
سكت فاروق لحظة، ثمَّ تحدَّث بنبرةٍ فيها غضبٌ أبويّ:
– ينفع اللي عملته ده؟ من إمتى وإنتَ بلطجي؟
أطلقَ أرسلان ضحكةً قصيرة، كانت أقرب إلى أنينٍ مكتوم، وقال وهو ينهضُ واقفًا، وعيناهُ تحدِّقُ في اللاشيء:
– لا والله، بلطجي؟ علشان باخد حقِّي بقيت بلطجي؟ مش فاروق الجارحي اللي يقول كده...
– أرسلان..الِّلي عملته ده غلط، إنتَ ناسي شغَّال إيه؟
نظر أرسلان إلى الأرض، كأنَّها تشهدُ على مالم يُقل، وقال بصوتٍ مكسور الثبات:
– أنا مش شغَّال حاجة...بدرَّب الناس في النادي...
ثمَّ رفع رأسه، ونبرةُ صوتهِ تزدادُ صلابةً كلَّما نطق:
– خلصت ياباشا؟ لمَّا آخد عزانا بعد اللي اتعمل فينا...أبقى أشوف هشتغل إيه.
أخفضَ الهاتف، ثمَّ قال دون انتظارِ رد:
– بعد إذنك، لازم أقفل دلوقتي.
أنهى المكالمة، وبقيَ واقفًا للحظةٍ
وقد ضاقَ صدره، ليشعرَ باختناقِ تنفُّسه، كأنَّ الهواءَ أصبحَ ثقيلًا..
استمعَ إلى همهمةِ إلياس، استدار إليه ورسمَ ابتسامةً مقتربًا منه:
-صحّ النوم..
تجوَّل بعينيهِ في الغرفة وتساءلَ عن إسلام:
-إسلام فين؟!
جلسَ بجوارهِ على طرف الفراش:
-عايزه ليه؟!
-ساعدني عايز أقعد شوية..انحنى يرفعُ جسدهِ بعناية، كأنَّه شيئًا قابلًا للكسر، وضع خلفهِ الوسادة:
-مرتاح كدا؟..
هزَّ رأسهِ يبحثُ عن هاتفه:
-هات تليفوني..ابتعدَ يسحبُ هاتفهِ من فوق الكومود، ثمَّ رفعهُ وهاتفَ راكان:
-راكان باشا..إزاي حضرتك؟..
على الجانبِ الآخر:
-الحمدُ لله، يارب تكون كويس
-الحمدُ لله..كنت عايز أسأل حضرتك
عن رانيا الشافعي، أخبارها إيه؟..
-ماتخفش في المكانِ المناسب، وزيِّ ماوعدتك..
-خايف تهرب، لو سمحت وجودها مهمِّ جدًا..
قاطعهُ راكان:
-سألت عليها كام مرَّة وقولت لك اعتبرها في قبر، محدش هيعرف يوصلَّها، ولا هيَّ هتعرف تهرب..
-آسف على إزعاجك ياباشا، بس أنا خفِّيت الحمدُ لله، هبعتلك أرسلان ياخدها.
أجابهُ راكان ممتعضًا:
-لا، أنا كدا أزعل منَّك، صدَّقني كأنَّها عندك بالظبط، ومتخافش الِّلي متولِّي أمرها شخص مش عادي، وعلشان ترتاح تحت إيد ظابط في الجيش، علشان مايخطرشِ على بال أيِّ مخلوق، بعدتها عن جميع الشبهات لو شكُّوا في الأمر، أظن كدا ترتاح..
ابتسمَ إلياس ورغم ذلك:
-معلش خدني على قدِّ تفكيري وترتيبي مش مخوِّنك والله، لو كدا مكنتش كلِّمت حضرتك عنها.
-ماشي ياإلياس فوق الأوَّل وتعالَ خدها بنفسك.
صمتَ للحظة وعيناهُ على أرسلان، ثمَّ أومأ بالموافقة:
-شكرًا راكان باشا..قطعَ حديثهم دخولُ جاسر على راكان..
-عرفت الِّلي حصل لراجح الشافعي، حدِّ هجم عليه وضربه في كليته..استدارَ راكان وأكمل حديثهِ مع إلياس:
-أتمنى متكنش إنتَ الِّلي ورا اللي حصل لراجح..
-لسة سامع زيِّ حضرتك، وأنا ماليش في شغلِ الشمال، ماكان قدَّامي..
-إلياس..قالها راكان بغضب..
-راكان باشا، صدَّقني لو عايز أموِّته كنت موِّته من زمان أوي، شوف مين اللي عمل كدا، آسف عطَّلت حضرتك،
قالها وأغلقَ الهاتف مع جلوسِ أرسلان على المقعدِ قائلًا:
-مالقتشِ غير راكان البنداري تخلِّي معاه رانيا؟..
-مكنشِ قدَّامي غيره، بابا الِّلي غرقان مع ماما في تعبها، ولَّا إسحاق اللي في غيبوبة، ولَّا إنتَ اللي مكنتش أعرف عنُّه حاجة..والصراحة الراجل آمين.
-بس راجل قانون ياحبيبي، ودا مستحيل يسكت على الِّلي هنعمله..
ضاقت عيناهُ وتسرَّبَ الشك إلى ملامحهِ شيئًا فشيئًا، حتى بدا كأنَّه يزنُ الكلماتَ قبل أن ينطقَ بها، ثمَّ تمتمَ متسائلًا:
- بيقول راجح حدِّ ضاربه...أنا سمعت حد بيقولُّه كدا...
ارتدَّ بجسدهِ قليلًا إلى الخلف، وهزَّ رأسهِ كأنَّ الأمرَ لا يعنيه، ثمَّ أردفَ ببرودٍ مقصود:
– لسه عايش، ماعملتش فيه حاجة... أخدت كليته بس.
انفلتت من إلياس ضحكةً مكتومةً سرعان ما تحوَّلت إلى أنين، ضغطَ على جانبهِ بكفِّه وهو يتلوَّى من الألم:
– وكدا معملتش؟ أومال لو عملت؟
لوى الآخر فمهِ بابتسامةٍ ساخرة، وانحنى قليلًا للأمام، كمن أرهقهُ حملًا ثقيلًا:
– كنت قتلته طبعًا..بدل لسه روحه مطلعتش لخالقها يبقى ماعملتش حاجة..وبقولَّك إيه، متعملش مثالي علشاني..أنا اتخنقت، بقالي سنة بضغط على نفسي أكون مؤدَّب، بس خلاص، طاقتي نفدت..إيه؟ مش خايف عليَّا أموت مقهور؟
ارتفعت ضحكاتُ إلياس من جديد، تتخلَّلها أنفاسٌ متقطِّعة تعبِّرُ عن الألم، وأشار إليه بكفِّهِ المرتعش:
– اسكت يابني...ده أنا ماتعبتش بعد العملية كده...
انحنى بجسدهِ حتى صار وجههِ في مستوى وجهه، وغمز بعينيهِ بخفَّة:
– عارف ليه؟ علشان جوَّاك حتة حلوة...إزاي هتتعب بس؟
مسح إلياس على وجههِ محاولًا أن يستعيدَ بعضًا من هدوئه، وقال بسخريةٍ ممزوجةٍ بمرارة:
– جوَّايا حتة حلوة؟ وإيه هيَّ الحتة الحلوة ياباشمهندس بعد اللي حصلِّلي؟
صفَّقَ بيديهِ ضاحكًا، وكأنَّه يكشفُ سرًّا عظيمًا:
– الله! حتَّة من مراتك ياناكر الجميل!
تغيَّرت ملامحُ إلياس..وانطفأ بريقُ السخرية، وحلَّ محلِّهِ لمعانُ شوق، دموعٌ حائرة تحاولُ التجلُّد..رفع عينيهِ ببطء:
– مشت ولَّا لسه؟
رفع الآخرُ حاجبهِ باستنكارٍ ساخر:
– بتسأل ليه؟ مش أنتوا مقاطعين بعض؟ طيب الِّلي زعلان من التاني مش المفروض يرجَّع له الِّلي أخده؟
قطب إلياس جبينه، وأجاب بحيرةٍ صادقة:
– إنتَ بتقول إيه؟ مش فاهم حاجة...
وضع الآخرُ كفِّه تحت خدِّه، وغمزَ من جديد:
– روح إدِّي لها كليتها، وقولَّها مش عايز منِّك حاجة..
تراجعَ إلياس بجسده، ونظر إليه في تهكُّمٍ مكسور:
– ياريت ينفع...غبية، مش عارفة نتيجة الِّلي عملته إيه...
أجابهُ الآخر دون تردُّد، وصوتهِ يزدادُ دفئًا:
– بتحبَّك ياإلياس...كنت منتظر منها تعمل إيه وهيَّ شايفاك كده؟
هتف إلياس، وصوتهِ يتهدَّجُ بالغضبِ والحنين:
– تقوم تموِّت نفسها؟ عندها تجلُّط في الدم، وهيَّ عارفة من يوم ماولدت كانت ممكن تموت في العملية..
خفضَ الآخرُ صوته، وقد بدت في عينيهِ لمعةُ تأثُّرٍ حقيقية:
– غصب عنها...ميرال معتبراك دلوقتي كلِّ حياتها..أنا شوفتها لمَّا فاقت... كانت صعبانة عليَّا أوي، وهيَّ بتقول خايفة إنَّك ما تفوقش...بجد، لو شوفتها كانت هتصعب عليك...
-سيبك من ميرال وقولِّي ليه عملت كدا في راجح ومين قالَّك أنُّه اللي ورا دا؟..
عرفت وخلاص..
-أرسلان قولِّي عرفت إزاي؟..
-هوَّ ينفع أقولَّك أسرار شغلي ياإلياس
دا شغلي..أنا معرفتش أنا اتأكدت وقبل ماتعترض، راجح راح لإسحاق من فترة وقالُّه على كلِّ حاجة، وقالُّه مستعد أسلمُّهم واحد ورا التاني، بس طبعًا مبقوش يتواصلوا مع راجح إلَّا من خلال التليفون..
ورانيا؟..
رانيا ماتت فكشفوا عطوة علشان كلُّه يبقى بعيد..
إسحاق فهم لعبتهم، وفهم لعبة راجح، راجح عرف نهايته على إيدك، فقال إيه..لا أنا أسبق من جهة أبقى وطني ومن جهة تانية أعمل لنفسي اسم في عالم كبار الدولة، علشان كدا منحوله مصر والدولة التانية، يُعتبر دول أقوى دولتين في الشرق، وبدأوا يلعبوا معاه على الحتة دي، الطمع..إسحاق كشفهم وبيلعب عليهم..
أومأ إلياس بتفهُّم ثمَّ تساءل:
-طيب لمَّا إنتَ عارف كدا، ليه ضربته؟..
-علشان تاني مرة مايخدش حاجة من حد، وكان لازم يحصل كدا، وأهو ألهي إسحاق عنِّي شوية..
-تلهيه عنَّك..إزاي؟ أوعى تكون ناوي تعمل حاجة، إنتَ ظابط مخابرات قالها مستنكرًا ماسيفعله.
-لا أنا مش ظابط ولا حاجة، أو بمعنى أصح مكنتش عايز أدخل مخابرات.. خلاص أنا استقلت عايز أرتاح، ابني هيجي على الدنيا بعد أسبوعين..إلياس أنا مقعدتش مع مراتي أسبوعين على بعض، طيب ابني اللي جاي دا مش عايز حد يربِّيه؟..
-يعني إيه؟!..هتسيب وظيفتك إنتَ اتجننت، أنا عارف إسحاق ضاغط عليك بس صدَّقني دا من حبُّه فيك..
نهضَ من مكانهِ كأنَّ حديثَ أخيهِ لا يعنيهِ ثمَّ قال:
-ربِّنا يسهِّل، بسطَ إلياس كفِّهِ وقال:
-طيب خُدني عند مراتي يمكن نتصالح..
أومأ مبتسمًا:
لو هترجع لها كليتها ..كدا ماشي..
بفيلا السيوفي..
دلف إلى الغرفة بخطا بطيئة، يخشى أن يوقظها..لكنَّه لم ينجُ من صوتِ الباب حين أغلقه..
فتحت عينيها، نظرت إليه من بين نومها وإيقاظها..
-مصطفى..!!
تلعثمَ للحظة، ثمَّ همس:
– آسف...صحِّيتك، نامي، أنا بس هغيَّر وأنزل.
اعتدلت في فراشها، وضوءُ المصباحِ الخافتِ يرسمُ إرهاقَ وجهها، رفعت رأسها وتطلَّعت إلى ملامحهِ المتعبة، ثمَّ سألتهُ بنبرةٍ مبحوحةٍ من آثارِ النوم:
– رايح فين؟ وليه ما نمتش؟
أدار وجههِ عنها وأخذ يُخرجُ ثيابهِ من الخزانة:
– ما جانيش نوم...وافتكرت إنِّ إسلام عنده امتحان النهاردة، قلت أروح أشوف إلياس...قبل ما يتجنِّن، ويطلع من المستشفى غصب، وخاصةً إن ميرال هتخرج النهاردة..
رفعت الغطاءَ عن ساقيها، وتنهَّدت بصوتٍ مبحوحٍ وهي تلمُّ خصلاتِ شعرها التي اخترقتها خطوط بيضاء، مشت نحوه حتى توقَّفت، ثمَّ أمسكت بذراعيهِ برفق..
التفتَ إليها، نظر إلى كفَّيها المتشبثتينِ به، ثمَّ زوى ما بين حاجبيه:
– قومتي ليه؟ روحي نامي، أنا مش هنام.
استدارت إلى أن توقَّفت أمامهِ رافضةً مايقوله، نظرت إليه بعينيها الواسعتين، تلك العينينِ اللتين لم تفقدا بريقهنَّ رغم تعبِ السنين، وبنبرةٍ تحملُ مزيجًا من الحزنِ والألم قالت:
– للدرجة دي مش قادر تبعد عنُّه؟ طيب ليه سبته يعيش بعيد عنَّنا؟
تجمَّد للحظة...كأنَّه لا يستوعب سؤالها، أو كأنه تلقَّى طعنةً من حيث لا يدري..ردَّ بهدوءٍ كحالِ شخصيته:
-وكان مطلوب منِّي إيه، ودي حياته وماليش أدخل فيها، عايزاني أفرض رأيي على راجل، في أقلِّ حق من حقوقه؟..
اقتربت خطوةً أخرى، رفعت كفِّهِ المرتعشِ بين راحتيها، وأردفت بنبرةِ صوتٍ ناعمة...جعلت قلبهِ يعزفُ بالنبض :
-بس من واجبه على أبوه يسمع له، وهوَّ بيحبَّك، وكان مستحيل يرفض، هوَّ فيه ابن يرفض حب وحنان أب زيك يامصطفى..دنت منه ثمَّ وضعت رأسها بحضنه:
-ربِّنا يخلِّيك لينا ومايحرمناش منَّك ياأبو إلياس.
رفع كفَّيها ومسَّد على رأسها بحنان، ثمَّ حاوطَ جسدها الهزيل:
-ولا منِّك يا فريدة، لمَّا بتقوليلي ياأبو إلياس بفرح أوي يافريدة، بحسِّ إنِّ تربيتي فيه مضعتش.
رفعت عينيها تتطلَّعُ إليه بذهول:
-مين يقدر ينكر إنَّك مش أبوه، إلياس هيفضل ابنك البكري، مهما يعمل ومهما يبعد.
لثمَ جبينها وحاوطَ وجهها:
-إنتي أكبر نعمة ربِّنا رزقني بيها يافريدة، ربِّنا يباركلي فيك..
قبَّلت كفِّه الذي يضعهُ على وجهها:
-ولا منَّك ياحبيبي..ابتسم بحنانٍ وأردفَ مشاكسًا:
-شوية كمان وهخدك على السرير..ونصحى نلاقي إلياس بيخبَّط علينا الباب، قادر ويعملها..
أفلتت ضحكاتٍ ناعمة تهزُّ رأسها:
-فعلًا..بس متنكرش دي طباعك، محدش بيقدر عليك لمَّا تبقى مُصرّ على حاجة.
-أشارَ على نفسه ببراءةٍ وقال:
-أنا، واللهِ ظلمتيني، دا أنا قدَّامك بقف زي التلميذ..صمتت تطالعهُ بعينيها العاشقة، ثمَّ قالت بنبرةٍ تحملُ مزيجًا من العشق:
-ربِّنا يخلِّيك ليا ياحبيبي..
قهقهَ قائلًا:
-أقف قدامك زيِّ التلميذ، ولَّا أقعد أعاكسك وأقولِّك عايزك تحبِّيني؟..
تمسَّحت بصدرهِ كقطةٍ أليفةٍ تلكزهُ بابتسامة:
-بس بقى، إحنا كبرنا على الكلام دا..
تراجعَ يخرجُ رأسها، وأردفَ متصنِّعًا الحزن:
-كبرت إيه!! لا أنا لسة بصحِّتي، إنتي بس اللي مستهونة بقدرات جوزك..
ارتفعت ضحكاتها تهزُّ رأسها بسعادة، جذبها يضمُّها إلى صدره وتمتم:
-ربِّنا مايحرمني من الضحكة دي يارب.
قاطعهم طرقاتُ المربية:
-مدام فريدة يوسف حرارته عالية، وإدتله خافض وبرضو مابتنزلش..
تحرَّكت إلى الباب وفتحتهُ تتساءل بلهفة:
-ماله حبيبي..كانت تحملهُ وهو يبكي بصوتٍ مرتفع، ألقى نفسهِ بأحضانِ فريدة بشهقاته:
-ماما..ماما..ضمَّته بحنانٍ إلى صدرها، ثمَّ رفعت عينيها إلى مصطفى:
-الواد سخن أوي، اتِّصل بالدكتور خلِّيه يجي يشوفه.
أومأ لها وقال:
-حاضر، اهدي بس، ممكن يكون احتقان ولَّا إيه..فتحت فاههِ تنظرُ بداخلِ جوفه:
-ضروسه كاملة، ياترى ياحبيبي إيه الِّلي بيوجعك، التفتت للمربية:
-هوَّ أكل إيه؟..كان كويس بالليل..
-مفيش والله يامدام أكَّلته فواكه وكوب زبادي بس، المدام ميرال بعد مافطمته قالت لي ممنوع تأكِّليه أكل دسم بالليل..كلِّ مايفوق، يالبن يافواكه.
ضمَّته ودلفت به إلى غرفتها تهدهدهُ وهو مازال يبكي ويتمتمُ باسمِ والدته، خرجت رؤى من غرفتها على صوتِ بكائه، دلفت إلى غرفةِ فريدة تتساءل:
-بيعيَّط ليه؟..
وضعتهُ على الفراش وأشارت إليها بخافضِ الثلج، لتضعهُ على رأسه:
-هعملُّه كمادات لمَّا الدكتور يوصل..ركعت رؤى أمامهِ وأمسكت كفِّه تقبِّله:
-حبيبي مالك بتعيَّط ليه، فين الأووف
انتبهت إلى بعض البقعِ الحمراءِ بعنقه، فأشارت إلى فريدة:
-إيه البقع دي؟..
فحصتهُ فريدة تتحسَّسُ جسدهِ بخروجِ مصطفى:
-الدكتور جاي في الطريق.
بفيلا الجارحي..
جلست تنظرُ بشرودٍ إلى حمَّام السباحة، فمنذ خروجهِ وهي لم تتحرَّك، رغم موافقتهِ على زيارةِ والدها، إلَّا أنَّها رفضت..وصلت ملك إليها وجلست بجوارها:
-أم سحلول بتفكَّر في إيه؟..
-أه..ضحكت ملك وتمتمت من بين ضحكاتها:
-لا دا إنتي مش معايا خالص، إيه يابنتي، اللي واخد عقلك، أوعي يكون أبيه أرسلان..
-هوَّ فيه غيره، أبيكي دا..قاطعهم صوتُ الخادمة:
-أستاذة ملك ستِّ صفية بتنادي لك.
نهضت من مكانها وقالت:
-تمام روحي وأنا جاية وراكي، ثمَّ اتَّجهت إلى غرام:
-عندي Exam أخلَّصه وبعد كدا نخرج نعمل شوبينج للبيبي إيه رأيك؟..
تنهَّدت بألم قائلة:
-ماليش نفس لأيِّ حاجة، روحي امتحانك ربِّنا يوفقك، ولمَّا ترجعي بالسلامة نشوف هنعمل إيه..
انحنت وطبعت قبلةً على وجنتيها:
-واللهِ بيموت فيكي، معلش استحمليه، صعب اللي مرِّ بيه، يالَّه باي أشوفك بعدين..
أومأت لها بصمتٍ وظلَّت نظراتها تلاحقها إلى أن اختفت، شعرت بحركةِ جنينها لتضعَ كفَّيها على أحشائها تمرِّرها بحنان:
-أنا زعلانة من بابا أوي، وفي نفس الوقت وحشني أوي قالتها بدموعٍ تنسابُ بصمت..شعرت بجلوسِ أحدهم بجوارها أزالت دموعها واستدارت ترمقُ التي جلست بجوارها:
-عاملة إيه؟..ابتعدت تحتضنُ بطنها ولم ترد عليها..نظرت إلى حمَّامِ السباحة وتحدَّثت:
-متخافيش مش هعمل فيكي حاجة، أنا بس حبيت أتكلِّم معاكي قبل ماأسافر..سحبت نفسًا وزفرتهُ ثمَّ قالت:
-كان عندي خمستاشر سنة، وهوَّ متخرَّج من كلية الهندسة، خالو عمل حفلة هنا في الفيلا، ملك عيلة الجارحي اتخرَّج بقى، وحفلة الكلِّ اتكلِّم عنها، كنا قريبين أوي من بعض، كان بيودِّيني مدرستي ويجبني وخلاص تمارا وأرسلان هيكونوا لبعض، وأسمع ماما تقول لبابا، اعمل حسابك بنتك خلاص هتكون لأرسلان ابنِ أخويا، واحد حلو ويشد أيِّ بنت، مكنشِ صعب أحبُّه وأعشقه كمان، علاقتي بيه تطورت جدًا، لدرجة كرهت السفر علشان بيبعدني عنُّه، أربع سنين الكلّ كان بيحسدني عليه، مكنشِ فيه مناسبة بتحصل لمَّا نكون مع بعض، أصرِّيت على ماما نستقر في مصر، مبقتشِ قادرة أسافر وأكون في مكان وهوَّ في مكان، لدرجة الكلِّ فكَّرنا متجوزين..لحدِّ ماجه فجأة وبدأ يسافر بالأيام والشهور، ويختفي في ظروف غامضة، كلِّ ماأسأل خالو يقولِّي عنده شغل، بيجيب أجهزة للنادي، زهقت من اللامبالاة الِّلي عنده، وخصوصاً مكنشِ بيبادلني نفس الشعور، كان بيعاملني على إنِّي بنتِ عمِّته..نزلت دمعة تسيلُ عبر وجنتيها واستأنفت بصوتٍ مبحوحٍ باك:
-لحدِّ مااتعودت أبعد عنُّه، اتعرَّفت على مدرب في النادي بتاعه وقرَّبنا من بعض وعلاقتنا تطورت جدًا، هوَّ كان بيضايق، أنا فكَّرته غيران فقولت ألعب على حتة الغيرة دي، لحدِّ مافي يوم أرسلان دخل علينا فجأة في غرفةِ التمرين ولقاه بيحاول يبوسني، اتجنِّن هنا وضرب المدرب علقة لدرجة عضمه اتكسَّر وفضل في المستشفى تلات شهور، أنا وقتها معرفتش ليه عملت كدا، ليه قربت من شخص وأنا قلبي مع واحد تاني؟..
شهقة أخرجتها مما جعلتها تضعُ كفَّيها على فمها:
-وقتها قولت دا بيحبِّني، أنا لازم أدافع عن حبُّه، حبيته أوي ياغرام، وكلِّ يوم عن يوم حبُّه بيزيد، وأنا بوهم نفسي أنُّه بيحبِّني، وماما كمان أقنعت نفسها بكدا، فضلت شهور لحدِّ ماسامحني ورجعنا نقرَّب من بعض تاني، حتى اشترى لي عربية فوق المليون جنيه، عايزة أقولَّك وقتها كنت أسعد بنت على وجهِ الارض..حبيبي جابلي هدية بقى، وبدأت أسرَّب خبر ارتباطي مع أرسلان، حياتي بقت هوَّ وبس..رجع اختفى كعادته شهور، وفجأة يظهر ببنت ويقولِّي إنَّها مراته ومش بس كدا، لا دا بيحبَّها..
تطلَّعت إليها بعيونها الدامعة وسألتها بنبرةٍ خافتة:
-لو مكاني هتعملي إيه؟..صمتت للحظاتٍ ثمَّ سحبت نفسًا قائلة:
-مقدرتش أتحمِّل الفكرة نفسها، وخصوصًا لمَّا بشوف حبُّه في عيونه وقت مابتظهري قدَّامه..شيطاني سيطر عليَّا وخصوصًا لما تيتا قالت لي تتخلَّصي من ابنه هجوزه لك..
-سامحيني لو سمحتي..قالتها ونهضت متحرِّكةً للخارجِ دون حديثٍ آخر ..بينما ظلَّت غرام بمكانها تتطلَّعُ إلى تحرِّكها حتى اختفت من أمامها..
توقَّفت تنظرُ إليهم من شرفةِ غرفتها، حرَّكت عينيها بأرجاءِ الحديقة، ثمَّ أشارت إلى المربية بلطف:
اهتمِّي بحمزة..
قالتها وتحرَّكت بهدوءٍ نحو جلوسِ غرام، انحنت برأسها تنظرُ إليها بنعومة:
تسمحي لي أقعد معاكي شوية؟
أزالت غرام دموعها بأناملَ مرتجفة، وأشارت إلى المقعدِ بجوارها:
طبعًا حضرتك بتستأذني!..
ابتسمت دينا بحنان وقالت:
لا حبيبتي، مينفعشِ أقلق خلوتك، المفروض أستأذن...المهم، إيه "حضرتك" دي؟ آه أنا أكبر منِّك، بس مش أوي يعني، كلُّه عشر..خمستاشر سنة...قالتها بابتسامة..
لمعت أعينُ غرام بشيءٍ من السعادة، وكأنَّها نسيت ماتشعرُ به، وقالت بهدوء:
-بس المقامات برضو، متنسيش حضرتك مرات عمُّو إسحاق..هزَّت دينا رأسها وهي تهمس:
لا يا حبيبتي، مفيش بينا مقامات ولا حاجة...أنا من زمان وعايزة أتعرَّف عليكي، بس الظروف بقى...
قاطعهم صوتُ دلوفِ سيارةِ إسحاق من البوابةِ الرئيسية، هتف بصوتٍ كالرعد وهو يترجَّلُ من السيارة موبِّخًا كلَّ فريقِ الأمن:
-كلُّكم هتتحاسبوا، علشان كلامي ما بيتسمعش..
حاول أحدهم التبرير، فأردف بصوتٍ مرتبك:
واللهِ ياباشا، أرسلان باشا هوَّ الِّلي أمرنا...
كلُّه مرفوض..مش عايز حدِّ قدامي.
نهضت دينا على الفور، والقلق ينهشُ قلبها من منظرهِ الغاضب:
خير يا رب...ياترى إيه الِّلي حصل؟
نهضت غرام أيضًا، مع خروجِ فاروق مسرعًا بدخولِ إسحاق إلى المنزل، يقطعُ خطواتِ الأرضِ كالنار التي تلتهمُ كلَّ شيئ..اقتربَ فاروق محاولًا تهدئته:
ممكن تهدى، أنا كلَّمته، وشوية وهييجي.
دار إسحاق كأنَّه أسدٌ جريح، يدفعُ كلَّ ما يعترضُ طريقهِ بانفعال:
الغبي هيضيَّع مستقبله! إنتَ مشوفتوش عمل إيه؟ ده ولَّع في كلِّ مصانع راجح يافاروق! وراح استقال من الجهاز! شوفت مصايبه؟ وفي الآخر واقف قدامي وبيقولِّي "خلِّي معاك دوا الضغط"، ده لو لسه ما جبهوش!
مدَّ فاروق يدهِ في محاولةٍ يائسةٍ للتهدئة:
اهدى طيب ولمَّا ييجي هكلِّمه...
مرَّر إسحاق أصابعهِ بعنفٍ في خصلاتِ شعرهِ يريد أن يقتلعها من الجذور:
-تكلِّم مين؟ ده بيقول لي "لو أنا ابنك، كنت خدت حقِّي"، وفي الآخر ابنك واقف وبينكر وجودي في حياته!
اقترب فاروق أكتر، وأردف بنبرةٍ هادئةٍ ورغم ذلك لا تخلو من التوتُّر:
طيب اهدى، وأنا هكلِّمه...
ضرب إسحاق الطاولة بعنف، حتى تناثرَ كلَّ ماعليها، وشعر بأنَّ قلبهِ سيخرج من صدرهِ مرَّةً واحدة:
بعد إيه؟ الحلُّوف راح استقال! ضيَّع مستقبله! عايز يموِّت راجح! ابنك متخلِّف ومش واعي نتيجة أفعاله!..
انسحبت غرام بهدوءٍ إلى سيارتها، قلبها مثقل، لكن خطواتها ثابتة.. جلست خلف المقود، أدارت المحرِّك، وبدأت بالقيادة وهي ترفعُ هاتفها وتهاتفه..لحظات وأتاها صوته:
– أيوة ياغرام؟
– إنتَ فين ياأرسلان؟
توقَّف أرسلان وأشار لإلياس أن يتوقَّف، وقد لاحظَ من صوتها المرتعش ما أقلقه.
– لسة واصل المستشفى، في حاجة؟
– أنا جاية لك، متخرجش لمَّا أوصل.
– إنتي لوحدِك؟ من غير السوَّاق؟!
– لو شايفني غير مؤهلة ياحضرة الظابط للقيادة، خد عربيتك منِّي!
قالتها وأغلقت الخطَّ في وجهه..بقي واقفًا، جامدَ الجسد، يحدِّق في هاتفه وكأنَّها صفعتهُ بقوَّة، إلى أن حمحم إلياس:
– روحلها، متنساش إنَّها حامل..أنا هشوف ميرال، هتمشَّى شوية..تعبت من القعدة.
التفت إليه أرسلان، وما زالت نبرتها الحزينة عالقةً بأذنه، هزَّ رأسهِ نفيًا:
- لا، هيَّ جاية، كانت عايزة تشوف ميرال، بس أنا رفضت.
اقترب منه إلياس ببطء، وضع يدهِ على كتفه وربتَ عليه:
– ليه مجبتهاش معاك؟
– كنت بخلَّص تاري من راجح...بس شكلي اتأخَّرت، وإسحاق قلب الدنيا عليَّا..واللهِ لو قال لها حاجة زعلتها لـ...
أشار له إلياس بالصمت:
– اسكت...متكمِّلش..اعذره قبل ما تتهوَّر، ده شغله، ومن حقُّه يخاف عليه..أوَّل واحد هينضر هوّ...روح شوف مراتك ..
خطا إلياس إلى بابِ غرفتها كمن يمشي فوق أشواكِ الذنب، على ماقالهُ لها بعد إفاقته، كلَّ خطوةٍ منه كانت اعترافًا صامتًا بقسوةِ حديثه..
تذكر ذلك اليوم الذي أرهق نفسه وارهقها معه ...بعدما
استعاد جزءًا من وعيه بعد أيامٍ من الغيبوبة...
فتح عينيهِ ببطء، يشعر بثقلِ جفونه، تجوَّل بنظرهِ المُرهَق بين الوجوهِ من حوله، ثمَّ همس بصوتٍ خافت:
-"ميرال..."
التفت أرسلان الذي كان جالسًا إلى جواره، وتبادل النظراتِ مع مصطفى الذي اقتربَ فورًا، وجلس على حافَّةِ السرير.
أردف مصطفى بنبرةٍ دافئة، وهو يربتُ على يده:
"كويسة، حبيبي...فاقت من يومين، متقلقش، ومامتك عندها دلوقتي."
أغمض عينيهِ للحظة، محاولًا أن يلتقطَ أنفاسه، ثمَّ قال بصوتٍ مخنوق:
-"بابا..."
قالها بصوتٍ مرتجف، كأنَّ الحروفَ تخرج من صدرهِ المتألِّم..
اقترب أرسلان أكثر من وجهه، وأردف بصوتٍ ممزوجٍ بالحنانِ بقدر مافيه من التحذير:
"إلياس، إنتَ عامل عملية كبيرة... ماينفعشِ تتحرَّك دلوقتي، فوق الأوَّل، وبعد كده تروحلها."
لكنَّه تجاهل كلَّ النصائح، تجاهل ألمه، تجاهلَ حتى صوته الداخلي الذي يصرخُ من الوجع، وقال بإصرارٍ ضعيف، لكنَّه واضح:
"عايز أشوف مراتي..."
مدَّ مصطفى يده، ومسح بها على رأسه بلطف، محاولًا أن يحتويه: "والله هيَّ كويسة، بس استنى يومين نطمِّن عليك، وبعدها تروحلها بنفسك، وهيَّ كمان عايزة تشوفك."
لكنَّه لم يقتنع..رفع يديهِ المرتجفتينِ نحو الوريد، محاولًا انتزاعَ الإبر التي تغذِّي جسدهِ المُنهك، غير عابئًا بالألمِ أو الدم أو الأجهزة الموصولةِ بجسده.
"هيَّ مش كويسة..أنا حاسس..."
قفز أرسلان فورًا، يحتضنُ جسدهِ بذراعه، ويمنعهُ من الحركة: "إلياس، اهدى، بالله عليك...إنتَ كده بتضيَّع كلِّ اللي اتعمل، جسمك مش مستحمل..."
ومع ذلك، حاول الاعتدال..حاول الجلوس، رغم الطعناتِ التي تشقُّ جسدهِ بالألمِ في صدره، كأنَّ كلَّ ضلعٍ يحتجُّ على حركته، أطبق جفنيه بدخولِ الطبيب بعد استدعائهِ من زرِّ الاستغاثة:
"إيه ياإلياس؟ رايح فين؟" قالها الطبيبُ بحدَّة، وهو يقتربُ منه ويفحصُ الأجهزة بسرعة.
همس إلياس من بين أنفاسه المتقطِّعة: "عايز أشوف مراتي..."
ردَّ الطبيب بحزم: "مراتك كويسة، لازم ترتاح، هيَّ كمان كانت عايزة تيجي، بس إحنا منعناها، عشان تستقرّ حالتها وحالتك الأوَّل."
كرَّرها إلياس، بنفسِ الألم، بنفس الإصرار: "عايز أشوف مراتي..."
صاح مصطفى بغضبٍ مفاجئ، انكسر فيه خوفهِ وقلقه:
- "إلياس! إنتَ مش طفل! لازم تهدى! إنتَ لسه فايق من كام ساعة من عملية كبيرة...ازاي عايز تتحرَّك؟ قولت لك مامتك عندها، خلاص؟!"
ساد الصمت لوهلة...فقط صوتُ الأجهزة يرنُّ برتابةٍ في الغرفة، مع ارتفاع صوتَ أنفاسه ليشعرَ بالحزن.. كأنَّ روحهِ ترفضُ أن تبقى قبل أن يطمئنَّ عليها..
وصلت الممرضة إليهم بعد استدعاءِ الطبيب:
-علاجه..وممنوع يتحرَّك من مكانه.
مرَّ عدَّةِ ساعات، دلفت غادة إليه تحملُ هاتفها وجلست بجواره:
-شوف جبت لك مين..
فتحت الهاتف ليقعَ بصرهِ على صورةِ ميرال تحتضنُ يوسف.. بوجهها الشاحب
لاحت ابتسامةٌ وهو يراها تداعبُ يوسف، وجلوسِ يزن ورؤى بجوارها.
استمع إلى ضحكاتِ ابنه..تراجعت بجسدها بصعوبة، نهض يزن يساعدها بالتمدُّدِ ودثَّرها منحنيًا يطبعُ قبلةً فوق جبينها.
أغمض عينيهِ على ذلك المشهد، وشعر بنيرانٍ تسري بأوردته، ورغم ذلك شعر بالارتياح..رفع نظرهِ إلى غادة:
-تعبت أوي بعد العملية؟..صمتت لبعض اللحظات ثمَّ قالت:
-العملية وقفت، قلبها وقف للأسف، وحاجات الدكتور كان بيقولها لبابا مفهمتش منها حاجة؛ غير إنِّ فيه تحليل هيَّ غيَّرت نتيجته علشان تدخل العملية..
-تحليل إيه؟..
هزَّت كتفها بجهلٍ وأردفت:
-مفهمتش غير تجلُّط دموي، ونزيف وحاجات من دي..
أومأ بعدما تيقَّن من شكِّه، ابتسمت غادة وتحدَّثت:
-المهم بابا كلَّم الدكتور، والممرضة هتيجي تجهِّزك علشان تروح لها، هيَّ جت لك على فكرة بس كنت نايم..
شرد بحديثها وعقلهِ يصفعه، ثمَّ تحدَّث:
-خلاص المهم اطمِّنت عليها..
-يعني مش هتروحلها، اتفقت مع الممرضة..صمت ولم يرد عليها
بعد عدة ساعات ..دلف اسلام ينظر إليه بتفحص..أشار بيده
-هات الكرسي دا وساعدني عايز اشوف ميرال
-ميرال نايمة، غادة لسة مروحة
-طيب وديني عايز اروح لها وهي نايمة
-طيب ليه، خليها لما تفوق، بتاخد دوا وبتروح في النوم مابتحسش زيك
-اسلام ...اسمع اللي بقوله وبس، واياك حد يعرف اني رحت لها
-ياختاااي ..يعني هنرجع نبدأ مرحلة العقاب، والله انت قاسي
دقائق كان امام فراشها يتطلع إليها باشتياق كاد أن ينخر عظامه، رفع كفيها إلى فمه وطبع قبلة مطولة عليه ولم يشعر بدمعته الغادرة التي شقت على وجنتيه ضعفًا لما يشعر به
-اعمل فيكي ايه، مش قادر اعاقبك وفي نفس الوقت مش قادر اسامحك على وجع قلبي عليكي
دقائق وهو يرسمها بلهفة عاشق إلى أن تحرك وغادر الغرفة وكأن لم يأت
باليوم التالي
جلست غادة تقص له ما يفعله يوسف مع المربية ...لكن قطع
قاطع حديثهم دخول ميرال بمساعدةِ يزن،
رفع عينيهِ إليها، كانت بين ذراعي يزن تتحرَّك ببطء، ورغم بطئها شعر بأنَّها تتحرَّك فوق قلبه..
اقتربت مبتسمة..توقَّفت غادة وهرولت إليها:
-ميرال ..!!
استندت عليها تجرُّ ساقيها بصعوبة، وكلَّ خطوةِ لها يشعرُ بنيرانٍ تحرقُ روحه من ضعفها وشحوبها ..
ساعدتها غادة بالجلوس بحذر، شقهة مؤلمة شقَّت صدره وهو يراها بذلك الوجع..ارتفعت وتيرةُ أنفاسها تنظرُ إليه:
-عامل إيه..حمدَ الله على سلامتك..
-أنا كويس..قالها ثمَّ رفع عينيهِ لغادة:
-عايز الدكتور..قطبت جبينها ونطقت بلهفة:
-ليه حاسس بإيه، لسة تعبان؟..الدكتور قالِّي إنَّك كويس.
لحظات ودلفَ الطبيب..أشار إليها:
-إزاي المدام تخرج وهيَّ بالشكلِ دا، من فضلك مش عايزها تتحرَّك من أوضتها..
ثمَّ التفت إليها:
-روحي أوضتك، وممنوع تيجي هنا تاني..قالها وأغمضَ عينيهِ بعد عناءٍ مع الضغطِ على آلامه التي تفتكُ به..
-أنا جاية اشوفك واطمن عليك
-وأنا جاوبتك قبل العملية، روحي اوضتك ..
خرج من شرودهِ حينما وصل إلى غرفتها:
لامس مقبض البابِ بأناملَ مرتجفة، وفتحه...ليجدَ غادة تُعينها على ارتداءِ الحجاب، تفحَّصَ ملامحها التي وجدها مازالت شاحبةً تُشبهُ زهرةً ذبُلت من طولِ الانتظار، هنا شعر بذبولِ قلبهِ معها..
التفتت غادة بعدما شعرت بدخولِ أحدهما..فاستدارت سريعًا:
– "أبيه إلياس!"
هتفت بها بقلبٍ ينتفضُ بالفرحة، وأسرعت ترتمي في حضنه.
ضمَّها إليه رغم تألُّمه، سبحت عيناهُ على تلك الواقفةِ كتمثالٍ من وجع...
ميرال...
توقَّفت اللحظة...بل تجمَّد الزمنُ بين أنفاسهما...أكثر من أسبوعين لم تراه ولم تسمع صوته، حرمها وحرم نفسهِ من لذَّةِ القرب ..
-ميرال..همس بها فارتجفَ جسدها
وسقطَ مابيديها، ورغم ذلك ظلَّت كما هي كأنَّها تناضلُ ضدَّ نفسها، ضدَّ رغبتها لاحتضانه، ووجعًا لا يُغتفرُ منه .
ربت إلياس على رأس غادة برفقِ الأب الحاني، بعدما وجدها بتلك الحالة، فهمسَ يسأل:
– "فين يزن؟...أرسلان قالِّي إنُّه هنا."
تطلَّعت غادة إلى عينيهِ الممتلئتينِ شوقًا وندمًا لزوجتهِ فتنحنحت بخفَّة:
– "هشوفه، يمكن اتأخَّر عند الدكتور..."
قالتها وانسحبت، حتى يغفرَ الاشتياق لما حدثَ بينهما..
اقترب إلياس منها، بخطواتٍ بطيئة، إلى وصل إلى ظهرها، وضع ذقنهِ على كتفها وهمسَ بصوتٍ مبحوحٍ والحنينُ يخنقه:
– "فيه حد مخاصمني...ومش قادر حتى يقولِّي حمدَ الله على السلامة؟"
ارتجف جسدها من أوَّل نسمةٍ دافئةٍ خرجت من أنفاسهِ تلامسُ عنقها..
بعدما أزاحَ حجابها برفق...ثمَّ احتواها بذراعيه، كأنَّها وطنٌ غاب عنهُ طويلًا..
لفَّها بحنانه، وأدارها إليه، لتسقطَ عيناها في بئرِ عينيه، رفع ذقنها بإصبعه، وهمس بنبرةٍ تخصُّها وحدها:
– "وحشتيني..."
كلمة واحدة، جعلت الأسوارَ تنهار، والصمودُ يتبعثر، والدمعُ يخون كبرياءها..ورغم ماتشعرُ به انسلَّت من بين ذراعيه، تحاول أن تتمسَّك بما تبقَّى منها، وهمست:
– "وإنتَ كمان وحشتني...بس... محبتش أقلِّل من نفسي..."
لم يسمح لها بإتمامِ كلماتها التي شقَّت صدره، فوضع إصبعهِ على شفتيها، يوقفُ الكلماتِ قبل أن تجرحهُ أكثر، أو تجرحَ نفسها:
– "باااس...ولا حرف."فتحت فاهها للتحدُّث ولكنَّه مال عليها، وطبعَ على شفتيها قبلة...قبلة كأنَّها صلاةُ الرجوع، وقُبلةُ عاشقٍ يُقرُّ بندمه..قبلةٌ يروي روحهِ الغائبةِ بروحها المتعبة..
ابتعد عنها قليلًا، لكنَّ عينيه مازالتا تُطوِّقانها، وهمس بصوتهِ الذي يقطرُ ندمًا:
– "آسف...عارف إنِّي قسيت، بس كنت خابف عليكي...أنا كنت هموت لو كان حصلِّك حاجة..
انهارت بكلِّ ما فيها...انسابت الدموعُ كالنهر، شهقت، ووضعت كفَّيها على فمها، تحاولُ أن تحبسَ نحيبًا انفجرَ من عمقِ قلبها...عمقِ آلامه حينما كان الاشتياقُ يخونها..
ضمَّها إليه، بكلِّ مافيه من قوَّة، من ضعف، من احتياجٍ وهمسَ بندمٍ وأسف:
-"سامحيني...متزعليش منِّي، عارف إنِّك زعلانة."
لكنَّها لم تصمت..فقالت بصوتٍ مخنوق:
– "إنتَ طردتني ياإلياس...قولتلي مش عايز تشوفني..."
لم يعد يتحمَّل أن يسمعَ تألُّمها أكثر..
فقطعَ كلماتها بقبلةٍ أخرى، قبلةٌ أعادت إليها أنوثتها، واحتاجَ فيها أن يغفرَ لنفسه قبل أن تغفرَ هي له..
بعد لحظاتٍ سحبها بلطفٍ إلى فراشها، وجلسَ محاوطًا جسدها، يضعها بين ذراعيهِ ككنزٍ استردَّهُ بعد أن أضاعهُ بيديه..
– "عاملة إيه؟...تعبانة من حاجة؟ في وجع؟"
نظرت إليه، بعينينِ ذابت من دمعٍ وشوق، وهمست بصوتٍ يذبحه:
– "حاسَّة إنَّك وحشتني..أوي، أوي، أوي..مش حاسَّة غير إنِّي كنت ميتة ببعدك"
ضمَّها إليه بعنفِ المحب، رغم ألمه، رغم جراحه، ولكن حضنها لهُ قبل أن يكونَ لها كأنّّه البلسمُ الوحيد...كأنَّه الحياةُ التي تريحُ أرواحهما..
شعرت بتألُّمهُ فتراجعت:
-أنا كويسة خلاص، إنتَ الِّلي عامل إيه؟..
-كويس، جوايا حتة منِّك هكون عامل إيه..عملتي الِّلي في دماغك..
-أه علشان لو مت تفتكرني بكليتي..
-بعدِ الشر..نطقها سريعًا وهو يحاوطُ وجهها ويسبحُ فوق ملامحها:
-وحشتيني أوي..أغمضت عينيها محاولةً ألَّا تنساقَ خلفَ مشاعرِ الاشتياق..قطع وصلةِ غرامهما دخولِ أرسلان بجوارِ غرام..
رفع حجابها فوق رأسها وحمحمَ متراجعًا..اقتربَ أرسلان يغمزُ إليه:
-رجَّعت لها الكلية ولَّا خلاص نقول مبروووك.
قطبت جبينها متسائلة:
-يرجَّع لي إيه؟!..
اقتربت غرام التي جلست بجوارها بثقلِ جسدها:
-أخيرًا هتغادري المستشفى..
-جوزها كان عاملَّها إقامة جبرية..هكذا أردفَ بها أرسلان وهو يسحبُ المقعدَ ويجلسُ بمقابلةِ إلياس وأكمل:
-جوزك كان جاي وزعلان وعايز يرجَّع لك كليتك، وقالِّي هيطلَّقك.
برقت عيناها تنظرُ إليه..رمقهُ إلياس بنظرةٍ ساخطة:
-حد بيصدّّق المجنون، التفتَ الى غرام الساكنة وأردف:
-معرفشِ المجنون دا هيربِّي ابنه إزاي؟..هنا رفعت عينيها إليه:
-عرفت الِّلي عمله؟..
زوى مابين حاجبيهِ مع نظراتِ ميرال المستفهمة بدخولِ يزن وغادة، صاحت غرام بغضبٍ بعدما فقدت سيطرتها:
-أخوك الظابط المحترم اتحوَّل إلى مجرم، راح ضرب راجح وولَّع في شركاته، ومش بس كدا، استقال من شغله..
-غرام..صوتك، نطقَ بها أرسلان بغضبٍ عارمٍ وتحوَّلت نظراتهِ إليها لنيرانٍ جحيميَّة..
-أرسلان..قالها إلياس ليهدِّئه، ثمَّ التفتَ إلى غرام:
-غلطان بس اهدي متنسيش إنِّك حامل..
-أهدى، أخوك كان عايز يقتل راجح، طيب دا واحد مجرم ليه نعمل زيُّه..
-أنا قولت إيه، لا وقته ولا مكانه..اقتربَ يزن الذي كان يتابعُ بصمت:
-فعلًا لا مكانه ولا وقته، بس أنا لو مكانه كنت خلَّصت عليه، برافو عليك والله، معرفشِ ليه سبت الكلية التانية، والله إنَّك أهبل.
جحظت أعينُ إلياس بذهول:
-إنتَ كمان عاجبك تصرُّفه؟!!
ضربت غرام يديها ببعضهما:
-شوف كمان المهندس عاجبه التصرُّف الإجرامي، إيه ياباشمهندس، حلو جوزي يبقى مجرم، طيب ماهوَّ عمل معاكم الأسوأ، ليه محدش اتحرَّك؟..
إيه ياحضرة الظابط مش إنتَ أخوه الكبير، مش المفروض كنت تردعه عن عمايل الإجرام دي، ولَّا عجبك اللي عمله؟..بدل مايكون ظابط محترم يبقى مجرم، من إمتى رجل القانون بياخد حقُّه بدراعه؟..
-يالَّه خلِّينا نمشي، سحبها بقوَّةٍ قائلًا:
-أنا غلطان أصلًا إنِّي سمعت كلامك.. صاحت ميرال بصوتها المجهد تشيرُ إلى إلياس:
-وقَّفه..
-أرسلان..ولكنَّه جذبها وتحرَّكَ بخطواتٍ سريعة..
-أرسلان..تمتمَ بها إلياس بصوتٍ خافت، بعدما شعر بتألُّمِ جرحه..توقَّفت غرام تضعُ كفَّيها أسفلَ بطنها وشعرت بآلامٍ تفتكُ ببطنها، ولكنَّه سحبها إجبارًا رغم توقُّفها، شعرت بانسحابِ أنفاسها
وشهقت بقوِّةٍ تصرخُ بعدما شعرت بشيءٍ لزجٍ يخرجُ من بين ساقيها..
آاااه صرخت بها وهي تضمُّ أحشاءها..
ارتجفَ جسدهِ وهو يرى المياهَ التي انزلقت من بين ساقيها..صاح باسمِ الطبيبِ وهو يساندُها مع زيادةِ صراخها، خرجت غادة من الغرفةِ بعدما استمعت إلى صوتِ أرسلان..
وصل المسعفونَ سريعًا وقاموا بنقلها إلى غرفةِ الكشف..دقائقَ وخرج الطبيب:
-ولادة، بسرعة لغرفةِ العمليات..قالها يشيرُ إلى الممرضة التي هرولت للداخلِ بعدما تساءلت:
-طبيعي يادكتور؟..أومأ لها ..أمسكَ أرسلان ذراعه:
-عايز دكتورة، لحظة ينظرُ إليه الطبيبَ ثمَّ أومأ له وأردف:
-تمام..قالها وانسحب..
ظلَّ يجوبُ المكانَ ذهابًا و إيابًا، مع ارتفاعِ وتيرةِ أنفاسه:
-اتأخَّرت ليه؟..وصلت فريدة تتطلَّعُ إليهم بلهفة:
- إيه لسة مخرجتش؟..نظرت ميرال تهزُّ رأسها مع كلماتِ أرسلان المتألِّمة:
-أنا السبب..اقتربت تربتُ على ظهره:
-حبيبي ميعاد ولادتها طبيعي إنَّها تولد في أيِّ وقت بدل دخلت الشهر الأخير..
هزَّ رأسهِ بعنفٍ وتجمَّعت الدموعَ بعينيه:
-أنا السبب، بقالي فترة بضغط عليها،
أنا السبب..كرَّرها عدَّةَ مرَّات..وصلت صفية بجوارِ دينا تتساءل:
-إيه اللي حصل مش الدكتورة قالت قدَّامها لسة أسبوعين؟!..أوقفها عن الحديثِ صراخِ الطفل مع خروجِ الممرضة مبتسمة:
-مبروك المدام ولدت..هنا شعر وكأنَّ الأرضَ تترلزلُ تحت أقدامه، مع ارتجافةٍ لجسدهِ بالكامل..اقتربَ يزن يضمُّه بحنانٍ أخوي:
-مبروك يابابا..بس ياترى بنت ولَّا ولد؟..
لكنَّه كان شاردًا بصوتِ طفله..لم يستمع إلى شيءٍ آخر..دقائقَ وخرجت الممرضة تحمله:
-هوَّ كويس؟..تساءلت بها فريدة مع اقترابِ صفية، تلقَّفتهُ بمحبة، وشهقة خافتة تضمُّه لأحضانها:
-ياحبيبي أخيرًا نوَّرت الدنيا، أرسلان تعالَ شوف ابنك..ولكنَّه اقتربَ من النافذة وعيناهُ تسبحُ على الغرفة يبحثُ عنها، استدارَ إلى الممرضة:
-مراتي عاملة إيه؟..
-كويسة، شوية وهتتنقل لأوضتها..أخرج يزن نقودًا بعدما وجد حالتهِ ووضعها بيدِ الممرضة وأردفَ بنبرةٍ ممتنَّة:
-شكرًا..انسحبت بعدما شكرتهُ وتوجَّهت تحملُ الطفل:
-لازم الدكتور يشيِّك عليه..
بعد فترةٍ كان يجلس بجوارها يحتضنُ كفَّيها ينظرُ إلى طفلهما الذي يضعُ أناملهِ بفمه..وارتفع صوتُ بكائه..
توقَّفت دينا تحملهُ وتهدهدهُ بصوتٍ حنون..رفعت صفية كفَّيها وأخذته:
-هاتيه لحدِّ مامته ماتقوم..ربتَ على خصلاتها وانحنى يهمسُ إليها:
-غرامي قومي بقى، إيه النوم دا..
بغرفةٍ أخرى..
دثَّرته بالغطاءِ وسحبت بأناملها على خصلاتهِ باشتياق، ابتسمت بعدما فتحَ عيناهُ متمتمًا:
-بتعاكسيني وأنا نايم..
-لا، جاية أشوفك قبل ماأمشي، هجيلك بكرة..
-لا..ارتاحي وأنا الِّلي هاجي، روحي على الفيلا، بلاش البيت دلوقتي..
أومأت له ثمَّ توقَّفت قائلة:
-يوسف وحشني أوي، معرفشِ من الصبح صوت عياطه في وداني..
-بوسيه ليَّ لحدِّ ماآجي..
-حاضر ..قالتها وانسحبت بعدما فتحَ يزن الباب:
-يالَّه ياميرو، كريم مش مبطَّل اتِّصال..ثمَّ نظر إلى إلياس:
-هوصلَّها وأرجع لك..
بعد أسبوعٍ وهو اليوم المقرَّر لإعدادِ حفلِ السبوع الخاصِّ بابنِ أرسلان..
أنهى ارتداءِ ملابسه، وتحرَّك بحذر، يتناولُ هاتفهِ وسلاحه، دخلت ميرال وهي تتحدَّثُ بهاتفها:
-حاضر..ساعة كدا وهنيجي..أغلقت الهاتفَ تتطلَّعُ للذي يستعدُّ للمغادرة:
-رايح فين؟..
نظر بساعتهِ ورد:
-مشوار نصِّ ساعة، يبقى روحي مع ماما ونتقابل هناك.
-مشوار إيه دلوقتي ياإلياس، النهاردة حفل سبوع ابنِ أخوك، والناس كلَّها هتكون موجودة أقولُّهم إيه دلوقتي..
طبعَ قبلةً فوق وجنتيها وخطا للخارجِ دون حديث.
بعد فترةٍ وصل إلى المشفى الذي يُحجزُ بها راجح ..دلف إلى غرفتهِ وجدهُ غافيًا، جذب المقعدَ وجلس عليه بهدوئهِ الغيرِ معتاد، وزفراتٌ حارقةٌ تخرجُ من فمهِ يريدُ أن يلتهمَ بها جسده..تململَ راجح وفتح عينيه، وجدهُ جالسًا على المقعدِ ونظراتهِ تخترقهُ كالسهمِ الناري يريدُ أن يحرقه..تمتمَ بصوتٍ متقطِّع:
-إنتَ!!..بتعمل إيه؟!
انحنى بجسده يحدجهُ بنظرةٍ مميتة، ثمَّ أردف:
-جاي أتبرَّع لك مش كنت جاي تتبرَّعلي؟..
جحظت عيناه، وهو يراهُ يضعُ كفَّيه بجيبه، فانتفضَ يصرخُ باسمِ الممرضة:
-الحقيني جاي يموِّتني..
↚
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
"أيُّ حياةٍ تُدعى حياةً بعدكِ؟"
أرددها كمن يُنادي في صحراء موحشة، لا صدى، لا رد، سوى رجع أنيني.
أتظنين أنّ الحياة تمضي كما كانت؟
كلا...
ما عدتُ أتنفس، بل أختنق بذكراكِ.
ما عدتُ أحيا، بل أذوب في غيابكِ قطرةً قطرة.
أقسم لكِ...
لستُ حيًّا منذ ابتعدتِ.
أنا شبحُ رجلٍ سلبه الفقد ملامحه،
أنا قلبٌ هائمٌ بكِ،
يغوص فيكِ من الوريد حتى الوريد،
كغريقٍ يتلذذ بالموت إن كان الغرق في عينيكِ.
يا من امتلكتِ كياني...
يا من تقاسمكِ النبض مع شراييني...
كيف أشرح لكِ أن بعدكِ لم يكن غيابًا،
بل فناء؟
بالمشفى، عند راجح...
رفرف أجفانهِ ببطء، يفتحُ عينيهِ متأوِّهًا..استقرَّ نظره، حتى وقعت عيناهُ على إلياس جالسًا على المقعدِ المجاورِ لفراشه، يرمقهُ بنظراتٍ تخترقُ جسدهِ وتفتكُ روحه..نظراتٌ نارية، مسعورة، تُشعلُ اللهبَ يتمنَّى أن تصلَ إليه وتحرقه..
برقت عيناهُ بدهشةٍ متوجِّسة، وتمتمَ بصوتٍ متقطِّع خرجَ من بين شفتيهِ اليابستين:
إن...تَ بتعمل إيه؟
تراجعَ إلياس بجسدهِ قليلًا، وابتسامةً ساخرةً تجلَّت على وجهه، تدلُّ على استخفافٍ مرير، ثمَّ قال:
- جاي أتبرَّع لك..إيه؟ بلاش أردّ الزيارة؟..دا حتى ياراجل، إحنا ولاد أصول، ومتربيين...
ثمَّ انحنى نحوهِ فجأة، غارسًا نظراتهِ الحادَّة في عينيهِ المتَّسعتين، وهمس بنبرةٍ تشبهُ السُّمَّ الزاحف في العروق:
عارف الحاجة الوحيدة اللي بندم عليها ياراجح من ساعة ماعرفت شخص مقرف زيك؟
توقَّفَ لحظة، كأنَّما يتلذَّذُ بخوفه البائنِ بملامحه، وتابع:
- إنِّي متربِّي..متربِّي أوي، واللي زيك مش عايز المتربيين..
ارتجف جسدُ راجح كمن أصابهُ مس، وعيناهُ ترصدانِ أدقَّ حركةٍ في قسماتِ إلياس، وكأنَّه ينتظر ضربةً مميتةً تخرج في أيِّ لحظة...ثم قال بصوتٍ منكسر، يحمل نبرةَ ذعرٍ خفي:
- إنتَ عايز منِّي إيه ياابنِ جمال؟
لوى إلياس شفتيهِ بازدراء، ولا زالت عيناهُ تشتعلان، فبسط كفيه إلى جيبه وهو يهتف:
-الله...مش قولت جاي أردّ لك الزيارة؟
هلع، وقفز راجح مبتعدًا، يصرخُ كمن رأى الموتَ بعينيه:
- الحقوني! هيقتلني.
قطب إلياس جبينهِ في امتعاض، ثمَّ رفع هاتفهِ مشيرًا به قائلاً:
اهدى ياراجح..هقتلك بالموبايل؟ ليه فيه سمّ بالصاعق؟ ياراجل، بقولَّك جاي أتبرَّع لك، تقوم تقولِّي هقتلك؟ طيب والله...يا رب تموت لو كنت بضحك عليك.
- عايز إيه ياابن السيوفي؟! مش مكفِّيك عمايل أخوك؟!
أطلق إلياس ضحكةً ساخرة، ثمَّ مال برأسهِ قليلًا قائلاً:
- تؤ... تؤ... كده تزعَّلني، وزعلي وحش.. من دقيقة كنت بتقول ياابنِ جمال، ودلوقتي ابنِ السيوفي؟! لا وكمان الأهبل بيقول أخوك...
ثمَّ اقتربَ أكثر، وكلماتهِ تتسلَّلُ إلى أذنِ راجح كالسياط:
-أنا معاك، يوسف جمال الشافعي، شوفت أنا طيب إزاي، علشان لو قلبت لإلياس هخنق الهوا في زورك.
-عارف إنَّك يوسف ابنِ جمال، بس مش أنا السبب في اللي خلَّاك الياس..
تهكَّم راجح وطالعهُ بنظرةٍ ساخرة:
-حلو الإحساس إنَّك تعيش باسمِ غير اسمك..ومتفكَّرش هخاف من تهديدك أنا مش هسيب حقِّي ليك يابنِ جمال، ولا من أخوك..وفين لمَّا تثبت بقى، هفضحك وأقول كلِّ حاجة..
هنا تجمَّد الهواء داخلَ رئتيه، حتى شعر بوجعِ محتدمِ في قلبٍ لا يعرفُ الرحمة.. فتقدَّم إلياس بخطواتهِ الهادئة، الواثقة، والتي تُخفي تحتها بركانًا من الغضب، من كلماتِ راجح الناريةِ التي جعلتهُ لا يهدأ، ثمَّ نظر إلى راجح بنظرةٍ لا تخلو من اشمئزازٍ دفين، كأنَّ عينيه تفرضُ عليه مجرَّد تذكيرٍ بحقيقةِ وجوده..ثمَّ قال بصوتٍ خفيض، لكنَّه يقطرُ تهديدًا:
– وأنا منتظر الفضايح، عايز أعرف هتعمل إيه؟..قالها بعيونٍ تنطقُ من الشرِّ مالا يستطع أحد التحكُّم فيه..
تراجعَ راجح قليلًا، بعدما تسلَّل الذعرُ إلى ملامحه، وهمسَ بضعف:
– إلياس..أنا ماليش دعوة بالِّلي حصل...أنا بقول أيِّ كلام..
ابتسم إلياس باستخفافٍ فاستدارَ بنصفِ جسده، وهتف بنبرةٍ لا مباليةٍ تخفي خلفها طوفانًا من النيَّة المبيَّتة:
– أُمم..أيوة صح، إنتَ بريء وبتقول أيِّ كلام..معذور يعني هتختارني ولَّا تختار نفسك؟ أنا لو مكانك كنت هعمل زيك...
انقبض وجهُ راجح، وقال مستنكرًا:
– تقصد إيه، لا طبعًا هختارك؟!
صمت إلياس ولم يرد عليه، فتساءلَ بنبرةٍ جعلها قوية حتى لايبيِّنَ ضعفه:
-إنتَ عايز إيه ياابنِ جمال؟..مش كفاية أخوك..
ابتسم إلياس..ابتسامةَ وجعٍ ممزوجٍ بالشماتة، وقال ببطءٍ يشعرُ بأنَّ الهواءَ داخلهِ كالسكاكين:
– روحك يا راجح...عايز روحك..ودي هاخدها، بس مش هريَّحك، صدَّقني كلِّ يوم هخطف منَّك جزء من روحك، لحدِّ ما تكره اليوم اللي اتولدت فيه.
اقترب، حتى باتت أنفاسهِ تلفحُ وجهَ راجح، وحاصرهُ بذراعيهِ كأنَّها قيدٌ لا يُكسر..ورغم الألمِ الظاهرِ في عينيه، بل بجسدهِ لما يشعرُ به، ثمَّ تابع بصوتٍ خفيضٍ ولكنَّه أشدُّ وطأة:
– أوعى تفكَّر إنِّ إلياس بينسى ويعدِّي اللي أذاه بكلمة...تخيَّل بقى اللي مدِّ إيده على أمِّي ومراتي.
اهتزَّ جسدُ راجح، من تلميحاتهِ المبطَّنة، فتراجع للخلفِ يزحفُ بجسده، متهرِّبًا:
– إنتَ بتقول إيه؟ تقصد إيه؟!
انتصب إلياس، ومدَّ يدهِ يحكُّ ذقنهِ ينظرُ إلى الأسفلِ ثمَّ بدأ يدورُ حول نفسه، كأنَّه يفكِّر بما سينتويه، يهمسُ لنفسه، يعيدُ كلماتهِ بصوتٍ متهكم:
– تقصد إيه ياإلياس...تقصد إيه؟…
رفع رأسه، وابتسامةٌ ساخرةٌ ترسَّخت على ملامحهٍ كندبةٍ دائمةٍ تشعرهُ بالاشمئزازِ من نفسه ثمَّ قال:
- ولادك اللي رميتهم في كلِّ مكان... حبِّيت آخد تارهم منَّك..وقلت علشان ما يتفاجأوش بعيِّل بعد كام سنة...ما هو النجس له في كلِّ مكان مصيبة.
قطب راجح حاجبهِ في ذهول:
– تقصد إيه؟!..
اقترب إلياس ينظرُ اليه بعينينِ جامدتينِ لا تشتهي الحياة، وقال بهدوءٍ شيطاني:
- أقصد...إنِّ الدكاترة وهمَّا بيستأصلوا الكلية، اتفاجأوا إنِّ عندك شوية حاجات محتاجة تتظبَّط..البروستاتا؟ هلكانة، ياقلبي عليك ياراجح..والمرارة؟ كانت هتنفجر... فكان لازم يتصرَّفوا..عملوا إيه؟ كلِّموني، ماهو أنا ابنِ أخوك الكبير، وأنا...إدِّيتهم الإذن يظبَّطوك.
– إنتَ... قصدك...!!
أومأ برأسه، وضحكةً مستفزة، بعيونٍ تنطقُ بالشرِّ يهزُّ رأسه، ثمَّ تقدَّم حتى صار على بُعدِ نفسٍ واحدٍ منه، وهمس بعبارةٍ سلبت ما تبقَّى له من رجولة:
– مفيش بروستاتا ...قالها غامزا وأكمل -ما بقتشِ راجل ياراجح...علشان يبقى تتشطَّر على الستَّات الحلوة..والِّلي خلقني، لآخد أعضاءك جزء جزء... وعلى الهادي.
صرخ راجح كالمجنون، يهذي باسمِ الممرضة، كأنَّه يتمسَّكُ بقشةٍ وسط بحرِ الهلاك..لكن إلياس أشار بسبَّابتهِ تجاهه، بصمتٍ مميت، ونظراتٍ تفضحُ نيَّته بقتله
– لو نطقت بحرف فيه "أرسلان"، أيِّ حرف من اسمه، صدَّقني، أعضاءك كلَّها مش هتشفي غليلي...واحمد ربِّنا إنَّك وقعت في إيد أرسلان، مش في إيدي.
-المهم نستني اوريك فيديو الموسم ياراجل، ياله والله صعبت عليا، هبعتهولك على الموبايل علشان وقت كدا وكدا يعني، تجيب الفيديو تتذكر ايامك الملاح ..قالها بضحكة صاخبة ورغم أنها ضحكة إلا أنه لم يبتسم بل رمقها شزرا
و استدار قليلًا، ثمَّ عاد بصوتهِ الحاد:
– وابنك..اللي خرَّجته وأنا في المستشفى هرجَّعه، وهيتعدم قدَّامك..الإيد اللي تلمس مراتي؟ أقطعها..أوعى تفكَّرني نسيت...أنا بس برتِّب الأولويات.
أشار للممرضة، دون أن يرفعَ عينيه عن راجح، كأنَّ روحهِ لم تكتفِ بعد..
-خلِّي بالك منُّه، دا غالي عليَّا، وياريت دواه بانتظام، وغيَّري له على الجرح حلو..قالها وتراجع يتحرَّكُ للخارجِ بعدما أغلقَ حلَّته..
توقَّف لدى الباب، واستدارَ برأسه:
-ألف سلامة ياعمِّي..نسيت أدعي لك بالخلف الصالح دا لو قدرت..
قهقهَ غامزًا..شقي يارجوح.
بعد فترةٍ وصل إلى فيلا الجارحي، دلف للداخلِ بهيبتهِ المعتادة، قابلهُ إسحاق مرحبًا به، اقتربَ منه هامسًا:
-كان لازم تعمل نمرة عند راجح؟..
رفع حاجبهِ وكأنَّه مستخفًّا بحديثِ إسحاق ثمَّ أردف:
-مبحبِّش شغلِ المخبرين دا ياإسحاق باشا، أنا مش أرسلان، قالها يهزُّ رأسهِ بابتسامةٍ صفراء ثمَّ خطا لجلوسِ مصطفى وفاروق، وصل إليهم ملقيًا السلامَ يبحثُ بعينيهِ عن أرسلان...
أشار إليهِ مصطفى بمكانِ أرسلان، أومأ وجلس بجوارِ والده، يتجوَّلُ بعينيهِ بالمكانِ إلى أن وقعت على زوجته التي تقفُ بجوارُ إسلام ويزن كطفلةٍ تبلغ من العمرِ عشرَ سنوات، ضحكاتها، نظراتها، حقًّا ستسحقهُ تلك الفتاة..ماذا قال يزن ليجعلها متناسيةً كلَّ آلامها، وتظهرُ بتلك الحالة؟..
ربت مصطفى على ساقهِ ليخرجَ من مراقبتها، ثمَّ التفت لوالدهِ الذي يشيدُ به:
-إلياس طبعًا..هوَّ المتحكِّم الأكبر في كلِّ حاجة، وبعده إسلام.
ابتسمَ فاروق بمحبَّة:
-ربِّنا يباركلك فيه، بس أنا لسة عند رأيي، مجال البيزنس حلو، فكَّر ورد عليَّا..نظر إلى إلياس وأردف:
-فاروق باشا بيقول إيه رأيك تشارك أرسلان في نادي رياضي، هيكون من أقوى الأندية في مصر..
هزَّ رأسهِ بالرفض وأردف:
-لا..ماليش في الشغلِ دا، كفاية شغلي، مبحبش خنقة البيزنس..
ضحكَ مصطفى وقال وهو ينظرُ إلى فاروق:
-قولت لك مصدَّقتش، مالناش في البيزنس..قاطعهم وصولُ أرسلان:
-بابا هطلع أجيب بلال..اعلن بقى عن حفيدك..
توقَّف فاروق واقتربَ منه يضمُّه بحنانٍ أبوي:
-ألف مبروك ياحبيبي يتربَّى في عزَّك..
-ربِّنا يخلِّيك ليا ياحبيبي..قالها ارسلان
بمكان اخر ببعد عنهم عدة أمتار
كانت تجلسُ على بعدِ مسافةٍ بجوار صفية ودينا، ترقرقَ الدمعُ من عينيها، بعدما استمعت إلى حديثهما، فسحبت بصرها مبتعدةً عنهما، تتذكَّرُ زوجها الراحل..
-ناوي تسمِّيه إيه ياجمال؟..قالتها وهي تحاوطُ أحشاءها.
ضمَّ وجهها بين راحتيهِ ثمَّ قبَّل جبينها:
-بينزل باسمه يافريدة، إن شاء الله يجي بالسلامة وبعد كدا نسمِّيه.
وضعت رأسها بأحضانهِ وحاوطت خصره:
-إن شاء الله حبيبي، بس نفسي أسمِّي بلال أوي ياجمال، بحبِّ الاسم دا أوي، من بعد ماعرفت قصِّة مؤذِّن الرسول وأنا صغيرة..
رفع ذقنها يتجوَّلُ بالنظرِ إلى مقلتيها:
-إن شاء الله ياأمِّ يوسف، يجي بلال بالسلامة، ويبقى عندنا يوسف وبلال..
ابتسامةٌ أزهرت وجهها مما زاد بريقُ عيناها لتهمسَ إليه:
-أنا بحبَّك أوي ياجمال، ربِّنا يخلِّيك لينا يارب..انحنى وقبَّل كفَّيها ثمَّ رفع رأسهِ ينظرُ لجمالِ عينيها:
-وجمال بيحبِّك أوي ياسيِّدةَ الكون كلُّه..
دمعةٌ تسلَّلت من عينيها وهي تتذكَّرُ حبيبَ الروحِ الغالي، حتى تسرَّبت على وجنتيها، فأزالتها سريعًا قبل أن ينتبهَ أحدًا إليها..ولكن هناك أعين التقطتها، ليتحرَّك إليها..اقترب ملقيًا تحيَّةَ المساءِ ثمَّ جلس بجوارها، توقَّفت صفية معتذرة:
-هشوف غرام اتأخَّرت ليه، لحقتها دينا:
-وأنا هشوف حمزة..بعد إذنك يامدام فريدة..
أومأت فريدة بصمت، تشعر بغصَّةٍ تمنعُ تنفُّسها..ولكنَّها التفتت إلى إلياس حينما استمعت إلى حديثه:
-بتخبِّي إيه يامدام فريدة...التفتت إليه وعجزت عن كبحِ دموعها..
اقتربَ من رأسها وتابعَ همسه:
-دموعك غالية، بس لو زعل، أمَّا دي لو دموع فرح، فأنا بقولِّك مبروك عليكي أحفادك ياأمِّ يوسف..
ارتجفت شفتاها وانسابت دموعها بغزارةٍ تهمسُ له بشهقات:
-أوَّل مرَّة تقولِّي ياأمِّ يوسف..يايوسف،
قرَّب كفَّيهِ من كفِّها يضمُّه بين راحتيهِ وربتَ عليه:
-الحقيقة مستحيل ننكرها ياماما، مهما حاولنا نبيِّن غير كدا قلوبنا بتوجعنا، بدليل دموعك دي، أنا مش هسألك سببها إيه، بس هقولِّك لولا الِّلي حصل مكناش عرفنا قيمة الِّلي ضاع، وحياة رحمة أبويا اللي مشفتوش، ومعرفشِ ملامحه غير من صورُه، وحياة حرقة قلب ابن اتكوى بظلمِ أبوه وأمُّه لأجبله حقُّه، أه مقدرشِ أرجَّعه، بس حقُّه هيرجع..وزيِّ ماقولنا زمان اللي خلَّف مامتش..
أزالَ دموعها واقتربَ من وجهها:
-كفاية وجع وحزن يامدام فريدة، عندك بدل الراجل أربعة، مش دا كلامك لراجح..
قبَّلت كفِّه الذي وضعهُ على وجنتيها، ليضمَّ رأسها ويطبعُ قبلةً فوقها:
-قومي حفيدك نازل ولازم تستقبليه، وبلاش تنكِّدي على مصطفى لاحظي الراجل بيغير، شوفي عيونه علينا، شكله هيقوم يضربني، مفكَّرني أنا مزعَّلك.
ضحكت مبتعدةً عنه، ثمَّ لكزتهُ بخفَّة:
-هوَّ حرام لو قولت بابا وماما، يابني لسانك مضيَّعك.
جحظت عيناهُ يشيرُ لنفسه:
-أنا ضايع يامدام فريدة، طيب مش هردِّ عليكي..أنا رايح أنكِّد على مراتي اللي مش مبطَّلة ضحك..
قالها ونهضَ من مكانهِ واتَّجهَ إلى ميرال..
كانت تواليهِ ظهرها وتتحدَّثُ إلى يزن..
توقَّف بجوارها، ثمَّ لفَّ ذراعيهِ حول خصرها يجذبها إليه قائلًا:
-تعالي عايزك...قالها وهو يومئُ برأسهِ إلى يزن..تحرَّكت معه بعضَ الخطواتِ إلى أن توقَّف بعيدًا عن الأعين:
-واقفة كدا ليه، وفين يوسف؟..
-النانا اخدته ورجعت على البيت، دوشة الحفلة منكدة عليه وهو عايز يجري، مبقاش عايز يقعد في مكان دقايق، طالع لابوه
-رفع حاجبه قائلا:
-ليه أبوه عايز يجري في الحفلة!!.
افلتت ضحكة تلكزه
-انت فاهم اقصد ايه، ماتستهبلش
-لسانك يابنت فريدة طول، وعلشان ايه، معرفش جايبة الثقة دي منين
اقتربت منهُ ورفعت أناملها تتلاعبُ بزرِّ قميصه، وأردفت بدلال:
- من حبي ياحبيبي، وبعدين انا بكذب يعني، أيوة بقالك اسبوع مبتقعدش في مكان ساعة، اومال لو مش عامل عملية، وبعدين اتأخَّرت ليه، دي النصِّ ساعة؟..مش كفاية جيت مع إسلام وماما..
تلفَّت حولهِ ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ نحوها:
-يعني قولتي أدخلُّه من الحتَّة دي علشان ماعقابكيش على ضحكك مع الشحوطة دول..
-إلياس..قالتها بنبرة مثيرة، تجذبه اليها، قبضَ على كفِّها الممسكِ بزرِّ قميصه:
-اعقلي إحنا مش في بيتنا ولا أوضة نومنا، نروح ونشوف الدلع بتاعك دا..
دنت أكثر ورفعت نفسها، ومازالت تتلاعبُ بقميصه، لتهمسَ إليه بصوتها الناعم:
-ليه هوَّ أنا عملت إيه؟..
رفع حاجبهِ ساخرًا ..ولوى شفتيه:
-حبيبتي أنا مش مراهق، اعقلي، ولمِّي الدور، ولو عايزة تلعبي سمعًا وطاعة بس مش دلوقتي..قالها وهو يسحبُ كفَّها يتحرَّكُ إلى الجمع..
أفلتت ضحكةً ناعمةً حتى توقَّف فجأة، ممَّا جعلها تصطدمُ بصدره، حتى كادت أن تسقطَ لتشهقَ بفزع، ابتسم عليها وحاوطَ خصرها يضغطُ عليه، وتلاعبَ بها حينما ضمَّها بقوَّةٍ وانحنى بأنفاسهِ أمام الجميع:
-مالك ياروحي؟..جحظت عيناها تتلفَّتُ حولها:
-إلياس الناس بتبصِّ علينا..ابعد شوية..
نظرَ إليها بتهكُّم ثمَّ قال:
-لمَّا تحبِّي تلعبي يبقى العبي على قدِّك، قولت لك أنا مش مراهق..يالَّه روحي عند ماما، متبعديش عنها، عيوني مرقباكي..
بالأعلى بغرفةِ أرسلان..
توقَّفت أمام المرآةِ لتنهي زينتها، نظرت برضا على طلَّتها، مع دخولهِ إلى الغرفة، دلف بخطواتهِ الهادئة يطلقُ صفيرًا:
-وااااو..ماهذا الجمال غرامي؟!..
"What is this beauty, my love
اقترب منها يخطو بكلِّ ثقة، خطوات تشبهُ شاعرًا يتهادى وسطَ الطبيعة، يكتبُ من وقعِ خطاهِ قصيدةَ حبٍّ لم تكتمل.
كانت تبحثُ بتوتُّرٍ عن شيءٍ داخل درجٍ صغير، لم تلتفت إليه، تحاولُ أن تتجاهلَ وجودهِ لتُبقي شيئًا من تماسكها المُصطنع..
انحنى بجسدهِ خلفها، حتى صار دفءُ أنفاسهِ يلامسُ طرفَ عنقها المغطَّى بالحجاب، دفنَ رأسهِ بعنقها، يتنفَّسُها باشتياقٍ كمن عاد بعد غيابٍ طويل..
نظرت إليه بطرفِ عينها، ثمَّ قالت، بصوتٍ حاولت أن تبقيهِ متماسكًا:
– عايزة أخلص، ابعد عنِّي...
لم يتحرَّك..بل رفع عينيهِ نحو المرآة، يتأمَّلُ صورتهما المنعكسة..كانت تمسكُ بأحمرِ الشفاه، تمرِّرهُ برفقٍ على شفتيها في صمت.
انتظرَ حتى أنهت، ثمَّ أمسكَ بكتفيها وأدار جسدها نحوه، رفعَ ذقنها بيده، وعيناهُ تغرقُ في تفاصيلِ وجهها كأنَّها المرَّةُ الأولى.
- مش حرام أتحرم من العيونِ الحلوة دي؟ قلبك بقى قاسي أوي ياغرامي..
تراجعت بخطوة، وألقت أحمرَ الشفاهِ جانبًا، ثمَّ نظرت إليه بحدَّة:
– هنتأخَّر على الناس.!!
اقتربَ نفسَ الخطوةِ التي ابتعدتها، ثمَّ جذبها من خصرها بقوَّةٍ حتى ارتطمت بصدره، وحدَّقَ في عينيها للحظات، ثمَّ همس بنبرةٍ هادئةٍ لكن صارمة:
- ممكن أعاتبك ونعدِّي الموضوع هزار، بس إنِّك تتجاهلي وجودي؟ لأ، مش هسمح بده..
أنا عدِّيت الأسبوع ده علشان لسه خارجة من الولادة، وده مش معناه إنِّي عاجبني اللي بيحصل، أنا كنت بحاول أكون أرسلان الحبيب..مش أكتر..
دلوقتي هتنزلي معايا، وبعد الحفلة… لينا كلام، لو عاجبك أسلوبي وحياتي، قلبي تحت رجلك،
بس لو هتتمرَّدي، صدَّقيني…ساعتها بيت أبوكي هيكون أولى بيكي..
وأشار بيده نحو المجوهرات الموضوعة على الطاولةِ الصغيرة:
– البسي الحاجات دي..مش معقول تنزلي قدَّام الناس كده..
متنسيش إنِّك مرات أرسلان الجارحي..
عدَّةُ ساعاتٍ وجوٍّ من الألفة والمحبة بحفلةِ الحفيدِ المختلطِ بين العائلتين..تراجعَ إسحاق بعيدًا بعدما استمع إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة...أجابه الرجل
ـايوة ياإسحاق باشا، رانيا الشافعي ماتت فعلًا، دوَّرنا واتأكَّدنا..
ذهب بشرودهِ لنقطةٍ وهمية، وأحداثٍ كثيرة تضربُ عقلهِ حتى انتبه لصوتِ الرجل:
-إسحاق باشا معايا؟..
أه معاك، طيب خلاص خلِّيك على تليفون..قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ ذهب ببصرهِ إلى إلياس المتوقِّفِ بجوار أرسلان ومصطفى..ظلَّت نظراتهِ عليه لبعضِ الدقائقِ يحدِّثُ نفسه:
-معرفشِ ليه حاسس فيه حاجة ورا الموضوع دا، إزاي رانيا ماتت وهوَّ هادي مع راجح، ياترى يابنِ السيوفي بتخطَّط لإيه إنتَ والداهية الِّلي معاك..
اقتربَ منهما ثمَّ توقَّف بجوارهم:
-نوَّرتوا الحفلة يامصطفى باشا..
رمقهُ أرسلان برفعِ حاجبهِ يغمزُه، ثمَّ اقترب يهمسُ إليه:
-ماتغيَّر الكلمة ياإسحاقو، دا إنتَ قولتها عشروميت مرَّة..
-اخرس يالا..طالعهُ متهكِّمًا يشيرُ إلى نفسه:
-يالا..والحفلة دي ستار على أعمال مشبوهة، عمُّو أنا بقيت أب، وإنتَ جدُّو على فكرة، متفكرشِ نفسك لسة صغير..
ضغطَ على قدمهِ وعيناهُ على إلياس الذي يتحدَّثُ مع مصطفى بكلِّ أريحية، ثمَّ جذبَ أرسلان من جاكيت بذلته:
-رانيا إزاي ماتت يالا؟..
-رانيا مين؟!
قالها بوصولِ ميرال..
-بعد اذنكم، قالتها واقتربت من إلياس، تسحب كفيه قائلة
- النانا كلِّمتني علشان يوسف.
أومأ لها ثمَّ التفتَ إلى فاروق وأرسلان :
-بعد إذنكم إحنا لازم نمشي..ضيَّقَ إسحاق عينيهِ واقتربَ بخطوةٍ من ميرال:
-مدام ميرال نسيت أعزِّيكي، البقاء لله.
قطبَ إلياس جبينهِ عن مايشيرُ إليه، فيما نظر الجميعُ الى إسحاق نظراتٍ مشوبةً بالتساؤل..فهزَّ رأسهِ وهو يتجوّّلُ بعينيهِ على الجميعِ إلى أن سقطت عيناهُ على إلياس وتحدَّث:
-بعزِّيها في مدام رانيا، لسة عارف قريب إنَّها ماتت..
فتح إلياس فاههِ للتحدُّثِ ولكن قاطعتهُ ميرال قائلة:
-معرفشِ حضرتك بتعزِّيتي فيها ليه؟!..
الستِّ دي مفيش رابط بينا، على العموم شكرًا لحضرتك..قالتها واستدارت مغادرةً المكان..فيما اتَّجهَ الجميعُ يرمقُ إسحاق بنظرةٍ توحي بالكثير، اقترب من إلياس وأردفَ بنبرةٍ توحي بشيءٍ ما:
-آسف مقصدشِ أزعَّلها.
-ولا يهمَّك ياباشا..قالها إلياس منسحبًا بعدما تحرَّك يزن خلفها..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ في منزلِ يزن،
جلس بين إخوتهِ يتناولونَ العشاءِ في جوٍّ يغمرهُ الدفء والمودة.
توقَّفت إيمان فجأة، بعدما انتبهت مسامعها طرقٌ خافتٌ على الباب.
دلفَ كريم إلى الداخلِ وهو يغمزُ بعينيه:
– إزيك يامراتي المستقبلية؟
تورَّدت وجنتاها وهمست بخفوت:
– بس ياكريم...
ضحكَ كريم ودخل مُلقيًا السلام:
– عامل إيه ياحمايا العزيز؟
كان يزن قد رفع قطعةَ خبزٍ إلى فمه، يلوكها بهدوءٍ مستفز، غيرَ مكترثٍ لدخوله، ممَّا جعلَ كريم يجذبُ مقعدًا ويجلسُ مقابله، يحدجهُ بنظرةٍ مشتعلة:
– إيه يابني؟ مش بتردِّ السلام؟ وكمان ما بتعزمنيش؟
رفع يزن حاجبًا ساخرًا وهو يراقبهُ يسحبُ صحن الجبنِ ويبدأ في التهامهِ بشراهةٍ أثارت حنقه، فقال بتهكُّم:
– وإنتَ عايز حد يعزم عليك؟ دا إحنا المفروض نعزم على نفسنا في بيتنا وإنتَ معانا!
-لو مش عاجبك قوم، أنا مش غريب.
-لا ياحبيبي ماغريب إلَّا الشيطان، بس الشيطان اتكسف ومشي.
انفجرَ كريم ضاحكًا بصخب، وهو لا يزالُ يلوكُ طعامه، حتى اختنقَ فجأةً وسعلَ بقوَّة...
ضحكَ يزن وأشار إلى إيمان قائلاً:
- الحقي..هيموت!
أسرعت إيمان وأمسكت كوبَ الماء، تمدُّهُ إليه بقلق:
– كريم، اشرب...
دمعت عيناهُ من شدَّةِ السعال، وشعر بالاختناق، فمدَّت إيمان كفَّها تُربتُ على ظهرهِ بلطف.
رمقها يزن بنظرةٍ عابرة، فابتعدت سريعًا واتَّجهت إلى المطبخ:
– هعملكم قهوة...
بعد فترةٍ خرج إلى شرفةِ المنزل، يتناولون القهوة، صمتًا دام بالمكانِ إلى أن قطعهُ يزن:
-مدام زهرة كلِّمتني من فترة..أنصتَ إليه باهتمام..
-بتسألني ليه طلَّقت رحيل، إيه الِّلي حصل خلَّاها تكره حتى اسمي؟.
قالها ثمَّ زفر زفرةً حارقةً كادت تحرقُ صدره..
-يعني إيه مفهمتش؟..
مسح على وجههِ بعنفٍ كاد أن يقتلعَ جلده، ثمَّ تراجعَ بجسدهِ يتَّكئُ على المقعدِ ونيرانٍ داخليةٍ تغلي بأوردتهِ يهزُّ كتفهِ قائلًا:
-بتكرهني، مش عايزة تسمع عنِّي حاجة..بعد ماكنت ناوي أقولَّها كلِّ حاجة، لقيتها بتقولِّي لو ظلمت بنتي يابنِ راجح عمرك ماهتتهنَّى في حياتك، بنتي انطفت بسببك..
ترقرقت عيناهُ بالدموعِ لأوَّلِ مرَّة قائلًا:
-أنا حبِّيتها ياكريم، مش قادر أنساها، عارف ظلمتها معايا، بس واللهِ ماكنت أقصد الِّلي حصل.
-بس إنتَ ماقولتش دا قدَّامها يايزن، إنتَ فهَّمتها إنَّها كوبري لانتقامك، كنت منتظر منها تاخدك في حضنها..
أشعل سيجارةً وبدأ يحرقُ بها كاحتراقِ صدرهِ المشتعل:
-عارف غلطت..بس كنت خايف أضعف وماكمِّلشِ في انتقامي من راجح.
سحبَ كريم نفسًا طويلًا وزفرهُ ببطءٍ مبتعدًا بنظراتهِ عنهُ وأردف:
-الغلط مابيتجزَّأش يايزن، وأيِّ واحدة مكانها كانت عملت كدا، إنتَ قهرتها لأنَّها حبِّتك ووثقت فيك، وأنا قولت لك ترضى أعمل مع إيمان كدا..
صمتَ للحظاتٍ ثمَّ استدار بنظرهِ إليه وتابعَ مستطردًا:
-حاول تنساها وعيش حياتك، وكويس إنُّكم انفصلتوا قبلِ مايحصل بينكم حاجة..أظن فاهم قصدي..
تأرجحت عيناهُ بألمٍ انبثقَ منها وتاهت نظراتهِ مع دمعةٍ شقَّت جفنيه، يهمسُ بصوتٍ ممزوجٍ بغصَّةٍ كالشوك:
-أنا تمِّمت جوازي منها.
صاعقة أصابت جسدَ كريم ليهبَّ فزعًا يطالعهُ بشهقةٍ ولم يشعر بما نطقهُ لسانه:
-غصب عنها؟..اتجنِّنت!..
اخرس، اتجنِّنت ليه حيوان؟..
-مقصدش يايزن، بس إنتَ آخر أيَّامك معاها كنت قاسي، أنا بقول يمكن علشان تضغط عليها تفضل زيِّ ماإنتَ بتقول..
مسح على وجههِ بعنف، ثمَّ توقَّف متَّجهًا إلى السياجِ الحديدي مستندًا عليه مع تنهيداتٍ بوخزاتٍ كأنَّها مسامير تنخرُ بعظامِ صدره:
-أنا مش مرتاح، كريم حاسس بحاجة بتخنقني، مش عارف أسيطر على غضبي، كلِّ ماأفتكر الِّلي حصل بينا معرفشِ لو شوفتها قدَّامي إيه اللي ممكن يحصل..
نهض كريم واقتربَ منه، ربتَ على ظهرهِ بحنانٍ أخوي:
-اهدى، وإن شاء الله الوقت ينسِّيكم الِّلي حصل، اعذرها الموضوع كان صعب عليها، وخاصَّةً بعد ماوثقت فيك.
أومأ قائلًا:
-انسى...المهم أنا كلَّمت المأذون، إن شاء الله على الجمعة تكون رتَّبت مع أهلك، علشان عندي سفرية شغل، وممكن أغيب أسبوعين..
-سفر!..ليه هتسافر فين؟..
-إنجلترا، فيه صفقة..العضو المنتدَب اتَّفق على كلِّ حاجة ولازم نروح نعمل الشراكة دي، هتكون نقلة حلوة جدًا للشركة، أنا كنت أسمع رحيل دايمًا بتشكر في الشركة دي، ومعنى إنَّها توافق على شركتنا يبقى إنجاز للمجموعة.
-وبعد كدا يايزن إيه الِّلي هيحصل، هتفضل مشغَّل الشركات؟..أنا نفسي أدخل دماغك..
- كريم كلِّ حاجة في وقتها حلو ...المهم ظبَّط أمورك، علشان أسافر وأنا مطمِّن على أخواتي، لو مش عارف إنَّك هتزعل من وجود إيمان مع ميرال كنت خلِّتها هناك لحدِّ ماأرجع، وإحنا أجِّلنا كتب الكتاب كام مرَّة، جه الوقت ألمَّك ياأخويا، واعرف إنِّي بعمل معاك واجب.
قهقهَ كريم على مشاكستهِ ثمَّ قال:
-هنردَّها لك إن شاء الله..
بالمشفى عند آدم..
خرج من المشرحة التي تُحجزُ بها جثةً ما، متَّجهًا إلى غرفةِ مكتبه،توقَّف بعدما وجد إسحاق يجلسُ بمكتبهِ يتناولُ قهوته..ألقى تحيَّةَ المساءِ ودلفَ يحيِّيه:
-أهلًا بحضرتك إسحاق باشا.
أهلًا يادكتور..عامل إيه؟..
-كويس الحمدُ لله..صمتًا دام بالغرفة للحظاتٍ إلى أن قطعهُ إسحاق:
-عدِّيت على زين باشا، عرفت أنُّه سافر من يومين إنجلترا مع أخوك مش كدا؟..
أومأ له ثمَّ قال:
-أيوة راح لعمِّتو، فيه حاجة ولَّا إيه؟..
استدارَ بكاملِ جسده بعدما وضعَ فنجانه:
-إنتَ شوفت عمِّتك رانيا لمَّا اندفنت؟..
قطب جبينهِ وكأنَّه لم يعي معنى حديثه، فتساءل:
-مش فاهم حضرتك؟..
-لا فاهم يادكتور، عمِّتك ماتت مقتولة يعني لازم تشريح جثَّة، وطبعًا إنتَ الأولى بكدا..
تراجعَ آدم بعدما فهمَ حديثه، ثمَّ نظر إليه واستطرد:
-لا ياباشا..عمِّتي ماتت في السويس، واتحوِّلت للمشرحة هناك، وأنا مشفتش جثتها، ومقدرشِ أتجاهل تعب زمايلي.
-يعني عايز تفهِّمني مرحتش هناك ولا حضرت الدفنة كمان؟..
لأنِّنا معرفناش إلَّا بعد ماعمُّو راجح دفنها.
هنا وقف إسحاق يغلقُ حلَّتهِ ثمَّ أشار إليهِ بسبَّباته:
-بكرة هيكون طلب فتح المقبرة عندك، وعايز تشريح الجثَّة يادكتور..قالها وتحرَّكَ دون إضافةِ المزيد..
عند إيلين تجلسُ أمامَ التلفاز بذهنٍ شارد، دلفت مريم تحدُّثها ولكنَّها لم تنتبه إليها..جلست بجوارها تمسِّدُ على خصلاتها حتى انتبهت إليها:
-مالك حبيبتي بقالي ساعة بكلِّمك وإنتي مش هنا، الِّلي واخد عقلك..
أطبقت على جفنيها وتراجعت على الأريكةِ متمدِّدةً تضعُ نفسها كالجنين:
-مفيش، تعبانة من الحمل والمذاكرة..
زحفت مريم إلى منامها:
-بقالك فترة متغيَّرة، إنتي متخانقة مع آدم؟..
هزَّت رأسها بالنفي ثمَّ أردفت:
-مفيش غير إنِّي تعبانة..قاطعهم دخولُ آدم ملقيًا السلام ..توقَّفت مريم بعدما ردَّت عليه، فنظر إلى نومِ إيلين مقتربًا منها:
-حبيبتي نايمة كدا ليه، تعبانة؟..
-لا مرهقة بس، ربتت مريم على كتفها وقالت:
-هنزل أعملِّك شوربة خضار، وشِّك دبلان خالص، متنسيش إنِّك حامل لازم تتغذِّي..
"ماليش نفس..."
همست بها إيلين بنبرةٍ واهنة، تتكئُ على الأريكةِ وكأنَّ الأثقالَ تجرُّ قلبها لا جسدها فقط..أشار آدم نحوها برقَّة:
– لو مش هتتعبي يامريم..ياريت طبق شوربة سُخن.
أجابت مريم بحنانٍ سريعٍ وهي تهمُّ بالمغادرة:
– عيوني لليلي الحلوة.
وما إن اختفت من أمامهم، حتى اقتربَ آدم وجلسَ بجانبها، يمرِّرُ أصابعهِ على خصلاتِ شعرها المبعثرةِ بحنو، ثمَّ همس:
– حبيبتي..إنتي كويسة؟
هزَّت رأسها بخفوت، مغلقةً عينيها وكأنَّها تهربُ من عيونه، تمتمت:
– أيوة حبيبي...الأكل جاهز، أخلِّيهم يحضَّروه..معلش، الأيام دي بتاكل من إيد الخدم...
انحنى يقبِّلُ وجنتها، يطبعُ قبلةً رقيقةً تحملُ كلَّ الحنان، ثمَّ همس:
– ولا يهمِّك ياروحي...هقوم آخد شاور، وأخلِّيهم يجهِّزوا السفرة، يمكن نفسك تتفتح تاكلي معايا، لحدِّ مامريم ترجع بالشوربة.
لكنَّها ردَّت وعيناها لا تستطيعُ فتحها:
– ماليش نفس واللهِ ياآدم...
توقَّف، وحدَّق بها ثمَّ قال بحزم:
– خمس دقايق وراجع.
استمعت إلى صوتِ هاتفها، فجذبتهُ تستمعُ إلى صوتِ رؤى:
– أيوة يارؤى، عملتي إيه؟
أجابتها :
– محجوز في المستشفى ياإيلين. عرفنا إنُّه عمل استئصال للكلى... أرسلان ضربه بعد الِّلي حصل لإلياس...
شهقت، ثمَّ سألت بخفوتٍ مخنوق:
– أنهي مستشفى؟
خرجت رؤى إلى الحديقة، ووقفت أمام المسبحِ تُكملُ بصوتٍ خافت:
– بس لو أعرف...
ليه عايزة تعرفي مكانه دلوقتي؟
– بعدين يارؤى...مش قادرة أشرح، مش قادرة أناهد.
– تمام، هبعتلك اسمِ المستشفى، بس أوعي تجيبي سيرتي..كفاية قفشة إلياس معايا.
– تمام...
أغلقت إيلين الهاتف، تترقَّبُ الرسالة، وماإن وصلتها حتى نهضت مسرعة، فتحت خزانتها، ارتدت ملابسها سريعًا..مع خروجِ آدم من الحمَّامِ ليتجمَّدَ مكانه، ونظراتهِ تتبعُ ارتباكها واستعدادها الواضحِ للمغادرة.
فسألها، بصوتٍ يحملُ قلقًا:
– إنتي خارجة...؟
كانت تلفُّ حجابها سريعًا، وهزَّت رأسها:
– آه..افتكرت صاحبتي عملت حادثة الصبح..البنات كلُّهم راحوا، وأنا لأ... هشوفها وأرجعلك بسرعة.
اقتربت، وطبعت قبلةً خاطفةً على وجنته، وهرولت خارجًا، تجذبُ حقيبتها في يدها وذهولُ آدم جعلهُ يقفُ متصنِّمًا
في منزلِ أرسلان...بعد انتهاء الحفل
دلفَ إلى الداخلِ حاملًا طفلهِ بين ذراعيه، خطواتهِ هادئةً كأنَّها تخشى إيقاظَ قلبهِ الصغير، وضعهُ في مهدهِ برقَّة، قبَّله على جبينه، ومرَّرَ أناملهِ فوق رأسهِ كمن يباركهُ بصمتِ حبٍّ أبوي.
عند خروجهِ من الغرفة، التفتَ فوجد مربيَّةَ الطفلِ تقفُ على الباب، نظرَ إليها مشيرًا:
– شغلك هنا علشانه هوَّ وبس..مش عايزك تبعدي عينك عنُّه.
أومأت بطاعة، فانصرفَ متَّجهاً نحو شرفةٍ بالطابقِ العلوي، حيث جلست هي، زوجته، شاردةً بعينيها نحو الفراغ، وكأنَّها تسكنُ في مكانٍ لا يُرى.
اقترب منها بصمت، جلسَ خلفها، واحتواها بذراعيه، يجذبُ جسدها النحيلِ إلى صدره، قبَّل وجنتها، وهمس:
– آسف..عارف إنِّي كنت قاسي معاكي، بس واللهِ مضغوط…إسحاق ضاغطني، وعايزك معايا مش ضدي...
شهقةٌ مكتومةٌ تمزَّقت من صدرها، ثمَّ تهاوت، تبكي بصوتٍ مرتفعٍ كمن انفجرَ بعد صمتٍ طويل، دفنت رأسها بصدره، ضمَّها بقوَّة، وسحبها إلى الأريكة، أراحها في أحضانه، وقام بفكَّ حجابها ببطء، يمرِّرُ أصابعه على شعرها، يتركها تبكي حتى هدأت.
ثمَّ مال، ورفعَ وجهها، تقابلت عيناها بعينيه، بدأ العتابُ الصامت، الحديثُ الذي لا يحتاج كلمات، فقط نظراتٌ محمَّلةٌ بكلِّ مالم يُقال.
اقترب، وقبَّل دموعها، يعتذرُ بقبلاتٍ هامسة، بنبرتهِ الرجوليةِ الخافتة، همس:
– بحبِّك..لدرجةِ الموت.
دفنت رأسها بعنقه، تتنشَّقُ رائحتهِ الرجوليةِ بشوقِ العاشقةِ التي عادت لوطنها، دافئة، هادئة، حتى لامست أنفاسها بشرته، فأخرجها من أحضانهِ بقبلةٍ عاشقة، سرقت أنفاسهما وربطت أرواحهما بوثاقِ العشقِ الأبدي...
بمنزلِ إلياس..
خرجت من المرحاض تجفِّفُ خصلاتها، بينما كان يقفُ في شرفة غرفتهما يتحدَّثُ عبر الهاتف:
– تمام، بكرة هكون عند حضرتك.. وشكرًا لحضرتك ياراكان باشا...
قالها وأغلقَ الهاتف، ثم توقَّف يدخِّنُ بهدوء، وعيناهُ تتجوَّلُ في الحديقةِ بشرود.
وقعت نظراتهِ على رؤى، التي كانت تداعبُ يوسف مع مربيِّتهِ في الأسفل. ارتسمت ابتسامةٌ دافئةٌ على شفتيهِ وهو يرى صغيرهِ يلطمها بيدهِ الصغيرةِ ويضحكُ ضحكاتهِ الطفولية العذبة، بينما تجاوبهُ بحركاتٍ مرحةٍ زادت من ضحكهما معًا.
ألقى سيجارتهِ واستدارَ للداخل..وما إن وقعت عيناهُ على ملكةِ قلبهِ حتى توقَّف الزمان..كانت تقفُ أمام المرآة، تجفِّفُ خصلاتها بالمجفِّفِ الكهربائي، وكتفاها العاريانِ ترتجفُ من أثرِ الماء، ومن حولِ جسدها المنشفة تحاوطُ ضعفًا زادهُ الوجعُ جمالًا.
اقتربَ منها بخطواتٍ هادئة، يرسمها أوَّلًا في قلبهِ ثمَّ يلتقطها ببصره، حتى وقف خلفها تمامًا، ومدَّ يده يسحبُ الجهازَ من كفِّها برقَّة..
ارتجف جسدها حين شعرت بأنفاسهِ تلفحُ عنقها، وعيناهُ مغمضتانِ يدفنُ رأسهِ بين خصلاتها الندية، يهمسُ بصوتهِ الذي يذيبُ الحواس:
– بندم على كلِّ لحظة كنتي فيها بعيد عن حضني...
استدارت إليه، حتى التقت العيون، فحكت نبضاتها مالا تسعهُ الكلمات:
– أنا أموت من غيرك...
وضع أناملهِ على شفتيها يمنعها من الكلام، وقال بنبرةٍ تخترقُ القلب:
– بعد الشرِّ عليكي...أنا الِّلي خلاص، حياتي بقت كلمة واحدة: ميرال.
لمست وجنتيهِ بأناملها المرتعشة من فيضِ الشعور:
– أنا ربِّنا بيحبِّني أوي ياإلياس...
حياتي عاملة زيِّ السحر، الِّلي يفكَّر فيها يقول دي قصَّة خيالية...
من أوِّل لحظة حبيتَك فيها، لمَّا عرفت حياتي وأصلي، الِّلي حتى لو حدِّ قال يتخيَّل، مستحيل يتوقَّع...
هقولُّهم حاجات كتير، بس إنِّي أطلع بنت عمَّك...وإن أمِّي مش أمِّي..دا اللي مستحيل أصدَّقه...
قاطعها بوضعِ إبهامهِ على شفتيها في حنوٍّ صامت:
– إنتي مش بنتِ عمِّي...
إنتي بنتِ قلبي...
الِّلي بيوجعني أوي لمَّا أشوف دموعها...
اقتربَ منها أكثر، ودفنَ رأسهِ في صدرها كطفلٍ وجدَ ملاذه:
– عايز أبعد عن كلِّ حاجة...
مكان مفيهوش غير إنتي وبس...
عايز أخطفك ونبعد، نسيب الدنيا ورا ضهرنا...
حاوطت خصرهِ بذراعيها، وقلبهِ ينبضُ تحت أناملها:
– وأنا موافقة تخطفني...
حتى لو هنكون تحت الأرض...
المهم أكون معاك..وفي حضنك...
-لدرجة دي بتثقي فيا، ومش خايفة مني ..
تاهت في عينيه تنطق بحروف مغلفة بالعشق ونبض القلب:
-أنا بثق في حبيبي، اللي مهما حاول يبين للناس قساوته، عارفة هنا فيه نبض ضعيف، بيحس، بيفرح ، بيزعل، مهما حاول يعمل حروب مع نفسه
مررت أناملها على وجهه بالكامل:
-لو هتأذي منك بس أكون جوا حضنك أنا موافقة، بس في نفس الوقت متأكدة انك مستحيل تأذيني، لأن عايش ليا وبس..رفعت كفيه ووضعت موضع قلبها
-تفتكر حد يأذي قلبه ...
هنا...فقد كلَّ مالهُ علاقة بالتوقُّفِ عن نثرِ عشقهِ الطاغي، بكلِّ مكانٍ تمرُّ به شفتيه...
ليسحبها إلى عالمٍ لا تسكنهُ إلَّا سيِّدةَ قلبه، وسيِّدةَ نساءِ الكونِ في عينيه...مع كلماته التي جعلتها قديسة لعشقه الضاري
بعد أسبوعٍ وخاصَّةً في إنجلترا..
خرج من الشركةِ بعدما تمَّ التوقيع على صفقتهِ الرابحة، خرج معه الرجلِ صاحبَ الشركةِ متَّجهًا إلى أحد المطاعمِ المشهورةِ بتلك البلدة، دلف بكلِّ فخرٍ واعتزازٍ لايتملَّكهُ غرور مثل ما تتملَّكهُ الثقة، جلس لبعضِ الدقائقِ يتحدَّثُ مع الرجل في بعض أعماله، إلى أن توقَّفَ عن الحديثِ وهو يراها كالجنيَّةِ التي خرجت من البحر، تتحرَّكُ بجوارِ أحدهم وابتسامتها تنيرُ وجهها، هبَّ من مكانهِ سريعًا واتَّجهَ إلى المكانِ الذي تتَّجهُ إليه..
بالقاهرة
خرج من عمله متجها إلى المكان الذي يحجز به رانيا، مع تحركات راجح خلفه يراقبه، يهمس لنفسه
-استحملتك كتير، وجيت على نفسي، علشان ابوك، بس اللي يحاول يموتني افعصه يابن جمال
وصل إلياس إلى حي الألفي ..كان بانتظاره ياسين على بوابة الحي، ترجل من سيارته وتحرك بجوار الحدائق التي تحاوط منازلهم إلى أن توقف مع حديث ياسين
-راكان باشا في الطريق..اسف مقدرش اسلمها لحد مايوصل بالسلامة
لوى فمه بابتسامة ساخرة فقال:
-راكان باشا ...اممم ، طيب بانتظاره
قطب ياسين جبينه من حديثه المبطن
-مش فاهم دا تنمر ولا ..قاطعه إلياس رافعا كفيه
-لا سمح الله..بس بيعجبني عقله، يعني لسة قافل من دقايق معاه، وبعت اللوكيشن، مستغرب الرد
قطع حديثهما وصول جواد
-اهلا يابني ..واقف كدا ليه ياسين ..مش بدخل ضيفك لسه
حمحم ياسين، قائلا بنبرة ثابتة حتى لا يكشف أمرهم والده
-لا يابابا، دا صديق حضرة المستشار راكان البنداري، هو جاي هنا علشان ..قاطعهم وصول راكان ينزل من سيارته متوجها إليهما
بمنزل ارسلان
خرج بسيارته متجهًا إلى النادي الخاص به، إلا أن قاطعه أحدهم بسيارة تعركل طريقه، ترجل من سيارته بحذر، ليجد سلاحًا يوضع برأسه..ابتسم بتهكم
-انت عبيط يابني، ايه شغل الافلام الابيض والاسود دي
قطب الرجل جبينه
-تقصد ايه امشي من غير ولا كلمة..لحظة واحدة امال بجسده ليخطف سلاحًا ابيض صغير الحجم من حذائه، وقام بذبحه دون أن يرف له جفن، مع وصول اسحاق بإطلاق طلقات نارية للآخرين ليهربوا، اتجه إلى ارسلان سريعًا، نفض كفيه يمسحها من الدماء
-دبحته زي الفرخة، الله يخربيتك
-ماهو اللي اهبل، بقاله ساعتين واقف قدام بيتي بيراقبني، عبيط،
لكمه اسحاق بخفة ضاحكًا
-وحياة ربنا هتجلطني
-انت لسة ماتجلتطش ..توقف مرة واحدة
-طبعا لو سألتك عرفت ازاي هتقولي شغل، فأنا مش هسأل
-شاطر..اركب عربيتك وحصلني
-لا مش ماشي معاك تاني، وانا من طريق وانت من طريق، مش انت عدوي دلوقتي
-دماغي وجعاني، اركب عربيتك وحصلني، دا لو عايز تنقذ اخوك اللي مخبي رانيا الميتة في حي الألفي مع راكان البنداري..اكمل ولا
-يعني ايه
-يعني تركب ولسانك جوا بوقك، أما التاني صبركوا عليا، تموتوا الست وهي عائشة
-ست ...قالها ارسلان ساخرًا
-طب اركب يااسحاق ..انا جاي على بالي اشوف الست ..نظر إلى الجثة
-هتسيبه كدا ..
صعد إلى سيارته وقال
-جايين في الطريق، واركب ولم نفسك وبلاش تعاندني، اسمك دلوقتي اول اسم في كشف المرحومين
-طيب ماتنساش تزرني بقرص يااسحاق..قالها وهو يصعد سيارته، ثم رفع هاتفه وقام بإرسال رسالة إلى إلياس ..ثم قاد السيارة وتحرك خلف اسحاق
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
"على حافة العشق والهاوية..."
كلّ الحكايات تبدأ بنظرة... ثمّ تنقلب قدرًا لا يُقاوم.
نركض نحو الحب كالعطشى في صحراء الأمنيات، لا نبالي بحدود، ولا نخشى السقوط.
لكن الحقيقة المؤلمة؟
أنّ الحب لا يكون دائمًا خلاصًا... أحيانًا يكون الهاوية التي نُلقى فيها بأيدي من أحببناهم.
نحاول الهروب، فنعود مُنهكين إلى حنينهم... إلى كلمةٍ عالقة، إلى ظلّ عناق لم يكتمل.
نعود ونحن نعلم... أن البقاء معهم قد يُوجع، والبعد عنهم قد يُميت.
وفي هذا الفصل، تتراقص القلوب بين شغفٍ يحتضر، ووجعٍ يشتعل...
فاستعدّوا، لأنّ العشق هنا لا يُشبه القصائد... بل يشبه الحرب...
قبل ساعةٍ من وصول إلياس إلى حي الألفي
غادر مكتبهِ وأجرى اتصالًا براكان البنداري.
– إزيِّ حضرتك يامعالي المستشار؟
جاءهُ صوتُ راكان من الطرفِ الآخر، هادئًا كعادته:
– كويس الحمدُ لله...قدَّامي نصِّ ساعة ونقدر نتقابل.
نظر الياس إلى ساعته، ثمَّ تنهَّدَ قائلاً:
– لازم أكون في السويس بعد ساعتين، آسف جدًا، ممكن تبعتلي عنوان المكان؟ أنا هتصرَّف.
ساد الصمتُ للحظات، ثمَّ قال راكان بنبرةٍ تحملُ شيئًا من الاستنكار:
– ليه مستعجل؟ قولتلك إنَّها في أمان.
– ليَّا شغل معاها، ياباشا.
– أوعى تكون ناوي تموِّتها؟
انعقد حاجباهُ وردَّ بنبرةٍ حاسمة:
– أومال أنقذتها ليه؟ حضرتك معروف عنَّك الذكاء.
– تمام ياإلياس، هبعتلك اللوكيشن، والمسؤول عنها هيكون مستنيك.
– شكرًا ياسيادة المستشار.
قالها وهو يُغلقُ الهاتف.
لم تمر لحظاتٍ حتى وصلهُ العنوان برسالةٍ قصيرة..
صعدَ إلى سيارتهِ وانطلقَ نحو الجهةِ المقصودة، غير مدركٍ أنَّ راجح يُراقبه من بعيد...
وصل بعد مدةٍ إلى مدخلِ حيِّ الألفي، وأجرى اتصالًا بالرقمِ الذي زوَّدهُ به راكان.
لم تمر دقائق حتى بلغ وجهته...ترجَّل من سيارته ومازال يتحدَّثُ عبر الهاتف، متَّجهًا نحو ياسين الذي كان ينتظره...وصل إليهِ ملقيًا السلام وعرَّفَ عن نفسه:
-إلياس السيوفي.
أومأ ياسين بترحاب، وابتسامةٌ هادئةٌ ترتسمُ على زاويةِ شفتيه:
– أهلًا بيك في حيِّ الألفي.
ردَّ الآخر بنبرةٍ مختصرة، وعيناهُ تتفحَّصُ المكانَ بيقظة:
– متشكر...فين المدام الِّلي تحت حمايتك؟
نظر ياسين في ساعتهِ سريعًا، ثمَّ رفع عينيهِ نحوهُ بنبرةِ اعتذارٍ مهذَّبة قائلًا:
- آسف، هأخَّرك..حضرةِ المستشار جاي في الطريق.
ثمَّ أشار له بيدهِ يدعوهُ للتقدُّم:
- اتفضل اشرب حاجة، ماينفعشِ تدخل حيِّ الألفي ومانضيِّفكش.
هزَّ رأسهِ رفضًا، وأجابهُ بنبرةٍ هادئة:
– آسف، مشغول.
جال ببصرهِ في المكان بحذر، وتحرَّك بخطواتٍ بطيئةٍ نحو ياسين يشيرُ على المكان:
– هيَّ بعيد عن هنا؟
لكن قبل أن يُجيبَ ياسين، توقَّفت سيارة بجانبهم، وترجَّل منها جواد بخطا واثقة، وعيناهُ تتنقلُ بينهما :
– ياسين ليه واقف كده؟ ما دخَّلتش ضيفك ليه؟
تغضَّنَ جبينُ إلياس، فبادر ياسين بالإشارةِ إلى جواد قائلاً بهدوءٍ حذر:
– اللواء جواد الألفي..والدي.
بسط إلياس كفِّهِ بأدب، وصوتهِ منخفضًا لكنَّه واثق:
– أهلًا بحضرتك يافندم.
تاهت نظراتُ جواد بينهما للحظة، ثمَّ أومأ برأسه :
– أهلًا يابني.
لاحظ ياسين نظراتِ والدهِ الصامتة، فسارعَ بالشرح:
– المقدَّم إلياس السيوفي يابابا، ضابط في الأمنِ الوطني.
هزَّ جواد رأسهِ باحترامٍ ظاهر، ثمَّ قال بنبرةِ ترحيبٍ دافئةٍ تُخفي حذره:
– أهلًا يابني...نوَّرت حيِّ الألفي.
لكن سرعان مااتَّجهَ بنظرهِ نحو ياسين، نبرةُ استغرابٍ تسلَّلت إلى صوته:
-خير حبيبي فيه حاجة؟!..
-لا يابابا، دا ضيف سيادةِ المستشار راكان البنداري.
– راكان البنداري؟
تمتمَ الاسم بغرابة، ثمَّ تساءل:
– وليه في حيِّ الألفي؟ بينكم شغل يعني؟
وقبل أن يجيبه، توقَّفت سيارةُ راكان أمامهم، ترجَّل منها بخطا واثقة ونظرةٍ مباشرةٍ نحو جواد:
– إزيِّ حضرتك ياسيادة اللواء؟..
ردَّ عليه جواد بابتسامةٍ خفيفة:
– إزيَّك ياراكان؟
– الحمدُ لله...يارب تكون بخير..وآسف لإزعاج معاليك، عندي شغل مع حضرةِ الظابط ياسين، لو مش هنزعج حضرتك.
قطبَ جواد حاجبيهِ قليلًا، ثمَّ أشارَ بيده:
– طيب ماتدخلوا يابني جوَّا، ينفع في الشارع كده؟
هزَّ راكان رأسهِ نافيًا، وأردفَ بنبرةٍ تشي بجديَّةٍ لا تقبلُ الجدال:
– معلش ياباشا، الموضوع مهم...ما ينفعشِ داخل الأبواب.
أومأ جواد بتفهُّمٍ بعد لحظةِ صمتٍ قصيرةٍ وقال:
– هسيبكم تشوفوا شغلكم...لو احتجتوا حاجة، ياسين معاكم.
ثمَّ نظر إلى ابنه، وأردفَ بنبرةٍ تحمل أمرًا مبطَّنًا:
– هبعت لكم قهوة...بس فين؟ أكيد مش في الشارع..
حمحم ياسين يشيرُ إلى مشتلِ الزهور:
-إحنا هنروح الحديقة الغربية يابابا..
لحظةُ صمتٍ ونظراتٍ من جواد تخترقُ ياسين ثمَّ أومأ بتنهيدةٍ قائلًا:
-ماشي يابابا..ثمَّ اتَّجه إلى راكان:
-الحيّ تحتِ أمرك ياراكان، بس متنساش الحيّ لُه باب..كان لازم تلجأ للبابِ الرئيسي، الفرعي ساعات بيتوَّه.
فهم راكان مايشيرُ إليه من تراشقِ الكلمات فأومأ معتذرًا:
-لسة بنتعلِّم منَّك ياجواد باشا..
انسحب جواد بهدوءٍ من المكان ونظراتُ إلياس عليه، حتى اختفى من أمامه، استدار على كلماتِ راكان لياسين:
-فين الأمانة يابني؟..أخدنا كلمتين من أبوك عظمة.
ضحكَ ياسين يشيرُ إليه بالتحرُّك مع رنينِ هاتف إلياس، رفعهُ ليجدَ رسالةً من أرسلان:
-إلياس، إسحاق عرف رانيا عايشة، وجايين لحيِّ الألفي..اتصرَّف، رانيا جزء من المافيا لو وصلَّها قبل ماتخلص مش هتعرف تعمل حاجة..
توقَّف للحظة ثمَّ حمحمَ وقال:
-آسف بس عاوز أفهَّم حضرتك حاجة ويارب تتصرَّف على المنظور دا.
-الستِّ دي في إيدها كتير أوَّلهم دم أبويا، وعصابات مموِّلة للمنظَّمات، ومش عايز مخلوق يوصلَّها..
ضيَّق راكان عينيهِ مستغربًا حديثه..تابع مستطردًا:
-إسحاق الجارحي عرف رانيا الشافعي عايشة؟..
-يعني؟..
-جاي في الطريق، هوَّ عمل تشريح لجثِّة رانيا من كام يوم ، ودوَّر، هوَّ مش متأكِّد، بس طبعًا أكيد ربط الموضوع بالتليفون..
فهمَ راكان مايقوله، ثمَّ أخذَ نفسًا يشيرُ إلى ياسين:
-ياسين هتاخد الستِّ دي عندي في بيت المزرعة، يومين بالظبط وهاخدها، ثمَّ التفتَ إلى إلياس:
-إسحاق الجارحي مخابرات، ودا معناه أنُّه مش هيسكت، الستِّ مطلوبة أكيد عندهم، دلوقتي أنا بينك وبينهم..
-بعد ماآخد حقِّي وأظن حضرتك وعدتني.
أشار لياسين:
-اتحرَّك ياسين، حاول تبعد عن كلِّ حد يقرَّب منكم، متأكِّد الجارحي بدل وصل لهنا فهم اللعبة..
-هوَّ مش متأكد..قالها إلياس:
-وإنتَ بقى هتتاكِّد إزاي، أنا وعدتك وهفضل معاك، بس الِّلي يخلِّ بالوعد صدَّقني ولا كأنِّي شوفتك..
اقترب إلياس وعيناهُ تفترسُ ملامحَ راكان المتردِّدة:
-أوصل لقاتل أبويا، آخد حقِّي من الِّلي عيِّشوني أنا وأخويا في كذبة، حضرتك وعدت، وأنا بوعدك تاني طول ماهوَّ تحت القانون مش هقرَّب منُّه، متخلِّنيش أندم إنِّي لجأت لحضرتك.
رفعَ هاتفه، وصوتهِ ينضحُ قلقًا:
– إنتَ فين؟
– مروَّح، في حاجة؟
– أنا في حيِّ الألفي..عايزك ضروري، في أسرع وقت...
أجابهُ جاسر وهو يدلفُ بسيارتهِ الحي، وردَّ بنبرةٍ ثابتة:
– أنا قدَّامك فعلاً، وفيه حد واقف معاك..بس ضهره ليَّا، مش عارفه.
استدار راكان، ونظرَ إلى الذي دخل بسيارتهِ متَّجهًا نحو البوَّابةِ الرئيسية، ثمَّ أوقفها وترجَّل منها بخطواتٍ واثقة، يقتربُ منهما..ومع اقترابه، انكشفت ملامحُ إلياس السيوفي، الذي بادرَ بالتحيَّة، تزامنًا مع وصولِ إسحاق، يتلفَّتُ حوله، وخلفهِ أرسلان...
قال راكان، وهو يشيرُ بإيماءةٍ إلى جاسر:
– فيه شركة أمن، علشان حضرةِ الظابط يأمِّن بيته بعد اللي حصل...
قطع كلماتهِ وصولُ إسحاق، الذي حيَّا الجميع بنظرةٍ شاملة، ثمَّ ثبَّت عينيهِ على راكان:
– حضرة المستشار...
ابتسمَ راكان، وبسط يدهِ مُصافحًا:
– أهلًا بيك ياباشا، خير إن شاء الله؟
نظر إسحاق إلى إلياس نظرةً تحملُ مابين اللومِ والعتاب، ثمَّ قال:
– مفيش حاجة..أرسلان اتَّصل وقال إنِّ إلياس هنا، وكان قلقان عليه.
قالها مع وصولِ أرسلان، الذي بدا متردِّدًا..لم يعلِّق إلياس، ولكنَّهُ التزم الصمت، فيما تحدَّث راكان بخبرتهِ الثعلبية وتساءل:
– خايف عليه؟ هوَّ قالِّلي أعرَّفه على ظابط شاطر يساعده يلاقي شركة أمن كويسة...ومصبرشِ لبكرة!..حتى أنا استأذنت من شغلي نصِّ ساعة، ومش فاهم ليه أرسلان قال كده!..
تقدَّم أرسلان خطوة، ثمَّ قال بأسفٍ ظاهر:
– آسف ياإلياس...قلقت عليك من ساعة الحادثة، خاصَّةً إنَّك مابتقوليش حاجة...تتبَّعت العربية واتأكدت.
أدار إلياس وجههِ جانبًا، وحدَّق في نقطةٍ بعيدة، ثمَّ قال بنبرةٍ حادَّة:
– أنا مش صغير ولا محتاج راعي، يا إسحاق باشا...وأعرف أدافع عن نفسي كويس.
قاطعهم، وصولُ أحدِ الأفرادِ الذي وقف أمامهم بإجلال:
– جاسر باشا، تحتِ أمرك...شركة الأمن أكِّدت علينا، خلال ساعتين هيكون عندنا أقوى العناصر المدرَّبة.
تفحَّصَ إسحاق الوجوهَ بعينيه، ثمَّ أومأ برأسه، متحدِّثًا بحدَّةٍ خفيفة:
– شركة أمن...وحضرتك بتتوسَّط له... هممم بها..
ارتدى إلياس نظارتهِ الشمسية، وقال بهدوء:
– نتواصل ياجاسر باشا...وشكرًا على تعبك.
ثمَّ التفتَ إلى راكان بابتسامةِ شكر:
– مش عارف أشكر حضرتك إزاي.
ضحكَ راكان، وقال بمرحٍ مشوبٍ بالجدية:
– النهاردة عندي، ياإلياس..وبكرة عندك، خُد بالك من نفسك.
تحرَّكَ إلياس بهدوء، وتوقَّف أمام إسحاق مباشرة، وحدَّقَ فيه قائلًا:
– الموضوع مش مستاهل كلِّ القلق ده معاليك، بلاش تحسِّسني إنِّي أرسلان...قدَّامك إلياس السيوفي.. اتعامل معايا بعقليِّتي، مش بعقلية "المخابراتي"، لأنَّك كده هتتعب معايا.
ثمَّ أضاف بابتسامةٍ خفيفة:
– ونسيت أقولَّك...شكرًا لاهتمامك وخوفك عليَّ.
ارتفعت أنفاسُ إسحاق في صدره، والغضب يتكثَّفُ في ملامحه، وتحوَّلت عيناهُ في المكانِ كأنَّما يبحثُ عن شيء، ثمَّ التفتَ إلى أرسلان، الذي بدا وكأنَّه لم يكن موجودًا من الأصل.
قاطعهم جاسر بلطافةٍ وذكاء :
– اتفضل جوه ياباشا...مينفعشِ حضرتك تكون في حيِّ الألفي وما نعملشِ معاك واجب.
عندي شغل..مرَّة تانية قالها وعيناهُ تتجوَّلُ بالمكان، إلى أن وصل إلى سيارته، استقلَّها وتحرَّك بهدوء، انسحبَ أرسلان معتذرًا وهو يومئُ برأسه، وتحرَّك خلفه، رفع هاتفه:
-إلياس عملت إيه؟..
-راجح ماشي ورايا، بيراقبني، وإسحاق كان هيبوَّظ الدنيا، عرفت من بابا إن رانيا مطلوبة من المخابرات، معرفشِ مهبِّبة ايه، إسحاق طلب من آدم يعمل تحليل للجثَّة المدفونة، هوَّ شك تكون معانا، علشان كدا بيدوَّر، لو متأكد مكنشِ سكت، بقاله فترة بيراقب تليفوني متأكِّد من كدا.
-كويس إنَّك غيَّرت الخط وعرَّفتني، عمُّو وعارفه شغله فوق أيِّ حاجة..المهم رانيا فين؟..
سحب نفسًا ينظرُ من النافذة مرَّة، وإلى الطريقِ مرَّةً أخرى ثمَّ ردَّ عليه:
-راكان وعدني هيحافظ عليها لحدِّ مانمسك راجح، بس أنا عايز أدلة لقتلِ أبوك، ماليش دعوة بشغله المشبوه، لأنُّه كدا كدا وقع، المهم أوصل أبوك مات ليه، ومين اللي قتله؟..
طيب اقفل دلوقتي إسحاق وقف بالعربية وشكله هيتجنِّن..
-تمام حاول ماتخلهوش يوصل لحاجة.
قالها وأغلقَ الهاتفَ يزفرُ بقوَّة...بينما توقَّف أرسلان بعدما وجدهُ واقفًا في منتصفِ الطريق..أخرج رأسه:
-خير ياإسحاقو، نسيت حاجة؟..
اقتربَ منه بخطواتٍ نارية، ثمَّ فتحَ باب السيارةِ بقوَّةٍ يرمقهُ بنظراتٍ جحيمية:
-من إمتى وإنتَ كدا، إمتى قولت لك على حاجة وروحت طلَّعتها برَّة؟!..
زوى مابين حاجبيهِ وردَّ بجهلٍ تصنَّعهُ بخبرة:
-مش فاهم تقصد إيه؟..
-أرسلان...صاحَ بها غاضبًا..
-مالك بس ياإسحاقو؟ خد اشرب ميَّة ساقعة، روَّق دمَّك.
رمقهُ بنظرة، لو كانت النظراتُ تقتل لخرَّ صريعًا، ثمَّ استدارَ متَّجهًا نحو سيارته..لكن الآخر لم يسكت، أخرجَ رأسهِ من النافذة وقال:
– لو مش قادر تسوق، تعالَ أوصَّلك... إحنا أهل.
استدار إليه إسحاق بسرعة، وأشار إليه بسبَّابته، ونطق بنبرةٍ تحملُ تهديدًا صريحًا:
– لو شوفتك قدَّامي هَموِّ...تك، سمعتني؟
رفع زجاجةَ المياهِ وارتشفَ منها، ثمَّ نظر إليه شزَرًا:
– هوَّ مين الِّلي دايمًا بييجي في طريقِ التاني؟ الزهايمر عامل شغله معاك ياإسحاقو...خايف عليك واللهِ على فكرة، سمعت دينا بتقول إنُّكم مسافرين شرم الشيخ...حلو، يمكن تهدِّي أعصابك هناك.
هزَّ إسحاق رأسهِ عدَّةَ مرَّات، وعيناهُ تشتعلُ نارًا:
– طيب ياأرسلان...قول لأخوك، مش هسكت.
رفع حاجبهِ ورسم تهكُّمهِ قائلًا:
-ماتتكلِّم، حد قالَّك اسكت هوَّ الكلام بفلوس..
ثمَّ تابعَ حديثهِ مستطردًا:
ــ ولَّا أقولَّك حاجة...استقيل، آه والله، ريَّحنا واستقيل..
اقتربَ إسحاق ونيرانًا داخلية تلتهمُ كلَّ أعضاءه، فدفع البابَ بكلِّ ماأوتيَ من غضب، حتى كاد بابها أن يُهشَّم، ثمَّ اندفعَ نحو سيارته، قدماهُ تلتهمُ الأرضَ التهامًا، كالنيرانِ حين تحصدُ سنابلَ القمحِ بلا رحمة...وقادَ السيارة بسرعةٍ جنونية...بينما أرسلان الذي تابع تحرُّكاتهِ بعيونٍ حزينةٍ ثمَّ ألقى بجسدهِ داخل السيارة، زفرَ بحرارة، كأنَّ روحهِ نفسها تتآكلُ من فرطِ الألم..
مدَّ يدهِ المرتجفةِ ليمسحَ شعرهِ المشعث، وتنهَّد تنهيدةً طويلة...كانت أثقلُ من أن يحملها صدرهِ قائلًا:
ــ سامحني ياعمو...بس لازم نوصل للكلب الِّلي عمل فينا كده.
استندَ برأسهِ المنهكِ على المقعد، وأغمضَ جفنيهِ بقوَّة، يرجعُ بذاكرتهِ من بئرِ الطفولة، إلى يومه هذا، ذكرياتٍ خُطَّت بالسعادةِ إلى أن وصل ماقضى على كلِّ مابناه، هنا لا يشعرُ سوى بالوجع ..
تسلَّلت دمعةٌ متردِّدةٌ من طرفِ عينه، انجرفت إلى وجنتيهِ مع شهقةٍ خانقة، خرجت من حنجرتهِ كما تخرجُ الروحُ من جسدٍ يُحتضر.
أسند رأسهِ على مقودِ السيارة، وصاحت أنَّاتهِ المكبوتة، شهقاتهِ كانت كالسكاكينِ تنهشُ صدرهِ بلا رحمة..
بقبضتهِ المهتزَّة، لكمَ المقودَ بعنف، وصرخ صرخةً دوت في أرجاءِ السيارةِ المغلقة، شقَّت صدره، أنهكت حنجرته، وكأنَّ الصوتَ نفسهِ كان يستجدي خلاصًا...أو نهاية...
بسيارةِ إلياس..
تحرَّك متَّجهًا إلى منزله، استمعَ الى هاتفه:
-عرفت إنِّ راجح مراقبك؟..
نظر بالمرآةِ ورد:
-عرفت، الحمدُ لله أخدت بالي في ِآخر لحظة..
-بعتلك رسالة..
شوفتها بس بالصدفة، لولا اتصال أرسلان مكنتش أخدت بالي..
-عايز منَّك إيه؟..
-معرفشِ ياشريف، بس شكله عايز ينتقم، سيبك منُّه هعرف أوقَّفه، المهم عايزك تراقب بيت راكان من بعيد، إيَّاك حدّ يشك، متنساش بتتعامل مع وكيل نيابة..
-حاضر، وإنتَ خد بالك من نفسك، اللي طلبوا من راجح يقتلك هيحاولوا مرَّة تانية.
-معتقدش، بعد تدخُّل إسحاق وفرضِ سيطرته معتقدش..المهم نفِّذ اللي بقولَّك عليه..
قالها وأغلقَ الهاتف ينظرُ بالمرآة..
-طيب ياراجح..نلعب مع بعض، بتراقبني..
بمنزلِ المزرعةِ الخاصِّ براكان
دفعها بقوَّةٍ حتى سقطت على الأرض، تصرخُ به:
-هدفَّعكم تمن اللي حصل دا.،
انحنى بجسدهِ ورفعها من خصلاتها يجزُّ على أسنانه:
-لو سمعت نفس، هدفنك مكانك، مبقاش غير الخونة اللي يتكلِّموا، إنتي هنا زيك زيِّ رباط جزمتي، أعوزه لمَّا أحتاجه..لسانك جوَّا بوقِّك ياخاينة..
قالها ودفعها بقوةٍ ينفضُ كفَّيه، يطالعها مشمئزًّا
-مقرفة..تمتم بها وتحرَّك إلى الخارجِ مع رنينِ هاتفه..صمت للحظاتٍ يستعيدُ أنفاسه، ثمَّ رفع هاتفه:
-أيوة ياعاليا..
على الطرفِ الآخر أجابتهُ وهي تقفُ أمام المرآة:
-اتأخَّرت ياياسين، هنمشي إمتى؟..أنا جهزت..تحرَّك إلى سيارتهِ قائلًا:
-دقايق وأكون عندك..
عند يزن..
تحرَّك سريعًا خلف رحيل ولكنَّها كانت قد استقلَّت السيارةَ وتحرَّكت مغادرةً المكان دون أن تشعرَ بوجوده..توقَّف بأنفاسهِ المرتفعة، وصدرهِ الذي يعلو ويهبط، حتى قاطعهُ أحدُ الرجال:
-سيد يزن هل أنتَ بخير؟..
-نعم..قالها ومازالت نظراتهِ خلف السيارةِ التي اختفت بحبيبته..
بعد فترةٍ جلس بغرفتهِ بالفندق:
-حاول ياكريم تعرف هيَّ في إنجلترا ولَّا لأ..شوف الظابط اللي تعرفه..صمتَ للحظةٍ ثمَّ قال:
-أنا هتصرَّف..قاطعهُ كريم قائلًا:
-مايمكن تخيَّلتها يايزن، رحيل في سويسرا، إيه اللي يجبها انجلترا؟..
معرفش..قالها صارخا، بعدما توقَّف يدورُ حول نفسهِ بالغرفةِ وتابعَ كلماته:
-أنا متأكد إنَّها هيَّ، ضحكتها، أنا شوفتها ماشية مع واحد..هنا توقَّف متذكِّرًا هيئتها مع ذلك الرجلِ فتحدَّث سريعًا:
-اقفل ياكريم وأنا هتصرَّف...دقائقَ وهو يحاولُ أن يصلَ إلى إلياس الذي وصل إلى منزلهِ وترجَّل من سيارتهِ تاركًت هاتفهِ بالسيارة، متَّجهًا إلى زوجتهِ وطفلهِ الذي يجري بخطواتهِ الطفولية بالحديقة..رأى الطفلُ والده، فهرولَ إليهِ يصرخ :
"بابا..."
نطقها بصوتهِ الطفولي المتَّقدِ بالضحكات، فانحنى يحملهُ بين ذراعيه، وطبع قبلةً دافئةً على وجنتيه، وهمسَ بابتسامةٍ واسعة:
ــ حبيب بابا، عامل إيه؟
أشار الصغيرُ بيديهِ الصغيرتينِ نحو والدتهِ الجالسةِ وسطَ ألعابه، وقال بحماس:
ــ ماما...ماما العب كتييير.
ابتسمَ الأب، وأنزلهُ برفقٍ على الأرض، ونظراتهِ على زوجته، ثمَّ التفتَ إلى مربيتهِ قائلًا:
ــ جهِّزيه...هنخرج بعد ساعة.
أومأت المربية بخضوع:
ــ تحت أمرك ياباشا.
ثمَّ اقتربت من يوسف تناديه:
ــ يلَّا ياحبيبي ناخد شاور عشان نخرج مع بابي.
تحرَّك يوسف إليها، وقبل أن يغادر، التفتَ بنظرةٍ متعلِّقةٍ إلى والده، وكأنَّه يستأذنه.
ابتسمَ الأب بحنان، وأشار لهُ إلى الأعلى:
ــ يلا..حبيبي، اطلع مع النانا.
ظلَّ يتابعهُ بنظراتهِ المغمورةِ بالحب، حتى اختفى عن ناظريه.
اقترب من زوجتهِ التي كانت منشغلةً بمكالمةٍ هاتفيةٍ وسطَ فوضى الألعاب، انتظرها بصمت، ثمَّ ماإن أنهت حديثها، حتى جذبها إليه، واحتواها بين ذراعيه...هامسًا فوق رأسها برقَّة:
ــ مين مزعَّل ميرا خاصِّتي؟
دفنت رأسها في صدره، علَّها تلتمسُ الأمان، وتمتمت بنبرةٍ مكسورة:
ــ حبيبي الِّلي مزعَّلني... وعايزة أشكيه...أشكيه لمين؟
رفع رأسها بين كفَّيه، ومرَّر نظراتهِ المتفحِّصة فوق ملامحها، قبل أن يطبعَ قبلةً قريبةً من شفتيها، هامسًا ببحَّتهِ الرجولية:
ــ اشكي...أنا سامعك.
ابتسمت بمرارة، وهمست بعتابٍ محبَّب:
ــ هشكي لك منَّك.
ضمَّ رأسها إلى صدره، وطبعَ قبلةً حانيةً فوق جبينها، وقال بصوتٍ خفيض:
ــ اشكي حبيبك لحبيبك...بس مش مسموح تخرَّجي الِّلي بينا لأيِّ حد، حتى ماما.
رفعت رأسها قليلًا، نظراتها تذوبُ في عينيه، وقالت بنبرةٍ خافتة:
ــ طيب...عايزة أرجع شغلي، كفاية كده...يرضيك تعب السنين يضيع؟
حاوطَ وجهها بأناملهِ الدافئة، وكأنَّما يحميها من وجعِ العالم، وعيناهُ تحتضنُ عينيها بشغفٍ لا يخفُت:
ــ ميرال...لازم تاخدي فترة راحة كويسة...مش هتحمِّل أشوفك بتتعبي قدَّامي.
همست بخجل:
ــ بس أنا كويسة...
ضمَّها أكثر إليه، وسند ذقنهِ فوق رأسها، وتمتمَ بإصرار:
ــ وأنا شايف إنِّك محتاجة وقت ترتاحي...شهر، شهرين...لحدِّ ماأحس إنِّك فعلًا بخير، من غير ماتطلبي.
ابتعدت عنهُ قليلًا، تسرقُ نظراتها الحائرةِ صوبه، وهمست بعنادٍ مكسور:
ــ بس إنتَ نزلت شغلك رغم إنَّك كنت تعبان أكتر منِّي...
تعمَّقت بنظراتها إلى عينيه، تضغطُ على ألمها:
ــ بقالي تلات شهور، مسؤولياتي كلَّها بقت في إيد غيري...تعبي بيروح كده؟
زفر بأنفاسٍ ثقيلة، حاول أن يتحكَّمَ بغضبهِ كي لا يجرحها، فقال بصوتٍ أخف:
ــ مفيش تعب ضاع...ولا مكانك ممكن يتاخد.
هزَّت رأسها بمرارة:
ــ وتلات شهور هيستنوني إزاي؟
نهضَ من مجلسه، ينفضُ عن ثيابه بملامحَ مشدودة، وقال بصرامة:
ــ قومي اجهزي...هننزل السويس دلوقتي.
تراجعت خطوة، وعيناها تتَّسعُ بدهشة:
ــ السويس؟ دلوقتي؟ ليه؟
رمقها بنظرةٍ خاطفة، ثمَّ نظرَ إلى ساعته، وأردفَ بحزم:
ــ نصِّ ساعة وتكوني جاهزة...علشان ما نتأخرش.
تحرَّك مبتعدًا، لكنَّه توقَّفَ حين وصل إلى سمعهِ صوتها المنكسر:
ــ مش عايزة...ماليش نفس أخرج... كان نفسي تعرَّفني قبلها.
اقتربت منه، بخطواتِ دقَّاتِ قلبها المرتجف، حتى وقفت أمامه، رفعت كفَّيها المرتعشتينِ إلى صدره، تلامسُ أناملها موضعَ قلبه، كأنَّها تهمسُ له بصمت:
ــ نبضِ قلبك ملكي ياإلياس...حياتي بين إيديَّ، زي ما قلبك ليَّا..ومفيش كلام...بس زى ماقلبك معاك، حياتي بين إيدي..يارب تكون فاهم قصدي...
رفعت جسدها على أطرافِ أصابعها، وطبعَت قبلةً خفيفةً على وجنتهِ تهمسُ بحب:
ــ بحبَّك...قالتها
ثمَّ تحرَّكت مبتعدة، تصعدُ إلى الأعلى، تتركهُ خلفها يشعرُ بشجنهِ ممَّا قالته، وقلبهِ يتبعها دون أن ينطق...
اتَّجهَ ليصعدَ خلفها ولكنَّه تذكَّر هاتفه، أشار إلى رجلِ الأمن:
-هات تليفوني من العربية.
بالنادي الخاص لأرسلان:
ترجَّلَ من سيارته، فأسرعَ إليه أحدُ الرجال:
-أهلًا ياباشا..أشار إليه بالتحرُّك، ثمَّ قال:
عايز كلِّ المدربين قدَّامي في اجتماع..
أومأ برأسهِ وتحرَّك سريعًا..
بعد فترةٍ جلس أرسلان على طاولةِ الاجتماعات، وبدأ حديثهِ بتشجيعِ الجميعِ بالاهتمام وبذل أقصى ما لديهم من جهد، حتى يرتقي ناديهِ بالخبرةِ والشهرة، التفتَ إلى المسؤول عن الإعلام قائلاً:
"عايز إعلانات في كلِّ مكان، أول تلات شهور نعمل خصم 30%، أيِّ أجهزة متطورة تحت أمركم، خلِّيك على تواصل مع المهندس يشيِّك على كلِّ الأجهزة أوَّل بأوَّل."
ثمَّ اتَّجهَ إلى أحد الحاضرين وقال بلهجةٍ صارمة:
"حمَّام السباحة الغربي..اقسمه، الصبيان تحت سنِّ العشرين لوحدهم، مش عايز أيِّ غلطة!"
وقبل أن يُكمل، قطع رنينُ هاتفهِ حديثه، نظر إلى الشاشةِ للحظات ثمَّ أجاب بانفعال:
"أيوة..."
"أنا في الجهاز نصِّ ساعة وتكون عندي."
-"أنا مشغول ياعمُّو، وقُولت لحضرتك إنِّي استقلت..."
توقَّف إسحاق عن صعودِ الدرج، وصاحَ بغضب، غير مكترثٍ بنظراتِ الناس المحيطة:
"أقسم بالله، نصِّ ساعة لو مالقتكش قدَّامي، ليكون النادي دا رماد على دماغك!"
قالها ثمَّ أغلق الهاتفَ بعنف، وأنفاسهِ المتسارعةِ توحي وكأنَّه كان يركضُ بماراثون.
عند أرسلان، شرد بحديثِ إسحاق مذهولًا بنبرتهِ الغاضبة، لأوَّلِ مرَّة من حالتهِ التي لم يرها من قبل.
تساءلَ داخله: هل ضغط عليه فوق طاقته؟ أم أنَّهُ يعلمُ شيئاً وهو لا يعلمه؟ ولماذا يسعى لإنقاذِ راجح رغم معرفتهِ بنيَّتهِ الخبيثة؟
تضاربت الأفكارُ بعقلهِ حتى قاطعهُ أحدُ المدربين قائلاً:
-"أرسلان باشا، إيه رأي حضرتك في الِّلي قلته؟"
أفاق أرسلان من شروده، وهزَّ رأسهِ بصمت، ثمَّ وقف يجمعُ أشيائهِ قائلاً:
"اعملوا اللي اتفقنا عليه، و أنا هعدِّي بالليل وأطمِّن عالدنيا، متنسوش قسمِ الباليه...ده هيضيف للنادي شهرة كبيرة."
ثمَّ نصب قامتهِ وأكملَ بحزم:
"مش عايز النادي يكون مختصر على الرياضة وبس...كلِّ حاجة فيها حركة لازم نضيفها."
تدخَّل أحدهم مقترحاً:
"طيب، ما قولتلناش رأيك ياباشا...كلِّ شهر نعمل حفلة لمطرب مشهور عشان نرفع الترويج."
ابتسمَ أرسلان ابتسامةً خفيفةً وقال:
"هفكّّر في الموضوع...مبدئيًا الاقتراح متوسِّط، مش الحفلات اللي هتجذب الناس، تجدُّد الأفكار والعمل الكويس والنضيف، على العموم المندوب عنِّي موجود معاكم، وهوَّ اللي هيكمِّل تنفيذ الخطة."
قالها ثمَّ لوَّحَ بيدهِ مودِّعًا:
"سلام...عندي شغل دلوقتي، وهرجعلكم بالليل."
بعد نصفِ ساعة، كان أرسلان يدلفُ إلى جهازِ المخابرات، يسير بخطواتٍ واثقة، محيٍّياً بعض من يعرفهم بإيماءةٍ هادئةٍ من رأسه..
عند راجح..
دلف إلى منزلهِ وهو يتحرَّكُ ببطء، تحرَّكت الخادمةُ خلفهِ سريعًا:
-محتاج حاجة ياباشا؟..
التفت برأسهِ إليها وقال:
-طارق هنا ولَّا خرج؟..
-لا البيه نايم فوق..خطا بعدما أمرها:
-اعمليلي حاجة أكلها..
بالأعلى بغرفةِ طارق..
دفع البابَ بقوَّةٍ حتى انتفضَ طارق من نومهِ معتدلًا:
-فيه إيه..؟!
إنتَ لسة نايم!! دا الراجل اللي بعت نفسي علشانه؟!..فوق كدا، قوم خدلك شاور والحقني علشان نشوف هنعمل إيه..
-طيب خلاص بتزعَّق ليه، متنساش إنِّي كنت في السجن، بعوَّض النوم الِّلي حضرتك حرمتني منُّه..
اقترب منهُ وعيناهُ كتلةً ناريةً يريدُ أن يحرقه:
-قوم يالا، قوم شوف هنعمل إيه بعد شركتنا مااتحرقت، واحدة بنتِ العامري إدِّتها لواحد صايع، والتانية ابنِ الجارحي حرقها.
نهض من فوقِ الفراش يجذبُ سجائرهِ وتحرَّك إلى النافذةِ وقام بفتحها وأردفَ بنبرةٍ حادة:
-كلُّه هيرجع متخافش، ومن بكرة كلِّ واحد هياخد حقُّه..
طالعهُ راجح بتهكُّم ثمَّ استدارَ للخارج:
-طيب ياأخويا، لمَّا أشوف أخرتك إيه..
قالها وخرج بينما الآخرُ توقَّف يدخِّنُ سجائرهِ ينفثُ بالهواءِ الطلقِ وردَّ على حديثِ والده:
-هتشوف، والله لأعرَّف كلِّ واحد حدُّه، رفع هاتفهِ وقام بمهاتفةِ أحدهم:
-أيوة ياأسامة..عملت إيه؟!
أجابهُ الآخر:
-اتخطبت ياباشا، وفرحها بعدِ شهر.
-اتخطبت للواد الميكانيكي؟..
-لا..واحد شغَّال معاها.
شردَ للحظاتٍ وعيناهُ تطوفُ بكلِّ مكانٍ ثمَّ قال:
-أنا عايز البنتِ دي ياأسامة، اتصرَّف شوف هتجبها إزاي، تكون عندي قبلِ فرحها، المهمِّ تجبها على نضافة، ممنوع أيِّ حد يشكّ، وعايزها تيجي برجليها يعني مش خطف، البتِّ دي بتحبِّ الفلوس اغريها بأيِّ حاجة..
-تمام ياطارق باشا فهمت..إدِّيني يومين وتكون عندك.
-بانتظارك ياوحش...قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ اتَّجهَ إلى جهازهِ المحمول وقام بفتحه، بحث به عن كلِّ مايخصُّ يزن..أوقفَ الصورة وعيناهُ تخترقها، كالفنَّانِ الذي يتأمَّلُ شيئًا لرسمه، دقائقَ وهو ينظرُ إليها بصمتٍ ثمَّ أردف:
-ياترى إنتَ حكايتك إيه يالا، ليه تعمل دا كلُّه؟..أكيد وراك حوار، بس شكلك لئيم، الموضوع يبان علشان خطيبتك القديمة، بس العيون دي وراها حكاوي يامزيِّت، خلِّيني وراك لمَّا أشوف أخرتها إيه..
قاطعهُ رنينُ هاتفه:
-أيوة يامتر...على الطرفِ الآخر:
-أيوة ياطارق، دلوقتي أنا شوفت بنود الشركة كلَّها، للأسف إنتَ وراجح مفيش مايثبت إنِّ ليكم حاجة، حقِّ المرحومة بس هوَّ الثغرة اللي تعرف تدخل بيها الشركة..
-وضَّح أكثر..قالها وهو ينثرُ رمادَ تبغهِ بإصبعهِ فأجابهُ الآخر:
-مدام رانيا ليها 20% في الشركة منفصلين، الِّلي حضرتك اتنازلت عنُّه لخطيبتك دا خلاص مينفعشِ يرجع لأنَّها باعته لواحد تاني، وطبعًا راجح باشا اتنازل عن نصيبه لمالك العمري بنسبة مئوية علشان مايبنش، وبنته الوريث الشرعي فبالتالي كلِّ حاجة باسمها ومنهم جزء والدك الِّلي للأسف اتنازل بالنسبة كلَّها أيام قضيِّتك.
-والعمل يامتر؟..
ردَّ عليهِ بنبرةٍ جادَّة:
-تدخل بنسبة والدتك الله يرحمها ومحدش يقدر يمنعك..
بااااس خلاص المهم الحتَّة دي، أدخل بنصيب أمِّي، وبعد كدا نرجَّع اللي ضاع.
بمنزلِ إلياس..
صعدَ للأعلى مع رنينِ هاتفه، نظرَ إليه.. وجدَ عدَّةَ مكالماتٍ من يزن، ردَّ سريعًا:
-يزن خير، آسف التليفون كان في العربية.
تحرَّك يزن إلى شرفةِ غرفتهِ وسحب نفسًا يزفرهُ بهدوءٍ بعدما أجابهُ إلياس فتحدَّث:
-إلياس طالب منَّك خدمة، ومحدش هيقدر يعملها غيرك.
-سامعك..إنتَ مش في لندن؟..
هزَّ رأسهِ وعيناهُ تتجوَّلُ بالمكان:
-شوفت رحيل هنا..عايز أوصلَّها ياإلياس.
-تمام يايزن، أنا هتصرَّف وأرد عليك، بس ليه عايزها بعد ماطلَّقتها، أنا معرفشِ إيه اللي حصل بينكم؟..قاطعهُ يزن:
-عايز مكانها ياإلياس ضروري..
فهمَ إلياس أنَّه لايريدُ التحدُّث،
دلفَ للداخلِ يبحثُ عن زوجته، وجدها تجلسُ بالشرفةِ تنظرُ للخارج، اقتربَ منها إلى أن توقَّف خلفها وتحدَّث:
-أفهم من كدا مش هتنزلي معايا السويس وعاملة زعلانة؟..
رفعت رأسها وتعمَّقت بالنظرِ إليه قائلة:
-عاملة زعلانة، تنهيدة شقَّت صدرها وتراجعت بنظرها للخارجِ مرَّةً أخرى قائلة:
-أنا مش عاملة زعلانة ولا حاجة، بس ماليش نفس، أو تقدر تقول مش عايزة أكون مهمَّشة، أنا ميرال السيوفي لو إنتَ ناسي قولت لي عايزِك قوية، ومن شروط القوَّة دي أختار كلِّ مايناسبني ياحضرةِ الظابط..التفتت وغرزت عينيها بعينيهِ وتابعت:
-ولَّا القوَّة ليها معنى تاني، لو القوَّة أكون تابع لإلياس فأنا مش عايزاها..
أمالَ بجسدهِ وسحبها إلى أن توقَّفت بمقابلتهِ وحاوط جسدها لتصبحَ بين ذراعيه، يسبحُ بعينها:
-لا حبيبتي، القوَّة بشخصيتك زيِّ ماقولتي، وأنا مش زعلان علشان إنتي رفضتي، حقِّك أنا آسف كان المفروض أعرَّفك بس والله نسيت، ومكنتش مرَّتب..
رفعت نظرها واحتضنت عيناهُ بعيونها التي ترقرقت بها سحابةً من الدموع:
-إنتَ مانستش ياالياس إنتَ خلاص اتعوِّدت إنَّك تؤمر والكلِّ ينفِّذ، الأوَّل كنت بخاف أتكلِّم معاك، بحاول أتلاشى، علشان كدا كنت بلجأ لغيرك، بس أنا تعبت مبقاش ينفع أجري على غيرك، إحنا دلوقتي عندنا ابن ومينفعشِ نتخلَّى عن بعض علشان كلِّ واحد عايز يعمل شخصيِّته بنفسه، أنا عن نفسي مش هسمح لك تبعد عنِّي، ولا مسموح ليَّ أبعد لأنِّي خلاص عرفت حياتي فين وهتبقى إزاي لو بعدت، فإحنا لازم نعالج أخطاءنا مع بعض، أنا أتنازل مرَّة الدنيا مش هتتهد، وإنتَ تتنازل مرَّة هتلاقي حياتنا بيرفكت..اقتربت أكثر ورفعت كفَّيها واحتضنت وجههِ وأردفت بدموع:
-أنا بلاقي نفسي معاك، رغم عصبيتك بس مقدرشِ أعيش بعيد عنَّك، أنا بحبَّك أوي، بس في نفس الوقت مش عايزة اكون مهشمة، تعالى نساعد بعض علشان ابننا، لازم ...انحنى يبتر حديثها بخبرته بعدما فاقت كل حدودها معه، نعم فهي الروح والحياة، هي النبض الدائم للشعور بالكمال ..لحظات ربما تكون دقائق وهو ينعم برحيق ثغرها، ينثر فوقه من العشق مااذابه، حتى انهارت الحواجز ليخطفها لعالم ناعم لا يوجد به سوى النبض ...النبض فقط
القسم الثاني من الفصل 47
اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك
عَشِقْتُكِ والحُبُّ يَصرُخُ فيَّ
ويَنبُضُ قلبِي سِوى لَحظَتَيكِ."
وأنا إن أحببتُ، أحبُّ كأنّي سأموتُ.
وأنا إن أحببتُ، أحبُّ كأنّي سأحيا!"
بعد عدَّةِ ساعاتٍ في منزلِ أرسلان،
جلست بجوارِ صغيرها تلاطفهُ بعد وصلةٍ طويلةٍ من البكاء.
همست وهي ترفعهُ بين ذراعيها وتهدهدهُ بحنو:
ــ "إيه ياحبيب مامي، مالك؟ إحنا لازم نتعرَّف على بعض...أنا مش عايزة حد يربِّيك غيري."
بدأت تملِّسُ على خصلاتهِ الناعمة برقَّة، وعيناها تلمعُ بالحب:
ــ "أكيد عارف إنِّ مامي بتحبَّك أكتر من الدنيا دي كلَّها..وعايزاك تكبر وتبقى راجل أوي زي بابي...تاخد منُّه الجانب الحلو الهادي، وتسيبك من العصبية بتاعته."
تأمَّلت ملامحهِ الطفوليةِ البريئة، وانعكست سعادتها في عينيها، تحدِّثهُ وكأنَّه يفهمُ همساتِ قلبها:
ــ "كنت متأكدة إنَّك هتطلع شبهه... ماما كانت دايمًا تقول، اللي بتحبِّ جوزها أوي، ولادها بيطلعوا شبهه."
احتضنتهُ بشغف، ودفنت رأسها في حضنهِ الصغير تستنشقُ رائحتهِ الطاهرة بجنون، تهمسُ له بعشق:
ــ "وباباك مش بس حبيبي...ده روحي وحياتي وكلِّ حاجة."
خطت به نحو مهدهِ بحذرٍ وكأنَّها تحملُ كنزًا ثمينًا قابلاً للكسر، وأسندتهُ بين الأغطيةِ برقَّة، ثمَّ بدأت تهزُّهُ بلطفٍ وهي تدندنُ له بأغنيةٍ طفوليةٍ ناعمةٍ من قلبها.
يا بلالي ياقمري...نام بعيونِ السهري
نام يا بلال...نام ياقمري
عيونك الحلوة بدها السهر
يا ريحة البابا ياريحةِ الورد وياطيِّب الهوى
نام بحضني ياأغلى دوا
يانور عيوني، يازهر الليالي
نم ونوَّر الدار ياأغلى الغوالي
يا طير صغير وحلو...بعيوني تحلو الدنيا...إيييييه إييييه
نام يابلال، يا حلو الغزال
دنيايَ إنتَ، وياأغلى من المال
ظلَّت تُغرِّدُ كالعندليب، تُهدهدُ صغيرها بلحنٍ صاغتهُ من حنانِ قلبها، لم تشعر أنَّ هناك من يراقبها لدى الباب، وقلبهِ الذي يخفقُ تحت وطأةِ صوتها العذب.
اقتربَ منها، تخطو قدماهُ بحذرِ العاشق، حتى بلغَ حيثُ تجلس، انحنى فوقها كغصنٍ ثقيلٍ بثمرِ الهوى، يُطوِّقها بذراعيهِ الدافئتين..
وهمسَ في أذنها بنبرةٍ خفيضةٍ مرتجفة:
- غيران، أنا غيران حدِّ الجنون غرامي.
رفعت رأسها إليهِ ببطء، كزهرةِ عبَّادٍ نحو الشمس، والتقت عيناهما في لحظةٍ سكنت فيها الأنفاس، إلى أن همست وقد ارتسمت ابتسامةٌ طفيفةٌ على شفتيها:
- غيران من ابنك؟!..
مدَّ يده، يجمعُ خصلاتِ شعرها الناعمةِ جانبًا، ثمَّ انحنى يطبعُ قبلةً وديعةً على عنقها، فتورَّدت وجنتاها، وارتعشت أنفاسها، لتغلقَ عينيها تحت وطأةِ أنفاسهِ اللاهبة، وتحسُّ بفراشاتٍ رقيقةٍ تخفقُ داخل أحشائها...حتى استمعت إلى صوتهِ الخافتِ وهو يقطرُ دفئًا وغيرة:
- أغار حدَّ الألم وعليكي غرامي أن تجدي حل..قالها بنبرةٍ شاعريةٍ وعينيهِ تتجوَّلُ على ملامحها بعشقٍ تنطقهُ العيونُ قبل القلوب..
اشتدَّ خفقانُ قلبها حتى كادت تسمعه، وأوشكَ جسدها أن يتلاشى بين ذراعيه، فتمتمت بضعف:
- أرسلان..ابعد شوية المربيَّة تدخل وتشوفنا، كدا عيب.
ابتعدَ ببطء، وعيناهُ تملأها خيبةٌ حزينة، ثمَّ همسَ بجُرحٍ لم يقوَ على إخفائه:
- حضني بقى عيب، خلاص جالك اللي تحضنيه؟
ارتجفَ قلبها لحزنه، فنهضت أمامهِ بخفَّة، ترفعُ يديها نحو وجهه، تلمسهُ بحنانِ أمٍّ تخشى أن تكسرَ قلبَ طفلها،
همست برقَّة:
- إنتَ زعلت، أوعى تكون بتتكلِّم جد؟
أطبقَ بكفَّيهِ على وجهها وكأنَّها كنزهِ الثمين، واقترب، يسرقُ قبلةً سريعةً، كمن يرتوي من سرِّ الحياة، ثمَّ همسَ بصوتٍ أشبهُ بأنفاسِ العاشقين:
- صوتكِ هوَّ حضني، وعيناكِ دعائي، وأنتِ عمري الذي خُلِق مرَّتين...مرَّة لقلبي، ومرَّة لقلبي الآخر وهو ابني فلذةُ كبدي وأنتي أمُّه عاشقةِ الروحِ والعين..
انسابت دمعةٌ غائرةٌ تزحفُ عبرَ وجنتيها:
-عملت إيه علشان ربِّنا يرزقني بيك؟..
ابتسمَ بعذوبةٍ وجذبها إليه، يحتضنها بكلِّ ماأوتيَ من شوق.
ثمَّ أردفَ بضحكةٍ خفيفةٍ تكسرُ ثقلَ اللحظة:
- شوفي بقى إيه الحلو الِّلي عملتيه في حياتك علشان يرزقك بواحد قمر زييِّ..
لكمتهُ بخفَّة، وتعلَّقت بعنقه:
-مغرور..إنتَ المفروض تحمد ربِّنا علشان رزقك بقمر زييِّ..قهقهَ بصوتهِ الرجولي يرفعها ويدورُ بها مع ضحكاتها:
-بااااس خلاص...بلاش تحمد ربِّنا..
-إنتي قدري الحلو غرامي..بحبِّك بجنون عاشق، كعشقِ قيس لليلى ، وعنتر لعبلة، وجواد الألفي لغزالته، وراكان البنداري للولِّته..
-مين دول، أنا عارفة اللي فوق..
جذب رأسها يضعُ جبينهِ فوق جبينها يهمسُ لها بغمزة:
-دول أبطال كاتبة حكايتنا، اللي
إن شاء الله اللي هيجي بعدنا هيذكرنا..
تراقصت ضحكاتها على شفتيها، تهزُّ رأسها ثمُّ سحبت كفَّيه معها، تُشير برأسها نحو فراشِ صغيرهما الذي استسلمَ للنومِ في هدوءٍ عذب..
-طيب تعالَ يامغرم العاشقين.
بمنزلِ يزن وخاصَّةً بحديقةِ المنزل..أعدَّت كوبًا من الشاي وبعض الفطائرَ ووضعتها أمامه:
-اتفضل ياسيدي آدي الشاي والقرص..
تناولَ إحدى المعجنات، يتفحَّصُها بين أناملهِ ثمَّ غمز إليها:
-عملاها بحب يابت ولَّا بزهق؟..
جذبت المقعد وجلست، تضعُ خدَّها فوق كفِّها:
-عايز توصل لإيه ياكريم، بتلفِّ وبدور على إيه؟..
-إنتي تعرفي مكان رحيل صح؟..
اعتدلت سريعًا وابتلعت ريقها بصعوبة، تتهرَّبُ من نظراته، ولكنَّه وضع المخبوزات وسحبَ كفَّيها يضمُّها بين راحتيه:
-عايز أعرف بس إنتي تعرفي مكانها ولَّا لأ؟..
ظلَّت تنظرُ إليه بصمتٍ حتى قطع الصمتُ يهزُّ رأسه:
-مش هقول ليزن، أنا ضدّ الِّلي بيعمله.
تنفَّست بهدوء ثمَّ أردفت:
-في انجلترا، هيَّ كلِّ فترة بتكلِّمني وبتطمِّن عليَّا، إحنا قرَّبنا من بعض الفترة اللي قعدتها معايا، هيَّ مالهاش أخوات وأنا كمان ماليش أخت، ميرال أه أختنا هيَّ ورؤى بس مش عارفة أتعامل وأقرَّب منهم، بس رحيل حبِّيتها أوي، لقيت عندها اللي كنت محرومة منُّه..
رفع كفَّها ولثمهُ ثمَّ مرَّر أناملهِ عليها بحنان:
-أنا أبوكي وأخوكي وحبيبك وكلِّ حاجة، بلاش نظرة الحزنِ دي، بتقهرني..
لمعت عيناها بالسعادةِ قائلة:
-بتحبِّني أوي ياكريم؟..ولَّا عايز واحدة تكون مناسبة ومحترمة وخلاص.
ذُهلَ من حديثها ممَّا جعلهُ يتراجعُ بجسدهِ وعيناهُ تخترقُ جلوسها ثمَّ سحب نفسًا وطردهُ بهدوءٍ رغم غصَّتهِ ثمَّ قال:
-حقيقي مش حاسة بحبُّي؟!..إنتي عارفة، أنا بحبِّك من زمان أوي..
بجدِّ ياكريم..يعني مش علشان مناسبة وأختِ صاحبك؟!
نهض فجأةً من مكانه، عيناهُ مليئةً بالحزنِ الذي لا يستطيع إخفاءه، مدَّ يدهِ إليها، جذبها برفق، ليوقفها أمامه..
توقَّفت، وقلبها ينبضُ سريعًا، وعيونها تغرقُ بالدموعِ التي لم تستطع أن تمنعها..اقتربَ دون أن ينبسَّ بكلمة، واحتوى وجهها بين يديه،
وقال بصوتٍ ضعيف، مليء بالعاطفة:
ــ وحياة ربِّنا، بحبِّك..ومن زمان أوي.
أصابتها رعشةً طفيفةً بجسدها، وتابع بصوتٍ متقطِّع، عميق، تخرجُ من قلبه:
ــ إيه اللي يخلِّي الواحد يستنَّى خمس سنين؟! لو كنت عايز واحدة مناسبة، كان عندنا بنات كتير في العيلة، محترمين وحلوين..
اقتربَ خطوةً أخرى، حتى اختلطت أنفاسهما، و همسَ بصوتٍ مليءٍ بالهيام:
ــ لكن قلبي..قلبي اختارك إنتي،
نظرة واحدة من عينيكي قادرة تخلِّيني أسعد راجل في الدنيا.
جذبها إلى أحضانهِ وطوَّقها بقوَّةٍ تحت حنانِ ذراعيه...
وآه، كيف يمكن للكلمات أن تصفَ مدى الحب في تلك اللحظة؟
قال بصوتٍ يكادُ يختنقُ بالعشق:
ــ مش مصدَّق...مش مصدَّق إنِّك بقيتي مراتي، في حضني.
تراجعت فجأة، وكأنَّ صدمةَ كلماتهِ أصابتها، فهمست بخوف، عيناها ترفرفان:
ــ كريم! إنتَ اتجنِّنت؟! بتعمل إيه؟
نظر إليها بنظرةٍ حادَّة، لكنَّه كان يختنقُ من الداخل..وقال بحزم، وكأنَّ كلماتهِ تعكسُ نارًا مشتعلةً داخله:
ــ نعم، بعمل إيه؟!
ثمَّ أضاف بنبرةٍ تشوبها مرارةٌ عميقة:
ــ نسيتي إنِّك دلوقتي مراتي؟! من حقِّي أكون معاكي، من حقِّي أعيش معاكي كلِّ لحظة...دا حضن بريء!
ضحك بحزن، وقال في نفسه:
ــ لكن فصلانك طالعة لأخوكي، ضيَّعتي اللحظة..يخربيتك.
قاطعهما صوتُ معاذ وهو ينادي:
ــ إيمان، كلِّمي مها، عايزاكي.
تقدَّمت إليهم مها، ثمَّ قالت بابتسامةٍ متكلِّفة:
ــ عاملين إيه؟ مبروك...آسفة، ماقدرتش أحضر كتب الكتاب...كنت بشتري جهازي، عقبالك ياإيمان.
ــ متشكِّرة يامها...
أجابت إيمان، أخرجتها من حلقها بصعوبة، وهي تداري الحزنَ الذي يكادُ يخرجُ منها...
تتلفَّت مها، وكأنَّها تبحثُ عن شيءٍ مفقود، ثمَّ تساءلت:
ــ هوَّ يزن مش هنا؟
رفعت إيمان حاجبها بتعجُّبٍ وقالت بنبرةٍ حادَّة:
ــ بتسألي ليه؟ الفرح بتاعك الأسبوع الجاي مش كده؟
ثمَّ أكملت بنبرةٍ قاسية:
ــ على العموم، يزن مش هنا...راح لمراته.
تجمَّدت مها، واتَّسعت عيناها في صدمةٍ لم تستطع إخفاءها، ثمَّ همست بهلع:
ــ مراته؟!
ثمَّ تمتمت بصوتٍ خافت، وكأنَّ الكلماتَ تعجزُ عن الخروج:
ــ مش طلَّقها؟
غضبَ كريم وانفجرَ فجأة، بعدما فقد السيطرةَ على نفسهِ واتَّقدت عيناه:
ــ عايزة إيه يا مها؟!
حاولت التماسك، وبكت بحرقة، قائلةً بصوتٍ مكسور:
ــ كريم...أنا لسه بحبُّه.
ثمَّ أضافت، وكأنَّها تخرجُ من أعماقِ قلبها:
ــ واللهِ لو قال لي سيبي كلِّ حاجة وتعالي، هسيبها...حتى لو وافق نتجوِّز، هوافق فورًا.
ابتعدت إيمان قليلًا و نظرت إليها بحزم، وسحبت المقعدَ بعنف، ثمَّ جلست عليه بحدَّة..و قالت بصرامة:
ــ كفاية..
ثمَّ نظرت إلى مها بعينينِ قويتين:
ــ كفاية تقلِّلي من نفسك...روحي وكمِّلي حياتك بعيد عن أخويا..
عند يزن، اليوم التالي..
وصل إلى العنوانِ الذي أخذهُ من إلياس..
وقف أمام البوابةِ الكبيرة، شعورٌ مقيتٌ يلتفُّ حول قلبه، ضغطَ على الجرسِ وكأنَّ يديهِ لا تحملُ أيَّ قوة..دقَّاتٌ فقط، لا يشعرُ سوى بها..
أخيرًا، فُتح الباب بصوتٍ مرتفع، وظهرت الخادمة، نظرت إليه بنظرةٍ متسائلة، وقالت بصوتٍ حذر:
ــ من تريد؟
دخل يزن بخطواتٍ ثقيلة، وفي كلِّ خطوةٍ قلبهِ يلهثُ داخلَ صدره، وعيناهُ تملؤها مشاعرَ متناقضة: الخوف، التردُّد، الاشتياق، اتَّجه إلى الخادمة التي تساءلت مرَّةً أخرى..
ردَّ بصوتٍ منخفضٍ لكنَّه حازم، يشعرُ بأنَّ الكلماتِ تخرجُ بصعوبة:
ــ عايز مدام رحيل.
قاطعهم صوتُ رحيل:
ــ مين ياكاتيا؟
قالتها بعدما خرجت من الداخل، ويديها تمسكُ بكوبِ القهوة، لكن حينما وقعت عيناهُ عليها، كأنَّ الزمنَ توقَّف، وانكسرت كلَّ الحواجز بينهما.
تحرَّكت بخطواتٍ بطيئة، وعيونها لا تفارقُ يزن، وكأنَّها تريدُ أن تقنعَ نفسها أنَّه ليس بكابوس، اقتربَ خطوةً يحتضنها بعينيهِ يريدُ أن يجذبها لأحضانهِ حتى يذيبَ ضلوعها بين ذراعيه، توقَّفت بعدما تأكَّدت أنَّه حقيقةً وليس حلمًا..في تلك اللحظة توقَّف كلَّ شيءٍ وتلاشى من حولهما..
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسدها، وشعرت بأنَّ الأرضَ تدورُ بها وفقدت القدرةَ على كبحِ دموعها، وشعرت بدقَّاتِ قلبها تتسارع...حتى تلعثمت في كلماتها، وكأنَّها تكاد تفيقُ من كابوسها:
ــ يز...زن؟
قالتها بهمسٍ خرج بصعوبة، كأنَّها تقاومُ الحقيقةَ التي كانت تتمنَّى أن
لا تكون.
وكأنَّ كل شيءٍ حولها يختفي، وتكتشفُ فجأةً أنَّ الشخصَ الذي كان جزءًا من حياتها، قد عاد ليحطِّمُ كلَّ شيءٍ قد حاولت بنائهِ بعده.
تسارعت أنفاسها وهو يقتربُ منها، وقلبها أصبحَ مضخَّةً تهدِّدُ بالانفجار، بعدما بدأت تلمحُ خيوطَ الماضي تعودُ في ذهنها..تلك الأيام بل الليلة التي شعرت فيها بأنَّهُ حياتها، لتتحوَّلَ إلى عاصفةٍ اقتلعت حياتها دون جدوى..
تراجعت ورعشةٌ قويةٌ بعدما استمعت إلى صوته:
-رحيل..
-ابعد..صرخت بها وهي تحاولُ السيطرةَ على رعشةِ جسدها وكبحِ دموعها.
أخذَ نفسًا عميقًا، وعينيهِ مليئةً بالألم، لا يمكنهُ أن يخفي ما يشعرُ به، من نفورها ولا يمكنه أن يظلَّ ساكنًا...ضغط على كبرياءِ رجولتهِ وتقدَّمَ خطوةً نحوها، وكلَّ خطوةٍ كانت كالسهمِ الذي يُطلَقُ في قلبه...من نفورها ونظراتها المشمئزِّة، التي كانت تحرقُ قلبهِ قبل جسده..
همسَ بصوتٍ مرتجف:
ــ رحيل...
تراجعت خطوةَ للوراء، تحاولُ الهروبَ من مشاعرها التي بدأت تنفجرُ في داخلها..وتضعفُ وكأنَّها ترى شخصًا آخر، شخصًا لم تكن تستطيعُ أن تصدِّقَ أن يعود إليها بهذه الطريقة..
تحدَّثت بصوتٍ مكسور، وكأنَّ الكلماتَ تخرجُ من فمها بصعوبةٍ شديدة:
ــ عايز إيه، إيه اللي جابك؟!..
قالتها وهي تقاومُ دموعها
ولكنَّه اقترب، بقلبٍ ينتفضُ بالألم، يشعرُ أنَّ الأرضَ ستبتلعه، من شدَّةِ ثقلِ خطواته..قال بصوتٍ منخفض، حزين، مليء بالندم:
ــ لازم نتكلِّم.
لحظةُ صمتٍ طويلة..تئنُّ بما تشعرُ به الصدور، و كأنَّ الجدرانَ نفسها تشعرُ بوجعِ قلوبهم..
-رحيل لازم نتكلِّم لو سمحتي.
ولكنَّها لم ترَ سوى ذلك الرجلِ الذي قام بخيانتها والغدرِ بها، فتراجعت خطوةً أخرى، بعدما شعرت بأنَّ مشاعرها تتأرجحُ بين الرغبةِ في الهروبِ والتمسُّكِ بما تبقَّى من شظايا قلبها:
ــ كفاية...مش عايزة أسمع منَّك حاجة، أنا بعدت عنَّك، جاي ورايا ليه؟.
نظر إليها بعينيهِ المليئةِ بالذنب، وقال بصوتٍ يكادُ يختنق:
ــ أنا عارف...عارف إنِّي جرحتك بس .
حاولت التماسك، فهزَّت رأسها بحزنٍ عميق:
ــ مفيش بينا كلام ..كفاية بقى جاي في خداع جديد، ولَّا الباشمهندس معرفشِ ياخد حقُّه فقال أشوف الحيطة الواطية..
ثمَّ أضافت بنبرةٍ شديدةِ الحزن:
ــ روح، يزن، روح وكمِّل حياتك بعيد عنِّي..أنا رسمت حياتي وإنتَ كمان ارسم حياتك.
-رحيل لازم نتكلِّم.
اقتربت منه وثارت جيوشُ غضبها:
-نتكلِّم!..هنتكلِّم في إيه ياباشمهندس؟..
إنتَ ضحكت عليَّا ولَّا..خدعتني ولَّا ولَّا..
اقتربت تدفعهُ بقوَّة:
-أنا بكرهك..بكرهك، مش عايزة أشوفك قدَّامي، امشي اطلع برَّة، برررررة..
خرجت والدتها على صرخاتها:
-رحيل..هتفت بها بخوفٍ بعدما وجدتهُ واقفًا أمامها، اقتربت منه تتطلَّعُ إليهِ بذهول:
-إنتَ!!..
بمنزلِ إلياس..
أنهت زينتها وحملت حقيبتها متَّجهةً للخارج، قابلتها المربية:
-هنبات في الفيلا يامدام ولَّا هنرجع، علشان أعمل حسابي.
انحنت تحملُ طفلها تقبِّله:
-يوسف روح نادي خالتو علشان نمشي، ثمَّ رفعت عينيها للمربية:
-هنبات هناك علشان إلياس مش هيرجع الليلة.
-تمام يامدام..قالتها وانسحبت إلى داخلِ الغرفة تحملُ هاتفها وقامت الاتصالَ على شخصٍ ما.
وصلت إلى سيارتها، وضعت ابنها بمكانهِ وأشارت إلى السائق:
-خلِّي منال المربية ورؤى معاك، وأنا هتحرَّك بعربيتي.
-بس أستاذة رؤى مش موجودة يامدام خرجت من ساعة تقريبًا.
-خرجت!..تمتمت بها بذهول، ثمَّ نظرت إليه:
-إزاي تخرج من غير ماأعرف، هوَّ البيه مش منع خروجها؟..
-واللهِ يامدام حاولت أمنعها بس هيَّ رفضت وقالت رايحة للباشمهندس.
-الباشمهندس مش هنا ياغبي..قالتها ورفعت هاتفها محاولةً مهاتفها ولكن لايوجد رد.
زفرت بغضبٍ تنظرُ حولها بضياع:
-رحتي فين ياغبية؟..مرة واثنتان محاولةً الوصولِ إليها ولكنَّ الهاتف مغلق، قامت بمهاتفةِ إيلين وسألت عليها..
صعدت إلى سيارتها وأردفت:
-خلِّي الأمن يجهز، هنروح عند الباشمهندس..قالتها وقامت بتشغيلِ سيارتها وتحرَّكت متَّجهةً إلى فيلا السيوفي..وصلت بعد قليل، دلفت للداخلِ تبحثُ عن فريدة..
-ماما فريدة فين؟..ردَّت الخادمة:
-خرجت من نصِّ ساعة، راحت لزين باشا..أشارت إلى المربية:
-طلَّعي يوسف أوضته، وخلِّي بالك منُّه.
تحرَّكت إلى الخارج ومازالت تحاولُ أن تصلَ اليها، قاطعها رنينُ هاتفها:
-وصلتي للفيلا ولَّا لسة؟.
-لسة واصلة من شوية، بس الأستاذة رؤى معرفشِ راحت فين، فونها مقفول.
-طيب اهدي، أنا هتصرَّف.
-إلياس، تليفونها مقفول، والغبية عندها جلسة، أنا خايفة عليها ممكن تعمل في نفسها حاجة.
-ميرو، اهدي قولت لك أنا هتصرَّف.
-إلياس علشان خاطري حاول توصلَّها، أنا ماصدَّقت إنَّها وافقت على العلاج، هروح اشوفها عند يزن
-حبيبي اهدي قولت لك هتصرَّف، خلِّي بالك من نفسك ومن يوسف، ومتخرجيش، أنا عندي اجتماع هغيب ساعة على الأقل..متقلقيش لو معرفتش أرد عليكي، دا اجتماع مهمّ وناس مهمَّة موجودة، ولازم أكون يقظ تمام..أنا هكلِّم أرسلان وهوَّ هيتصرَّف..
-تمام حبيبي، خلِّي بالك من نفسك
لا اله الا الله..قالتها وأغلقت الهاتف ثمَّ هوت على المقعدِ تنظر إلى هاتفها علَّها تهاتفها...دقائقَ مرَّت عليها شعرت بأنَّها دهرًا مع اتِّصالِ الطبيبة التي بانتظارهم لعملِ جلسةٍ كيماوية، ولكن اعتذرت ميرال:
-آسفة يادكتور، ظرف طارئ ممكن نتأخَّر ساعة؟..قالتها على أملِ تصلُ إليها ..أغلقت معها وإذ يعلو رنينُ هاتفها مرَّةً أخرى:
-رؤى معايا..وتعبت ونقلتها المستشفى، اللي بتتعالج فيها
-مين معايا؟..
-أخوكي ياأستاذة، المفروض متنسيش صوتي..
هنا ارتفعت أنفاسها وشعرت بأنَّ الأرضَ تُسحبُ من تحتِ أقدامها...لحظات صامتة بأنفاس مرتفعة، وذكريات الماضي تصفعها بجبروت من ذاك عديم الاخلاق
تحرَّكت بخطواتٍ مسرعةٍ إلى سيارتها، وأشارت إلى رجلِ الأمنِ قائلةً بحزم: هنخرج.
لم تمضِ سوى دقائق، حتى وصلت إلى المشفى حيث تُحتجزُ أختها، هرولت للداخل، تتسابقُ أنفاسها مع دقَّاتِ قلبها اللاهثة...دخلت الغرفة، وقعت عيناها عليها وجدتها نائمة فوق الفراشِ الأبيض، بينما يجلسُ هو بجوارها، يراقبها بصمتٍ ثقيل.
اشتعلَ الغضبُ في عروقها، واقتربت منه تصرخُ بجنون:
ــ إنتَ بتعمل إيه هنا؟! إزاي تقرَّب منها؟! عملت فيها إيه ياحيوان؟!
اعتدلَ في جلسته، وعيناهُ تلتهمُ ملامحها بشغفٍ غريب؛ تشبهُ "رانيا"، كأنَّ الزمنَ يعيد نفسهِ أمامهُ بطريقةٍ مؤلمة، وكأنَّ تلك المرأة التي ربَّته أمامه..
ظلَّ صامتًا، يحاوطها بنظراته، حتى فاضَ بها الغضبُ ودفعتهُ بيديها الغاضبتين:
ــ إحنا مالناش إخوات، سمعتني؟! ابعد عنِّنا ياحيوان.
اقتربت منهُ أكثر، أسنانها تصطكُّ من شدَّةِ الغيظ، وعيناها تقذفُ شررًا قائلةً بنبرةٍ غاضبة:
ــ إحنا مش معترفين بدمِّ أبوك الفاسد...الخاين...وإنتَ زيُّه.
أشارت إلى الباب بأمرٍ قاطع:
ــ اطلع برَّه، ولو قرَّبت منها تاني، مش هاتردَّد إنِّي أموِّتك.
صرخت في وجههِ بعنفٍ: برررررررة.
هزَّ رأسهِ ببطء، وخرج صوتهِ مبحوحًا: ــ همشي ياميرال...بس صدَّقيني، إحنا هنتقابل تاني...مكنتشِ نيِّتي وحشة، كنت بس...بحاول أقرَّب منكم.
قاطعتهُ بصراخٍ مكتومٍ بالمرارة:
- براااااا ياحيوان..
اندفع رجلُ الأمنِ إلى الداخل، بعدما استمعَ إلى صراخها، وجذبَ طارق من ذراعهِ بقسوة، يستعدُّ لطرده.
تقدَّمت إليه ميرال وأشارت بحدَّة:
ــ خده، ارميه عند راجح..وقولُّه ميرال السيوفي بتحذَّرك..لو قرَّبت من حد من عيلتها، محدش هيقتله غيري
ظلَّ طارق مأخوذًا بقوَّةِ شخصيتها ينظرُ إليها بدهشة؛ هل هذه هي الفتاة الضعيفة التي اختطفها قبل عام؟ من أين استمدَّت هذه الشراسة؟
استسلمَ ليدِ الأمنِ تسحبهُ بعيدًا، بينما عيناهُ لم تفارقها حتى ابتعدَ عن الغرفة.
تحرَّكت ميرال صوبَ أختها الغارقة في غيبوبتها، وجثت على ركبتيها بجوارها،
رفعت أناملها المرتجفة، وأعادت خصلاتها المتمرِّدة عن وجهها الشاحب..
فلقد اكتشفت مرضها حينما أجرت تحليلًا لتتبرَّع بكليتها إلى إلياس وأخبرها الطبيب أنَّ دماءها تحملُ المرض، تولَّى يزن علاجها عن طريقِ تغييرِ دمائها إلى أن تتم عمليةِ النخاعِ الشوكي، قامت باستدعاءِ الطبيبة على الفور.
وصلت الطبيبةُ وقامت بفحصها بعناية، ثمَّ نطقت بصوتٍ مطمئن:
ــ شوية وهتفوق إن شاء الله...بس لازم تلتزم بكورس العلاج قبل عملية النخاع الشوكي.
استمعت ميرال إلى كلماتِ الطبيبة بتركيز، لكن عينيها ظلّّت متشبثتينِ بوجهِ أختها النائم.
عند إلياس..
ارتفعَ رنينُ هاتفهِ الخاص، وقام رجلُ الأمن بقصِّ له ماصار، لا يعلم كيف خرج من القاعةِ التي يوجدُ بها المؤتمر
وقاد سيارتهِ بسرعةٍ جنونية، حتى وصل إلى القاهرة في غضونِ ساعةٍ ونصف...
-أرسلان قابلني عند فيلا راجح، لازم نوجِّب معاه.
-إيه الِّلي حصل؟
-عشر دقايق وتكون قدَّام الفيلا، أنا داخل على القاهرة..قالها وأغلقَ الهاتف.
بأنجلترا
خرج يزن يتخبط بخطواته كمن أصابته لعنة، وصرخاتها تمزق سمعه كطعنات خنجر صدئ، حتى وضع كفيه على أذنيه يحاول أن يحجب ذلك العويل الذي تحول في أذنه إلى نواح الموتى لا صوت حبيبة...متذكر كلمتها الدامية:
"بكرهك..."
كلمة واحدة، لكنها سقطت فوق قلبه بأوزان الدهر كله، سحقته تحت ثقلها حتى عجز عن الوقوف.
مضى يهيم بين الطرقات، بوجه شاحب، وعيناه زائغتان كمن فقد خارطة الحياة، يترنح كجسدٍ مخمور. سار حتى أضناه التعب، فوقع على ركبتيه كطفل تاه عن أمه في صحراء موحشة، لا يسمع إلا صدى أنفاسه المتهالكة.
لم يشعر بالدموع التي انسابت على وجنتيه دون إذنٍ منه، كان يبكي كما لم يبكِ رجلٌ من قبل، جلس يعانق ركبتيه بذراعيه المرتجفتين، وأسند ذقنه عليها..يتذكر حديثها:
"أكتر إنسان كرهته في حياتي... بكرهك... وبكره نفسي... وبحتقر قلبي اللي فكر فيك حتى لو دقيقة وحدة..."
أحكم ذراعيه حول جسدها واردف:
"أنا مضحكتش عليكي... أنا حبيتك... ورب الكعبة حبيتك..."
لكنها، ردت ببرود كالجلاد، وغرست عيناها كالسهام المسمومة في قلبه:
"بس أنا بكرهك! وبكره كل حاجة تفكرني بيك!"
اقتربت وحدقت فيه بعينين تغليان غضبًا واحتقارًا، ونطقت:
"أنا مش شايفاك راجل... الراجل اللي ياخد ست كوبري لانتقامه مش راجل..."
هنا لم يشعر بنفسه، لم يدرك، لم يع إلا حينما سمع صدى اللطمة ترتد على جدران قلبه قبل أن ترتد على وجهها المسكين.
صرخت زهرة باسم ابنتها، ودفعته بجنون أم تحمي فلذة كبدها:
"اطلع برة يا واطي! يا حقير!"
هنا تلاقت عيناه المصدومتان بما فعله بعينيها الباكيتين، تضع كفيها المرتجفين، ودموعها خانت كبريائها أمامه، ورغم ضعفها، اقتربت كالإعصار، وأمسكت بتلابيبه، وغرست عينيها الملتهبتين في عينيه، ومزقته بكلمات اخترقت روحه كسكين مسموم:
-"كنت حامل منك، يا يزن... وسقطت البيبي... تعرف ليه؟!
عشان ميجيش طفل يديني وشه، ويفكرني بأقذر ليلة عشتها في حياتي!"
هوت الكلمات على رأسه كالصاعقة، فارتد عنها مذعورًا كمن لسعته نيران جهنم، أشارت إلى الباب بصوت كالرعد:
"اطلع برة بيتي... اطلع برة حياتي!
روح دورلك على لعبة جديدة تفرغ فيها قذارتك!"
خرج من غياهب ذكرياته المدمرة، يضغط على كفيه حتى انغرزت أظافره بلحمه، ثم أطلق صرخة مروعة، خرجت من قاع روحه، هزت الأرض تحت قدميه...
صرخة رجل خسر كل شيء... نفسه، حبه، وحتى صورته في عيون من أحب...
عند ايلين
دلف ادم يتطلع إلى شرودها بقلب يدمى، اقترب منها وجلس بجوارها يجذبها لأحضانه
-وبعد هالك ياايلين، هتفضلي كدا
التفتت إليه وعيناها تذرف دموعها كزخات المطر
-تفتكر ياادم كلام راجح حقيقي، يعني أنا بنت حرام...وضع كفيه على فمها
-اشش، بطلي جنان، كلنا عرفنا حقيقة الراجل دا، مستحيل كلامه يكون صح
ارتفعت شهقاتها تهز رأسها بعنف
-وهو هيكذب ليه، في حد هيكذب في حياة اتنين ميتين
-اه ياايلين لما يبقى واحد زي الراجل دا يبقى اه..كلنا عارفين اخلاق خالتو كانت ازاي، وكمان عمو جمال، لا بابا كان دايما بيحكي لنا أنه كان عارف ربنا، وبعدين دا كان بيعشق طنط فريدة هيروح يخونها مع بنت عمها انا مش مصدق
-اااااه بكت بحرقة وقلبها فجوة بركانية، علشان كدا بابا مكنش بيحبني، لكمت صدرها بقبضتها، وشهقات خلف شهقات، ليضمها إلى صدره وعقله الذي تلاعب به الشيطان يحدث حاله
-هل حقا ما قاله ذلك الشيطان، يعني كدا ايلين ممكن تكون اخت إلياس وارسلان
تنهيدة حارقة كادت أن تلتهم ضلوع صدره، بسط كفيه يمسد على خصلاتها
-حبيبتي لازم تنسي كلام الراجل دا، ايلين متنسيش انك حامل
لم ترد عليها، علم أنها غفت بأحضانه فقام بوضعها بهدوء على الفراش..ثم سحب هاتفه وتوجه للخارج ..رفع هاتفه وقام بمهاتفة أحدهم
-عايز اقابلك ضروري
بفيلا راجح
وصل إلياس بسيارته المصفحة، اخترق البوابة ومرّ عبر حديقة الفيلا. ترجل بسرعة، مشهّرًا سلاحه في وجه الأمن المحيط بالفيلا:
"ممكن أموتكم كلكم، أنا ماليش حساب معاكم... جاي للي مشغلكم."
قالها مع وصول أرسلان برفقة اثنين من رجاله. ترجّلوا جميعًا، وأشار أرسلان للأمن:
"جمّعوا العيال. ابعد يا إنت وهو!"
تحرك إلياس بخطواته الواسعة التي تلتهم الأرض، وأطلق رصاصة على باب الفيلا الداخلي، ففتح الباب بخروج راجح من مكتبه:
"إيه في إيه؟!"
أشار إلياس لرجل من الأمن:
"جرّوه ع العربية، وشوفوا الواد الصايع التاني فين."
صرخ راجح:
"إنت اتجننت يالا؟!"
رد عليه إلياس بصرامة:
"اخرس! متنساش إنك واقف قدام ضابط في مهمة رسمية! خدوه."
قال راجح بتحذير:
"إلياس، متعملش كده... هتفتح على نفسك أبواب جهنم."
صرخ إلياس مرة أخرى:
"خدوه من وشي!"
صعد إلى الغرف يبحث عن طارق.
وصل رجال الأمن:
"مفيش حد يا فندم."
سأل أرسلان:
"ممكن أعرف إيه اللي حصل لكل ده؟"
رد إلياس:
"عياره فلت وخلاص... جبت آخري، يتحاكم بقى. عمك هيوصل لرانيا، متأكد من ده، فلازم نتحرك. إنت دور على الخزنة بتاعة الراجل ده، عايز أعرف كل بلاويه، قبل ما إسحاق يشم خبر. طول ما إنت هنا، محدش يقرب، فهمتني؟"
"تمام... بس ليه متأكد إننا هنلاقي حاجة هنا؟"
التفت إليه إلياس مؤكدًا:
"لإن الفيلا دي الوحيدة اللي بيلجأ لها بعد بلاويه. وبعدين، متزعلش لما حرقتله فيلته التانية. هنا كان عطوة بيقابل رانيا، وراجح كان عارف... يعني هتلاقي ديسكات كمان، فهمت؟"
"ده أنا متأكد منه... زي ما أنا متأكد إنك بتلعب بيا، صح؟"
ابتسم إلياس بحدة:
"برافو عليك... إنت نقطة ضعف إسحاق. أنا مش بلومه، بالعكس... ده شغله وأنا بحترمه."
بعد فترة، وصل إلياس إلى منزل والده يبحث عن زوجته بعدما علم بعودتها مع رؤى.
سأل الخادمة:
"مدام ميرال فين؟"
أشارت الخادمة للأعلى:
"في أوضتها يا باشا."
صعد الدرج مسرعًا، ودقات قلبه تقرع بصدره كالمطرقة كلما تذكر أنها كانت بين يدي ذلك المختل، دفع الباب بقوة، يبحث عنها بكل أركان المكان كطفل فقد والدته.
دلف لغرفة مكتبه، وجدها تجلس بغرفة المكتب، منحنية على جهازها، غارقة في عملها.
توقف، يلتقط أنفاسه الهائجة، واقترب منها بخطوات بطيئة رغم الغليان الذي يعصف بضلوعه.
رفعت عينيها نحوه، وتصادمت نظراتهما بحوار صامت، طويل، أفقدها صلابتها، فنهضت متجهة إليه، وعيناها تنطق مالم يستطع لسانها عن نطقه، اقتربت أكثر، طوقت عنقه بذراعيها، ودفنت رأسها بصدره المرتجف.
همست بصوت مبحوح مرتعش:
ـ خوفت عليها يا إلياس... خوفت يعمل فيها زي ما عمل فيا...
ارتجف جسده لهول كلماتها، وشبت النيران بدواخله، ورغم ذلك ظل جامدًا، عاجزًا عن الحراك.
رفعت رأسها، وضمت وجهه بين راحتيها، تقبله بعينين تملؤهما الدموع.
ـ عارفة إني غلطت لما خرجت برغم تحذيرك... بس هي مريضة ومقدرتش أتحمل يحصل لها مكروه... سامحني...
قالتها بنبرة شجن يشوبها الوجع، وانسابت دموعها تبلل وجنتيها وتعتصر قلبه...فلم يجد سوى أن يحتضنها، يذيب ضلوعها بين ذراعيه، بينما هي تمسحت به كقطة تائهة تبحث عن أمانها...ثم همست بخفوت مرتجف علها تصهر غضبه، تعلم أنه لن يغفر لها:
ـ رفعت عيناها الباكية، وهمست بخفوت
-حبيبي... وحشتني... وحشتني أوي أوي... خدني في حضنك ياالياس، حاسة اني عريانة وبردانة وقت مابتبعد عني
هنا انهار كل شيء... ليسحقها بدفء أحضانه الممتلئة بحبها، بل عشقها، يمرر أناملها على ظهرها وكأنه يعد فقراتها، واااه خافتة حارقة كبركان يغلي بداخله من كلماته، ود لو حطم كل ما يحزنها...همست اسمه بصوتها الباكي
-متزعلش مني، وتعاقبني ببعدك، هموت ..هنا فاق احتمال صموده واحتمال كل شيئ، ولم يتبق سوى صوت قلبين ينبضان معًا، لا يسمع سواهما في هذا العالم.
بعد عدة ساعات
ضربت الشمس عينيه فاستفاق، يبحث عنها، وما تزال جفونه مثقلة بالنعاس، شعر بثقل فوق صدره، فاستيقظ قلبه حين أحس بأنها وردته وزهرة حياته نائمة إلى جواره، تدفن رأسها بعنقه، وكفيها الرقيقان فوق صدره، نظر إليها كأنها حلم لا يريد أن يوقظه
ابتسم، وامتدت يده بتثاقل نحو جهاز التحكم ليغلق الستائر، علّه يسرق مزيدًا من الوقت معها، في هذا العالم الصغير الذي لا يسكنه سواهما...ثم عاد ينظر إليها...كأنها المرة الأولى..كأنها المرة الألف التي يقع في غرامها من جديد...تذكر حديثها قبل معركة عشقهما ليشعر بقبضة تعتصر صدره، فأقسم بداخله أن يذيق كل من يقترب منها نيران غضبه
رفع خصلات شعرها التي انسدلت فوق وجهها بأنامل كريشة مبدع، ومررها خلف أذنها برقة، ثم اقترب...وداعب طرف شفتيها بأنامله، كأنه يوقظ وردة من سباتها، وهمس بصوت ناعم، صوت عاشق لم يشبع بعد:
"بس بقى...ايه ناوية تفضلي نايمة لحد إمتى؟"
اقترب أكثر، حتى لامست أنفاسه بشرتها، وهمس عند أذنها همسًا لم يكن بالكلمات، بل بنبضات قلبه:
"صباح العشق... صباحك سمو الملكة."
رفّت جفونها ببطء، وكأنها تحاول أن تُميّز بين الحلم والحقيقة، حتى فُتحت عيناها أخيرًا، ورمشت ببطء، وهمست بصوت ناعس:
-"ملكة؟"
ضحك، ضحكة عاشق يعرف تمامًا مكانته في قلبها، ثم أمسك وجهها بين كفيه يحتضنه ككنزًا لا يُقدّر، وقال بنبرة تفيض بالحب:
"أحسن ملكة كمان... ملكة ومالكة قلبي."
اقتربت منه ورفعت نفسها إليه، حتى لامس أنفُه أنفَها، وهمست وهي تمرر أصابعها على صدره، كأنها تتأمل دقّات قلبه بأطرافها:
"إنت بقى... مش ملك، ولا حتى سلطان."
توقّف الزمن في عينيه لحظة، قبل أن تسحب رأسه نحوها وتهمس بشوق لا يحتمل:
"إنت النبض اللي بيخلي الجسد فيه روح... إنت الحياة اللي من غيرك تنطفي."
قالتها و دفنت رأسها في عنقه، تستنشق رائحته، لتملأ رئتيها، ثم . همست بصوت ممزوج بالبكاء:
"إنت عشقي المستحيل... وتاعب قلبي ..."
فهم ما تعنيه ..انحنى يقتطف زهرة من رحيق شفتيها، بل ينثر عشقه الطاغي المغلف بالكبرياء، رفعت ذراعيها وطوقت عنقه
-آسفة متزعلش مني، مشيت ورا عقلي، وقولت قلبي هيفهمني، رفعت رأسها ولثمت وجنتيه تمرر أناملها عليها
-لسة زعلان ..مقدرش على زعلك
أغمض عينيه، فيكفي ماشعر به في تلك الساعات، يكفي انها بين يديه، ارتفعت أنفاسها من صمته، ظنا أنه لم يسامحها، ولكنه اقترب واستنشقها كما لو كانت هواءه الوحيد...كأن هذه اللحظة كُتبت لهما وحدهما، خارج الزمن، خارج العالم، حيث لا شيء إلاهما، وقلبان ينبضان بنداءٍ واحد:
"أحبك... حدّ المعجزة."
دفنت وجهها بصدره ليطوقها متنهدا، ماذا فعلت به لتكون نقطة ضعفه
قاطعهم طرقات على باب غرفتهم
-في ايه ..صاح بها مع ضحكاتها وهي تدفن رأسها بصدرها..ردت الخادمة
-مصطفى باشا عايزك حالا يابيه
-تمام ..انزلي وانا جاي
اعتدلت تطالعه بريبة
-ليه عمو عايزك، فيه حاجة حصلت
نهض من فوق السرير متجهًا إلى الحمام وهو يقول
-البسي هدومك وشوفي يوسف، نزليه على الفطار، بعد كدا لازم ياكل معانا، لازم يتعلم يكون معانا دايما
جذبت روبها وارتدته متحركة خلفه:
-إلياس ماجاوبتش عليا، ايه اللي حصل
استدار يشير إليها
-ميرال انا مبحبش اعيد كلامي، ياله حبيبتي، شوفي الولد، واجهزي علشان تنزلي ..ايه مش عايزة ترجعي شغلك
-بجد ..!! قالتها وهرولت إليه كالطفلة تعانقه
اومأ مبتسمًا يشير إليها
-كدا مصطفى السيوفي هيهجم علينا في الاوضة..
بعد فترة هبط للأسفل مع اقتراب والده، و صدى صوته وهو يصرخ:
"إيه اللي انت عملته ده؟! انت عايز تقرّب موتك يا ابني؟!"
رد عليه إلياس بثقة:
"بابا، واحد بيدعم خلايا إرهابية، ولقينا في بيته ما يدل على كده. إيه حضرتك نسيت إني ضابط وبشوف شغلي؟"
صرخ مصطفى:
"انت كده بتكتب شهادة وفاتك يا غبي!"
"وأنا راضي... بدل ما أعمل الصح!"
تدخلت فريدة، بقلب ينتفض ألمًا:
"إحنا مش بنصعب عليك... هو أنا حرام عليا أتهنى بيكم شوية؟! ليه الوجع والألم مكتوبين على فريدة بس!"
استدار إليها إلياس بعينين دامعتين:
"وحقك، وحق أبويا، وحق أخويا، وحق الكذبة اللي عشناها... مستقبلنا اللي بقى على الريح... حياة مراتي، ابني لما يكبر ويعرف إن جده كان إرهابي... إيه يا ماما؟ نسيتي حياتنا مع بعض كانت ازاي؟! نسيتي الراجل ده عمل فيكي إيه؟! وأنا بتعامل معاه بالقانون... بس بهدوء يا مدام فريدة.
لازم كل واحد ياخد حقه... وقبل ده كله، لازم أعرف الراجل ده ليه عمل فينا كده... وهل ليه يد في موت بابا ولا لأ.
بس هعرف بطريقتي... بطريقة إلياس السيوفي."
قاطع صوت إيلين من الخلف، بعينين مغرورقتين:
"وأنا كمان عايزة أعرف... أنا بنت مين؟
↚
"لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
"اللهم انك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا"
في كل حياة، لحظة تشبه السقوط بلا هاوية...
ونبضة لا تُشبه سواها،
تشطر القلب نصفين؛
نصف ينجو، ونصف يظل عالقًا فيه.
هناك كلمة… لم تُقال،
لكنها تظل تصرخ في الصدر كل ليلة.
وهناك نظرة… لم تستأذننا،
لكنها سكنت الذاكرة كأنها بيتها الأول.
وهناك وجع... لا نُفصح عنه،
لأن اسمه وحده يُبكينا!
لم يكن مجيئك صدفة…
كنتَ قادمًا من سطر مكتوب في الغيب،
كأنك الجزء الناقص من دعائي القديم…
جئتني كأنك الردّ المتأخر،
الذي لم يفقد أثره رغم تأخره.
أحببتك كما لم أفعل من قبل…
أحببتك بصوتي الذي خَفت،
بدمعي الذي لم يره أحد،
بحرفي الذي ارتجف كلما كتبتك…
أخبروا ذاك الذي تنفّسني:
أنه حين حضر، زُرعت في صدري زهرة،
وحين غاب… ماتت كل حدائقي!
أخبروه…
أنني كنت أبحث عن طمأنينة،
فجاء كعاصفة تحملني ثم تذريني شظايا.
أنه كان هدنةَ قلبي،
ثم صار الجبهة التي لا تهدأ!
واسألوه…
أي قلبٍ ذاك الذي لا يرحم؟
كيف يأتيني وأنا أحتاجه كالماء،
ثم يتركني أختنق في غيابه كالغريق؟!
أنا تلك التي…
دخلت عينيه بريئة كطفلة،
وخرجت منه مُحطّمة كأنثى عبرت كل الحروب…
فهل سمعتم يومًا عن قلبٍ... ضاع وهو ينبض؟!
#ابطال_شظايا
مساء الخير يارب تكونو بخير
الفصل دا ربنا اعلم انا كتبته ازاي، بنتي تعبانة جدا جدا، ادعولها ربنا يشفيها
مش طالبة غير انكم تدعموني وبس، الرواية والله تستاهل اكتر من كدا، مش بشكر في نفسي، بس بجد متعوب فيها، وقلة قليلة من الكاتبات اللي تلاقوهم يكتبوا اكتر من كابل، لانه بيكون إرهاق ذهني جدا جدا على الكاتب علشان كدا المعظم بيكتب كابل او اتنين بالكتير، وانا صراحة مش عارفة اتعامل مع كابل واحد، فرجاء شوية دعم منكم ..عارفة الفصل دا مش كبير زي مااتعودوا بس والله ظروفي اقوى مني، وانا مبحبش كل شوية اعتذر، وترجعوا تقولوا دي بتدلع
ندخل على الفصل اللي اتمنى أن ينال إعجابكم..وياريت متنسوش الفووووت، واخيرا حبيت اشكر الحلوين اللي بيرشحوا الرواية في الجروبات...
اقتربت إيلين منهما، توِّزع نظراتها بين الوجوهِ المرتبكة، قبل أن تهتفَ بصوتٍ متقطِّعٍ مشوبٍ بالبكاء:
- أنا بنتِ مين ياخالتو؟ فعلاً بابا محمود مش أبويا؟!
صاعقة اجتاحت جسدَ فريدة، فارتجفت نظراتها وهي تحدِّقُ بها بذهول، تهمسُ بانكسار:
- إنتي بتقولي إيه يابنتي؟!
قالتها واقتربت منها تحتضنُ وجهها المرتجف، بدموعها وجسدها الذي انتفض بقوة، أجفلت إيلين بخطوةٍ إلى الخلف، وهي تهمسُ بانكسار:
- أمِّي..خانت أبويا؟! الكلام دا حقيقي؟!
صحيح أنا...أنا بنتِ حرام؟!
قالتها مع انهيارِ جسدها الذي خانها، وسقطت بين ذراعيّ فريدة التي مازالت عاجزةً عن استيعابِ ماسمعته.
في تلك اللحظة، وصلت ميرال مسرعة، تنظرُ بذعرٍ بين الوجوه، حتى استقرَّ بصرها على إيلين التي كانت تبكي بشهقات، تهتفُ من بين أنينها:
- أنا بنت مين ياخالتو؟ مين أبويا؟! راجح قالِّي أسألك إنتي...إنتي الِّلي تعرفي.
اهتزَّت ملامحُ فريدة، تحرك رأسها بالنفي، وعيناها تسبحانِ على مصطفى والياس، ثمَّ همست بخفوت:
- أنا مش فاهمة حاجة، يعني إيه "هيَّ بنتِ مين"؟..ثمَّ نزلت ببصرها إلى إيلين: إنتي بتقولي إيه؟!
صرخت إيلين بألمٍ ممَّزق:
- مش عارفة! إنتو المفروض تقولولي.
نهضت فريدة، بجسدٍ مترنِّحٍ وردَّت:
- أقولك؟...أقولِّك إيه يابنتي؟!
خطا إلياس إلى جلوسها وأشار إلى ميرال:
– ساعديها يا ميرال، عايز أفهم هي بتقول إيه.
لكن قاطعهم وصول آدم، وهو يهتف بفزع:
– إيلين!
أسرع نحوها، جاثيًا ، يحيط جسدها بين ذراعيه، يساعدها على النهوض:
– كده تقلقيني عليكي...
رفعت إليه عينيها الباكيتين، وهمست برجاء مهزوز:
– قولهم الحقيقة يا آدم، قولهم... أنا مش بنت...
ضمها لصدره بحنان، يربّت على ظهرها، يحاول تهدئة نوبة بكائها:
– اشش اهدي حبيبتي، مش صح اللي سمعتيه، مش...
تراجعت مبتعدة عن أحضانه، وهمست بانكسار:
- برضو يا آدم؟!
تدخّل إلياس بنفاد صبر:
- ممكن أفهم فيه إيه؟ وليه الدكتورة جاية هنا وبتسأل "هي بنت مين"؟ إيه يا آدم؟ عايزين نفهم!
هز آدم رأسه وهو يقول بنبرة متوترة:
- مفيش حاجة يا إلياس... إيلين بس تعبانة من الحمل... لازم نمشي دلوقتي.
طالعتهُ إيلين بذهول، ثمَّ التفتت إلى إلياس:
– راجح بيقول إنِّي مش بنتِ محمود!! - يعني إيه؟ وامي مالها، مش فاهم...تساءلَ بها إلياس..
اقتربت من فريدة التي ظلَّت صامتة، تنظرُ في نقطةٍ بعيدةٍ وأردفت:
– إيه ياخالتو؟ مش عايزة تتكلِّمي؟
استدارت إليها فريدة، تنطقُ أخيرًا:
– راجح؟ يعني قالِّك إنِّك مش بنتِ محمود؟ أنا أعرف إنِّ راجح كان قريب أوي من والدتك...بس معرفشِ يقصد إيه..وبعدين إنتي اتولدتي بعد ماجمال مات بسنين، والوقت ده ماكنتش أعرف عنُّكم حاجة...
ثمَّ التفتت إلى مصطفى:
– وقتها طلبت من مصطفى يدوَّر على زين، فاكرة وقتها زين كان مسافر مع زهرة ونورا، يعني معرفشِ حاجة من الِّلي بتقوليه.
تراجعت إيلين للخلف، وكأنَّ كلمات فريدة أعادت لها وعيها المسلوب..
أطلقت ضحكةً قصيرة، وهزَّت رأسها، ثمَّ نظرت إلى آدم:
-يعني عمو جمال، مات قبل مااتولد بسنين، أيوه...صح! افتكرت، لمَّا خالو كان بيقول لماما إنُّه دوَّر عليكو كتير...يعني كده ماما ماخانتش بابا مع عمُّو جمال.
شهقت فريدة بذهول، ثمَّ اقتربت منها وعيناها تتفجَّرُ بالصدمة:
– إنتي بتقولي إيه؟! مين؟! جمال ونورا؟! يعني راجح قالِّك إنِّك بنتِ جمال؟!
قاطعهم ضحكُ إلياس الصاخب؛ ظلَّ يضحكُ بطريقةٍ هستيريةٍ حتى أدمعت عيناه، اتَّجهت ميرال تنظرُ إليه بحزنٍ ممزوجٍ بالوجع...إلى متى ستظلُّ تنزف من ذلك الرجل؟
– معرفشِ بتضحك على إيه ياحضرةِ الظابط؟...قالتها إيلين..
تراجع يهزُّ رأسه، ومازالت ملامحهِ تنطقُ بالتهكُّم، حتى هوى على المقعدِ مشيرًا إلى مصطفى:
– شوفت فُجر أكتر من كدا ياحضرة اللوا؟ دا حتى الموتى ما سلموا منُّه، وحضرتك زعلان على اللي عملته!
لا، والدكتورة العبقرية صدَّقته! طيب واحد متخلِّف، إنَّما عقل الدكتور كان في فسحة!
– إلياس، لو سمحت، مينفعشِ أسلوبك دا.
هكذا نطقها آدم، بينما خطت إليه إيلين وقالت:
– أنا معرفشِ إيه الِّلي في الموضوع مضحك ياحضرة الظابط...بس اتفضل، علشان تبقى تضحك كويس.
قالتها وهي تُخرجُ ورقةً مطوية من جيبها...
-اتفضل اقرأ دي وقولِّي رأيك.
ألقى الورقة دون أن يفتحها ثمَّ نصبَ عودهِ وتوقَّف أمامها:
-واحد ميت بقاله تلاتين سنة، وإنتي عندك اتنين وعشرين سنة، إيه جابك من تحت القبر؟.
هزَّت رأسها ولمعت عيناها بالدموع:
-أيوة أنا مكنتش اعرف أو ماأخدتش بالي، بس أفهم الكلام دا..قرأ مابين السطورِ سريعًا ثمَّ
استدار لوالدته:
-أروح أقتل الراجل دا، قولي لي أروح أقتله دلوقتي ولَّا أعمل إيه دلوقتي؟.
ثمَّ استدار إلى إيلين:
-وإنتي يادكتورة إزاي تصدَّقي كلام معتوه زيِّ دا؟!.
صاحت ببكاء:
-لأن الورقة مش راجح الِّلي إدهالي، خالو لقيها في حاجات تانية لماما
هرولت فريدة تختطفها تقرأُ سطورها بدموعها، رفعت رأسها إلى إلياس:
-أنا مش فاهمة حاجة، إيه علاقة جمال باللي بيحصل؟..
جلسَ مصطفى متمتمًا:
-الراجل المذكور في الورقة يافريدة، ابنِ أخوه هوَّ اللي خطف ولادك..
التفتت إليهِ سريعًا عاقدةً جبينها بجهلٍ من حديثه، توجَّه إليه إلياس متسائلًا:
-وحضرتك عرفت منين يابابا؟!.
-زين..جالي من فترة وكان عايز يربط الأحداث برضو، وأنا عرفت بطريقتي.
ارتجف قلبهِ وهو يردِّدُ السؤال، فتساءلَ بلسانٍ ثقيل:
- يعني...موت بابا كان بسبب طنط نورا؟
- معرفش ياابني..بس الأهمِّ من ده، ليه راجح اتَّهم جمال بكده؟ هوَّ مش عيل، وعارف إنِّ لعبته باينة.
- أنا هاعرف..
قالها بنبرةٍ صارمة، وخطا خطوتين ولكنَّه توقَّف على صوتِ آدم المتردِّد:
– أنا قابلته امبارح، ياإلياس، وسألته.
التفتَ إلى إيلين، وتجلَّت عيناهُ بالحزن:
– للأسف...هوَّ مصرّ إنِّ عمُّو جمال اتقتل بسبب عمِّتو، وقالِّي: "اسأل طنط فريدة".
تاهت نظراتُ فريدة في الفراغ،
وتغوصُ في ماضٍ رفضَ أن يُدفن.
– أنا...معرفشِ حاجة، الِّلي أعرفه إنِّ نورا كانت بتحبِّ واحد اسمه سمير الدمنهوري...وكان له أخ، اسمه عزت..ده كان عايز يتجوِّزني، بس عمِّي رفض، واتجوِّزت جمال...الموضوع ماأخدشِ حاجة، تذكَّرت شيئًا فاسترسلت:
– عزت كان بيحبِّ نورا، حاول مع عمِّي كذا مرَّة، بس عمِّي ماكانشِ بيحبُّه وسمعته كانت وحشة أوي.
شهقت إيلين، وارتجفَ صوتها كمن اكتشفَ جرحًا قديمًا لم يندمل.
- يعني..أمِّي كانت بتحبِّ حدِّ تاني؟
- حبيبتي..إيه الِّلي بتقوليه ده؟ أمِّك دلوقتي بين إيدين ربِّنا...
- خالتو فريدة..أنا تعبت..من وأنا صغيرة، وبابا بيعاملني كأنِّ ماليش وجود في حياته، وكنت بسأل نفسي ليه بيعاملني كدا، لوحت بيديها تتراجع بجسدها ودارت عيناها بالمكان بتيه:
- كان بيبصلي كإنِّي غلطة!
هزَّت فريدة رأسها، وارتجفَ صوتها تدافع عن نورا:
- اسكتي يابت، أنا عمِّي ربَّاني على الدين، وعلى الأخلاق..معرفشِ ليه أبوكي كان بيعمل كده، بس الِّلي واثقة منه...والدتك ما كانتشِ هتخون ربِّنا مهما حصل.
ارتسمت السخرية على وجهِ إلياس، لكنَّها لم تخفِ انكساره..
– ورانيا؟ ماكانشِ عمِّك مربِّيها برضه؟
أنا عايز أفهم...أبويا كان له أية علاقة بعزت وسمير؟
- سمير...تمتمت بها بشرودٍ قائلة: كان عايز يشارك أبوك في شغل..رفض، بس سمعته كانت وحشة...
هنا، ربط إلياس الأحداث وما فعلهُ عطوة ، كأنَّ الماضي القاتم فردَ ذراعيهِ أمامه..
اقتربَ من والدته، وأردف بصوتٍ جاد:
- سمير ده...لو ورِّيتك صورته، هتعرفيه؟
لكن مصطفى قاطعهُ بحدَّة:
- إلياس، ابعد عن الِّلي في دماغك ما تدخَّلشِ والدتك في صراعات.
- صراعات؟! صاح بها إلياس، عيناهُ تشتعلانِ بالغضب.
-حضرتك مش شايف الِّلي حوالينا؟ مش شايف إنِّنا بنغرق؟
ولم يُكمل...إذ قطع صوتُ آدم وهو ينادي باسمِ زوجته، وجسدها يترنَّحُ كأنَّ الحياةَ انسحبت منه فجأة، لتسقط بين ذراعيهِ كدميةٍ فقدت خيطها.
في مكانٍ آخر، وتحت سقفٍ مظلم:
دفع أرسلان الباب بقوَّة، دخل كأنَّه عاصفة، لا هدوءَ فيها ولا رحمة..جلس على المقعدِ بالمقلوب، وعينيهِ تراقب راجح كصقرٍ ينقضُّ على فريسته.
– إزيك يارجوحة؟ عامل إيه؟
– يارب تكون مستريَّح في ضيافتنا...
لوى راجح شفتيهِ ساخرًا، ثمَّ مال إلى الأمام، مستندًا على الطاولة:
– تعرف؟ أنا بكرهك..عارف ليه؟ عشان شبه أبوك...شبههُ بالضبط.
لم يحتمل أرسلان تلك الكلمات، فجذبهُ من ياقةِ قميصه، عينيهِ تقدحانِ شررًا:
– صدَّقني...مش هرحمك.
تراجعَ راجح، يحاولُ الحفاظَ على توازنه، وابتسامةً متعجرفةً ترتسمُ على وجهه:
– ولا هتقدر.
– بالعكس...
بالعكس ياراجح، جيت تحت إيدي، وأوعدك هدفنك قريب..
-اتكلِّم على قدَّك يابنِ جمال، لأن الِّلي قدَّامك مش أهبل..وبكرة ولَّا بعده بالكتير هتلاقيني برَّة زنزانتك دي، ومش بس كدا، هطلَّع عليكم القديم والجديد.
توقَّف أرسلان يرمقهُ بتهكُّمٍ قاسٍ، واردف بصوتٍ يقطرُ سخريةً وغطرسة: – خليك واثق ياراجح… يمكن الوهم دا ينفعك..
تراجعَ راجح خطوة، وعيناهُ تتَّقدُ بتحدٍّ عنيد، كأنَّ الشررَ يتطايرُ منها:
– هات أخرك ياابنِ الجارحي…لحدِّ دلوقتي إنتَ قدَّام الكلّ ابنِ الجارحي، وده اللي مخلِّيك واقف قدَّامي، ماسك نفسك..إنَّما لو قرَّرت تبقى ابنِ الصيَّاد..ساعتها هتبوس التراب الِّلي بمشي عليه، ويمكن…يمكن تطلب الرحمة برجلي...بينا تار
انحنى ارسلان للأمام، يستندُ بمرفقيهِ على الطاولة، وهتف بصوتٍ ينزفُ نارًا مكتومة:
-زي ماقولت بالظبط بينَّا تار…مش جاي أطلَّع منَّك كلام لأنَّك خلاص اتحرقت، ثمَّ أومأ بخفَّة، يتراجعُ ببطء، وصوتهِ ينخفضُ كنذيرِ موت:
– أيوه…بتار. والتار لازم يتصفَّى...
-هنشوف مين الِّلي هيقضي على التاني.. قالها راجح باستخفاف
قهقه أرسلان وهو يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
- البجح بيهدِّد..انحنى وغرز عينيهِ بمقلتيه:
-إنتَ بجح ياراجح، وبجاحتك عدِّت الليفيل.
-فريدة عاملة إيه؟..قالها راجح بعيونٍ متهكِّمة، وفمٍ مزمومٍ ثمَّ تراجعَ بعدما تغيَّر وجهُ أرسلان،
وقبل أن يبتعد ، كان أرسلان قد وصل إليه في رمشة عين، وكفاه تطبقان على عنقه، وعيناه تشتعلان بجحيمٍ لا يُحتمل، يهتف من بين أسنانه بفحيح شيطان:
– هقتلك… ورحمة أبويا لأقتلك!
اندفع الباب بعنف، ودخل إلياس كعاصفة هوجاء، دافعًا أرسلان بعيد عنه بكل ما أوتي من قوة، وصرخ بانفعال
: – أرسلاااان!! إيه اتجننت؟ ابعِد إيدك!
تهاوى راجح على الأرض يتلمّس عنقه، يسحب الهواء بأنفاسٍ مقطّعة، بينما رمقه إلياس بنظرة باردة كالموت:
-لسه روحك معلّقة يا راجح؟! ربنا لسه ما أذنش… بس قريب، قريب جدًا.
ثم التفت بعنف نحو أرسلان، وقال بنبرة مرتفعة كالسياط:
- اطلع برّة… إنت دخلت من غير إذني، مين سمحلك أصلاً؟!
ركل أرسلان المقعد برجلهِ في نوبةِ غضبٍ مكبوت، وخرج دون كلمة، بينما أطلقَ راجح ضحكةً ساخرةً تخترقُ الصمت:
- إيه؟ ماتتخانقوش عليَّا ياولاد جمال…اهدوا بس.
اقترب إلياس، ودفعَ الكرسي بعيدًا بحدَّة، وأشار نحوهِ بازدراء:
- قوم…مين سمحلك تقعد؟!
ثمَّ صرخ على العسكري:
– خد الكرسي والترابيزة دي برَّة…مش عايز في الأوضة دي ولا مسمار، نزِّلوا درجة الحرارة تحت الصفر، وغرَّق الأوضة ميَّة ساقعة…عايز القرف ده يتحبس في تلج وجحيم.
انحنى إليه بعينينِ تقدحانِ نارًا:
– بقى ياأهبل…تقول للدكتورة إنَّها بنتِ جمال؟! دي محتاجة عيِّل مجنون علشان يصدَّقك، مش عاقل.
نهض راجح دفعةً واحدة، واشتعلت عيناهُ بنيرانِ الانتقام:
: أيوه قلت…ليه؟ مش مصدَّقين؟
قهقهَ إلياس كالمجنون، حتى ارتطمَ صدى ضحكتهِ بجدرانِ الغرفة
وتزلزلت، ثمَّ دفعهُ فجأةً ليصطدمَ بالحائط، شهقةُ ألمٍ حادَّة انفلتت منه، ليقتربَ إلياس أكثر، وصوتهِ صار كأداةِ تعذيب:
– أبويا الِّلي ميت من تلاتين سنة يخلِّف؟!
سكن راجح لحظة، ثمَّ انفجرَ ضاحكًا بصوتٍ أجش:
– أبوك بقى…وقوِّته الخارقة.
دارَ إلياس حول نفسهِ كمجنونٍ فقد عقله، وأناملهِ تحت ذقنه، يهزُّ رأسهِ وهو يقول:
– قوَّة خارقة؟ أيوه عندك حق، ماهو أبويا، يعني لازم يكون كامل متكامل، قالها وتوقَّف يتطلَّعُ إليهِ قائلًا:
- واحد ميِّت، يخرج من القبر يخون مراته اللي هوَّ بيحبَّها، وأخدها منَّك، يخونها مع بنتِ عمَّها…ويخلِّف كمان؟ والأدهى إنَّها متجوزة؟ أصدَّقك؟ طبعًا…عشان خيالك المريض عايش في حفرة عقلك، مفكَّر الرجالة كلَّها زيك، حرام ماهو الِّلي اتعمل فيك بقيت، بترتِّب سينورهات خيالية، إنَّما أخبار جرحك إيه؟..بتغيَّر عليه؟.
تجهَّم وجهُ راجح، وأردفَ بنبرةٍ وحشية:
- وحياة أمَّك ياابنِ جمال…ماهعدِّيها، لازم أعمل فيك زيِّ الِّلي عملته.
أطبق على عنقه وتحولت عيناه لجمرة نارية
- اقطع لسانك، اقسم بالله اقطعه من غير مايرف لي جفن، امي دي ملكة متوجة الحقراء اللي زيك ممنوع حتى خيالهم المريض يذكروها..
دفعه بغضب بعدما شحب وجهه، ثم نفض كفيه مع سعال راجح..توقف يرمقه:
-عم ..انت عم انت، الحيوان ارحم منك..اللي يعمل في اخوه كدا يبقى الحياة حرام عليه
-هندمك يابن جمال، والله لأخد حقي، وهعرفك ازاي تمد ايدك علي، حاوط جسده ورمقه مستهزئا، وهعمل فيك زي اللي عملته واكتر كمان، ودا وعد مني
ضحكَ إلياس باستهزاء، واقتربَ منه، يسجنهُ بينهِ وبين الجدار:
– ومستنِّي إيه؟ أنا قدَّامك…وريني.
شعر ببرودةِ الغرفة، الضبابُ يتكاثف،
أشار إلياس لملابسهِ قائلًا:
-اخلع.
تراجعَ راجح، بعدما تغيرت ملامح إلياس إلى جبروت، ونطق بصوتٍ مبحوح:
– أخلع إيه يامجنون؟!
لطمهُ إلياس بقوَّةٍ أسقطته، وهتافٍ مرعب:
– اخلع هدومك، هعيِّشك كلِّ ليلة في جحيم…علشان تفهم إنِّ جمال خلَّف رجّالة، همسَ بجوارِ أذنه
- ولسة هعمل فيك أسوأ ماتتخيَّل، كلِّ دمعة نزلت من عين أمِّي، هنزلَّها من جسمك دم..مرَّر كفَّيهِ على جنبه:
-الكلية شغَّالة حلو صح؟..تراجعَ راجح ينظرُ إليه بذعرٍ من حديثهِ المبطَّن..
مطَّ إلياس شفتيه:
-متخافش، هسبها شغَّالة شوية، فيه حاجة تانية بفكَّر فيها بس مش هقولَّك..خلِّيها مفاجأة، قالها بغمزة،
ثمَّ صرخ للسجَّان:
– عايزه من غير هدوم..ونفِّذ الِّلي قولته بالحرف.
تحرَّك بضعَ خطواتٍ ثمَّ عاد، وانحنى نحوه، يحرقهُ بعينينِ تشتعلانِ بالدم:
– سمير الدمنهوري هوَّ الِّلي قتل أبويا علشان طنط نورا..صح؟! زي ما قالَّك تضحك على البنتِ وتفهَّمها إنَّها بنتِ حرام؟ بس إنتَ وهوَّ أغبى من إنُّكم تحسبوها صح.
ارتجفَ راجح، وتمتمَ بصوتٍ مبحوحٍ برجاءٍ يائس:
– إلياس…طلَّعني من هنا، صدَّقني… هتموت لو فضلت حابسني!
نظر إليه إلياس، يضغطُ بإصبعهِ على صدره:
– أموت؟! علشان حابسك؟
اعتدل، يرمقهُ بنظرةٍ ساخرةٍ ثمَّ خرجَ تاركًا خلفهِ جحيمًا يتوسَّدُ الألم..
بمنزلِ زين..
دثَّرها جيدًا يمسِّدُ على خصلاتها بحنان، استمع إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة:
-ادخل...دلفت مريم تتطلَّعُ إلى أختها بقلبٍ ينتفضُ رعبًا:
-مالها إيلين ياآدم، ليه جايبها بالشكل دا؟!..
تنهَّد محاولًا السيطرة على آلامِ قلبه التي تنزفُ بسبب ماتعرَّضت له، أشار إلى مريم:
-مريم خلِّيكي جنبها، أوعي تسبيها لوحدها لحدِّ ماأرجع.
أطبقت على ذراعيهِ ورفعت عيناها إليه تتساءل:
-إنتَ مخبِّي عليَّا إيه يابنِ خالي؟.
هزَّ رأسهِ وتحرَّك دون أن ينطقَ بحرف..
بعد فترةٍ وصل إلى منزلِ محمود والدها، فتحت سهام وتوقَّفت تعقدُ ذراعيها على صدرها:
-خير يادكتور، جوز عمِّتك مش موجود ومينفعشِ أفتح لك الباب.
دفعها بغضب حتى هوت على الأرضيةِ أمامه، ثمَّ سحبها من خصلاتها مع صرخاتها:
-أنا اتحمِّلتك كتير، وحاولت أتغاضى وأقول ست، بس إنتي طلعتي بنتِ ستين ك..لب ياحيوانة، فضلتي تملِّي دماغها بالسم، إنتي الِّلي قولتي لها إنَّها مش بنتِ محمود صح؟..
-اااه ..قولتها، ومش بس كدا، الغبية عملت تحليل وانا زورتها، لازم احرق قلبها زي ماامها حرقت قلبي، بسببها اتجوزت ابوها
-إنت شيطانة..!!
قالها بصوتٍ صاخبٍ حتى فزعت تتراجعُ بجسدها وأشارت بسبَّباتها:
-هودِّيك في داهية، إزاي تهجم عليَّا، إنتَ مفكَّر البلد مفيهاش قانون والله..
لم تُكمل حديثها حينما اقترب منها وتناسى أنَّها امرأة وبدأ يلكمها بكلِّ ألمٍ شعرت به زوجته، ارتفعت أنفاسهِ يطالعها بنظرةٍ مشمئزةٍ ثمَّ بصقَ عليها:
-اتحمِّلي اللي جاي يانكرةِ الستَّات، قولتها لك زمان الِّلي يقرَّب من مراتي هدفنه..قالها وخرج كالماردِ متَّجهًا إلى سيارتهِ وقام برفعِ هاتفه:
-مراتك لو قرَّبت من مراتي هنسى إنَّها ست، أنا عذرتك زمان وقولت حقُّه يعمل اللي بيعمله، بس دلوقتي مابقتشِ بنتِ مراتك، دي مرات آدم الرفاعي..قالها وأغلقَ الهاتف ودقَّاتُ قلبهِ في تسارعٍ كدقَّاتِ طبولِ حرب.. وبدأ يطرقُ بقوَّةٍ على المقود، قاطعهُ رنينُ هاتفه:
-أيوة ياإلياس؟.
-مراتك عاملة إيه دلوقتي؟.
-كويسة الحمدُ لله..
سحبَ إلياس نفسًا وزفرهُ ببطئٍ وتساءل:
-إنتَ كنت تعرف الحوار دا؟..يعني هيَّ قالت أبوها كان بيعاملها وحش و..
قاطعهُ قائلًا:
-سمعت حوارات بس بابا مصدَّقشِ حاجة، بس حقيقي أنا ضايع..معقول تكون مش بنتِ عمُّو محمود؟..
رد إلياس بهدوء رغم غليان صدره:
-نتيحة التحليل تظهر وكلِّ حاجة هتبان، أنا دلوقتي بربط الخيوط وربِّنا يسهِّل، بدل راجح مش هيتكلِّم يبقى رانيا هتتكلِّم..
عند أرسلان..
وصل إلى مكتبِ إسحاق، دلف إلى الداخلِ وألقى التحيةَ على الحاضرين أمام شاشةِ العرض الضوئية..أشار إليه إسحاق بالجلوس، ثمَّ واصل حديثهِ بنبرةٍ صارمة:
-دلوقتي فيه كذا شخص مشكوك فيهم، والقبض على راجح هيعمل بلبلة وتخبُّط..هيحاولوا يقتلوه، خصوصًا إنُّه مأمِّن نفسه كويس، وزي ما قالُّهم: "أنا مابوقعش لنفسي".
تساءلَ أرسلان، وقد بدت الحيرة في عينيه:
- عذرًا ياباشا..ليه الدول دي بتموِّل الناس دي؟ يعني هيستفيدوا إيه؟
سحبَ إسحاق أحدَ المقاعد وأشار لأحدهم أن يعرضَ شيئًا على الشاشة:
- شوف الخريطة دي وإنتَ هتعرف..
إنَّما المهمِّ دلوقتي مفيش خيط واحد يطلع من المكتب ده..لازم نعرف الشخص المدَّاري بينهم..وأنا متأكد إنُّه مش مصري.
ردَّ أرسلان وهو يومئُ برأسه:
-وأنا كمان.
أشار إسحاق إلى الأوراقِ الموزَّعةِ أمامهم:
-كلِّ واحد مهمِّته قدَّامه ياشباب، ناخد بالنا...الحذر، ثمَّ الحذر.
- تمام يافندم.
خرجَ الجميع، إلَّا أرسلان بقيَ جالسًا، يحدِّقُ في الورقة أمامه، ثمَّ زفر بحرارةٍ مشتعلة، رفع رأسهِ وقال بامتعاض:
- وبعدين ياعمُّو؟ حضرتك وعدتني الشغل هيكون جوَّه مصر...ليه غيَّرت كلامك؟
نهض إسحاق وربتَ على كتفه:
- علشان ماعنديش غير صقر واحد أقدر أراهن عليه، وأنا دايمًا مطمِّن وواثق فيك.
هزَّ رأسهِ باعتراض:
- عمُّو إسحاق، أنا قولت لحضرتك عايز أعيش في هدوء، أربِّي ابني وإنتَ وافقت، أنا مش مسافر تاني.
ناظرهُ إسحاق بثقل:
- أرسلان، راجح هيهرب، ومفيش غيرك يعرف يلاحقه وده آخر كلام، ومش عايز معارضة...فهمت ولَّا لأ؟
قهقهَ أرسلان حتى اهتزَّ جسده، ثمَّ هدأ فجأةً ونظر إليه بعينينِ تضجَّانِ بالمرارة، ولكن أردفَ إسحاق:
-عارف هتقول إيه...إزاي هيهرب؟ أنا الِّلي ههرَّبه، وساعتها روح قول لأخوك علشان أسجنك مكانه، أنا لازم أحمي بلدي، وعارف ومتأكد إنُّه هيحاول يوصلهم في اللحظة اللي بيخطَّطوا يقتلوه فيها.
- طيب، لمَّا يموت...هستفيد إيه من مراقبته؟
ردَّ إسحاق وهو يشيرُ إليه بالانصراف:
بعدين هقولَّك...قوم دلوقتي، عندي شغل مش فاضي للرغي.
نهضَ أرسلان وقال بمرارة:
-واللهِ؟! طيب شوف شغلك.
تحرَّك حتى وصل لدى الباب..ناداهُ إسحاق بصرامةٍ لم تخفَ فيها شفقةً خفيَّة:
- أرسلان، لو إلياس عرف حاجة... وقتها أنا مش هسامحك.
توقَّف أرسلان لحظة، ثمَّ التفتَ إليه وقال بهدوء:
- أنا مش هقولُّه حاجة..بس هوَّ مش هيسيب حد يقرَّب منُّه..عمُّو، الراجل اللي بنقول عليه "عمِّنا"... إيده ملطَّخة بدمِّ أبويا، اللي لحدِّ دلوقتي منعرفشِ اتقتل ليه.
ثمَّ أردفَ بهدوءٍ قاتل:
بعد إذنك ياعمُّو..قالها وانصرف.
بعد قليل، وصل إلى منزله..وجد غرام تحملُ طفلهما كالعادة، دلف للداخلِ ملقيًا مفاتيحه، ثمَّ هوى بجسدهِ المُثقل على الأريكة..
وضعت طفلها في مهده، ثمَّ اقتربت منه، عيناها تحتضنُ ملامحهِ المتألِّمة، إذ بدا عليها أنَّه يحملُ ثقلَ الدنيا فوق كتفيه.
جلست مقابلتهِ على الطاولة، تناديهِ برفق:
- أرسلان...!
لم يرد...انحنت ترفعُ رأسهِ التي كان يطمرها بين راحتيه..عانقتهُ بعينيها:
-حبيبي مالك؟.
تمتمَ بمرارة:
- بابا مات مقتول يا غرام...يعني مش قضاء وقدر.
شهقت، ولمعت عيناها بطبقةٍ كرستاليةٍ أوجعتها، ثمَّ اقتربت منه أكثر وجلست إلى جواره:
- طيب ياحبيبي...إنتَ كنت شاكك، يعني كان وارد ده، ليه الصدمة دي؟
مسح وجههِ بكفَّيه، وزفرَ بقوَّة، ثمَّ هزَّ رأسه نافيًا:
-الشكّ حاجة...والحقيقة حاجة تانية خالص، منكرشِ كنَّا متوقِّعين، بس لمَّا تتأكِّدي..ولمَّا تكتشفي إنِّ عمِّك شريك في ده...ده وجع ملوش حدود.
سحبتهُ إلى صدرها، تضمُّ رأسهِ إلى قلبها، تتحسَّسُ نبرةَ صوتهِ التي تشي بكسرٍ داخليٍّ حاد.
- طيب حبيبي، ممكن تهدى؟ وإن شاء الله كلُّه هيعدِّي.
لكن دمعة غائرة سالت على خدِّهِ رغمًا عنه.
- أنا تعبان...وواقف في النص، لا قادر أساند شغلي، ولا قادر أجيب حقِّ أبويا الِّلي اتغدر بيه..الموضوع طلع أكبر من كلِّ توقعاتنا..
عند يزن..
استيقظَ من نومهِ يعتصرهُ صداعًا يكادُ يفتكُ برأسه...مدَّ يدهِ إلى هاتفِ الغرفة وطلب دواءً وقهوتهِ المعتادة، ثمَّ عاد واستلقى على الفراش، عيناهُ على الساعة، وكفَّاهُ فوق جبينه، محاولًا التماسك..
عاد بذاكرتهِ إلى ماحدث ليلةِ البارحة...فأطبق على عينيهِ بقوَّة، حتى كاد أن يُدمي شعيراتها الدموية..ظلَّ للحظاتٍ على حاله، أنفاسهِ تتسارعُ كلَّما تذكَّر كلماتها التي ألهبت كيانه، وجعلت من جسدهِ فوهةُ بركانٍ على وشكِ الانفجار..انتفضَ من مكانهِ فجأة، عندما فقدَ السيطرةَ على غضبه، قاطعهُ طرقًا خفيفًا على بابِ الغرفة..
أمر بالدخول..دلفت العاملةُ وهي تجرُّ عربةً تحوي طعامهِ وماطلبه...دقائقَ قليلة ومضت مغادرة، اتَّجه يزن مباشرةً نحو علبةِ الدواء، ابتلع قرصًا سريعًا، ثمَّ حمل كوبَ قهوته، وأشعلَ سيجارته..خرج إلى شرفةِ الغرفة، جلس على المقعد، وأطلقَ بصرهِ تائهًا في أرجاء المكان..إلى أن وقعت عيناهُ على فتاةٍ تُشبهها..تشبهُ معذِّبته، لكن هناك فرقٌ شاسعٌ بين الاثنتين؛ تلك تقفزُ كطفلةٍ اجتازت الامتحان بتفوُّق، بينما تلك..قد سكن الألمُ ملامحها حتى باتت كتمثالٍ شاحبَ الروح.
تنهَّد وتراجعَ في جلسته، رفع ساقيهِ على المقعد، ونفث دخانَ سيجارتهِ مرَّة، وارتشفَ من قهوتهِ مرَّةً أخرى.. عاد بذاكرتهِ إلى تلك الليلة...ليلةٌ كُتبت بمدادِ النبض، وتوشَّحت باعترافٍ مجنون، حين همست له بحبُّها، وارتمت بين ذراعيهِ عاشقةً حتى النخاع.
يعلم أنَّها لم تكن تمثِّل...لقد أحبَّتهُ حقًّا..لكن السؤال الذي لا يفارقه:
هل يمكن للحب أن يتحوَّل إلى دمارِ قلب؟!.
دقائقَ مرَّت ولم يشعر بنفسه، إلى أن استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ ليتناوله:
-أيوة عملت إيه؟.
-بص ياسيدي اشتغلت في شركة لرجل أعمال مشهور أوي، ومش بس كدا..العلاقة بينهم توطَّدت جدًا، لدرجة إنَّها دايمًا معاه وبتروح عنده، الراجل دا أصله مصري بس عايش برَّة ومتجوِّز بنتِ عمُّه ودكتورة، عرفت كمان أنُّه كان صاحب مالك العمري، يعني هيَّ راحت له بعد اتِّفاق من مصر قبل ماتسافر.
-تمام شكرًا لحضرتك.
ظلَّ جالسًا بمكانهِ لفترة، يحدِّقُ بشرودٍ في مشاهدهما معًا، قبضةٌ قاسيةٌ اعتصرت صدرهِ فجأة، التقطَ هاتفهِ دون تردَّد.
-"إلياس..."
كان إلياس يقودُ سيارتهِ عائدًا إلى منزله، قاطعهُ رنينُ هاتفه، رفعهُ وأجابه:
-"أيوة يايزن..."
فرك جبينهِ وسحبَ نفسًا عميقًا زفرهُ بهدوء:
-"عاملين إيه؟ وميرال..عاملة إيه؟"
قصَّ عليهِ ما جرى، فهبَّ من مقعدهِ مفزوعًا:
"عمل فيها حاجة؟! ميرال كويسة؟"
-"لأ... أه، هيَّ كويسة، المهم هترجع إمتى؟ لازم تكون هنا قبل محاكمة راجح...جه الوقت الِّلي تظهر فيه إنَّك يزن راجح الشافعي."
تلك الكلماتُ التي يتمنَّى كلُّ ابنٍ سماعها من والده، لم تكن له سوى أصفادٍ من لهبٍ تكبُّله...
أفاقَ من شرودهِ على صوتِ إلياس:
-يزن رحت فين؟!
"معاك ياإلياس...قدَّامي يومين تلاتة.. بس اسمعني كويس..أنا عايز رحيل ترجع، وترجع نهائي، مغادرة من غير رجعة."
-نعم..مغادرة، وليه؟!.
-مش مرتاح قعدتها هنا.
"إنتَ اتجنِّنت يايزن؟! لا طبعًا، الِّلي بتقوله ده مستحيل..دي طليقتك، وكلِّ واحد فيكم شاف طريقه."
"أنا عايزها ترجع القاهرة، وبشكل نهائي، دا اللي طالبه منَّك"
"يعني ناوي ترجَّعلها شركتها؟ علشان كده عايزها ترجع، طيب قولَّها؟"
"إلياس، هتساعدني ولَّا لأ؟"
صمتَ إلياس وأردفَ بامتعاض:
"يزن، إنتَ رجَّعتها لعصمتك؟!"
صاحَ يزن بنفادِ صبر:
"هتساعدني ولَّا لأ؟"
توقَّف إلياس بسيارتهِ فجأة، ضرب المقودَ بعصبية:
"يا بني، بصفتك إيه؟ إنتَ ليه عايز تئذيها؟ كلِّمها واتّفقوا...بس مش كده..بلاش يايزن!"
"هتساعدني ولَّا لأ؟"
"لأ!" قالها إلياس بنبرةٍ غاضبة، ثمَّ أغلقَ الهاتفَ بعنف.
هوى على مقعده، ثمَّ كوَّر يدهِ بغضب، وما إن رنّ هاتفهِ حتى أجابَ بنفور:
- فيه إيه تاني ..؟!
"المدام الِّلي طلبت أعرف كلِّ حاجة عنها...خارجة دلوقتي مع شخص، ياباشا."
أرسلَ له الصورة..كانت تتحرَّكُ بجوارِ رجل..نعم، هو ذاتهِ الذي رآهُ معها من قبل.
هبَّ من مكانهِ كالأسدِ الحبيس، ودار حول نفسهِ كالمجنون..حطَّم كلَّ ما أمامه، يصرخ، يشتعلُ داخله، ثمَّ
سقطَ على الأرض، يلهثُ كعدَّاءٍ أنهكهُ السباق..دقائقَ من الجنونِ الكامل، حتى هدأ أخيرًا.
تناولَ هاتفه، وضغطَ على اسمٍ واحد:
"أرسلان...طالب منَّك خدمة..ولازم تنفِّذها..من غير أعذار."
بعد يومين..
في فيلا السيوفي، وتحديدًا في غرفةِ إلياس..
استفاقَ على رنينِ هاتفهِ الصاخب، فمدَّ يدهِ بتثاقلٍ وأجاب:
– "إلياس، راجح اتحوَّل للجنايات والمحاكمة بكرة!"
هبَّ واقفًا، كأنَّ صاعقةً أصابته.
– "يعني إيه؟!"
– "معرفش، اتفاجئت زيك."
– "طيب اقفل."
أغلقَ الهاتف ودقَّاتهِ تضربُ صدرهِ بقسوة، تنذرُ بعاصفةٍ قادمة...
تململت ميرال في نومها، وقد أقلقتها حركتهِ المفاجئة:
– "إلياس..الساعة كام؟"
انحنى إليها، وطبعَ قبلةً دافئةً على جبينها:
– "لسه بدري ياحبيبتي..نامي، عندي شغل مهم."
دلفَ إلى الحمَّام، وبعد دقائقَ معدودة خرج وأدَّى صلاةَ الضحى بخشوعٍ مرتبك..ارتدى ثيابهِ سريعًا، وخرج يطلبُ أرسلان من هاتفهِ المحمول:
– "فينك؟"
– "رايح الشغل."
– "هموِّتك، سمعتني؟ وقول لإسحاق مش هعدِّيها على خير!"
بمنطقة راقية
دلف الرجل يشير إليها بالدخول
-البيت هيعجبك يااستاذة، والباشمهندس يعقوب موصيني عليكي، وسيادة المهندس مش أي حد، علشان كدا البيت دا ميغلاش عليكي
-شكرا ياعم ..قاطعها الرجل
-خدامك حسن ياهانم
-اشكرك ياعم حسن، البيت فعلا شكله حلو ومريح، وعجبني الفيو بتاعه
-طبعا ياهانم لازم يعجبك، كفاية الجيران اللي جنب سيادتك، تعرفي الجهة الغربية من حديقة المنزل دي تبع مين
ضيقت عيناها وتسائلت
-مين ..؟! شكلهم ناس مهم
-اومال ياهانم، دول عيلة الألفي، والمكان المحاوط بالحدايق دي كلها والبيوت دي تبعهم، هما ماشاء الله ناس ليهم قيمة وعز، بكرة تتعرفي عليهم هتحبيهم اوي
-خلاص خلاص ياعم حسن شكرا، ولو احتجت حاجة هكلمك
-تحت امرك ياهانم ..قالها وتحرك ..بينما ذهبت هي لوالدتها التي جلست بالحديقة تطلع إليها بشرود
-ماما البيت شكله حلو
-احنا ليه نزلنا مصر بالشكل دا ياراحيل، ليه اتعاملنا كأننا مجرمين
استدارت واتجهت تحمل حقيبتها:
-هعرف ياماما، صدقيني هعرف، ويارب ميكونش اللي في بالي ...
باليوم التالي
خرج من مكتبه بعدما هاتفه شريف:
-راجح خرج من السجن تحت قيادة مشددة، متخافش راكان البنداري بنفسه متابع كل حاجة، واحسن ظباط في القضية، وعلى قدر عالى من الشرف والمهنية ...خطى إلى سيارته وفتحها وهو يتحدث بهاتفه:
-اتمنى مفيش حاجة تبوظ الدنيا، زي ماقولت لك ..كلم ياسين الألفي وعرفه بالوقت، مش عايز لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة، الضربة الحقيقة للكل من هنا
-ولا يهمك ياالياسو، كله تحت السيطرة، حتى ارسلان معرفتوش حاجة
-شكرا ياصاحبي...قالها إلياس واغلق مع رنين هاتفه:
-الياس النهاردة محاكمة راجح، ازاي معرفتنيش
-ميرال ممكن تهدي، مش عايزك تخرجي من البيت سمعتني
صاحت غاضبة ولم تشعر بدموعها
-"تعرف إن ماما فريدة كانت عنده امبارح، طلبها وراحت مع عمو مصطفى ، ومن وقت ما رجعت وهي قافلة على نفسها، معرفش الراجل دا قالها ايه..بس اللي متأكدة منه أنه هددها بحاجة علشان سمعتها بتقول لعمو مصطفى، لازم يطلع من السجن، انا مش مستعدة اضحي بولادي"
-"اقفلي "..قالها وقام بقيادة السيارة
وقادهُ الغضبُ إلى المحكمةِ كقنبلةٍ موقوتة..بعد دقائق ترجَّل من سيارتهِ والنارُ تشتعلُ في صدره، تكادُ الأرضُ تحترقُ تحت خطواته..لمح راجح ينزلُ من سيارةِ الترحيلات، محاطًا بحشدٍ من الصحفيين، يبتسمُ بثقةٍ زائفة.
ارتدى إلياس نظارتهِ الشمسية، وخطا نحوهِ بخطًا سريعةً غاضبة، لكن راجح سبقهُ بكلماتهِ المتوجِّهة للصحفيين:
– "أيوة، أنا راجح الشافعي، عمِّ الظابط إلياس السيوفي...الِّلي هوَّ في الحقيقة يوسف جمال الشافعي!"
صُعقَ الصحفيون، وتبادلوا النظراتِ المشدوهة، قبل أن يهرعوا لالتقاطِ الصور، كمن وجدوا كنزًا إعلاميًّا.
في تلك اللحظة، وصل إسحاق بسيارته، يرافقهُ أرسلان..أشار إلى أحدِ الضباط:
– "ابعد الصحفيين فورًا عن إلياس، ودخَّل المتَّهم."
تحرَّك راجح نحو القاعة، لكنَّهُ توقَّف أمام إلياس، وحدجهُ بنظرةٍ ناريةٍ وتحدِّي:
– "وأهو بقولها قدَّام الكل..حضرةِ الظابط المزوَّر، حبّ يتخلَّص منِّي هوَّ والِّلي عامل أبوه مصطفى السيوفي، الوقور، علشان يضمن مكانة ابنهِ المزوَّر..زوَّر ولفَّق بلاغات علشان ينتقم لمَّا حاولت أظهر حقيقته.
اندفعَ جاسر وهو يصرخ ُبالعسكري:
– "مين سمحلك توقف؟! يلَّا المتَّهم في مكانه"
ثمَّ اتَّجهَ ناحيةِ إلياس وقد بدأت العدساتُ تتَّجهُ نحوه:
– "حضرةِ المقدَّم، إيه ردَّك على كلام المدعو راجح الشافعي؟"
توقَّف أرسلان في مكانه، مذهولًا من تطوُّرِ الأمور، بينما صعدَ يزن وكريم درجات المحكمة في صمت ثقيل..
دخل الجميعُ قاعةَ المحكمة، وساد السكونُ حين دخلَ القاضي وهيئةِ النيابة..توقَّف راجح في قفصِ الاتهام، متَّكئًا على حافةِ القضبانِ بابتسامةٍ ساخرة.
بدأت الجلسةُ بعرضِ الأدلَّةِ والشهود الذين استعان بهم راجح...حتى وقفت النيابة لتُقدِّمَ مرافعتها.
نهضُ وكيلُ النيابة، المستشارُ راكان البنداري، ثبَّتَ نظارته، وتقدَّمَ بخطواتٍ واثقة...نظر إلى القاضي والجميع، ثمّّ قال بصوتٍ عالٍ، عميق النبرات:
– "سيَّدي القاضي، حضرات المستشارين، السادة الحضور..."
"نحنُ اليوم لا نواجهُ جريمةً فرديةً عابرة، بل نواجهُ منظومةَ فسادٍ متكاملة، متجسِّدةٌ في شخصٍ واحد، هو المتَّهم راجح الشافعي."
"هذا الرجلُ لم يكتفِ بخيانة الدم، بل امتدت يدهِ لتغتالَ شقيقه، وتجعلُ من جسدهِ الطاهرِ جسرًا تعبرُ عليهِ أطماعهِ القذرة..لقد خانَ الأمانة، خانَ الأخوَّة، خانَ الوطن!"
"أدلَّة النيابة العامَّة تؤكِّدُ بما لا يدعُ مجالًا للشك، تورُّطهِ في قتلِ المرحومِ جمال الشافعي، عبر تحريضٍ مباشرٍ وتهديداتٍ موثَّقة، وشهاداتٍ تؤكدُ عزمهِ المسبق على التخلُّصِ من شقيقهِ بعدما أثبتَ شقيقهِ تورُّطهِ مع بعض العناصرِ الإجرامية وتواطئهِ ضدَّ الوطن"
"أمَّا الأعظم، فهو ارتباطهِ بعصاباتٍ دوليةٍ مشبوهة، تعملُ تحت ستارِ التجارة، لكنَّها في حقيقتها خلايا سياسية مموَّلة، تخترقُ الحدودَ وتغذِّي الفوضى، ولقد ثبتَ بالأدلة البنكيَّة والاتصالات تواصلهُ معهم، وتحويلاتٍ ماليةٍ مشبوهةٍ وصلت إليه من الخارج."
"لقد قادَ هذا الرجل شبكةً كاملةً للإتجارِ غيرِ المشروع، بدءًا من الأموالِ المشبوهة، وصولًا إلى التلاعبِ في السلطة، والتستُّرِ خلف نفوذٍ مزيَّف."
"إنَّ هذه المحكمة تقفُ اليوم على مفترقِ عدالة، فإمَّا أن ننتصرَ للحق، وإمَّا أن نغرقَ في مستنقعِ الفساد"
"بناءً على كلِّ ماسبق، تطلبُ النيابة العامة من عدالتكم توقيع أقصى العقوبةِ على المتَّهم، ليكونَ عبرة، وليُطهَّرَ هذا الوطن من دنسِ الخيانة."
"فالعدل...لا يُستأذن، بل يُنتزع، والقصاص...هو لغةُ الذين أُهدرت دمائهم بغيرِ حق!"..
قالها راكان وجلسَ بمكانهِ ينتظرُ حكمَ القاضي، وهو يومئُ برأسهِ إلى إلياس الذي ينظرُ بساعتهِ باستمرار..
التفتَ القاضي إلى راجح بعدما صاحَ قبل مرافعةِ محاميهِ الخاص:
-كذب، كلُّه كذب، وأنا هثبت لحضراتكم سيِّدي القاضي إنَّها اتهامات ملفَّقة، لكي يتخلَّصونَ منِّي بعدما ظهرت حقيقتكم الشنعاء.
ساد الصمتُ القاعة...حتى راجح، الذي لطالما تباهى بجرأته، شحبَ وجههِ للحظة، وبدت نظراتهِ كأنَّها تستجدي مخرجًا وهميًّا..
وما إن همَّ القاضي لإسكاته، حتى فُتحَ بابُ القاعةِ على اتِّساعه، ودخلت رانيا الرفاعي تسيرُ بخطًا ثابتة، وإلى جانبها ياسين الألفي..علت الهمهماتُ في القاعة، وتوقَّف القاضي.
رفعَ المحامي الخاص بإلياس صوته:
– "سيِّدي القاضي، تلتمسُ هيئةُ الدفاعِ من عدالتكم سماعَ الشاهدةِ الأهم...السيدة رانيا الرفاعي، أو تقدر تقول سيادتكم المقتولة."
اتَّجهت الأنظارُ إلى راجح، الذي بدت على وجههِ ملامحَ كمن انسكبَ عليه دلوَ ماءٍ مثلَّج..بدأ يلهثُ بهلع، وعيناهُ تتابعُ اقترابها.
توقَّف راكان من مقعده، حاملاً ملفاتٍ ثقيلة، وأشارَ إلى الحاجب:
– "قدِّمَ كلِّ الأدلة فورًا..أوراق وتسجيلات وشهادات خطية..كلَّها تدينُ راجح الشافعي بلا مواربة"
دي حصل عليها المحامي الموكَّل من قبل إلياس الشافعي، وأرسلان الجارحي، واللي بيأكِّد كلام راجح الشافعي إنِّ الاثنين بالتأكيد لم يُنسبوا إلى عائلتهم الحالية، فلقد تمَّ اختطافهم من قبل تلك السيدة.
رمقَ إسحاق أرسلان بنظرةٍ مملوءةٍ بالغضب، كأنَّ كلَّ شيءٍ خرج عن السيطرة...
-تعالي يارانيا..قالها القاضي مع دفعِ راجح لبابِ القفص:
-دول خونة سيدي القاضي.
-اخرس يامتَّهم..نطقَ بها القاضي مع تحرُّكِ رانيا إلى مكانها المخصَّص، مع دخولِ فريدة بجوارِ مصطفى كالطفلِ التائهِ بغيباتِ الجبّ.
↚
في مواطنِ الظلمِ تنشأ الظلمات... لا ظلامَ الليلِ، بل ظلامُ القلوبِ حين تُطفأ أنوارُ الرحمةِ فيها.
هناك، حيث الحقدُ يُزرعُ في صدورٍ أرهقها الوجع، تنبتُ الشظايا وتتمدد، تخترقُ النبضَ وتفتكُ بما تبقّى من إنسانية.
العشقُ؟!
ذاك الطيفُ الذي تسلّل ذات ضعف، تشبّثَ بروحٍ مكسورة، وظنَّ أن بوسعهِ أن يُرمّم ما انكسر...
لكنه احترق.
لم يصمدْ أمام وهجِ الخيانة، ولا أمام سكاكينِ الغدرِ التي غُرِزتْ بابتسامةٍ خادعة.
تلطّخ الحبُّ بالدم، وارتدى الغلُّ ثوبَ العشق، فصارَ المشهدُ جريمةً مكتملةَ الأركان.
فمن يربحُ هذه الحرب؟
هل تُجدي مشاعرُ القلبِ في معركةٍ تقودها الخيانات؟
أم أنّ الحبَّ حين يُطعَن، يُدفَن دون شواهد؟
توقَّفت رانيا أمام القاضي في قاعةِ المحكمة، وتعالت الهمهماتُ بين الحضور، فاضطرَ القاضي إلى الطرقِ على منصةِ المحكمةِ بقوة:
– هدوء..ممنوع الكلام.
ثمَّ اتَّجهَ بنظرهِ الحازمِ نحو رانيا متسائلًا:
– اسمِك وسنِّك، وعلاقتك بالجاني؟
صاح راجح فجأةً من مكانه:
– دي شريكتهم ياسيدي القاضي.. اشتراها ابنِ السيوفي.
قاطعهُ القاضي بنبرةٍ صارمة:
– لو اتكلِّمت تاني ياراجح، هزوِّد عقوبتك.
استعادت رانيا بعضًا من تماسكها، ثمَّ همست بصوتٍ مرتجف:
– سيدي القاضي...ثم دارت بعينيها في قاعةِ المحكمة، فتوقَّفت نظراتها عند فريدة الجالسة بين إلياس ومصطفى، ويجاورهم إسحاق وأرسلان..ارتجفَ جسدها حين التقت عيناها بنظراتِ إلياس، أمَّا ياسين فقد آثرَ الابتعاد، جالسًا في الطرفِ الآخرِ من القاعة.
– اسمك وسنِّك؟
– أعاد القاضي سؤاله..
– رانيا حسن الرفاعي، 59 سنة، سيدة أعمال.
– علاقتك بالجاني والمجني عليه؟
– مرات راجح الشافعي.
– قولي: "والله العظيم هقول الحق".
صمتت للحظات ومقابلةِ ميرال ويزن إليها بالأمس يشعرها بأنَّها لا تريدُ سوى الموت...ظلَّت لحظات وكأنَّها لا تشعرُ بما يدورُ حولها..
ليردِّد القاضي مجدَّدًا:
– قولي يارانيا: "والله العظيم هقول الحق".
ردَّت وهي تجهشُ بالبكاء، محاولةً حبسَ دموعها:
"واللهِ العظيم، أقول الحقّ..."
ساد الصمت فجأة، كأنّ أنفاس الحضور قد احتُجزت، وتعلّقت العيون بتلك المرأة التي وقفت كأنها تُخرِج الحقيقة
تخترق صدر فريدة
بدأت رانيا تسرد، وعيونها تغلي بالدموع، ويداها ترتجفان بين الحروف.
حكت كل شيء... بلا مواربة، بلا اخفاء، فتعالت الهمسات في أرجاء القاعة، توقف راكان عن التدوين، يرمقها بنظرات صارمة، ثم فاجأها بعدة أسئلة سريعة.
أجابته...
أجابت كما لو كانت تتطهّر من خطيئة مافعلته
لكن فجأة، ارتفع صوت فريدة كعاصفة شتوية، وصاحت:
– الست اللي قدامكم دي هي السبب في خطف ولادي!..على أساس ايه تشهد
اوقفها القاضي
انت مين وازاي تتكلمي بدون إذن
انا ام اتغدر بيها وخطفوا ولادها، بنت عمي اللي المفروض لحمي الست اللي واقفة قدام عدالتكم
أشارت بحدة إلى القفص الذي يقف فيه راجح، ورشقته بكلمات انفجرت من فمها كأنها رصاصة:
– والنص راجل دا هو اللي قتل أخوه! هو اللي حرمني من ولادي تلاتين سنة!
تلاتين سنة وانا عايشة ومش عايشة!
تلاتين سنة وانا بدوّر في وشوش الناس على ملامحهم!
تلاتين سنة محرومة من حضنهم... من كلمة "ماما"!
جوزي اتقتل غدر من واحد لا يعرف لا أخوّة ولا رجولة، غير في الإسم بس!
ارتفعت شهقتها كطعنة، وواصلت، والصوت من حولها بدأ يضيع وسط دموعها:
– تلاتين سنة يا ناس!
تلاتين سنة مانمتش ليلة مرتاحة وانا بدعي ربنا اشوفهم في الحلم
تلاتين سنة وأنا بنده ربنا يرجّعلي ضنايا، وهم بيعيشوا ويتبسطوا على وجعي!
مدّ مصطفى يده ليمسك كفّها المرتجف، وحاول تهدئتها، لكنها انتفضت، وصرخت:
- وفي الاخر عذاب وتهديد، لا والست السبب جاية تشهد دي... تشهد على ايه هي المتهمة الأولى يا حضرة القاضي!
بأي حق واقفة هنا تتكلم؟!
دي مكانها جوّه القفص، جنب اللي شاركته في الجريمة!
دي لازم تتحاكم معاه!
تعالت الأصوات الجانبية، وبدأ الهرج، فنهض إلياس سريعًا، واتّجه إليها محاولًا تهدئتها:
– ماما... اهدّي لو سمحتي!
نظرت إليه، ودموعها تقطر بغزارة، ثم قالت بصوت متهدّج:
– قاللي ماما... سمعتوه؟
قال ماما اللي اتحرمت منها تلاتين سنة! محدش حاسس بالي بحسه لما بسمع حد فيهم بيقولي ماما ..
ليه؟ علشان ناس قلبها حجر!
ناس بتخطف، وتهدّد، وتقتل، ولسه مش شبعانين وجع! ناس عايش للأذية
ابني... ذنبه إيه يعيش بين الحياة والموت؟
مراته... ذنبها إيه يخطفوها ويشقّوا بطنها وهي حامل؟
علشان ينتقموا مني؟ علشان يفرّغوا حقدهم؟!
صرخت فجأة كأن صبرها انكسر مرة واحدة:
– فين العدل؟!
كام سنة سجن تشفي اللي حصل؟!
أنا اتسرق عمري...
اتدفنت وأنا حيّة...
وسنين حياتهم ما تسواش لحظة من وجعي!
فين حقهم بهوية غير هويتهم، فين حقهم وابني الكبير عايش معايا تلاتين سنة وانا معرفوش ..فين حق وجعي وانا بين اتنين اموات بين الحيا والموت واقول يارب نجي لي واحد منهم مش عايزة الاتنين ...انا وقفت ادعي ربنا واحد يفضل في حضني ولا لاني افقدهم الاتنين بعد تلاتين سنة وجع فراق ..قولي سيدي القاضي احنا فين ..وزمن ايه اللي الاخ يقتل اخوه ويشرد ولاده، احنا فين لما نكون في بلد قانون والمفروض الراجل اللي كان رجل قانون يعمل في اخوه ومراته كدا
ليه ..كل دا ليه ..حقد.. حسد ..مرض ..طيب الناس اللي بتتأذي دي ذنبها ايه
صمت القاضي، وصمتت القاعة بأكملها، ولم يبقَ سوى صوت شهقاتها المكتومة.
اقترب منها إلياس من جهة، وارسَلان من جهة أخرى، يحيطانها بذراعيهما كأنهما يحاولان أن يُعيدوا إليها شيئًا من تماسكها المنهار..
-كدا ياماما ..ينفع انهيارك دا ..طافت بنظراتها بين وجوههم ثم التفتت نحو راجح، ونظراتها نار مشتعلة:
- ولادي اهمّ دول يا راجح،
شفتهم؟ شفت بيحبوني ازاي؟
عشتوا يومين مبسوطين فوق دمار سنيني!
شوفوا فريدة فين... وانتوا فين!
ثم التفتت إلى إلياس، وصوتها خفض، لكنه مغروس كخنجر:
– الست دي برا السجن بتعمل إيه؟
مش قولتلي إنك هتسجنها؟
أخفض إلياس عينيه، وقال بحزن:
-ماما كفاية اقعدي لو سمحتي بينما ارتفع صوت القاضي
- خلاص يا فريدة... مش قولتي كل حاجة ؟!
وعارفة إن العدل أساس الملك...
يبقى استني الحكم اللي خلاكي تستني تلاتين سنة هيخليكي تستني كام يوم
-مستعدة استنى الباقي من عمري، بس يبعد عن ولادي
-وانت يارانيا ايه ردك على كلام فريدة
صمتت رانيا ولم ترد
ولكن المحامي الموكَّل من قِبل إلياس وأرسلان قاطعَ القاضي بلطف:
– عفوًا، سيدي القاضي...
اقتربَ المحامي بخطا واثقة، ووضع مجموعةً من الملفاتِ أمام هيئةِ المحكمة قائلاً بنبرةٍ حاسمة:
– بين أيدي عدالتكم مستندات وأدلة تثبت تورُّط المدعوة رانيا الشافعي في جرائم متعدَّدة، أخطرها..خطفُ طفلين قبل أكثر من ثلاثين عاماً.
ثمَّ تراجع بهدوءٍ إلى مكانه، لتعمَّ القاعة لحظةُ صمتٍ ثقيل، بينما راح القاضي يقلِّبُ الأوراقَ بعناية، قبل أن يرفعَ عينيهِ قائلاً بصرامة:
– إذًا، لسنا أمام شاهدة فقط…بل أمام متَّهمة بالخطف والمشاركة في القتل؟
ردَّ المحامي دون تردُّد:
– أجل، سيدي القاضي..وبناءً على الشكوى المقدَّمة من السيدين إلياس مصطفى السيوفي وأرسلان فاروق الجارحي، واللذينِ تبيَّن بعد تحرِّياتٍ دقيقة أنَّهما الطفلانِ المخطوفانِ اللذان تم تبنِّيهما ونسبهما إلى عائلتينِ مختلفتين، يتَّضحُ أنَّ المدعوة رانيا كانت على علمٍ تامٍّ بجريمتي الخطف والقتل، بل وشاركت بهما..
وقد ثبت بالدلائلِ القاطعة أنَّهما ابنا المجني عليه جمال الشافعي، وأنَّ ما تمَّ طمسهِ لسنواتٍ بدأ يتكشَّفُ أمام عدالتكم الآن.
أعاد النظرُ إلى الأوراق كأنَّه يبحثُ بين السطورِ عن ذرَّة شك..لكن الحقيقة كانت صارخة..طرق بمطرقتهِ بقوَّة على المنصة:
– المحكمة تأمر فورًا بالتحفُّظ على المدعوة رانيا الشافعي لحين استكمال التحقيقات، ويُحال ملفُّ القضية إلى النيابةِ العامة بتهمةِ الخطف، المشاركة في القتل..
ثمَّ التفت إلى راكان :
– وكيل النيابة راكان البنداري... أطالبكم بفتحِ تحقيقٍ موسَّعٍ في كلِّ الأطراف المرتبطة بهذه القضية، خاصَّةً كلَّ من ساعد أو تستَّرَ أو شارك في خطفِ الطفلين وقتل المجني عليه
تصاعد الهمسُ في أرجاءِ القاعة، بينما علت وجوهُ الحاضرينَ علاماتِ الصدمة، وبعضها دموعًا خرساء لم تجد لسانًا ينطقُ بها..فالعدالة بدأت تحرِّكُ مياهًا راكدة منذ ثلاثةِ عقود...
خرج الجميعُ من قاعةِ المحكمة بعد قرارِ التأجيلِ لكشفِ بقيَّةِ أركانِ القضية.
تحرّّك إلياس بخطا حثيثة، وعيناهُ لا تفارقُ إسحاق الذي وقف بجوارِ سيارته، يحاول التخلُّصَ من الصحفيين الذين أحاطوا به كالسيل.
اقترب منه بعدما تحرَّر منهم هو الآخر، وتوقّّف خلفه..استدار إسحاق نحوهِ ببطء، وعيناهُ تخفيانِ خليطًا من الألمِ والخذلان.
تحدَّث إلياس بنبرةٍ ثابتة، لكنَّها تشي بما يثقلُ في صدره:
– سيادةِ العقيد…عارف إنِّ حضرتك زعلان منِّي، وحقَّك..بس حطِّ نفسك مكاني.
كنت هثبت إزاي إن أبويا مات مقتول؟ أوَّل سؤال اتسألته وأنا بقدِّم القضية: "إنتَ صفتك إيه تفتح قضية اتقفلت من سنين؟"
كان لازم آخد حقُّه..
وزي ما قلت لحضرتك قبلِ كده..إحنا هنفضل زي ماإحنا.
ووعد منِّي، أرسلان هيفضل زي ماهوَّ عندكم…مش طفل، وأكيد عارف وفاهم.
رفع إسحاق نظرهِ إليه، وعيناهُ امتلأت بظلالِ الماضي:
– أنا كنت عارف ومتأكِّد إنِّ اليوم ده جاي، وعشان كده عملت حاجات ماكنتش راضي عنها ياإلياس،
بس قولِّي..تفتكر هتفضل إلياس السيوفي؟ وهوَّ هيفضل أرسلان الجارحي؟
مينفعشِ نكمِّل كأن الِّلي حصل ما حصلش.
صمت إلياس، ولم يجد ردًا..
في تلك اللحظة، اقترب أرسلان منهما بخطا متردِّدة، بينما تابعَ إسحاق حديثه:
– دلوقتي…هتُنسبوا لجمال الشافعي قبل أيِّ حاجة.
وبعد كده، حاجات كتير هتتغيَّر…أوَّلها شغلكم..يلا، الله المستعان..
اقتربَ خطوة، وربتَ على كتفِ إلياس:
– أنا آسف، بجد..
بس كنت بأدِّي شغلي، والنهاردة بأكِّدلك..حقَّك وحقِّ أخوك لازم يرجع، وأنا معاكم..حتى لو ده هيخلِّيني أسيب منصبي.
بس أهمِّ حاجة دلوقتي…لازم نعرف مين كان بيصرف على راجح؟
علشان نوقف تسريب مخطَّطاتنا ليهم… فهمت قصدي؟.
وصل إسحاق بعد قليلِ إلى فيلا الجارحي، ترجَّل من سيارتهِ بخطا مثقلة، كأنَّ الأرضَ تسحبهُ لا قدميه، وصدرهِ يعلو ويهبطُ كمن يختنقُ بالهواء لا يستنشقه..دلف إلى الداخل، فوجد طفلهِ يلهو مع مربيَّته، وماإن وقعت عيناهُ عليه حتى هرولَ إليه:
– بابي…
قالها الصغيرُ وهو يرفع ذراعيهِ نحوهِ برجاءٍ طفولي، فانحنى إسحاق يحمله، يغرسُ قبلةً فوق جبينه، وضمَّهُ بقوَّةٍ كأنَّ بين ذراعيهِ طوقَ نجاة..حضنهِ كان دواءً لروحه، بلسماً لوجعٍ لا يُقال.
اقتربت منه دينا بخطًا هادئة، كانت تعلمُ جيداً ما يعتملُ بداخله..لم تتكلَّم كثيراً، فقط أشارت للمربية:
– خدي حمزة، جهِّزيه، عنده تدريب سباحة بعد نصِّ ساعة.
– حاضر يامدام، قالتها ومدَّت كفَّيها إلى حمزة.
– يلَّا يابطل علشان نستعدّ للِّيسون.
قبَّل حمزة وجنةِ والدهِ وقال بصوتهِ الطفولي البريء:
– هتلعب مع حمزة بعد الليسون؟
ابتسمَ إسحاق، مداعبًا عنقه، حتى ارتفعت ضحكاتُ الصغير وردَّ عليه:
– هلعب مع حمزة كتييييير أوي.
وأشار بذراعيهِ الصغيرتينِ كأنَّه يرسمُ عدد ألعابهِ في الهواء، ثمَّ هرول إلى المربيةِ مردِّدًا بحماسة:
– أوكييييه…بابي.
جلس إسحاق على المقعد، وهوى بجسدهِ كأنَّ ساقيهِ لم تعد تحملانه.. دنت دينا منه، جلست بجواره، ومدَّت يدها تمسحُ على صدرهِ بحنان، فتحت أوَّل زرٍّ من قميصهِ وهمست:
– خُد نفس، وسيب كلِّ حاجة على ربِّنا…إن شاء الله هيكرمك من عنده.
مسح على وجههِ بقسوةٍ كأنَّما يحاولُ طردَ ما تراكم عليهِ من ألم، وزفر بشدَّة، ثمَّ تمتمَ بصوتٍ مختنق:
– لو قلت لك عايز أقوم أكسَّر كلِّ اللي حواليا علشان أحسِّ إنِّي مرتاح، مش هرتاح..
في حاجة بتخنقني، ورغم كده…كنت متأكِّد إنِّنا هنوصل للنقطة دي.
أخذت كفَّيهِ بين يديها، تملِّس عليها كما لو كانت تداوي ندبة، وهمست كنسمةِ ربيعٍ هاربةٍ من حرِّ القيظ:
– حبيبي..الحقوق لازم ترجع لأصحابها..
عارفة قدِّ إيه هوَّ غالي عليك…بس افتكر ابننا..
يعني لو ابنك مكان أرسلان، وحصل له كده، هترضى يعيش بهوية مش هوِّيته؟
شهق، كأنَّ جرحًا انفتحَ في صدره، ودمعت عيناه، مسحها بعنفٍ وقال من بين أنفاسٍ محروقة:
– ما هو ابني يادينا!
وأشار إلى يديهِ المرتجفتينِ وأضاف:
– كان صغير أوي أوَّل ماشلته..حضنه كان حلو، فرَّحني، حسَّسني إنِّي أب…
رغم إنِّي عمري ما جرَّبت الشعور ده، ولا حتى حلمت بيه…
أنا عشت معاه أكتر ما عشت مع فاروق..ومعاكي..
دا ابني…ومش قادر أصدَّق إنِّ مفيش حاجة دلوقتي بتربطني بيه...
خرج فاروق بعدما علمَ بوصوله، توقَّف أمامهِ ولسانِ حالهِ يهمسُ بعجز:
- إيه الِّلي بيحصل؟ وإيه كمِّ الصحفيين اللي برَّه دول؟
تساءلَ بها لحظةِ دخولِ أرسلان، يجرُّ قدميهِ بصعوبة، مختنقًا من مواجهةٍ كادت أن تزهقَ روحه.
رفع إسحاق عينيه، والتقت النظراتُ في ألمٍ لا يوصف، شعورًا ممزَّقًا بينهم، وحدهما يدركانه.
ابتلع ريقهِ بصعوبة، وكأنَّ شوكًا مدبَّبًا يغصُّ به، ثمَّ همسَ بصوتٍ متهدِّج:
- آسف يابابا...سامحني، حاولت بس مقدرتش.
حقِّ أبويا لازم يرجع...بس مش معناه إنِّي هبعد عنكم، واللهِ دي مجرَّد أوراق روتينية بس.
استدار فاروق ببطء، يتطلَّعُ إليه بعينينِ تائهتين، غير مستوعبٍ ما يقوله.
- أنا مش فاهم حاجة..ورق إيه وحقِّ إيه؟
نهض إسحاق من مكانه، اقتربَ منه وربتَ على كتفهِ بحنان:
- ولا يهمَّك ياعمُّو، أنا كنت عامل حسابي لليوم ده.
حقَّك ياحبيبي، منقدرش نقف قدَّامه، وزي ما قولت لإلياس..أنا هفضل معاكم.
هوَّ أنا عندي أغلى منكم؟
ولأوَّل مرَّة، لم يقوَ على كبحِ عبراته... لتنهمرَ على وجنتيه، كأنَّه طفلٌ فقد مأمنه.
رغم أنَّه يعلم بأنَّ اسحاق يتصنَّعُ التفهُّم، إلَّا أنَّه أكثرُ من يشعرُ به.
طاف فاروق بنظراتهِ بينهما، مرتبكًا:
- أنا مش فاهم حاجة...
حاوطهُ إسحاق بذراعه، وأشار إلى أرسلان بابتسامةٍ هزيلة:
- أرسلان كسب قضية النسب..وبقى دلوقتي في الدولة: أرسلان جمال الشافعي.
هل شعر أحدكم بذبحٍ بسكينٍ بارد؟
كأنَّ سهمًا مسمومًا اخترقَ صدره... تمتمَ فاروق بتقطُّع:
- إنتَ بتقول إيه؟!
اقترب ارسلان يتطلَّعُ إليه بوجههِ يظهرُ به مزيجًا من الاعتذارِ والتمزُّق، والأسى..يصرخُ خلف كلِّ دمعةٍ تسيل..
-آسف يابابا، لو سمحت سامحني.
انتقلت عيناهُ إلى اسحاق الذي تكوَّرت الدموعُ بعينيهِ يطبقُ جفنيهِ ويهزُّ رأسهِ بالأسى، ليدركَ فاروق حديثَ أرسلان.
هنا... سُحِبت الحياةُ من وجهِ فاروق..
وتراجع بجسدهِ منتفضًا، غير معترفٍ بما لفظهُ أرسلان، كأنَّ سهمًا غُرزَ في قلبهِ دون رحمة، ونطقَ بصوتٍ مبحوح، ممزَّق، مكسورَ النبرة:
- يعني إيه؟!
تساءلَ بها في اللحظةِ التي وصلت فيها صفية، تتطلَّعُ إليه بعينينِ كزخَّاتِ المطرِ لاتحتاجُ لكلمات، كانت عيناها وحدهما تتكلَّم...
تطلَّعت إليه بعينينِ طافحةً بالخذلان، والألمِ المتراكم، والرجاءِ المُهدَر، وتمتمت:
ـ يعني كده خلاص؟!..سنين عمري كلَّها ضاعت!!
ابتسم إسحاق ومازال محاوطًا أرسلان يمسحُ على ظهره:
-إيه الِّلي بتقوليه دا ياصفية، مالواد بيقولِّك مجرَّد روتين، ولسة زي ماهوَّ، مش كدا يالا، أوعى تفكَّر إنَّك كدا خلاص، لا دا أنا إسحاق الجارحي، عمَّك وغصب عنَّك وعن أيِّ حد..سمعتني ولَّا لأ..قالها ودفعهُ بعيدًا متراجعًا بجسدهِ يشيرُ إلى دينا بعدما خطا بخطواتهِ التي تشبهُ النيرانَ التي تأكلُ كلَّ مايقابلها:
-دينا أنا فوق لحدِّ ماحمزة يخلَّص تدريبه، هنرجع بيتنا النهاردة.
بمنزلِ يزن..
دلفَ يزن إلى الداخلِ بخطواتٍ متثاقلة، بينما توقَّف كريم عند عتبةِ الباب، مستندًا إلى الجدار، ثمَّ سأل بصوتٍ خفيضٍ مشوبٍ بالحيرة:
– إيه الِّلي المفروض يحصل دلوقتي؟
هوى يزن بجسدهِ المُرهق فوق المقعد، متجاهلًا سؤاله..
في تلك اللحظة، خرجت إيمان من المطبخ، وعيناها تتفحَّصُ الملامحَ المشدودة:
– فيه إيه؟ إيه اللي حصل؟ وفين معاذ؟
أزاح يزن جسدهِ للخلف قليلًا، ثمَّ تمتمَ دون أن يرفعَ نظره:
– اعمليلي قهوة ياإيمي، بس في كوباية.
رفعت عينيها إلى كريم الذي اقترب، وأشار إليها بعينيهِ أن تمضي دون أسئلة..أومأت بخفَّة، وتراجعت إلى الداخل، تحاولُ كبحَ قلقها المتصاعد.. أمَّا كريم، فاقتربَ وجلس إلى جوارِ يزن، يربتُ على ساقيهِ بمحبَّة:
– وبعدهالك يايزن، لازم تفوق شوية، هتفضل كده لحدِّ إمتى؟
اعتدلَ يزن قليلًا، أخرج علبةَ سجائره، أشعل واحدة، ونفثَ دخانها في الهواءِ بصمتٍ ثقيل، وكأنَّ التبغَ وحدهِ يحملُ عنهُ عبءَ التفكير.
نهضَ كريم بهدوء، وتوجَّهَ إلى الداخل، يبحث عنها...عن قلبهِ المتأرجحِ خلف نظراتها..وجدها تقفُ بالمطبخ، شاردةً أمام إناءِ القهوة، كأنَّ عقلها يحترقُ مع الغليان.
اقتربَ منها بهدوء، ثمَّ طوَّقَ جسدها بذراعيه، لتجدَ نفسها فجأةً بين أحضانه..انتفضت بذعر، ولامست يدها إناءَ القهوة، فسقطَ فوق الغاز.. وضعت كفَّيها على صدرها، تنهج:
– بسم الله الرحمن الرحيم! ينفع كده؟ خضِّتني، طيب قول "إحم" على الأقل!
اقتربَ منها أكثر، وانحنى يهمسُ بجوارِ أذنها بصوتٍ دافئ:
– ألف سلامة عليكي من الخضَّة..
ياقلب كريم.
تورَّدت وجنتاها بخجل، وابتعدت عن مرمى نظرهِ الذي يخترقُ أعماقها، وهمست بتلعثم:
– كريم...عيب كده، اطلع بره، أبيه يزن يقول إيه دلوقتي لو شافنا؟
لكنَّهُ لم يبال، بل حاصرها بينهِ وبين طاولةِ المطبخ، يحتضنها بعينِ عاشق، وهمسَ بثبات:
– هيقول إيه؟ غير إنِّي بموت في أخته وعايز أخطفها على بيتي دلوقتي.
ضحكت بخفَّةٍ ممزوجةٍ بالخجل، ثمَّ دفعتهُ بعنفٍ حين سمعت صوتَ يزن يعلو من الخارج، فابتلعت ريقها، وبدأت تتحدَّثُ بتلعثم:
– أنا كنت بعمل...أصل هوَّ يعني...
لكن يزن قاطعها، صوتهِ جاف:
– جهِّزي الغدا، خلاص...مش عايز قهوة.
رمقَ كريم بنظرةٍ ذاتَ مغزى، ثمَّ أضافَ بجدية:
– تعالَ ياحبيب، قولِّي عملت إيه في الِّلي طلبته منك؟
خطا للتحرُّكِ للخارجِ إلَّا أنَّه توقَّفَ فجأةً ليسرقَ قبلةً سريعةً فوق وجنتيها:
-أخوكي دا مفتري وهيروح النار.
انتفضَ قلبها بدقَّاتهِ على مافعله، شعرت بتوهُّجِ خدَّيها ليشعَّ بالحرارةِ والاحمرار، ممَّا جعلها تضعُ كفَّيها فوقهِ مرَّةً وتلوِّحُ بكفَّيها فوقهِ لما شعرت بحرارته..جلست على المقعدِ تحاولُ أخذَ أنفاسها بعدما شعرت بانسحابها تردِّدُ لنفسها:
-يالهوي عليك ياكريم، قليل أدب.
بالخارج..
جلسَ بجوارهِ وعيونِ التحدِّي سيدةُ الموقف، سادَ صمتٌ سوى من نظراتهما إلى أن قطعهُ يزن:
-تدخل لأختي وانا قاعد يالا، مفيش احترام خالص..
جذبَ سجائرهِ ونفثها مثلهِ ثمَّ رفع حاجبهِ وردَّ ممتعضًا:
-أختك ومراتي.
تهكَّمَ يزن وتراجعَ يضعُ ساقًا فوق الأخرى يضربُ عليها ثمَّ رفعَ نظرهِ إليه:
-لا ياأمور، أنا ممكن أطلَّقها فاتلم بدل مانفِّذ تهديدي.
-ولا تقدر تعمل حاجة.
هكذا نطقها كريم..
بطَّل هزار واسمعني كويس:
-عايزك تروح تزور رحيل، وتدِّيها كلِّ أوراق الشركة، خلِّيها ترجع بيتها، وتمسك أملاكها، أنا خلاص أخدت الِّلي عايزه.
- تمام بس هيَّ هتوافق؟..يعني حتى مرجعتشِ بيتها.
تنهَّدَ متالِّمًا وأردف:
-حاول معاها ياكريم ..
بفيلا السيوفي...
دلفت فريدة بجسدٍ منهكٍ وقلبٍ يئنُّ بالألم..ساندها مصطفى إلى أن صعدت غرفتها، وما إن تمدَّدت على فراشها حتى بدت كمن يهربُ من واقعه.
لم تمضِ دقائق حتى وصلت ميرال إلى الفيلا، صعدت مسرعةً تلهث، ودقَّاتُ قلبها تعلو وهي تتلفَّتُ حولها بذعر:
عمُّو مصطفى..فين إلياس؟!
توقَّف مصطفى، مستديرًا إليها بعينٍ متسائلة:
مالك ياحبيبتي بتنهجي كده ليه؟
اقتربت، محاولةً كبحَ دموعها:
إلياس فين؟ ليه مارجعشِ معاكم؟!
اقتربَ مصطفى من ميرال يطمئنها:
تلاقيه شوية وييجي، كان واقف مع إسحاق..زمانه على وصول.
هزَّت رأسها، وأبت عيناها أن تخذلها..فانهمرت دموعها:
الأخبار انتشرت في كلِّ مكان، وسائل الإعلام مارحمتناش، وكلام كتير بيتقال علينا...
كلِّمه، شوفه فين، مش عايزاه يشوف حاجة من اللي بيتقال..
ده صحابي اتَّصلوا بيّّا وبيسألوني عن الِّلي حصل...وأنا معرفتش أرد!
احتضنَ مصطفى وجهها بين يديه، بنبرةٍ حازمةٍ ومليئةٍ بالحنان:
ميرال، ممكن تهدي وتبطَّلي عياط؟
عارف إنِّ الوقت ده صعب علينا كلِّنا... بس محتاجك قوية، لازم تواجهي بشجاعة..
أوعي حد يقلِّل من ميرال مرات الياس...سمعاني؟
ضيَّقت عينيها، وتراجعت خطوةً للوراء، تسألهُ بنظراتٍ مرتجفة:
حضرتك تقصد إيه بكلامك ده؟
التفتَ مصطفى إلى فريدة الساكنة كأنَّها تمثال، ثمَّ أعادَ بصرهِ إليها وقال بهدوء:
الجلسة الجاية...هتكوني موجودة باسمِ ميرال راجح الشافعي.
يعني الكل..لازم يرجع لأصله.
هزَّةٌ عنيفةٌ اجتاحت كيانها، كأنَّ قبضةً من حديد اعتصرت قلبها، وانحبست أنفاسها حتى شعرت كأنَّ الروحَ تُسحبُ منها ببطء...
ناظرتهُ بنظراتٍ تحملُ ذهولًا صامتًا، كأنَّما ارتطمَ جسدها بصاعقة، فخرج صوتها مبحوحًا، متردِّدًا، يحملُ ما تبقى من عقلها المصدوم:
– حضرتك تقصد إيه؟ مش..مش فاهمة.
قالتها والصدمةُ تنخرُ في كيانها، وشعرت بشيءٍ ثقيلٍ يجثمُ على صدرها، تلفَّتت بعينينِ مرتجفتين،
وتمتمت بشفاهٍ مرتعشة:
– يعني أنا دلوقتي..هتنسب لراجح؟!
أومأ مصطفى بصمت، دون أن ينبسَّ ببنتِ شفة.
اتَّسعت عيناها في ذهول، ثمَّ هزَّت رأسها ببطء، ترفضُ قدرًا فُرضَ عليها عنوة..تراجعت خطوةً إلى الخلف، كمن يشعرُ بضيقِ المكان، اتَّجهت بنظراتها تستنجدُ بفريدة، وكأنَّها نجدتها الوحيدة وأردفت بتقطُّع:
– إنتي هتسبيهم يعملوا فيَّا كدا؟!
قالتها بصوتٍ مخنوق، وكأنَّه نصلًا جارحًا:
– أتنسب لمجرم؟! بعد السنين دي كلَّها أكون بنتِ الراجل والستِّ المجرمين دول؟!
شهقت بقهرٍ تهزُّ رأسها:
– لااا...لأ...لأاااااا!
اندفعت كالمجنونة، ودموعها تسبقُ خطواتها، وهي تفرُّ من المكانِ كما لو كانت تفرُّ من عدوٍّ متربِّص..
اعتدلت فريدة فجأة، وقد تجلَّت على وجهها ملامحَ الذعر، شهقاتها تتعالى، وهي تشيرُ لمصطفى باستغاثةٍ دامعة:
– الحقها يامصطفى! البنت ممكن تعمل في نفسها حاجة! آه يابنتي..
دخلت رؤى في تلك اللحظة، بجسدٍ منهكٍ يترنَّح، وملامحها شاحبةً تتساءلُ بخفوتٍ مرهق:
– ماما فريدة، في إيه؟! ومالها ميرال بتجري كدا ليه؟!
أجابتها فريدة بصوتٍ متهدِّج:
– كلِّمي إلياس بسرعة يارؤى، خلِّيه يسيب كلِّ حاجة وييجي حالًا.
في الخارج، اندفعت ميرال إلى سيارتها، قادتها بجنون، لا ترى أمامها.. كأنَّها بنفقٍ مظلمٍ من الألم، رغم صياحِ مصطفى خلفها ومحاولاتهِ المتكرِّرة للاتصالِ بها، لكنَّها لم ترد.
ضغطَ مصطفى على هاتفهِ مجددًا، يحاولُ الوصولَ لإلياس، ولكنَّ الهاتفَ كان مشغولًا..
زفر بقهر، وصرخ في رجالهِ وهو يشيرُ إلى البوابة:
– ورا مدام ميرال بسرعة.
في سيارتها، كانت تنتحبُ بحرقة، شهقاتها تعلو حتى شعرت بأنَّها تختنقُ من شدَّةِ البكاء.
كيف تُسلبُ هوِّيتها بهذه القسوة؟
هل ستظلُّ طوال حياتها تحملُ اسمَ رجلٍ لم تكره أحدًا كما كرهته؟
هل كُتبَ عليها أن تُمحى لتُكتبَ من جديدٍ تحت سطرٍ ملطَّخٍ بالدمِ والخطيئة؟
كانت تقاومُ الحقيقةَ بأسنانِ قلبها، ودموعها لا تنضب، حتى غامت الرؤيةُ أمام عينيها، ففقدت طريقها..
توقَّفت السيارةُ فجأةً بعنفٍ كاد يقلبها على جانبها، وارتجّّ جسدها كلُّه.
صرخت...صرخت بكلِّ الألمِ المكبوتِ في أعماقها، وضربت بكفَّيها على عجلةِ القيادةِ كمن ينهارُ تحت وطأةِ الألم:
– مستحيييييييل!!
قالتها بصوتٍ تزلزلت له السيارة، ممَّا جعلها تشعرُ بمرارةِ القهر.
على الجانبِ الآخر..
جلس بمكتبهِ وسحبَ قلمًا وقام بكتابةِ استقالتهِ مع كلمةِ اعتذارٍ لم توحي سوى بمعنى المرارِ والقهرِ والظلمِ الذي تعرَّض له، دلف إليه شريف وجلس بمقابلتهِ بصمت، ساد صمتٌ ثقيلٌ مشحونًا بغبارِ سجائرهِ الذي اختفى خلفها:
-ناوي على إيه؟..إحنا مش مرتِّبين للخطوة دي دلوقتي.
رفع عينيهِ إليه وأجابهُ بنبرةٍ مثقلةٍ بكمِّ الألمِ الذي يحرقهُ داخليًا:
-أنا كنت مرتِّب لدا كلُّه ياشريف، أومال ليه القضية اتقبلت، وليه سعيت إنِّ راكان البنداري هوَّ اللي يمسكها.
تفاجأ شريف بحديثهِ ثم تساءل:
-طيب ليه ماكشفتش ورقك قبل المحكمة بدل ماراجح يفضح كدا؟!.
تراجعَ بجسدهِ للخلفِ ونفث تبغهِ بهدوءْ مميت ثمَّ قال:
-مين قالَّك مش أنا اللي وصَّلته لكدا، أنا كنت عايزه هوَّ اللي يقول قدَّام العالم كلُّه، يعني هقدِّم قضية زي دي ومعرفشِ أبعادها!! فيه إيه ياشريف.
-معقول ياإلياس!..قاطعهُ رنينُ هاتفه.
.أيوه يارؤى...
استمعَ إلى أنينها، كأنَّها تبكي، ثمَّ أردفت بتقطُّعٍ مرتجف:
– ميرال...إلحق ميرال...
هبَّ من مكانه، وقد نسيَ تمامًا حالتها بعد أن علمَ بما سيؤولُ إليه الأمر.. جمع أشيائهِ على عجل، وهتف:
– طيب، أنا جاي..دقايق وأكون عندك.
– ميرال خرجت من البيت، ومش عارفة مالها...وماما فريدة قالت أبلَّغك.
خطا نحو الباب، وصوتُ شريف يلحقهُ بتساؤلٍ حائر:
– إلياس، فيه إيه؟ استنى...
لكنَّه لم يرد، فتح البابَ على عجل، ليجد أحدَ قادتهِ أمامه..
– إلياس..كويس إنِّي لحقتك، لازم نتكلِّم.
هنا تجمَّد جسدهِ للحظة، مصعوقًا بما قد يُقال، لكنَّهُ تمالكَ نفسه، وهتفَ بثباتٍ متكلِّف:
– أنا كنت جاي لحضرتك أصلاً، بس لازم أمشي حالًا...مسألة شخصية، وإن شاء الله أرجع لحضرتك.
رفع عينيهِ نحوَ مكتبه، وأشار إلى شريف:
– الورقة الِّلي عندك قدِّمها لسيادةِ العقيد ياشريف...آسف يافندم، لازم أتحرَّك دلوقتي.
قالها، وخطا إلى الخارجِ بخطواتٍ تبدو قويَّة، لكنَّها كانت تخونُ حقيقتها...
كان يترنَّحُ في داخله..
يترنَّحُ من الألم، من القدر، من حياةٍ أُجبرَ أن يحياها...والآن، يُجبرُ أن يتخلَّى عنها..
هل هذا عدل؟
مرَّرَ كفِّهِ على وجههِ المُثقل، وتمتمَ في وجوم:
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... اللهمَّ كن لي، ولا تكن علي.
أُنهكَ جسدها وتورَّمت عيناها بالبكاء، نزلت برأسها التي آلمتها بشدَّة على المقود وبدأت تبكي بصمت، تذكَّرت زيارتها بالأمسِ لرانيا.
قبل يومٍ واحد...
بعد أن علمت بما حدث لإيلين، أصرَّت ميرال على مقابلةِ رانيا..كانت متيقِّنة أنَّ جميعَ الأجوبة تقبعُ خلف صمتِ تلك المرأة، دلفت إلى مكتبهِ عقب خروجِ أرسلان، واتَّجهت إليه بخطا حاسمة:
– إلياس، هطلب منَّك طلب...وحياة أيِّ حاجة حلوة بينا، مترفضش.
ضيَّق عينيهِ متسائلًا، لم يفهم مقصدها من البداية، لكنَّها اقتربت أكثر، دفعت المكتبَ بهدوء، واستندت عليهِ بظهرها، تُحاصرهُ بنظراتٍ دامعة:
– عايزة أقابل رانيا..دا طلب من مراتك، مش من صحفية، والله ماهكتب عنها حرف، ومستحيل أعرَّض شُغلك للخطر، بس في أسئلة كتيرة، لازم أسمع جوابها منها.
– إنتي كنتي بتتصنَّتي عليَّا ياميرال؟ عرفتي منين موضوع رانيا؟
انحنت تحتضنُ وجههِ براحةِ يدها، وعيناها تلمعُ بطبقةٍ كريستاليةٍ مرهقة:
– إنتَ تصدَّق إنِّ ممكن أعمل كده؟ أنا سمعتك صدفة..من يوم مافوقت من العملية، كنت قلقانة عليك، ولمَّا رجعت واتكلِّمت مع الراجل دا، فهمت..فهمت كنت فين وليه.
سحب كفَّيها برفق، أجلسها فوق ساقيه، وضمَّها إلى صدرهِ قائلاً:
– مش عايز أوجع قلبك على حاجة متستاهلش، قوليلي..هتستفادي إيه لمَّا تقابليها؟
طبعت قبلةً سريعةً قرب خاصرته، وهمست بنبرةٍ مترجفة:
– لازم أقابلها..يمكن متفرقشِ معاك، بس تفرق معايا...أرجوك ياحبيبي.
ضمَّها بحنان، وربتَ على ظهرها برقَّة:
– تمام، هخلِّيكي تقابليها...هتِّصل بيزن يروح معاكي.
– وليه ماتروحشِ إنت؟ ليه يزن؟
رفع خصلاتِ شعرها وهو يبتسم:
– علشان إسحاق بيراقبني، وأخوكي الأهبل طليقته قريبة منها، فعادي يروح هناك بحكم إنُّه أخوكي، أمَّا أنا... هثير الشك، ولسَّه محتاج أخلِّيها في الصورة.
– أوعى تكون ناوي تقتلها؟
– خايفة عليها؟
هزَّت رأسها بدموعٍ تنسابُ على وجنتيها:
– أنا مااعرفهاش علشان أخاف عليها، أنا خايفة عليك...خايفة الشيطان يضحك عليك، وتبقى مجرم في نظر ربِّنا.
مرَّر أناملهِ على وجهها، وابتسامتهِ الحنونة لم تفارق ملامحه:
– ماتخافيش، حبيبتي...الحمدُ لله، عندي من الصبر والإيمان مايكفيني للتعامل مع رانيا وراجح..المهم إنتي... ما تضعفيش.
وضعت رأسها على صدره، ولفَّت ذراعيها حول خصره، هامسةً بخوف:
– أنا مش عايزة غيرك...إنتَ، وماما، ويوسف..عايزة ميرال جمال الدين اللي الكلِّ بيفتخر بيها، مش عايزة الناس دي في حياتنا، كفاية حرب...وربِّنا ينتقم منهم بكرة.
نهضَ من مكانه، يحملها بين ذراعيهِ ضاحكًا:
– هوَّ أنا قلتلك قدِّ إيه وحشتيني؟
دفنت رأسها بعنقه، وضربتهُ بخفَّةٍ على صدرهِ وهي تضحك..ثمَّ خرجت من شرودها على رنينِ هاتفها، لتجدَ اسمهِ يضيءُ شاشةَ هاتفها..
ترجَّلت من السيارة، تاركةً هاتفها خلفها، تمضي بخطا متعثِّرة ودموعها تسبقها..وصلت إلى مكانٍ مرتفعٍ بالمقطَّم، وجلست على حافته.. دموعها تنهمرُ بغزارة، أطبقت على جفنيها، تتمنَّى لو تحرقُ عينيها، تصمُّ أذنيها..لم تعد ترغب بشيء...سوى الموت.
لوت ثغرها بابتسامةٍ مؤلمةٍ وهي تتذكَّرُ لقاءها برانيا، قبل يومٍ واحدٍ فقط...
وصل يزن إلى منزلِ ميرال بعد أن هاتفهُ إلياس:
"هتاخد ميرال لرانيا، رجعت من يومين حي الألفي..ياسين موجود وهيطلَّع كلِّ حاجة صوت وصورة."
"مابلاش المواجهة دي ياإلياس..ممكن ميرال تتعب، ومش لازم تدخَّلها في شغلك."
"لأ، إلياس مالوش دعوة..أنا الِّلي عايزة أتكلِّم معاها، يمكن أطلع منها بحاجة."قالتها ميرال بإصرار
"ولو أذيتك؟" سأله يزن بقلق..
تطلَّع إليهِ إلياس ورد:
"ما تخافش، مش هتعمل حاجة.. وبعدين ياسين هناك، ولو ملقتوش، جاسر موجود..أكيد عاملين حسابهم.. وانتَ متبعدشِ عنها."
"حاضر...يا رب المشوار يجيب فايدة."
بعد فترة، وصلت ميرال إلى حيِّ الألفي، بعد اتِّصالِ إلياس بياسين..
دلفت إلى الداخل...وجدت رانيا مقيَّدةً بالأصفادِ الحديدية..
رفعت رانيا عينيها، متوقعةً أنَّ الداخلَ هو ياسين، لكنَّها اتَّسعت عيناها بدهشة:
"مروة!" قالتها بابتسامةٍ مشوَّشةٍ ودموعها تسيل..
جلست ميرال على مقعدٍ دون أن تُظهرَ أيِّ اهتمامٍ بردِّ الفعل، ثمَّ قالت بحزم:
"أنا هنا...ميرال السيوفي. هتتكلِّمي معايا، غير كده همشي."
"ماشي ياحبيبتي...إنتي ميرال السيوفي..عاملة إيه ياقلبي؟ وحشتيني..أنا طلبت من ابنِ فريدة أشوفك، بس الحيوان رفض!"
هبَّت ميرال من مكانها، وأشارت إليها بتحذير:
"لسانك هيطول على جوزي؟ صدَّقيني، ممكن أموِّتك عادي..فبلاش أسلوبك القذر دا..اللي بتتكلِّمي عنُّه دا جوزي...ومش بس جوزي، ده حياتي كلَّها."
ازدادت دموعُ رانيا، وهزَّت رأسها موافقة، ثمَّ همست:
"ربِّنا يسعدك يابنتي...واللهِ من وقت ما عرفت إنِّك بتحبيه، وأنا حاولت أبعدك عن أبوكي."
صرخت ميرال، والقهرُ ينهشُ صوتها:
"أنا ماليش أبهات عندك ياستِّ إنتي!"
اقتربت منها، وانحنت تحدِّقُ في عينيها، وصاحت بهمسةٍ غاضبة:
"نفسي تحترمي نفسك مرَّة واحدة... اعملي حاجة صح في حياتك..أنا عرفت كلِّ بلاويكي...وكلِّ يوم بكتشف إنِّك أنيل وأنيل..انتي إيه؟ شيطانة؟!"
شهقت رانيا وأغمضت عينيها:
"مكنتش أقصد...والله ماكنت أقصد كلِّ اللي حصل، بس جريمة جرِّت جرايم."
تنهَّدت ميرال وجلست من جديد.. لحظاتُ صمت، نظرت خلالها إليها باشمئزاز، ثمَّ سألتها:
"هوّّ أنا...بنتك فعلًا؟"
هزَّت رانيا رأسها وقالت:
"وحياة ربِّنا، إنتي بنتي."
"طيب...لو أنا بنتك زي مابتقولي، خلِّيني أحس إنِّك أم فعلًا."
"قولي، وأنا مستعدة أموِّت نفسي علشانك..نفسي أحضنك يامروة... كفاية هيثم، بلاش تحرميني."
"سؤال واحد، يا مدام رانيا، وعايزة إجابته وبس..."
نظرت إليها مباشرةً وسألت:
"نورا الرفاعي خلِّفت بنت اسمها إيلين...جوزك بيقول إنَّها بنت حرام.. مرَّة قال إنَّها بنتِ عمُّو جمال، ومرَّة تانية قال إنِّ أمَّها غلطت..ده صح؟ ولو مش صح...ليه بيقول كده؟"
تجمَّدت رانيا، وشحبَ وجهها..ثوانٍ مرَّت كأنَّها دهر...ثمَّ همست:
"هتسامحيني لو قلتلك؟"
"احكيلي كلِّ حاجة...من وقتِ ما مامافريدة ولدت إلياس، لحدِّ ماراجح رماكي في البحر."
"طيب...لو قلتلك، هتخلِّيني أحضنك؟"
"قولي الأوَّل، وبعد كده أقرَّر."
"طيب، ماتيجي أحضنك؟ نفسي أشمِّ ريحتك..حرام."
"آه، حرام..واتكلِّمي وأنا أقرَّر، مش يمكن تكوني مظلومة وأسامحكم.
انهمرت دموعها كأنَّها تغسلُ بها سنينَ الغدرِ والخيانة..نظرت إلى ميرال تلوكُ الكلمات، التي تخترقُ قلبها بحدَّةٍ وهي تقصُّ لها كلَّ ماسبقَ ثمَّ
قالت بصوتٍ متهدِّج:
"أنا حكيتلك كلِّ حاجة…
-أنا ماليش دعوة بجرايم راجح وتعاونه مع الجماعات الإرهابية، ومشاركته في قتلِ عمُّو مصطفى أو غيره، أنا عايزة أعرف ليه عملتوا كدا؟. إيه الِّلي حصل من عمِّو جمال وماما فريدة؟.
أزالت دموعها وطالعتها:
-أنا هقولِّك كلِّ حاجة مش علشان إنتي طلبتي دا، لا علشان راجح غدر بيَّا وكان هيموِّتني.
-وليه غدر بيكي وكان عايز يموِّتك؟.
صمتت للحظاتٍ ثمَّ ألقت كلماتها:
-علشان خونته، زي ماهوَّ خانِّي..
شهقت ميرال تضعُ كفَّيها على فمها، فلم ترحمها رانيا التي هزَّت رأسها وضحكت بهسترية:
-وجوزك مصوَّرني، وكان بيهدِّدني بصوري، هنا تذكَّرت ميرال تلك الصور..فأغمضت عينيها بقهر ، فتحتها على حديثِ رانيا:
-من ساعة مافريدة اتخطبت لجمال، وأنا قلبي بيتقطَّع..حاولت أفتنه، أغريه، لكن مااتحرَّكش، ولا حتى بصِّلي..يوم
ماطلبت منُّه أتجوِّزه، بوست إيده، وقولت له كلِّ الِّلي في قلبي...لكنُّه ضربني بالقلم، وقال لي:
مستحيل أكسر قلب فريدة…دي مراتي، دمعتها عندي بالدنيا، أدبحك وأرميكي في البحر ولا أقهرها علشانك!
من بعدها…كلِّ حاجة جوايا ماتت."
بلعت غصةً في حلقها، ومسحت دموعها بكمِّ قميصها، ثمَّ تابعت: "اضَّطريت أتجوز راجح لمَّا أبويا أصرّ إنِّي أتجوِّز حد من برَّة البلد، وراجح وقتها كان بيمثِّل الحبِّ على نورا علشان أبويا مادياً كويس..وأنا؟ أنا استغلِّيت النقطة دي..ضحكت عليه، خلِّيته يصدَّق إنِّي بحبُّه، واتجوزته.. سنتين وأنا شايفة حبِّ جمال لفريدة بيقطَّع فيَّا...غيرتي كانت نار في صدري بتزيد كلِّ يوم..
وفي يوم...جمال رجع مضروب بالنار.. دخل بيتنا ورفض يطلع لفريدة علشان ما يزعلهاش، طلب من راجح يقولَّها إنُّه كان بيدَّرب على السلاح والطلقة جت بالغلط...بس الحقيقة؟ الحقيقة إنُّه لقى شحنة مخدرات في عربيته هوَّ وراجع من البحر، كانوا عارفين إنِّ سمعته كويسة واختاروا عربيته الِّلي بتنقل سمك..
حكى كلِّ حاجة لمحمود..ووقتها… الفلوس لعبت في عين محمود، وقال له: نساومهم ونكسب، وفي نفسِ الوقت نساعد الحكومة..
جمال رفض، بس محمود جرِّ راجح وراه، وسرقوا المخدرات من عربية جمال...راجح كان ساكت، مابلغش… خلَّى محمود يكلِّم التجَّار بنفسه..
فعلاً، اتَّفقوا معاهم وسلَّموهم الشحنة بعد ماخدوا منهم فلوس.. بس جمال عرف وبلَّغ الشرطة، والشرطة قبضت على الكل...واحد منهم مات في السجن وهوَّ بيحاول يهرب، وأخوه…اتجنِّن، وبعت ناس قتلوا جمال وغرَّقوا مركبه علشان يبان إنُّه مات في حادث."
تغيَّرت نبرةُ صوتها، وصارت أكثرُ قتامة: "بعد فترة عرفوا إنِّ راجح ومحمود همَّا السبب..خطفوا مرات محمود، الِّلي كانت نورا، والبنتِ دي كانت بتحبِّ سمير دا من زمان..بس هوَّ انتقم منها...قال إنُّه اغتصبها، ونورا لمَّا عرفت إنَّها حامل، كانت في حالة يُرثى لها.
شهقت ميرال، وقالت بصوتٍ مرتجف: "يعني إيه؟ تقصدي إنِّ أيلين مش بنتِ محمود؟!"
رفعت رانيا عينيها المليئتين بالذنب وقالت: "بنت محمود... آه، بس…"
تردَّدت، ثمَّ أكملت وهي تتهرَّبُ من عيني ميرال: "أنا اللي فهِّمت محمود إنِّ ايلين مش بنته…رغم إنِّي عرفت إنُّه ما لمسهاش..هوَّ طلب منِّي أخلِّيه يكرهها…
خدَّرت نورا، وجبت سمير في سريرها، واتَّصلت بمحمود…وقلت له: مراتك بتخونك..وهيَّ فرحانة بيه… وهتطلَّقك."
صمتت لحظة، ثمَّ تابعت بصوتٍ مكسور: "محمود طلَّقها، بس رجعها لما عرف بحملها ودا كان وصية ابويا له، ورجعها فعلا بس اتجوز عليها بنت عم الراجل اللي كان بيحبها علشان يقهرها، وأبويا مات ساعتها…بس أنا ماندمتش، لأنِّ كلُّهم قهروني."
رفعت ميرال يدها المرتجفة إلى فمها، وهمست بضياع: "إنتي ورا كلِّ دا؟!"
صرخت رانيا وهي تضربُ الأرض: "علشان تستاهل..كانت دايمًا شايفة نفسها عليَّا، كلِّ شوية: فريدة ملاك… فريدة أنضف منِّك…ياريتك زيِّ فريدة…
جمال بيحبِّ فريدة…بيحميها…
حتى نورا خانتني، وهي عارفة أنا بحبُّه!
بس فريدة؟ فريدة كانت السبب في كلِّ حاجة…"
زحفت ميرال للخلف، تنظرُ إلى رانيا وكأنَّها ترى كابوسًا لا تريدُ تصديقه، فتابعت رانيا بصوتٍ أكثرُ وحشية: "آه، خطفت يوسف، وقولت لعطوة يقتله أو يبيعه برَّه…بس رماه قدَّام دار، والتاني؟ والتاني عذِّبني كلِّ لمَّا أبص في وشُّه، لأنُّه شبه جمال..
كان لازم أرميه، لازم أنتقم منها…"
صمتت لحظة، ثمَّ قالت بمرارة: "مش أنا السبب…جمال هوَّ السبب، لو كان إدَّاني فرصة، ماكنشِ دا حصل..
بس هوَّ فضَّل فريدة…وأنا قهرتها بعمره الِّلي ضاع...ضيَّعت شرفها الِّلي كانوا بيضربوا بيه المثل، خلِّيت راجح يغتص. بها كلِّ ليلة ومش بس كدا كنت بصوَّرها علشان أذلَّها..
وأضحك كل ما أفتكر كلام جمال أنُّه خايف على دموعها، أنا قهرتها خمس سنين، بعد ماحرمتها من ولادها،
صرخت مقهورةً تشيرُ على جسدها: -بسببه بقيت ستِّ كلِّ راجل بيحلم يلمس فيها أنوثة مش موجودة عند مراته، كنت بنتقم من نفسي علشان مافكرش في جمال، علشان أكره الرجالة كلَّها..علشان أنتقم من راجح الِّلي كلِّ ليلة راجع من حضنِ ست يدوَّر فيه على فريدة، حوَّلته لمسخ ينفِّذ كلامي..
إنتي مجرمة قذرة.
قهقهت رانيا بدموع:
-أنا فعلًا مجرمة، علشان أنا السبب في إنِّك عايشة في حضنِ ابنِ فريدة، المفروض تشكريني ياستِّ الأستاذة.. لولايَ مكنتيش موجودة دلوقتي،
أنا…أنا أمِّك، سمعتيني؟ ومتفكريش إنِّ اسمِ فريدة هينفعك.
هجيبك يابنتِ راجح…هجيبك غصبِ عنِّك..وهتعترفي إنِّي أمُّك، بالقوَّة لو لزم الأمر!"
هربت من أمامها مع صرخاتها:
-إنتي بنتِ راجح الِّلي شارك في قتلِ أخوه، تاجر المخدرات بتاع الكيف يابنتِ رانيا..
خرجت من شرودها تصرخ..لا، لم تكن صرخة بل كانت نزيفُ روح، كانت، موجوعة، مكسورة، ممزَّقة..انهمرت الدموعُ بلا توقُّف، تختلطُ بأنفاسها المختنقةِ وكأنَّ كل ذرَّةٍ في جسدها تريدُ موتها..جرَّت خطواتها بصعوبة وكأنَّها تتَّجهُ نحو حافَّةِ الموت، لا تمشي، بل تائهة بين الحياةِ والموت.
نظرت إلى قاعِ الجبل، كأنَّ الأرضَ تناديها أن تعودَ إليها، أن تتحرَّر من هذا القيدِ المسمَّى "حياة". وفي خضمِّ عتمتها، تردَّد صوتُ رانيا في أذنها...صوتًا أشبهُ بطعنة:
-"إنتي بنتِ راجح يابنتِ رانيا..."
ثمَّ جاءَ صوتُ مصطفى، بصوتٍ يشبهُ صوتُ القاضي وهو ينطقُ بالحكم:
- "حبيبتي...بعد القضية، كلِّ واحد لازم يرجع لأصله."
هنا، سقطت روحها من قبلِ أن يسقطَ جسدها...اختنقَ نبضها، وشعرت وكأنَّها تُدفنُ وهي على قيدِ الحياة.. الحياة؟ أيُّ حياةٍ تلك التي تُجبرها أن تنتمي لهؤلاء؟! فلتحترق، وليحترق كلَّ شيء..
صوتُ الفرامل شقَّ الصمت...لتتوقَّف سيارةُ إلياس..نزلَ منها كالمجنون، لا يرى شيئًا سوى ظلَّها المتهاوي على شفيرِ الموت..صرخَ باسمها، صرخةً لم تخرج من حلقهِ فقط، بل من قلبه، من أعمقِ نقطةٍ فيه:
- "مييييرااااال!!!"لكنَّها لا تستمعُ إليه
..صوتًا واحدًا فقط يتردَّدُ بأذنها..إنتي بنتِ راجح.
صرخت...وصرخت كأنَّما يُنتزعُ قلبها:
- "لأااااا...مستحيييييل!!!"قالتها متوقِّفةً تريدُ أن تسلبَ حياتها بيدها..
في لحظةٍ جرَّ قدميها نحو الهاوية، جذبها بقوَّة، وسحبها من على الحافةِ كمن ينقذُ قلبهِ من الانتحار..سقطت فوقه، لم يشعر بالألم، رغم ارتطامِ رأسهِ بالأرض والدمِ الذي سال، لكنَّه لا يهتم، لم يكن يسمع سوى شهقاتها، وبكاءها المرّ، الكاسرِ لقلبه، ليتحوَّلَ إلى شظايا..
- "سيبني أموت! إنتَ كذاب ياإلياس..كذبت عليَّا..وعدتني... وبعتني، ليه ياإلياس؟ ليه رميتني في النار؟!"
ضمها وكأنَّها قطعةً من روحهِ تتلاشى:
- "حبيبتي..بلاش، بالله عليكي اهدي، ميرال، وجعك بيقتلني، صوتك كدا بيخنقني..."
دفنت وجهها في صدره، لا تبكي فقط، بل تنزفُ عمرًا وأمانًا وخيبة:
همست بتقطُّع:
- "كنت مصدَّقاك...ليه عملت كدا؟ ليه خونتني؟!"
أبعدها برفق، قابضًا على وجهها بين كفَّيهِ المرتجفتين:
- "ميرال..كدا؟ أنا خونتك؟
هزّت رأسها، وتراجعت تمسحُ دموعها بعنف، وكأنَّها تريدُ محوَ كلَّ شيء:
- "رجَّعني البيت...ابني مستنيني..على الأقل هوَّ الحاجة الوحيدة الحقيقة"
نهضَ يتألَّم، ينزفُ من رأسه، لكنَّهُ قاومَ كلَّ شيء، واقتربَ منها بخطواتٍ ثقيلة:
-"يلَّا نرجع بيتنا...بس أرجوكي متعمليش كدا إنتي مش لوحدك."
تحرَّكت أمامه، صامتة، منهارة من الداخل..رفع يدهِ ليتحسَّسَ رأسهِ التي بلغت أصابعهُ منها الدم، فاتَّصل بوالدته:
- "ماما، أنا لقيت ميرال...هنبات في بيتنا، ابعتي يوسف مع النانا."
قالها ثمَّ أغلقَ الهاتف، وأسرعَ نحوها، ضمَّها تحتَ ذراعه، كأنَّهُ يريدُ أن يثبِّتها بجانبهِ إلى الأبد..أشار للرجال:
-"ارجعوا على الفيلا."
فتح بابَ السيارة، جلست بصمت، نظراتها تائهة، كأنَّها ترى العالمَ لأوَّلِ مرَّة..ركب بجانبها، شغَّل السيارة، لكن قبل أن تتحرَّكَ العجلات، جذبَ وجهها، وقبَّلها..قبلةً طويلة، عميقة، كأنَّها محاولةً يائسة لتضميدِ الجراح، لإعادةِ الروح...وهمسَ بصوتٍ مخنوقٍ بالعشق:
- "لمَّا نرجع، هنعاقب بعض...عشان موِّتيني وأنا حي وأنا وجعت قلبك..
رفعت نظرها إليه، بصوتٍ ممزوجٍ بالانكسار:
- "هيكتبوا في البطاقة..ميرال راجح؟ وهيقولوا ليوسف لمَّا يكبر إنِّ جدُّه إرهابي، وجدته...كانت بتبيع جسمها للرجال؟ وأنتَ؟ هتيجي في يوم وتعايرني؟"
وضعَ إصبعهِ على شفتيها المرتجفتين:
- "أنا عاذرك...ياوجعي، و نار قلبي دلوقتي، يا حبيبةِ إلياس."
اقترب، لامسَ ثغرها بنظراتهِ قبل أن يلمسهُ بشفتيه، وتنهيدةٌ موجعةٌ خرجت منهُ كأنَّها آخر زفير:
- "حبيبتي بترميني بالباطل؟ دا حكم إعدام، ومش مسموحلك...وعقابي؟ لا، مش زي كلِّ مرة..المرَّة دي...هنسِّيكي حتى اسمك إيه."وأنا قدَّامك عاقبيني براحتك، اعملي فيَّا مابدالك أهمِّ حاجة جوَّا حضني.
قالها ثم انطلقَ يقودُ السيارة بيد، ويضمَّها باليدِ الثانية...وقلبهِ كان بركانًا، يشتعلُ في صمت، ينتظرُ لحظةَ الانفجار...
وصل بعد فترة استدار يحملها، وجد ارسلان وغرام بانتظارهما، صعد بها دون النطق بحرف، دثرها بالفراش وطبع قبلة حنونة فوق جبينها
-ممكن تنامي وتنسي اي حاجة، أغمضت عيناها دون حديث..قام بفك حجابها الذي انزلق من فوق خصلاتها، وظل لدقائق إلى أن ذهبت بنومها، جلس على ركبتيه أمام فراشها يمسد على وجهها
-سامحيني..بس وعد محدش هيقرب منك وهتفضلي زي ماانت حتى لو كلفني كل حاجة..قبل وجنتها ونهض متجها إلى الاسفل ..اقتربت منه غرام متسائلة:
-هي عاملة ايه دلوقتي..
هوى على المقعد يمسح على وجهه بعنف ورفع نظره الى ارسلان
-كانت هتموت نفسها
شهقت غرام وانسابت دموعها قائلة
-حبيبتي كتير عليها اوي، لازم تشوف دكتور، المرحلة دي صعبة اوي
جلس ارسلان بجواره يربت على ساقيه
-الياس عارف الدنيا ملخبطة، بس مش قدامنا غير أننا ندعم بعض، هخلي غرام معاها ..
هز رأسه بالرفض ورد
-لا ..لا .. مينفعش ابعد عنها خالص، انا اصلا قدمت استقالتي، كدا كدا الدنيا مابقتش زي الاول ..ومتأكد من راكان هيسرع المحاكمة
-ربنا يسهل ..طيب احنا هنمشي علشان نطمن ماما، كانت قلقانة عليها، علشان كدا كلمتني
اومأ له ثم قال
-ابعت غادة واسلام، انا عارف الاتنين دول هيخرجوها، وانا هشوف دكتور بكرة إن شاءالله
بعد فترة صعد اليها وجدها مازالت غافية كالذي يتهرب من الحياة بنومه، جلس لبعض الوقت ..قاطع صمته رنين هاتفه
-أيوة ياادم
-الياس التحاليل ظهرت..ايلين بنت عمو محمود يعني التحاليل بتاعة زمان كانت مزوة
-عرفت ياادم ..المهم دلوقتي عرف الدكتورة .
-ربنا يسهل انا دلوقتي رايح اشوف بنت عمتي وهي هناك هكلمك بعدين
تمدد جوارها بثايبه ثم جذبها إلى أحضانه ليغمض عيناه ذاهبا بنوم عميق ..
صباح اليوم التالي ..استيقظ على صوت ضحكات ابنه بالخارج ..هب من نومه يبحث عنها كالمجنون ..هبط سريعا الى الاسفل يبحث عنها وجدها تجلس بأحضان فريدة يجوارها غادة واسلام ..اقترب منهما بهدوء بعدما تنهد براحة ..توقف اسلام يجيب على هاتفه ..فجلس مكانه ملقيا تحية الصباح وعيناه عليها
ردت فريدة التحية تهز رأسها بعدما شعرت به ..نظر إلى ما تحمله فرفعه ينظر إليه
-ايه دا ..
ابتسمت غادة وتمتمت:
-هدية لميرو، عيد ميلادها الاسبوع الجاي، فقولت اجبلها هدية علشان اكون سباقة
رفع حاجبه ساخرًا
-هو ليه بتحسسيني انك جايبة لخطيبك، دبدب احمر، هو فيه حد لسة بيعمل الهبل دا ..رمق تلك الصامتة واستطرد
-دي تجبلها بدلة رقص، اصلها بتموت في الهز
شهقت فريدة تلكمه بخفة
-ايه اللي بتقوله دا يابني
صفقت غادة وارتفعت ضحكاتها
-"اوووه اوووه ..أبيه إلياس بيقول بدلة رقص وهز، بركاتك ياميرو
انحنى يهمس لها:
-مش صح ولا بتبلى عليكي..طب بذمتك مش نفسك في بدلة رقص ..اقترب اكثر وهمس بخفوت مما لمست شفتيه أذنها
-والله لاجبها واقعد للصبح
احتضنها بعينيه ليرى ردة فعلها، اعتدلت تحتضن ذراعه
-الياس عايزة اروح اعمل عمرة، تفتكر ربنا غضبان عليا علشان كنت بلبس وحش وبخرج بشعري
رفع نظره لوالدته التي ربتت على ظهرها
-حبيبة ماما مش انتي دلوقتي غيرتي كل حاجة، ربنا غفور رحيم، ليه بتقولي كدا
لم ترد ولكن ظلت عيناها متعلقة به
توقف مستئذنّا من والدته
-بعد اذنك ياماما ..هخرج مع ميرال مشوار ساعة، خلي بالك من يوسف
بعد عدة أيام، وفي الموعد المقرر لمحاكمة راجح ورانيا، توافد الحضور إلى قاعة المحكمة التي اكتظت عن آخرها، وتوجه المتهمان إلى قفص الاتهام تحت حراسة مشددة. ارتفعت الهمسات بين المقاعد، قبل أن يسود الصمت التام مع دخول هيئة المحكمة.
وقف الجميع احترامًا، ودلف القضاة بزيّهم المهيب، وعلى وجوههم ملامح الجدية والحزم. جلس رئيس المحكمة في مقعده، وأعلن افتتاح الجلسة بصوته العميق:
– "بسم الله الرحمن الرحيم... نبدأ جلسة اليوم بمحاكمة المتهمين، مع ذكر اسمهما لسنة ٢٠٢٥ جنايات أمن دولة عليا."
بعد افتتاح الجلسة بكلمات القاضي الرصينة التي دوت في أرجاء القاعة، وقف الحضور في صمت مهيب، واختلطت أنفاسهم بالتوتر والترقّب. ارتفعت أعينهم نحو منصة العدالة، حيث اعتلى القاضي مقعده بنظرات حاسمة، قبل أن يلتفت نحو وكيل النيابة قائلاً:
"تفضل يا سعادة وكيل النيابة، قدّم مرافعتك."
تقدم راكان بثبات، يحمل ملف القضية بين يديه كأنه يحمل الحقيقة ذاتها، وبصوته القوي الرنان بدأ مرافعته النارية، قائلاً:
"سيدي الرئيس، حضرات السادة القضاة... أقف أمامكم اليوم لا لأستعرض جريمةً عابرة، بل لأكشف خيانة مزدوجة للإنسانية وللثقة التي منحتها هذه الدولة لكل من تسوّل له نفسه أن يعبث بأمنها، أو يسفك دماءها...
– سيِّدي القاضي...
سادةُ المحكمة...
نحن لا نحاكمُ امرأة ولا رجل فقط، بل نحاكمُ جريمةً عمرها أكثرُ من ثلاثين عامًا،...دعني اتحدث لكم عن الجريمة الثانية:
رانيا حسن الرفاعي...
اختطفت طفلين لا ذنبَ لهما، الأوَّلُ لم يُكمل عاميه، والثاني لم يُفطم بعد، شهرانِ فقط كان عمره..
طفلان من دمِ أخ زوجها..اختُطفا من حضنِ أمُّهما، وتبدَّلت حياتهما إلى الأبد.
هل تعرفونَ من اختطفت؟ طفلانِ يا سيدي القاضي!
الأوَّل..طفلٌ لا يتجاوز عمرهِ السنتين! والثاني...رضيع بالكاد أتمَّ شهرينِ من حياته!
طفلانِ بريئان، من لحمِ ودمِ أخ زوجها...
من دمِ عائلتها!
ارتفعت همساتٌ من مقاعدِ الحضور، وواصل راكان بصوتٍ أجش يملأهُ الغضب:
– أتعرف مامعنى أن تُنتزع روحُ أمٍّ من بين ضلوعها؟
أن تُسلَبَ ضحكاتِ طفلينِ كان من المفترض أن يكبرا بين أحضانِ ذويهم، لا أن يُلقوا في غياهبِ المجهول، بأوامرِ هذه المرأة!
وأشار بإصبعهِ نحو رانيا دون أن يرفَّ له جفن:
– هذه السيدة...لم تخطف فقط طفلين، بل اختطفت معها الرحمة والضمير..
وإن لم تكن يدُ الشرِّ الأقوى في هذه القضية، فمن تكون؟!
أدار وجههِ للحضور، ثمَّ عاد ينظرُ نحو القاضي:
– ولكن إرادةُ اللهِ لا تُقهر...
من ظنَّت أنَّهم ضاعوا إلى الأبد، كَبِروا...ونَشأوا...وعادوا..
عادوا لا كأطفالٍ مكسورين، بل كرجالٍ تَربَّت فيهم النخوةُ والعدل..
توقَّف لحظة، ثمَّ نطق كلماتهِ كالسهم:
– الأوَّل..اليوم هو ضابطٌ في أمنِ الدولة، عمرهِ اثنين وثلاثينَ عامًا..
والثاني..ثلاثون عامًا، ويشغلُ منصبًا حسَّاسًا في جهازِ المخابرات.
هنا دوى همسٌ صاعقٌ بين الحضور، بينما واصلَ راكان دون أن يتزعزعَ صوته:
– هذه ليست مصادفة، بل عدالةُ السماء..
من ظنَّت أنَّها ستمحي هوِّيتهم، أعادها الله إليهم بشرفٍ أعظم..
ومن تآمرت على اختطافهم...هاهي اليوم تقف، محاصَرةٌ بأدلَّتها، مجرَّدةٌ من أقنعتها..
أيَّها السادة...
لم نأتِ اليوم نحملُ ورقًا...بل نحملُ طعنة..
طعنةٌ لم تُغرس في صدر جسد، بل في صدر الرحم... في قلب الأخوّة، في ميثاق الدم، في ما توارثته الفطرة قبل أن تُسطّره الشرائع.
اليوم، لا نحاكمُ قاتلًا فحسب...بل نحاكمُ خائنًا لصلبِ أبيه، ناكرًا لملحِ أمِّه، غادرًا بمن وُلد معه في ذاتِ اللحظة وربَّما شاركهُ الصرخةَ الأولى..
قل لي، أيَّ قلبٍ تملكه، وأيَّ شيطانٍ قادك، لتقفَ ساكنًا بينما يُسفكُ دمُ أخيك؟!
أشاركت؟
سكت؟
غضضتَ الطرف؟
كلُّكم شركاء...فالسكوتُ في جريمةِ الدم جريمة لا تقلُّ دناءة عن الطعن..
أتدري ما معنى أن تُشاركَ في قتلِ أخيك؟
أن تفقأ عينَ أمَّك وهي حية..
أن تحرقَ السقفَ الذي جمعكما في طفولتكما..
أن تدفنَ اسمك بيدك في مقابرِ الخيانة..
إنَّ الأخ الذي يُصبح يدًا في جريمةٍ كهذه، هو ليس من البشر، بل مسخًا تخلَّى عن جلده، عن نسبه، عن صورتهِ في المرآة..
واليوم، لا طلبَ لي سوى العدالة...
لا شفقة لمن لوَّثَ الشرايين، ولا رحمة لمن خذلَ الدم،
وليعلمَ المتَّهم، أنَّ السجنَ أهونُ عليه من محكمةِ السماء...
ففيها، سيُنادى عليه باسمه، وباسمِ أخيهِ الذي غدره."
ثمَّ توجَّهَ بكلماتهِ الأخيرة إلى هيئةِ المحكمة:
– أطالب بأقصى العقوبة...ليس فقط لأنَّهما مجرمين، بل لأنَّها خانت الدم، والرحم، والأمانة..
خانَت كل مايُقدَّسُ في القلوب..
وإن لم تُحاسب اليوم...فلمن نردُّ العدل غدًا؟.
صفق الجميع بعد القاء كلمات راكان
لينقر القاضي على المنصة
-هدوء
-الدفاع يتفضل ...ولكن قطع صوتهم دخول أحدهم
-عفوا سيدي القاضي..فأنا جئت اليوم لأقتص حقي من هذان المتهمين
ارتفعت الهمهات مرة أخرى ينظرون لتلك التي اقتحمت قاعة المحكمة
.انتهى الفصل
↚
ما أثقل الخيانة حين تأتي من أقرب الناس، وما أوجع الحقيقة حين تُكشف متأخرة، بعد أن يكون الخراب قد استقرّ في الروح والذاكرة...
اليوم، لا مجال للبكاء، ولا متّسع للتراجع...
اليوم، يُنتزع الصوت من الحلق المذبوح، لا ليستعطف، بل ليشهد، ليفضح، ويطالب بما سُلب عنوةً وتحت سطوة القربى.
هنا، لا تُقال الكلمات إلا لتُزلزل، ولا تُروى الحكايات إلا لتُدين.
هنا، تقف المقهورة لا كضحية، بل كندٍّ... تحمل في يدها ما يُسقط الذئب، ويُنصف الغائب، ويعيد لكلّ مظلوم اسمه وكرامته.
فهل يخذل العدل من اختار المواجهة؟
وهل تُطفأ نار الحق إذا اشتعلت في صدر لا يعرف الانكسار؟
دلفت رحيل إلى القاعة بخطا ثابتة،
بجوارِ طارق، وتوقَّفت أمام منصَّةِ القاضي:
عذرًا، سيِّدي القاضي...
نظرَ القاضي نحوها باستغراب:
-"إنتي مين؟!.
رفعت رأسها بشموخ، وقالت بنبرةٍ يغلِّفها الألم:
رحيل مالك العمري...بنتِ المرحوم مالك العمري..أنا جاية أقدِّم لحضرتك دليل إدانة مهم للمتَّهمين..آسفة على الِّلي هقوله، بس واثقة في سعة صدركم وعدلكم..
مدَّت يدها بملفٍّ وضعتهُ أمام القاضي:
دا تقرير من المستشفى...بيثبت إنِّ والدي مالك العمري مات مقتول، مش بسبب المرض زي ماكنت متوقعة..
انا جاية اقدم بلاغ في قاتل بابا، عارفة أنه مش مكانه
ارتفعت الهمهماتُ في القاعة، ولكن رحيل لم تهتم..أرجو من عدالكتم أن يسعَ صدركم لحديثي ثمَّ تابعت:
أنا وحيدة والدي الله يرحمه..من تلات سنين حصل له حادث وهوَّ راجع البيت، وقتها كان كسب مناقصة كبيرة، وافتكرنا إنِّ حد من أعدائه حاول يئذيه، خاف حتى يروح مستشفى ولَّا يبلَّغ، فيه شخص شافهم وهمَّا بيضربوه وساعده وبابا طلب منُّه مايبلَّغش، ودا كلُّه وبابا مفكَّر أنُّهم أعداء الشغل، خاف عليَّا لأتورَّط مع الناس دي...بس بعد شهور، اكتشفنا الحقيقة، إنِّ الِّلي حاول يقتله كان جوز خالتي.
شهقات و ذهول وهمهمات عمَّت القاعة، فرفعَ القاضي مطرقتهِ صائحًا:
-هدوء لو سمحتم..ثمَّ أشار إلى رحيل:
ودا إيه علاقته بالقضية يابنتي؟.
جالت رحيل بنظراتها حتى استقرَّت على جلوسِ يزن إلى جانبِ كريم وأرسلان، ثمَّ أجابته:
لأنِّ جوز خالتو بيكون راجح الشافعي، قالتها واستطردت:
بابا بعد الحادثة شكّ في تلاعب بالحسابات وتغيير في مواعيد استلام الشحنات..ولمَّا دقَّق وراجع ووظَّف ناس تراقبه، عرف إنِّ جوز خالتو هوَّ الِّلي ورا كلِّ حاجة،
لأنُّه جه في وقت بابا كان تعبان والشركة تعرَّضت للإفلاس فهوَّ فرض عليه الشراكة، وبابا مكنشِ قدَّامه حل غير كدا، بعد مابيَّعه بعض أسهم الشركة...وفضل يكبَّر شراكته مع بابا لحدِّ ماسيطر على نصِّ أملاك بابا، ماكنَّاش نعرف إنُّه بيشتغل في حاجات ممنوعة...ولمَّا بابا عرف وواجهه، وقالُّه عايز أفض الشراكة، ونفصل الشغل، طبعًا هوَّ رفض، وحاول قتله
توقَّفت لثوانٍ تستجمعُ أنفاسها وتابعت:
في الوقت دا بابا تعب، واضَّطريت أدخَّله المستشفى...وقتها جوز خالتو بدأ يضغط عليَّا علشان أتجوِّز ابنه غصب عنِّي..وكان اتَّفق مع دكاترة وممرِّضين يسمِّموا دوا والدي..لحدِّ مافقد الحركة خالص وهوَّ بدأ يستولي على كلِّ حاجة..
ولمَّا عرف بابا نيِّتهم، كتب كلِّ حاجة باسمي قبل مايموت، في الوقت ده، طلب من الشخص الِّلي أنقذه يساعدني ويوقف جنبي، وقتها بابا شافه راجل ويُعتمد عليه...قرَّب منِّي، واستغلِّ خوفي وضعفي، ومدّ إيده وقالِّي: نتجوِّز علشان أقدر أحميكي، لمَّا خلاص جوز خالتي اتحكَّم في كلِّ حاجة، حتى أنا خوفت منُّه ونقلت بابا مستشفى خاصة متأمِّنة حفاظًا عليه، ولمَّا الشخص دا ظهرلي شوفت فيه الرجولة والحنيَّة، للأسف صدَّقته واتجوِّزته، ولمَّا بابا مات، واكتشفت إنِّ جوز خالتو حاول يقتلني كمان، فنقلت كلِّ أملاكي باسمِ جوزي...عمل إيه؟.. راح خطف أخته وهدَّده يايطلَّقني وأتنازل ياأمَّا يقتلها، وفعلًا هوَّ طلَّقني وقتها..لكن معرفتش أرجَّع مالي ومال أبويا، رغم إنِّ جوزي رجَّعني لعصمته تاني..أطبقت جفنيها والماضي يتدفَّقُ إلى عقلها كشريطٍ سينمائي لا يعرفُ التوقُّف...مشاهدَ متلاحقة تنهشُ قلبها...حاولت أن تصمدَ أمام العاصفة، لكنَّها كانت أضعفُ من أن تقاوم، فتسلَّلَ صوتها واهنًا، غاضبًا:
-وقتها اكتشفت إنِّ الراجل اللي إدِّتله ثقتي الكاملة، كان واخدني كوبري علشان ينتقم من راجح نفسه، يعني راجح أذاني وموِّت بابا في الأوَّل وطلَّيقي، دمَّرني بسببِ الانتقام، اتجهت إلى يزن ووقفت أمامه تشير إليه
-الباشمهندس يزن السوهاجي، اللي كلنا عارفينه كدا، مش كدا ياباشمهندس
قالتها وعيناها ترمقها بنظرات كالسهام المسمومة، تمتم بخفوت وهو ينظر إليها
-ايه اللي بتقوليه دا ..تراجعت بنظراتها للقاضي واستطردت
- عايزة أعرف ليه كلِّ الغلِّ والحقدِ دا..بابا ذنبه إيه يموت بالغدر، أنا ذنبي إيه أكون صراع بين راجل عديم الأخلاق وراجل عايز يجيب حقُّه على وجعي..
صمتت تسحبُ نفسًا ثمَّ أشارت على المستندات:
الإثباتات اللي بين عدالتكم تثبت إنِّ راجح الشافعي هوَّ المتَّهم الأوَّل في قتلِ والدي وكمان فيه شاهد بيشهد بكدا...اتَّجهت بنظرها إلى طارق تشيرُ إليه..
-قصَّ طارق كلَّ مافعلهُ والدهِ منذ أن شبَّ على الدنيا.
اتَّجه القاضي بنظراتهِ إلى النيابة:
-هل لديكم شيئًا تريدونَ إضافته؟.
نهضَ راكان من مكانهِ ونظراتهِ مشتعلة، وهتفَ بصوتٍ جلجلَ القاعةِ كالسيفِ حين يُشهرُ للقصاص:
وهل هناك مايضافُ أبشعُ ممَّا قيل سيَّدي القاضي؟!
هل هناك ما يُقالُ بعد هذا السردِ المؤلم؟!
هل هناك ما يُضافُ أوجعُ من أن تُغتالُ البراءةِ على يدِ أقربِ الناس؟
أن تُسلَب فتاة أمانها، وأبيها، وحتى كرامتها، تحت سطوةِ الطمع والخيانة؟!
هذه الفتاة..لم تُولد لتُحاصر بالخوف، ولا لتُجبَر على زواجٍ مفروض، ولا لتُشاهد والدها يُسقى السمَّ قطرةً قطرة، حتى يسقطَ صامتًا، مُقعدًا، ثمَّ ميتًا!
صمتَ للحظات وبأنفاسٍ مرتفعة أكمل بصوتهِ الغاضب، من يستمعُ إليه يشعرُ بأنَّهُ يريدُ أن يحرقَ راجح:
-هذه الفتاة لم تُخلق لتقفَ في مهبِّ العاصفة، يُهدِّدها ذوو القربى، ويستغلَّها مَن ظنَّت فيه الحماية..
أشار بيدهِ وقال:
-لمن تلجأ إذن بعدما خانها المقربون؟!..
وغدرَ بها من كانت تظنُّهم أمانها..
لمن تلجأ إذن بعدما أصبحت وحيدة في دنيا لم يظهر منها سوى الطمع والحقد؟!..
سيٍّدي القاضي، السادة المستشارين:
-إنَّنا لا نقفُ أمام جريمةٍ واحدة
ياسيِّدي، بل أمام سلسلةٍ من الجرائمِ الممتدَّة:
ابتزاز، وتسميم، واستغلال، وخيانة وصاية، وقتلٍ مع سبقِ الإصرار والترصُّد.
لا نتحدَّث عن مجرمٍ عابر، بل عن ذئبٍ في ثوبِ قريب، عرف متى يغرسُ أنيابه، ومتى يَسحبُ يدَهِ مدَّعيًا البراءة..
سيِّدي القاضي...
هذه القضيةُ الأخرى ليست فقط عن مَن قتلَ الأب، بل عن مَن أرادَ اغتيالِ الابنةِ نفسيًا وجسديًا، مَن حوَّلها لرهينة، وجعلَ منها سلعةً تُساوَم، وزوجةٌ تُباعُ وتُطلَّقُ تحت فوهةِ التهديد...
وبناءً على ذلك فأنا هنا لكي أطالبكم باسمِ العدالة،
وباسمِ كلِّ فتاةٍ وجدت نفسها في موضعِ هذه الضحية،
أن يكون الحكمُ صرخةً في وجهِ كلِّ من تجرَّأ على أن يُراهنَ على صمتنا في القصاص، ولا شيء غير القصاص..
أولًا: قتلُ أخيه.
ثانيًا: خطفُ أبناءِ أخيهِ وتعذيبِ زوجةِ أخيه.
ثالثا: الشروعُ في القتلِ أو محاولةِ القتلِ المتعمَّدِ وهذا مانتأكَّدُ منه فيما بعد..
وأخيرًا، ليس آخرًا سيدي القاضي، فالمتَّهم له من كلِّ جريمةٍ نكراء توعية
تهديدُ وإرهابُ الأمنِ القومي والوطني للبلد وهذا ماسيحاسبهُ عليهِ المختصُّون..
شكرًا سيِّدي القاضي على سعةِ صدوركم.
هنا توقَّف القاضي لحكمِ المداولةِ لدقائقَ معدودة..
وبدأ الحضورُ في ترقُّبٍ تام، وأصبحت العيونُ مشدودةً نحو منصَّةِ القضاء، حتى دوى صوتُ الحاجبِ في أرجاءِ القاعةِ بصوتهِ الجهوري:
-"محكمة."
نهضَ الجميعُ ودخل القاضي بخطواتٍ ثابتة، يرافقهُ مستشاراه، يجلسونَ خلف منصَّةِ العدالة، ونطقَ القاضي بصوتٍ خرجَ هادئًا، في بادئِ الأمر، ورغم ذلك إلَّا أنَّه يحملُ رهبةَ القانون:
بعد الاطِّلاعِ على أوراقِ الدعوى، وسماعِ أقوالِ الشهود، ومرافعةِ النيابةِ والدفاع، واستنادًا إلى المادة (...) من قانون العقوبات، وبرقمِ القضية (...)، حكمت المحكمة حضورياً بما يلي:
عمَّ الصمت، وأنفاسُ المذنبين تكادُ تُسمع..ليواصلَ القاضي بصوتٍ حازم، وعينا راكان على إلياس وإسحاق، فنطقَ القاضي أخيرًا قائلًا:
أولًا: بالنسبة لقضيةِ المجني عليه جمال علي الشافعي، فلقد حكمت المحكمة على المتَّهم راجح علي الشافعي بتحويل أوراقهِ للمفتي..أي بإجماع الآراء بمعاقبتهِ بالإعدامِ شنقًا حتى الموت عمَّا أُسندَ إليه من جرائم.
ثانيًا: الحكمُ على المتَّهمة رانيا إسماعيل الشافعي بالسجنِ المؤبد لمدَّةِ خمسٍ وعشرينَ عامًا.
ثالثًا: إلزامُ المتَّهمين بدفعِ كافَّةِ مصاريفِ الدعوى.
صمتًا ثقيلًا ثمَّ همهماتُ اعتراضٍ على الحكمِ إلى أن طرقَ القاضي بمطرقته:
وقال رُفعت الجلسة.
دوى صوت الطرق كالرعدِ في القاعة... تهاوت رانيا على المقعد، شهقتها تعلو، بينما تجمَّدت ملامحُ راجح في صدمةٍ لا يملكُ لها تفسيرًا...وحدهِ صوتُ الحاجب يعلنُ النهاية...
اتَّجه بنظرهِ الى فريدة التي حاوطها مصطفى بين ذراعيهِ بعدما ارتجفَ جسدها..أجلسها بهدوءٍ وأزال عبراتها:
-فريدة ممكن تهدي..لكنَّها لم تستمع إليه، كلَّ ما تراهُ وتسمعهُ صوتُ زوجها الراحل الحنون بوداعها،
انسابت دموعها رغمًا عنها تهمهم:
-حقِّي رجع، وحقِّ ولادي وجمال رجع يامصطفى، أحمدك يارب، وصلَ إليها أرسلان يتطلَّعُ إليها بألمٍ ثمَّ انحنى يساعدها على الوقوف:
-ماما حبيبتي قومي يالَّه الكلِّ خرج، هتفضلي قاعدة كدا..
رفعت عينيها الباكية تهمسُ إليه:
-حقِّنا رجع ياأرسلان، حقِّ دموعي ووجعي عليكم وعلى والدك رجع، حقِّ قهرتي وأنا مش عارفة أزور قبر أبوك رجع، حقِّي رجع..لازم أفرح بس كأنِّ الدنيا مستكترة فيَّا الفرحة علشان ميرال، قولِّي هنعمل إيه، هسبها تضيع من إيدي..يعني مكتوب عليَّا دايمًا أختار بين وجعي وبين ولادي، بنتي بضيع في الوقت الِّلي حقِّي رجع ..أفرح إزاي؟!…
ساعدها مصطفى على الوقوف وحاوطَ جسدها يشيرُ إلى أرسلان بعينيه:
-مش عايزين صحافة ودوشة، شوفلنا طريق نمشي منُّه، التفتَ يبحثُ عن إلياس وتساءل:
-فين إلياس؟.
أشار إلى الداخلِ وأردف:
-دخل مع عمُّو وراكان للقاضي علشان موضوع النسب وهوية ميرال.
هنا توقَّفت فريدة تنظرُ إليه بتساؤل:
-مالها ميرال، إلياس ناوي على إيه؟.
سحبها وتحرَّكَ متَّجهًا للخارجِ وقلبهِ ينتفضُ من الألمِ على مايحيطُ به ثمَّ قال:
-مفيش يافريدة، إنتي ناسية إنَّها دلوقتي مينفعشِ تتنسب باسمك وكمان إلياس باسمك..
توقَّفت ترمقهُ بجهلٍ قائلة:
-مصطفى، ميرال مثبَّتة باسمِ جمال الدين، وفريدة نور الدين..إيه المشكلة وكمان إلياس واخد اعترافات كاملة من راجح بالتنازل عنها..
تنهيدةٌ مؤلمةٌ حتى شعر بأنَّها تخترقُ داخله، فردَّ بنبرةٍ تحملُ مايكفي من آلامِ مايشعرُ به:
-دا كان في الأوَّل وهوَّ بيهدِّده بجرايمه، معرفشِ إيه الِّلي ناوي عليه.
بالخارج توقَّف أمامها، يشعرُ بانهيارِ حياتهِ وهويَّته ، تقابلت النظراتُ بصمتٍ ممزوجٍ بعتابٍ مؤلمٍ إلى أن قطعهُ يزن:
-ارتحتي، أخدتي حقِّك منِّي؟..
عقدت ذراعيها فوق صدرها وهربت بأنظارها عن مرمى عينيهِ وتحدَّثت:
-حقِّي عندك كبير أوي ياباشمهندس، عادت تنظرُ إلى مقلتيه:
-لو بتتكلِّم عن حقِّي النفسي فدا للأسف مش هتقدر ترجَّعه، هتقدر ترجَّع قلبي الِّلي كسرته، هتقدر ترجَّع ثقتي في الناس..هتقدر ترجَّع رحيل الِّلي إنتَ دفنتها بالحيا؟..
اقتربَ خطوةً منها وحدجها بنظرةٍ لا تعلمُ ماهيتها:
-جت لك ومدِّيت إيدي وقولت نمسح الماضي علشان بحبِّك، بس إنتي النهاردة طعنتيني قدام الناس كلَّها..
اقتربت هي الأخرى خطوةً ورفعت عينيها تغرزها بمقلتيه:
-صدَّقني مش حاسة إنِّي أخدت حقِّي منَّك يايزن، لمَّا تحس بكسرةِ القلب والغدر وقتها بس هاخد حقِّي..
اقتربت خطوةً أخرى ولم يفصل بينهما سوى أنفاسهما:
-وعد من رحيل العامري يابنِ راجح الشافعي إنِّي لأقهرك وأغدر بيك..قالتها ودفعتهُ بعيدًا وتحرَّكت دون حديثٍ آخر..
ظلَّت عيناهُ عليها إلى أن اختفت من أمامه...اقتربَ كريم وعيناهُ على ذهابِ رحيل ..
-إيه الِّلي حصل بينكم، قالت لك إيه وإنتَ قولت لها إيه؟..
-ممكن نمشي من هنا..مش عايز أتكلِّم في حاجة..
بفيلا الجارحي..
جلست صفية على مُصلَّاها بعد أن أنهت فرضَ ربَّها، وبدأت تُسبِّحُ والدموعُ تنسابُ من عينيها..لم تكن ترى أو تسمعُ شيئًا سوى طيفِ فلذةِ كبدها، منذ أن حملتهُ رضيعًا وحتى هذا اليوم.
دلفت غرام إلى الغرفة برفقةِ ملك، تحملُ كوبًا من العصير، وضعتهُ بجوارِ والدتها، ثمَّ جلست تشيرُ إلى ملك قائلة:
ــ ملوكة، ممكن تقولي لمامي إنِّ بلال زعلان منها علشان ماسألتشِ عنُّه؟
توقَّفت صفية عن أذكارها، ومسحت دموعها قائلة:
ــ هوَّ فين؟ إنتوا جيتوا إمتى؟
استدارت غرام وجلست أمامها، وقالت بنبرةٍ عاتبة:
ــ ما هو لو حضرتك خرجتي من أوضتك، كنتي زمانك سمعتي صوت عياطه برَّه.
ابتسمت صفية من بين دموعها وقالت:
ــ استنِّيتكوا إمبارح ومجيتوش، فقلت خلاص مش هتيجوا النهاردة.
زمَّت غرام شفتيها بتدلُّل وقالت:
ــ لأ، أنا كده أزعل...أفهم من كده إنِّ حضرتك بتطرديني؟
ارتفعَ نبضُ قلبِ صفية بالحزن، فردَّت بنبرةٍ متقطِّعة:
ــ بس أنا مش لاقياكم زي الأوَّل
يابنتي...
احتضنت غرام كفَّيها بين راحتيها وقالت:
ــ ماما، حبيبتي، ستِّ الكل...واللهِ
ماعرفناش نيجي إمبارح علشان ميرال كانت تعبانة أوي..قافلة على نفسها ومقاطعة الكل، حتى ابنها مابقتشِ تهتمِّ بيه، إلياس كلَّم أرسلان علشان يخرَّجها من حالتها دي، خصوصًا بعد ما رفضت تشوف الدكاترة.
شعرت صفية بالحزن، فتمتمت:
ــ الله يكون في عونها...الموضوع مش سهل..كلِّ واحد فينا شال وجع فوق طاقته...
قاطعتهم ملك التي تشعرُ بالحزنِ والألمِ معًا على ماصار قائلة:
-ماما حبيبتي، هوَّ ليه حضرتك بتحسِّسيني إنِّ أبيه أرسلان اتبرأ منِّنا خلاص ومبقاش يجي؟.
تاهت بنظراتها وعيناها تدفعُ الدمعَ بالدمعِ كلَّما تذكَّرت ماصار، ارتجفت شفتيها كحالِ جسدها من شهقاتها:
-مبقاش ابني ياملك، ضمَّتها ملك وبكت على بكائها:
-حضرتك غلطانة ياماما، علشان متأكدة إنِّ أبيه أرسلان مستحيل يتخلَّى عنِّنا، أه هوَّ ليه أهل تانيين بس إحنا الأصل.
شهقةٌ موجوعةٌ أخرجتها ملك واستأنفت حديثها:
-قوليلها ياغرام، هوَّ مش إحنا عرفنا من زمان أنُّه مش ابننا، فيه حاجة اتغيَّرت، يفرق إيه الجارحي من الشافعي، المهمِّ الشخص هيكون فين وبيحبِّ إيه..
ربتت غرام على ظهرها وردَّت بنبرةٍ توحي بصدقِ حديثها:
-أيوة حبيبتي والله مستحيل أرسلان يبعد، بدليل رفض يغيَّر اسمه لجمال وقال مش هغيَّر الاسمِ الِّلي من خلاله عرفت يعني إيه حب وحنان وعيلة، هوَّ بس اضطَّر يعمل نسب علشان يعرف يرجَّع حقُّهم ..ينفع ياماما يعرف الحق فين وماياخدوش، حضرتك ربِّيتيه على كدا، ولَّا بابا فاروق ربَّاه على كدا؟.. ترضيها حضرتك لشخصية زيِّ أرسلان يعيش مقسوم بين ماضي وحاضر، أمَّا كدا خلاص كلِّ واحد أخد حقُّه، من فضلك متزعليش منُّه، هوَّ مضايق علشان حضرتك أوي..
استمعوا إلى طرقاتِ الخادمة:
-إسحاق باشا وفاروق باشا رجعوا ياهانم..
تساءلت بلهفة:
-أرسلان رجع معاهم؟..
هزَّت الخادمة رأسها بالنفي، اتَّجهت بنظرها إلى غرام متسائلة:
-فين جوزك؟.. اتِّصلي بيه شوفيه فين..
-ماما ممكن تهدي، ممكن يكون يعني..
طالعتها بغضبٍ وأردفت بنبرةٍ متحشرجة:
-شوفتي أهو مجاش، هوَّ كدا خلاص..
قاطعهم رنينُ هاتفِ غرام التي تطلَّعت إليهِ مرَّة وإلى صفية مرَّة..
هزَّت صفية رأسها تشيرُ إلى الهاتف:
-ردِّي عليه، شوفيه هيقولِّك هاتي بلال وتعالي ولَّا ميعرفشِ أصلًا إنِّك هنا.
-ماما إيه الِّلي بتقوليه دا!..
قالتها ملك بامتعاضٍ على كلماتِ والدتها.
ردَّت غرام وأعينِ صفية معلَّقةً بها:
-ألو ..أجابها على الطرفِ الآخر:
-غرام ماترجعيش لمَّا آجي، هتأخَّر نصِّ ساعة كدا، فيه حاجة بعملها..
-إنتَ فين ياأرسلان؟..
ابتعدَ عن إلياس ورد:
-مع المحامي، لسة في المحكمة نصِّ ساعة وراجع.
قالها وأغلقَ الهاتف، رفعت عينيها إلى صفية:
-في المحكمة، قالِّي نصِّ ساعة وراجع.
بالأسفلِ عند إسحاق وفاروق:
-يعني كدا أرسلان غيَّر أوراقه كلَّها؟..
تساءلَ بها فاروق...تراجعَ إسحاق بجسدهِ متَّكئًا برأسهِ على المقعدِ وأومأ بعينيه:
-أيوة، كان ناقص حكم النسب، ودا كان مضمون ميَّة في الميَّة..
زفرةٌ مختنقةٌ من جوفهِ قائلًا:
-طيب إنتَ عملت إيه؟..
اعتدلَ ينظرُ إليه:
-مفيش حاجات روتينية هتتعمل، من مساءلات، أنا قدَّمت استقالتي واترفضت، وأرسلان كمان..بس هيوقف حاليًا عن العمل لمَّا يخلَّصوا التحقيقات الروتينية، بس طبعًا سيادةِ العميد قالِّي كلِّ حاجة تمام ومفيش حاجة هتختلف، ودا من خلال كفائتنا وأمانتنا..بس لازم طبعًا التحريَّات بدقَّة، دي مراكز حسَّاسة..
-الله المستعان حبيبي، كلِّ حاجة ترجع لأصلها ونقدر نوقَّف الزوبعة اللي حصلت..
ربتَ على ساقيهِ وأومأ برأسه:
-إن شاء الله مفيش حاجة هتتغيَّر، الولاد دول ولاد حلال يافاروق علشان كدا ربِّنا وقَّعهم في ناس زيِّنا، وصدَّقني كنت مستعد أتنازل عن وظيفتي علشان أقف معاهم، بعد كلام أمُّهم في المحكمة ماهزِّني، عيشت إحساس فقدِ الضنا قد إيه صعب ومؤلم أوي، أبوهم راجل طيب وطيبته قعدت لولاده، وزيِّ ماأرسلان قال، من حقِّ أبويا اسمه يفضل موجود.
هزَّ رأسهِ مواقفًا على حديثه:
- ربِّنا يحلَّها من عنده، المشكلة في صفية الِّلي مش قادرة تستوعب الِّلي حصل..بتر حديثهم حملِ المربية طفلُ أرسلان الذي ارتفعَ بكائه، فأشار أسحاق إليها:
-هاتيه...ثمَّ تلفَّت حولهِ متسائلًا:
-فين مامته؟.
-عند صفية هانم...حملهُ إسحاق يحتضنهُ ويداعبه:
-زعلان ليه حبيب جدُّو، مين مزعَّلك، رفع نظرهِ للمربية:
-لو له أكل هاتيه أنا ههتمِّ بيه.
لكزهُ فاروق وهو يجذبهُ من بينِ ذراعيه:
-أنا الِّلي جدُّو يالا، نسيت نفسك ولَّا إيه؟..قوم روح لابنك ياخويا، سيب حبيب جدُّو لجدُّو..
قهقهَ إسحاق عليه، ثمَّ غمزَ بطرفِ عينه:
- قول إنَّك خايف لأخطفه زي ماخطفت أبوه..اقتربَ يحدجهُ بنظرةٍ مرحة:
-تنكر إنِّي خطفت منَّك أبوه؟..
ضربهُ فاروق بخفَّة على رأسه:
-قوم روح لمراتك، إنتَ مالكش بيت؟!..
توقفوا عن الضحك مرة واحدة، وتطلع الإخوان لبعضهما ثم أردف فاروق:
-تفتكر هتفضل علاقته بينا زي الاول، هيفضل يقولي يابابا، ولا خلاص كدا مبقتش موجود ولا هيعمل اعتبار الراجل اللي رباه
رغم تكور الدموع في أعين اسحاق إلا أنه رد بيقين:
-لسة قايلك أنه ابن حلال، احنا مكنش قصدنا الاذى وانت عارف انا كنت بتابع الاقسام في الوقت دا لو حد بلغ عن طفل
بعد فترة بفيلا السيوفي..
جلسَ مصطفى بجوارها وحاوطَ أكتافها:
-مبروك ياأم يوسف..رفعت عيناها الدامعة إليه وسحبت كفيه بين راحتيها:
-لا يامصطفى، إلياس هيفضل إلياس زي ماهو، وهيفضل ابنك، هو بس الورق اللي اتغير، بس انت ابوه، الاب اللي ربى، بس كان لازم اخد حقي وحق ولادي من راجح، وزي ماقولت ماكنش ينفع غير كدا
ضمها لصدره يربط على ظهرها
-فريدة وانت فريدة فعلًا، انا اسعد راجل في الدنيا إن ربنا رزقني بست زيك
ابتسمت بحنان ورفعت كفيه تقبله وتمتمت:
-ربنا يخليك ليا ياابو إلياس ..تذكرت شيئا ثم تسائلت
-بعد اللي حصل دا الولاد كدا هينفصلوا من وظايفهم ولا ايه
اعتدل مستندًا على المقعد وقال:
-أنا سألت كذا حد، وقدمنا ورق للمحامي العام، وهنشوف هيقولوا ايه
-يعني ايه ..!! تسائلت بها فريدة
ربت على ظهرها
-سبيها لله ..المهم دلوقتي افرحي بالولاد وانسي اي حاجة
-افرح ..!! قالتها بصوت مختنق، ثم قالت:
-ميرال..دي قطعة من قلبي، اكيد راجح مش هيسكت ولا رانيا، انا شوفت في عيونه نار ودمار، مستحيل يسيبها
-تفتكري أنا ممكن أنسى حاجة زي دي يافريدة، أنا اتَّفقت مع إلياس هنقل هوية ميرال باسمي.
توسَّعت عيونها بذهولٍ وتمتمت بتساؤل:
-يعني إيه مش فاهمة؟..وصل إلياس يبحثُ بعينيهِ عن زوجتهِ ثمَّ قال:
-ماما فين ميرال؟!
فوق في أوضتها، حاولت أنزِّلها رفضت..إيه الِّلي ابوك بيقوله دا؟..
نظرَ إليهما متسائلًا:
-قال إيه بابا؟!.
-هتنقل اسمِ مراتك على اسمِ مصطفى؟.
صعدَ إلى الأعلى وهو يهتف:
-أطَّمن على ميرال الأوَّل..يبحث عنها ولكنها غير موجودة بالغرفة، هرول للخارج ونبضات قلبه تنهش صدره حتى شعر بآلامها، صاح باسم غادة
-غااادة..خرجت سريعًا وهو يبحث من غرفة للغرفة وتسائل بلهفة وخوفًا نطقته عيناه قبل لسانه
-فين ميرال ؟!
هزت كتفها بجهل، ثم تذكرت شيئاً، فتحدثت
-اه من شوية قالت هتروح اوضتها القديمة تجيب حاجة..ركض إلى غرفتها وقلبه كاد أن يتوقف من الخوف عليها:
دلف للداخلِ، توقف بجسدٍ متنصم
وهو يراها متكوِّرة بوضعِ الجنين، مغلقة الجفنين ولكن دموعها تنساب بصمت .ظ..خطا إلى الفراش بخطواتٍ ثقيلة، وقلبهِ يبكي دمًا على حالتها..جلسَ على ركبتيه أمام السريرِ وملَّسَ على خصلاتها يرفعها من فوقِ وجهها..
فتحت عينيها الذابلة وسطَ غشاوة البكاء، وهمست بإرهاقٍ كأنَّ الكلماتَ تنزفُ من بين شفتيها:
– رجعت إمتى؟ وحكموا عليه بإيه؟
جلس إلى جوارها على حافَّةِ السرير، ثمَّ رفعها برفقٍ إلى صدره، وضمَّها بحنانٍ كأنَّها ستهربُ من بين ذراعيه، وطبعَ قبلةً دافئةً فوق رأسها، ثمَّ جمعَ خصلاتها المبعثرة على جانبِ وجهها وهمس:
– وحشتيني.
تمسَّحت بصدرهِ كما لو كانت تحتمي من بردِ العالم، واحتوت خصرهِ بذراعيها الهزيلتين، وهمهمت بصوتٍ خرج بصعوبة:
– لازم تتعوَّد على بعدي عنَّك...أنا مش هعيشلك العمر كلُّه.
سقط قلبهِ بين ضلوعهِ من وقعِ كلماتها الدامية، وعجزَ عن الرد، وعيناهُ تراقبُ تدهورها يومًا بعد يوم، وكأنَّها تذوبُ بين يديهِ ولا يملكُ لها خلاصًا.
نزعَ سترتهِ وتمدَّد إلى جوارها وجذبها إلى أحضانه، يحتوى جسدها المتعب، وضعَ رأسها فوق صدره، بينما أناملهِ بدأت تتسلَّل إلى خصلاتها بحنانٍ موجوع، ثمَّ قال:
– ليه كده ياميرال؟ هتفضلي كده لحدِّ إمتى؟ حالتك دي بتموِّتني..شوفي عايزة إيه، وأنا مستعد أعمله، بس ترجعي تضحكي تاني، تفرحي، تحسِّي إنِّك عايشة.
رفع وجهها بين راحتيه، واحتضنَ عينيها الحزينة وهمسَ بتقطُّعٍ صادق:
– قلبي بيوجعني عليكي، واللهِ بموت من الزعل..ينفع الاستسلام دا؟
أنا عارف إنِّك بتمرُّي بأصعب مرحلة، بس أنا وعدتك، وعدتك أكون سندك، ضهرك..
استمرَّ يحرِّكُ أصابعهِ بين خصلاتها بعشوائية، ونبرتهِ تزدادُ رجاءً:
– ميرال..بصِّي لي ياقلبي.
رفعت عينيها المنطفئةِ نحو عينيهِ الممتلئتينِ بالحزن، فابتلعَ ريقهِ وقال بتصميم:
– من بكرة...اسمك هيتغيَّر من ميرال جمال الدين، لميرال السيوفي..
وإنتي أصلاً ميرال السيوفي من زمان، بس دا روتين، وأنا مايهمِّنيش الورق، بس علشانك.
تنهَّد بمرارةٍ وأكمل:
– خلاص..راجح مبقاش موجود، اتحكم عليه بالإعدام،
وإسحاق جابلنا الموافقة الرسمية إنِّ اسمك يتغيَّر لبابا مصطفى، ودا بسبب الضرر اللي كان ممكن يحصل لك..
أنا مش ساكت، ومستحيل أسيبك تتئذي...
لو ينفع تفضلي باسمِ جمال، بس المشكلة إنِّ ماما اسمها هيتغيَّر كمان..
إنتي ناسية؟ بابا كان مزوَّر اسم باباكي الحقيقي علشان راجح مايلاقيكيش.
ضمَّ وجهها بين كفَّيه، وطبع قبلةً بجوارِ ثغرها، يغرقُ بملامحها التي انطفأت بعينيهِ المُحبَّة:
– إنتي روحي...عارفة يعني إيه روحي؟
لو أقدر أخبِّيكي جوَّا قلبي، وأمسح كلِّ الوجع، وأخده عنك، والله ماهتأخَّر..
إنتي عمرك ما كنتي بنتِ الراجل دا...ولا اسمك هيرتبط بيه..
وهتفضلي ميرال جمال الدين في عيونِ الكل، بس على الورق بينا هيتغيَّر..علشان نرتاح من اللخبطة، ماهو ماينفعشِ نكون إخوات ومتجوِّزين...ومتخافيش راجح مش هيطلب حاجة ولا هيذكر اسمك، تعرفي أنا اتفقت مع مين يكلِّم رانيا، علشان دي الوحيدة اللي هتقدر تساعدنا..
ظلَّ يمسحُ على خصلاتها مرَّةً وعلى وجهها مرَّة، وهي تتابعه بصمت ثمَّ أكمل:
-طارق..
-إيه؟!..قالتها بذهول ضعيف، هزَّ رأسهِ بابتسامة، واستطردَ قائلًا:
-من كام يوم رحيل مرات يزن كلِّمتني وقالت عايزة تقابلني في مسألة ضرورية، أنا فكَّرت إنَّها عايزاني علشان يزن، بس اتضحلي إنَّها عايزة أقابل طارق ويحاول يصلَّح العلاقة بينا، مخبيش عليكي أنا كنت بدوَّر عليه علشان أموِّته، بس هو حكى لي كام حاجة حسيت بالشفقة عليه، ودا ضحية زيِّنا كلِّنا، مشيت وراه وقولت أشوف آخره إيه..واتَّفق معايا أنُّه هيشهد بكلِّ الِّلي يعرفه، وكمان قال لرحيل حاجات إحنا مكناش نعرفها، والنهاردة جه مع رحيل وشهد بكلِّ حاجة..ودا ياحبيبي يخلِّيكي تتأكِّدي إنِّ الراجل دا مستحيل أربطك بيه، وطلبت من طارق يعمل محاولة مع رانيا، وزي ماتيجي..
همست بتشتُّت، وعيناها تبحثُ عن معنى حديثه:
– يعني إيه؟
سحبها إلى صدرهِ من جديد، بعدما شعر بضياعها، وهو يمسِّدُ على ظهرها كأنَّه يواسي طفلًا ضائعًا:
– يعني تنسي إنِّك في يوم قابلتي الراجل دا، سمعاني، أنا معرفشِ غير ميرال..بنتِ قلبي..
البنت الشقية الِّلي وقَّعت إلياس السيوفي على رقبته.
البنت الِّلي خلِّتني أعيش بجد...
أخرجها من أحضانهِ وابتسم، رغم أن عيناهُ تدمعان:
– فهمتي ولَّا مفهمتيش...يا بنتِ مدام فريدة؟..انا قدامك اهو إلياس السيوفي، بحبه علشان حب ميرال، يوسف مش موجود، ولا عمري اغير إلياس، لأن ميرال حبت إلياس، مش كدا..
لمست وجنتيهِ المرتجفتين، وانسابت دموعها بحرارة:
– رغم إنِّي بكره راجح...بس إنتَ أحسن ابنِ عم في الدنيا.
لمعت عيناهُ بالسعادةِ الممزوجةِ بالحزن، واقتربَ منها يهمسُ بشوق:
– أنا مش ابنِ عمِّك يابنتِ مدام فريدة...
أنا جوزك، وحبيبك، وكلِّ دنيتك.
ومش هتنازل عن حرف من الِّلي قولته.
رفع ذقنها بيده، وتعلَّقت العيونُ ببعضها..عيونًا تتألَّمُ بصمت، وأخرى تمزِّقها الدموع...ثمَّ تساءلَ بصوتٍ مبحوح:
– أنا بكون إيه لميرال؟
لفَّت ذراعيها حول عنقه، وارتفعت شهقاتها ببكاءٍ حارق، وهي تهمسُ بين دموعها:
– يارب أموت ياإلياس...يارب أموت وماكونشِ عالة على حد..
أنا تعبانة...مش عايزة اسمي يتغيَّر،
لا لعمُّو مصطفى ولا لأيِّ حد..
أنا ميرال وبس...قولُّهم عايزة أكون كده..
ضمَّها بقوَّةٍ حتى شعرت بتحطيمِ ضلوعها بين قبضته، وهمسَ بنبرةٍ متألمةٍ كانت تخرجُ من قلبهِ قبل لسانه:
-بعد الشرِّ عليكي، حرام الِّلي بتعمليه فيَّا دا ياميرال، وكتير على قلبي.
أبعدتهُ تنظرُ بمقلتيه:
-هتعبك معايا ياالياس وإنتَ متستهلش، إحنا ليه من زمان ماأخدناش بالنا إنِّ ربِّنا مش عايز قربنا، ودليل الِّلي كان بيحصل معانا.
جذبها من عنقها بعدما فاضَ به، ووضعَ جبينهِ فوق جبينها وأخرج زفرةً حارقةً وقال:
-لو سمعتك بتقولي كدا تاني هزعَّلك، صدَّقيني هزعَّلك، لو إنتي عايزة تموتي علشان ترتاحي؛ فأنا بقولِّك حالتك دي بتقتلني من جوَّا لدرجة بقول ربِّنا يريَّحني أنا ولا أتعذِّب بعذاب آلامك كدا..
وضعت أناملها على شفتيهِ تهمسُ بخفوت:
-اسكت ياإلياس، اسكت أنا مش ناقصة، كفاية وجع فيَّا.
اعتدلَ وابتعدَ عنها بعدما خطر بذهنهِ شيئًا ما:
-لا ياميرال، حالتك دي ممكن تخلَّص عليَّا، إنتي عارفة وأنا راجع العربية كانت هتتقلب بيَّا، لولا ستر ربنا، ماهو أنا مبقتشِ مركِّز في حاجة غير إنِّي أخرَّجك من حالتك دي، بحاول أعمل كلِّ حاجة علشان ماترتبطيش بالمجرم دا، استخدمت كلِّ نفوذي وعلاقاتي.. وفي الآخر جاية تقولي يارب أموت!!
استدارَ ينظرُ إليها وقد ثار غضبهِ ولم يعد يستطيعُ التحكُّمَ به:
-مفكرتيش فيَّا أنا وابنك، إيه اليأس الِّلي إنتي فيه دا، عارف مرحلة صعبة بس الضعف دا بيخلَّص عليكي، فين وعودك ليا إنِّك هتحاولي علشان ابننا، وصل إليها وانحنى بجسدهِ يحاوطُ جسدها وغرزَ عينيهِ الغاضبة بمقلتيها الدامعة:
-أنا لو جبل كنت انهرت، ورغم كدا لسة واقف وبحارب، إنتي أكيد فاهمة يعني إيه ظابط أمن دولة يكون عمُّه مجرم وبيعاون الجماعات المتطرِّفة، رفع كفَّيهِ وعينيهِ امتلئت بالدموع ثمَّ استطرد:
-بإيدي دي كتبت استقالتي، ومش مجرَّد استقالة عمل..كأني بسحب حياتي وروحي وكلِّ ماأملك، شوفتي الأب الِّلي بيدفن ابنه وهوَّ حي، أنا حسِّيت الإحساس دا، ورغم كدا لسة واقف قدَّامك وبحاول أكون إلياس وبس، لا علاقة بالسيوفي ولا الشافعي، أنا عايز حياة لإلياس الِّلي فجأة طلع وهم وسراب..
اعتدل وبدأت أنفاسهِ بالارتفاعِ حتى ارتفعت نبضاتهِ بشكلٍ مبالغ وشعر بألمٍ بضلوعه، اتَّجه بعينيهِ إليها بعدما استمعَ إلى شهقاتها:
-عارف إنِّك أكتر واحدة متضرِّرة، بس دا يقوِّيكي ويخلِّيكي تبني نفسك لوحدك ومتربطيش نفسك بأيِّ حد مهما كان، ابني ميرال وبس، وزي ماقولتي من شوية، كوني ميرال وبس
مش صعب، هتخبَّطي شوية بس النتيجة هطلَّعي شخصية قوية..
ارتفعت أنفاسهِ أكثر وأكثر حتى لاحظتها ميرال، أشارَ إليها:
-إنَّما إنتي كدا بتموِّتيني بالبطيء، حالتك دي بتوجع قلبي..
هبَّت من مكانها، وألقت نفسها بأحضانه، تتمسَّحُ به كقطةٍ أليفةٍ تهمسُ بصوتٍ خافتٍ خرج من بين شفتيها كخروجِ الروح من الجسد:
-آسفة..خلاص آسفة متزعلشِ منِّي، عارفة بقيت حمل تقيل عليك، بس واللهِ غصب عنِّي.
رفع جسدها واتَّجه للخارجِ قائلًا:
-لمَّا أموت يبقى ارجعي الأوضة دي، الِّلي أعرفه والِّلي اتعلمناه من ديننا الستِّ بتكون مع جوزها في أوضة واحدة..إلَّا إذا..توقَّف يتعمَّقُ بالنظرِ إليها:
-حضرتك زهقتي منِّي وعايزة حجَّة علشان تخلصي.
شقَّت شفتيها ابتسامةً لأنَّها علمت أنُّه يتلاعبُ بمشاعرها فردَّت قائلة:
-زهقت أوي كمان عندك مانع؟..
أومأ برأسهِ ودلفَ لداخلِ جناحهِ يغلقُ الباب بقدمهِ ومازالت بين ذراعيه:
-هنعرف دلوقتي مين زهق من التاني يامدام.
بعد عدة أسابيع والوضع أصبح هادئًا إلى حد ما، ومحاولة الجميع بجانب ميرال وإخراجها ..
بمنزل السيوفي وخاصة بغرفة مكتبه، كان يحاول أن يشغل نفسه بشيئا، حتى لا يشعر بألمًا على شيئا لم يتعوض عليه ..جلس يشعر بالاختناق وكأن أحدهم يجلده بسياط من نيران
دفع ارسلان الباب ملقيا السلام
-عامل ايه ياابو يوسف ..طالعه بصمت لبعض اللحظات ثم أردف:
-قاعد زي المريض اللي منتظر الدوا
جلس بمقابلته ثم أخرج ورقة ووضعها أمامه
-طيب يامريض خد العلاج دا
سحب الورقة ينظر إليها، ثم رفع عيناه إليه
-من المحامي العام
اومأ ارسلان بابتسامة وقال
-وجاية مختومة، علشان تعرف أننا مش اي حد برضو .. بدأ يقرأ ما تحتويه الورقة
لم يثبت تعمدهم التزوير أو العلم بهويتهم المزيفة أثناء التقديم للوظائف.
2. تم تصحيح هويتهم رسميًا بعد اكتشاف الحقيقة، من خلال النيابة والأحوال المدنية.
3. أثبتوا كفاءتهم المهنية والسلوكية، والجميع يعلم بتفوقهم الوظيفي
القانون هنا ينظر للآتي:
أصل الإنسان لا يُحاسَب عليه، بل سلوكه.
الأسر المتبنية الشريفة تشفع لهم اجتماعيًا وأخلاقيًا، وتدعم موقفهم أمام المؤسسات.
ولكن يحدث الآتي إداريًا:
يُفتح تحقيق إداري داخلي لتوثيق الوضع الجديد.
يتم رفع تقرير أمني لإثبات أنهم ليسوا خطرًا على الأمن القومي.
يتم تثبيتهم في وظائفهم بعد تعديل أوراقهم، خصوصًا لو كانت هناك توجيهات عليا بإنصافهم...وإلى أن يتم التحقق منه، فبناء على ذلك عودة كلًا من
-إلياس جمال الشافعي، وارسلان جمال الشافعي إلى وظائفهم بعد التأكد من كافة ماطلب التحقق منه من الجهات الإدارية المحققة
تنهيدة حااارة أخرجها من جوفه، وكأنه كان يحتجز هوائه ليدفعه مرة واحدة
-الحمد لله..انا كنت وصلت لمرحلة ميؤسة، رغم بحاول اقوي ميرال بس الوضع صعب وموجع اوي
هنا تذكر ارسلان حالة ميرال فتسائل:
-اه صحيح عملت ايه في موضوع رانيا، طارق قابلها ..قبل أن يرد عليه استمع الى رنين هاتفه
-أيوة يايزن
-راجح هرب من السجن ياالياس، هب من مكانه وصرخ بالهاتف:
-يعني ايه؟!
توقف يزن بانفاسًا مرتفعة:
-أنا رحت أزوره من كام يوم، وقالي بالنص هيحرق قلوبنا كلنا واولهم ميرال، بس اللي رحمه مني العسكري اخده ومشي
-يزن انت قولت له انك ابنه !!
ابتسم بألم ينظر حوله بتيه، وتذكر مقابلته ..
وصل راجح إلى جلوسه يدقق النظر فيه ثم لوى فمه بابتسامة ساخرة
-لما قالولي ابني، فكرته طارق، بس طلعت انت ياجوز المدام
انحنى يزن وجذبه من ياقته بقوة يقبض عليها بعنف:
-إنت أقذر شخص في الدنيا ..حاول التملص منه حتى وصل إليه الشرطي وأبعده عنه ..أخرج يزن ورقة مطوية من جيبه وأشار إليه بنظرات مشمئزة:
-اتفضل ياراجح، عد ضحياك، اقترب وهو يبتعد عنه، رفع الورقة أمام عينيه
بعدما قال الشرطي
-متخافش مش هموته، بس هجاوبه على اسئلته
-اقرأ كدا ..شوف الاسم دا يمكن يفكرك بحقارتك .. رفرفت اهدابه يهمس اسم
-عزة عبد العليم ..اصابه رجفة قوية فرفع نظره إليه
-يعني كان احساسي صح ..انت ابني
وصل يزن إليه يجز على أسنانه ويهتف بغضب
-أنا يزن السوهاجي ابن عزة وإبراهيم السوهاجي، مستحيل اربط نفسي بدم قذر زيك، بس جيت اقهرك ياراجح، واقولك إن اللي عمل فيك كدا ولادك
جحظت عيناه بغضب، فأشار إليه
-صدقني ياابن السوهاجي هندمك، وقول لابن فريدة هخنقه وهو عايش، هو خلف الوعد، وكدا فتح النار عليكوا، واولهم بنت رانيا ..خرج من شروده على صوت إلياس
-مش بترد ليه، راجح عرف انك ابنه
-كان عارف ياالياس، ورغم كدا كان عايز يقتلني ..انا رايح له النيابة، مش هو استخدم اللي شغال معاهم وابعدوا راكان ..قالها واغلق الهاتف ..
جمع إلياس اشياؤه، وأشار إلى ارسلان
-راجح هرب
تحرك الياس إلى النيابة، وقام بمهاتفة راكان، الذي أجابه بسرعة وقلق بادٍ في صوته:
– أنا لسه عارف دلوقتي، وكلمت جاسر وهو هيعمل المطلوب... كنت في إسكندرية، وجاي على الطريق...
– كلمت جاسر الألفي، وهو دلوقتي هناك بيتابع سير التحقيقات. .
هرب من المستشفى بعد عميلة غسيل معدة في مستشفى السجن.
أغلق إلياس الهاتف، وصدره يعلو ويهبط كأنه يشتعل من الداخل. لم يكن الغضب فقط ما يأكله... بل العجز، والخوف، اتجه بنظره الى أرسلان
-راجح هرب..
توسعت عيناه بذهول :.
-ازاي.!!
-معرفش ..المهم، مش عايز حد يعرف نهائي وخصوصا ماما وميرال
عدة أيام أخرى واستنفار أمني بكل مكان بحثًا عن راجح
يوما اخر ثقيل يشعر به الجميع، كانت فريدة حزينة على نجليها، ظنا أنهما يعانان من ترك وظائفهما
ولجت رؤى تحمل قهوته وجدته يحتضن رأسه، توقفت إلى أن رفع رأسه متسائلًا:
-فيه حاجة ؟!
-راجح هرب من السجن..تراجع بجسده وتابعها بعينيه
-ميرال تعرف
هزت رأسها بالنفي، ثم اقتربت تضع قهوته وقالت:
-كنت بكلم يزن علشان ميعاد عملية نقل النخاع، طارق رد عليا وقالي أنه هرب بقاله اكتر من اسبوع ..اومأ وقال:
-مش عايز حد يعرف
-تمام ..بس ميرال اتأخرت اوي هي وغادة، راحوا يشتروا فستان مع ايمان ولسة مرجعوش، رايحين من الساعة ستة، و بتصل بيهم مابيردوش
نظر بساعة يده ثم قال:
-الساعة عشرة دلوقتي، ايه اللي آخرهم كدا، دا كله بيشتروا فستان
-معرفش والله ياالياس، هي اصلًا مكنتش عايزة تخرج، بس ماما فريدة قالت تخرج تغير جو، انا كنت هخرج معاهم بس دوخت ومقدرتش
امسك هاتفه وحاول مهاتفتهما ولكن الهاتف مغلق
نهض من مكانه يهز رأسه واردف:
-لا كدا الموضوع ميطمنش، حتى الأمن مابيردش..قالها وهمّ بالمغادرة، ولكنه توقف مستديرًا إليها
-مش عايز ماما فريدة تعرف حاجة عن هروب راجح
اتجه إلى سيارته واستقلها مع رنين هاتفه
-حبيبتي انت فين ..
-حبيبتك معايا يابن فريدة، عايزها ولا ابعتهالك جثة..اسمعني علشان شغل الثعلب مش مع راجح
-هتروح النيابة وتطعن في القضية بأي وسيلة، معرفش ازاي، المهم تبرأني دا لو عايز مراتك وأخوتك الحلوة
ارتجف جسده لعدة لحظات وشعر بانسحاب الهواء من رئتيه ..نظر للهاتف بتشوش بعد إغلاقه، بعد فترة وهو جالس بالسيارة ينظر أمامه بتيه وعجز، شق السكون رنين هاتفه، نظر إليه وجد اسم راكان على شاشة الهاتف
-ايوة ..قالها بتقطع ولسان ثقيل
-متقلقش، تليفونك كان متراقب علشان كنت متأكد هيوصلك، وجاسر قبض عليه..
-مراتي واختي ياسيادة المستشار
-مكنوش موجودين ياالياس بس هو اتقبض عليه، وانا رايح النيابة
وصل إلى مقر النيابة العامة، يرافقه أرسلان... صعدا معًا إلى مكتب وكيل النيابة، وهناك وجد جاسر الألفي واقفًا، متحفظًا على الوضع ب
دخل إلياس... فتسمرت عيناه على المقعد حيث جلس راجح كالمنتصر
كان متكئًا في استعلاء، بعينين تمتلئان وقاحة، وابتسامة تحمل من السخرية ما يكفي لتحطيم الأعصاب... وما إن التقت نظراته بنظرة إلياس، تكلم بصوت متعمد الثبات والتهكم:
– أهلاً يا ابن فريدة... الأخبار الحلوة بتنتشر بسرعة... اتجه بنظره إلى يزن الذي دلف للتو، وقال
-بس يا ترى، إنت اللي عرفت ابن عزة؟ ولا هو اللي عرفك؟
صمت لبرهة، قبل أن يتابع بنفس النبرة:
– وفين ابن سمية الخاين؟ منضمش ليكم ليه؟... أوووه، كلكم هنا علشان بنت رانيا ..
ضحك بصوتٍ مقيتٍ، ثم تابع:
– الصراحة، البت دي... معرفش جابت الحلاوة دي منين؟ من رانيا؟ ولا من فريدة؟ بس حاسس إنها من فريدة... أصل فريدة كانت حلوة قوي
ضرب بكفيه على ركبتيه وضحك ضحكة جوفاء، قبل أن ينهض قليلًا ويشير بإصبعه نحو إلياس:
– البت دي... لو كانت اشتغلت معايا، كان زمانها دلوقتي حمامة دهب، مش بيضة بس!
حلوة... وجميلة... والرجالة بتموت في النوعية الشرسة اللي زيها.
بس متخافش يا ابن فريدة... وعد من راجح الشافعي، لأخليها تحت رجلي!
واللي ماقدرتش أعمله في أمها... هعمله فيها!
اهتزت الأرض تحت قدمي إلياس، وتقلصت عضلات وجهه في لحظة، كأن ما سمعه طعنة لا تقتل... لكنها تبقيه حيًّا يتلوى... ود لو هجم عليه الآن، وكسر أسنانه واحدة تلو الأخرى، لكنه تراجع خطوة... محاولا الحفاظ على ثباته
أشار إليه جاسر بسرعة وحزم:
– إلياس، خليك بره، مينفعش تكون هنا... راكان خلاص قرب يوصل، أرجوك.
هنا شعر بأن قلبه يغلي، وعينيه تحترقان، استدار في صمت، ولكن راجح لم يفوّت الفرصة ليسمّمه بكلماته القذرة:
– أيوه، اطلع بره... مش عايز أشوف وشك!
روح اسأل فريدة... خليها تحكي لك راجح كان بيعمل فيكي ايه...ثم اتجه بنظره إلى يزن
-وبنت عزة فرسة حلوة نار، تلات بنات يخلوني ملك
بدأ يهذي بكلمات ليست فقط مقززة... بل تمزق العقل قبل القلب.
اصبح صوته كالنار، يتطاير منها الشرر، وكل شرارة تصيب جرحًا جديدًا في روح إلياس ويزن ..أما ارسلان الذي خرج على رنين هاتفه
-أيوة ياماما..!
-بتصل بإلياس ياارسلان، انتوا فين، صحيح راجح هرب من السجن..قالتها فريدة بصوت مرتفع
بينما راجح الذي توقف واقترب من إلياس يحدجه بنظرات شماتة:
-كانت بتصرخ باسمك، غبية متعرفش انك السبب في اللي هعمله فيها، أخرج من هنا، مراتك وأختك يكونوا عندك
بدل مااخليك عبرة لمن لا يعتبر، وهثبت انك اللي هربتني من المستشفى، عامل شغل حلو مع الدكاترة هناك ..ياعيني ياميرال بتفكرني بفريدة لما كانت بتصرخ كدا، اهي دلوقتي بتصرخ زي فريدة
انهار جسده ككل شيء بداخله، وتفكك ببطء مؤلم، بعدما استمع الى ماابكى قلبه نيران ودمًا، ليهز رأسه بعنف وبلحظة أخرج سلاحه.
يشعر بأن يده ثقيلة ، كأنها تحمل وزن كل الألم الذي تعرضت له والدته وزوجته، ناهيك عن معاناة يزن، كل الجبروت الذي فعله ذاك الشخص الذي وصفه بالشيطان لم يكن له ذرة من المسامحة، رفع السلاح يغرزه بصدره بأنفاس متقطعة، ليس من الجري أو التعب، بل من ثقل الهواء، من الاحتراق الداخلي وهو يتخيل معاناة والدته وكلماتها التي شقته لنصفين
"كان بيغت صبني، انا مابعتكمش، هو كان جبروت، وصفعات القدر من بكاء زوجته وصراخها
-يارب اموت ولا يكون ليا اب زيه، انا مستحيل أكون بنت الراجل دا
لوح جاسر بكفيه محاولا تهدئته والسيطرة على أفعاله رغم معاناته مما استمع إليه قائلًا:
-إلياس اسمعني، هتضيع نفسك علشان شخص ما يستهلش؟"
ضحك راجح مستخفًا به ثم أردف:
- ودا اللي انا عايزه، ماهو جمال مات وولاده لسة بيرفعوا من شأنه، انحنى بجسده يتعمق بالنظر إلى إلياس
-ماكنش راجح الشافعي لو مخلتكش تسيب وظيفتك، زي ماابوك كان السبب في اني ابقى مجر. م ..انا سعيد يابن جمال، علشان الكل هيشاور عليك ويقولوا الخاين اهو اللي ساعد عمه في الهروب..ضرب بكفيه
-ايه ياجاسر باشا، مش الخاين بيعدموه، انا بقى بقولك دا اللي هربني، ثم أشار إلى يزن
-والواد دا شريكه..انت خاين يابن فريدة، وهتتقدم لمحاكمة عسكرية ودا وعد مني
مجرد كلمات، ولكنها حبالًا التفت حول رقبته، تشدّه إلى الوراء، تراجع خطوة، يشعر بأنه داخل ظلمات من القهر، كيف ينسب هذا الرجل ويكون عمه
رفع رأسه إليه، بعينين متوهجتين كالجمرتين، ليس غضبًا فقط... بل الفقد، العجز، الإحساس بأن الحياة سلبت منه عنوة
صرخ، بصوت كاد يهز الجدران، وهو يشعر بإهتزاز روحه:
- انا فعلا هكون خاين لو سبتك تعيش لحظة واحدة بعد كدا
تصنم جسد جاسر، وهو يراه يضغط على الزناد، فصاح قائلًا:
-لو موته مش هنعرف مكان مراتك، هو عايز يوصل لكدا، ارجوك اهدى، قالها وهو يشير بيده أن ينزل سلاحه
-إلياس علشان خاطري، امسك اعصابك، راكان على وصول وهيحقق معاه، عارف أنه غصب عنك، بس هو بيعمل كدا علشان يوصلك لكدا
"عايزني أعمل إيه بعد اللي عرفته؟!"
قالها ووجه عبارة عن لوحة الألم
اقترب جاسر أكثر محاولًا الضغط عليه:
-هات المسدس لو سمحت ووعد مني حقك هيرجع لك
-حقي!! قالها مستنكرًا بأنفاس مشحونة بالكراهية والأسى، حتى صار صوته خنجرًا يريد أن يطعنه:
"إزاي قدرت تعمل فينا كدا، ازاي قدرت تعيش وإيدك ملوثة بدم أخوك ومراته، ودلوقتي بتخطف بنات مالهمش ذنب؟!"
ارتعشت أنفاسه، كأن روحه نفسها ترتجف من أثر ما يشعر به، فاردف بنبرة موجعة كحدّ السكين
"عملت لك ايه ميرال، علشان تعمل فيها كدا، انا بسأل مين اصلا هو انت مفكر نفسك أب، طيب ازاي وأنت عارف إن بنتك بتتربى في ملجأ، وابنك... راجل تاني بيربيه؟!"
حاصره جاسر اخيرا بخطف سلاحه، يجذبه بعيدًا عن راجح
-اهدى كل حاجة انت عايزها هتحصل، بس مضيعش نفسك
وصل راجح إلى يزن
-بقى انت يامعفن عايز تنتقم مني، جذبه من تلابيبه أمام جاسر الذي حاول السيطرة على الوضع
-ابعد عنه ياراجح، ولكن راجح تحول إلى شيطان ليقبض على عنقه
-إنت السبب في دا كله، بقى انت مفكر نفسك ذكي ..اقترب يهمس بجوار أذنه رغم محاولة جاسر بأبعاده بالسلاح ولكنه قال
-أنا كدا كدا ميت ياباشا، ولازم اعاقبهم كلهم، طلقة من سلاح جاسر بقدمه ليبتعد عن يزن الذي سحب وجهه،
-إنت مفكر نفسك ايه، انت متهم، صاح على العسكري
-خدو الزبالة دا ارموه في السجن لما يوصل وكيل النيابة
وصل العسكري يسحبه من تلابيبه بقسوة ولم يكترث باصابته، فسحب السلاح من خصر العسكري ولكن
بسرعة لم يستوعبها أحد، وبقرار لم يكن قرارًا بل كان غريزة، لحظة طيش، لحظة استسلام للظلام الذي ظل يهمس في أذنه لسنوات...
اختطف السلاح من فوق مكتب جاسر، بعد إلقائه بعيدا عن إلياس
لتدوي الطلقة لتخترق ظهر راجح الممسك بسلاح العسكري ليصوبه باتجاه إلياس، ولكن كان يزن الاسرع لتصيبه الرصاصة، لم يسقط على الفور، بل ظل واقفًا للحظة، كأنه لم يصدق أن نهايته على يد ابنه وهو ينظر بتشوش إلى يد يزن المتطلع إليه بألمًا كان حقيقًا.. بدأت روحه تنسحب منه كما ينسحب المدّ من على الشاطئ؛ ليهوى على ركبتيه بدخول راكان وصراخه
-اسعاف بسرعة ...
اقترب يزن منه ينحني بجسده قائًلا:
-كان المفروض اعمل كدا من وقت ماطنط فريدة قالت حقيقتك القذرة، ومتخافش هدعيلك بجهنم وبئس المصير
دفعه راكان الذي أصابه الجنون من فعلته
-الواد دا مجنون خدوه من قدامي ..
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
ما أقسى اللحظات حين يتعثر القلب... لا لضعف المشاعر، بل لأنها صادقة أكثر مما ينبغي. هناك لحظات لا تشبه سواها، حين تنكمش الأرض تحت أقدام العاجزين، ويضجُّ القلب بالنبض عندما لا يجد مخرجًا.
فهنا الأرواح تتلاقى في صمت، تتكلّم بما عجزت عنه الشفاه، وكلٌّ منهما يحمل في داخله ما لا يُقال. بين خفقةٍ مرتعشة وابتسامةٍ مصطنعة، سقطت الكلمات من على حافة الرجاء، وهربت كأنها لم ترد البقاء
حتى يشتعل الصدرٍ بنيرانٍ لا تحتمل ..!!
هكذا هو الحب أحيانًا... يظل مخبأ في الزوايا المظلمة، لا يتجرأ أن يظهر حتى وإن كانت العيون قد خانتها، وسقطت عن سطور الفم.
وصلت سيارةُ الإسعافِ خلال دقائقَ معدودة، وسطَ الضجيج، قام المسعفونَ بحملِ جسدِ راجح الغائبِ عن الوعي على متنها..حملهُ المسعفينَ على عجل، بينما وقفَ راكان يتخصَّرُ بجسدهِ المتوترِ وأردفَ بنبرةٍ تقطرُ غضبًا:
- إيه المهزلة دي ياحضرةِ الظابط؟! إزاي متَّهم يضرب بالنار جوَّه مكتب وكيل نيابة؟!
صمتَ جاسر لوهلة، ثمَّ قال بنبرةٍ هادئةٍ ظاهريًا، ولكنَّها مشتعلة داخليًا:
– أنا الِّلي ضربته بالنار، حاول يعتدي على الموجودين، خطف سلاح العسكري وكان هيموِّت واحد، تقدر تسأل بنفسك ياسيادةِ المستشار.
اقتربَ منهُ خطوة، والغضبُ داخلهِ يثورُ كبركان:
– الأولى كان يتحجز في السجن لحدِّ ما حضرتك توصل، بس إنتَ الِّلي أصرَّيت يفضل هنا..
أنا آسف لمعاليك على تقصيري.
قالها بجمود، ثمَّ استدارَ وخرجَ دون أن يضيفَ حرفًا.
زفرَ راكان زفرةً حارقة، تطايرَ معها الغضبُ كشرر، ثمَّ أدارَ عينيهِ نحو إلياس ويزن:
-جاسر الِّلي ضرب المتهم؟.
قاطعهُ العسكري بسرعة:
– فعلاً ياباشا، خطف سلاحي وكان ناوي يقتل حد.
- يعني جاسر هوَّ الِّلي ضربه؟!
كرَّرها راكان بصوتٍ أعلى، لكن تردَّدَ العسكري، وتمتمَ بصوتٍ خافتٍ متردِّد:
- معرفشِ ياباشا..مشوفتش.
أشارَ له راكان بالخروج، بينما اقتربَ يزن ووضعَ سلاحَ إلياس على المكتب، ثمَّ قال بثبات:
– أنا الِّلي ضربته...
رفعَ راكان رأسهِ إليه بحدَّة، لكن يزن وجَّه حديثهِ لإلياس أوَّلًا:
– آسف...عارف إنِّ سلاحك ميري، بس واللهِ مافكَّرت غير في إنقاذك.
ثمَّ أعادَ نظرهِ إلى راكان، وقال بنبرةٍ واثقةٍ رغم كلِّ شيء:
- حضرتك ممكن تحقَّق معايا، أنا الِّلي ضربت راجح لمَّا حاول يقتل إلياس..
ولو دي جريمة..فأنا جاهز للعقاب.
دفع راكان مقعدهِ بعصبيةٍ وجلسَ يمرِّرُ كفَّيهِ على وجههِ في ضيق، ثمَّ أطلقَ زفرةً ثقيلة، ورفع رأسهِ نحو إلياس...الذي بدا جسدًا بلا روح، شاحبَ الوجه، جامدَ الملامح.
في هذه اللحظة اندفعَ أرسلان إلى الداخل:
- إيه الِّلي حصل؟! مين ضرب راجح؟!
اتَّجه مباشرةً نحو إلياس، وعيناهُ تفحصانهِ بقلق:
- إلياس..إنتَ كويس؟ إنتَ الِّلي ضربت راجح؟!
أنا خرجت لإسحاق معرفشِ الدنيا هتتقلب كده!
هزَّ إلياس رأسهِ ببطء، وقال بصوتٍ واهن:
- أنا كويس..
تراجعَ بخطواتهِ الثقيلةِ وجلس على أقربِ مقعد، واحتضنَ رأسهِ بين كفَّيه كأنَّ الجبالَ تنهارُ فوقه..
وصل يزن إليه وربتَ على كتفه:
– أنا اعترفت خلاص، روح إنتَ شوف مراتك وأختك...وإيمان.
مفيش وقت، الظابط الِّلي قبض عليه أكيد عنده حاجة توصَّلنا.
ضغطَ راكان على زرِّ المكتب، وماإن دخلَ المسؤولُ عن مكتبهِ حتى قال بحزم:
– ابعتلي جاسر باشا فورًا..
– تحت أمرك ياباشا..
ثمَّ وجَّه نظرهِ إلى إلياس:
– استنوني برَّا...وأنا هتصرَّف، وإن شاء الله نلاقي مراتك وأخواتك.
غادرَ إلياس ويزن، بعد دقائقَ دلفَ جاسر يحملُ ملفًّا، وضعهُ أمام راكان وقال:
- ده كلِّ حاجة...من ساعة ماراقبنا تليفونات إلياس وأرسلان ويزن، لحدِّ ما راجح اتضرب بالنار.
– اقعد ياجاسر!!
جلسَ بصمت، بينما راكان يحاصرهُ بنظراته:
– إيه الِّلي حصل؟
مطَّ شفتيه، ثمَّ رفع نظراتهِ إليه وقال:
– إنتَ عارف الراجل ده..حقير وسافل. مسمعتش الِّلي قاله؟..
وأقسم بالله...أنا لو مكانهم، كنت قتلته بإيدي وخلَّصت الناس من شرُّه.
تنهَّدَ راكان:
– مصدَّقك...الباشا نسي بلاويه..
بس...ليه يزن ضربه؟
بدأ جاسر يروي ماحدث، ما قالهُ راجح، وكيف حاول استفزازهم ثمَّ هجومهِ عليهم.
نفخَ راكان وجنتيهِ وقال بنبرةٍ واثقة:
– دي دفاع عن النفس...بس في الآخر، قضية.
ضرب جاسر المكتب بعصبية، وقال من بينِ أسنانه:
– راكان...إنتَ هتكتب إنُّه حاول يهجم على الظابط، وأنا ضربته دفاعًا عن النفس..
العيال دي مش هتتذكر في الموضوع، أنا اللي كنت ناوي أخلَّص عليه.
صرخَ راكان فيه:
– طيب لمَّا يفوق؟! هيقول مين ضربه، أنا مكنتش موجود ومشفتش حاجة..
– مالكش دعوة، إنتَ هتكتب الِّلي هقوله وخلاص!
– ولا!! إنتَ اتجنِّنت؟!
نهضَ جاسر وأشار بيدهِ إلى الباب، وهتف بصوتٍ يتصدَّعُ بالقهر:
– واحد مراته وأخته تحتِ إيد مجرم سافل، بيعايره بأمُّه ومراته، والتاني...
أخته فرحها بعد أسبوع..
منتظر منهم إيه؟!
وبعدين دول مدخلوش يقتلوه...
هوَّ الِّلي حاول يستفزُّهم...وهوَّ الِّلي حاول يقتلهم.
بالخارجِ ظلَّ يدورُ كالمجنون، إلى أن قاطعهُ رنينُ هاتفه:
-أيوة ياطارق..
-أنا عرفت مكان ميرال ورايح على هناك..قاطعهُ صائحًا:
-إيَّاك تتحرَّك من عندك، أنا جاي، سمعتني، ابعت اللوكيشين، طارق لو سمحت إحنا منعرفشِ الناس الِّلي معاها قدِّ إيه.
-هبعتلك اللوكيشين ومتخافش.. هعرف أتعامل كويس.
- لا لا..أنا جاي متعملشِ حاجة..تحرَّك خلفهِ أرسلان وهو يتحدَّثُ بهاتفه:
-خلاص ياعمُّو، طارق كلَّمنا وعرف مكانهم، متعملشِ حاجة، شوف بس مين الِّلي ساعد راجح في الهروب.
بينما جلسَ يزن أمام مكتبِ راكان منتظرًا مايحدث..
بعد فترةٍ وصل إلياس بصحبةِ أرسلان إلى المكانِ المنشود، ترجَّل من سيارتهِ سريعًا كالجندي المدافع عن الحدود، وجد طارق واقفًا أمام سيارتهِ في مكانٍ خفيٍّ عن الأعين..
أشارَ إلى منزلٍ ريفيٍّ يُبعدُ عن توقُّفهم ببعض الكيلومترات:
-عرفت إزاي المكان دا؟.
-دفعت طبعًا..إنتَ ناسي أنا كنت شغَّال مع الناس دي وأعرف مين الِّلي راجح بيستعين بيه؟.
-البيت دا تبع حد ولَّا تبع أبوك؟.
-لا، تبع واحد من الِّلي شغَّالين معاه، بس هوَّ مش موجود، والبيت في ارض زراعيه وحلو البيوت التانية بعيدة عنه
توقَّفَ أرسلان ينظرُ بترقُّبٍ إلى المنزلِ ثمَّ التفتَ إليهم:
-البيت مش محاصر أوي، يعني ممكن يكون خمسة ستة بالكتير..
أومأ إلياس موافقًا، ولكن قطعَ حديثهم رنينُ هاتفه:
-أيوة ياحضرةِ الظابط..
-إلياس ابعت المكان، ماتتهوَّرش، هكون عندك خلال دقايق..
-حضرتك نسيت إنِّي ظابط وأعرف أتعامل كويس..شكرًا لحضرتك وعلى العموم هبعت العنوان علشان تيجي تستلم جثث العيال دي..قالها وأغلقَ الهاتف..بينما جزَّ جاسر على أسنانهِ واتَّجه إلى قوَّتهِ متحرِّكًا حيث وجودهم
عند إلياس..التفتَ إلى أرسلان:
-هندخل..أوقفهُ أرسلان بذراعه:
-هتفضل هنا، وأنا هتصرَّف، إياك تتحرَّك من غير ماأبعت لك.
-أرسلان إنتَ مجنون.
تحرَّك دون أن يهتمَّ لحديثه:
-قولت هتصرَّف وبلاش اندفاعك، انا عارف بعمل ايه ..قالها وتحرَّك إلى المنزل..وصل، وتوقَّف يراقبُ عن كثب، لمحَ مخزنًا يبعدُ عن المنزلِ ببعض الكيلومترات، دلف للداخلِ بخبرتهِ العمليَّة، وقام بإشعالِ النيرانِ بأحدِ المخازنِ التي تحتوي على القطن.
وخرج سريعًا متَّجهًا إلى أحدِ الأسطحِ الجانبيةِ وأخرج جهازَ المنظارِ الرقمي لمراقبةِ وقوفِ الجميع، لكي يعرفَ من أين سيدخل..
دقائقَ واشتعلت النيرانُ كالقنابلِ وبدأت تُحدثُ أصواتًا مرتفعة، هربَ الجميعُ من المنزلِ في الوقتِ الذي أرسل إشارةً لإلياس بالقبضِ عليهم، بينما هو دلف للداخلِ بعدما قفزَ من فوقِ الجدار..ولج إلى المنزل بكلِّ سهولةٍ وثقةٍ يبحثُ عنهم، استمعَ إلى صرخاتِ غادة المرتبكةِ على ضجيجِ أصواتِ النيرانِ التي بدأت تقتربُ من المنزل..
دفع الباب بقدمهِ لتهبَّ البناتُ متوقِّفةً ينظرونَ إليه ببكاء، بينما ميرال التي تجلسُ بأحد الأركانِ وكأنَّها لم تشعر بشيئ:
-اطلعوا بسرعة إلياس برَّة..ثمَّ اتَّجه إلى ميرال وانحنى يحملها بعدما وجد سكونُ جسدها، حملها وخرجَ بها سريعًا مع صرخاتِ الأهالي من صوتِ النيرانِ وارتفاعها..
وصلَ حيث مكانهم، بالتزامنِ مع قدومِ سيارةِ الشرطة، وقد بدا المكانُ أشبهُ بساحةِ حرب..
ترجَّل جاسر، يرافقهُ فريقهِ الأمني، يوزِّعون نظراتهم الحادَّة في كلِّ اتِّجاه.
هرولت غادة إلى سيارةِ إلياس تبحث عنه، وعيناها اغرورقت بالدموع، فتحت بابَ السيارةِ بصمتٍ مُثقلٍ بالوجع، ولكنها لم تجده، ولمحت ارسلان يحمل ميرال، ابتعدت عن باب السيارة تشير إليه، وساعدتهُ في وضعِ ميرال بالداخل.
ضمَّ أرسلان وجهها بين راحتيه:
– ميرال؟ سمعاني..إنتي كويسة؟!.
لم تجبه، فقط رمقتهُ بنظرةٍ خاوية، كأنَّ روحها قد انفصلت عن جسدها وسكنت عالمًا آخر..
دوت أصواتُ الطلقاتِ الناريةِ في المكان، ومعها تفرَّقَ رجالُ الأمنِ بقيادةِ جاسر، للقبضِ على المجرمين، بينما هوظلَّ واقفًا، عاجزًا، مأخوذًا بسكونِ زوجةِ أخيهِ وعقلهِ يصفعهُ بكثيرٍ ممَّا حدث..
ظهر إلياس يركضُ بخطا سريعة، يبحثُ عن ميرال..وأشار إلى جاسر:
-اتنين ماتوا، معرفشِ الباقي عايش ولَّا لأ.
ركضت إليهِ غادة، وقبل أن تنبسَّ بحرف، ألقَت بنفسها في أحضانهِ وانفجرت باكية، بصوتٍ مذبوحٍ أشبهُ بطفلٍ تائه..ضمَّها إلياس بحنانٍ أخوي، وعيناهُ تمشِّطُ الأرجاءَ بجنونٍ بحثًا عن زوجتهِ.. بلهفة تسائل:
– فين ميرال؟
أشارت غادة نحو السيارة..
سحبها برفقٍ إلى جواره، وتوجَّه إليها
وجدَ إيمان واقفة، شخصت نظراتها نحو وجسدها يرتجف، فأردفَ متسائلا:
– إنتي كويسة؟
أومأت برأسها، ثمَّ سألت بصوتٍ مخنوق بالبكاء:
– فين أبيه يزن؟
فتح الباب، وأشارَ لها ولغادة:
– اركبوا، يزن مستنِّينا.
قالها بصوتٍ مبحوح، حينما وقعت عيناهُ على جسدِ ميرال الساكنِ كأنَّها لا تشعرُ بشيء..
ثمَّ التفتَ إلى أرسلان وأشار له:
– همشي..
توجَّه إلى القيادة، وجلسَ بجوارها، ثمَّ مالَ نحوها، احتواها بذراعيه، كأنَّه يستعيدُ جزءًا مفقودًا من روحه.
– ميرال..حبيبتي، أنا هنا..سمعاني؟
نظرت إليه..نظراتٌ خالية من طيفِ الحياة، كانت غريبة، بعيدة، كأنَّها
لا تعرفه.
جذبها إليهِ بحنان، وضمَّها بقوَّة، وراح يربتُ على ظهرها برفقٍ مخنوق.
تحدَّثت غادة التي تجلسُ في المقعدِ الخلفي، بنبرةٍ مرتعشة:
– عيَّطت كتير ياإلياس، الحيوان ضربها!..حاولت تقتله، بس أخدها منِّنا، ومحدش يعرف عمل فيها إيه... من ساعتها وهيَّ كدا، سكتة، ومش حاسة..
قبضَ إلياس على المقودِ بقوَّة، وعيناهُ تمتلئُ بنيرانِ الغضبِ المكبوت..وقاد السيارةُ في صمتٍ تام، لكنَّ صدرهِ كان عاصفة..عاصفةٌ ناريَّةٌ لرجلٍ رأى زوجتهِ التي يعشقها تُسحقُ بحياته، تحرَّك بسرعةٍ جنونيةٍ إلى المشفى وداخلهِ نيرانًا تريدُ أن تحرقَ المكانَ بأكمله..
وصل إلى المشفى، والتفت إليهم
-لو حاسين بتعب انزلوا خلو الدكتور يشوفكم
هزت غادة رأسها بالنفي، ثم التفتت إلى ايمان التي تبكي بصمت
-إنت كويسة ..أزالت دموعها وقالت
-عايزة يزن ..رفع إلياس هاتفه وقام بمهاتفة يزن الذي اجابه سريعا
-عملت ايه؟!
-إنت فين ؟!.
-في المستشفى، لو خلصت تعالى على هناك، بس متخفش هي كويسة، جاسر قالي لم الموضوع..انا مستنيك
ترجل من السيارة وحمل زوجته واتجه بها إلى الداخل
بفيلا الجارحي
وصل بعد عدة ساعات ..قابله اسحاق بصحبة دينا على باب الفيلا
-عملتوا ايه ..
هز رأسه ورد قائلًا:
-الحمد لله، بس ميرال اللي اتأذت نفسيًا، إلياس اخدها المستشفى والبنات كويسين
-عرفت حاجة عن راجح..؟!
-خرج من العمليات، اتواصلت مع الدكتور، شاكك بإصابة النخاع الشوكي
ابتسم ارسلان واقترب يقبله
-أيوة كدا، كنت خايف يموت قبل مااعذبه
-ولا انت ناوي على ايه
-أنا واقف قدامك اهو، هترمي بلاويك عليا، انا قصدي يتعذب في السجن
دقق النظر إليه
-قولي يااسحاقوا، مين اللي ورا هروب راجح
-وحياة ربنا ماانا، انت عارف الفترة دي ماكناش بنشتغل، صح ولا ايه
مط شفتيه وحك ذقنه ثم توجه إلى دينا التي ابتعدت بحمزة حتى يتحدثوا
-انتوا رايحين فين، مش قولت هنقعد كلنا هنا
-رايحين نتعشى برة، ايه عندك مانع
-اه عندي، ازاي تروح من غيري، دا اللي اتعلمته مني
دفعه بكفيه بعد ما وضعه على وجهه
-امشي يامتخلف من قدامي، مبقاش غير العيال اللي توقف تتكلم معاي
قهقه ارسلان ثم نادى على دينا:
-تعالي علشان اشهدك يامرات عمو، اسحاق اللي هو في مقام بابا معرفش يتعلم مني، التلميذ تفوق على الأستاذ
ضيقت عيناها تتابعهم بجهل، بسط اسحاق كفه إليها
-تعالي دا مخه فلسع، هنقله جنب امي هناك ..هنا توقف وامسكه من ذراعه
-مش ناوي تطلع تيتا ولا ايه
نظر إلى يديه المتشبثة بذراعه ثم رفع نظره إليه
-ارسلان علشان تفضل ابني الغالي، مش عايزك تدخل، ولو عرفت انك زرتها زي مافاروق بيطلب منك هزعلك اوي ..قالها وحاوط جسد دينا وتحرك إلى سيارته
ظل ارسلان يتابعه بعينيه إلى أن غادرت السيارة المكان
بعد أسابيعَ طويلة من الإجراءاتِ الرسمية الخاصَّة بالقضية، تمَّ إرجاع كلِّ شخصٍ إلى اسمهِ الحقيقي..أمَّا إلياس، فقد نقلَ كنيةِ ميرال تحت اسمِ مصطفى السيوفي بموجبِ شهادةِ تبنٍّ منذ أن كانت رضيعة، استطاع الحصولُ عليها بسهولةٍ بعد مساعدةِ إسحاق إليه، وبعدما أنكرت رانيا علاقتها بها رسميًا بناءً على زيارةِ إلياس وطارق إليها ، عادت الحياةُ تدريجيًا إلى مجراها مع الجميع، وسط محاولاتٍ حثيثة للوقوفِ إلى جانبِ ميرال، في الوقت نفسهِ استقرَّ أرسلان في فيلا الجارحي، مع حرصهِ على زيارةِ والدتهِ باستمرار..
أمَّا الآخرون، فحرصوا على ألَّا يُحدثَ التغيير المفاجئ خللًا في نمطِ حياتهم المعتاد مثل إسحاق وفاروق وكذلك مصطفى بعد رفضِ الجهاز استقالتهم، بعدما انتهت التحقيقاتُ الرسمية فيما عُرفَ بقضيةِ التزوير، ونظرًا لكفاءتهم وإخلاصهم لوطنهم وبعد التحرِّي في الكثير ممَّا قدَّموه، رفض الجميعُ التخلِّي عنهما، ولكن أصرَّ أرسلان البعدَ عن وظيفتهِ واهتمامهِ بعملهِ الخاص، ورغم ذلك إلا أنَّ جميع قادتهِ رفضوا..
مرَّت عدَّةُ أشهرٍ في سكينةٍ واطمئنان، بعدها قرَّر إلياس أن يرافقَ زوجتهِ لأداءِ العمرة التي أصرَّ أن تكون في شهرِ رمضان..قضى أكثر من نصفِ الشهرِ الفضيلِ هناك، ثمَّ عاد معها قبل العيد المبارك بيومٍ واحد.
في عصرِ ذلك اليوم، استيقظَ من نومهِ بعد غفوةٍ طويلةٍ عقب العودةِ من السفر..نهض من جوارها واتَّجه إلى الحمَّام، ثم خرج بعد دقائقَ معدودة ليؤدِّي فرضَ ربه.
تململت ميرال بنعاسٍ على رنينِ هاتفه، وكان قد أنهى صلاتهِ وتوجَّه للردِّ عليه..
– أيوة يايزن...
على الطرفِ الآخر:
– حمدَ الله على السلامة ياعم، أخيرًا رجعتوا..
خرج إلياس إلى الشرفةِ وجلس يتابعُ المكالمة:
– حقيقي مكناش عايزين نرجع دلوقتي، بس ماما أصرِّت علشان العيد..ناويين ننزل أوَّل يوم السويس إن شاء الله.
– كلِّ سنة وإنتَ طيب ياحبيبي..طنط فريدة اتَّصلت بينا الصبح ومصرَّة تجمَّع العيلة كلَّها على الفطار عندكم، وأنا بصراحة عندي شغل، فياريت تعتذرلها بالنيابة عنِّي...وبالمناسبة، هاجي بالليل علشان أشوف البنات.
خلَّل إلياس أناملهِ في خصلاتِ شعرهِ وقال:
– طنطك عندك، كلِّمها..ماليش في الحوارات دي، أمَّا بالنسبة لأخواتك، ميرال كويسة جدًا الحمدُ لله، رؤى لسه مشوفتهاش، رجعنا ونمنا على طول.
– يعني مش هتعتذر لمامتك؟
– لا..قالها إلياس بحدَّةٍ خفيفة، ليغلقَ يزن بعدها المكالمة دون حديثٍ آخر.
نهض يتأمَّلُ الحديقة، رغم أنَّه لم يغب كثيرًا، شعر وكأنَّه غاب عنها سنينَ طويلة..سمعَ خطواتها الناعمة خلفه، لكنَّه ظلَّ واقفًا في مكانه، اقتربت منه وتوقَّفت بجواره، ثمَّ سحبت كفَّيه وخلَّلت أناملها بين أصابعه، وأسندت رأسها على كتفه:
– البيت وحشني أوي...
ابتسم، ثمَّ رفع ذراعيهِ ليحيطَ جسدها وتمتمَ بابتسامة:
– هوَّ كمان وحشك أوي.
ضيَّقت عينيها وتساءلت بدهشة:
– هوَّ مين؟
تراجعَ خطوةً للوراء، ثمَّ رفع ذقنها وقال:
– بيتنا..هنفضل قاعدين هنا ولَّا إيه؟ اعملي حسابك هنرجع بيتنا بعد الفطار النهاردة.
ابتعدت عنهُ بخفَّة وقالت:
– هروح ألحق صلاة العصر الأوَّل، وبعد كده نشوف الموضوع ده.
سار نحو الخارجِ وهو يقول:
– هنزل تحت، وإنتي خلَّصي وانزلي.. ماما عازمة الكلِّ على الفطار، حتى عيلة الجارحي.
ثمَّ توقَّف وهو يرمقُ هيئتها، وأشارَ قائلًا:
– شوفي أيِّ لبس واسع، هيكون في ناس غريبة.
أومأت له ودلفت للداخل.
بمنزلِ آدم..
كانت تتحرَّكُ ذهابًا وإيابًا تشعرُ بألمٍ أسفلَ بطنها، ولجت مريم تحملُ كوبا من اللبن/
-حبيبتي جبت لك لبن اشربيه يقوِّيكي شوية..
هزَّت رأسها برفضٍ تام وقالت:
-آدم اتأخَّر أوي، قالِّي مسافة الطريق، اتأخَّروا ليه كدا..
ساعدتها مريم بالجلوس:
-ممكن طيارة خالو اتأخَّرت وهوَّ منتظر، أو زحمة الشوارع، إنتي عارفة الساعة الِّلي قبل المغرب دي بتكون زحمة..
نهضت صارخةً تهزُّ رأسها وتضعُ كفَّيها أسفلَ بطنها:
-لا يامريم الوجع صعب، شكلي هولد..آه صرخت بها مع دخولِ آدم:
-إيلين !!
نظرت إليهِ بدموعٍ وقالت:
-آدم الحقني هموت شكلي هولد..
اتَّجه بنظرهِ إلى مريم التي أومأت له:
-فعلا شكلها ولادة ياآدم..لم تكمل حديثها مع صرخةٍ من فمِ إيلين بعدما شعرت انزلاقَ المياهِ من بين ساقيها.
هرول إليها يرفعُ جسدها واتَّجه إلى سيارتهِ مع صرخاتها التي أفقدتهُ اتِّزانه..
ممَّا جعلَ مريم تتَّجهُ إلى السيارةِ وتقودها بدلًا عنه مع خروجِ زين على صرخاتها:
-أحمد...صاح بها زين على ابنهِ الذي خرجَ سريعًا:
-فيه إيه يابابا..سار إلى عربيةِ نجله:
-على المستشفى مرات أخوك شكلها بتولد.
بفيلا الجارحي…
كان يركضُ خلف ابنه، يلاعبهُ وسط ضحكاته، ارتدَّت صداها بين جدرانِ الحديقةِ كأغنيةٍ حنونةٍ من أبٍ حنون.
وصل إليهم فاروق، توقَّف للحظاتٍ يطالعهما بسعادة، ثمَّ اتَّجه نحو المقعدِ وجلس عليه، وعيناهُ مازالتا معلَّقتينِ على أخيه وطفله.
قاطعهُ وصولُ أرسلان، يحملُ بين ذراعيهِ طفله وقال:
– "شوف مين جه لجدُّو علشان يلعب معاه."
رفع فاروق ذراعيهِ وتلقَّفهُ من بين يديهِ بابتسامةٍ حانية:
– "مين حبيب جدُّو؟"
ضحك الطفلُ وهو يمدُّ يدهِ الصغيرةِ نحو لحيةِ فاروق يداعبها بمرح..
وصل إليهم إسحاق، ينادي على المربية:
– "ساعدي حمزة في لبسه، علشان هنخرج."
ثمَّ أشار إلى طفلهِ قائلاً:
– "يالَّه يابابي، اطلع مع النانا، خد شاور، عندنا زيارة عند يوسف."
– "أوكيه بابي."
قالها الطفل بخفَّةٍ وصعدَ إلى الأعلى.
جذب إسحاق مقعدًا وجلسَ عليه، ينظرُ إلى أرسلان قائلاً بسخريةٍ خفيفة:
– "صح النوم ياخويا، أنا فكَّرتك موت!"
رفع فاروق رأسهِ متضايقًا:
– "إخصِ عليك ياإسحاق، ليه بتقول عليه كده؟"
ركلَ أرسلان الكرة، فاستقرَّت برفقٍ فوق رأسِ إسحاق، ثمَّ غمزَ بمشاكسة:
– "ما كنتش أقصد…اعتبرني حمزة الِّلي كنت بتلعب معاه."
أشار إلى فاروق:
– "شايف الواد بيعمل إيه وبيقول إيه؟"
ابتسم فاروق على مناكفتهم ورد:
– "معرفشِ مالكم أنتوا الاتنين، بقيتوا زي الضراير ليه؟"
– "إيه يافاروق الِّلي بتقوله دا؟ مش هلاقي غير العيل دا وأكون ضرِّته؟!"
ارتفعت ضحكاتهم، ثمَّ عمَّ الصمتُ لحظات، نهضَ إسحاق وقال:
– "هاخد شاور علشان نتحرَّك يادوب."
أومأ أرسلان، وصعدَ إسحاق للأعلى، بينما اقتربَ من فاروق يجلسُ بجوارهِ وهمس:
- "هوَّ عمُّو ليه رافض يخرَّج تيتا من المستشفى؟ هتفضل كده؟"
تنهَّد فاروق، وقد ارتسمت على ملامحهِ مرارةُ الألم، خاصَّةً مافعله إسحاق بوالدته.
دقَّق النظرَ في وجهِ أرسلان ثمَّ قال بهدوء:
– "ما تتكلِّم معاه..هوَّ بيحبَّك، يمكن يسمع منَّك."
تراجعَ أرسلان، يهزُّ رأسهِ بأسى:
– "بلاش يا بابا…الموضوع ده بالذات صعب أوي، ما تنساش عملت إيه… خطفت ابنه وقالت مات، سنة كاملة، غير تعذيب مراته!"
سكتَ قليلاً ثمَّ أردفَ بصوتٍ مكسور:
– "هقولَّك حاجة وما تزعلشِ منِّي… فكَّرتني براجح الشافعي."
قبل أن يردَّ عليه، وصل صوتُ غرام وهي تقول:
– "هات بلال يا عمُّو أجهِّزه علشان الوقت."
– "اتفضلي ياحبيبتي."
ناولها الطفل بحنان.
بعد عدَّةِ ساعات…
في حديقةِ فيلا السيوفي بعد تناولِ الإفطار الأخيرِ من الشهرِ الفضيل..
كانت الأجواءُ مشبعةٌ بالحبِّ والألفة، والضحكاتُ تتعالى وسط مزاحٍ خفيفٍ بين أرسلان وإسلام.
جلسوا على الكراسي المتناثرة في كلِّ مكان، وكلًّا منهم يحملُ فنجانَ قهوتهِ أو عصيره، كأنَّ الحديقةَ تحوَّلت إلى واحةٍ من السلامِ ممزوجةٍ بالرضى والسعادة..كان يجلس بجوار فريدة يحاوطها بذراعيه
انحنت تجلب إليه الحلوى التي يفضلها، وأشارت إليه
-خليت البنات يعملولك دي، عارفة انك بتحبها
التقطها اسلام من أمامه، وبدأ يتناول منها وقال:
-غيري من ارسلان لإسلام ياست ماما، انا كدا هقلبها حرب، عملت حمام علشان ارسلان، عملت العصير دا علشان ارسلان، والرز دا ارسلان بيحبه، لا متحطوش دي علشان ريحتها نفاذة وارسلان مابيحبهاش، والله شكلي هقطع رجله من البيت، انا فين من ارس..هو ارس، وانا اسل
قهقه الجميع عليه، بينما احتضن ارسلان كف والدته يقبله:
-تسلم ايدك ياست الكل، وان اسلام يطفح اللي اخده من قدامي
-بعد الشر عليه ياحبيبي، هو بيهزر
انت بتهزر يالا
بدأ يتناول الحلوة ولم يعره اهتمام
نهضت ملك تتحرَّكُ بهدوء، تجاورها رؤى، وسارا معًا حتى وصلا إلى المسبح، حيث جلستا يتسامران..
لحقت بهما غادة، واتَّخذت لنفسها مكانًا بالقربِ منهما، وقالت:
-ماتيجوا نلعب أيِّ لعبة.
ردت رؤى
-لا أنا مش قادرة، العبوا انتوا
-هتعملي العملية امتى حبيبتي
تسائلت بها ملك
- بعد فرح ايمان إن شاءالله
إن شاءالله ربنا يشفيكي ياحبيبتي
كانت هناك عيونًا تراقبُ جلوسهم ، نهضَ متسلِّلًا واقتربَ بخطواتهِ منهم، وقف بتردُّدٍ وهو يقول:
– "إزيكم يابنات، كلِّ سنة وأنتوا طيبين؟"
رفعت غادة عينيها إليه قائلة:
– "أهلاً ياسلومة، فيه حاجة ولَّا إيه؟"
اقتربَ أكثر، وجلسَ بالقربِ منهم، ناظرًا إلى ملك بتوتُّرٍ ظاهر:
– "آه…عايز أتكلِّم مع ملك شوية، ممكن تسيبونا لوحدنا؟"
"تردَّدت ملك ونهضت لتفرَّ هاربةً بعدما شعرت بما سيقوله، ولكنَّه أوقفها:
-ملك..
توقَّفت وقلبها يقرعُ جدرانَ صدرها حتى شعرت بأنَّهم يستمعوا إليه..
-ملك عايز أتكلِّم معاكي لو سمحتي.
فركت ملك كفَّيها، تهربُ بنظراتها عن الجميع، بينما توقَّفت رؤى، وسحبت غادة من يدها قائلةً بخفَّة:
– "إنتَ تؤمر ياسلومة."ثمَّ تحرَّكت إلى وقوفِ ملك ولكزتها بكتفها:
-اجمدي يابت، دا لسة هيتكلِّم أومال لمَّا يمسك إيدك هيغمى عليكي..
غمزت غادة بطرفِ عينها بخفَّة، ثمَّ همست:
-مش هوَّ أخويا، بس عايزاكي تشلوحيه..
بركنًا اخر كانت تجلس تحت حنان ذراعيه، يقص لها ماجلبه لايمان من جهاز، وماذا سيفعل بحفلة زفافها
اعتدلت تطلع إليه
-إن شاءالله هيكون فرح تحفة ياحبيبي، كفاية انك مهتم بكل حاجة
-تعرفي إن طارق واقف معايا في كل حاجة ، انا مضايق من نفسي اوي، كل ما افتكر اني اذيته، بسببي دخل السجن سنة كاملة، ومستقبله ضاع بسببي
-معلش ياحبيبي، كلنا مش ملايكة، انت ساعده، انا شايفة الورشة ماشاء الله كبرت اوي، وكمان إلياس بيقولي انك فتحت معرض عربيات
تنهد بثقل يشعر بأن شيئا ثقيلًا يجثو فوق صدره:
-اشتغل مع رحيل شوية، بس هي سلمته كل حاجة وسافرت تاني
استدارت بكامل جسدها ونظرت إليه
-يزن مش ناوي تقولها انك رجعتها، هتفضل مخبي عليها لحد امتى، انت غلطت ولازم تصلح غلطك، وبعدين إلياس قالي على طلبك انك كنت عايز ترجعها بطريقة مش كويسة
تراجع يستند على المقعد ونظر إلى السماء المزينة بالمصابيح الربانية
-منزلتهاش كدا، ارسلان بعت حد من السفارة وقالها لازم تنزل علشان تشهد في قضية راجح، وقالها راجح بيتهمها ودا سبب انها تنزل بطريقة قانونية من خلال السفارة، وقالها مش هيتعامل بشكل رسمي خلال أربعة وعشرين ساعة
-مين ارسلان اللي قالها
ارتشف من قهوته وهز رأسه وقال:
-لا..حد من السفارة، بس ارسلان استخدم نفوذه فاهمة
- غلط يايزن، انت شايف دا الحل
-كان لازم تنزل علشان تستلم ملكها، كنت عايز اقرب واخليها تسامحني، بس هي جرحتني اوي
-حقها..قالتها وهي تبتعد بنظراتها عنه، قطع حديثهما رنين هاتفه، فقال
-هرد على إيمان كانت بتفطر مع كريم في الحسين النهاردة
اومأت له بصمت
عند ملك وارسلام
تململت في جلستها، تتلفَّتُ حولها بارتباكٍ ظاهر، تمسكُ بأناملها في توترٍ شارد:
– عايز إيه ياإسلام؟..بابا لو شافني قاعدة لوحدي معاك هيزعل.
ابتسمَ لبراءتها، اقتربَ بخطًا هادئة، ثمَّ جلسَ قُبالتها، و أسندَ ساعديهِ على الطاولةِ الدائريةِ الصغيرة، وتلاعبَ بأصابعهِ بصمتٍ حتى التفتت إليه بتردُّدٍ ونطقت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالوحدة:
– ما تقول عايز إيه؟
رفعَ عينيهِ بثبات، ونطقَ بهدوء:
– عايز أتقدِّم لك..بس الأوَّل، أعرف رأيك.
انتفضت واقفة، وارتعشَ صوتها بخفوتٍ كحالِ جسدها :
– أنا لازم أمشي...
قالتها وهربت كحمامة، عبسَ في ضيق، وتراجعَ بجسدهِ إلى الوراء، يزفرُ غيظهِ من ردِّ فعلها غير المتوقَّع، ظلَّت نظراتهِ تتابعها ولم يشعر بتلك التي كانت بالقربِ منهما، اقتربت منهُ ثمَّ وضعت كفَّها تربتُ على كتفه..رفعَ عينيه، ليجدَ ميرال تقفُ فوقهِ تبتسم..
تحرَّكت إلى جواره:
-بتراقبيني يامرات أخويا؟.
سحبت المقعدَ بتلقائية، وضعت ذقنها على كفَّيها في دلالٍ ساخر:
– كلِّ الموجودين أخدوا بالهم
ياذكي..أخواتك مش أنا بس، المهمّ عملت إيه؟.
مرَّرَ يدهِ على رأسهِ وتمتمَ محبطًا:
– معرفتش أقول كلمتين...أوَّل
ماقولت "عايز أتقدِّم"، هربت زي الحمامة!
ظلَّت تتابعهُ بصمت، ثمَّ زفرت الهواءَ بهدوء:
– إسلام...ادخل البيت من بابه..هيَّ لو موافقة عليك، هتوافق على الخطوبة.. بلاش تقعد معاها من غير علاقة رسمية..وبعدين..ملك دي بريئة جدًا، وبتتكسف أوي.
هزَّ رأسهِ موافقًا، ونطقَ بنبرةٍ صادقة:
– واللهِ ياميرال، كنت ناوي أفاتح بابا، بس كنت عايز أعرف مشاعرها الأوَّل، مش عايز أحرج بابا والياس، ونروح نطلبها نلاقيها مرتبطة.
أومأت له بتفهُّم، وابتسمت:
– لا..هيَّ مش مرتبطة، ادخل بقلبِ جامد، واسمع منِّي، البنات بيفهموا على بعض، وأنا شايفة بينكم كيميا حلوة.
مدَّ يديهِ وربتَ على كفَّيها شاكرًا:
– شكرًا ميرو...بجدِّ شكرًا، ربِّنا
مايحرمني منِّك.
قاطعَ حديثهم إلياس بعدما دوى صوتهِ غاضبًا:
– شيل إيدك ياحيوان!
ركل المقعدَ بعيدًا بقوَّة، فهبَّت ميرال من مكانها بذعر، بينما رمقها إلياس بنظرةٍ غاضبة ثمَّ أشارَ ناحيةَ الداخل:
– ابنك هينام..شوفيه.
تحرَّكت مسرعةً دون نقاش، أمَّا إسلام فالتفتَ حولهِ مشوَّشًا، يسأل:
– إيه دا؟! هما مشيوا؟
دفعهُ إلياس على المقعدِ بقوَّةٍ حتى هوى فوقه، ثمَّ رفع ساقيهِ مستندًا على ركبتيهِ ثمَّ انحنى نحوهِ بنظراتٍ حادَّة:
– الناس دي دخلت بيتنا، وإحنا دخلنا بيتهم..وبينا عِشرة ومعروف، إنتَ مش صغير، ماشاء الله هتتخرَّج السنة دي.. البنت عجبتك؟ يبقى زي ماربِّنا أمر، ادخل من الباب...
وأقسم بالله، لو حاولت تضايقها بهزارك السخيف دا، لأزعَّلك.
رفعَ إسلام حاجبًا ساخرًا، محاولًا التخفيفَ من التوتُّر:
– دا كلُّه علشان مسكت إيد مراتك؟! أومال لو حضنتها، كنت عملت إيه؟
لكزهُ إلياس بقوَّةٍ في صدره، وهمهمَ بنبرةٍ حادَّةٍ كسكين:
– اعرف إنتَ بتقول إيه يالا..بطَّل هبل وجنان، ومتلعبشِ معايا في الحتَّة دي.
انحنى أكثر، بنظراتهِ النارية، كأنَّها لهبٌ أراد أن يلتهمه، ثمَّ همسَ بفحيحٍ خافت:
– أنا بعرَّفك حدود ربِّنا…فيه حاجة اسمها حلال وحرام، يا عم المسلم.
اعتدلَ بجسده، واستدارَ مغادرًا، لكنَّه توقَّف حين سمعَ صوتَ إسلام خلفه:
– أنا آسف...مقصدشِ حاجة، كنت بهزَّر معاك.
ظلَّ إلياس متيبِّسًا في مكانه، ينظرُ له بصمتٍ لثوانٍ ثمَّ تحرَّكَ أخيرًا دون أن ينطقَ بحرف...
بمنزلِ يزن..
دلف للداخلِ يحملُ الحلويات المرتبطةِ بطقوسِ عيد الفطرِ المبارك..ينادي على أخته:
-حبيبتي خدي الحاجات الِّلي طلبتيها، ثمَّ أشار إلى كيسٍ بلاستيكيّ:
-دا ياستي الدريس بتاع كلِّ سنة، والشنطة دي حاجات ولوازم معاذ، التفتَ يبحثُ عنهُ متسائلًا:
-فين معاذ؟.
اقتربت منهُ وألقت نفسها بأحضانه:
-ربِّنا يخلِّيك لينا يارب ياحبيبي، مكنشِ في داعي، أنا لسة شارية حاجات جديدة.
احتضنَ وجهها بين راحتيه:
-أنتوا مسؤولين منِّي، حتى بعد ماتتجوِّزي، هفضل أجب لك الحاجات الِّلي كنت بجبَّها، إنتي سمعاني مستحيل أسمع منِّك أيِّ كلمة في الموضوع دا ..معنديش أغلى منكم.
-ربِّنا يخلِّيك لينا يارب..هروح بقى أعملَّك طبق مشكَّل لحدِّ مامعاذ يخرج من الحمَّام.
سحبَ سجاىرهِ واتَّجهَ إلى شرفةِ المنزلِ قائلًا:
-يعني لازم العيد يجي علشان يستحمَّى، بس ياربِّ ينضف.
أفلتت ضحكةً ناعمةً وردَّت قائلة:
-حرام عليك يايزن، دا معاذ أكتر حاجة بيعملها أنُّه بيستحمَّى.
ابتسمَ بسخريةٍ ثمَّ أشار إليها وتمتم:
-اعمليلي فنجان قهوة، مش عايز كحك..
جذب المقعدَ وجلسَ ينظرُ بالمارَّةِ المتحركينَ بالشارع، ولكن نظراتٍ شاردةٍ لا يرى سوى ضحكاتها ولا يستمعُ سوى نبرةِ صوتها التي تُطربُ الأذن، وكأنَّها تعيدُ همساتها بتلك الليلة:
"يزن أنا بحبَّك أوي"
أطبقَ على جفنيهِ يحدِّثُ نفسهِ وكأنَّها معه:
" وأنا بعشقك يامتخلِّفة " ردَّدها مبتسمًا ومازال مُغمضَ العينينِ وكأنَّه بحلمِ لا يريدُ أن ينقطع.
ولج غرفة ابنه ..توقف يتطلع إلى صفيه التي تحمله بين أحضانه وهي عافيه..انحنى وحمله من بين أحضانها
-ماما حبيبتي..فتحت عينها تنظر إلى يدها
-فين بلال..ابتسم بمحبة يشير إلى فراشه
-بياكل رز ولبن مع الملايكة، قومي حبيبتي ارتاحي، بكرة العيد، وعندنا سفر، ولا غيرتي رأيك ومش عايزة تروحي السويس
نهضت من مكانها واقتربت منه، تحتضن وجهه:
-المكان اللي انت عايزه اكيد هكون معاك فيه، انت فرحة وزهرة عمري ياارسو، اه مخلفتكش، بس انت قطعة من روحي ..قالتها بانسياب دموعها
ضمها لأحضانه وتمتم:
-وانت ست الكل وروح قلب ارسو، اه امي فريدة ولدتني، بس انت شربتيني الحنان والحب، اوعي تفكري اني في من الأيام هبعد عنك
ابتعد عنها واشار إلى دموعه
-كدا ياصفية، الليلة عيد ونكدتي عليا، ادخل على البت معيط، ياله روحي لفاروق، ستات تجيب النكد
لكزته ضاحكة ثم عانق ذراعيها وتحرك للخارج وهو يقول:
-تعالي اوصلك لفاروق، خايف تتوهي وتفتحي باب اسحاق، ودا شكله مشهيص على الاخر، يكفيك شر الحرمان
توقفت وارتفعت ضحكاتها، ليخرج اسحاق من جناحه يتطلع إليهما بتساؤل
-مالك ياصفية خير، ايه الصوت دا
أشار إلى روبه الذي يرتديه وقال
-قولت حاجة انا، اهو طالع بروب احمر، طيب اقول ايه، ثم اقترب من اسحاق
-اروح استر نفسك، مش مكسوف
ضيق عيناه ثم رفع نظره الى صفية التي ارتفعت ضحكاتها بالمكان
-هو الواد دا مشربك ايه، لكمه بقوة في صدره
-إنت عملت فيه ايه يامتخلف، فاروق هينفخك
اقترب يهمس له بإذنه ويشير إلى روبه
ثم ضرب على كفيه
-كتر خيرها أنها بتضحك بس
توسعت عيناه ينظر إليه بذهول، ركض
من أمامه سريعا
-تصبح على خير يا عريس..
بجناح إلياس
دلف يبحث عنها وصدره كتلة نارية من الغيرة، كلما تذكر امسك اسلام لكفيها، فتح باب الغرفة ولكنها غير موجودة، استمع الى موسيقى هادئة بالغرفة المجاورة ..فتحها ينظر إليها، توقف ينظر إلى انعكاس وجهها في إضاءة الشموع، وجدها تنحني وهي تشعل الشموع مع ثيابها المغرية وهيئتها التي تجعله قديسًا لعشقها، اقترب منها وعيناه تحاوط جسدها بالكامل، بدءً، من خصلاتها المرفوعة للأعلى مع شرود بعضها على عنقها المرمري، وعيناها التي تشبه أعين الغزال السوداء، إلى فتحة منامتها، التي تظهر جمال جسدها باستفاضة..وصل إليها، شعرت بوجوده فرفعت رأسها إليه مبتسمة وهمست بصوت خافت
-حمد الله على السلامة، كنت ناوي تفضل للصبح تحت
ظل يقترب منها بخطى سلحفية، وعيناه على شفتيها المطلية باللون الاحمر القاني، بسط كفيه إليها، فعانقته
ثم رفعها لتدور بهيئتها التي سحبت أنفاسه :
-الجمال دا كله عندي في الأوضة
رفعت ذراعيها تعانق رقبته، وتحركت معه على الموسيقى
-لسة واحد بالك ولا ايه، مراتك حلوة من زمان بس التقيل كان بيتقل
انحنى يدفن رأسه بعنقها يسحب رائحتها كالمدمن الذي يتجرع جرعته
-حبيبي كل سنة وانت معايا..رفع رأسه واحتضنها بعينه وقال:
-لا ..دي مابتتقالش كدا، الليلة عيد ياميرا، وانا عامل براجرم هيعجبك اوي، وبتعشقيه كمان
في جناح ارسلان
دخل ومازال يضحك على ما فعله باسحاق، ولكنه توقف مرة واحدة بعدما وجدها تجلس في الأرض وتبكي
هرول إليها وقلبه ينتفض بالخوف:
-غرام ايه اللي حصل ؟!.
مالك حبيبتي، باباكي كويس
اومأت له وارتفعت شهقاتها بالبكاء تحتضتنه، تصنم جسده غير مستوعب مااصابها، أخرجها بهدوء وعقله يعمل بكافة الاتجاهات على مااصابها
-حبيبتي اهدي وعرفيني مالك، ايه اللي حصل
فتحت يده ووضعت شيئا ما بكفيه، مع صوت بكاؤها
نظر للذي بيده يقلبه بجهل، ثم تذكر شيئا ما ..فاتجه إليها بنظرات نارية
-وحياة خضتي دي ماانا راحمك يابنت محمود ياغبية يامتخلفة
انتهى الفصل
↚
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك"
"الوداع خُرافة لا يعرفها من أحبّ بروحه، فالقلوب التي تلامست يومًا لا يُفرّقها الغياب، وإن تباعدت الأجساد... ثمّة خيط سرّي يربط الأرواح العاشقة، لا يُرى، لكنّه يُحسّ، وكلما خفَتَ الصوت، ازداد النداء صمتًا وحنينًا، فالحبّ حين يولد في الأعماق، لا يموت... بل يسكن الذاكرة والنبض، ويظلّ حيًّا في كل نظرة غائبة، وكل نبضة تنتظر اللقاء."
بغرفة ارسلان
هبَّ واقفًا وهو يضع يديهِ على خصره، يعلو صدرهِ ويهبطُ بتسارعٍ واضح، كأنَّما يحاولُ استيعابَ الصدمة، ثمَّ
قال بصوتٍ متحشرجٍ من الغضب:
- صدمتيني بجد، فيه حد يعمل كده علشان حامل؟!.
رفعت كفَّها تمسحُ دموعها بغضبٍ خافت، ثمَّ نهضت من مكانها، تتماسكُ بصعوبة:
– دا اللي ربِّنا قدَّرك عليه؟! ابنك لسه مكمِّلشِ سنة، يا أستاذ، الناس هتقول إيه دلوقتي؟ أنا شكلي قدَّامهم إيه؟
جحظت عيناه، واشتعلَ داخلهِ من وقعِ كلماتها..
- غرام! إنتي مستوعبة بتقولي إيه؟! إيه الهبل والعبط ده؟! جايبينه من الحرام؟! ده رزق، نعمة ربِّنا أنعم علينا بيها!
ثمَّ أردفَ بحدَّةٍ وهو يجذبُ منشفةً من على الكرسي متَّجهًا نحو الحمَّام، يهربُ من انفعالاتهِ وانفعالاتها..
وقفت تحاولُ أن تفهِّمه، ولكنَّه تحرَّك سريعًا، فتوقَّفت تنظرُ لغضبِ تحرُّكهِ بدموعٍ لا تنقطع، ثمَّ همست لنفسها وهي تجلسُ على طرفِ الفراش، ترتجفُ شفتيها:
– هوَّ مفهمشِ قصدي...أنا مش زعلانة، أنا خايفة..
زحفت بجسدها إلى الخلف، تسندُ رأسها على حافةِ السرير، ثمَّ طوَّقت أحشاءها بذراعيها وهمست بمرارة:
- إزاي هبقى أم لطفلين في وقت قصير كده؟ الناس هيتريَّقوا عليَّا...كلِّ شوية بتجيب عيال!
سكتت لحظة، ثمَّ أضافت بنبرةٍ مخنوقة:
- أنا مش معترضة إنِّي أخلِّف تاني، بس دلوقتي...دلوقتي صعب، هقولُّهم إيه؟
دقائقَ معدودة ثمَّ خرج من الحمَّام متَّجهًا إلى غرفةِ الملابس، ارتدى ملابسَ النومِ بصمتٍ ثقيل..ونظراتها تراقبهُ في الخفاء، تكادُ تستجديهِ بصمتها أن يتفهَّم..
أغلقَ النور، ثم تمدَّد بجوارها على السرير، يديرُ ظهرهِ نحوها دون أن ينبسَّ بكلمة..
زحفت نحوهِ ببطء، تمسِّد كتفهِ بلطفٍ متردِّد..
– أرسلان، إنتَ فهمتني غلط...
ردَّ ببرودٍ متعب:
- اطفي النور، عايز أنام.
لم تستسلم، بل اقتربت أكثر، وضعت ذقنها على كتفهِ وهمست بنبرةٍ باكية:
– مش الِّلي فهمته...أنا محتاجة وقت، إزاي أكون مسؤولة عن طفلين مرَّة وحدة؟! إنتَ ناسي إنِّي مأجِّلة آخر سنة في الكلية بقالي سنتين؟ كنت زماني متخرَّجة..وكمان شغلي اللي بحبُّه حرمتني منُّه.
سكتت لحظة ثم تنهَّدت بحرقة:
- وماما...مش هقدر أبصّ في وشَّها وأقولَّها إنِّي حامل، هتقول إيه؟ "ابنك لسه صغير، إزاي معملتيش حسابك؟"
استدارَ نحوها فجأة، اعتدل وجلسَ بمواجهتها، ونظراتهِ قد هدأت قليلًا:
- المفروض كنتي تستنِّيني، لمَّا أرجع ونقعد نتكلِّم في مخاوفك..مش أوَّل
ماأدخل ألاقي مناحة!
ثمَّ أضاف بصوتٍ أخف:
- وبعدين، إيه يعني مش هتعرفي تقولي لأمِّي؟ إحنا متجوِّزين ياغرام، والحمل بييجي غصب عنِّنا..وايه "معملتيش حسابك" دي؟ دا نصيب، واللهِ لو كنتي عاملة كلِّ الاحتياطات، لو ربِّنا أراد، يبقى خلاص... خلصت.
لم تجد ردًّا سوى أن تدفنَ وجهها بصدره، وانفجرَ بكاءها بين ضلوعه، تبحثُ عن حضنهِ ليواسي وجعها قبل أن تحسمَ قرارها.
حاوط جسدها وجذبها إليهِ حتى جلست فوق ساقيه، رفع ذقنها وأبحرَ فوق ملامحها:
-حبيبتي أنتي صدمتيني، إزاي قدرتي تفكَّري بالطريقة دي، وبعدين ماما معاكي، وكمان النانا، إيه الِّلي هيتعبك، وبالنسبة للشغل أنا مكنتش موافق عليه وخلصنا، أوَّلًا دي كانت مدرسة خاصَّة وكمان من غير شهادة خبرة بما إنِّك لسة متخرجتيش، وياستي لو عايزة تخلَّصي معنديش مانع تقدِّمي السنادي وتخلصي، وأنا معاكي، بس إنِّنا نعترض على قدر ربِّنا دا مبحبوش..
هدأ بكاؤها، هزَّت رأسها بالموافقة وقالت :
-متزعلش منِّي أرجوك، أنا بس أضَّيقت علشان مكنتش عاملة حسابي، وكمان بلال لسة صغير، دفنت رأسها في كتفهِ وأكملت:
-مكسوفة أوي، دلوقتي يقولوا إيه..
برقت عيناهُ من كلماتها التي أشعلت داخلهِ فدفعها بقوَّةٍ حتى هوت على الفراش، وحاوطها بجسده:
-إنتي هبلة يابت!! إحنا متجوزين، إيه الِّلي بتقوليه دا!..رفعت ذراعيها وعانقت رقبتهِ تجذبهُ إليها:
-خلاص آسفة، ماتتعصبشِ عليَّا.
ظلَّ لعدَّةِ لحظاتٍ محاولًا الحفاظَ على سيطرته، ثمَّ طافَ بعينيهِ على جسدها، اعتدلَ بعدما أزاح ذراعيها ثمَّ انحنى وأغلقَ الإضاءة:
-اطفي النور عايز أنام.
-نعم تنام، أومال إيه التجهيزات دي كلَّها، علشان تنام!!.
- خلاص بعد عملتك دي ضيَّعتي كلِّ حاجة، مبقاش ليَّا نفس.
لكمتهُ بقوَّةٍ في كتفهِ فاستدارَ إليها سريعًا وهو يضحك، ثمَّ غمزَ إليها:
-إيه مش خايفة يكونوا توأم، دلوقتي مش مكسوفة..
رفرفت أهدابها بخجل، وابتعدت بنظراتها عنه، تنظرُ بأيِّ شيءٍ سوى عينيه، حينما شعرت باشتعالِ خدَّيها حمرةً من خجلِ حديثه، ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة..وشقَّت شفتيها لتتحدَّث، ولكنَّها أضعفُ من الردِّ عليه..
لكنَّه قرأ ما يدور في أعماقها، من خلالِ نظراتها، فمدَّ يدهِ برفقٍ وأدار وجهها إليه، ثمَّ قال بابتسامةٍ حاول أن يُخفي بها ارتباكه:
- أنا بهزَّر معاكي على فكرة.
حاولت الرد، لكن صوتها خذلها، صمتًا دام للحظات، ثمَّ همست بحروفٍ متقطعةٍ من بين شفتيها المرتجفتين:
- آسفة...نكِّدت عليك، دا...دا اللي كنت عايزة أوصَّله لك.
مال برأسهِ إليها، يستنشقُ رائحتها بشغفِ العاشقِ الولهان، ثمَّ همس وهو يلامسُ عالمها القريب بشفتيه:
- مبروك ياحبيبتي. منكرش إنِّي زعلت... بس أنا اتعصَّبت عليكي.
رفع رأسهِ واحتضنَ عينيها بنظرةٍ حانية، صادقة، وهمسَ بنبرةٍ مخنوقةٍ بالعشق حدِّ الثمالة:
- أنا سعيد أوي...علشان هيبقى عندي ولاد كتير من حبيبة قلبي.
رفعت كفَّيها ببطء، تلمسُ وجنتيهِ برقَّة، كأنَّها تتحسَّسُ واقعًا لا تزال تخشى أن يكونَ حُلمًا، وقالت:
- أنا بحبَّك أوي ياأرسلان.
هنا، صمتت الألسنة عن أيِّ قول، وتوارى الكلامُ خلف نبضاتِ قلوبٍ تعانقت، لتكتبَ تلك الليلة الشاعرية قصيدةٌ لا تُقرأُ بالحروف، بل تُحسُّ بالعُمق...
بالمشفى عند إيلين..
خرج الطبيبُ ينزع قناعهِ الطبِّي ينظرُ إلى آدم بابتسامةٍ وقال:
-مبروك يادكتور، ولد زي القمر، ربِّنا يبارك لك فيه.
لمعت عيناهُ بالسعادةِ واقتربَ يحتضنُ زميله:
-شكرا ياأحمد، إيلين عاملة إيه كويسة؟.
أومأ مبتسمًا ثمَّ أشار إلى الغرفةِ التي تنتقل إليها:
-شوية هينقولها هنا..يتربَّى في عزَّك..
هكذا نطقَ بها الطبيبُ وتحرَّك دون إضافةِ شيء..
بعد فترةٍ كان يجلسُ بجوارها يحتضنُ كفَّيها، فتحت عينيها بتأوُّه..مسَّد على خصلاتها بحنان:
-مبروك حبيبتي، حمدالله على سلامتك.
-فين الولد ياآدم..رفع كفَّيها وقبَّله:
-اصبري الولد بيجهِّزوه وهيجي بعد شوية، الدكتور بيشوفه، روتين يعني.
قطبت جبينها وتساءلت:
-ليه هوَّ فيه حاجة؟..ربتَ على كفَّيها بدخولِ مريم تحمله:
-أنا جيت ياماما ياوحشة، كدا تقعَّدينا في المستشفى ليلة العيد..
ساعدها آدم في الجلوس واستقبل ابنهِ بسعادةٍ نطقتها عيناهُ قبل شفتيه، رفعهُ وقبَّل جبينهِ يدعوا إليه، دلف زين وهو يتمتم:
"بسم الله ماشاء الله..استدارَ آدم يضعهُ بين ذراعي والده، ضمَّه بحنانٍ وقبَّله، ثمَّ أذَّن في أذنهِ اليمنى ثلاثُ مرَّات، ثمَّ اليسرى وهمسَ باسمهِ
قائلًا"اللهمَّ اجعلهُ من الصالحين المصلحين، وبارك لنا فيه، وأنبتهُ نباتًا حسنًا، واجعلهُ قرَّةُ عينٍ لوالديه، واحفظهُ بحفظك، وبلِّغه أشدَّه، وارزقهُ برَّ والديهِ وطاعتك."ثمَّ اقتربَ من إيلين وقبَّل جبينها:
-مبروك ياحبيبة خالو.
-الله يبارك فيك ياخالو..وضعهُ بين ذراعيها وقال:
"يتربَّى في عزِّك وعزِّ أبوه يابنتي ويجعله ذريةً صالحة، ويصلح حالكم بيه"
أمَّنت على دعائهِ وهي تحاولُ أن تتعلَّمَ حمله، اقتربت منها مريم وساعدتها على حملهِ مبتسمة:
-كويس إنِّك والدة طبيعي، علشان تعرفي تتحكِّمي فيه وتشليه كويس.
كانت تدقِّقُ النظرَ إليه مع دموعها التي لم تستطع كبحها، جلس آدم بجوارها:
-ليه الدموع دي..طيب قولي إنَّها دموع الفرحة...رفعت عينيها الدامعة وهمست بشفتينِ مرتجفتين:
-كنت خايفة ماألمسوش ياآدم زي الِّلي راح، إحساس حلو أوي إن يكون ليك ابن.
ضمَّها لصدرهِ بحنانٍ مع قبلةٍ حنونةٍ تحملُ فيضًا من المشاعر:
-ربِّنا يباركلنا فيه ياحبيبتي...قاطعهم دخولُ محمود والد إيلين منكَّسَ الرأس، توقَّف على الباب يتطلَّعُ إليها، شعرت مريم بوقوفه، فاقتربت منه:
-أهلًا يابابا، اتفضل واقف بعيد ليه؟.
خطا بخطواتٍ متردِّدة وعيناهُ على إيلين التي تجمَّدت بجلوسها، حمل آدم طفلهِ ونظر لوالدهِ الذي أومأ له بالثبات، اتَّجه آدم ليضعَ طفلهِ في مهدهِ المخصَّص من قبل المشفى مع اقترابِ محمود من إيلين..لحظاتُ صمتٍ ثقيلةٍ بينهما إلى أن قطعهُ زين:
-حبيبتي أنا الِّلي كلِّمت بابا وعرَّفته إنِّك بتولدي وهوَّ جه على طول يطمِّن عليكي.
ظلَّت عيناها شاردةً بنقطةٍ وهمية، لا تنظرُ إليه ولا تنطقُ بحرف، أشار زين إلى آدم ومريم:
-تعالوا نشرب قهوة وسيبوهم مع بعض شوية، قالها زين وهو يربتُ على كتفِ محمود الذي أومأ بصمت..
بعد خروجهم جذبَ المقعد وجلس بمقابلتها ينظرُ لطفلها:
-حمد الله على سلامتك يابنتي.
شهقةٌ مع دموعٍ لم تقوَ على إيقافها، هل نطقَ بنتي أم خُيَّلَ لها، ظلَّت تبكي بصمتٍ مع ارتجافِ جسدها، نهضَ من مكانهِ واقتربَ منها وجلسَ بجوارها على الفراش:
-إيلين حبيبتي اهدي، إنتي لسة والدة والزعل وحش علشانك أنا آسف، واللهِ آسف يابنتي..ربِّنا يجازي الِّلي كان السبب.
هنا لم تقوَ على الصمت لتهتفَ بنبرةٍ متحشرجة:
-بنتك..يااااه ياعمِّ محمود، دا أنا نسيت إنِّ ليَّا أب، من وقت مافهمت الدنيا وأنا بسأل نفسي ليه..ليه مش زيِّ البنات الِّلي أبهاتها بتخاف عليها، ليه أكون يتيمة وأبويا عايش، كنت أشوفك بتحضن مريم وأقول ياترى الحضنِ دا طعمه إيه، أنا عملت إيه لدا كلُّه، كنت مفكَّرة علشان موت ماما، مكنتش أعرف إنَّك السبب في موتها، شيَّلتني ذنب أربعة وعشرين سنة، وأنا كلِّ يوم أعاتب نفسي ليه بيقولوا عليَّا السبب في موت أمِّك، مع إنَّها ماتت وأنا كبيرة، أربعة وعشرين سنة عايشة في بيت أبويا يتيمة، ودا كوم ومراته الِّلي دوَّقتني المرار كلُّه كوم، بس سؤال لعمِّ محمود، إيه اللي أنا عملته يخلِّي مراته تعمل فيَّا كدا..
-حبيبتي اسمعيني واللهِ اتلعب بيَّا، حطِّي نفسك مكاني، الستِّ اللي حبِّيتها سنين أشوفها في سرير مع راجل تاني، وبعد شهر تقولِّي إنَّها حامل..
-بااااس مش عايزة أسمع حاجة، دا كلُّه مايشفعشِ لحضرتك، مايشفعشِ بعد رحلة العذاب، يعني لو ملقتش جواب ماما لعمُّو جمال مكنتش هعرف حاجة، وكانت أمِّي هتفضل في نظر الكلِّ الخاينة، وأنا هفضل في نظر الكل بنت الحرام…
أنا مش قادرة أسامحك، أسامحك على إيه، على دموعي كلِّ ليلة، ولَّا على يوم فرحي حتى مهنشِ عليك تكون وكيلي، ولَّا عمايل مراتك فيَّا، ولَّا على ظلمها الحقيرة اللي مازالت بتدِّعي إنِّي بنتِ حرام وأمِّي خانتك مع عشيقها؛ اللي هيَّ كانت السبب أصلًا في دا كلُّه..حضرتك معتبرتنيش بنتك أربعة وعشرين سنة، وأنا كمان مش هعتبرك أبويا لحد مايعدي أربعة وعشرين سنة كمان، وقتها هشوف هسامحك ولّّا لأ.
-إيلين..رفعت نظرها تتطلَّعُ إليه بغضب:
-أمِّي ماتت مقهورة بالظلم مش بالمرض، الراجل الغريب صدَّقها وإنتَ كذَّبتها، إيه مشفتش الجواب وهيَّ بتحكي معاناتها معاك لعمُّو جمال، راحت تستقوى براجل غريب، الِّلي هوَّ كان ميت أصلًا، يعني أخ مسافر، وجوز اتجوِّز بيقهرها، وسند ميت وبتشكي له في جوابات..لا وفي الآخر قالوا عليها إنَّها كانت على علاقة بيه، شوفت فجر أكتر من كدا، مراتك الحقيرة، قالتها أمِّك كانت بتحبِّ جمال، حقيبيييرة..قالتها صارخةً وأشارت إلى الباب:
-اطلع برَّة..إنتَ قولتها زمان أنا مش بنتك، وأنا دلوقتي بقولها إنتَ مش أبويا..برَّة..ولجَ آدم على صرخاتها، وصلَ إليها يضمُّها بعدما ازدادَ بكاؤها تلكمهُ بضعف:
-قولُّه يطلع برَّة ياآدم، الراجل دا مفيش حاجة تربطني بيه، عايز أسامحه ليه، هوَّ كان سامح أمِّي ولَّا رحمها، مش عايزة أشوفه..
-اهدي حبيبتي، خلاص اهدي حاضر هنعمل الِّلي إنتي عايزاه، قالها وهو يتطلَّعُ إليه بحزنٍ يهزُّ رأسه، سحبهُ أحمد أخو آدم:
-تعالَ ياعمُّو محمود، سبها لمَّا تهدى وبعد كدا يبقى اتكلِّموا..
بجناحِ إسحاق..
دلف للداخلِ بعد مغادرةِ صفية، جلس على الأريكةِ وسحبَ سجائرهِ يشعلها مع ابتسامةٍ كلَّما تذكَّر حديثَ أرسلان، خرجت دينا من الحمَّام، تجفِّفُ خصلاتها بالمنشفة، وقعت عيناها على جلوسهِ وابتسامتهِ مع نظراتهِ الشاردة، تحرَّكت إلى جلوسه، ولكزتهُ بهدوء:
-إسحاق..رفع عينيهِ إليها ومازالت الابتسامةُ تظهرُ على محيَّاه:
-نعم..أجابها بنبرةٍ هادئة.
ضيَّقت عينيها تتطلَّعُ إليهِ باستغراب؛ ثمَّ نزعت منشفتها وألقتها بعيدًا متَّجهةً إليه:
-إيه الِّلي حصل، أنا سمعتك بتتكلِّم مع أرسلان وصفية، إيه الِّلي حصل مخلِّيك فرحان أوي كدا؟.
أطلق ضحكةً رنَّانة حتى أدمعت عيناه، وتراجعَ بجسدهِ مستندًا على الأريكةِ وهو فاردًا ذراعيه، ثمَّ مشَّطَ نظراتهِ على جسدها بوقاحةٍ مع ضحكاته، كلَّما تذكَّر حديثُ ذاك المعتوهِ كما ذكره..
ظلَّت تنظرُ إليه بريبة، فاقتربت منه وانحنت بجسدها تضعُ أناملها على جبينه:
-لا مش سخن، اللهمَّ اجعلهُ خير..
رفع عينيهِ إلى أناملها التي تضعها على جبينه، ثمَّ اتَّجه بنظراتهِ إليها، ولكن وقعت عيناهُ على فتحةِ روبها الذي أظهر مفاتن جسدها باستفاضةٍ أمامه، كانت ترتدي روبَ حريري باللون الكريمي، اقتربَ بجسدهِ ينظرُ إلى فتحة روبها وهي منشغلةً بتغيُّرِ حالته، رفع أناملهِ على حزامِ الروب وقال:
-ودا لازمته إيه دلوقتي، الجوِّ حر ياروحي والليلة عيد، وأنا مفضوح بالكذب، استريني الله يسترك.
أمسكت كفِّهِ الذي تشبَّثَ بحزامها وتطلَّعت إليه بذهول:
-إسحاق إنتَ شارب ولَّا إيه، مالك الليلة!!.
ارتفعت ضحكاتهِ مرَّةً أخرى ثمَّ جذبها من عنقها، لتسقطَ فوقهِ شاهقة، حاوطَ جسدها بين ذراعيه، ونظر إليها نظرةَ العاشق:
-دودي حبيبتي إحنا متجوزين بقالنا قدِّ إيه...حاولت التملُّص من بين يديه ولكنَّه كان المسيطر الأقوى..
-إسحاق ابعد مالك الليلة، الِّلي يشوفك يقول سكران.
وضع رأسهِ بخصلاتها النديَّة يستنشقها:
-سكران بحبك ياروحي، آه يامظلوم ومنقوق على حياتك ياإسحاق، يارب تتهدِّ الليلة يابنِ فاروق وأفرح فيك.
ابتعدت بجسدها عنه، ورفعت رأسها تطالعهُ بتساؤل:
-مالك إيه الِّلي حصل؟.
تجوَّل بنظراتهِ على جسدها بأكمله، ثمَّ بسط أناملهِ يمرِّرها من عنقها نزولًا نحو فتحةِ الروب، بينما همسَ بصوتٍ خافت:
- مش ردِّيتي عليَّ ليه؟ بقالنا قدِّ إيه متجوزين؟
- تلات سنين..ليه السؤال ده؟ أرسلان قالَّك حاجة مخلِّيك بالحالة دي؟
مسَّد على خصلاتِ شعرها وهو يبتسم، فأمسكت يدهِ برقَّة:
- مش عايز تقولِّي مالك؟ للدرجة دي الِّلي حصل مايتقالش؟
ضحك ضحكةً خافتة، ثمَّ قال:
-نفسي احتفل بليلة العيد يادينا، زي مالواد دا فضحني
ضيقت عيناها
-مش فاهمة حبيبي تقصد ايه، ايه العلاقة بكام سنة متجوزين بارسلان
-لا، أصلي افتكرت إنِّي ضيَّعت شبابي في حاجات ماتستاهلش...لو كنت اتجوِّزت بدري، كان ابني دلوقتي بقى كبير اوي
اقتربت منه، حتى جلست على ساقيه، واحتضنت وجهه، وسبحت بنظراتها في ملامحهِ هامسة:
- مش يمكن علشان تكون نصيبي الحلو من الدنيا؟
تساءلَ إسحاق بنبرةٍ غلبَ عليها العشق:
- إنتِ عارفة أنا بحبِّك قدِّ إيه؟ وحاربت نفسي علشان ماأذيكيش.
وضعت رأسها على صدره، تحاوطُ جسدهِ وكأنَّها تستمدُّ منه الحياة:
- أنا عارفة إنَّك قسيت كتير، بس القسوة دي جابتك ليَّ...ودا نصيبي الحلو برضه، علشان أقابلك وأحبَّك أوي كده.
ضمَّها إليه بقوَّة، وخرجت من بين شفتيهِ تنهيدةٌ عاشقة، قالها من أعماقه:
- أنا محبتش في حياتي غير مرِّتين... أوَّل مرَّة حكتلك عنها، والمرَّة التانية هيَّ إنتي يادينا..عارف إنِّي أذيتك، بس واللهِ غصب عنِّي، آسف على كلِّ حاجة عانيتيها بسببي.
نظرت إليه بعينينِ مغرورقتين، ثمَّ وبدون مقدمات، بدأت تقبِّله، وكان هو الأكثرُ شوقًا، الأكثرُ ترحيبًا بتلكَ القُبلة.. تحوَّلت القبلةُ إلى عدَّةِ قبلاتٍ مجنونةٍ من عاشقٍ لم يعرف في حياتهِ غير امرأةٍ واحدة.
دقائق...وربَّما ساعات، وهو في جنَّةِ عشقها..كمحرومٍ أُتيحت له الفرصة أخيرًا ليقتنصها...
بمنزلِ يزن..
كان جالسًا أمام جهازهِ ليتفحَّص بعض التصاميمِ التي أُرسلت إليه بقاعةِ الفندقِ لحفلِ زفافِ أخته، ظلَّ لدقائقَ يقلِّبُ بها وينظر إليها بتفحُّص، ليقولَ رأيهِ النهائي لكريم..
استمعَ إلى ضحكاتِ إيمان مع معاذ بالخارج، نهض من مكانهِ واتَّجهَ إليهما..
توقَّف لدى الباب وهو يراقبهما بابتسامةٍ حنون، كان معاذ يحاولُ أن يختطفَ منها حلوياتهِ المفضَّلة التي جلبها إليهِ يزن، وهي تلاطفهُ بحنانٍ كي تخرجهُ من حزنهِ بعد رفضِ يزن خروجه..قاطعهم طرقاتٌ على بابِ المنزل، اتَّجهت إيمان لفتحِ الباب ولكنَّه أوقفها:
-استني حبيبتي أنا هشوف مين..فتح الباب وجدَ طارق واقفًا لدى الباب..
-طارق!..أفسحَ له الطريق لدخوله،
ولج للداخلِ بعد إلقائهِ تحيَّةَ المساء، هرولَ إليه معاذ:
-طاروووق هوَّ الِّلي هيقدر عليكي
ياإيمان..أشار إلى إيمان:
-البتِّ إيمان أخدت التشكوليت الِّلي يزن جبهالي، يالَّه خُدها أنا عارف يزن بحبَّها ومش هيرضى ياخدها منها.
أشار إليها يزن بعينيه، فاتَّجهت تضعها على المنضدة:
-خد حلوياتك ياطفس أهي، ثمَّ اتَّجهت إلى طارق:
-أهلًا طارق، تشرب إيه، هعمل قهوة ليزن أعملَّك معاه؟.
-لو مش هتعبك ياإيمي..تحرَّكت متَّجهةً نحو المطبخ متمتمة:
-لا، تعب إيه، عيوني حاضر..جلس يزن بمقابلتهِ بعدما شعرَ بعبوسِ وجهه:
-معاذ قول لإيمان تجيب كحك لطارق.
-حاضر..قالها معاذ ودلفَ للداخل..
-مالك..تساءل بها يزن..
تراجعَ برأسهِ وأغمض عينيهِ بحزنٍ مردفًا:
-روحت زورت رانيا النهاردة، حالتها وحشة أوي، رغم الِّلي عملته بس صعبت عليَّا..
تهكَّم يزن قائلًا:
-صعبت عليك، ومش صعبت عليك نفسك والِّلي عملته فيك..
-هتفهمني ولَّا تتريق..
أشعلَ يزن سيجارتهِ ينفثها ببطءٍ وحاوطهُ بنظراتٍ صامتةٍ ولكنها توحي بالغضبِ الداخلي:
-أنا عارف إنِّ رانيا شخصية مش كويسة، بس صعب إنَّك تشوف انسان كان مفكّّر الكون كلُّه تحت رجله، وفجأة يحصلُّه كدا ..أنا مش صعبان عليَّا كشخصية، أنا صعبان عليَّا حالة الإنسان نفسه، تعرف لولا مرض رؤى ومعرفتي بالِّلي راجح عمله فينا، مكنتش هتغيَّر، أنا عايز أنضَّف نفسي يايزن، بس للأسف لسة الناس بتشاور عليَّا وبتقول الإرهابي أهو، واللهِ أنا مكنتش أعرف، دخلت قضية ظلم، اتربِّيت مع أب كلِّ شغله حرام، وأم مكنتشِ شايفاني غير إنِّي عبدها اللي بيحقَّق كلِّ حاجة بتطلبها، رغم كان فيه هيثم بس عمرها ماحاولت تدخَّله في شغلِ مشبوه.
ربت يزن على ساقيهِ وأردفَ بنبرةٍ لا تحتملُ جدال:
-انسى كلِّ حاجة وفكَّر في مستقبلك، أنا عن نفسي لولا كام حركة الِّلي عملتهم معانا عمري ماكنت هقرَّب منَّك، بس اعترافك بالذنب كفيل يمسح ماضيك ويخلِّيك انسان سوي وناجح..
أمَّا بالنسبة لِّلي بيشاور عليك على إنَّك إرهابي أو ابنِ إرهابي مع الوقت هيتنسي صدَّقني.
-رحيل كلِّمتني النهاردة..رفع يزن عينيهِ إليه وانتظرَ بقيةَ الحديثِ بلهفة، فتابعَ طارق:
-بتقول قدَّامها لسة شوية لمَّا تنزل، عايزة تصفِّي ذهنها وكلِّ حاجة.
حاولَ عدم الاهتمام، فغيَّر مجرى الحديث وقال:
-انتَ قابلت مها تاني؟!
سحب طارق سيجارتهِ ونفثها بغضبٍ بعدما تذكَّرها، ثمَّ اتَّجه بنظرهِ نحو يزن:
-البنت دي أنا مسحتها من حياتي، ولولا قولت مش أأذيها كنت زماني أذتها، أنا عملت اعتبار إنَّها كانت بتساعدك..المهم انا جاي علشان أطلب منَّك طلب، معرفشِ هينفع ولَّا لأ..بس رانيا عايزة تقابل ميرال، وأتمنَّى تكلِّم إلياس ويكون متفاهم، أنا وهوَّ مش متفقين، لسة بيعاملني كمجرم..
-ورانيا عايزة إيه تاني، مش هيَّ شهدت في المحكمة إنَّها مش بنتها، هتروح تزورها على أساس إيه؟..
-حقَّها يايزن، بتقول عايزة تشوفها لآخر مرَّة علشان تطلب منها السماح، وأهي عملت كلِّ الِّلي طلبناه، شهدت ضد راجح، وأنكرت معرفتها بميرال، حتى رفضت تحليل DNA،
مطَّ يزن شفتيهِ بسخرية، ثمَّ اقتربَ مستندًا على الطاولةِ بوصولِ ايمان بالقهوة:
-آسفة اتأخرت عليكم.
تناولَ يزن ماجلبتهُ، ثمَّ أشار إليها بالدخول:
-شكرا حبيبتي تسلم إيدك..وضع القهوةَ أمام طارق وقرَّب إليه المعجنات، ثمَّ رفع قهوتهِ وبدأ يرتشفُ بعضها، ليضع فنجانهِ مرةً أخرى ويتطلَّعُ إليه يتابعُ حديثه:
-رانيا ماقلتش كدا غير لمَّا إسحاق الجارحي خنقها بالأدلة الِّلي تحت إيده إنَّها مموِّلة للإرهابين، وأوعى تصدَّق الشو الِّلي عملته وهيَّ بتقول لا مش بنتي دي خطفناها علشان نلبِّس فريدة تهمة..دي ست دماغها سم، أكيد بترتِّب لحاجة، وأنا مستحيل أعرَّض أختي لحاجة تتعبها، إحنا ماصدَّقنا إنَّها وقفت على رجليها تاني، ونصيحة منِّي بلاش تطلب من إلياس علشان وقتها لو قتلك مش هلومه.
-يعني مفيش طريقة تزورها؟.
ضرب يزن على يدهِ مستغفرًا ربِّه:
-دا أقولُّه إيه ياربِّي، بقولَّك يالا مش ناقص صداع ..اشرب قهوتك وإنتَ ساكت.
بفيلا السيوفي..
اعتدلت فورَ دخوله، تسلَّلت إليه بخطواتٍ أنثويةٍ واثقة، ولفَّت ذراعيها حول عنقه، تقتربُ منه كمن ينتظرُ موعدًا غراميًّا، وهمست بصوتٍ مخمليًّ مثير:
– المفروض تتعاقب على التأخير دا
يازوجي…قولِّي، تتعاقب إزاي؟ كلِّ مرَّة، حضرة الظابط بيعرف يعاقبني…بس المرَّة دي، الدور عليَّا.
اقتربت أكثر، حتى لامست خاصَّتهِ بثغرها المثير، وتابعت بنفسِ الهمسِ المُغوي:
– اختار عقابك يامسكَّر…
علشان "المسكَّرة" الِّلي هيَّ أنا، مش ناوية تتنازل عن حقَّها فيك.
كانت عينيهِ تتجوَّلُ على شفتيها المطليَّة، كأنَّهما بوصلتهِ نحو الجنون. أغمضَ جفنيه، يستنشقُ رائحتها بشغفٍ جامح، و قلبهِ يعزفُ سيمفونيةَ عشقٍ لا تهدأ بين ضلوعهما..ليهمسَ بخفوتِ محب:
– أنا قدَّامك، والعقاب اللي يريَّحك، أنا راضي بيه…بس خلِّي بالك، بعد
ماينتهي العقاب…ما تلوميش غير قلبك.
فهمت قصده، فزادَ دلالها المخصَّص له وحده:
– لا، المرَّة دي…إنتَ اللي هتختار عقابك.
-أممم…يعني فيه Choose؟ طيب
ياترى…فيه chances ولَّا خلصنا؟
هزَّت رأسها نفيًا، وذراعاها لا تزالُ تحتضنُ عنقه، ابتسمَ بمكر، ثمَّ رفعها من خصرها بخفَّةِ الرجلِ المعتادِ على حملِ أنثاه..وسار بها نحو الأريكة، فيما صدحت موسيقى هادئة من هاتفه.. جلس وأجلسها في حضنه، وأسندَ ذقنهِ على كتفها العاري برقَّةٍ مريبة:
– منتظر عقابي يامسكَّرة..قالها وهو يتجوَّلُ بأناملهِ بحريَّةٍ فوق جسدها..
ارتجفَ قلبها من لمسةِ أناملهِ الخبيرة، وأطبقت عينيها بقوَّة، ليقربها إليه ومازال يفعل ما يجعل نبضها يخترق ضلوعها…نعم لا تعشقُ سواه..
همس إليها بخفوت:
-كنت في ميعاد غرامي، علشان كدا اتأخرت..فتحت عيناها و نارُ غيرتها نارًا تكوي كلَّ من يقتربُ منه، استدارت إليه ونظرت في مقلتيهِ مباشرة:
"مين البنت الِّلي كنت بتكلِّمها بعد الفطار بالساعة دي يابتاع موعد الغرام"
ضيَّق عيناهُ وحاول فهمَ معنى ماألقتهُ..
سحبت هاتفهِ بعنفٍ ثمَّ أشارت إليه:
-عايزة أعرف دلوقتي مين البنت الِّلي سبتني قاعدة ساعة كاملة مع يزن وحضرتك روحت تكلِّمها..قولِّي بقى علشان أنا قلبي مولَّع نار من وقتها، لا وحضرتك جاي تتعصَّب علشان قاعدة مع إسلام الَّلي هوَّ أخويا؛ وبيقولِّي على حبيبته وأنا شايفة حبيبي ناسي كلِّ حاجة وبيضحك في التليفون ورغم كدا مقدرتش الليلة دي تعدِّي حتى، بس برَّد قلبي وقولِّي مين البنت اللي كنت بتكلِّمها...لم يجد ردًّا سوى احتضانِ شفتيها التي طعنتهُ بألم، ورغم ما شعرَ به إلَّا أنَّ داخلهِ يدقُّ بعنفٍ بسبب غيرتها الجنونية، مرَّت فترةً ليست بالقليلةِ لتقبعَ أخيرًا بأحضانهِ يمسِّدُ على خصلاتها بحنانِ عاشق، ثمَّ انحنى وطبعَ قبلةً فوق وجنتيها:
-يعني خلِّيتي بوعدك، دي الليلة الِّلي وعدتيني بيها، لم ترد عليهِ ولم ترفع حتى رأسها من حضنه، ممَّا جعلهُ يعتدلُ ويحتضنُ وجهها يزيلُ دموعها:
-دي دكتورة من المنصورة، حد قالِّي عليها إنَّها شاطرة جدًا في العمليات اللي تخصّ رؤى، بعد ماعرفت إنِّ غزل الألفي برَّة القاهرة ومش هترجع قبل شهرين، فكنت بتواصل معاها، وبعت لها الحالة، قالت هتنزل القاهرة وتكشف وبعد كدا نشوف هنعمل إيه، هيَّ كمان بتنقل القاهرة، بس ياستِّي، إنتي شايفة إنِّ فيه واحدة ممكن تاخد مكانك..
ظلَّت تتابعهُ بصمتٍ حتى داعبَ أنفها مبتسمًا وهمسَ بصوتهِ الخافت المثير:
- عارف إنِّي حلو...ليكي حق تغيري.
طالعتهُ بعبوسٍ متصنَّع وهمست:
-مغرور...!!
أطلق ضحكةً خافتةً وقد أخرجها ممَّا كانت فيه، ثمَّ قال بثقة:
- ويلبَق لي الغرور، حضرةِ الصحفية الحلوة.
رفعت حاجبها بتهكُّمٍ وتراجعت بجسدها لتتكئَ على الفراشِ بدلًا من كتفه، لكنَّه سحبها فجأةً بقوَّةٍ لتسقطَ فوقهِ صارخة:
- يا لهوي ياإلياس...رقبتي! ينفع كدا؟
مرَّر أناملهِ برقَّة على عنقها، إلى أن توقَّف عند نقشِ اسمهِ بالحنَّاء..رفع رأسهِ إليها، وتقابلت العيونُ بعشقٍ صامت، لحظاتُ صمتٍ مشحونةً بدقَّاتِ قلوبٍ عنيفة...
انحنى عليها وطبعَ قبلةً دافئةً جعلت جسدها يقشعرُّ من سخونةِ أنفاسه..
ارتجفت شفتيها كما ارتجف جسدها، وحاولت النطق، لكن دقَّاتُ قلبها العنيفة أضعفت قواها بكلِّ شيء، كأنَّه أوَّلُ مرَّةٍ يقتربُ منها بتلك الطريقةِ والهيئة، ابتعدت برأسها بهدوء، وابتسمت مردفةً بصوتٍ خافت:
- عجبتك...؟
- أوي...
همسَ بها بجوارِ أذنها، وتابع همسهِ الذي سحبَ بها كلَّ حيويتها:
-أنا سمحت لك تبعدي عن حضني..
-تؤ ..شقَّت بها شفتيها، ثمَّ قالت:
-أولًا أنا مكنتش في حضنك، إحنا قاعدين بنتكلِّم عادي، وبعدين حتى ولو..إيه تسمحي لي دي، يعني حبس عملي وحبس نظري، انسى شوية إنَّك ظابط، أنا بقيت أتعامل معاك زيِّ العسكري..سمعًا وطاعة.
ارتفعت ضحكاتهِ بالغرفة، وهو يسحبها، و يحتضنها، ويهزُّ رأسهِ على كلماتها المجنونة:
-هتكوني قمر، إيه رأيك نجرَّب؟.
زوت مابين حاجبيها متسائلة:
-تجرَّب إيه؟!
-تكوني معايا عسكري، بس خايف على نفسي من الفتنة، تدخلي لي المكتب وهنا بقى إلياس هيبته تضيع.
لكمتهُ بصدرهِ بقوَّةٍ تنفخُ وجنتيها بضجر:
-مستفز، بقى القمر دا تقول عليه عسكري، ظلَّ يضحكُ على حركاتها وقال:
-إنتي تطولي..رفعت حاجبها بترفُّعٍ وأردفت بنبرةٍ اعتراضية:
-نعم ياأخويا، دا لو أنا اشتغلت معاك مش عسكري بس أيِّ حاجة هوقف لك السجن كلُّه على رجل واحدة..
دفعها مرَّةً أخرى على السرير:
-بتقولي إيه يابت، إنتي مجنونة..
جذبتهُ من عنقهِ وغمزت بطرفِ عينها:
-بقول الليلة عيد ياحبيبي، وكلِّ سنة وإنتَ طيب..دفن رأسهِ بعنقها محاولًا السيطرةَ على نفسه من جنونها، غرزت أناملها بخصلاتهِ وقالت:
-أنا سعيدة أوي ياإلياس، فرحانة وراضية وبحمد ربِّنا على كلِّ حاجة.
اعتدلَ متَّكئًا على مرفقيهِ يتطلَّعُ إليها بصمت، دنت منه ولفَّت ذراعيها حول جسده:
-من كام شهر كنت إيه وبقيت إيه، والفضل دا بعد ربِّنا ليك ياحبيب قلبي، أنا بحبَّك أوي، وأتمنَّى حياتنا تفضل كدا على طول، منكرشِ أنا خايفة من بكرة، وخايفة أوي بس كلِّ ماأفتكر إنِّي متجوزة راجل زيَّك،أقول إنتي طمَّاعة يابنتي، دا إنتي معاكي أجمل نعمة في الدنيا، زمان وأنا صغيرة لمَّا كنت بسمع كلامك ليَّا وتعصيبك عليَّا، كنت بقول مستحيل تكون بني آدم وتحسِّ بحد، فكانت ماما تقولِّي، مش كلِّ الِّلي تسمعيه وتشوفيه يكون حقيقة، إلياس اللي بتقولي عليه فرعون دا مفيش أطيب وأحنِّ منُّه، وبكرة المواقف تبيِّن..
هزَّت كتفيها لأعلى وأسفل واختنقَ صوتها وتابعت:
-بس انا اعترضت على كلامها، كنت قاسي أوي، لدرجة كنت ساعات بحسِّ إنَّك بتكرهني أوي، أرجع أقف قدَّام المرايا، وأعاتب نفسي مالقتيش غير دا وتحبِّيه، أخرَّج كل سيِّئاتك علشان أقنع قلبي بكرهك، انسابت دموعها ورفعت عينيها إليه:
-بس قلبي كان بيعاندي، لدرجة كرهت نفسي، وحسِّيت إنِّي بلا كرامة، بحبِّ راجل وهوَّ مابيكرهش قدِّي، كنت أسمع إهانتك لماما أتجنِّن ونفسي أموِّتك، بس مجرَّد ماكنت تتعب بشوية برد كنت بموت من الزعل عليك، وكان نفسي أدخل وأطَّمن عليك وأقولَّك ياريت أنا..بس مكنتش بقدر حتى أقول ألفِ سلامة عليك، واتعلِّمت منَّك القسوة والجفا، بمعاملات مع ناس كتيرة، حتى زمايلي في الشغل كانوا يقولوا واحدة قريبة إلياس السيوفي منتظرين منها إيه، لحدِّ ما أوقات كتيرة أحسِّ بكرهي فعلًا، يمكن أنا كنت بقنع نفسي بكدا، بس لا..وتلفِّ الأيام ويكون الشخص دا أكسجين حياتي.
رفع أناملهِ يزيلُ دموعها وقال:
-هقولِّك زي ماما ماقالت لك مش كلِّ الِّلي تشوفيه حقيقة..حاولَ تغيير حالتها، فسحبها من عنقها وطبعَ قبلةً بجوارِ ثغرها وهمس:
- جبتلك هدية.. مش عارف ذوقي هيعجبك ولَّا لأ.
فتحت عينيها بدهشة:
- هدية؟! إنتَ جايبلي هدية؟
اعتدلَ بجلوسه، ومدَّ يدهِ نحو صندوقٍ موضوعٍ على الكومودينو، لكنَّها قاطعتهُ بحماس:
- كنت هسألك، بس نسيت...لا، مكنتش هسأل، كنت هفتحه على طول.
فتح الصندوقَ أمامها، وإذا به...بدلةُ رقصٍ من تصميمِ أشهرِ الماركاتِ العالميَّة..ثمَّ فتح علبةً مزيَّنةً ورفع شيئًا بين أنامله:
-ودا جاي معاه..تناولتها منه، لتشهق:
-خلخال..ارتفعت ضحكاته، من يراها لم يقل أنَّها تلك التي كانت تبكي منذ لحظات..ألقت بجسدها على السرير وهي تتمسَّكُ بالخلخال
-غرِّدي ياطيور، إلياس السيوفي جايب بدلة رقص وخلخال.
تابعَ ضحكاتها بصمت، إلى أن قاطعهم رنينُ هاتفه، سحبهُ ونهض من مكانه:
-هردّ على الفون، وأنزل أخلِّي البنات تعمل قهوة، أعملِّك حاجة؟.
هزَّت رأسها بالنفي وهي مازالت تتمسَّكُ بالخلخال..خرج من الجناحِ بأكملهِ فهبَّت من مكانها واتَّجهت للداخلِ تتمتم:
-وعد الحرِّ دين عليه يازوجي الحبيب، جلست تخرجُ البدلةَ من الصندوق:
-إيه دي، دي بدلة رقص!! وبتتلبس إزاي الِّلي كلِّ قطعة لوحدها، هوَّ مفكَّر نفسه متجوز صافينار..
دقائقَ إلى أن انتهت من ارتدائها، نظرت لنفسها بالمرآة بذهول:
-يالهوي، ودا جابها إزاي، ظلَّت تنظرُ لنفسها بالمرآةِ وهي تضحكُ بشقاوة:
-ماشي ياإلياس إنتَ الِّلي جبته لنفسك..
استمعت إلى صوته:
-ميرو إنتي فين؟.
-لحظة حبيبي أنا جاية، أمسكت الخلخال لترتديه، ولكنَّها توقَّفت تبتسم..ارتدت فوقها روبها الخاص وخرجت تبحثُ عنه، وجدتهُ يجلسُ أمام التلفازِ يشاهدُ إحدى برامج الشو الإخبارية، رفع قهوتهِ يرتشفُ منها وقال:
-ماما بعت لك لبن، وشوية حاجات، طقوس ليلة العيد..قالها والتفتَ إليها بعدما شعرَ بخطواتها..توقَّفت نظراتهِ على هيئتها وهي تتحرَّكُ بدلالٍ أشعل داخله، وضع القهوةَ وتوقَّف ينظرُ إليها:
-إنتي مين..أفلتت ضحكةً ناعمة وأشارت على نفسها:
-إيه رأيك، حلوة عليَّا..اقتربَ منها وضحكةً خبيثةً تزيِّنُ ثغره:
-لا، رأيي إزاي، مش لمَّا أعاين البضاعة.
برقت عيناها وردَّت بغضبٍ نطقته عيناها قبل شفتيها:
-بضاعة!..أنا بضاعة ياحضرةِ الظابط!!.
قهقهَ عليها وأمسكَ كفَّيها يلتهمها بعينيهِ بوقاحة:
-هيَّ البتاعة دي مدارية إيه، مش شايف حاجة مستخبية، واللهِ آخرتي على إيدك يابنتِ فريدة.
لكمتهُ مبتعدةً عنه:
-تصدَّق إنَّك فصيل، وبعدين مش إنتَ الِّلي جيبها، تذكَّرت شيئًا فاقتربت كالمجنونة وعيناها تطلقُ سهامًا نارية:
-إنتَ جبتها إزاي، الِّلي يشوفك دلوقتي يقول أوَّل مرَّة تشوفها.
-لا شوفتها على الموديلز، أومال طلبتها إزاي..ثارت نيرانُ الغيرةِ كوحشٍ ضاري..
-لا والباشا عامل محترم ومالوش في الحاجات دي، وهوَّ راح يتفرَّج على الموديلز.
رغم حديثها المجنون بالنسبةِ إليه إلَّا أنَّ هيئتها بتلك البدلةِ جعلته يبتسمُ ويرسمُ بداخلهِ أشياء كثيرة، صمتهِ أغضبها فتراجعت للخلف، ليقتربَ منها ويجذبها بين ذراعيه:
-طيب هاخدك على قدِّ عقلك، هوَّ أنا كنت أعرف الحاجات دي، كان لازم أبحث وهمَّا يبعتوا لي صور، وأهو اخترت حاجة معرفشِ بقى حلوة ولَّا لأ، بس شكلها عجبني، وعلى فكرة شوفتها على مانيكان، علشان أنا قولت مش عايز أشخاص، شوفتي ظلمتي جوزك المؤدَّب إزاي ولازم تصالحيه.
-المؤدب أه..ردَّدتها وهي ترمقهُ بغضب..
احتضنَ وجهها بضحكاتهِ وقال:
-طب يارب أموت لو بضحك عليكي يامجنونة.
-بعد الشرِّ عليك..قالتها سريعًا وحاوطت خصره:
-خلاص، مصدَّقاك، بس لمَّا شوفتها كدا اضَّيقت، إنتَ بنفسك قولت هيَّ مدارية إ.يه
-طبيعي ياقلبي، دي بدلة رقص مش إسدال صلاة يعني..
طيب إيه، لسة تلات ساعات على الفجر، هنقعد نقرأ قرأن ونذكر ربِّنا ولَّا حضرة الرقاصة هتعمل نمرة لجوزها..
دفعتهُ بقوَّة حتى سقطَ على السرير، ورفعت قدمها فوق ساقيه:
-اتفضَّل، لبِّسني الخلخال هتتفرَّج ببلاش..
جحظت عيناهُ وهو يقلِّبُ الخلخالَ بين أناملهِ مرَّة، ويلقي نظرة إلى قدمها التي تهتزُّ فوق ساقيهِ مرَّةً أخرى، قبل أن يقولَ بنبرةٍ متهكِّمة:
– أنا ألبِّسك خلخال؟ ليه، صبي عالمة؟
انفجرت ضاحكةً بصوتٍ عالٍ، وأشارت إلى قدمها بسخرية:
– ليه؟ علشان بتلبِّس مراتك خلخال؟ مش كفاية إنُّه فضة..كنت فاكرة هتجيبه ألماظ، طيب دهب حتى...إنَّما فضة ياابنِ السيوفي! لا وفرحان أوي كمان...أتكونشِ فقير؟
رفع حاجبهِ بسخريةٍ واضحةٍ وأردف:
– ليه، حد قالِّك عليَّا مليونير؟ إنتي عارفة البدلة دي بكام؟ أنا موظف دولة يا أستاذة..وبعدين أروح أشتري خلخال بفلوس علشان تترقَّصي بيه؟ مش حرام؟ ماله الفضة؟ أيِّ حاجة تعمل صوت وشخلعة..بتحسسني أنها هتطلع للجمهور
-لا والله..تغضن جبينه بعبوس
-ايه فايدته عايز اعرف، مااي كلبش يتحط، لو اعرف انك مهتمية بالشخلعة كنت غرقت الاوضة دي كلبشات
لكزته بقوة ولمعت عيناها بطبقة كريستالية من ضحكاتها:
-إنت جاهل اصلا، متعرفش الاحساس الحلو كله في رنة الخلخال
-طيب يامتعلمة اهم حاجة الرنة يعني، طيب ماارنك علقة سخنة ماهي رنة برضو..هتكون احسن شخلعة
ضحكت بصوت مرتفع وهي تهزُّ كتفيها:
– معرفش مين وصلك احساس الرقص شخلعة، دا فن مش شخلعة ياإلياس؟! طيب واللهِ بعد دا كله لتلبسهولي.
ضغطَ على قدمها فجأةً وجذبها بعنفٍ حتى كادت تسقطَ على ظهرها، ثمَّ انحنى يلبسها الخلخال واحدًا تلوَ الآخر ثمَّ قال بنبرةٍ لاذعة:
– كده حلو ياأبلتي..عايزة اسمع الرنة
مالت بجسدها الذي ظهرَ أمام عينيه، وردَّت بنبرةٍ مغوية:
- هتسمع الرنة، وفعلًا الليلة هعمل زي مابتقول، نفَّذت وعدك ليَّا، وأنا لازم أردّ الواجب ياحضرةِ الظابط، عارفة إنَّك مش بتهتم بالرقص، بس أنا عايزة أرقص لك، وبراحتي ومش عايزة أيِّ اعتراض..بس ياترى هتقدر على الرنة
-اومال لازم اكون قدها، مين قالَّك كدا، أومال جايب دي ودافع دم قلبي ليه!!
ماهو علشان الرنة ..جزت على شفتيها وقالت:
-برافووو..قالتها وتراجعت تضحكُ من غضبهِ المحبَّب، ثمَّ اتَّجهت لتشغِّلَ موسيقى تلائم رقصها، وسط نظراتهِ التي كانت لا تدري أهيَ محتقنة من الغيظ...أم مشتعلة من الرغبة..كلَّ ما يريدهُ أن يخنقها بأحضانه، ويقومَ بتمزيقِ تلك الخيوط التي تلفُّ فوق جسدها الفتَّان الهالك له لا محالة..ظلت تتمايل وتدندن مع الاغنية، وفجأة صعدت فوق المنضدة، حتى هب من مكانه
-لا كدا كتير ياأم رنة
بالمشفى الخاصَّة بالسجن، اقتربَ منه الممرِّض يضعُ أمامهِ أدويته:
-أدويتك يامتَّهم، أهي عندك.
أشار إليه راجح:
-طيب قرَّبها، بعيدة عنِّي، ومفيش حاجة أكلها، الأكل دا وحش أوي، وأنا مش متعوِّد عليه، ودي كلَّها مضادات..
نظر إليه بتهكُّم وقال:
-نسينا نكلِّم لك الشيف بوراك يعمل لجنابك خروف، إنتَ في السجن يامتَّهم..نطقها الممرِّض وتحرَّكَ للخارج.
تابعهُ راجح بغضب، يسبُّهُ بداخله، أمال بجسدهِ محاولًا أن يجذبَ دوائه، ولكنَّه لم يستطع..شعر بالعجزِ والغضبِ بآنٍ واحد، فظلَّ يضربُ على ساقيهِ التي عجزت عن الحركة بعد ضربهِ بالعمودِ الفقري..صرخ بعدما ثارَ غضبهِ وهو يتوعَّد للجميع، إلى أن دلف الشرطي إليهِ يعنِّفه:
-مش عايز أسمع صوتك.
لوَّح راجح بكفَّيهِ وأشار إليه مهدِّدًا إياه:
-كلُّكم هتدفعوا التمن، كلُّكم حتى ابني والله لأموِّتكم كلُّكم..
صاح العسكري بالممرض:
-سكِّته بحقنة وزوِّد الجرعة، يمكن نخلص منُّه..أومأ له بصمت، فاقترب منه وهو يحملُ إبرة، حاول راجح أن يبتعدَ عنه ولكن عجزهِ لم يقوِّيه، إلى أن سيطرَ عليه الممرض وحقنهُ يهمسُ إليه:
-متوصِّي عليك من فوق أوي، شكلك عزيز على الكل، وعايزين يتخلَّصوا منَّك، قالها وهو يدفعُ جسدهِ ليهوى بجلوسهِ فوق جسده غير قادرًا على المواجهة.
بأحد الأماكنِ المتطرِّفة..
كان يجلس أمام عمِّهِ يتناولون مشروبات ممَّا حرَّمها الله، وبعض الفتيات تتراقصُ أمامهم بغنجٍ وقح، اتَّجه بنظره إلى سمير:
-عملت إيه في راجح؟..دا لو اتكلِّم هيغرَّقنا..
تجرَّع بعض من كأسهِ يغمزُ لتلك الفتاةِ التي تتدلَّى عليه بجسدها، ثم ردَّ قائلًا:
-متخافش، بياخد دوا هيوقف أعضائه بالكامل، وبعد فترة هيظهر عليه الإدمان، وفي الآخر هتِّتهم في ابنِ جمال.
-طيب ياعمِّو، إنتَ انتقمت من راجح ورانيا، ولاد جمال لسة عايشين، وكمان رجعوا مناصبهم رغم تدخلك..
تراجع بجسدهِ يضع ساقًا فوق الأخرى وبدأ ينفثُ سيجارته:
-اصبر على الطبخة علشان طعمها يكون حلو، جمال قتلته بإيدي، ومحمود موِّت مراته بحسرتها وهوَّ مفكَّر إنَّها خانته وراجح زي ماإنتَ شايف، يعني كلُّه ماشي زي ماأنا خطَّطت، بالنسبة للعيال دول هخلص منهم بس مش علشان ولاد جمال، علشان لسة محسبتش الواد على عمله برَّة...
قصدك مين فيهم؟..
- الواد ظابط المخابرات دا، إنَّما التاني كدا كدا يومه جي.
-طيب ورانيا ؟.
قهقه بصوتٍ مرتفعٍ وتوقَّف يجذبُ الفتاةَ من خصرها يتراقصُ معها ثمَّ أجابه:
-رانيا اتجنِّنت ياإتش، ودي بقت كارت محروق، بكرة ولَّا بعده نبعتلها حد يخلَّص عليها..
-هتقتلها ياعمُّو؟! طيب ليه، مش يمكن تنفعنا بعد كدا؟.
نفخ رماد سجائرهِ بعيدًا، ورمقَ الآخر:
-في إيه ياهشام، بعد مااعترفت على راجح، وقوِّت موقف ولاد جمال، بعد ماأنكرت علاقتها ببنتها علشان ابنِ السيوفي يكون مركز قوة بعد ماكنت مخطَّط انتقم منُّه في الحتة دي، بعد ماقالت كلِّ حاجة عن محمود ومراته، دي خاينة، الأوَّل خانت راجح وفي الآخر إحنا، دا أنا لو مسكتها هخنقها بإيدي.
-يعني فعلًا هتموِّتها؟.
ردَّ عليه سريعًا:
-في أقرب وقت، وبأبشع طريقة..
-تقصد إيه ياسمير باشا؟.
-هتعرف وقتها..ياله علشان زمان الاجتماع على وشك، الكلِّ محتاس في ليلة العيد، محدش يتوقَّع العملية الليلة..
بمكتب شريف انتهى من السماع إليهما عن طريقِ التنصُّت، الذي زرعهُ أرسلان بإحدى زياراتهِ لراجح..
رفع الهاتف وقام بتبليغِ قيادته، ثم اتَّجه إلى هاتفهِ الخاص وهاتفَ إلياس
عدَّةِ مراتٍ في محاولةٍ يائسةٍ للوصول إليه، في كلِّ مرَّة هذا الهاتف ربما أن يكون مغلقًا..
نهض من مكانه واتَّجه إلى قوَّتهِ لاستعدادها للاقتحام على الاجتماع الذي يخطِّطُ لتدميرِ بعض النقاطِ الخاصَّةِ بالشرطة، وحدوث فوضى عامَّة..
بالسجن وخاصَّةً بالمكان الذي تُحتجزُ به رانيا، تحاوطها بعض النساءِ اللاتي لا يُعرفنَ سوى بالنساءِ الشواذ، بدأت إحداهنَّ تلقيها ببعض الكلمات اللاذعة، والآخرة جذبتها من خصلاتها تدفعها بقوةٍ أمام أحدِ الخزاناتِ الممتلئة بملابسهم:
-ياله ياشاطرة، عايزين الغسيل دا فلَّة، وتقومي بمسحِ العنبر دا كلُّه، وبعد كدا عايزين نشوف الجسمِ الحلو دا وهوَّ بيتمايل علينا، أصلنا بنحبِّ الحاجات الحلوة..
قالتها بنبرةٍ مرتفعةٍ وضحكةٍ خليعة، فألقت مابيديها واقتربت منهما:
-لا..اسمعوني كويس، أنا رانيا الشافعي، اللي عملت بلاوي أكتر من عدد شعر راسها، دا أنا بعت بنتي وخطفت ولاد أختي،عارفين يعني إيه، وتاجرت في المخدرات والبشر، يعني ولا أنتوا ولا ميَّة زيكم..لم تكمل حديثها بعدما أخرجت إحداهنَّ إحدى الآلاتِ الحادَّة ومرَّرتهُ بعنفٍ على وجهها لينسابَ الدم بغزارةٍ مع صرخاتها الجنونية، وتراجعت السيداتُ إلى أسرَّتهم كما لو لم تفعلنَ شيئًا.
بلندن وخاصَّةً بإحدى المستشفيات المشهورة خرجت من غرفة العمليات، كانت تنتظرها والدتها بلهفةِ قلبِ امٍّ ينتفضُ خوفًا على فلذةِ كبدها..
هرولت لإحدى الممرضات التي تحملُ طفلتها، وتساءلت بلهفةٍ عن ابنتها:
-بنتي عاملة إيه؟.
أجابتها بلغتها:
-إنَّها على مايرام..والأطفال بحالة جيدة..
نظرت إلى الطفلة التي بين يدها:
-طيب فين الولد؟.
أشارت إلى إحدى الممرضات الأخريات:
-بعض فحوصات لا تقلقي.
ابتسمت اليها، وتلقَّفت الطفلة تحتضنها تتمتم:
-بسم الله ماشاء الله..ربِّنا يحفظكم يارب
-أرجوكي ..سنعتني بها إلى أن تفيق الأم..قبَّلت زهرة جبينها وناولتها الطفلة، ثم تحرَّكت إلى ابنتها..
بعد فترةٍ رفرفت رحيل أهدابها تهمسُ باسمِ والدتها...اقتربت منها:
-حبيبتي يابنتي، حمدالله على سلامتك.
-ماما فين ولادي؟.
-كويسين يابنتي، بنت وولد زي القمر، اقتربت من أذنها:
-أومال لو مابتكرهيش أبوهم كانوا هيطلعوا شبه مين؟.
-ماما من فضلك، مش قادرة أتكلِّم لو سمحتي..عايزة أشوف ولادي.
صباح اليوم التالي..
-دلف بعد قضاء صلاةِ العيد بصحبةِ إسلام وغادة مع مناوشاتِ إسلام..
توقَّفت فريدة تقابلهم بابتسامةٍ بشوشة، اقترب منها إلياس لأوَّلِ مرَّةٍ يقبِّل جبينها:
-كلِّ سنة وانتي طيبة ياستِّ الكل.
لمست وجنتيه وطبعت قبلةً عليه
-وإنتَ طيب ياحبيبي، انتَ عارف إنِّ دا أوَّل عيد تعيِّد عليَّا وتقولِّي ياستِّ الكل؟..
-ماخلاص يامدام فريدة عرفنا إنِّنا كنا المذنبون..ضحك اسلام بصوتِ مرتفع، ثم دفعه
-مهما تعمل يابنِ مصطفى هتفضل ابنِ البطة السودا، اما أنا ابن البطة البيضة، صح ياماما ..قولي صح
قالها وهو يلقي نفسه بأحضانها
-كل سنة وانتي معانا يااجمل ام في الدنيا
قبلة حنونة فوق جبينه، تلمس وجنتيه
-كل سنة وانت طيب ياقلب ماما
-وانا فين ياست ماما، نستيني، قالتها غادة التي تدفع اسلام بعيدًا ..اقتربت الخادمة قائلة:
-مدام فريدة الحلويات اللي حضرتك طلبتيها
أشارت إليها أن تضعهم فوق الطاولة، وجلست تجذب غادة لأحضانها
-إنتي آخر العنقود سكر معقود، تلفت اسلام يبحث عن ميرال
-هي ميرال لسة منزلتش، معقول لسة نايمة
رفعت فريدة نظرها إلى إلياس المنشغل بهاتفه، ثم اتجهت نحوه
-لا سبها براحتها، شوية اكيد وهتنزل، توقف سريعا ورفع هاتفه يهاتف شريف، في حين تسائل اسلام
-ميرال مانزلتش تصلي ليه، معقول لسة نايمة..!!
رمقه بنظرة اخرصته وصعد الى الأعلى أوقفته فريدة تشير إلى غادة
-طلعي الحاجات دي مع اخوكي، اكيد هيطلع ينام ومش هينزل تاني
اومأت ونهضت تحمل مااشارت إليه فريدة، فتحدثت فريدة:
-غادة هطلع حاجات علشان ميرال، كلنا اكيد هنام ..
اومأ لها بصمت، وتناول الاشياء من غادة
-أنا هاخدهم حبيبتي، يبقى شوفي رؤى صحيت ولا لا، واخدت علاجها، ميرال مش هتصحى دلوقتي
-حاضر...قالتها وهي تومئ برأسها
دلف للداخل بهدوء، ووضع الاشياء، وخرج متجها إلى غرفة ابنه الذي مازال غارقا بنومه، ثم عاد إلى غرفته مرة اخرى، وهو يتحدث مع شريف
-مااخدتش بالي أن التليفون فصل شحن ..المهم قبضتوا على الكل
-سمير وابن اخوه وواحد تاني هرب، بس بقولك فيه ناس في مستشفى السجن تبعهم هبعتلك التسجيل يبقى شوفه
-تمام ..قالها واغلق الهاتف، ثم قام بتغيير ثيابه واتجه لتلك الغارقة من يراها يزعم أنها لم تنم منذ شهور
همس بجوار أذنها:
-حبيبي صباح الخير ..دندن لها بتلك الأغنية لترفرف اهدابها مبتسمة
-صباح الخير..هي الساعة كام
-صلينا العيد ياكسولة، هبت من نومها
-مصحتنيش ليه، كانت عيناه تتجول على هيئتها بابتسامة، ولم تلاحظ نظراته عليها، تراجعت تجذب الغطاء بعدما رأت على ماينظر إليه
-وقح يازوجي..
رفع حاجبه ساخرا واردف بتهكم
-اللي يسمع البت يقول طول الليل بتختم القراءن مكنتش محولة الاوضة إلى كباريه، غير أحضاني
لكمته بخجل تضع رأسها بكتفه:
-بس بقى، والله بتكسف
-لا والله..مكنتش اعرف
طب هات بقى الروب عايزة اقوم اخد شاور وانزل تحت
-في قانون مين دا إن شاءالله، انا منمتش، اياكي تقومي من غير اذن، عايز انام ساعتين علشان عندي شغل مهم
-نعم من غير اذن، طيب انا مش عايزة أنام خلاص حضرتك ضيعت نومي..طاف بنظراته على جسدها وقال
-براحتك..فهمت بما يعنيه فتمددت تجذب الغطاء
-مفتري ودكتاتوري ..انحنى بجسده وقال:
-وضيفي وقح كمان بعد اللي هعمله فيكي، مش دا اعترافك، نامي ومش عايز اسمع نفس..قالها وهو يجذبها لأحضانه ويذهب غارقا بنومه سريعًا
رفعت رأسها تنظر الى سكون جسده، وانفاسه المنتظمة، دنت تستنشق رائحته بوله، وابتسمت كلما تذكرت جنانه ليلة الأمس، غرزت أناملها بخصلاته وعادت بذكرياتها لتلك الأيام التي كانت ستخسر حياتها
قبل عدة أسابيع وخاصة بعد العثور عليها بعدما احتجزها راجح هي وغادة وإيمان بإحدى المنازل الريفية..اخذها إلى المشفى
-عايز دكتورة فورا .صاح بها إلياس وهو يضعها على الفراش بحنان كأغلى مايملك
-ميرال حبيبتي سمعاني، ولكنها لم تنظر إليه، ظلت نظراتها شاردة بنقطة وهمية، وعقله كاد أن يخرج من محله، احتضن وجهها وظل يقبلها بدموع انسابت رغمًا عنه، علها تشعر بمرار مايشعر به..وصلت الطبيب نهض يمسح دموعه مبتعدا عن نظرات الطبيبة وأشار عليها
-عايزك تكشفي عليها كويس، كانت مخطوفة، اكيد فاهمة كلامي
اومأت له تشير إليه بالخروج
-طيب ممكن تنتظر برة..اقترب يشير إليها بنظرات نارية
-اكشفي ومش عايز اعتراض، انا مش هتحرك خطوة واحدة ..
بعد فترة انتهت من فحصها، مفهياش اي اثار اعتداء، شكلها اتعرضت لصدمة عنيفة عملت لها انهيار عصبي
احنا هنعملها كورس علاج كويس، بس لازم ننقلها قسم الامراض العصبية، لم يتحمل أكثر من ذلك، امال بجسده وحملها متجها للخارج، قابلته فريدة تنظر إليه بلهفة وقلبًا كاد أن يتوقف
-مراتك حصل لها، وانت رايح فين
-كله يبعد، قالها وهو يصرخ، يكاد أن يصلب جسده بصعوبة، فتح اسلام باب السيارة بصمت ينظر إلى حالة أخيه بحزن، وصل يزن مع تحرك إلياس بالسيارة ليتجه سريعا الى أخته
تحرك بعض الكيلو مترات وهو يتحرك بالسيارة لا يعلم ماعليه فعله، ينظر إليها من الحين للاخر، جسد فقط بجواره، سحبها بذراعيه وضمها تحت حنان ذراعيه يضع رأسه فوق رأسه يراقب الطريق بصمت، ورغم صمته إلا أن داخله نيران لو خرجت لأحرقت العالم بأكمله ..ظل يسير إلى أن وصل إلى السويس ..توقف ينظر حوله بجهل لا يعلم لماذا ساقته قدماه إلى هنا، استدار بالسيارة متوجها إلى العين السخنة، لأحد الشاليهات الخاصة به، ترجل من السيارة وحملها ودلف بها للداخل مع ارتفاع رنين هاتفه، فتح الخط ورد:
-هنغيب كام يوم، هقفل التليفون، طمن مدام فريدة، قالها واغلق الهاتف نهائيا، ثم اتجه إليها ..جلس على ركبتيه أمامها يحتضن وجهها:
-تعرفي انا دلوقتي بموت بالبطئ، معرفتش احافظ عليكي، طيب قومي واصرخي في وشي، بس بلاش حالتك دي، ميرال متعمليش فيا كدا
لا تفعل شيئا سوى دموع، وحديث راجح يخترق أذنها
-هسحب روحك وروح فريدة، كل ليلة وانا برميكي لراجل يستمتع بيكي، وخلي ابن فريدة يقرب مني، علشان اموته بحسرته وهو بيتفرج على مراته،
قبض على عنقها وهمس بهسيس كأفعى
-إنتي مين يابت، انتي بنت راجح ورانيا، اوعي تنسي دا، كل ماتفكري انك تحاولي انك تهربي هفعصك تحت رجلي، وحياة رحمة ابويا لأسحب روحكم واحد ورا التاني، وأولها جوزك الغندور، واجهزي علشان اول فيديو استعراض ..ارتجف جسدها وشحب وجهها ليس من اختناقه ولكن من ألفاظه البذيئة، التي جعلتها تدعي ربها بأن يصبها بالصمم، دلف أحد الرجال ذو بنية ضخمة، فأشار إليه
-خدوهم على البيت التاني، وكلم الباشا، وخليهم يحضروا العروسة، وعايز فيديو يوصل لابن السيوفي، نفذ المطلوب مش حبسوني وحكموا عليا بالاعدام رغم حاولت اساعدهم، يبقى يلاقوا بقى واولهم بنت رانيا علشان تشهد عليا كويس
تراجعت تبتعد عن الرجل تصرخ باسم إلياس إلا أنه ضحك بصوت مرتفع وقال:
-متخافيش هيسمع صوتك، وهيشوفك
فزعت بجلستها بعدما بسط إلياس أنامله يقوم بخلع ثيابها
-ميرال هغيرلك هدومك، البسي دا لقيته هنا من وقت ماكنا هنا اخر مرة، هدومك متربة حبيبتي
ابتعدت تحضن جسدها وتنظر إليه بخوف، كأنه شخص آخر ..يوم بعد يوم وهو يحاول معها ليخرجها مما فيه، ذات يوم خرج بها إلى الشاطئ يحاوط جسدها واجلسها أمام الشاطئ وفتح أغنيتها المفضلة يتطلع إليها بصمت، ولكنها ظلت تنظر للبحر بصمت، نهض من مكانه وقام بنزع قميصه والقاه بجواره
-أنا تعبت مش هقدر اتحمل فكرة انك تضيعي مني بالطريقة دي، قالها ووضع كل اشيائه الخاصة واتجه إلى البحر، بعد حديث طويل مع أحد الأطباء النفسيين..ظل يتحرك داخل البحر مع ارتفاع أمواجه المرتفعة، فاليوم امواج البحر تضرب الشاطئ بقوة، ظلت نظراتها عليه إلى أن اختفى، مر وقت وهي جالسة، تهمس اسمه بخوف تتلفت حولها وكأنها فاقت من صدمتها لتدخل صدمة اختفاءه وابتعاده عنها، نهضت من مكانها تبكي بصوت مرتفع تتلفت حولها بخوف، وتنادي باسمه، ولكن دون جدوى، تحركت إلى البحر تبكي وتصرخ باسمه، دلفت للداخل ومازالت تنادي ببكاء، دقائق مرت عليها كأعوامٍ وهي تكاد تشعر بالتنفس بعيدا عنه، أخيرًا ظهر أمامه وهو يسبح بداخل البحر ودفع امواج البحر لجسده
ركضت تضرب المياه بيدها وتبكي بنشيج إلى أن وصل إليها..رفعها من خصرها تعانق رقبته ومازال صوت بكاؤها يصدح مع صوت الموج،
-اهدي انا هنا ..انا كويس..قالها وانزلها بهدوء على الرمال
لتضمه بقوة مردفة بصوت باكي:
-إنت سبتني اغرق، انت دايما كذاب معايا وماتوفيش بوعودك
ضم وجهها مبتسمًا، اخيرا استمع الى نبرة صوتها وقال:
-أنا بحبك اوي
ضمها بقوة كأنه يريد أن يدفنها بداخله يسحق ضلوعها ..دفنت رأسها بصدره، ليحملها متجها إلى الشالية
خرجت من طيفها المأسوي تمسح دموعها ثم دفنت نفسها بأحضانه وغرقت بدفء أحضانه ذاهبة لأحلامها
بفيلا الجارحي وخاصة الحديقة
كان يلهو مع الاطفال وأصوات ضحكاتهما تصدح بالاجواء، بعد عودته من صلاة العيد، اقترب منه ارسلان وهو يحمل كوب قهوته
-عملت لحضرتك القهوة المظبوطة
رفع رأسه يرمقه بنظرة ساخرة وأردف:
-وايه كرم الاخلاق دا ..هرول إليه طفله الذي يخطو بخطواته الأولية مع ضحكاته الطفولية
-بابا..انحنى ارسلان، يحمله ويطبع قبلة على رأسه يشير إلى اسحاق
-اخدت العيدية من جدو، فين عيدية الولد مش اقل من 100 الف دولار
تهكم اسحاق قائلًا:
-دا أنا لو بعتك ياله انت وابنك مش هتجيب عشرة دولار، لا والواد بيتكلم بالدولار، انت اخرك عشرة جنيه
اقترب منه وابتسم قائلًا:
-كنت طلقة يااسحاقو بالروب، ماتسلفهولي
ركله بقوة، مما جعل الآخر يرفع ساقه يتأوه:
-رجلك تقيلة، طيب والله ماانا قايلك على الخبر الحلو، ماتستهلوش
-أنت عندك اخبار حلوة يابن فاروق
آه مش هقولك انك هتبقى جد مرة تانية، شوف مهارات ابنك، وخليك انت شاطر في لبس الروب مع وقف التنفيذ
لم يستمع سوى هتكون جد للمرة التانية، دنا منه وعيناهُ عليه:
-مراتك حامل..قالها بابتسامة.
ليومئَ الآخر برأسه، وتمتمَ بحبور:
-معرفتش غير بعد ماسبتك بالليل، وقولت لازم أوَّل واحد تعرف، حتى بابا وماما معرفوش.
سحبهُ بقوَّةٍ لأحضانه يربتُ على ظهرهِ وضحكةً مرتفعةً شقَّت ثغره:
-ألف مبروووك ياحبيبي، ربِّنا يباركلك فيهم.
-الله يبارك فيك ياعمُّو ..وصلت غرام تتحرَّكُ باستحياءٍ بعدما استمعت إلى حديثهم، اتَّجه بنظرهِ نحوها:
-ألف مبروووك يابنتي، ربنا يكملِّك على خير.
-شكرًا ياعمِّو إسحاق..نظر إلى استعدادهم للمغادرة فتساءل:
-أنتوا خارجين؟.
أومأ أرسلان ورد:
-أيوة رايح لماما فريدة، هقضِّي اليوم هناك، وبالليل هنعدِّي على عمُّو محمود حمايا، ونرجع نسهر مع بعض..بس إيَّاك تنام.
-هستناك طبعًا متتأخرش.
قبلةً دافئةً على وجنتيهِ ثمَّ قال:
-اعتبرني دينا، بحبَّك ياإسحاقو، قالها وتحرَّك سريعًا وهو يحملُ طفلهِ متَّجهًا إلى سيارته..ظلَّ يراقبهم إلى أن خرجت السيارة من حديقةِ الفيلا، وصلت إليه دينا:
-حبيبي هتفضل طول اليوم تلعب مع حمزة، يالَّه علشان ترتاح شوية..
نادى على مربيةِ طفله:
-حمزة روح مع النانا حبيبي شوف عايز تعمل إيه..
-أوكيه بابي، بعد إذنك..قالها طفلهِ وتحرَّك للداخل، بينما هو حاوطَ جسدَ زوجتهِ وقال:
-غرام حامل.
شهقت بفرحة، ثم تساءلت:
-مين قالَّك..سحب كفَّيها ودلف للداخل:
-أرسلان، بس متقوليش لفاروق وصفية، لمَّا هوَّ يقولُّهم.
- همَّا راحوا فين؟.
-لوالدته، هيعيِّد عليها..توقَّفت فجأة ثمَّ قالت:
-هوَّ صحيح هيفضل عايش معانا؟.. أنا سمعته مرَّة بيقول لمامته فريدة، يومين هنا ويومين هناك، بس بعد تعب صفية لغى الفكرة، والصراحة ياإسحاق صعبان عليَّا، حاسة أنُّه ضايع..
حاوط جسدها وتابع سيرهِ قائلًا:
-بعمل حاجة هترضي الكلِّ حبيبتي.
بمنزلِ يزن..
استمع إلى رنينِ هاتفه
-أيوة ياأرسلان ...!!
-هيَّ رحيل كانت حامل يايزن؟.
هبَّ من مكانهِ وتساءل:
-بتسأل ليه؟..توقَّف بسيارتهِ بعد إشارةِ غرام بأنَّه لا يتحدَّث، ثمَّ قال:
-لا مجرَّد سؤال مش أكتر.
-لا مش حامل، كانت حامل بس سقطت.
سحبَ نفسًا وزفرهُ على عدّّةِ مرَّاتٍ ثم تمتم:
-سقطت إزاي..
-هوَّ إيه الِّلي سقطت إزاي، زي أيِّ واحدة، انسى..المهم بالليل هعدِّي عليك عايزك في موضوع مهم.
-تمام أوكيه..قالها وأغلقَ الهاتف، ثم
اتَّجه بنظرهِ الى غرام:
-زي مااتوقَّعت، مايعرفشِ إنَّها كانت حامل.
-إنتَ متأكِّد إنِّ رحيل مراته؟.
-أيوة ياغرام، هوَّ الراجل بتاعنا عبيط، وجابت توأم كمان.
-طيب ليه خبِّت عليه؟.
-معرفش معرفش..قالها وهو يضرب على المقود، وتابع حديثه الغاضب:
-ومتعرفش أنه رجعها، دي رايحة تثبت الولاد بوثيقة الطلاق
-طيب عملت ايه ..هشوف إلياس الاول ، خليتهم يمشوا الورق طبعًا هعمل ايه، مش ضامن بعد ماتعرف أنه رجعها، دي حرمته أنه يعرف انها حامل، تخيلي بعد ماتعرف أنه رجعها، اكيد هتاخد ولاده وتهرب بيهم، طيب انا عرفت بالصدمة من السفارة هناك، لازم اعرف ايه اللي وصلها لكدا، اللي اعرفه عنها انها شخصية كويسة جدا
ربتت على كفيه:
-حبيبي إن شاءالله كل حاجة هتكون تمام
بعد مرور أكثر من سنة واليوم الذي يتم به تنفيذ حكم اعدام راجح، وصلت رحيل الى أرض مصر الحبيبة، تحمل طفلا والدتها تحمل الاخر، مع تحرك أحد الرجال الذي يبدو عليه الهيبة بجوارهما، يتحدث مع رحيل مبتسمًا، سارت متجهة إلى سيارة الاجرة، وهي تعطيه الطفل، وتفتح باب السيارة لوالدتها، تحمل ابنتها، بخروج كريم من مطار القاهرة وهو يتحدث بهاتفه مع يزن:
-رجعت من المؤتمر ياابو نسب، طمن ايمان أنا جاي في الطريق رنيت عليها بس شكل فونها مغلق ..لكنه توقف وهو يرى شخص بجوار راحيل يحمل طفلًا وهي تحمل الآخر ليهمس بتقطع
-رحيل معاها طفلين ..طب ازاي
استمع يزن إلى كلماته ليهب من مكانه
-إنت بتقول ايه...!!!
↚
"لا إله إلا أنت أستغفرك واتوب اليك "
كان حُبه لا يشبه سواه...
لم يأتِ على استحياء، بل اجتاحها كإعصارٍ ناعم..
كُتب على صفحة قلبها بحبرٍ لا يمحوه النسيان.
دخل حياتها كما تشرق الشمس لأول مرة بعد شتاءٍ قارس، فأزهرت فيه، وازدهرت به، وصارت كل نبضةٍ فيها تنطق باسمه...
لم يكن مجرد حب، بل كان وعدًا بالخلود في قلبٍ لا يعرف النهايات.
هي التي شرّعت له أبوابها وقالت:
"ادخل بسلام، فأنت الأول… ولن يكون بعدك أحد."
قبل ساعة من وصولِ رحيل..
خرج الياس من منزلهِ صباحًا وهاتفَ يزن:
- يزن، حكم الإعدام هيتنفِّذ الضهر في راجح...لازم أزوره وأودَّعه.
تمام، هصلِّي الضحى وأشرب قهوتي وأحصَّلك.
_ وعلى إيه ياحبيبي؟ كلَّك فرخة ولَّا بطة كمان...ماشاء الله، عامل زيِّ التور!..
قالها إلياس وأغلقَ الهاتف.
تطلَّع يزن إلى الهاتفِ الذي انقطعَ صوتهِ وسبَّه:
يخرب بيتك يالزج، معرفشِ إيه كمية الغرور دي!
نهض من سريرهِ وتوجَّه إلى حمَّامه، ثمَّ خرج بعد دقائقَ وأدى صلاةَ الضحى..ارتفعَ صوتُ فيروز مع رائحةِ القهوة التي فاحت بالمكان..اقترب من الطاولة وجذبَ بعض اللقيمات:
-الله الله..واللهِ كنت محروم من الفطار ده.
خرجت رؤى تحملُ طبقًا من الجبنِ وآخر من اللانشون، وقالت بعبوس:
يعني أنا مكنتش بجهَّز فطار؟..طيب، أنا زعلانة منَّك.
اقترب منها وضمَّها إلى حضنه:
يا بتِ ياهبلة، أنا بس برفع من روح إيمان..أهي راجعة بيت أبوها ضيفة، وعايز أبيِّن أهميِّتها.
- لا والله ياباشمهندس...بتضحك عليَّا؟ طيب إيه رأيك بقى؟ أنا زعلانة وهخاصمك..
جذبها هي الأخرى إلى حضنهِ وطبع قبلةً على رأسها:
حبايب أخوهم الِّلي بيتخانقوا مين يفرَّحني؟
دفعته هي ورؤى حتى سقط على الأريكة، وارتفعت ضحكاتهم:
- لا ياأخويا، مش بنتخانق عليك...إحنا بنقول إنَّك بتضحك علينا.
رفع حاجبهِ ساخرًا وهو يشيرُ إليهما:
- مش دي الحقيقة؟ أنتوا فاشلين..
ضحكت البنات وهما يجذبانِ مقاعدهم:
- طيب تعالَ كل من إيد الفاشلين.
اتَّجه إليهم وسأل:
- فين معاذ؟ لسه نايم؟
أجابت إيمان وهي تضعُ الخبزَ أمامه:
- عنده درس الساعة تمانية وعشرة، وبعد كده رايح مع طارق النادي... متِّفقين من امبارح.
أومأ بالموافقة وبدأ يأكل..أشار إلى فنجانِ القهوة:
- قرَّبي القهوة.
وضعتهُ رؤى أمامه وقالت:
- ماأكلتش حاجة، عامل زي ابنِ عمَّك..
ارتشف من فنجانهِ وفتح هاتفه، حتى قالت رؤى:
يزن، لسه زعلان إنتَ وأرسلان؟..
رفع رأسهِ وردَّ ببرود:
-أنا مش قلتلك ماتدَّخليش بيني وبين ولاد عمِّك؟
ما هو أنا متضايقة علشان أنتوا زعلانين من وقت العملية..طيب، إيه السبب؟
توقَّف فجأةً واتَّجه إلى غرفته:
- رؤى، راجح هيتعدم النهاردة...لو عايزة تشوفيه وتدعي عليه إنُّه وصَّلك لكده.
هزَّت إيمان رأسها بحزن لمَّا رأت دموعَ رؤى تتجمَّع..اقتربت منها وضمَّتها بحنان:
متزعليش منُّه حبيبتي...هوَّ لمَّا بيضايق بيقول كلام قاسي كده.
تطلعت إليها بعينينِ دامعتين:
هوَّ أنا ليه حظِّي كده؟ أم تموت وأنا صغيرة، وأب مجرم بيحاول يقتل ولاده، وأخت مش متقبلاني...
- رؤى...!!
قالتها إيمان ثمَّ أكملت:
- ميرال برضو مش متقبلاكي!..ولَّا إنتي الِّلي رفضتي تقعدي هناك علشان إلياس..
هزَّت رؤى رأسها تمسحُ دموعها:
- والله خلاص، أنا نسيت الموضوع ده... وبقيت أتعامل معاه كأنُّه أخويا.
طيب ياحبيبتي، سيبي الزمن يداوي الجروح...يلَّا، افطري وأنا هعمل قهوة بدل الِّلي بردت.
في الداخل، أنهى يزن ارتداءَ ملابسه، وخرج وجدها تجلس تنظرُ من النافذة بشرود، فانحنى وقبَّل رأسها:
- متزعليش منِّي، يمكن أكون ضايقتك... بس ردودك بتستفزِّني.
رفعت عينيها إليه وقالت:
يزن، هروح أقعد مع طارق...هوَّ أولى بيَّا، على الأقل هوَّ أخويا أب وأم، ومش هكون تقيلة عليه.
همشي علشان ماأزعلكيش...يلا، سلام.
عند إلياس:
دلف إلى الحجزِ حيث يُحتجز راجح.. مشى بخطواتهِ الواثقة، مرتديًا نظارتهِ السوداء، وسط تحيَّاتِ رجالِ الشرطة الذين يعرفونهُ جيدًا..دفع العسكري الباب وأشار له بالدخول:
- هوَّ نايم ياباشا.
اقترب إلياس من جسدِ راجح المسجَّى على الأرضِ الباردة، وجلس على الكرسي الذي وضعهُ العسكري قبل خروجه..
- إزيك ياراجح؟
رفع راجح رأسهِ بصعوبة وقد أنهكهُ المرض، لم يقو على الحركة، لم يتبقَّ منه سوى لسانهِ وعينانِ منطفئتان.
- ياااه، يابنِ جمال..لسه فاكرني؟
انحنى إلياس ينظرُ إلى عينيه:
للأسف ياراجح، الحاجة الوحيدة الِّلي بتمنَّى أنساها من ربِّنا هيَّ إنتَ... بس للأسف، إنتَ نقطة سودة في حياتي.
- عايز إيه يابنِ جمال؟ مش مكفِّيك شماتة فيَّا؟
النهاردة 30 نوفمبر ياراجح...التاريخ ده مش بيفكَّرك بحاجة؟
ارتجفَ جسده، ورغم ذلك زمَّ شفتيهِ بابتسامةٍ خبيثة:
قصدك هموت بعد ما عيِّشتكم الجحيم؟ إنَّما فين بنتي؟ مش أولى إنَّها تودِّع أبوها؟
قهقه إلياس بصوتٍ عالٍ وهو يصفِّقُ كفَّيهِ ببعض:
- يا راجل!!.هوَّ إنتَ عندك بنات؟ هوَّ أنا ما قلتلكش؟
مش أنا نضَّفت دمَّها منَّك؟ الدم اللي بيجري فيها دلوقتي دمِّي...
شُفت أنا شطُّور إزاي؟
-ولادك دلوقتي مفيش حد بيكروه قدَّك، أشار بيده على جسدهِ وتابع حديثهِ الذي خنق راجح:
-خلُّوك قعيد، ومش بس كدا سلِّموك لحبلِ المشنقة، ماهو لو عاملت ربِّنا فيهم مكنتش وصلت لكدا..
-إلياس..تمتم بها راجح وهو يتطلَّعُ إليه ثمَّ قال:
-مش بيسألوا الِّلي هيموت نفسك في إيه قبل ماتموت؟..
توقَّف إلياس يرمقهُ باشمئزاز:
-لا مش بيسألوه، بيموِّتوه علشان نفسه مرض خبيث بيتفشَّى بين الناس..
-عايز أشوف فريدة قبل ماأموت..
انحنى إليه سريعًا ولم يشعر سوى بالقبضِ على عنقهِ يهمسُ بهسيسٍ مرعب:
-الاسم دا لو نطقته في الكام ساعة الِّلي فاضلينك هقطع لسانك، أقسم بالله أقطع لسانك القذر دا، بص لوشِّي حلو علشان دا هيكون آخر وش تشوفه، وعد منِّي ياأقذر مخلوق شوفته في حياتي لأعمل حفلة الليلة بعد ماأخلِّي العساكر يرموك في حفرة مليانة تعابين، الِّلي زيَّك دا ربِّنا بعته علشان يكون عبرة للناس، أوعى تفكَّر كنت بتهمِّ حد..
تركه يدفعهُ بقوَّةٍ لتصطدمَ رأسهِ بالجدار يشعرُ بتهشُّمها، رفع عينيهِ التي غرقت بالدموع:
-خلِّي فر ..لم يكمل حديثهِ بسبب لطمةٍ قويةٍ على وجههِ شعر بتخدُّرِ خدِّه..تحرَّك بعدها إلياس للخارجِ بعدما فقد السيطرةَ على غضبه، ورفع هاتفه:
-أرسلان تنفيذ الحكم النهاردة، كنت منتظر إنَّك تيجي.
على الجانبِ الآخر ردَّ أرسلان:
-عندي مهمَّة صعبة وللأسف هتأخَّر يومين، إنتَ قوم بالواجب، إحنا الاتنين ممكن يموت بسكتة قلبية، وأنا قلبي رهيِّف مبحبش أشوف فرخة بتموت قدَّامي.
-بااارد..قالها إلياس وأغلقَ الهاتف بوصولِ يزن..أشار إلى العسكري:
-دخَّله خلِّيه معاه دقايق وتكون قريب منهم، خلِّي بالك دا تور وممكن يموُّته من غير مايحس..قالها بتوقُّفِ يزن أمامهِ يتطلَّعُ إليه بتساؤل:
-هوَّ مين دا؟.
أنا برة لمَّا تخلَّص زيارتك الغرامية..قالها إلياس وتحرَّك بعدما ارتدى نظارته..
دلف يزن للداخلِ وجده يستندُ بظهرهِ على الجدار ، رفع عينيهِ إلى يزن ثمَّ ابتسم:
-دا أنتوا متِّفقين بقى، إيه جاي تودَّعني، ولَّا تستلم جثتي؟..
جلس بمقابلتهِ يسحبُ أنفاسهِ بهدوءٍ وقال:
-إنتَ مش فارق معايا، أنا كنت بنتقم لأمِّي، أمَّا إنتَ ولا حاجة، لأنِّ فيه راجل بمعنى الرجولة ربَّاني إزاي أكون راجل يُعتمد عليه، أكيد إنتَ مش فاهم كلامي، لأنُّه صعب على الِّلي زيك، بس أنا جاي أعترف لك اعتراف، أنا خسرت قدَّامك ياراجح..هزَّ رأسهِ وتابع حديثهِ المؤلم:
-خسرت يزن اللي اتربَّى على قيم وأخلاق ابراهيم السوهاجي، كسبت من راجح القلب الأسود والضمير الميِّت، أذيت أكتر شخص حبِّيته في حياتي، ودا بسببك، أنا فعلًا طلعت ابنك ياراجح، للأسف حقيقة رغم إنَّها مُرَّة بس حقيقة، روح ربِّنا ينتقم منَّك على الِّلي عملته فينا، ضيَّعت تربيتي، ودمَّرت حياة بنتك، والتانية دخلت في انهيار، وواحد مات مقتول في السجن، والتاني بقى ردِّ سجون، تقدر تقولِّي انتَ أب إزاي، معرفش حكمة ربِّنا في كدا، بس أكيد الِّلي زي أمثالك للعظة،
توقَّف ينظرُ إليه ثمَّ قال:
-كلِّ ولد بيدفن أبوه بيبكي على قبره وبيحس باليتم، ويقعد يدعيله إلَّا أنا بعد مايدفنوك إن شاءالله هدعي عليك تتكوي بنار جهنم زي ماكوتنا بنار الظلمِ في الدنيا..أمال بجسدهِ ونظر لعمقِ عينيه:
-أنا بكرهك ياراجح ياشافعي، وبكره دمِّي علشان من دمَّك، وبدعي ربِّنا يصيبني بمرض زيِّ رؤى علشان ينضَّفوا دمِّي القذر الِّلي من دمَّك،
وضع كفَّيهِ على رأسِ راجح:
-خلِّي الكلمتين دول لحدِّ مايعدموك ، ولادك كلُّهم بيكرهوك ياراجح، بيكرهوك، إلى جهنم وبئس المصير..
قالها واعتدل يرمقهُ باحتقارٍ ثمَّ خرج بعدما احتجزَت الدموعَ بعينيه، خرج من الغرفةِ وهنا انهار بجسدهِ ليجلس على الأرضيةِ يبكي بشهقاتٍ كأنَّه لم يبكِ من قبل، دقائقَ ووصلَ إليه إلياس بعد إخباره الشرطي بحالةِ يزن..
مدَّ يديهِ إليه ورفعهُ من فوقِ الأرضِ وحاوط جسدهِ خارجًا من السجن دون النطقِ بحرفٍ واحد، استقلَّ السيارةَ وهو بجواره، اتَّجه بنظرهِ إلى يزن:
-عايز آكل سمك إيه رأيك نروح ناكل سمك وبعدين نرجع نودَّعه إلى جهنم وبئسَ المصير..
صمت يزن ولم يرد عليه، نظر للخارجِ محاولًا السيطرةَ على دموعه، ربتَ إلياس على كتفه:
-عارف الوضع صعب، ومهما أقول مش هقدر أخفِّف عليك، بس كدا أحسن، أحسن للكلِّ يايزن الِّلي زي دا ميتحزنشِ عليه، تعالَ ناكل سي فود ياعم..قاطعم اتِّصالُ كريم فاستدارَ إلى إلياس:
-هرجع على البيت كريم رجع وأكيد هيعدِّي على البيت..
-تمام روح..والسهرة عندي الليلة، هنعمل زي حفلة صغيرة كدا، نلمِّ الحبايب، من زمان مافرحناش..
-إن شاءالله..قالها يزن وترجَّل من السيارة..
وصلت رحيل إلى منزلها، وماإن دخلت حتى أشارت إلى المربية قائلة:
– خدي الولاد على أوضهم، خلِّيهم مع ماما.
ردَّت المربية بابتسامةٍ مطيعة:
– على الرحبِ والسعة، سيدتي.
ثمَّ التفتت رحيل إلى صديقها وقالت:
– تعالَ نشرب قهوة، وبعد كده تروح على الفندق.
ابتسمَ وقال وهو يتفحَّصُ المكانَ بعينينِ لامعتين:
– تعرفي؟ بقالي سنين منزلتش مصر... رغم محاولات يعقوب.
– أمم...طيب ليه؟ أنا بعشق البلد دي، مع إنِّ طفولتي كلَّها كانت في لندن، بس بحبَّها جدًا.
استندَ على الطاولة، ونظر إليها نظرةً متفحِّصة:
– طيب ليه سافرتي وولدتي برَّة؟ مع إنِّك بتحبِّي مصر كده؟
قبل أن تجيب، دخلت الخادمة تحملُ القهوة، وضعتها أمامهم بهدوء، ثمَّ تساءلت:
– محتاجة حاجة تانية يامدام؟
– لا، شكرًا..شوفي ماما لو محتاجة حاجة.
ثمَّ التفتت إلى صديقها وقالت:
– أنا تركت البلد لظروف خاصَّة، وقلتلك قبل كده.
تساءل بصوتٍ منخفض:
– بسبب طليقك؟
تنهَّدت تنهيدةً عميقة، ثمَّ زفرت وكأنَّها تخرجُ رمادًا محترقًا من قلبها:
– حاجة زي كده...المهم، إنتَ ناوي تعمل إيه في مصر؟ هتفتح شركة؟ ولَّا هتزهق وتسافر تاني؟
ارتشفَ بعض القهوة وردّ:
– ماتيجي نتشارك..نفتح شركة إحنا الاتنين...تكون بعيدة عن كلِّ الشركات التانية.
– لا، أنا مش بفكَّر أشارك حدِّ دلوقتي.. حاليًا رامية كلِّ حاجة على ابنِ خالتي علشان أتفرَّغ لولادي، لكن أبدأ من جديد، آسفة..مش وقته.
ظلَّ يراقبها بنظرةٍ تلتهمُ تفاصيلها، ثمَّ اقتربَ مستندًا على الطاولةِ وهمس:
– رحيل..إنتي ناوية ترجعي لطليقك؟
ارتعشت، كأنَّ صاعقةً لامست جلدها.. شعرت بدموعٍ حبيسةٍ وخزت جفنيها، فهزَّت رأسها نفيًا بصمت.
مدَّ يدهِ وأمسكَ بكفَّيها الباردينِ وقال:
– رحيل..ايه رأيك تفكري تاني في الجواز؟
انتفضت كمن لسعها عقرب، وسحبت يديها بسرعة:
– إيه اللي بتقوله ده يارؤوف؟! لا طبعًا، أنا مش بفكَّر في الجواز.
– لو علشان ولادك، صدَّقيني هعاملهم زي ولادي.
نهضت من مكانها، تحاولُ التماسكَ وسط ارتباكها:
– رؤوف، ممكن نأجِّل الكلام ده؟ إحنا راجعين من السفر وتعبانين.
اقتربَ خطوة، بصوت مشوبًا بالأمل:
– يعني في أمل؟.
نظرت إليه بنظرةٍ مشتَّتة، تائهة..وكأنَّ ماضيها ينقضُّ عليها فجأة، فهزَّت رأسها نفيًا:
– مش مستعدَّة...صدَّقني، ولا عايزة أكرَّر التجربة تاني.
– طيب ليه؟ هوَّ حبِّك لطليقك؟ ولَّا علشان خلاكي تكرهي الرجالة؟ لو كده، بوعدك...أنا هخبيكي جوا قلبي، ومش هأذيكي أبدًا.
رفعت يدها على وجهها تستنجدُ بالهدوء:
– رؤوف، لو سمحت...أنا تعبانة وعايزة أرتاح.
تراجعَ خطوة، وقال وهو يهمُّ بالمغادرة:
– تمام...هأجِّل الموضوع، بس هفتحه تاني...قالها وتحرَّك للمغادرة.
صعدت إلى غرفتها، دلفت تجرُّ قدميها بصعوبة، وعيناها على ذلك الفراشِ الذي يتوسَّطُ الغرفة، وذكرياتُ تلك الليلة ترجعُ أمام عينيها، جلست على الكرسي تتطلَّعُ إلى السرير ودموعها تنسابُ بصمت، وحربًا شعواءَ كادت أن تزهقَ روحها، فمنذ تلك الليلة ولم تأتي إلى منزلها، أغمضت عينيها بعدما صفعتها ذكرياتهِ وهيئتهِ المدمِّرة لروحها، ظلَّت كما هي لا تشعرُ بالوقت، إلى أن دلفت والدتها تتطلَّعُ إليها بحزن..
فتحت عينيها تزيلُ دموعها سريعًا بعدما شعرت بوجودها، جلست والدتها بمقابلتها:
-رؤف مشي؟..أومأت لها ونهضت من مكانها تنزعُ جاكيتها، ونظراتُ والدتها تحاصرها بصمتٍ إلى أن قامت بتغييرِ ثيابها بالكامل؛ واتَّجهت إلى سريرها تنظرُ إلى أمِّها بصمت، تنظرُ بساعتها
التي اقتربت من منتصفِ الليل؛ والظلامُ يُطبق على الغرفةِ إلَّا من وهجٍ خافتٍ ينبعثُ من المصباحِ الجانبي. جلست زهرة على طرفِ السرير، تراقبُ ابنتها التي ظلَّت ساهمةً تحدِّقُ في الفراغ، تتقلَّبُ بين أنفاسٍ متوترةٍ وصمتٍ موجِع.
اقتربت منها بهدوء، ولم تلبث أن قالت بصوتٍ منخفضٍ يحملُ عتابًا مشوبًا بالحنان:
– مش هتنامي ولَّا إيه يابنتي؟ لحدِّ إمتى هتفضلي كده؟..على فكرة، خالك ماسك نفسه بالعافية علشانك، وبيحاول مايزعلكيش..بس الِّلي بتعمليه ده حرام، الراجل من حقُّه يعرف بولاده.
ارتجفت شفتاها، وتكسَّرت الكلمةُ على لسانها قبل أن تخرجَ بصعوبة:
– خايفة...
رفعت عينيها المبلَّلتينِ نحو والدتها، نظرةً تائهةً ترتجفُ كقلبها..
– خايفة لمَّا يعرف..يخدهم منِّي ياماما، أنا متأكدة إنِّه هيعمل كده، أنا هدَّدته..وقلت له هحرق قلبه، وهوَّ... أكيد هيردلي الانتقام.
زفرت زهرة بوجع، لكنَّها اقتربت أكثر، وجلست إلى جوارها، تمسِّدُ على كفِّها المرتجف، وقالت برفق:
– طيب، إيه رأيك تحكي لي عمل إيه؟ يمكن أعرف أقولِّك تتصرَّفي إزاي.
هنا انفجرت دموعها، تنهمرُ بلا توقُّف، تختنقُ بين شهقاتها كأنَّها تغرقُ في ذنوب لا تُغتفر..فما كان من زهرة إلَّا أن جذبتها إلى صدرها، تحتضنها بقوة، تربتُ على ظهرها كأنَّها تحاولُ أن تُعيدَ لها الأمان المفقود.
– اهدي ياحبيبتي...وربِّنا يعمل الِّلي فيه الصالح..بصِّي، أنا هروح لفريدة، عرفت من زين إنُّه بيعزَّها وبيعاملها زي مامته، هكلِّمها..يمكن نلاقي حل، بس كده كفاية، ماينفعشِ تخبِّي عليه.. لازم يعرف إنِّ ليه ولاد، وفيه حاجة... أنا كنت مخبياها عنِّك.
رفعت رأسها بسرعة، تتساءلُ بعينينِ مذعورتين:
– حاجة إيه، ياماما؟..
قطعَ حديثهم صوتًا من خلفِ الباب، بنبرةٍ قلقة:
– مدام رحيل، رولا عايزة حضرتك، ومش راضية تنام، حاولت معاها بس...
دفعت الغطاء عنها وهرولت نحو طفلتها، وقلبها ينتفضُ برعب..
أمَّا زهرة، فظلَّت مكانها، تتنهَّدُ بيأس، تهمسُ لنفسها بمرارة:
– ليه يا رب مش رايد تعرف إنَّها لسه مراته؟ وبعدين بقى...ربِّنا يصبَّرني عليكي لمَّا تعرفي..
بغرفةِ أطفالها..
حملت طفلتها تضمُّها:
-إيه يامامي، مالك ياروحي بتعيَّطي ليه؟.
-ما.ما..قالتها الصغيرةُ بشهقةٍ ضعيفة، وضعت كفَّيها على جبينها:
-إيه ياقلب ِمامي زعلانة ليه، مش بتنامي زي أخوكي ليه؟..اتَّجهت بنظرها إلى طفلها الغارقِ بنومه، ثمَّ نهضت بها تشيرُ إلى المربية:
-خلي بالك من آسر..قالتها وتحرَّكت إلى غرفتها تضمُّ ابنتها في أحضانها.
بمنزلِ يزن..
ظلَّ يثورُ بالغرفةِ ذهابًا وإيابًا، وعقلهِ يعصفُ به منذ حديثِ كريم:
-أنا كنت خارج من المطار، شوفتها شايلة بيبي وفيه واحد معاها، ممكن يكون الولد مش ابنها، إنتَ معرَّفتهاش لسة إنَّك رجَّعتها؟.
أرجعَ خصلاتهِ للخلف بغضبٍ وقال:
-روحت علشان أقولَّها بس الأستاذة أهانتني ومسحت بكرامتي ومش بس كدا قالت إنَّها كانت حامل وسقطت.. -تفتكر البيبي الِّلي شوفته دا يكون ابنها؟.
هزَّ رأسهِ بعنف:
-لا..مستحيل، لو اتجوِّزت كان طارق قالِّي.
-ويمكن مايكنشِ ابنها يايزن، ممكن يكون ابنِ الراجل وكمان على ماأظن كان فيه حدِّ تاني معاهم.
-بكرا لازم أحطّ حد لحياتي، لازم ترجع وتعرف إنَّها لسة مراتي..
-بالغصب يايزن، إنتَ برضو لسة مصر إنَّك تحطَّمها، يزن..رحيل بتحبَّك، وأنا متأكد بس هيَّ عايزة الشخص اللي حبِّيته مش الِّلي خذلها..
-كريم امشي دلوقتي، أنا دماغي بتلفِّ لوحدها.
-تمام..قالها ينادي على إيمان:
-يالَّه حبيبتي..
اقتربت من يزن:
-أنا ماشية حبيبي محتاج حاجة؟.
هزَّ رأسهِ بالنفي ثمَّ تساءل:
-فين رؤى ومعاذ؟.
-برَّة، طارق جه، وقاعدين في الجنينة، أنا عملت لكم أكل، يبقى خلِّي نعيمة تهتمِّ بأكلِ معاذ شوية إنتَ عارف إنِّ أكله صعب.
قبَّل رأسها وأشار إلى كريم:
-اهتمِّي بجوزك حبيبتي ومتشغليش بالك بمعاذ..قبَّلته على وجنتيهِ وتحرَّكت خلف كريم.
قبل ساعات بفيلا الجارحي..
جلست تطعمُ طفلتها، تتابعُ طفلها الذي يلعبُ مع مربيته، وصلت إليها صفية:
-هاتيها وأنا أكِّلها حبيبتي وشوفي بلال، عامل إضراب على الأكلِ ليه، وخلِّي بالك لأنُّه بيغير من أخته..
ناولتها ابنتها ونهضت قائلة:
-فعلًا ياماما بقى عنيف أوي، وزي
ماحضرتك شايفة بيكسَّر ألعابه، أنا هغيَّرله علشان أرسلان جاي وهنروح لماما فريدة.
-متنسيش تلبِّسي ضي تقيل الجوِّ النهاردة برد، وبلاش تنزِّليها كتير في الجنينة علشان..
-واللهِ ياماما الجو كان شمس من شوية، بس حضرتك عارفة فصل الخريف متقلِّب..
بعد فترة وصل أرسلان، ترجَّل من سيارتهِ إلى صفية:
-ستِّ الكلِّ عاملة إيه؟.
نظرت إليه مبتسمةً وقالت:
-كويسة حبيبي، إنتَ عامل إيه، ورجعت إمتى من السفر؟. لسة عارفة من غرام..
-جاي من المطار على هنا، هطلع أغيَّر علشان هنزل لماما فريدة، كلِّمتها إمبارح وصوتها مش عجبني.
أومأت له تربتُ على كتفه:
-عندها برد، وشكله تقيل أوي، كنت عندها أنا وإسحاق، على فكرة عاملَّك مفاجأة.
قطب جبينهِ وتساءل:
-مفاجأة!.
أومأت ضاحكة...أه ومش هتكلِّم علشان هوَّ حلَّفني بيك.
-ماشي ياصفية مصدَّقك إنِّي غالي لحدِّ ماأشوف إسحاقو، يالَّه أسيبك.
بفيلا السيوفي..
تجمَّع الجميع على طاولةِ الطعام، نزلت فريدة من غرفتها بمساعدةِ ميرال، نهض أرسلان من مكانهِ واقتربَ منها:
-حبيبة قلبي ياستِّ الكل، ضمَّتهُ لأحضانها:
-حمدَ الله على سلامتك ياحبيبي، رجعت إمتى؟.
سحبها من كفَّها واتَّجه إلى طاولةِ الطعام وهو يقول:
-من ساعة تقريبًا، المهمِّ حضرتك عاملة إيه دلوقتي؟.
هزَّت رأسها مبتسمةً برضا وقالت:
-أنا كويسة أوي حبيبي، طول ماإنتوا كويسين، بحثت بعينيها عن مصطفى وتساءلت:
-فين أبوك ياإلياس؟.
أشار إلى المكتب وردَّ وهو يتفحَّص هاتفه:
-مع إسلام في المكتب، زمانهم جايين.
سحبَ أرسلان المقعد وساعدها بالجلوس، وعيناها على إلياس مردفة:
-فيه حاجة ولَّا إيه، إسلام عنده مشكلة؟..
أغلق الهاتف ورفعَ رأسهِ إليها:
-هوَّ إسلام طفل علشان تخافي عليه، فكَّري في صحِّتك، مش شايفة نفسك عاملة إزاي، وبرضو شاغلة نفسك بينا، إحنا رجالة مش بنات لسة مراهقين..
لكزتهُ ميرال بعدما ارتفع صوتهِ الغاضب، التفتَ إليها وصاح بغضب:
-إيه بقول حاجة غلط، من يومين وقعت من طولها علشان خوفها على يوسف، والنهاردة مش قادرة تتكلِّم وبرضو شاغلة نفسها بإسلام، وناسية إنِّ إسلام راجل وكمان مع أبوه مش مع حد غريب.
-هتفضلوا في نظري أطفال ياإلياس، إنتَ دلوقتي أب، وأكيد عارف يعني إيه أبوَّة..
قاطعها أرسلان:
-ياحبيبتي إحنا مقدَّرين دا، بس إلياس قصده إنِّنا كبرنا، المفروض تهتمِّي بصحِّتك، أه ممكن نكون خايفين على ولادنا علشان همَّا لسة صغيرين..بس حضرتك إحنا كبرنا على قلقك.
وصل مصطفى بصحبةِ إسلام، وزَّع نظراتهِ عليهم ثمَّ قال:
-مالكم فيه إيه ؟!..قالها وعيناهُ على فريدة التي رفعت رأسها وتطلَّعت إلى إسلام ورسمت ابتسامة:
-كنتوا بتعملوا إيه؟.
نفخ إلياس بضجر، ثمَّ سحب صحنهِ وبدأ يأكلُ بصمت، ضيَّقَ مصطفى عينيهِ وهو يجلسُ بجوارها قائلًا:
-إسلام كان بياخد رأيي في موضوع، إنتي عاملة إيه دلوقتي؟.
-الحمدُ لله حبيبي..
أشارت إلى غرام وقالت:
-حبيبتي قرَّبي الأكل لجوزك.
-ماما حبيبتي أنا واخد بالي من نفسي، ممكن تاكلي إنتي حضرتك.
نهضت ميرال وبدأت تسكبُ الطعامَ أمام الجميعِ في جوٍّ مليءٍ بالحبِّ والمودَّة، قطع صمتهم مصطفى:
-أرسلان يبقى خد معاد من باباك، عايز آجي أنا والولاد.
-البيت بيتك ياعمُّو، تنوَّرنا في أيِّ وقت، حضرتك مش منتظر ميعاد.
بلع طعامهِ وطالعهُ وهو يهزُّ رأسه:
-برضو ياحبيبي عرَّفه، كلَّ هذا وفريدة تنظرُ إليهم بصمت، بينما دنت ميرال رأسها من إسلام:
-إنتَ اتكلِّمت مع بابا علشان ملك؟..
كانت عيناهُ على إلياس الذي يأكلُ بصمتٍ فهزَّ رأسهِ قاىلًا:
-أيوة، عايزك تكلِّمي ملك وتشوفي ردَّها إيه..
أشارت برأسها إلى غادة وهمست إليه:
-قول لغادة، همَّا قريبين من بعض، وبعدين ممكن تتكسف منِّي..
-تمام.
بعد فترةٍ في غرفةِ إلياس..
خرج من الحمَّام وهو يلقي المنشفة بغضب:
– وبعدين؟! أنا مش قلت يبقى كلامك مع إسلام في حدود؟! إنتي مصرَّة تضايقيني؟!
توقَّفت ميرال، اتَّجهت نحوهِ بنبرةٍ مستغربة:
– مالك ياإلياس؟! عصبي كده ليه؟! أنا عملت إيه؟! ده كان بيطلب منِّي أكلِّم ملك بس!..
غرز أناملهِ في خصلاتِ شعرهِ كأنَّه يحاولُ أن يمتصَّ غضبه، وقال بنبرةٍ مكبوتة:
– ميرال...إسلام مبقاش صغير علشان تهزري وتضحكي معاه بالطريقة دي.
تلاعبت بأزرارِ قميصهس بدلال، وردَّت:
– حبيبي بيغير ولَّا إيه؟
– ده الِّلي فهمتيه؟! يعني الحلال والحرام لا؟!
ضحكت بخفَّة:
– أكيد بهزر، ده أخوك...وأخويا برضو.
– لأ يامدام، ده بينا بس...في الشرع والدين، لأ..حتى لو أخويا، لازم يكون فيه حدود.
ارتبكت وسألته:
– يعني إيه ياإلياس؟..
خطا للسريرِ وتمتم بصوتٍ واطي لكن حاسم:
– يعني مش عايز قرب من إسلام على انفراد، ولا حتى أرسلان...يزن أخوكي واتحمِّلت دي، غير كده، لأ.
- "حاضر" قالتها بنبرةٍ خافتة، وتراجعت بهدوءٍ وهي تتَّجهُ لغرفةِ الملابس..
جلس يزفرُ بالفراش ويمسحُ على وجههِ بغضب، خرجت متَّجهةً إلى السرير، وسحبت جهازها، وجلست تعملُ عليه بصمت، استدار يرمقها ثمَّ قال:
-مش هتنامي، الساعة اتناشر عندي شغل الصبح.
-مش جايلي نوم، قالتها وهي تنظرُ إلى جهازها..سحبهُ منها بغضبٍ وألقاه بعنفٍ على الأرض:
-من إمتى بنام لوحدي، زعلانة علشان بقولِّك الصح من الغلط؟!.
تسلَّلت دموعها على خدَّيها بصمتٍ من غضبهِ الغير مبرَّر، ظلَّت صامتة ولا تفعلُ شيئا سوى نظراتها بنقطةٍ وهمية..
سحبها لأحضانه، يمسِّدُ على خصلاتها:
-آسف اتعصبت، حبيبتي أنا عايز أدخل بيكي الجنة، يعني بلاش نتلاشى الحرام ياميرال، الحرام حرام والحلال حلال..
أخرجها من أحضانهِ وأزال دموعها ثمَّ رفع ذقنها يسبحُ بسواديتها:
-اعتبري بغير ياستِّي مش من حقِّي،
هوَّ أنا مش راجل وأستاهل أغير على مراتي؟..
-بس مش من إسلام ياإلياس، إسلام دا زيك بالظبط..
-نعم ياختي!!..هوَّ مين يابت اللي زييِّ؟!..
هزَّت رأسها سريعًا وحاولت أن تفهَّمهُ قائلة:
-قصدي إنِّنا متربيين مع بعض، وإنتَ عارف أخلاقه، مستحيل يحاول ينظر لي نظرة مش تمام.
-لا والله، هوَّ أنا مش عارف أخويا، ليه فهمتي كدا، أنا بتكلِّم في حاجة دينَّا حذَّرنا منها" إياكم والحمو" يعني حبيبتي (الحرام بيِّن والحلال بيِّن)
أنا مش بشك في حدِّ فيكم، بس ليه مانعملشِ بدينَّا..
-حاضر ياإلياس وعد مش هتكلِّم معاه على انفراد، بس فكَّرت هوَّ هيفهم إيه؟..
-لا أنا بفكَّر في حاجة تانية دلوقتي..
زوت مابين حاجبيها تتطلَّعُ إليه بتساؤل..
بسط كفَّيهِ على بيجامتها، ولم تشعر سوى وهو ينزعها يلقيها بالأرض:
-جاية تنامي جنبي ببيجاما..ليه مفكَّراني أخوكي؟..
-الجوِّ برد، كنت بردانة..
- بردانة!..ليه المدام وحيدة الفراش؟!.
أفلتت ضحكةً مرتفعةً ونهضت سريعًا بعدما علمت بما ينويه، تشيرُ بيديها:
-خلاص خلاص، أنا الِّلي أستاهل، خلَّعتك توب إلياس السيوفي..قالتها ودلفت للداخلِ وابتسامةً زيَّنت ثغرهِ إلى أن اختفت، تراجعَ يتنهَّدُ بهدوءٍ بعدما فاقت قوَّتهِ الاحتمال حتى لا يغضبها..
بفيلا الجارحي..
جلست بجوارِ طفلها الذي يجمعُ ألعابهِ التركيبية، دلف إليها أرسلان وجلس بجوارها:
-ضي نامت؟..
هزَّت رأسها تشيرُ إلى بلال بصمت، بسطَ كفَّيه إلى طفله:
-بلال..تعالَ لبابي..
ألقى الطفلُ اللعبة وأردف:
-أنا زعلان من بابي، ومامي..قالها وصعد إلى سريره..اتَّجه بنظرهِ نحو غرام التي احتضنت رأسها بين راحتيها:
-ماله؟..أطبقت على جفنيها محاولةً ألَّا تبكي ثمَّ نهضت من مكانها:
-بقاله فترة كدا، ماما صفية بتقولِّي بيغير، أنا معرفشِ إزاي نسيت الحتة دي، اهتمِّيت بضي ونسيته مع انشغالي بالكلية..
ربتَ على كتفها وأشار إلى الخارج:
-روحي شوفي ملك كانت بدَّور عليكي وأنا هتصرَّف..
أومأت وتحرَّكت دون إضافةِ شيئ، بينما تحرَّك أرسلان إلى طفله:
-حبيب بابي زعلان ليه؟..ظلَّ الطفل يضغطُ على الهاتفِ الذي بيدهِ بصمت، إلى أن جلس والدهِ بجوارهِ واحتضنهُ قائلًا:
-تعرف إنَّك وحشت بابي أوي، ومن إمبارح فضلت أفكَّر إزاي هتبقى فرحان من ألعابك دي، بابي لفّ البلد كلَّها علشان يجيب لبلال أحسن ألعاب في المكان.
-بابي أنا عايز أروح أقعد عند يوسف، عنده مامي بتاعته بتلعب معاه، أنا مفيش حد يلعب مع بلال غير جدُّو إسحاق، ومن زمان زمان هوَّ مجاش..
حمله وأجلسهُ على ساقيهِ وابتسمَ رغم شعورهِ بالحزن، لأنَّه شعر بالتقصيرِ مع طفله، طبعَ قبلةً فوق رأسه، وضمَّ كفَّيه يقبلهم:
-طيب إيه رأيك بابي الأسبوع دا يلعب مع بلال كلِّ يوم، ومش عايزك تزعل من مامي علشان هيَّ بتتعب كتير، بتروح الجامعة، وكمان بتذاكر، وكمان البتِّ ضي وحشة بتقعد تعيَّط كتير أوي، ومامي بتزعل علشان هي عيوطة، فبتشلها..
-يعني مامي زعلانة من ضي؟..
-أيوة علشان بتعيَّط كتير، والِّلي بعيَّط كتير بابي ومامي بيزعلو منُّه..
يالَّه بقى وسَّع لبابي مكان علشان ينام معاك الليلة ويحكي حدوتة حلوة لبلال.
صفَّقَ الطفلُ بسعادةٍ وعانق رقبةِ والده:
-بلال يحبِّ بابي قدِّ السما كلَّها
بمنزلِ آدم..
ولجت تضعُ أشياءها متَّجهةً إلى غرفةِ طفلها، وجدتهُ غافيًا فوق صدرِ والده، توقَّفت لدقائقَ تتطلَّعُ إليهم بسعادةٍ نطقتها عيناها قبل فمها، ثمَّ خرجت تبحثُ عن المربية، وجدتها تجلسُ مع الخادمةِ في المطبخ تتحدَّثُ وتسأل عن آدم، كالعاشقة التي تهيم بعاشقها..ظلَّت متوقِّفةً تستمعُ إلى حديثها، ثمَّ اتَّجهت إلى غرفتها وصرخت باسمها، ركضت إليها المربية، فألقت ملابسها بوجهها:
-حسابك هيوصلك، مع السلامة مش عايزة أشوف وشِّك قدَّامي..
استيقظ آدم على صوتِ زوجته، فوضع طفلهِ بهدوءٍ بمهده، ثمَّ خرج إليها، وجدها تدفعُ المربية للخارج:
-إيلين إيه الِّلي حصل حبيبتي؟..
أشارت إليها بغضب:
-البنت دي مش عايزاها يادكتور، اتِّصل بالمكتب خلِّيه يبعتلي ستِّ كبيرة، مش عايزة بنات مايصة ومسهوكة.
قطب جبينهِ يتطلَّعُ إلى غضبها بجهل، لا يعلم ماذا أصابها، اقتربت منه المربية:
-واللهِ يادكتور أنا ماعملت حاجة معرفشِ الدكتورة مالها، قالتها ببكاءٍ وهي تنظرُ إلى آدم ممَّا أشعل نيرانَ الغيرةِ بقلبِ إيلين لتتَّجهَ إليها وتجذبها من خصلاتها بقوَّةٍ تلقيها خارجَ شقتها، وأغلقت البابَ وصدرها يعلو ويهبط بانفعال، اقترب آدم يطالعها بذهولٍ وتساءل:
-إيلين إيه الِّلي حصل لدا كلُّه ممكن تهدي شوية؟!..
دفعتهُ غاضبة وأشارت إليه:
- مش عايزة أسمع صوتك سمعت ولَّا لأ..
ظلَّ واقفًا متصنِّمًا يراقبُ حركاتها الغاضبة، دلفت للداخل وبدأت تحطِّمُ كلَّ ماتلمسهُ يداها، دخل خلفها، واحتضنها من الخلف:
-ممكن تهدي وتقوليلي إيه الِّلي حصل معاكي، وإيه ذنب البنتِ الغلبانة الِّلي طردتيها دي؟..
استدارت إليهِ تدفعهُ كالمجنونة:
-عجباك وصعبانة عليك، أه ماهيَّ ملزَّقة للدكتور أربعة وعشرين ساعة، تقدر تقولِّي إيه الِّلي دخَّلها أوضتي إمبارح؟.. أكيد صدَّقت كهونتها إنَّها كانت بدوَّر على رائد، إزاي سمحت إنَّها تدخل عليك وإنتَ نايم يادكتور؟..
قاطعها بعدما جذبها بقوَّةٍ يحتضنُ شفتيها بعدما وجدَ غضبها الثائر..
ظهر اليوم التالي
فتح عينيهِ بصعوبة، فهو لم ينم طيلةَ الليل، ظلَّ يفكِّر فيما أخبرهُ به كريم، تذكَّر حديثهِ مع أرسلان منذ عمليةِ رؤى..
قبل عمليةِ رؤى بيومٍ اتَّجه يزن إلى منزل زين الرفاعي، خرج آدم إليه:
-يزن خير فيه حاجة؟..
أومأ له وأردف:
-هنتكلِّم على الباب، جاي في موضوع مهم، ولازم أقابل والدك..
أشار إليه بالدخول ورد:
-بابا مش هنا، سافر لعمتو، توقَّف متسمِّرًا للحظات ثمَّ قال:
-طنط زهرة؟..
اومأ له فاستندَ على الباب وقال:
-آدم قول لوالدك أنا رجَّعت رحيل بعد سفرها بشهر، دوَّرت عليها كتير لحدِّ مالقيتها وحاولت أفهِّمها إنِّي رجَّعتها بس مادتنيش فرصة، إحنا الاتنين محتاجين بعض ياريت تكلِّمها وتخلِّيها ترجع، مش عايز أتعامل معاها بالقانون..
قالها وغادر دون إضافةِ شيء.
ظلَّ آدم يراقبُ تحرُّكه، ولم يشعر بوصولِ إيلين..
-آدم..واقف كدا ليه؟..استدارَ إليها وأشار على يزن:
-يزن رجَّع رحيل لعصمته تاني..
-إيه الهبل الِّلي بتقوله دا، إزاي وهمَّا مطلَّقين بقالهم أكتر من سنة، لكنَّها توقَّفت عن الحديثِ وقالت:
-قصدك رجَّعها في شهور العدَّة، طيب سافرت إزاي من غير إذنه؟..
هزَّ كتفهِ بجهل..وتوقَّف ينظرُ إلى زوجته:
-معرفشِ ليه رحيل مصرَّة على السفر، طيب هوَّ رجَّع لها كلِّ أملاكها، ليه سافرت؟..
-معرفشِ والله ياآدم، وسفر خالو كلِّ شوية دا برضو مش مريَّحني.
بمكتبِ إلياس..
دخل أرسلان ملقيًا التحية، رفع رأسهِ من فوقِ جهازهِ يشيرُ إليه بالجلوس:
-عامل إيه؟..
-أنا كويس، بخلَّص شوية شغل علشان هروح المستشفى، طارق ويزن وميرال بيعملوا تحاليل علشان عملية رؤى.
-ليه مقولتش ليزن إنِّ رحيل كانت حامل؟.
ابتعد عن الجهاز وأسندَ ظهرهِ بالمقعد:
-إنتَ الِّلي ساعدت يزن، ينزِّل رحيل مصر؟.
-أيوة علشان يرجَّع لها أملاكها وكمان يعرَّفها أنُّه لسة جوزها.
-طيب ليه مقالهاش أنُّه لسة جوزها؟.
-كان عايز يقولَّها بس هيَّ رفضت تسمعه وكمان اتكلِّمت عليه في المحكمة، إنتَ مجرَّد ميرال حكت لراكان كنت هطلَّقها، تخيَّل دي فضحته قدَّام الكل..
توقَّف إلياس من فوق كرسيه، واتَّجه إليه يجلسُ بمقابلتهِ وهو يشعلُ سيجارتهِ ثمَّ رفع عينيهِ إليه:
-طيب بعد الِّلي سمعته شايف من حقُّه أنُّه يرجَّعها غصب؟.
-دا مش غصب ياإلياس هوَّ عايز يقرَّب المسافات.
رفع إلياس إصبعهِ ليقاطعهُ بالكلام:
-أرسلان أنا مبحبش أدخل في الخلافات الخاصَّة، ورغم كدا كنت هساعد يزن، لحدِّ قبل المحكمة رغم إنِّي رفضت أساعده يرجَّع رحيل، بس بعد الِّلي سمعته والِّلي عرفته هوَّ يحلِّ مشاكله بنفسه، عايز تساعده براحتك، بس أنا كإلياس شايف أنُّه غلط، محبتشِ طريقته، هوَّ فيه راجل عاقل يساوم مراته على الطلاق..
-يعني إيه؟..
-روح اسأله، وفكَّر ليه رحيل سافرت وخبِّت عنُّه حملها، أنا في لحظة كنت هقولُّه، بس كلامه نرفزني وهوَّ مصر أنُّه مغلطش..
-لا، أفهم، هيَّ مش زعلانة علشان أنُّه خبَّى عليها أنُّه ابنِ راجح؟..
-مقدرشِ أجاوبك على أسئلتك، أنا من بعد ماعرفت إنَّها كانت حامل وولدت، طلبت منُّه يسافرلها ويحاول يصالحها، بس هوَّ رفض، حتى مخلنيش أكمِّل كلامي، كنت عايزه يسافر علشان يعرف أنُّه له ولاد، رد عليَّا ابنِ راجح لمَّا أحتاج مساعدتك يبقى تعالَ قدِّم نصايحك.
-برضو مقولتش ليه دا كلُّه؟.
-لأنُّه استخدم البنت في انتقامه من راجح، وساومها على الطلاق بليلة..
توسَّعت عيناهُ يهزُّ رأسهِ رافضًا مايستمعُ إليهِ متسائلًا:
-هوَّ اللي قالَّك؟!.
-إنتَ مجنون، هوَّ يقدر يقولِّي حاجة زي كدا، قال لميرال.
أومأ متفهِّمًا وتمتم:
-كدا فهمت الِّلي حصل، يعني هوَّ استخدمني بنفسِ الطريقة..
-يعني ايه
-يعني استخدمني علشان ينتقم من راحيل وقالي سافرت وهي مزورة علشان ميعرفش ..ومفمتش حاجة لاني مركزتش وقتها كل تفكيري في قضية راجح
-انسى، المهم هتيجي معايا ولَّا لأ؟..
توقَّف وتحرَّك للخارج:
-هستناك في العربية.
بعد فترةٍ بالمشفى..
كانت تجلسُ بمقابلته..
-يعني عايزني أتِّصل برحيل وأقولَّها إنَّك تعبان وبتموت ولازم تنزل مصر، لا أكيد بتهزَّر..
-صمتٌ دام بينهم لثواني، ثمَّ هزَّت رأسها بعدمِ اقتناع:
-أنا مش مقتنعة بكلامك دا، طيب إيه رأيك أكلِّمها وأقولَّها على العملية وهيَّ أكيد هتيجي.
-ميرال اسمعي الِّلي بقولِّك عليه وتنفِّذيه وخلاص، ماهو أنتوا الستَّات عليكم بجاحة من عجب..
توسَّعت عيناها تشيرُ على نفسها:
-أنا بجحة، طيب شوف مين هيعمل الِّلي بتقوله.
جذبها من كفِّها، حتى هوت فوق المقعد:
-اقعدي يابت إنتي مابتصدَّقي، شوفي كلميها ومالكيش دعوة
رفعت حاجبها بتذمُّر وأردفت بامتعاض:
-ومين قالَّك هكلمها واقولها حاجة اصلا، أنا عارفة طلاقي هيكون على إيدك إن شاءالله..
زوى حاجبيهِ مستنكرًا لهجتها:
-طلاق مين ياختي، عليَّا!!..دا أنا الِّلي بقيت خايف على إلياس منِّك، بتحوَّري على مين يابت، قومي قومي شغَّلي دماغك معايا بدل ماإنتي مشغَّلاها مع جوزك، واللهِ له الجنة، معرفشِ بيحبِّك على إيه جته خيبة..
دفعتهُ بالوسادة وهتفت بغضب:
-تصدَّق أنا الِّلي هساعد البتِّ دي إنَّها تتخلَّص منَّك، عيل رذل..قاطعهم دخولُ إلياس وأرسلان:
-جاهز؟..الدكتور هيعدِّي بعد شوية، طارق خلَّص التحاليل، عقبالك..
اقتربَ أرسلان منه، وتوقَّف يحدجهُ بنظراتٍ صامتة، فرفع ذقنهِ متسائلًا:
-مالك يابني بتصوَّرني ليه؟.
-بقى أنا ينضحك عليَّا من مزيِّت، طب والِّلي خلق الخلق لأعلَّقك في ورشتك بعد العملية، ولَّا ليه عملية منَّك، هيَّ البتِّ ناقصة تقلِ دم..
نهض من مكانهِ يشيرُ على نفسه:
-إنتَ بتكلِّم يزن السوهاجي يالا..اقتربَ الآخر يطالعهُ بنظراتِ تحدِّي:
-لا ياطعم بكلِّم يزن الشافعي، مش قالولك التزوير حرام..
-أنا زورت ايه يامتخلف
-إنت استخدمتني وضحكت عليا، زي اللي عملته في البنت المسكينة
-اخرص يالا مش عايز اسمع صوتك..
بس إنتَ وهو، صاح بها إلياس ونظر إليهما
- إحنا في مستشفى، ثمَّ التفتَ إلى يزن:
-وإنتَ ياأهبل، بتحسِّسني إنَّك داخل تستجم، هتعمل عملية يابغل، يعني ممكن تموت، وبتفرد ضلوعك..
-اذكروا محاسن مواتكم..قالها أرسلان بغمزة..
خرج يزن من شرودهِ على رنينِ هاتفه:
-أيوة ياباشا، المدام دلوقتي خرجت من الشركة وقاعدة في مطعم مع راجل هبعتلك صورته.
لحظات ووصلت إليه صورتها تتحرَّكُ بجوارِ أحدهم، ارتدى ملابسه سريعًا وخرج كالجندي الذي يتربَّصُ للعدو.
بعد فترةٍ وصل إلى المطعم، ترجَّل من دراجتهِ البخارية، وتحرَّك للداخل..
عند إلياس كان منشغلًا بالعملِ مع بعض فريقه، استمعَ إلى رنينِ هاتفه:
-إلياس..
توقَّف بعدما استمعَ الى اختناقِ صوتها:
-أيوة ياميرال؟.
-يزن خرج رايح لرحيل، رؤى سمعته وهوَّ بيتكلِّم في التليفون، بتقول مطعم في وسطِ البلد، الحقه ليرتكب جريمة..
-اهدي وأنا هتصرَّف.
عند يزن دخل وجلسَ بإحدى الطاولاتِ يطوف بنظراتهِ بالمطعمِ كاملًا، وقعت عيناهُ على جلوسها، ارتفعت دقَّاتهِ بعنفٍ وهو يراها كالحلمِ أمامه، ضحكاتها الندية، وعيناها اللامعة، رغم بُعدِ المسافاتِ إلَّا أنَّها مازالت شمسهِ الساطعة، اشتعلت نيرانُ الغيرةِ بصدرهِ عندما وقع بصرهِ على ذلك الرجلِ الذي يلتهمها بعينه..
نهض من مكانهِ بعدما انحنى الرجلُ واقتربَ يسحبُ كفَّها، ثارت جنونُ الغيرةِ بداخلهِ حتى تحوَّلت إلى نيرانٍ ملتهبة، وصل إليهما حينما
سحبَ رؤوف كفَّها واحتواهُ بين راحتيه، أنا من إمبارح وأنا معرفتش أنام، رحيل تتجوزيني؟..
-أه ياحبيبي تتجوزك، وترفضك ليه وأوصَّلها لك كمان..إيه رأيك في عريس الغفلة يامدام؟..
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ تنظرُ إلى وجودهِ المفاجئ، اقترب ودفعها بقوَّةٍ على المقعدِ وحاوط جسدها بين ذراعيها:
-حمدَ الله على السلامة يامدام..
-إنتَ مين؟!..وإزاي تدخل علينا!!..
جذبهُ من ياقتهِ ودفعهُ بقوَّة حتى سقطَ على الأرض:
-أنا هقولَّك ياحليتها أنا مين..
أمسكت ذراعيهِ تتلفَّتُ حولها تنظرُ إلى الجميع، حاولت إبعاده:
-يزن، إنتَ اتجنِّنت إيه اللي بتعمله دا؟..ابعد عنُّه..
اعتدل بجسدهِ يرمقها بنظراتٍ كالسهامِ الناريةِ وهتف بنبرةٍ شرسة:
-دورك لسة جاي يامدام، اعتدل الآخر يدفعهُ بقوَّةٍ ويبعدهُ عنها:
-إنتَ إزاي تقرَّب منها كدا، إنتَ أكيد واحد مجنون!!.
-أيوة وليس على المجنون حرج..قالها يزن ودفعهُ بقوَّةٍ بالنافذةِ الزجاجيةِ التي تساقطت بالكاملِ فوقه، مع صرخاتِ رحيل باسمه، التفتَ الآخر إليها كالذي فقدَ عقلهِ وأشار إليها بنبرةٍ تهديدية:
-دقيقة واحدة لو لقيتك واقفة قدَّامي هو..لَّع فيكي وفيه..
تجمَّع الأمنُ الخاص بالمطعم وحاولوا إبعاد يزن إلَّا أنَّهُ تحوَّل إلى وحشٍ ضاري، يريد أن ينقضَّ على كلِّ من يقابله، سحبها بقوَّةٍ وخرج بها من المكان في محاولةٍ يائسةٍ من الإفلاتِ من قبضته، وصل إلى سيارتها ودفعها بقوَّةٍ وعيناهُ نيرانًا تلتهمها:
-إيه قطعت خلوةِ المدام المحترمة؟..
حاولت دفعهِ مع وصولِ الشرطة في وضعٍ تأزَّمَ بينهما تمامًا حينما صاحت باسمِ الضابط واتَّهمتهُ باختطافها، هنا ثار جنونُ غضبهِ واقتربَ منها..مع وصولِ إلياس يبعدُ الظابط عنه، بعدما أشار ببطاقته، ثمَّ رمقَ رحيل بغضب:
-إيه يامدام رحيل هوَّ فيه حد يبلَّغ عن جوزه برضو..
جوز مين ياحضرةِ الظابط؟..
-دفعها يزن بقوَّة بالسيارة، وأغلقَ الباب بعدما اقتربَ الآخر منها:
-رحيل إحنا ممكن نودِّيه في داهية، مين المتخلِّف دا؟.
-روح ياحبيبي ماما بدوَّر عليك علشان ميعاد الرضعة، قالها يزن وصعد إلى السيارة يقودها بسرعةٍ جنونية، مع صرخاتها:
-إيه الكلام الِّلي بيتقال دا، جوز مين إن شاءالله؟..أنا مش مرات حد، إنتَ أكيد مجنون، ولَّا بتلعب عليهم ماهو اللعب في دمَّك..
-قسمًا عظمًت، لو نطقتي حرف تاني لأخدك في مكان، وأعرَّفك إنِّك مراتي ولَّا لأ.
فتحت فمها للحديث، إلَّا أنَّه أوقف السيارة فجأة، لتدورَ السيارة بسرعةٍ رهيبةٍ كادت أن تنقلبَ بهما، ممَّا جعلها تحتضنهُ من الخوفِ وتصرخ..
هدأت السيارةُ مع ارتفاعِ أنفاسهِ من قربها، ابتعدت بعدما شعرت بيدهِ حول جسدها، وتمتمت بتقطُّع:
-ممكن تفهمني؟..
-لا مش ممكن..قالها واتَّجه بها إلى منزلها، ترجَّلت سريعًا واتَّجهت للداخلِ تشيرُ للحرس:
-الباشمهندس مايدخلشِ الفيلا مهما حصل..ظلَّ بالسيارةِ لبعضِ الوقتِ علَّهُ يخرجُ غضبهِ بعيدًا عنها، ثمَّ رفع هاتفهِ وهاتف زين:
-أنا عند بنتِ أختك، وعرَّفتها إنَّها لسة مراتي، بس الأستاذة مسلَّطة عليَّا الحرس، متسألنيش على اللي هيحصل، قالها وترجَّل من السيارة يغلقُ البابَ بعنف..اقترب أحدُ الحرسِ منه:
-لو سمحت ياباشمهندس.
-تاخد شوية العيال دي وتشوف مكان تلعب فيه، يالَّه...صاح بها يزن، ثمَّ دلف للداخلِ وهو يدفعُ البابَ بقدمه.
-لو مفتحتيش الباب دا هكسره على دماغك..فتحت زهرة إليه:
-إيه يابني الهمجية دي؟!.
-لا والله، وليه ماقولتيش لبنتك المحترمة..
بالأعلى قبَّلت ابنها وأشارت إلى ألعابه:
-حبيبي، مامي هتنزل تعمل حاجة تحت، أوعى تنزل أوكيه..
أومأ الطفلُ الذي لا يستوعبُ حديثها، ثمَّ رفعت عينيها إلى المربية:
-ماتخلِّيش حد من الولاد ينزل تحت مهما كان.
-حاضر يامدام.
هبطت للأسفلِ عاقدةً ذراعيها على صدرها:
-دا الباشهمندس مش بس أستاذ في الكذبِ والخداع، لا وفي الهمجية واقتحامِ البيوت.
-بقولِّك قدَّام والدتك لمِّي الدور، وخلِّينا نرجع بيتنا.
بالاعلى بكت الطفلة، فاتَّجهت المربية تحملها مع دخولِ الخادمة تحملُ طعامَ الأطفال..
-أكلِ الولاد حضَّرته.
-إيه الصوت الِّلي تحتِ دا؟.
-معرفشِ وأحسن متسأليش.
أنا بسأل البنت بتعيَّط والولد كمان، فبسأل علشان المدام تاخد حدِّ منهم..
حملت الخادمة الطفل:
-أنا ههتمّ بآسر، وإنتي خلِّيكي مع رولا، هنزل أشوف الأكل وهرجع لك تكون رولا هديت.
-تمام..قالتها المربية..
تحرَّكت الخادمة إلى المطبخ، ودلفت وهي تداعبُ الطفل، شهقت بعدما استننشقت رائحةَ الطعامِ المحروق، فوضعت الطفلَ أرضًا وركضت إلى الغاز لتعاينَ الطعام..خرج الطفلُ الذي يتحرَّكُ ببطء، يخطو مرَّةً ويسقطُ مرَّة مع ضحكاتهِ وسعادتهِ بحركاتهِ بمفرده، وصل إلى صوتِ والدته:
-أكيد إنتَ كذاب.
صاحت زهرة بها:
-لا يارحيل يزن بيقول الحقيقة، دا الموضوع الِّلي كنت مخبياه عنِّك..
رجفةٌ أصابت جسدها تنظرُ إلى والدتها بصدمةٍ حاولت النطقَ ولكن ثقُلَ لسانها ولم تقوَ على التفوُّه:
-إزاي، يعني إيه؟!..
قاطعهم صوتُ صغير…هش، لكنَّه أقوى من كلِّ صراخِ الدنيا:
– ماما…
كأنَّ الزمنَ تجمَّد..
كأن الكونَ توقَّف ليصغي لهذا النداء…
تصلَّبت أطرافها، ثمَّ استدارت كمن صُفعَ على وجهه..
طفلها؟! ..طفلها يناديها أمامه؟!
تجمَّد يزن، وشُلَّت قدماه، وكأنَّ من طعنهُ لم يكتف…بل غرسَ السكين في عمقِ قلبهِ ولفَّها ببطء.
هرعت رحيل إليه، احتضنتهُ بذراعيها، بل بقلبها، وبروحها…
بينما يزن يحدِّق، لا يرى سوى شفاهُ الطفلِ تنطق… "ماما"
يا الله…أيُّ جريمةٍ هذه؟!
– خدي آسر..طلَّعيه أوضته، بسرعة..
لكنه توقف على الاسم…
ماذا قالت ...اسر !!
اسمٌ كفيلٌ بأن يُشعلَ نيرانَ الغضب في صدره.
– آسر؟!
قالها بذهول…
بنبرةٍ تحملُ مزيجًا من الخيانة، والانكسار، والانهيار، انفجرَ صوته:
– استنيييييي!!
وصل إليها بخطواتٍ نارية، كأنَّ الأرضَ تشتعلُ تحت قدميه..
انتزع الطفلُ من ذراعِ المربية بقسوة، احتضنهُ كمن يستردُّ جزءًا من روحهِ سُرقَ منهُ منذ سنوات..
التفتَ إلى رحيل…
وصوتهِ يقطِّعُ الحناجر قبل القلوب:
– ابنِ مين دا؟!
صمتت..لكن ليس صمتُ الهدوء..بل صمتُ من سقطت عليها قنبلةُ مشاعر، فمزَّقتها ولم تترك لها سوى أنفاسٍ متقطِّعة… ودموعٍ حبستها العيونُ بالقوَّة.
فصرخ..صرخَ كمن يُقتل حيًّا:
– ردييييي!! ابنِ مين دا؟!
ارتجفَ الطفلُ من هيئته، وبكى بكاءً موجعًا، ناحبًا في حضنِ أمِّه.
جذبتهُ بعنف، واحتضنتهُ بقوَّة وهي تصرخ:
– مالك؟! دا ابني..مالكشِ حاجة عندي..
اقترب منها كالمجنون، كوحشٍ كُسرَ قيدهِ بعد سنواتِ سجن..
وقفت زهرة بينهم، لكن هيئتهِ اخترقت الجدارَ البشري.
– ابنك؟!...ابنك؟! قالها بعيونًا مذهولة
وبتخبِّيه عنِّي؟!
التهبت عيناه بدموعٍ لم تسقط، لكنَّها كانت كفيلةٌ بأن تُغرقَ الأرض..
ونظر إلى الطفل…
كل ملامحهِ تصرخ: "أنا ابنك"
دمه…جلده…عينيه…
– يا الله، أنه نسخة مصغرة منه…
هل هذا حلم؟ كابوس؟
ولَّا…الحقيقة القاتلة؟!
اقترب منها…سحب الطفلُ من بين ذراعيها كما تُسحبُ الروحُ من جسد.
وقبَّله…
قبلةً تقطرُ وجعًا…ولهفة…وحرمان.
الطفلُ يبكي، يتلوَّى من الخوف…
ويزن يبكي بصمت…
صمتُ رجال، حين تسقطُ كلَّ جدرانهم.
– دا…دا ابني؟
ابني؟! كررها بدموعه، يضمه بقوة يريد أن يلتحم عظامه بعظام طفله
أنا…بقيت أب؟! وإنتي حرمتيني؟!
ليه؟!!
نظرت إليه بعينينِ متحجِّرتين…
ثمَّ ألقت الحقيقة كالرصاص المخترقة بالجسد:
– لأنُّه مش من حقَّك.
حقَّك ضيَّعته بإيديك ياباشمهندس..
فاكر؟
أنا اتنازلت عن كرامتي، عن نفسي، علشان أتحرَّر من سجنك…
كنت كذَّاب، خابن، مغرور…
إزاي كنت عايزني تكون أب؟!
– بس ابنييييي!!!
كان لازم أعرف!
– لا!
أنا اللي قرَّرت…وأنا اللي اتحمِّلت..
وإنت…ملكشِ مكان في حياتنا..حتى لو رجعتني يايزن انا مش عايزاك
دخلت والدتها، وجذبت ذراعه، همست برجاء:
– اقعد…خلينا نتفاهم.
– نتفاهم ؟!
أنا جيت أرجَّعها…لقيتها مخبِّية ابني؟!
ابني!!
– إنتَ ملكشِ ولاد عندي..
اطلع من هنا لو راجل، ما تخلينيش أطلب الشرطة.
– رحيل…اسكتي، صرخت بها زهرة، لكن النار كانت قد اشتعلت.
كأنَّ كلَّ مابداخلهِ انهار…
سحب الطفلُ منها مرَّةً تانية، وهو يصيح:
– وإنتي كمان يا بنتِ العامري يبقى قابليني لو شوفتيه تاني..!!
قالها وتحرك بخطوات تأكل الأرض
ركضت خلفه، تصرخ، تنهار، تصفعُ الهواءَ بكلتا يديها..
-يزززززن، ابني يايزن هقتلك
دخل زين وآدم في تلك اللحظةِ
فزع، وذهول، وصرخات ترتفعُ بين السماءِ والأرض من جوف رحيل
– كنتوا عارفين إنِّ ليَّا ابن وساكتين؟!
– يزن…ممكن نهدى و…
– مفييييش تفاهم!!!
دفعتهُ رحيل بقوَّة، وصرخت كالمذبوحة:
– عايز منِّي إيه؟!
سرقت شبابي، عمري، وضحكتي…
أنا بكرهك يايزن!!!
يارب تموووت!! وأخلص منَّك!!..
قالتها لتشعر بضعف جسدها وتهاويه، ولكن قبل أن تسقطَ على الأرض،
تلقفها ادم من السقوط…احتواها، يحتضنها، لينقذها من الارتطام…
لكن من ينقذُ قلبها من الارتطامِ الأكبر؟!
طالعها يزن بعيونا باردة وادم يحملها ويدخل بها للداخل، مع بكاء الطفل كأنه يشعر بوالدته، ورغم ذلك حمله وتحرك يضمه متجها إلى منزله وهو يتمتم
-ملعون الحب اللي يزل الانسان، كل واحد لازم ياخد حقه
بعد سنة
بفيلا السيوفي..
انتهت من تجهيزِ نجلها إلى الحفلة، ثمَّ جلست أمامه:
-حبيبي عرفت هتعمل إيه في الحفلة، وعايزاك تبقى واثق من نفسك، إنتَ مش ضعيف، يوسف الشافعي أقوى بطل وهيمثِّل دور صلاح الدين أحسن من صلاح الدين نفسه.
ابتسم الطفلُ ورفع يده:
-أيوة ياماما أنا بطل زي صلاح الدين ولمَّا أكبر هموِّت اليهود كلُّهم ونحرَّر قدسنا، وهمسك السيف وأقول
واإسلاماه..
ضمَّتهُ إلى أحضانها وابتسمت حتى لمعت عيناها بطبقةٍ كريستاليةٍ وقالت:
-بس مش صلاح الدين الِّلي قال
واإسلاماه ياحبيبي.
ابتعد الطفلُ عن أحضانها:
-عارف ياماما، بس يوسف هيقول واإسلاماه زي قطز لمَّا وقَّف المغول يرعبهم وزي صلاح الدين ماقال:
"لا تظنُّوا أنَّني قاتلت الصليبيين لحبِّ القتال، إنَّما قاتلتهم لأحرِّر الأقصى."
بعد فترةٍ دلفت بجوارهِ إلى مدرستهِ التي يُقامُ بها الحفل، فقد اختيرَ ليؤدِّي دورَ صلاح الدين الأيوبي بإحدى الاحتفالاتِ التاريخية، ليبثُّوا لأطفالنا كيف تعودُ الحقوقُ لأهلها..
جذبت المقعدَ وجلست منتظرةً ابتداءَ الحفل، وصلت غادة وإسلام يسألونَ عنه، أشارت إلى الداخل:
-دخل علشان يجهز، أنا خايفة أوي، خايفة ميعرفشِ يمثِّل ويزعل..
ربتت غادة على كتفها وطالعتها بابتسامةٍ حنون:
-أنا عكسك بقى، علشان شوفته وهوَّ بيعمل بروفة مع إسلام، بالعكس لايق له الدور أوي، يارب يابنِ أخويا أشوفك بطل زي صلاح الدين.
لكزها إسلام:
-بالراحة ياختي، صلاح الدين مرَّة واحدة، يوصل أحمد المنسي الأوَّل وبعد كدا نطلع فوق..قاطعهم الإعلان عن فقراتِ الحفل..تطلَّعت خلفها بحزن، ظنًّا أنَّ إلياس سيحضر، شعرت باليأسِ لأنَّه خذل طفلهِ ونسي حفله، تراجعت بجسدها وظلَّت تنتظرُ طفلها يظهر على خشبةِ المسرح، شعرت بجلوسِ أحدهم بجوارها من الطرفِ الآخر ، اتَّجهت بنظرها وجدتهُ ملهمَ روحها يضعُ هاتفهِ فوق الطاولةِ متسائلًا:
-آسف اتأخَّرت، الطريق زحمة أوي، وكان عندي شغل متأخَّر، قاطعتهُ وهي تضعُ أناملها على فمهِ وابتسامةً أحيت روحها ولمعت عيناها تتمتم:
-المهم إنَّك جيت، كنت خايفة تسيب ابنك في يوم زي دا، أنزل كفَّيها بهدوءٍ يتلفَّتُ حولهِ ثمَّ ردَّ عليها:
-ليه مجيش؟!. هوَّ يوسف ابنك لوحدك، بالعكس أنا فخور بيه، علشان هوَّ عارف بيعمل إيه، وفخور إنَّك والدته وبتحاولي تبني فيه قيم في زمن معدوم القيم، ربِّنا يباركلي فيكي حبيبتي.
ضحكت عيناها قبل شفتيها وهمست وهي تنظرُ لعينيه:
-أنا اللي فخورة إنَّك جوزي، وبعدين أوَّل مرَّة تقولِّي حبيبتي برَّة أوضتنا، تتحسد ياحضرةِ الظابط.
رفع حاجبهِ ساخرًا:
-واللهِ الستَّات دي عايزة مجلَّدات للفهم، قاطعهم صوتُ المعلمة عن بدءِ فقرةِ يوسف، خرج نجلهما وهو يرتدي ثيابًا شبيهةً بثيابِ صلاح الدين الأيوبي، يحملُ سيفًا ويقفُ حولهِ جنودهِ يصيحُ بهم:
"يارجالَ الله…هذا يومٌ من أيامِ السماءِ على الأرض..
ذاك بيتُ المقدسِ ينتظرُ خطواتكم الطاهرة…فاضربوا ضربتكم، لا رحمةً لمن دنَّسَ أرضُ الرب..
لا تقاتلوا لهوى النفس..قاتلوا لأجلِ الأرواحِ التي سُحقت، والأرضِ التي سُلبت، والحقِّ الذي أُهين..
فواللهِ ماخرجنا طلَّابًا لملك، ولا عشَّاقًا لدم…بل جنَّدنا أنفسنا لنكونَ سيوفًا في يدِ العدل."
(ثمَّ يرفعُ سيفهِ نحو الشمس، المشتعلةِ فوق الرؤوس):
"من أراد الجنَّة، فها هي أبوابها تُفتحُ على وقعِ خطاكم..
ومن رام النصر، فالنصرُ لنا مادمنا لا نخونهُ بضعفٍ أو رياء.
اليوم…نكسرُ الصليب، ونردُّ للأقصى قُبَّته، وللأذانِ صداه..
اللهُ أكبر…حيَّ على الجهاد."
(ويهتفُ جيشٌ الذي يمثِّلهُ بعض الأطفالِ الآخرينَ خلفهِ كعاصفةٍ تهزُّ الأرض: "اللهُ أكبر..اللهُ أكبر")
ارتفعت القاعةُ بالتصفيقِ والتهليل:
اللهُ أكبر اللهُ أكبر..
توقَّف إسلام يطلقُ صفيرًا وينادي باسمه، بينما خطا إلياس إليه بعدما قام الجميعُ احترامًا لهذا المشهد الذي أبكاهم..ليس كمشهدٍ تمثيليٍّ وإنَّما مشهدًا سُرق من القلوب ِولم يعد سوى ذكرى، فليت يعودُ صلاح الدين..
فإن سألوكم عن الأقصى فقل لهم لقد ماتَ صلاح الدين الأيوبيّ.
وصل إليه إلياس وحملهُ يضمُّهُ وقبلاتٍ عديدةٍ على رأسه..فرح الطفل وشعر بالحبورِ من نظراتِ والدهِ وافتخارهِ به، ناهيك عن نظراتِ الجميعِ نحوه، فخورًا بهِ
ولإتقانهِ للمشهدِ كما طُلبَ منه وأكثر.
خرج الجميع بعد فترة من الحفل، اتجه إلياس وميرال لسيارتهما، بينما توقف اسلام وأشار إلى غادة
-هتيجي معايا، هعدي على ملك في الجامعة
-طيب مش المفروض اقول لالياس ولا ايه
-هو انا مش معاكي، ياله يابنتي، انتي رايحة مع اخوكي لخطيبته
تحركت معه ضاحكة
-يادي خطيبته اللي بقالها سنة متخللة جنبك يابني ..
↚
الخاتمة الجزء الثاني
"لا إله إلا أنت أستغفرك واتوب اليك "
"اللهم استرنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض عليك "
مقدمة "ختامها مسك"
يا من سكبتَ النورَ في أوردتي
وجعلتَ من وجدي نشيدَ مُقلتي
أنتَ الرجاءُ إذا تناثرَ حائرًا
وأنتَ سلوى القلبِ في أزمتهِ
ملكتَ عمري فاستقرَّ بحبّك
ما عادَ يسكنني سواكَ بديلًا
في حضرتكْ تنسابُ أنفاسي ندىً
وتفيضُ أشواقي حنينًا جليلا
ملكتَني... حتى غدوتُ كأنّني
ظلُّ امتدادِك، لا يزولُ بحالِ
ما كنتُ أعرفُ أنَّ حبّك قاتلي
حتى غدوتُ جثّةَ الانهيالِ
فكيف أنجو من هواكَ وقد غدا
في القلبِ موصولًا، وفي الروحِ مقيلا؟
قل لي، بربِّك، كيف أفلتُ من يدٍ
أقسمتَ أن تبقى، بكلِّ احتمالي؟
قبل عامٍ مضى..
بفيلا العامري، بعد اغماء رحيل
ضمَّ ابنهِ إلى صدرهِ كمن يحاولُ أن يقوى، وتحرَّك بخطواتٍ ثقيلةٍ نحو الباب، بينما ارتفعت صرخاتُ طفلهِ التي مزَّقت نياطَ قلبهِ وهو ينادي باسمِ والدته، حاول تهدئته، لكنَّه تلقَّى صفعةً صغيرةً من يدٍ واهنة، صفعةٌ زلزلت كيانه، تبعها بكاءًا متصاعدًا يشبهُ النحيب..توقَّف ينظرُ لطفله بعجز، ماذا عليهِ فعله، ذهب بذكرياته، هل خطفهُ والدهِ من والدتهِ عنوةً مثل مايريدُ فعله، ارتجفَ جسدُ الطفلِ من بكاءه وهو يتمتم:
-ماما..هنا شعر بأنَّ روحهِ تُسحبُ منه، ضمَّه بحنانٍ أبويٍّ يهمسُ لنفسه:
-اتجنِّنت يايزن، غضبك أعمى قلبك، اطلع من توب راجح، فرقت عنُّه إيه، مستحيل تكون بني آدم..استدار للتحرُّكِ للداخلِ مع خروجِ آدم، التفت إليه يزن، نظراتهِ دامعة حائرة...اقترب آدم حتى وقف أمامهِ مباشرة، وقال بصوتٍ موجوع:
- إنتَ كنت ناوي تاخد الولد فعلاً...
يايزن؟
شهق يزن بأنفاسٍ مكسورة، وهمس بصوتٍ متقطِّعٍ وكأنُّه يخرجُ من أعماقِ الروحِ لا من الحلق:
- إنتَ كنت عارف!! ثمَّ تابع: أنا جيت لك، وقلت لك أنا رجَّعت رحيل وسكت!
سكت وإنتَ أب زيي، ما فكرتش لحظة أنا حاسس بإيه؟
هزَّ آدم رأسهِ بيأس، وقال بصدقٍ موجوع:
- واللهِ ما كنت أعرف غير النهاردة... وبعد كمان مااتَّصلت ببابا..رحيل كانت مخبِّية على الكل..
لولا زيارات بابا ليها، ما كناش عرفنا حاجة..
ازداد بكاءُ الطفل، ليشعرَ بنغزةٍ بقلبهِ كخنجرٍ صغير، مدَّ آدم يدهِ بهدوء:
- هات الولد، يايزن...ارجع لمراتك، حلُّوا الِّلي بينكم...
ما ينفعشِ كده، علشان الولاد.
ضحك يزن بمرارة، وقال بصوتٍ متهدِّج:
- بنت عمِّتك...حرمتني من ابني سنة!!
سنة كاملة يادكتور!..
ثبَّت آدم عينيهِ فيه، وقال بحزمٍ ونبرةِ رجاء:
- وأنا بقولَّك، مش قدَّامكم غير إنُّكم تصفُّوا اللي بينكم علشان ولادكم..
ازدادت نظراتُ يزن اضطرابًا، وكأنَّ الزمنَ توقَّف من حوله، على كلماتِ آدم، ولادكم، تقدَّم آدم خطوة، وأخذ الطفلَ منهُ برفق، ثمَّ نظر إليهِ ونطقَ الحقيقة:
- يزن إنتَ عندك توأم...مش طفل واحد.
ارتجفَ جسدهِ كلِّه، كأنَّ صاعقةً مزَّقتهُ من الداخل، حاول سحبَ أنفاسهِ ولكنَّه كمن يختنق، فقال بصوتٍ بالكادِ خرج من بين شفتيه:
-ت...توأم؟!..
يعني...عندي ابنِ تاني؟!.
أومأ آدم، وربتَ على كتفه، ثمَّ أشار للداخلِ هامسًا:
- ادخل شوف بنتك..إنتَ عندك بنت وولد، يايزن.
لم يحتمل كلَّ هذا، ولم يشعر سوى
بساقيهِ تقودانهِ كأنَّهم لاتحملانِ جسدًا بل جبلًا من الألمِِ والاشتياقِ بآنٍ واحد.
دخل المنزل، ودموعهِ تنهمرُ بلا هوادة...
بات يفتِّشُ في كلِّ ركنٍ بالمنزل، وكلَّ جدارٍ ينظرُ إليه، بقلبٍ ينتفضُ من الخوفِ على ماسيراه، ثمَّ صاح باسمِ رحيل:
- رحيل أنا عندي بنت؟!..
صرخها من قلبه، خرجت زهرة وهي تحملُ طفلةً صغيرة، ووجهها يشرقُ بالبراءة..
وصل إليها بخطوةٍ واحدة، انتزع الطفلةَ من ذراعيها وضمَّها إليه، وانهار..
إلى أن ركعَ على الأرض، يحتضنها، وبدأ يبكي ويتمتم:
-بنتي، أنا عندي توأم ..قالها وهو يضحكُ ويبكي في آنٍ واحد، يقبِّلُ ملامحها، رفع رأسهِ إلى زهرة يردِّدُ كالمجنون:
دي بنتي!. عندي ولدين!..جالكم قلب، طيب أعمل فيكم إيه..
جلست زهرة بجوارهِ تربتُ على كتفه، ثمَّ أشارت إلى آدم:
-هات آسر من المربية ياآدم..اتَّجهت نحو يزن الذي يحاوطُ ابنتهِ يريدُ أن يخبِّئها داخل ضلوعه:
-بنتي، رفعت الصغيرةُ عينيها لوالدها تبتسمُ وتتلاعبُ بقميصه، عكس أخيها، ليضحكَ من بين بكائه:
-أنا بابا حبيبتي..رفعت كفَّها الصغيرَ على وجهه، ليضمُّهُ يقبِّله..وآاااه حارقة من قوَّةِ المشاعرِ التي يشعرُ بها، كانت متوقِّفةً لدى الباب تنظرُ إليه ببكاء، اليوم أدركت أنَّها ارتكبت جرمًا لا يستهانُ به..
-يزن..قالتها زهرة ليرفعَ نظرهِ إليها ومازال يحتضنُ الطفلة، ثمَّ تابعت:
-أنا مش هلومك يابني على الِّلي قولته والِّلي عملته، لأنُّه من حقَّك، أنا معرفشِ إيه اللي حصل بينك وبين بنتي..بس رحيل مكنتشِ تعرف إنَّك رجَّعتها، وأنا معرفتش غير بعد ماهيَّ ولدت، الغلط الأكبر عندك.
-أنا عايز ولادي..قالها وهو يرفعُ عينيهِ إليها..قاطعهُ زين:
-حقَّك يابني ومفيش حد يقدر يلومك، بس إنتَ عايز ولادك وهيَّ عايزة ولادها، مفكرتوش في العيال دي؟..
اتَّجه بنظرهِ إليها وهناك الكثير من النظراتِ الغاضبة الممزوجةِ بالعتاب،
توقَّف يزن وهو مازال يحملُ طفلتهِ واقتربَ منها:
-عايزة تطلَّقي، عادي أطلَّقك وبالتلاتة، بس ولادي يعيشوا معايا، وعلى فكرة هكسب القضية من أوَّل جلسة، متنسيش أنا ابنِ راجح يامدام، يعني هدوس عليكم كلُّكم، مش قدَّامك غير اختيار واحد وبس، عايزة ولادك تيجي تعيشي معاهم، وأنا بقولِّك قدام خالك وابنِ خالك ووالدتك، أنا مبقتش عايزك، ومستحيل أوافق إنِّ ولادي يتربُّوا بعيد عنِّي.
-وهيَّ موافقة يايزن..نطقت بها زهرة سريعًا ترمقُ ابنتها بنظرةٍ تحذيرية..
دنت زهرة منهُ إلى أن توقَّفت أمامه:
-رحيل موافقة ترجع لك علشان الولاد، أنا مش هقف أتفرَّج على الحرب الِّلي بينكم وفي ولاد في النص..
اقتربَ زين منهم وقال:
-لا..قالها وهو يحدج يزن بنظرةٍ تهديديَّةٍ وأكمل:
-وقفت تهدِّدها قدَّامنا كأنِّ مالهاش أهل، عرفنا إنَّها غلطت، بس إنَّك تهدِّدها يابنِ راجح فإنتَ نسيت اللي واقف قدَّامك دا بيكون زين الرفاعي..
أوعى تفكَّر سكوتي ضعف منِّي، أنا صبرت عليك من أوَّل مااتجوزتها، وصدمة ورا صدمة منَّك، وأقول مش مشكلة الواد شكله راجل، بس إنتَ دلوقتي عدِّيت الحدود يابنِ راجح، أوعى تفكَّر إنَّك تهدِّدنا تاني، التفتَ إلى رحيل وسألها:
-عندك ولدين وهوَّ بيقول رجَّعك، الِّلي فهمته منُّه ماثبَّتشِ الرَّجعة، يعني بالقانون إنتي مش مراته، من أوَّل جلسة زي ما بتقولي أطلَّقك منُّه، بس يكون في علمك هيتحكم لولادك، يعني يابنتِ العامري ، محكمة واسمِ رحيل العامري كلِّ يوم أوَّل صفحات الجرايد، ثمَّ التفتَ إلى يزن:
-متقدرشِ تاخد الولاد مهما عملت، لأنُّهم في حضانتها، اقترب خطوةً وغرز عينيهِ بمقلتيهِ قائلًا:
-إلَّا إذا عملت إنَّك ابنِ راجح فعلًا، وعادي هتكسب القضية بأساليبك القذرة، بس افتكر يابنِ السوهاجي، وأنا بقولَّك دلوقتي إنَّك ابنِ السوهاجي علشان التربية الطيِّبة الِّلي فيك، هتاخدهم على قدِّ ماتاخدهم من أمُّهم بس مصيرهم هينتقموا منَّك زي ماإنتَ عملت، يبقى كان من الأوَّل أبوك يفضل عايش ومعاه الحق..
تراجعَ زين وأشار إليهم:
-أنتوا متلزومنيش، العيال دي بس الِّلي مخلِّياني أتعامل معاكم بالعقل،
هتروحي مع جوزك ويثبِّت رجعوك، وتتصافوا متتصافوش أنتوا حُرِّين، بس أذى يصيب العيال دي، قسمًا عظمًا هدخَّلكم مستشفى المجانين وآخد أربِّي العيال وأنا معارفي زي الرز، تحبِّ أجرَّب يابنِ السوهاجي؟..
قاطعهم ضربُ الطفلةِ لوجهِ يزن وارتفاعِ ضحكاتها، لتتطلَّعَ إليها رحيل بدموعٍ وهو ينظر إليها ويبتسمُ ثمَّ قال:
-وانا علشان الضحكة دي موافق، بس بشروطي يازين باشا..ولادي يتربُّوا في بيتي، غير كدا اعمل اللي إنتَ عايزه ميهمِّنيش، وأنا هعمل الِّلي أنا عايزه..
-موافقة..قالتها رحيل وهي تحملُ طفلها وتصعدُ للأعلى تنادي على المربية:
-هاتي رولا..توقَّفت على الدرج ثمَّ نظرت إليه:
-بكرة يبقى هاجي لك.
-لأ..دلوقتي ومش هتحرَّك من هنا غير بولادي يامدام.
صعدت للأعلى وهو ظلَّ يجوبُ بالمكانِ ذهابًا وإيابًا وعلى وجههِ ابتسامةً يتمتم:
-بابا..بقيت بابا..كانت زهرة تتطلَّعُ إليه بحزنٍ ثمَّ همست إلى زين:
-تفتكر هيحلُّوا مشاكلهم؟.
-بنتك عايزة تنضرب يازهرة، خلِّيها تلمِّ الدور، بحث عن آدم فتساءل:
-فين آدم؟.
-أشارت إلى الخارج وقالت:
-برَّة جاله تليفون..بعد فترة هبطت بحقيبتها تجرُّها، ثمَّ دفعتها إليه:
-اتفضل حاجات ولادك..
نظر إلى المربية التي تهبطُ تحملُ الطفل، والخادمة الطفلة، ثمَّ اتَّجه بنظرهِ نحوها:
-شيلي إنتي الهدوم، أنا هشيل الولاد..قالها وهو يأخذُ الطفلَ من بين أيدي المربية، ثمَّ أخذ الأخرى بذراعهِ
وقال:
-عارفين أنا مين؟.
تحرَّكت رحيل بغضبٍ وتمتمت:
-إنتَ الجبروتَ ياباشمهندس.
بفيلا الجارحي..
دخل مصطفى بصحبةِ إسلام وإلياس وفريدة، وكان في استقبالهم جميعُ أفرادِ العائلة..
تقدَّم إسحاق بخطواتٍ واثقة، بوجههِ المشرقِ بابتسامةٍ ترحيبيةٍ صادقة:
— أهلاً، أهلاً مصطفى باشا، قصر الجارحي نوَّر بحضوركم.
ردَّ عليه مصطفى بودٍّ ممزوجٍ بالهيبة:
- القصر منوَّر بأهله، ياإسحاق بيه.
ثمَّ التفت نحو فاروق، الذي لم يقلَّ ترحيبًا عن إسحاق ليشارك بكلماتِ الترحيب..
جلس الجميعُ في صالةِ الاستقبال المكسوَّةِ بالفخامةِ والهدوء، ساد بينهم جوًّا من الودِّ والتقدير، امتزجت فيه الكلماتُ العامَّةُ ببعضِ الأحاديث الجانبية.
بعد قليل، وصلت صفية بصحبةِ دينا، بجوارها خادمتين، تحملانِ صينيةَ القهوة، فبادرت صفية بالكلام:
- أهلاً وسهلاً سيادةِ اللوا، نوَّرتوا بيتنا المتواضع، أهلًا مدام فريدة..
ابتسمَ مصطفى بلطف:
- شكرًا صفية هانم، البيت منوَّر بأصحابه.
أشارت صفية نحو الخادمة الواقفة بجوارها:
- قدِّمي القهوة للضيوف.
لكن دينا وضعت يدها برقَّةٍ على ذراعِ الخادمة، وقالت بابتسامةٍ دافئة:
- روحي إنتي، أنا هقدِّم القهوة.
ثمَّ انطلقت بخفَّةٍ وأناقة، تحملُ الفناجين، توزِّعها على الحاضرين بنظراتٍ ودودة...ثمَّ اتَّجهت وجلست بجوارِ صفية التي تتحدَّثُ مع فريدة..
مرَّ وقتًا على الجميعِ بين الودِّ والمحبة، إلى أن قطعَ الحديثَ مصطفى:
-بعد إذنك يافاروق باشا، طبعًا أنا هدخل في الموضوع على طول بما إنِّنا أهل، فإحنا جايين نطلب إيد كريمتكم الآنسة ملك لإسلام ابني على سنَّةِ الله ورسوله..
قالها بدخولِ أرسلان:
-مساء الخير.
التفتت فريدة تنظرُ إليهِ باشتياق:
-أهلًا حبيبي، رجعت إمتى؟..
انحنى وقبَّلَ رأسَ فريدة، ثمَّ اتَّجهَ إلى صفية وفعل مثلما فعلَ مع فريدة:
-لسة واصل، الجوّ في اسكندرية صعب أوي..
-عمُّو مصطفى منوَّرنا والله إنتَ وإسلام، بس الأخ الِّلي جنبك لأ..
لكزتهُ صفية بخفَّة، اتَّجه بنظرهِ إلى فاروق:
-وحشتني يافاروق باشا.
قاطعهُ إسحاق يشيرُ إلى الكرسي:
-طيب اقعد كنَّا مرتاحين، هيِّ دي الإجازة الشهر اللي قولت عليها، اتَّجه يجلسُ بجوارِ إسحاق:
-ماهو جيت لمَّا بابا قالِّي عمُّو مصطفى جاي النهاردة، وأنا على علم بالموضوع، فلازم أكون موجود، هوَّ أنا عندي كام أخت بس هيَّ أخت واحدة.
-ربِّنا يخلِّيكم لبعض ياحبيبي..هكذا نطقتها صفية..بينما فريدة كانت تنظرُ إليه بصمت، حمحمَ فاروق وهو يتطلَّعُ الى إسلام:
-إسلام ابني زي ماملك بنتي، وأنا مش هلاقي لبنتي راجل زي إسلام، واللهِ يامصطفى باشا أنا فخور بيه، وواثق أنُّه راجل وقدِّ المسؤولية، وجيِّتكم على راسي من فوق، بس برضو لازم ناخد رأي بنتنا..
أومأ مصطفى متفهِّمًا وأجاب:
-طبعًا حقَّها، وتاخد الوقت الِّلي نفسها فيه، إحنا كدا كدا أهل،حتى لو محصلشِ نصيب إن شاءالله المودَّة تبقى بينا.
لكزَ إسلام إلياس الصامت، ثمَّ همسَ إليه:
-إنتَ جاي علشان تسكت، ماتقول حاجة ياعم، كحَّ حتى
رفع حاجبهِ ينظرُ إليه بسخرية، قطعَ النظراتِ صوتُ أرسلان:
-العروسة عروستكم واللهِ ياعمُّو مصطفى، وإسلام زيُّه زي إلياس أكيد يشرَّفنا يكون جوز بنتنا الوحيدة..
نهض مصطفى يغلقُ حلَّتهُ ثمَّ قال:
-وإحنا منتظرين الرد، وأكيد هنكون سعداء لو حصل بين العيلتين نصيب..
-إن شاءالله، على خيرةِ الله ..
بمنزلِ طارق وخاصَّةً بالحديقة..
جلست بأحضانهِ تقصُّ له ماصارَ معها منذ طفولتها إلى هذا اليوم:
-تعرفي كنت بشوف إلياس معاكي وكنت مفكَّر فيه علاقة بينكم، أصلي كنت براقبه، وعرفت أنُّه بيساعد بنت فقيرة، ووقتها حاولت أعمل حاجة علشان أفضحه بيكي..
تنهيدةٌ مؤلمةٌ حتى شعر بالدموعِ تحت أهدابه:
-كنت سيئ أوي يارؤى، أوي..عملت حاجات كتير وحشة، سهر وقمار وبنات، نزلت دمعة غائرة على طرفِ خدِّهِ وأردفَ بنبرةٍ ثقيلةٍ وكأنَّ لسانهِ غير قادرٍ على التفوُّه:
-خطفت ميرال وكانوا متفقين معايا أغتص بها..شهقةً موجعةً أخرجها من حسراتِ مايشعرُ به:
-كنت هغتصب أختي..
آاااه مع الدموع التي شعر بأنَّها نيرانًا وليست مياهً تحرقُ جلده، واستطرد:
-كنت قذر، معرفشِ أوَّل ما شفتها وكأنِّ حاجة بتضربني بسكين في صدري ويقولِّي كفاية قرف بقى إنتَ انسان مقرف، حاولت أقنع رانيا بلاش اغت صبها واقتنعت بس بعد مرار..
بعدها بيومين عرفت إنِّ ميرال بنتها، كانت زي المجنونة، مش علشان أنا أخوها، لا علشان هيِّ اللي كانت هضيَّع بنتها بإيدها، طيب أنا فين من حسابكم، قرف ورا قرف لحدِّ مااتسجنت وكانت المرَّة الوحيدة الِّلي اتسجنت ظلم فيها، ودا كان بسبب إلياس بعد ماعرف الِّلي كنت هعمله في مراته..
احتضنت ذراعهِ وبكت على بكائه:
-حبيبي انسى، لازم نحاول نخرج من حياتنا القديمة، كويس إنَّك شغَّال مع رحيل، ابني لنفسك حاجة وانسى الماضي دا كلُّه..
اتَّجه إليها بعينينِ تقطرُ وجعًا:
-أنسى إنِّي ابنِ راجح، ولَّا أنسى إنِّي كنت قذر و طهمجرم يارؤى، أنا بدعي ربِّنا لو كنت مُت بدل راجح...اعتدلَ مستديرًا إليها:
-تعرفي بعد مادفنوا راجح أنا معيطش عليه، يعني شوفت يزن بيعيَّط بس معرفشِ هل عياطه دا حزن على الِّلي حصلُّه..ولَّا علشان هوَّ السبب في الِّلي وصلُّه راجح في الآخر، أنا محستش بحاجة خالص، ولا كره ولا حب..
أزالت دموعَ أخيها ثمَّ نهضت تمدُّ كفَّها:
-إيه رأيك نعمل كيك، ونروح ليزن نشوفه عمل إيه مع رحيل، أنا متأكدة هيطربقها على دماغها، أصله صعيدي يابني..
ابتسمَ ووقفَ يحاوطُ جسدها متَّجهًا للداخل..
بمنزلِ آدم..
جلس الجميعُ يتناولونَ الطعامَ ويستمعونَ إلى ماقالهُ زين إلى يزن..
تساءل أحمد ابنه:
-بس رحيل غلطانة يابابا، وأنا لو مكان يزن كنت عملت أكتر من كدا..
وافقهُ آدم الرأي وهو يلوكُ طعامه، هزَّ زين رأسهِ وقال:
-عارف إنَّها غلطانة، وهوُّ برضو غلط، كان لازم أهدِّد الاتنين..المهمِّ مش عايز حد يدخل بينهم، وعمِّتك إنتَ يوم وأخوك يوم تقضُّوه عندها، هيَّ رفضت تسيب بيت جوزها، وأنا مقدرتش أضغط عليها مش عايزين نسيبها لوحدها..اتَّجه بنظرهِ إلى إيلين التي تتلاعبُ بطعامها بصمت، فتساءل:
-مالك حبيبتي ساكتة ليه ومبتكليش؟.
رفعت رأسها إلى زين وقالت:
-بابا عمل لسهام قضية زنا، كنت تعرف ياخالو؟..
هزَّ رأسهِ بالنفي وقال:
-أبدًا يابنتي إيه الِّلي حصل؟.
همهمت مريم قائلة:
-الحيوانة كانت بتشتغل لحساب سمير الحيوان، وكانت على علاقة بيه، وطبعًا بابا راقبها وعرف إنَّها بتقابله، فضل يراقبها كذا مرَّة لحدِّ مابلَّغ وظبطوها ومسكوا الاتنين.
توقَّف زين عن الطعام وتساءل:
-يعني سمير اتقبض عليه؟..
هزَّت رأسها وقالت:
-كنت عند بابا النهاردة وحكى لي.
-ربِّنا يهدي..قالها زين وهو يكملُ طعامه:
نهضت إيلين تنظرُ إلى آدم:
-هطلع أنا ياآدم، تعبانة أوي وعايزة أنام، وإنتَ يبقى هات رائد لمَّا تخلص..
توقَّف مقتربًا منها:
-إيلين مالك حبيبتي فيه حاجة بتوجعك؟..
-لا لا..بس إرهاق الجامعة مع السهر، هروح أرتاح..صحة وهنا.
قالتها وانسحبت للأعلى دون إضافةِ شيء..
بفيلا السيوفي..
أنهت زينتها، تنظرُ لنفسها بالمرآة مبتسمة، استمعت إلى صوتِ إسلام بالخارجِ مع غادة، توقَّفت تنظرُ لقميصها، تريدُ أن تخرجَ تسألهُ عن ماحدث، ولكنَّها أقنعت نفسها بأنَّها ستعلمُ من زوجها، مرَّت أكثرُ من نصفِ ساعة ولكنَّه لم يصعد، سحبت هاتفها وقامت بمهاتفته، ردَّ عليها:
-أيوة ياميرال..قالها وهو يفحصُ الكاميرات بمكتبه..صمتت بعدما أيقنت أنَّه هناك، قطعَ صمتها متسائلًا:
-ميرال فيه حاجة؟.
-هتتأخَّر..أجابها بعدما دلفَ شريف:
-يالَّه..أه هبات في الشغل.
-تمام..قالتها وأغلقت الهاتف، ثمَّ ألقتهُ على طولِ ذراعيها:
-يعني مكنتش هعرف لولا اتَّصلت ياإلياس، أووف..اتَّجهت إلى فراشها، ثمَّ جلست عليه لبعضِ الدقائق تأكلُ بأظافرها من الغيظ، فتحت التلفاز وبدأت تقلِّبُ بقنواتهِ إلى أن ملَّت، ثمَّ نهضت تجذبُ روبها ترتديه، وتحرَّكت إلى غرفةِ طفلها، وجدت المربية تخرجُ من غرفته، فسألتها:
-هوَّ إسلام كان هنا في الدور؟.
أومأت لها وقالت:
-أيوة..أستاذة غادة كانت جايبة بيسكل ليوسف، وأصرت يطلَّعها أوضته.
-تمام روحي نامي في أوضتك، أنا هبات مع يوسف.
-حاضر يامدام.
دلفت إلى غرفةِ طفلها، وجدتهُ مستغرقًا بنومه، نظرت إلى الساعة وجدتها تخطَّت الثانية عشر..جلست بجوارهِ وبدأت تمسِّدُ على خصلاتهِ بابتسامة، يشبهُ والدهِ كثيرًا، كأنَّه قطعةً مصغَّرةً منه..نزعت روبها وتمدَّدت بجواره، متكئةً على مرفقيها، شعر الصغيرُ بها:
-ماما..حضرتك نايمة هنا ليه؟.
انحنت تقبِّلُ رأسه:
-بابا هيبات في الشغل، ممكن تستضيف مامي الليلة؟..أومأ بابتسامةٍ وذهب بنومهِ مرَّةً أخرى، ظلَّت كما هي إلى أن غفت بجواره
بعد عدَّةِ ساعاتٍ عاد إلى المنزلِ قبيلَ الفجر، كان يعمُّ الهدوء سوى من صوتِ فريدة بقراءتها القرآن..وصل إلى جلوسها:
-صباح الخير ياماما.
صدَّقت مغلقةً المصحف ورفعت عينيها إليه:
-صباح الخير حبيبي، إنتَ كنت مبيِّت برَّة؟..
جلس بجوارها يهزُّ رأسهِ بإرهاق:
-أه..كان عندي ضغط شغل، قاعدة في البردِ ليه؟.
-كنت بصلِّي القيام، نزلت شربت قهوة، وقولت أقرأ شوية في المصحف بعيد عن بابا علشان ماأقلقشِ منامه.
تراجع بجسدهِ وأغمضَ عينيهِ يفركُ جبينه:
-كويس..
ربتت على ساقيه:
-قوم ريَّح في أوضتك..
اعتدلَ يهزُّ رأسه:
-هطلع آخد شاور لحدِّ مالفجر يأذِّن، بعد إذنك..قالها وصعد، فتح باب غرفتهِ بهدوءٍ ظنًّا أنَّها تغفو، دلف للداخلِ وقعت عيناهُ على خلوِّ الفراش، اقتربَ منه وجدهُ باردًا، دلف إلى الحمَّامِ ولكنَّها غير موجودة، وجد هاتفها ملقيًا بإهمالٍ على الأرضية، سحبهُ وفتحهُ وجدهُ مغلقًا على مكالمته، تحرَّك للخارجِ متَّجهًا نحو غرفتها القديمة، وجد السرير مرتَّب، أدركَ أنَّها لم تأتِ إلى هنا ..
اتَّجه إلى غرفةِ طفله بخطا ثقيلة، خوفا من أن أصابها مكروه، فتح البابَ وصل إلى الفراشِ وجدها تغفو بجواره، تحتضنهُ وكأنَّ احدًا سيخطفهُ منها...
وقعت عيناهُ على روبها الملقى جوارَ الفراش، ثمَّ رفع الغطاءَ ليظهرَ جسدها أمامهِ باستفاضة، انحنى وحملها برفقٍ عكس مايعتملُ بداخله..شهقت حين شعرت به، ففتحت عينيها بارتباك:
– إلياس...
لم ينطق، وتحرَّك بها، دخل غرفتهم وأغلق البابَ بقدمه، متَّجهًا ناحيةَ السرير، وضعها عليهِ بحركةٍ خشنةٍ مقيتة، ثمَّ حاصر جسدها بين ذراعيه، يلتهمُ تفاصيلها بنظراتهِ الغاضبة، وعيناهُ تستقرُّ على فتحةِ قميصها، وحمالاتهِ التي انزلقت من دونِ وعيٍ منها.
– بصِّي لنفسك كدا...أنا لاقيكي بالمنظر ده، نايمة جنب ابنك!
قالها بنبرةٍ جليدية، ورغم ذلك إلَّا أنَّ كلماتهِ تحملُ نيرانًا تلسعُ كرامتها.
– تخيَّلي لو صحي وشافك كدا... هيرسمك إزاي في خياله؟! إنتي فاهمة إنتي عملتي إيه؟!
نظرت إلى قميصها بدهشة، ورفعت عينيها إليه بجرح:
– بس مكنشِ باين حاجة...دا إنتَ الِّلي شلتني ورميتني فظهر..
ضحكَ بمرارة، ونظراتهِ إليها كالصفعات:
– يعني إنتي حاسة بنفسك وإنتي نايمة؟ وواعية على حركاتك؟..
ظلَّت عيناهُ تخترقانها، حتى نطقت بصوتٍ ضعيف:
– إلياس دا ابني! مستحيل يفكَّر بعقلِ الكبير، دا لسه صغير...خمس سنين!
– ميرال...ليه دايمًا بتخلِّيني أرجع لإلياس السيوفي ؟ ليه بتطلَّعي أسوأ ما فيَّ؟
قالها بوجعٍ خفيّ، كأنَّه بيستنجدُ بيها إنَّها تفهمه...لكنَّها كانت غارقةً في وجعها هي الأخرى
– يمكن علشان زعلانة منك انك رفضت اروح معاكم، او علشان دايمًا حاسَّة إنِّي مجرد ظل في حياتك...حتى مكالمة تقول إنَّك مش راجع، مهنتش عليك.
اعتدلت، تشيرُ إلى نفسها كأنَّها تتعرَّى أمامهِ بكلِّ وجعها:
– ورغم كدا حبيت اعمل ليلة خاصة بيتا وجهَّزت نفسي وراسمة خيالات وقاعدة منتظرة جوزي بالساعات، بس هوَّ ولا هنا.. قالتها وتحركت لغرفة ملابسها
أغمضَ عينيه، وأنفاسهِ تتسارع...يحاولُ يمسكُ بتلابيبِ آخرِ ذرَّةٍ من عقله..
راقبها وهي تدخلُ الغرفةَ الأخرى، ثمَّ خرجت بعد دقائق، مرتديةً بيجامةً ثقيلة، تمسكُ بها كدرعٍ هش، وأشارت إلى نفسها بصوتٍ خافت:
– عندك حق..أنا غلطت، ولبسي كان مش لائق، بس أهو كدا حلو، كلِّ حاجة متغطية..آسفة..
عايز تعاقبني؟ براحتك بس خلِّيها لبكرة..أنا وعدت ابني إنِّي هبات جنبه... مش عايزة يصحى الصبح يزعل منِّي..
قالتها وتحرَّكت نحو الباب، عيناها تمتلئانِ بالدموع، لكنَّها توقَّفت عند صوتهِ الذي جعلها تتجمَّدُ بمكانها:
– لمَّا أموت ومابقاش موجود في الحياة، يبقى باتي في حضنِ ابنك.
قالها، ثم توجَّه إلى الحمَّام...وترك خلفهِ روحها التي انتفضت برعبٍ من كلماته..شعرت بالغضبِ من حديثهِ وكأنَّه وضع جمرةً ناريةً بصدرها، تحرَّكت خلفهِ إلى الحمَّام وجدتهُ نزعَ ملابسهِ ودخل إلى كابينةِ الاستحمام ورغم أنَّه يواليها بظهره، ولكنَّهُ تشنجَ جسدهِ الغاضبِ يصرخُ بوضوح، تحرَّكت للخارجِ وجلست لبعضِ الدقائقِ مع ارتفاعِ أذانِ الفجر، استغفرت ربَّها، ونهضت متَّجهةً إلى الحمَّامِ الآخر، دقائقَ وخرجت تفردُ مصلَّاها، وقامت بأداءِ فريضتها، أمَّا هو فخرجَ يبحثُ عنها، شعر بقبضةٍ تعتصرُ صدرهِ حينما ظنَّ أنَّها لم تكترث لحديثهِ وخرجت لطفلها، دلف إلى غرفةِ الملابسِ ولكنَّه توقَّف بعدما وجدها بمصلاَّها، ارتدى ملابسهِ وتحرَّك لأداءِ صلاةِ الفجر..
عاد بعد فترةٍ وجدها مازالت تجلسُ تقرأُ الأذكار، نزع كنزتهِ الشتويةِ وتمدَّدَ على الفراش..
نهضت من مكانها واتَّجهت إلى خزانتها ترتدي ثيابًا ملائمةً للنومِ بجواره، توجَّهت نحوه ِبصمتٍ واتَّجهت إلى الجهةِ الخاصةِ بها.. رفعت الغطاءَ وهي تراقبُ صمته، كان ينامُ على ظهرهِ يضعُ كفِّه فوق عينيهِ المغلقتين، وكأنَّه يشعرُ بالصداع..
دنت من نومهِ ودون حديث، وضعت رأسها على صدرهِ تحتضنُ جسده، بسط كفِّه وأغلقَ الإضاءةَ ثمَّ اتَّجهَ إليها معتدلًا بنومهِ ليسحبها لأحضانه، تدفنُ نفسها كأنَّها تختبىُ من العالم هنا..
قبلةٌ حانية، دافئة، استقرَّت فوق رأسها برفق…لم يكن بحاجةٍ لكلماتٍ حين همست بصوتٍ خافت:
– مش هسامحك على الِّلي قلته ليَّا..
ابتسم، ومرَّر أناملهِ بين خصلاتِ شعرها، كأنَّه يعتذرُ بلمستهِ قبل كلماته:
– آسف…عارف، انشغلت ونسيت أقولِّك، بس ده ماكانشِ أبدًا معناه إنِّك مهمَّشة في حياتي.
رفعت رأسها من بين أحضانه، ونظرت إليه بنظراتٍ كانت خليطًا من عتبٍ وحزن:
– كان نفسي نسهر مع بعض أوي النهاردة، استنيتك، علشان تحكيلي الِّلي حصل معاكم عند الجارحي.
فتح عينيهِ بصعوبة، وأردفَ بنبرةِ رجاءٍ محمَّلةٍ بوعد:
– بكرة أحكي لك كلِّ حاجة…دلوقتي نامي، مش قادر أفتح عيوني..
رفعت كفَّيها إلى وجهه، تمرِّرُ أناملها برقَّةٍ على ملامحهِ الرجولية، تريدُ أن تحفرها بقلبها، ثمَّ اقتربت، و طبعت قبلةً قربَ شفتيه، خفيفةً كنسمة، وعادت تندسُ بأحضانه، مطمئنة، وكأنَّ لا شيء في العالم سواه..تهمسُ بخفوت:
-ربِّنا مايحرمني منَّك..
مرَّت ساعاتٍ بنومهِ إلى أن أيقظهُ رنينُ هاتفه، مدَّ يدهِ إليه بكسل، وأجاب بصوتٍ خفيضٍ ممزوجٍ بالنوم، ليستمعَ إلى صوتِ أرسلان:
– إلياس..إنتَ فين؟ رُحت المكتب، مالقتكش…
– إجازة…قالها ببساطة، وأغلقَ الخط.
أعاد الهاتفَ مكانه، ثمَّ مالَ نحوها من بعد ماشعر بثقلِ رأسها على صدره..طالعها بعينٍ تفيضُ بالعشق، كانت تغفو بعمق، تلتفُّ بذراعها حول جسده، وخصلاتها متناثرة بعشوائية على صدره، ابتسمَ حينما تذكَّر كلماتها على نومها بهذا الشكل:
-اخلع...برقت عيناهُ مرَّة ثمَّ ارتفعت ضحكاته:
-دا انفلات رسمي ولَّا إيه..لكزتهُ في صدرهِ وقالت:
-لا ياحبيبي مش الِّلي في دماغك، أنا قصدي اخلع التيشيرت.
-ليه مش عاجبك؟.. عايز أنام ياميرال مش وقت هزار ..
لم تدعهُ يتمادى في حديثه، وزحفت فوق السريرِ على ركبتيها تهمهم:
-أنا ليه بطلب منَّك أصلًا، دا حقِّي، قالتها وهي ترفعُ كنزتهِ البيتية واكملت:
-مفيش راجل بينام كدا، إيه البرود دا..
نزع كنزتهِ وحاول منعَ ابتسامتهِ من عصبيَّتها المفرطة، ثمَّ قال:
-أكمِّل ولَّا كدا كويس؟..دفعتهُ على الفراشِ بقوَّةٍ وانحنت تغلقُ الإضاءة:
-نام ياحضرةِ الظابط، وسبني أنام زي أيِّ ست بتنام في حضنِ جوزها.
صمتَ يراقبها باستمتاع، اقتربت تضعُ رأسها فوق صدرهِ وأغلقت عينيها تتمتم:
-أوَّل مرَّة أحسِّ إنِّي متجوزة..
ارتفعت ضحكاتهِ بالغرفة، يسحبها لأحضانه، ثمَّ همس بجوارِ أذنها:
-طيب ماتيجي نعمل تجربة بعد النوم بطريقة النوم الجديدة..
-نام ياإلياس..
-طب واللهِ ماهيحصل، لازم أجرَّب، علشان احس بالاختلاف قبل جوازك وبعد جوازك
خرج من شرودهِ مع ابتسامةٍ أنارت وجهه، ثمَّ مدَّ يده، يمرِّرها على وجنتيها بهدوءٍ يخشى أن يوقظَ جمالها من سباته..ولكنَّها
فتحت عينيها على مهل، مع ابتسامتها كضوءِ الفجر، لتخترقَ روحهِ بلا استئذان..ثمَّ تعلَّقت عيناها بعينيه:
-صباح الخير...جذبتهُ تلك النظرة، ذلك الصوتُ الدافئ، اقتربَ بصمتٍ مجنون، ليغمرها بذراعيهِ يريدُ أن يغرقَ في جنَّته..
اقتربَ واقتربَ منها كالمأخوذ، يحتضنها بشغف، يستنشقُ عبيرها ليشعرَ أنَّه قديسًا يتعبَّد على شفتيها. لحظات، بل دقائقَ عاشاها في جنونٍ عشقيٍّ متبادل...
قبَّلها كما لو لم يقبِّلها من قبل، تنهيدةُ شوق، لهفةُ رجلٍ لا يرتوي، حاولت الحديث، ولكن قُطعَ همسها..لم يعد مسموعًا، بل صارَ أنفاسًا تختلطُ بأنفاسه.
فترة، لم تُقَس بالزمن بل بنبضٍ اشتعلَ بينهم، قبل أن يبتعدَ عنها أخيرًا، ببطء، كأنَّه ينتزعُ روحه..يقاوم جموحه، يخشى أن تفقدَ وعيها بين ذراعيه..
خجلت كثيرًا، بعد همهماتها ببعضِ الكلمات ،ولم تقوَ على النظرِ إليه، لتدفنَ رأسها بعنقهِ دون أن تنطقَ حرفًا..
صمتٌ دام لدقائقَ ورغم صمتهم إلَّا أنَّ أنفاسهم تملأُ الغرفة ضجيج، جمعَ خصلاتها على جنبٍ ورفعَ رأسها:
-لسة زعلانة منِّي؟..صدَّقيني انشغلت ونسيت أكلِّمك..
-خلاص..همست بها بتقطُّع، ثمَّ انحنت تجذبُ روبها:
-هقوم أجهز علشان أروح أحضَّر يوسف لحضانته، قالتها وهي تستديرُ لتنزلَ من فوقِ الفراش، إلَّا أنَّه منعها وهو يقبضُ على كفِّها:
-مش عايز الِّلي حصل مع يوسف يتكرَّر، الولد مبقاش صغير.
-عارفة، معرفشِ ممكن كنت مضايقة وماأخدتش بالي، ودي أوَّل مرَّة، أنا بعمل حساب لكلِّ حاجة، حقيقي معرفشِ إزاي فاتتني الحكاية دي..
احتضنَ وجهها وطبعَ قبلةً فوق جبينها:
-ربِّنا يخلِّيكي لينا، لو مش قادرة هكلِّم النانا تجهِّزه..
هزَّت رأسها بالرفض وقالت:
-لا..ابني أنا الِّلي أجهِّزه لحضانته، دا ابني مش ابنِ حدِّ تاني، مش عايزة أبعد عن أيِّ حاجة تخصُّه.
-ميرال مش ناوية ترجعي شغلك؟.
ارتدت روبها وأحكمت إغلاقه:
-اتكلِّمنا كتير ياإلياس في الموضوع دا، أنا قرَّرت وخلاص، وعلى فكرة أنا قرَّرت أجيب أخ أو أخت ليوسف..قالتها وتحرَّكت إلى الحمَّام..
بمنزل يزن..
قبل قليلٍ دلف للداخلِ يحملُ طفلهِ الذي لم يصمت عن البكاء، ويسحبُ حقيبةَ ملابسهم..
أشار إلى الداخل:
-هتناموا الليلة في أوضتي، مكنتش عامل حسابي، لحدِّ بكرة لمَّا أشوف هعمل إيه..
دلفت متَّجهةً إلى غرفةِ إيمان وقالت:
-هنام في أوضة إيمان، مش هدخل أوضتك..رفعت رأسها وتقابلت العيون قائلة:
-أذينا بعض كتير، أتمنَّى تحترم رغبتي وتخلِّيني على راحتي.
-اقتربَ منها وأردفَ بنبرةٍ ممزوجةٍ بالعتابِ والحزن:
-للأسف يارحيل الأذى مطلناش بس، طال ولادنا، بصِّي وشوفي ابنك خايف منِّي إزاي، عمري ماهسامحك على نظرات الولد دي..
قالها واتَّجه للداخل، وضعهُ على فراشِ إيمان ثمَّ قال وهو يواليها ظهره:
-الأوضة دي صغيرة عليكم، بس بدل إنتي مرتاحة مش هقدر أعارضك.
خرج ووقفَ عند عتبةِ الباب وقال:
-أيِّ حاجة محتاجاها للولاد عرَّفيني وهنزل أجبها في أيِّ وقت.
استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ فخرج وهو يرفعهُ إلى أذنه:
-أيوة ياإلياس؟.
-عملت إيه؟..
سحب نفسًا وقال:
-كنت عارف إنِّ عندي أولاد مش كدا؟.
-ميخصنيش يايزن، المشاكل الخاصة دي ماليش أدخل فيها، حاول تهدى وتحلِّ مشاكلك علشان ولادك، لو احتاجت حاجة كلِّمني.
جلس على المقعدِ بالخارجِ ورجع بجسدهِ مستندًا على الجدارِ وأغمض عينيهِ مع بكاءِ الطفلِ بالداخلِ ومحاولاتِ رحيل في إلهائه..نهض من مكانه واتَّجه إليها وجدها تحملهُ وتربتُ بكفَّيها على طفلتهِ التي تحملُ الببرونة وتضعها بفمها، اقتربَ منهم وانحنى يحملُ الطفلة وقال:
-أنا ههتمِّ بيها، وإنتي خلِّي بالك من الولد..استدار وتحرَّك بعض الخطواتِ ثمَّ توقَّف مستديرًا وتساءلَ بلسانٍ ثقيل:
-الولد آسر، والبنتِ اسمها إيه؟.
شعرت وكأنَّ أحدهم يغرزُ خنجرًا بصدرها، من نبرةِ صوتهِ المتألِّمة، ضمَّت الطفلَ وقالت بخفوت:
-رولا...مسَّد على خصلاتِ الطفلةِ البنية، تشبهُ والدتها كثيرًا ثمَّ همسَ اسمها بعيونٍ محتجزةٍ بالدموعِ تحت أهدابها:
-رولا..
داعبتهُ الطفلةُ بابتسامةٍ فقرَّبها وقبَّل جبينها، إلى أن استمعَ الى صوتِ رحيل:
-آسر ورولا يزن إبراهيم السوهاجي.
أطبق على جفنيهِ وكم من آهاتٍ تخترقُ روحه، ولم يشعر بتلك الدموعِ التي تسلَّلت على وجنتيه، لا يعلمُ أهيَ دموعُ فرح أم دموعُ حزنٍ ومواساة..
خرج دون حديثٍ بينما هي ظلَّت بمكانها والألمُ يعصف بكيانها، تعلمُ أنَّها أخطأت، ولكن ماذا عن مافعله بها..
بعد فترةٍ غفا طفلها، وضعتهُ بالفراشِ ودثَّرتهُ جيدًا، ثمَّ خرجت تبحثُ عنه، خطت إلى غرفتهِ وجدتهُ غافيًا على فراشهِ يضعُ الطفلةَ فوق صدرهِ ويضمُّها بذراعيهِ كأنَّ أحدهم سيختطفها..اقتربت بهدوءٍ حتى لا توقظَ أيِّ أحدٍ منهم، ظلَّت متوقِّفة، تسبحُ بعينيها فوق ملامحهِ الرجولية ، هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسدها وذكرياتٍ تمرُّ أمام عينيها من علاقتهما، قلبًا ينتفضُ بغضًا على مايحدثُ بينهما، وعقلًا يصفعُ دون رحمةٍ على كرامتها التي أُهدرت، وياأسفاه عن حربٍ بين القلبِ والعقلِ ليصفع العقلُ القلبَ ويجتازه، انحنت تحملُ الطفلةَ من بين ذراعيهِ بهدوء، فتحَ عينيه، اعتدل سريعًا بعدما وجدها
حملت الطفلةَ وخرجت دون أن تنطقَ شيئًا..
جلس على فراشهِ يمسحُ على وجههِ مستغفرًا ربَّه، ثمَّ نهضَ يجذبُ سجائرهِ وتحرَّك إلى الشرفة يتَّصل بإخوته:
-أيوة ياطارق معاذ ورؤى عاملين إيه؟.
كانت رؤى تقفُ تجهِّز الكيك فصاحت بالهاتف:
-بنعمل كيك يايزن، تعالَ علشان تدوق..
-تسلم إيدك حبيبتي، معاذ فين؟.
ردَّ طارق الذي يساعدُ رؤى بوضعِ محتويات الكيك:
-بيلعب بلاي استيشن.
-خلِّيه ينام بقى ياطارق عنده مدرسة الصبح هوَّ مبقاش صغير..
-حاضر...صوتك ماله، ولادك كويسين؟.
-أه الحمدُ لله، يبقى عدِّي عليَّا الصبح علشان ننزل نشوف بيت لينا كلِّنا، مينفعشِ كلِّ واحد منِّنا في مكان..
-حاضر.
استمعت إلى حديثه، فتنهَّدت بألمٍ يسكنُ أعماقها...يبدو أنَّ المعاناة كُتبت عليها قدرًا أزليًا..
صوتُ الرعدِ دوى في السماء، فاندفعت نحو النافذة، تحدِّقُ في زخَّاتِ المطرِ المنهمرة.
رفعت رأسها للسماءِ هامسةً برجاءٍ صادق:
"يارب، اكتب لي السعادة وراحةِ البال..."
ظلَّت تنظرُ في المطر، وابتسامةً هادئةً شقَّت وجهها، تهمسُ لنفسها:
"ياالله على نعمك الِّلي مش بتخلص."
شعرت بوجودهِ خلفها، تحدَّثَ بنبرةٍ بها بعضًا من الحدَّة:
– ادخلي، الجوِّ برد وهدومك خفيفة، تتعبي وتعدي الولاد..
لم تلتفت، ظلَّت تعطيهِ ظهرها، وعلى ثغرها تلك الابتسامة الصغيرة، فمرحبًا بمكرك أيها الزوجُ الذكي...
استدارت واقتربت منهُ بخطا ثابتة:
– متخافشِ على الولاد، أنا عندي مناعة من كلِّ حاجة...بدليل إنِّي قبلت وجودك تاني.
ابتسامةٌ ماكرةٌ علت وجهه، وهزَّ رأسهِ ساخرًا:
– عارف...البرود الِّلي فيكي ممكن يتصدَّر برَّا البلد.
ثمَّ اقترب وهمسَ بجوارِ أذنها:
– يارب تعدميه يازوجتي الصفرا.
قالها ومضى للداخل.
أمَّا هي...فتصلَّبت مكانها، كأنَّ الجليدَ قد أصابَ أطرافها..لا تدري إن كان التجمُّد من كلماتهِ القاسية أم من قربهِ الذي لا زال يربكها.
دخلت الغرفة، تطالعُ طفليها النائمينِ كملائكة، اقتربت منهما ببطء، تمدَّدت بجوارهما، واحتضنت صغيرتها فوق ذراعها.
لأوَّلِ مرَّة، غفت، وراحة غريبة تسلَّلت إلى قلبها.
مع صباحِ اليومِ التالي، استيقظت على ضرباتِ صغيرها على وجهها..
فتحتهما فزعة، تبحثُ بعينيها عن ابنتها...
خرجت مسرعة، لتجدهُ جالسًا، يحملُ الصغيرة ويُطعمها، وضحكاتهم تتعالى، وأنفهِ يلامسُ وجهها بمداعبةٍ حانية..
- حبيبة بابا...يلَّا يارولي.
- بابا..
صفَّقت الصغيرة بيديها، وهي تردِّدُ كلمتها الأولى.
رفعها عاليًا، وضحكةٌ دافئةٌ خرجت من عمقِ قلبه.
اقتربت منهما، تحدَّثت بلهجةٍ حادَّة:
– أنا كلِّمت المربية، جاية في الطريق.. مش هقدر على الولاد لوحدي.
لم يرد، واكتفى بإطعامِ الصغيرة وعيناهُ تلاحقُ خطواتها..
– شبعتي ياحبيبة بابا؟ يلَّا ننزل نتمشَّى شوية...
هزَّت الطفلة رأسها بسعادة، لا تفهم مايقوله، لكنَّها تشعرُ بالأمان..
- أنا بكلِّمك على فكرة، وبعدين إزاي تدخل عليَّا وأنا نايمة؟!
– الفطار في المطبخ، والقهوة والشاي...أكيد عارفة مكانهم.
ثمَّ أردفَ ببرود:
– أنا هنزل مشوار مع طارق، أتمنَّى لما أرجع، ما أدورش عليكي.
اقتربَ منها، يتعمَّقُ في عينيها:
- هجيبك...وساعتها همسح وجودك من حياةِ الولاد.
لم تصمت، صفعتهُ بكلماتها:
– على فكرة، أنا جاية برضايا، محدش غصبني..ولو عايزة أمشي، مفيش حد هيقدر يمنعني.
ثمَّ حدَّقت فيه:
– بس أنا بحاول أتحمِّلك، علشان الولاد وبس، وهات البنت، هتاخدها فين؟ الجو برد.
لم يرد..التفتَ وغادر قبل أن تنفجرَ بينهما المعركة.
بمكتبِ إسحاق:
أنهى عملهِ وجمع أشيائهِ وتحرَّك للخارجِ وهو يهاتفُ زوجته:
-دينا اجهزي قدَّامي نصِّ ساعة وهعدِّي عليكي، تكوني جاهزة إنتي وحمزة..
كانت تنظرُ للَّذي بيديها بسعادةٍ فنطقت والفرحة تغمرُ قلبها:
-مش هتأخَّر، وإنتَ كمان عندي لك خبر حلو.
-حاضر..قالها وصعدَ إلى سيارتهِ ليصلَ إلى وجهتهِ بعد دقائقَ معدودة، دلف إلى غرفتها وجدها منكمشةَ على المقعد، تنظرُ للخارجِ بشرود، لقد فقدت الكثير من الوزن، اقتربَ منها وسحبَ مقعدًا وجلس بمقابلتها:
-عاملة إيه ياأحلام هانم؟.
رفعت عينيها الذابلة ونظرت إليه بابتسامةٍ باهتة:
-ياااه يابنِ الجارحي لسة فاكر إنِّ ليك أم؟!.
مطَّ شفتيهِ ونظر للخارج:
-أم..همشي مع كلامك يامدام أحلام، فين الأمِّ دي، الِّلي اتجوِّزت بعد ماأبويا مات بشهور العدَّة، ولَّا الِّلي شاركت في قتلِ جوزها، ولَّا الِّلي قتلت حبيبة ابنها علشان مش قدِّ المقام..انحنى يغرز عينيهِ بعينيها..ولَّا الِّلي دمَّرت صفية وخلِّت الدكتورة تدلها علاج يدمَّر الرحم علشان متخلفش، ولَّا موِّتت مرات ابنها بسكتة قلبية بعد ماأجبرتها تفضح ضرِّتها، ولِّا الِّلي حاولت تقتل شاب بريء تهمته إنِّنا حبيناه واتعلَّقنا بيه، تعرفي من وقت ماأرسلان دخل البيت والنعيم كلُّه اتكتب للعيلة وإنتي وقتها قولتي..الواد دا وشُّه خير أوي يافاروق من وقت ماربِّنا رزقك بيه وكلِّ حاجة حلوة بتحصلِّنا، بس تسكتي لا.. تقعدي تحفري وتحفري لحدِّ ماعرفتي الحقيقة، تفكَّري زي أيِّ أم عاقلة وتواجهي ولادك وتحاولي ترضيهم، لا تجرِّي عليه ناس علشان يقتلوه، إزاي إنتي أم وعندك قلب معرفش، ابنك كان هيموت مرِّتين ورغم كدا متعظتيش، ليه يامدام أحلام، عايز أعرف ليه كلِّ الوجع الِّلي سببتيه للكل؟.
-علشان بكرهكم..قالتها صارخة وهي تدفعُ المقعدَ بعنفٍ واتَّجهت إليه كالمجنونة:
-كنت لسة صغيرة، وعايزة أكون زي أيِّ بنت تتحب وتحب، بس أبويا إزاي يقبل كدا، لا البنت لازم تجيب لأهلها العزّ والجاه، حرمني من حبيبي وجوِّزني أبوك بالغصب، دا كلُّه علشان العزِّ والفلوس..انحنت تنظر بمقلتيهِ بغضب:
-أقولَّك سر ياإسحاق، أنا كنت متجوزة عرفي قبل أبوك، وكنت حامل، بس أبويا سقَّطني علشان أتجوِّز أبوك، شوفت أنا حياتي ادمَّرت بسبب أبوك إزاي، روحتله عيطت وقولتله أنا بحبِّ واحد مش عايزة أتجوِّزك، ارفض الجواز إنتَ راجل، وقتها ضحك وقالِّي الجواز مصالح ياأحلام، ولازم العيلتين يكبروا، قولته أنا متجوزة ورغم كدا وافق أنُّه يخطف واحدة من جوزها..
اعتدلت وصفَّقت بيدها:
-الله الله، الباشا قدَّام الكلِّ ابنِ ناس محترمين، ومعايا الوشِّ التاني، طلب منِّي عايزة تطلَّقي عايز وريث، وهوَّ عنده حق إمبراطورية الجارحي لازم وريث، رضيت وجبت فاروق وهوَّ مكتفاش بكدا، كلِّ ليلة بيعاملني كالجارية، عارف ليه علشان روحت للمحامي ورفعت قضية طلاق عليه، إزاي حد من عيلةِ الجارحي يترفع عليه قضية طلاق، رغم أنُّه وعدني لمَّا أخلِّف هيطلَّقني، مقدرتش أعيش معاه وقلبي مع راجل تاني، بس كان جبروت..أبوك دا كان جبروت وإنتَ شبههُ، أنا بكرهك علشان شبه أبوك، أنتوا الاتنين شبه بعض، طردني في عزِّ البرد بقميص نومي علشان رفضت أخلِّف منُّه تاني، تطلَّعت إليهِ ببكاء:
"إيه، مصدوم؟
أه، أبوك الملاك طردني بقميص نوم علشان رفضت أجيب ولاد بعد فاروق،
ولمَّا رحت أشتكي لأبويا، ضربني ورجَّعني له تاني،
وبعدين اكتشفت إنِّي حامل فيك،
كنت كلِّ ليلة أدعي ربِّنا يخلَّصني منُّه،
أنا مقتلتوش، أنا طالبت بحقِّي
ياإسحاق باشا...
وهو مارعاش إنِّي مغصوبة على الجواز، أه، كنت بقابل الراجل الِّلي حبِّيته، وكان عارف ومكنشِ يقدر يتكلِّم، ما هو خلاص بقى عضو في البرلمان... لازم يبعد عن الفضايح،
وفي الآخر جاي تحاسبني؟
أنا عملت دا كلُّه علشان اتحرمت منُّه،
أه، أنا الِّلي بعتِّ ناس يقتلوا حبيبتك، علشان تدوق طعم الحرمان،
وأنا الِّلي خطفت دينا وابنك...
كنت بعاقب أبوك، كان عايز ولاد؟
يجي ياخد ولاده الِّلي ضيَّع شبابي وحياتي بسببهم!"
– "بااااااس! مش عايز أسمع حاجة... انتي مستحيل تكوني أم!"
– "وأنا مش عايزة أشوفك تاني،
يالَّه، اطلع من هنا، خليهم يزوِّدوا جلسات الكهربا،
متفكرشِ بالِّلي بتعمله هنسى عمايلك وعمايل أبوك...
أنا بكرهك ياإسحاق...بكرهك!"
تحرَّك بخطواتِ مترنِّحة، وكأنَّ الأرضَ ترفضُ احتواءه..كان حديثها صوتَ عويل، نافذًا كالصراخِ في قبر، يكادُ يصيبهُ بالصمم.
ومضت أمام عينيهِ مشاهدَ من الطفولة، ذكرياتٌ مشوَّهة محفورة في جدرانِ ذاكرته، كأنَّها أشواكٌ تُنبتُ ألمًا متجدِّدًا.
هزّ رأسهِ رافضًا حديثها الذي تسلَّل كسمِّ الثعبانِ يخترقُ الجسدَ ويحرقُ الدم.
وصل إلى سيارته، جسدهِ كتلةً نارية، لو لامست شيئًا لأحرقته.
جلس يلهث، أنفاسهِ تتلاحق، ووجههِ مسودَّا كأنَّه يختنق..
رفع أناملهِ ليدلِّكَ صدره، وأسندَ رأسهِ للخلف، ودمعةٌ شقَّت طريقها من جفنهِ بصمت..
ما الذي استمعَ إليه؟!.. قاد سيارته يكاد يرى الطريق بصعوبة، بسبب تشوش رؤيته
وصل بعد فترةٍ إلى منزله، ترجَّل من السيارةِ يشعرُ بالاختناق، فتح البابَ بهدوء، قابلهُ حمزة:
-بابي جه..رسم ابتسامةً أمام ابنهِ وقال بنبرةٍ حاول أن تخرجَ متَّزنة:
-أهلًا حبيب بابي، مامي فين؟.
استمعَ إلى خطواتها، رفع عينيهِ ينظرُ إلى طلَّتها، كانت كالقطرةِ الندية التي سقطت فوق قلبهِ لتروي عطشه، خطت إلى وقوفهِ بعدما شعرت بأنَّ به شيئًا، فأشارت إلى حمزة:
-حبيبي يالَّه قولُّهم ينزِّلوا الشنط..
-حاضر يامامي..اقتربت تحتضنُ ذراعه:
-إسحاق مالك؟..وشَّك عامل كدا ليه؟.
-ينفع نأجِّل السفر لبكرة مش قادر..
جذبتهُ وصعدت إلى غرفتهم، دخلت الغرفة بجوارهِ وساعدتهُ على تبديلِ ملابسه، ثمَّ جلست أمامه:
-انسى أيِّ حاجة، أنا مش فارق معايا السفر، المهمِّ احكي لي إيه الِّلي حصل؟.
عايز أنام، ممكن تسبيني أنام شوية؟.
هزَّت رأسها بالرفض واحتضنت وجهه:
-أوَّل مرَّة كنت بالحالة دي لمَّا أرسلان كان بين الحياة والموت، إيه الِّلي حصل معاك؟..علشان خاطري تحكي لي ..
-دينا أنا تعبان مش قادر أتكلِّم، لو سمحتي..أومأت بعدما وجدت إصرارهِ ودثَّرتهُ بالغطاء، ثمَّ نزلت لبعضِ الدقائق:
-حمزة اطلع أوضتك حبيبي مفيش سفر النهاردة، لو عايز تروح بيت عمُّو شوية خلِّي حد من البودي جارد يوصَّلك.
-بابي كويس يامامي؟..انحنت تقبِّلُ رأسه:
-أيوة حبيبي هوَّ بس عنده شغل النهاردة ومش هينفع يسافر، إيه رأيك نأجِّل السفر خالص لحدِّ ماتخلَّص امتحانات علشان نقعد كتير هناك؟.
-أوكيه مامي.
ظلَّت تراقبُ ابنها إلى أن صعدَ غرفته، ثمَّ أمرت الخدم بتجهيزِ الطعام، واتَّجهت إلى زوجها، دلفت للداخلِ وقامت بتغييرِ ثيابها، انتقت شيئًا يحبُّهُ زوجها وارتدتهُ ثمَّ اتَّجهت إلى الفراش وتدثَّرت بجواره، ظلَّت تداعبُ خصلاتهِ إلى أن غلبها النوم، بعد فترةٍ استيقظَ يشعرُ بألمٍ برأسه، اعتدل بعدما حرَّر ذراعهِ من حول جسدها، فتحت عينيها على تحرُّكه:
-صحِّ النوم..قالتها ونهضت تستندُ على كتفه، أغمضَ عينيهِ وقال:
-عندي صداع، كلِّمي البنات يطلَّعوا حاجة للصداع.
أدارت وجههِ وتذمَّرت بعبوس:
-أنا زعلانة منَّك على فكرة، من وقت ماجيت وإنتَ مكشَّر، حتى ماخدتش بالك من الِّلي لبستها..
تجوَّل بعينيهِ على جسدها، شقَّ ثغرهِ ابتسامةً ليجذبها لأحضانهِ وطبعَ قبلةً فوق رأسها:
-آسف على فكرة، وبعدين إيه الِّلي جابك تنامي جنبي، مش قولت عايز أنام لوحدي..
داعبت ذقنه، ثمَّ لمستها بحنانٍ وقالت:
-حبيت أدفِّيك، جزاتي يعني..
أفلتَ ضحكةً يشيرُ لجسدها:
-واللهِ..بقى القطعة الصغيرة دي تدفِّيني..
لكزتهُ بابتسامةٍ وأشارت إلى نفسها بفخر:
-القطعة دي متجوِّزة أحسن راجل في الدنيا ..ظلَّ ينظرُ إلى شفتيها التي تتحرَّك أثناءَ حديثها، فرفع أناملهِ يمرِّرها عليها، إلى أن توقَّفت تنظرُ لعينيه..انحنى يقطفُ ثغرها من فراولةِ حياتهِ كما نعتها بها..
احتضنت عنقهِ وهمست بتقطُّعٍ من قوَّةِ قبلتهِ وهي ترفعُ كفَّيها على بطنها:
-مبروك ياحبيبي هيبقى عندنا أخ أو أخت كمان لحمزة..
رفع رأسهِ ينظرُ إليها بذهولٍ ولم يشعر بدموعهِ التي انهمرت بلا توقُّف، ينظرُ من خلالها مرَّةً إلى بطنها ومرَّةً إلى وجهها..لحظاتُ صمتٍ ولكن بدقَّاتٍ عنيفةٍ شعر بأنَّ نبضهِ سيتوقَّفُ من لذَّةِ ماأحسَّ به، لم يفكِّر كثيرًا، بل جذبها يقبِّلها بقوَّةٍ وعنفٍ وكأنَّه لم يشعر بما يفعله..
عند ارسلان
خرج من منزلهِ بعدما هاتفهُ أحدهم:
-عرفت مكانه ياباشا، بس إلياس باشا هجم على المقرِّ إمبارح وقبض على عمُّه..
-ابعتلي عنوان هشام بسرعة..
-حاضر..لحظات ووصلت إليه الرسالة،
قاد سيارتهِ بسرعةٍ جنونيةٍ إلى أن وصل إلى المكانِ الذي يختبئ به عطوة المدعو هشام.
دفع البابَ بقوَّة وطلقاتٍ من سلاحهِ لكلِّ من يقابلهُ إلى أن وصل إلى عطوة؛ الذي انتفض من مكانهِ على صوتِ الأعيرة النارية، لم يتسنَّى له الوقت ليهرب، أو يتحدَّث، ليطلقَ عليه رصاصةً استقرَّت بقدمه، وأخرى بكتفه..ثمَّ دفعهُ بقوَّةٍ بقدمهِ ليهوي بجسدهِ على الأرض يصرخُ من الألم..
تحوَّل أرسلان إلى وحشٍ ضاري كلَّما تذكَّر ماألقتهُ رانيا على أذنه، ليضغطَ بقدمهِ بعنفٍ على جرحه الذي أُصيبُ برصاصة..
-لو موِّتني يومها كان ربِّنا رحمك منِّي، بس تعرف لازم أشكرك، بس بطريقتي..
انحنى وأمسكَ كفَّيهِ ينظرُ إليه:
-شلتنا بدي ورمتنا بيها صح؟..كان ينظرُ إلى هيئتهِ بجسدٍ منتفض، ليسحبَ من ملابسهِ سلاحًا أبيضًا صغيرًا، وتناول أناملهِ واحدًا تلو الآخر يقطِّعها مع صرخاتِ الآخر..إلى أن انتهى من كفِّه، ثمَّ نظر إلى كفِّهِ الآخر مع صرخاتِ عطوة:
-دا بقى هسيبه بس لازم أعملَّها تجميل، دفعهُ بقدمهِ ونهض لدقائقَ يجذبُ شيئا ثقيلًا ومسمارًا، وقام بفردِ كفَّيه مع نظراتِ عطوة الفزعة وصرخاتهِ التي شقَّت السماء، وقام بغرسِ المسمارِ بالدقِّ فوقه ليغرزَ كفَّيهِ ويخرجَ من الجانبِ الآخر..كأنَّه شخصٌ انتُزعَت من قلبهِ الرحمة ..
سحبه يجرُّهُ على الأرض ومازالت صرخاتهِ تصمُّ الأذان..دفعه بقدمهِ ليتدحرجَ على الدرجِ إلى أن هبط لآخر سلَّمةٍ بوصولِ إلياس:
-بتعمل إيه يامجنون؟!.لم يستمع إليه ووصل إلى عطوة يجذبهُ بعنفٍ يوقفهُ يشيرُ إلى عينيه:
-أنهي عين بتشوف بيها أحسن؟.
دفعهُ إلياس يبعدهُ وأشار إلى العسكري:
-خدوه من هنا يابني..
دفع ارسلان إلياس بغضب
-إنتَ مالك بتدخَّل ليه؟..لكمة قوية من إلياس يبعدهُ بعد إصرارهِ على الوصولِ إلى عطوة ليؤذي عينيه..
-ماتهدى يارجل القانون، من إمتى وإحنا بنتعامل بإجرام، إنتَ اتجنِّنت يالا..
لم يرد عليهِ واتَّجه إلى سيارتهِ يتحرَّك بها بسرعةٍ جنونية..
مرَّت الأيام بسلامٍ إلى أن جاء يومُ حفلِ خطوبةِ إسلام وملك..
كانت حفلةُ الخطوبة تقامُ بالفيلا، حفلًا رائعًا كما هو المعتاد من تلك العائلات..
بفيلا السيوفي..
انتهت غادة من ارتداءِ ملابسها، واتَّجهت إلى غرفةِ ميرال، طرقت الباب مع غنائها كعادتها، ولكنَّها توقَّفت بعدما وجدت عبوسها:
-ميرال مالك؟..
نظرت إليها بحزنٍ ثمَّ قالت:
-إلياس لسة مرجعش، واتأخرنا.
اقتربت منها تحاولُ أن تهدِّئها ثمَّ قالت:
-ممكن يكون فيه شغل عطَّله ولَّا حاجة ، اتِّصلي بيه..
-كلِّمته كتير ياغادة، أوَّل مرَّة قالِّي نصِّ ساعة، عارفة النصِّ ساعة دول عدَّى عليها تلات ساعات.
نظرت إليها بحزنٍ وعجزت عن الرد وخاصةً بأنَّ آخرَ فتراتهِ يغيبُ كثيرًا عن المنزل..
استمعت غادة لرنينِ هاتفها فقالت:
-دا إسلام أكيد بيقولِّي أنزل علشان اتاخَّرنا..
أومأت وأشارت إليها:
-روحي حبيبتي وأنا شوية كدا لو مجاش هجي.
-تمام قالتها وغادرت، دلفت المربية:
-مدام كلِّ حاجة خاصَّة بيوسف جهَّزتها، الباشا قالِّي هننقل بعد الحفلة على البيتِ التاني.
أشارت لها بالخروجِ بصمت..
مرَّت نصفُ ساعة ومازالت بمكانها بعد اتصالِ فريدة بها:
-هجي مع إلياس ياماما، هوَّ جاي في الطريق..
دلف للداخلِ بخطواتٍ واسعة، وجدها تجلسُ على الفراشِ ووجهها لوحةٌ من الألمِ والحزن..اقترب منها فتوقَّفت تشيرُ إلى حلَّته:
-هدومك جاهزة هستناك تحت.
أمسكَ ذراعها:
-ميرال أنا..رفعت كفَّها ونظرت بساعةِ يدها:
-اتأخَّرنا ياحضرةِ الظابط، لو ناسي العريس أخوك الصغير، حتى قدَّام الناس..قالتها وتحرَّكت سريعًا للخارجِ تحبسُ دموعها كي لا تضعفَ بالانهيار..
بعد فترةٍ ترجَّلت من السيارة بجوارهِ ودلفت إلى الحفلِ الذي يحتوي على الطبقةِ المخملية، احتضنَ كفَّها ودلف للداخلِ وهي بجوارهِ تنظرُ للجميع بابتسامةٍ إلى أن وصلت إلى فريدة ومصطفى..نظر إليهِ مصطفى بعدمِ رضا على تأخيره، اقترب منه متأسِّفًا:
-كنت برَّة القاهرة ومكنتش أعرف إنِّي هتأخَّر كدا..
أشار إلى إسلام وملك:
-روح بارك لأخوك، اظهر قدام الناس الكلِّ كان بيسأل عليك.
-تمام انحنى يجذبُ ميرال وتحرَّك يهمسُ إليها:
-هنبارك لإسلام، ميرال مبحبش كدا.
تحرَّكت ولم تعريهِ اهتمام إلى أن وصلَ إلى العروسين..
بركنٍ بعيدٍ كان يتوقَّف بجوارِ زوجته:
-أرسلان عمُّو إسحاق قالَّك حاجة؟.
استدار ينظرُ إليها باستفهام:
-عن إيه؟..اقتربت تهمسُ له:
-دينا حامل، لسة قايلة لي دلوقتي.
لمعت عيناهُ بالسعادة ، فطاف بنظراتهِ يبحثُ عنه حتى توقَّفت على جلوسهِ مع بعض زملائهِ بالعمل..ربتَ على كفِّ غرام وقال:
-هشوفه غرامي وراجع.
توقَّف إسلام يرقصُ مع عروسهِ بعد تلبيسِ الدبل و جوٍّ من الفرحة تطفو على المكان..
وصل ارسلان عند إسحاق، جذب المقعد وجلس يرحِّبُ بالموجودينَ ببشاشة، رفع ذراعيهِ يربتُ على كتفِ أرسلان، ظل أرسلان يراقبُ حركاتِ إسحاق وفرحتهِ الواضحة على وجههِ تدلُّ على سلامهِ النفسي:
انحنى يهمسُ إليه بخفوت:
-مبروك ياعمُّو، عرفت من غرام إنَّك هتكون أب للمرَّة التانية.
لاحت ابتسامةٌ على وجههِ ونظر إلى مقلتيه:
-غلطان يابنِ أخويا، أنا أب للمرَّة التالتة، متفكرش تغيير اسمك دا مايثبتش إنِّي أبوك يالا..
قبَّل كتفهِ وحاوطه لتلمع عيناهُ بابتسامة:
-أحسن أب في الدنيا واللهِ ياعمُّو، ربِّنا يخلِّيك ليا ومايحرمنيش منَّك يارب..
-حبيبي ولا يحرمني منَّك.
بعد فترة..
عاد الجميع إلى منازلهم، في حين ذهب إلياس بصحبةِ ميرال وطفلهِ إلى بيته، دخلت تشيرُ إلى طفلها:
-يوسف اطلع غيَّر هدومك واغسل سنانك ونام حبيبي وبكرة مترحشِ المدرسة هتقوم تعبان علشان السهر..
-ينفع تيجي تنامي معايا.. تمتم بها يوسف
قاطعهُ إلياس ينادي على مربيته:
-خلِّيكي مع يوسف لحدِّ ماينام..قالها وصعد إلى غرفته، تنهَّدت وهي تنظر إلى صعودهِ بحزن، ثمَّ اقتربت من طفلها وحاوطت وجهه:
-حبيبي إنتَ كبرت مبقاش ينفع حد ينام معاك، حتى النانا، ياله غيَّر ونام، مامي مرهقة ومش قادرة تفتح عيونها..
-حاضر يامامي.
عند أرسلان..
جلس على السرير يراقبُ زوجتهِ التي تجلسُ أمام المرآةِ تضع المرطبات على بشرتها، توقَّفت واتَّجهت إليه مع ابتسامة:
-فرحانة أوي علشان ملك ودينا، بصراحة اليوم النهاردة كان حلو أوي.
-أممم..طيب وجوزك المسكين مش فرحانة علشانه؟.
جلست بجواره وحاوطت عنقه:
-وماله جوزي بقى إن شاءالله ماهو حلو أوي..
-غلطانة في إحساسك ياروحي، جوزك مش حلو خالص، وتعبان وزعلان، لازم تصالحيني.
قبَّلت وجنتيهِ وغمزت إليه:
-كدا حلو صالحتك..دفعها بقوَّة حتى سقطت على ظهرها تضحكُ بصوتٍ مرتفع:
-إنتي بتلعبي معايا يابت، هوَّ علشان أنا طيب بتسهبلي..
قهقهت تهزُّ رأسها ثمَّ رفعت ذراعيها تجذبهُ من عنقهِ وهمست:
-وحشتني على فكرة.
غمز بطرفِ عينيه ونظراتهِ تلتهمُ تفاصيلها:
-وأنا الِّلي كنت مفكَّرك مؤدبة..قالها يدفنُ رأسهِ بصدرها مع ارتفاعِ ضحكاتهِ بعد محاولاتها بدفعه..
بمنزلِ يزن..
ظلَّ جالسًا بالحديقة رغم برودةِ الجوِّ وسقوطِ الأمطار، نظرت من خلفِ الزجاج وجدتهُ شاردًا بجلوسهِ يدخِّنُ سيجارتهِ بشراسة، ظلَّت تراقبهُ لفترةٍ من الوقت مع ازديادِ الأمطار..سحبت نفسًا وزفرتهُ تنظرُ لأطفالها الذين غفوا بنومهم ثمَّ اتَّجهت بنظراتها إلى المربية التي غفت على مقعدها..
سحبت روبها وأيقظت المربية، لتشيرَ إليها على غرفةِ معاذ:
-روحي نامي، وأنا هفضل مع الولاد، خرجت متَّجهة إلى الغرفةِ بينما اتَّجهت رحيل إلى جلوسهِ تحت المطر..
اقتربت إلى أن توقَّفت خلفهِ مباشرة، وقعت عيناها على أكوابِ القهوة التي تجاوره:
-يزن..أغمض عينيهِ على همسها باسمهِ ودعا ربِّه أن يُنزلَ على قلبهِ سكينةً ولا يغضبها، فكلَّما تذكَّر ما فعلتهُ يريدُ أن يقبضَ على عنقها، لقد حرمتهُ من أشياءَ كثيرة، سرقت فرحة أوَّل طفل، سرقت كلمة بابا التي تمنَّاها من ابنٍ يجمعهم..دنت بخطوةٍ أخرى بعدما وجدت صمته:
- الجوِّ برد أوي وهدومك غرقت ميَّة.
-ادخلي جوَّا، مش محتاج لنصايحك، مش يمكن أموت زي مادعيتي وترتاحي..
هزَّة أصابت جسدها وشعرت بأنَّ قلبها سقطَ بين أقدامها:
-مش زي مافهمت، أنا كنت مضايقة منَّك وبقول أيِّ كلام وخلاص..
نصب عودهِ وتوقَّف مستديرًا إليها، ثمَّ اقترب ولم يعد يفصلهم سوى أنفاسهم التي تخرجُ مع برودةِ الجوِّ وقال:
-يعني إنتي خايفة عليَّا؟.
-طبعًا قالتها سريعًا دون تفكير، لوى فمهِ ابتسامةٍ ساخرةٍ ثمَّ مالَ لمستواها وهمسَ بجوارِ أذنها بأنفاسهِ الحارقة التي ألهبت عنقها:
-بس إنتي متفرقيش معايا..
قالها وسار للداخل واستطرد:
-الجوِّ برد يامدام ومش عايز الولاد يتعدوا..
هوت على المقعد الذي كان يجلسُ عليه، حينما شعرت بفقدانها القدرة على الحركة، واشتعالِ صدرها..
ظلَّت بمكانها ولم تشعر سوى بقهرتها من حديثه، بينما عنده، دلف للداخلِ يركلُ كلَّ مايقابله، ينفثُ غضبهِ بالأشياء، جلس على السرير بعدما هدأ..يسحبُ أنفاسًا ويخرجها على عدَّةِ مرَّات، ثمَّ تمدَّد على السريرِ ليذهبَ بنومه..
بينما عند رحيل ظلّّت كما هي لم تتحرَّك ولم تشعر سوى بدموعها التي أخفت وجهها، تراجعت تضعُ رأسها على المقعدِ تنظرُ إلى السماء التي مازالت ترسلُ أمطارها، ظلَّت عيناها متعلِّقةً بالسماءِ تناجي ربَّها..
بعد فترةٍ استيقظ آسر وصاحَ ببكائه، لينهض يزن بعدما ارتفع الصوتُ دون إسكاته، دلف للداخلِ وجد رولا استيقظت على بكاءِ أخيها، بحث عن رحيل ولكنَّه لم يجدها، نظر بأرجاءِ المنزل مع إيقاظِ المربية، أشار إليها على أطفاله:
-شوفي الولاد، لمَّا أشوف رحيل راحت فين..تحرَّك إلى الخارجِ ظنًّا أنَّها تركت أطفالها وخرجت، ولكن لاحت نظراتهِ تجاهَ الحديقة لتتوقَّف عيناهُ على نومها على المقعدِ وكأنَّها فقدت الوعي..
ركض إليها كالمجنون:
-رحيل..قالها بشهقةٍ وهو يحملُ جسدها المتراخي، يتَّجهُ للداخل بجسدٍ كاد أن يحملهُ بصعوبة..
وضعها على فراشه بهدوء، وجذب عطرهِ محاولًا إفاقتها، همهمت بخفوتٍ اسمه، وضع كفِّه على جبينها.. شعرَ بارتفاعِ حرارتها، اتَّجه سريعًا إلى الغرفةِ المجاورةِ وجلب ثيابًا جافة، وقام بتبديلِ ملابسها جميعًا، مع فتحِ وغلقِ جفونها بصعوبةٍ وهي بين اليقظةِ والوعي، حاوطَ جسدها حتى لا تسقطَ من بين ذراعيهِ لينهي ارتداءِ ملابسها بالكامل؛ ورغم ارتعاشةِ جسدهِ من قربها المهلك وحالتها التي قضت على كلِّ وعودهِ بمعاقبتها..
-يزن..همست بها ورأسها يسقطُ فوق كتفه، ضمَّها ورفعها فوق السرير مع ارتجافِ جسدها..
-سقعانة..دثَّرها جيدًا وجلبَ خافضَ الحرارةِ الذي يُوضعُ فوق الرأس، وبعضَ الأدوية، أعطاها مايلائمُ حالتها، وصعد بجوارها بعدما انتفض جسدها بالكاملِ بالارتعاشِ ، ليضمَّها إلى أحضانه، مرَّت ساعتين وهو بجوارها ولم يبتعد عنها، شعر بسكونِ جسدها وانخفاض حرارتها، فرد جسده بالكاملِ وذهب بالنوم..
بمنزل إسحاق..
كان جالسًا بالشرفة ينظرُ بشرودٍ ودخانِ سجائرهِ يخفي هيئته، ظلَّت تراقبهُ لفترةٍ ثمَّ نهضت من مكانها، وقررت إخراجهِ من حالته ورغم فرحتهِ بطفلهِ الثاني إلَّا أنَّهُ مازال سكونهِ وحزنه يطغى عليه، استدار بعدما استمعَ الى الموسيقى الشعبية:
-يابنتِ السلطان حنِّي على الغلبان..نظر اليها وجدها ترتدي عباءةً ضيِّقةً مفتوحةَ الجانبينِ ولكنَّها تظهرُ مفاتنَ جسدها الأنثوي باستفاضة، وظلَّت تتمايلُ بغنجٍ أنثوي إلى أن وصلت إليه تجذبهُ وتدورُ حولهِ بدلالٍ مع رقصها الشعبي..
اتَّجه إلى الهاتف وأغلقهُ ينظرُ إلى هيئتها مبتسمًا:
-مجنونة يادينا ناسية إنِّك حامل..
رفعت نفسها وحاوطت عنقه:
-ماهو حضرتك الِّلي مطنشني ياأبو حمزة، طيب متعرفشِ إنِّ الستِّ الحامل بتحبِّ الراجل الفرفوش، وحضرتك شوف عامل إزاي..
قهقه على حركاتها ثمَّ أشار على ثيابها:
-طيب الراجل الفرفوش هيفرفش إزاي بعباية فيفي عبده دي، أنا ممكن يكون كبرت شوية، بس مش لدرجة ترقصيلي بعباية، طيب بلاها بدلة من الِّلي بشوفهم، قميص ياأخت دينا ويكون أحمر علشان نظري ضعف..
ارتفعت ضحكاتها تحاوطُ جسده:
-أيوة كدا عايزة إسحاق يرجع لي..الراجل التاني دا محبتوش..
انحنى وحملها:
-لا إسحاق موجود، بس إنتي اجمدي ياأمِّ العيال..
ضربتهُ بصدره وارتفعت ضحكاتها..
مرَّ يومينِ والحال كما هو بين إلياس وميرال..
-دخل وجدها تجلسُ بجوارِ يوسف تساعدهُ بواجباته..
-يوسف لمِّ حاجتك وروح على أوضتك حبيبي خلِّي النانا تساعدك..
نظر إلى والدتهِ ثمَّ رفع نظرهِ إلى والده:
-ماما قالت هتكمِّل معايا الواجب وأنام هنا معاكم.
رفع حاجبهِ ينظرُ إليها بسخرية ثمَّ أشار إلى طفله:
-على أوضتك وبعد كدا الِّلي أقول عليه متقولشِ أصل ماما..
مسَّدت على ظهرِ طفلها:
-ياله حبيبي اسمع كلام بابا وأنا شوية كدا وهجيلك..
حمل أشيائهِ بعدما قال:
-حاضر ياماما، ثمَّ رفع نظرهِ إلى إلياس:
-آسف يابابا..
أومأ له بصمتٍ فتحرَّك الطفلُ بصمت،
جلس بجوارها:
-وبعد هالك هتفضلي كدا، أنا مبحبش شغلِ الدلع دا، متفكريش علشان صابر عليكي دا ضعف منِّي.
-معرفش بتتكلِّم عن إيه، أنا كويسة مالي..قوم ياحضرةِ الظابط علشان تاكل، إنَّما هوَّ الشغل قل الأيام دي ولَّا إيه...بصقت تلك الكلمات وخرجت تتحرَّكُ بكبرياء دون أن تلتفتَ خلفها:
-ميرال..توقَّفت على أثرها، نهضَ من مكانهِ وقال:
-هتفضلي كدا؟..
- انا هروح عند يزن كام يوم، محتاجة أبعد شوية.
-نعم؟!..استدارت إليه:
-محتاجة أقعد شوية مع أخويا ، ياريت تقبل
-روحي براحتك..قالها وتحرَّك للخارج..
بعد أسبوعٍ استيقظت على رنينِ هاتفها:
-أيوة ياماما
-حبيبتي يبقى تعالي على الفيلا، فيه موضوع عايزة أقولِّك عليه.
-حاضر ياماما..نهضت وأدَّت فرضها، وقعت عيناها على صورتهِ الموضوعة.. جذبت الصورة تنظرُ إليها باشتياق، تحدِّثها:
-كالعادة العقاب ياإلياس بالبعد، يعني علشان طلبت أرتاح يومين حضرتك سافرت..طب والله زعلانة منَّك ولازم أحاسبك لمَّا ترجع..
تجمَّع الجميع بمنزلِ السيوفي، ترجَّل من سيارته..وقعت عيناهُ على أرسلان..
تحرَّك إليه ثمَّ توقَّف أمام المسبح:
-أرسلان بتعمل إيه ؟!
يامرحبا بحضرة الظابط، انا باكل رُمان، تاخد شوية؟.
-بارد..مين جوا
-مفيش حد غريب، البيت، بس ملك مع إسلام بيشوف الجناح
-اممم ..مفيش حد غير ملك واسلام
حدجه بنظرة ثم قال ، ماما فريدة وعمو مصطفى
وضع بعض حبِّ الرمَّان بفمهِ ثمَّ جلس على جدارِ المسبح، يهزُّ ساقيهِ بالمياه، ويدندن..مع جلوس إلياس ينظر بالمسيح ..انت هنا من زمان
-من الصبح، وهبات هنا، معاك يومين عارف هطير من الفرحة
-اه طبعا دا لو قعدت معاك اصلا
-براحتك..قالها وفتح هاتفه يدندن معه
-أنا مصدَّع وصوتك وحش.
-حط قطنة، ولَّا امشي، حد قالَّك تقعد جنبي.. انت مش لسة راجع من السفر
رفع حاجبهِ وطالعهُ لبرهةٍ بصمت، ثمَّ نهض من مكانهِ مقتربًا منه:
-بتستفزني صح، لم يرد عليه وبدأ يلوكُ الرمَّان
وهو يدندنُ ثمَّ صمتَ ورفع رأسهِ بعدما استمعَ إلى أنفاسه:
-إنتَ مستفز لوحدك، مش منتظر حد يستفزَّك، أقولَّك سر، مراتك فوق جت من ساعتين وكانت مع غرام قعدوا شوية وبعدين طلعت أوضتك القديمة، ياترى ليه، انا بقول راحت تسرق خزنتك، فيها ملايين، ودي ياكبد أمّّها بتعمل مشروع جديد ومحتاجة بنك وطبعًا حضرتك أكتر واحد شايل فلوس.
ركله بقدمهِ حتى سقط بالمياه:
-معرفشِ كانوا بيرضَّعوك أيه وأنتَ صغير، تلج؟..
خرج من المياه يسبُّه:
-كدا ياغبي وقعَّت الرمان، ألُّمه إزاي دلوقتي، دا أنا دفعت دمِّ قلبي علشان البتِّ الِّلي فوق دي تفصَّصه..
جزَّ على أسنانهِ يهمسُ من بينهم:
-إنتَ يابني مصدَّق نفسك مخابراتي..
-لا..إنتَ مصدَّق لو صدَّقت صدقَّلي معاك، أصلها نظريات.. وعلى فكرة أنا استقلت من الوظيفة دي، ومش عايز تدخل منك ومن اسحاق
استدار وهو يتمتمُ بسبِّه، فأردف أرسلان بصوتٍ مرتفع:
-سامعك على فكرة وهشكيك لإسحاقو وإنتَ عارف الشكوة منِّي لإسحاقو بتعمل إيه..
خطا بخطواتٍ تأكلُ الأرض، قابلته فريدة ومصطفى بالحديقة:
-إلياس رجعت إمتى، مش كنت بتقول هترجع بعد يومين؟.
-مكنتيش عايزاني أرجع، ولَّا علشان الجلف دا أخد مكاني قولتوا خلاص..
-جلف، مين دا..يوووه، قالها وصعد إلى الأعلى، خطا لداخلِ غرفتهِ ومع كلِّ خطوةٍ تزداد دقَّاته، أيامًا كشهورٍ كسنواتِ عجاف، كيف سيكونُ اللقاء، توقف لبعضِ اللحظات يسحبُ نفسًا، ثمَّ فتح بابَ الغرفة بهدوءٍ ظنًا بأنَّها تبحثُ عن شيءٍ مثلما قال له أرسلان، دلف للداخلِ وطاف بعينيهِ على الغرفة، ثمَّ اتَّجه لسريره، وجدها تغطُّ بنومٍ عميق..
دنا بخطواته المتمهِّلة، ورغم بطئها، ترتفعُ أنفاسه، وقعت عيناه على وجهها ليشعر وكأنَّ شمسَ حياته هلَّت مرَّةً أخرى، وايقظ فجره ليشعره بأملًا جديدًا، تبسمت عيناه وهو يجلس بجوارها على الفراش، يرسمها بحب كأبدع فنان،
وكأن النظر إليها أعاد الروح مرة أخرى، اسبوع كاملا، ظن أنه يعاقبها ولكن أيقن أنه يعاقب نفسه، دنى أكثر يشتم عبيرها ليختل توازنه، يضرب بوعوده وعهوده ضرب الحائط، رفرفت بأهدابها بعدما شعرت بأنفاسه الحارة، لتفتح عيناها بتمهل، كأنها تحلم به، همست اسمه بابتسامة
-ليه نايمة هنا، احنا لينا اوضة فوق
هنا تيقنت أنه مش حلم بل حقيقة اعتدلت تجمع خصلاتها تهرب من نظراته
-معرفش نمت ازاي
رفع أنامله على وجهها ولكنها ابتعدت قائلة
-هشوف يوسف بقالي ساعتين نايمة محستش بيه
-اجهزي هنرجع بيتنا، انا عديت على البيت فكرتك لسة عند يزن
قالها وتحرك سريعا للخارج
بعد عدة أيام كان يجلس بالحديقة يتابعها وهي تلهو مع طفلهما، لم يحاول أن يقترب منها مجددًا، تقديرا لكرامته بعد رفضها له عدة مرات، استمع الى رنين هاتفه
-اسحاق باشا، ازي حضرتك
-عدي عليا، علشان نتفق مع الكمبوند ..
-إن شاء الله..قالها ومازالت نظراته على من أرهقت روحه، ظل ينقر على الطاولة بهدوء، فاستمع إلى حديثها بالهاتف:
-لو عملتي محشي هاجي غير كدا لا
على الجانب الآخر قالت رؤى
-طيب ياستي ابعتي مكونات وانا هشوف النت واعمله..نادت ميرال على الخادمة
-ابعتي السواق بحاجات المحشي بيت طارق، ولو عايزة تاخدي إجازة هنتغدى النهاردة عند الأستاذة رؤى
ضحكت رؤى وقالت استر يارب، همست إليها
-متنسيش إلياس مابيكلشِ محشي، اعملي له خضاره اللي بيحبُّه..
-طيب ياختي مفيش حد بيحبّ غيرك إنتي وحضرة الظابط..
-دا مش حب يابنتي دا عشق عقبالك، ورغم صوتها الخافت الا أنَّه اخترق أذنه، وصلت الخادمة بقهوتهِ وضعتها وقالت:
-تطلب حاجة تانية ياباشا؟.
-لا..همَّت بالمغادرة إلَّا أنَّه اوقفها:
-قولي للطقمِ كلُّه إجازة النهاردة، وبكرة..
-تسلم ياباشا ..
بعد فترةٍ وهي مازالت بالحديقة تلهو مع يوسف مع وصولِ بلال، دلف للداخل يبحثُ عن محتوياتِ المحشي بعد الاستماعِ لكثيرٍ من الفيديوهاتِ
على رنينِ هاتفه فردّ:
-بتعمل إيه ماتيجي نروح نلعب باسكت في النادي..
-هتصدَّق لو قولت لك بعمل إيه؟.
توقف بالسيارة وشهقَ قائلًا:
-اوعى تكون بتموِّت البتِّ ميرال، بس ازاي أنا لسة موصَّل بلال وكانت زي القردة في الجنينة..
-افصل شوية وقولِّ
المحشي بيتعمل إزاي؟.
-محشي إيه؟.
-نظر للكرنبة التي أمامهِ وحاول يتذكَّر اسمها فقال:
-المحشي اللي الشعب المصري كلُّه بياكله..
-إنتَ سخن يابني؟!.
-امشي ياأرسلان يخربيت اللي يسألك عن حاجة..
ردَّ أرسلان قائلًا:
-مفهمتش حاجة والله..
-محشي الكرنب بيتعمل إزاي؟.
قهقهَ الآخر وقال:
-دا سهل خالص افرد الكرنبة في الحلَّة وحط عليها شوية رز وفوقيها مية دي عايزة ذكاء يابني..
نظر إلى الفيديو الذي توجدُ به أحدهم تقوم بتقطيعِ الكرنب وتضعها بإناءٍ فقال لأخيه:
-بس دول بيقطَّعوه وبيحطُّوه في مية سخنة..
-بيقطَّعوه إزاي؟.
-بالسكينة ياظريف..طيب يابني ماتطلبهُ من برَّة إيه الدوشة دي، والله إنَّك فاضي..، ولا اقولك اعمل بشاميل سهل، هتجيب مكرونة وتحط عليها لبن وتحطها في الفرن، يوووو: نسيت اللحمة، اكيد بيسوها في الاول
-امشي ياارسلان مش ناقص استخفاف
-لا بجد بتعمل محشي، إلياس السيوفي بيعمل محشي ..حك رأسه ثم قال
-لا دا كنت بشوف الستات دي شغلتها ايه في موضوع المحشي، الكل بيحبه، علشان كدا سألتك بما انك بتحبه
-هعمل مصدقك، بالف هنا ياست ميرال ، أغلقَ معه ثمَّ بدأ يفعل كما يشاهده..دلفت ميرال إلى المطبخ بعدما تحدَّثت مع يوسف:
-هجبلك إنتَ وابنِ عمَّك تشكوليت، خلِّيك عند بلال ليوقع في البيسين..
قالتها ودلفت للداخلِ ولكنَّها توقَّفت على البابِ تنظرُ للذي يرتدي مريول المطبخِ ويقفُ أمام الغازِ يرفعُ الإناء من فوق النار..
-إلياس بتعمل أي يه؟.
سقط الإناءُ من بين يديهِ ليصرخ فجأةً بعدما وصلت المياهُ السخنة قدمه..
ركضت إليه بعدما تراجعَ يرفعُ قدمهِ من حذائه،،
انحنت تنظرُ إلى قدمهِ وهرولت تجلبُ مرهمَ الحروق..جلس على المقعد ورفع قدمهِ فوق المقعد ينظر لأثرِ الحرق،
وصلت إليه وقامت بفردِ المرهمِ عليه..
-كنت بتعمل إيه بالميَّة دي، قالتها وهي تتجوَّلُ بعينيها بالمطبخِ لتشهقَ ثمَّ توجَّهت بأنظارها إليه:
-ايه الكرنب الِّلي على الأرض دا ..بيعمل إيه؟..
-كان بياخد شاور..قالها ونهض يتحرَّك بصعوبة..بينما ظلَّت تنظرُ إلى المطبخ بعيونٍ جاحظة، هناك من ثمرِ الطماطم فوق الرخام، وهناك من أوراقٍ من الكرنب متناثرة، وبعضًا من الأرز..
-معقول الِّلي فهمته!!
- لا أكيد القيامة هتقوم..
↚
لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين "
كيف لقلبٍ واحدٍ أن يحتوي أنثى مثلك؟
وأنتِ تضجين بالعذوبة حتى ليخجل الورد من عطرك!
كلُّ تفاصيلكِ تقول: لا يكفيني عاشقٌ واحد،
ولا تكفيني لغة واحدة،
ولا يتّسعني وصفٌ من حروف البشر.
في عينيكِ يسكن دفء القصائد،
ويتهادى فيها الحنين كنسيمٍ عابر فوق صدر القصبة،
كأن الله حين خلقكِ، أسرف في الجمال،
ثم خبأ فيكِ فتنة الأرض وطمأنينة السماء.
شعركِ؟
ليس سوى ليلٍ ناعمٍ يتدلّى من بين كفوف الغيم،
تتشابك فيه النجوم،
وتنحني له الريح احترامًا.
ووجهكِ...
وجهكِ مرآة القمر حين يتجمّل ليلاً،
وسرّ النور حين يهرب من الشمس خجلاً.
أقسم، لو امتلكتُ ألف قلب،
لما اكتفوا بكِ،
ولظلّ قلبي، كلّ يوم،
يشتاقكِ كأنما يراكِ للمرة الأولى.
قبل بداية القراءة
ارجو عدم الاعتراض على الاحداث، اولا انا أعلنت فيه جزء تاني، وكنت ناوية اخلصهم ورا بعض، لكن البعض قال عايزين نجدد بقصة جديدة، وانا طبعا دائما عند حسن ظن فانزي ..وعملت اللي حبيتوه
المهم اللي عايزة أوضحه مش شرط علشان الخاتمة تبقى كلها حب واحتواء، قولت قبل كدا افكار الرواية من الواقع، عامة انا معظم رواياتي بتكون أكثر واقعية، علشان كدا بتكون حزينة لأننا للاسف واقعنا مليان بالألم والوجع ..فرجاء حبيباتي ثقوا فيا الرواية حلوة جدا والله وكانت تستاهل اكتر من كدا، دي تخلص على ٨٠ فصل ابطالها كتير، وقصصهم مختلفة ، المهم كملوا قراءة ومنتظرة ارئكم اللي بتسعدني، والله متقبلة كل الآراء سلبي وإيجابي بدل في حدود الرواية
ولو الفصل دا جاب فووووت اكتر من 3000 لقبل العيد ممكن اكمل على طول الجزء التاني أما بقى لو لقيت زهقان زي مالاحظت من البعض يبقى نأجلها زي عشق لاذع كدا لما اجلتها ونزلت بعازف اللي كسرت الدنيا، رغم القلوب المريضة اللي حاولت توقعها
انتوا اللي تختاروا ..انا مجرد بكتب علشان اسعادكم مش اكتر ماليش اجبركم على نوع معين وزي ماقولت حسب الإقبال هنشوف
بمنزل إلياس
صعد إلى غرفتهِ وهو يشعر بنيرانٍ تتصاعدُ من قدمه، كأنَّ كلَّ خطوةٍ تلسعهُ لهيبًا، دلف إلى الحمَّامِ دون تفكير، فتح الماءَ البارد ووضعَ قدمهِ تحتها، لا ليريحَ الألمَ فقط، بل ليواري الضعفَ المتسلِّل داخله، تطلَّعَ إلى الإحمرارِ الذي اجتاحَ بشرته، زفر، ثمَّ التقط المنشفةَ وبدأ يجفِّفُ بهدوء..
خرج يجرُّ قدمهِ جَرًّا، في تلك اللحظة أطلَّت ميرال تحملُ حقيبةَ إسعافاتٍ أولية، تنظر اليه بملامح مشوبةٍ بالقلق، فأردفت بصوتٍ ناعم، إلَّا أنَّه حاسمًا:
-اقعد...خلِّيني أشوف الحرق وصل لحدِّ فين.
لم يُجادلها، جلس على طرفِ السرير، وأسند رأسهِ إلى الإطارِ الخشبي، مغمضَ العينين وقال:
-مفيش حاجة...أنا برَّدته، والمية مكانتشِ سخنة أوي.
جلست أمامه، وسحبت قدمهِ برفق لتضعها فوق ركبتيها، وكأنَّها تتعاملُ مع طفلٍ رضيع، لا مجرَّد إصابة... فتحت الكريم وبدأت تفردهُ بأطرافِ أصابعها بلطفٍ بالغ، تحاولُ أن تسحبَ بهم حرارةَ الألم..نظرت إلى عينيهِ المغلقة وقالت:
-ده كريم أقوى، ومش هيترك أثر... الحمدُ لله إنَّك كنت لابس الجزمة.
لم يرد، ظلَّ كما هو، بينما هي تفردُ الكريم بكلِّ حنانٍ ولطف، رفعت قدمه ونفخت هوائها بأنفاسها كي تلطِّفُ حرارةَ قدمه، فتح عينيهِ فجأة، وجدها بالقرب من فمها، سحب قدمهِ ببطء:
- بتعملي إيه؟
توقَّفت، ثمَّ رفعت عينيها إليهِ وقالت بهدوء:
- مفيش...بس حسِّيت إنِّ حرارته عالية، وكنت بحاول أوصَّل له شوية هوا.
رمقها بنصفِ ابتسامة، وأشار إلى قدمه:
- دي رجلي على فكرة.
ضحكت بخفَّة، وهزَّت كتفيها ببراءة:
- عارفة...ماأنا شايفاها.
-بس أنا مابحبِّش مراتي تعمل كده، إنتي مراتي، ومينفعش تلمسي رجلي بالشكلِ ده.
سكت، ثمَّ أشار إلى جانبهِ بإيماءةٍ صغيرة، ونطق بنبرةٍ مداعبة:
- تعالي جنبي، وأنا أقولِّك الحتَّة الِّلي فعلاً مولَّعة.
نظرت إليه، بعيونٍ ممتلئةٍ بالدهشة:
- إنتَ..اتحرقت في مكان تاني؟!.
ابتسم ابتسامةً غامضة، ووضع كفِّهِ على صدره:
-آه...قلبي دخَّن منِّك ياميرال..تعالي طفِّي حرقه.
-قلبك محروق منِّي!!
ابتعد بنظرهِ عن مرمى عينيها التي تضعفه، يشعر بأنَّه سيقعُ شهيدًا لهذا الحب..
سحبت قدمهِ مرَّةً أخرى وبدأت تنفخُ عليها، اتَّجه بنظرهِ إليها سريعًا:
-إياكي تعملي كدا تاني.
زحفت نحوهِ ببطء، وهمست بصوتٍ بالكادِ يُسمع:
- بس أنا مراتك و مفيش فرق بيني وبينك، أشار بيده:
- إلَّا في الحاجات اللي تمس كرامتك، إنتي مش جارية..
-واللي تعمل كدا تكون جارية ياإلياس!.
-ميرال..أنا مبحبش كدا..مكانك في حضني وجوَّا قلبي مش تحت رجلي بالشكل دا
ترقرقت عيناها بالدموع تهمسُ له:
-بجد!.
-عندك شك في كدا، لو لسة بتشكِّي تبقى مصيبة، وكأنِّنا بنرجع لنقطة الصفر.
-لا ياحبيبي مش قصدي اللي فهمته، قصدي أنا حاجة كبيرة أوي كدا، شايفني أستاهل المكانة دي؟.
-ومحدش غيرك يستاهلها، خلِّيكي واثقة في كدا.
-واثقة وأوي، بس بحبِّ أسمعها منَّك، عايزة أجمَّع كلمات كتير أوي تطلع منَّك عفوية وخاصَّةً اعترافك بحبُّي، صمتت ثمَّ سألت فجأة:
كنت بتعمل إيه في المطبخ؟ وفين الخدم؟
إدِّيتهم أجازة..
-كلُّهم؟!
هزَّ رأسه، وعينيهِ لم تفارقها، وكلماتها كقطرةِ ندى على حرقه، ولكن ليس حرقُ قدمه، بل حرقَ قلبهِ من هجرها القاتل، تابع قائلًا:
-كنت عايز أصالح مراتي اللي زعلانة منِّي بقالها أسبوعين...قولت أعمل لها حاجة بتحبَّها، بس فشلت.
شهقت بألمٍ كاد أن يخنقها، تغمضُ عينيها ثمَّ تفتحهم على دمعٍ كالنجومِ المتلألئة وقالت:
-معقول...إنت كنت بتعمل محشي؟! علشاني؟!.
لم يرد..فقط نظر إليها، وابتسم بعينيه..
اقتربت أكثر حتى وصلت إليه، ظلَّت تتطلَّعُ إليه، والدموع تتكوَّمُ في عينيها كأنَّها تخشى أن تضعفَ وتنهار، وكرَّرت سؤالها بعدما وجدت صمته:
-إنتَ كنت عايز تعمل محشي علشان تصالحني..بجد؟!
اعتدل، والتمعت عينيه، ثمَّ مدَّ أناملهِ ليمسحَ دموعها قبل أن تهربَ من وجنتيها..وهمس بنبرةٍ متهدِّجةٍ بالعشق:
- وأعمل أيِّ حاجة... علشان أشوف ضحكتك اللي بتخصِّ إلياس..لكن المحشي عام في الأرض
ضحكت عندما تذكرت حديثه
-ازاي فكرت بالفكرة المجنونة دي، دا محشي، وكمان مابتحبوش
-بس بحبك انتي، مش دا اللي عايزة تسمعيه، سحب كفيها ووضعه على جنبه
-ميرال تعرفي رغم كنت زعلان منك علشان موضوع الكلية دي، بس احسن حاجة حصلت لي، هتصدقيني لو قولت لك سعيد علشان جوايا حاجة منك
اسف ميرال على كل وجع بسببي وكل دمعة منك علشاني .. متزعليش مني، بحاول اصلح من الشخصية اللي انت مش حباها، عايز دايمًا الشخص اللي اتمنتيه
احتضنت وجههِ بين كفَّيها، وانسابت دموعها برفق، كأنَّها لم تعد قادرة على التماسك بما يفعلهُ من أجلها، فقالت من بين شهقاتها الخافتة:
- بس أنا مش زعلانة منَّك...
ممكن أكون واخدة على خاطري، بس مش زعلانة...صدَّقني..ومين قال مش انت اللي اتمنيته
جذب رأسها إلى صدره، وقال بصوتٍ خرج عميقًا، دافئًا رغم ألمه:
- لا..زعلانة، هوَّ أنا لسه مش حافظك، مهما حاولتي تضحكي وتخبِّي، أنا شايفك...وعارف إنِّ جواكي حاجة مضايقاكي.
صمتَ لحظة، ثمَّ أكمل بصوتٍ منخفض:
- آسف...أنا بحاول زي ماقولت لك عايز أكون الزوج اللي تستحقيه، بس الشغل ضغطني، غصب عنِّي، يمكن ما بعرفش أعبَّر، بس واللهِ مضغوط من أوَّل ما اترقِّيت..
رفعت رأسها إليه، ونظرت في عينيهِ تسبحُ بنظراتِ عشقهِ لها، ثمَّ قالت:
- أنا الِّلي آسفة...
كنت تعبانة، مش منَّك بس، من كلِّ حاجة حواليا، ومضغوطة، متزعلشِ منِّي..
مدَّ يدهِ المرتجفة بشوق، ولمس وجنتيها كمن يلامسُ نبضَ قلبها باسمه، ثمَّ غرق في بحرِ عينيها كأن لا ملاذَ له سوى النظرَ إليها، وهمس بصوتٍ يحملُ كلَّ العشقِ الذي بداخله:
- حتى لو كنتي مضغوطة وزهقانة... مش أنا أولى أكون حضنِ الأمان؟ مش أنا؟
ارتجفت نظراتها، وابتعدت برأسها عن أنفاسهِ التي لا ترحمها، فارتجفَ قلبها لقربه، وتمنَّت لو يسحبها لأحضانهِ ولا يتركها سوى باختناقها، تشعر بمشاعرَ عشوائية، لا تعلم ماذا بها، تريدُ اقترابهِ وجنونِ عشقه، ولكن هناك مايعوق هذا..
-ميرال، إيه الِّلي تاعبك؟.
رفعت رأسها وانتظر حديثها،
تمتمت بصوتٍ خافتٍ يحمل وجعَ ماشعرت به من بعدهِ في تلك الايام:
- ماأنا قولت لك...الضغط مش بس من حاجة واحدة، ده من كلِّ حاجة حواليا...بس خلاص، أنا كويسة.
امال برأسه منها بهدوء، ثم رفع ذقنها بأنامله، وأجبرَ عينيها على النظرِ لعينيه، ثمَّ نطق بكلماتٍ خرجت من أعماقِ روحه:
- إنتي مش مراتي وبس، كلِّ حاجة، افهمي معنى الكلمتين دول.
مكانك هنا جوَّه قلبي، ده أمانك اللي ملهوش بديل..ومش هعاتبك علشان أنا قصَّرت معاكي..
ارتعشت شفتاها، وأخفضت رأسها، ودمعةٌ دافئةٌ انسابت بخجلٍ فوق وجنتها..
سحبها إليه بقوَّةِ عاشق، وطبع قبلةً على رأسها كانت أشبهُ بقَسَمٍ أبدي، قبلةٌ حملت كلَّ حنانه، كلَّ عشقه، كلَّ كيانه.
تماهت في صدره كقطة اليفة، ولفَّت ذراعيها حولهِ كمن وجد وطنهِ بعد تيهٍ طويل، ثمَّ قالت بابتسامةٍ باهتة:
- انا لحد دلوقتي مش مصدقة، معقول تعمل محشي علشاني؟!... على كده أنا غالية أوي.
ضحك بهدوء، واختلط صوتهِ بأنفاسهِ الحارَّة وهو يمرِّر أصابعهِ في خصلاتها بعدما تيقن أنها تحاول أن تغير مجرى الحديث، فهتف بنبرة عاشقة:
- لا ياروحي، إنتي مش غالية...
رفعت رأسها ببطء، واحتبست الأنفاسُ في لحظة، وعانقت الأعينُ بعضها بعض، وهناك حديثًا طويلًا لم يفهمه سوى العاشقين، نظرةً من عينيهما، يصرخُ بها العشق الذي انفجرَ بين الصدور، ونبضًا يتراقصُ على إيقاعِ قلبينِ أصبحا واحدًا.
وأخيرًا، بعد صمتٍ دام بينهم كأنَّه الأبد، ارتجفت شفتيها بكلمة، من
ثلاثةُ أحرف، لكنَّها حملت في طيَّاتها طوفانًا من المشاعر، حبًّا لا يُقاس، ولا يُوصَف:
- بحبَّك.
هنا...انكمش الزمن، وسكت العالم،
لتتوقَّفَ عقاربُ الساعة عن الدوران،
واختنق الكونُ في لحظةِ صمت، ليشهد على سيمفونيةٍ من العشقِ لاتعرفُ سوى احتضانِ القلوب
دقَّاتٌ على بابِ غرفتهم، ليبتعدَ عن جنَّة عشقه، يلهث، ثمَّ نهض متَّجهًا إلى الباب، وجد طفلهِ يقف يعقدُ ذراعيهِ أمام صدره:
-بقالي ساعة منتظر التشكوليت الِّلي ماما بتجبها، وفي الآخر نسيت، ماما عند حضرتك صح؟..
بالداخل، جزَّت على شفتيها بخجلٍ بعدما استمعت إلى حديثِ طفلها، أعدلت هيئتها التي بعثرها زوجها ولفَّت وشاحًا حول عنقها بعدما دلفت إلى الحمَّام وأغرقت وجهها بالمياه، تمحو أيَّ أثر من قبلاته، بالخارج
جلس على عقبيهِ ثمَّ أشار على ساقيه:
-بابا رجله اتحرقت، وماما كانت بتعالجه، بدل ماتقول لبابا ألف سلامة جاي توقف وزعلان!!
نفخ الطفلُ وجنتيهِ ثمَّ نظر إلى قدمِ والده:
-وأنا كنت أعرف يابابا، كانت نادت وقالت أيِّ حاجة أو بعتت مع النانا، بدل ماأنا اتحرقت في الشمس مع بلال بانتظار التشوكليت.. يعني مش حضرتك بس اللي تحرقت، جز إلياس على أسنانه من حديث نجله، فقال
-دا ألف سلامة يابابا، وصلت ميرال تحمحم:
-خلاص يايوسف، آسفة حبيبي، هنزل أجيب لك التشوكليت، رفع عينيهِ إليها ثمَّ أشار إليها بالدخول:
-أنا هنزل معاه، شوية وراجع.
-هتمشي إزاي ياإلياس، رجلك بتوجعك.
سحب كفَّ ابنه وعيناهُ تتفحصُ هيئتها ثمَّ أشار إليها بالدخول:
-أنا هتصرَّف..
تحرَّك مع طفلهِ إلى الثلاجة يفتحُ العلبَ الخاصَّة بحلوى الأطفال، ثمَّ أخرجَ بعضها، ووضعها أمامهِ على السرفيس وأشار إليه بالخروج:
-شوف النانا فين قولَّها كلِّمي بابا.
-طيب ماحضرتك بتمشي اهو، ليه ماما فوق
-يوسف روح لابن عمك وابعت النانا
-حاضر يابابي..قالها الطفل وركض للخارجِ وهو يحملُ حلوياته..
وصلت إليه المربية:
-خلِّي بالك من الولاد، وكلِّمي حد من مكتب الخدم يبعت حد ينضَّف المطبخ دا.
-حاضر..بعد فترة صعد إلى غرفته، استمعَ إلى المياهِ بالحمَّام، علم أنَّها بالداخل، خرج إلى الشرفة يراقبُ طفلهِ وطفلَ أخيه، وجدهم يلهون بألعابهم بجوار المربية، أغلقَ الشرفة، واتَّجه إلى غرفةِ الملابس، يخرجُ شيئًا مناسبًا للنوم، استمعَ إلى رنينِ هاتفها، خرج يرفعهُ وجدها رؤى:
-أيوة يارؤى؟.
-ميرال المحشي صعب أوي، مش عارفة أعمله، شوفي حاجة خفيفة، إيه رأيك أعملِّك بيتزا، جميلة يابنتي.
-ميرال في الحمَّام يارؤى..ردَّت عليه بخجل:
-إلياس أنا آسفة، فكَّرتك ميرال..
صمتَ للحظات ثمَّ قال:
-أنا هقولِّك على حل أفضل..نلغي الغدا ونتعشى كلِّنا برَّة النهاردة، بالليل هبعتلكم اسمِ المطعم.
-تمام..قالتها وأغلقت الهاتف، وضعهُ بخروجها من الحمَّام، تنظرُ إليه متسائلة:
-مين كان بيتصل؟..اقترب وعيناهُ تفترسُ هيئتها بدءًا من ساقيها إلى عنقها الذي تنسابُ فوقه قطراتُ المياه، مرَّر أناملهِ على تلك القطراتِ التى تنزلقُ من خصلاتها، ثمَّ سبح بعينيها المرتجفة:
-كدا تاخدي شاور لوحدك، كنا بنقول إيه قبل مايوسف يجي ويقطع كلامنا؟.
أغمضت عينيها بعدما دفن وجههِ بخصلاتها الندية فارتجفَ جسدها بين ذراعيه، همست اسمهِ بتقطُّع، ولكنَّه قضى على كلِّ مايبعدها عنه.
بمنزل آدم..
أنهت دراستها، قامت بإغلاقِ الإضاءة، ثمَّ اتَّجهت إلى غرفةِ طفلها، وجدتهُ يغفو فوق صدرِ والده، سحبتهُ بهدوء، ووضعتهُ بفراشه، واتَّجهت إلى آدم:
-حبيبي يالَّه قوم نام في السرير.
فتح عينيهِ ينظرُ إلى يده، ثمَّ التفتَ ينظرُ بفراشِ طفله، واعتدل يمسحُ على وجهه:
-نمت ماحستش..
ولا يهمَّك، رائد نام، يالَّه إحنا كمان علشان ننام..نهض من مكانهِ يهزُّ عنقهِ مرَّةً يمينًا ومرةً يسارًا عندما شعر بتشنُّجه، ثمَّ حاوط جسدَ إيلين وتحرَّك للداخل، دلفت إلى الحمام دقائقَ معدودةً ثمَّ خرجت ترتدي ثوبًا ناعمًا من اللونِ الأسود، يصل فوق الركبة، مكشوفَ الظهر، وجلست أمام المرآة تتزيَّن، بينما توجه أدم إلى غرفةِ الملابسِ وخرجَ بعد فترة، وجدها تضعُ أحمر شفاهٍ فوق شفتيها، تحرَّك نحوها، ثمَّ انحنى وحاوطَ جسدها ينظرُ إلى انعكاسِ صورتهما في المرآة:
-بتحطِّي إيه؟..مالوش لازمة لأنُّه هيتمسح ياروحي.
ابتسمت، ورفعت رأسها تنظرُ إلى وجهه:
-دا ثابت متخفش مش هيتمسح.
-ياراجل..إنتي بتشكِّكي في قدرات جوزك..
قهقهت عليه، ولفَّت الكرسي سريعًا حتى أصبحت بمقابلةِ وجهه، وجذبتهُ من عنقهِ سريعًا وقالت:
-يمكن ياحبيبي، هنشوف حتقدر على مسحِ الروج ولَّا لأ.
برقت عيناهُ ينظرُ إليها بذهول، ثمَّ أشار على نفسه:
-بتشكِّكي بقدرات جوزك يادكتورة!! اقتربت من أذنهِ وهمست له بعض الكلمات، فانحنى يرفعها بين ذراعيها، لتشهقَ بفزعٍ تلفُّ ذراعيها حول عنقهِ لا إراديًا..
-طيب والله لأندِّمك يادكتورة على كلماتك دي، يعني علشان مقدَّر تعبك، تشكِّي في جوزك؟..استلمي بقى..
ابتعدت على السرير وارتفعت ضحكاتها:
-خلاص..خلاص بهزَّر يادكتور، عارفة إنَّك جامد وجامد أوي.
خلع كنزتهِ وألقاها بغضبٍ على الأرض وقال:
-واللهِ أبدًا، لازم أورِّيكي عملي مش نظري.
بعد فترة كانت تستند على ذراعيه
-يعني هنسافر خلاص الاسبوع الجاي
اعتدل وجلس بمقابلتها
-حبيبي اسمعيني، انت عارفة لو كملتي برة احسن، وكمان شغلي برة احسن من هنا بكتير وخبرات طبعا
-خلاص ياادم اللي تشوفه، بدل احمد ومريم هيسافروا معانا فأنا موافقة، رغم اعتراضي على الغربة، صمتت ثم اردفت متسائلة:
-كدا خالوا هيفضل لوحده
-لا حبيبتي بابا هيقعد مع عمتو
-رحيل لسة زعلانة مع جوزها معرفش ياايلين ومحبتش ادخل بينهم
-طيب ايه رأيك نزورهم بكرة ونعرف الدنيا معاهم ازاي
-تمام ياله ننام علشان هلكان وعايز انام
-ليه خالو رفض يسمي رائد على اسمه ياادم..مش كنا متفقين، بجد زعلانة
فتح عيناه يتطلع إليها قائلا:
-بجد بتسألي بعد الشهور دي كلها، بابا محبش يزعل عمو محمود، وكمان قال منعا للخبطة، وبعدين ياست الدكتورة دا مش اخر ولد يعني، لسة هنجيب ولاد تانية يبقى سميهم
قالها وجذبها لأحضانه وقال:
-لو سمعت حاجة تانية هقوم اكمل الروج ..قهقهت تدفن نفسها بأحضانه
بمنزلِ يزن...
تململت فوق الفراش بتأوُّهٍ مكتوم، ورفعت كفَّيها لتضعهما على جبينها حين باغتها ثقلٌ غير مألوف..كمادات! ضغطت بين حاجبيها، وقبل أن تستوعبَ المزيد، شعرت بذراعهِ الصلب تحت رأسها...
اتَّسعت عيناها، شهقةٌ صامتةٌ حُبست بين شفتينِ مرتجفتينِ وهي تراه قريبًا حدَّ الالتصاق..أنفاسهِ تختلطُ بأنفاسها، ودفءِ أنفاسهِ يعبثُ باتزانها.
"كيف وصلت إلى هنا؟!" سألت نفسها وملامحهِ الهادئةِ تنسجُ في صدرها وجعًا أكبر من الحمَّى.
تذكَّرت فقط كلماته...تلك التي شقَّت قلبها نصفينِ وتركها في الحديقة، مكسورة، تائهة، لا تملكُ إلَّا دموعها.
همست لنفسها:
- طيب إيه اللي جابني هنا وأنا كنت برَّة؟
تأمَّلت ملامحه، فرجفَ قلبها كأنَّ نبضهِ يُناجيها، كأنَّه يحتضرُ تحت وطأةِ قُربٍ لم يعد يسع الاثنين.
مدَّت كفَّها المرتجفة لتستقرَّ على صدره، فوق نبضه...
"هل يصرخ مثلي؟ هل يوجعهُ ما يوجعني؟"
دموعها تساقطت، كأنَّها لم تعد تملك حيلةً للكتمان...شهقةً أفلتت دون إرادةٍ منها.
بينما هو...فتح عينيهِ على وقع شهقاتها
انتفض، وسحب ذراعهِ من تحتِ رأسها، وقام دون أن ينطقَ بحرف.
- أنا جيت هنا إزاي؟
سألتها شفتاها المرتجفتان، فجلس على طرفِ الفراش، يديرُ ظهره، وصوتهِ يغلِّفهُ جليدًا من الخذلان:
- معرفش...اسألي نفسك..أنا كنت نايم ومش فاكر حاجة.
قطبت جبينها، وقالت بنبرة ملتهبةً بالبكاء:
- أنا كنت في الجنينة!..يعني إيه مش عارف؟!
التفتَ نحوها، والغضبُ انفجرَ في ملامحه:
- والله العظيم..إنتي الِّلي نايمة في سريري! وفي حضني! اسألي نفسك... يمكن شرَّبتينا حاجة صفرا...ماإنتي متعودة على كده!
قالها ثمَّ مضى إلى الحمام، يهربُ من دموعها التي كادت تحرقُ صدره.
أغمضت عينيها بألم، وبدأت تتذكَّر كلَّ شيء..خافضَ الحرارة، الغطاء، دفءَ السرير.
لكنها شهقت حين سحبت الغطاء ورأت ملابسها مرمية أرضًا...وهي ترتدي غيرها..
ركضت، تصرخُ بانهيار:
- يزن!..
ودون وعي، دفعت باب الحمام...
كان يخلعُ كنزتهِ حين اقتحمت عليه المكان..
جمدا مكانهما، والصدمة بينهم تشبه جدارًا من نارٍ لا يعرفانِ كيف يُطفئانه.
ابتلعت ريقها بصعوبة، واستدارت بسرعةٍ وهي تتمتمُ بتقطُّع:
- آسفة...أصـ... أصل يعني..
- استني، قالها واقتربَ منها، وعلى وجههِ ابتسامةً خبيثة، حتى توقَّف خلفها مباشرة، وانحنى لمستوى جسدها، وهمس بنبرةٍ متسليَّة:
- هيَّ حصَّلت تفتحي عليَّا الباب وأنا باخد شاور؟ للدرجة دي واحشك؟
استدارت إليهِ فجأة، ترمقهُ بازدراء، وهتفت بعينينِ تشتعلُ غضبًا قبل أن تنطقها شفتاها:
- احترم نفسك، إنتَ مفكَّر نفسك مين؟ إنتَ ولا حاجة بالنسبالي، أنا كنت جاية أقولَّك إزاي تغيَّرلي هدومي، إزاي تتجرَّأ وتعمل كدا وأنا مش وعيي؟!.
قاطعها بوضعِ أناملهِ على شفتيها، وهمس بنبرةٍ خافتةٍ مشبعةٍ بالإغواء، جعلت جسدها يرتجفُ رغمًا عنها:
- اششش...إيه الدوشة دي؟ النانا برَّة، تسمعنا تفكَّر بنعمل حاجة...أستغفر الله العظيم..أموت و أعملها.
اتَّسعت عيناها في ذهول، تحدِّقُ في مقلتيهِ الماكرة، حاولت الحديث، لكنَّه اقتربَ أكثر، حتى أصبح قربهِ كاد أن يفتكَ بثباتها، وهمس بأنفاسهِ الحارَّة:
- مش كفاية ماسك نفسي طول الليل، قالها وعينيهِ اخترقت بؤبؤتها، واقترب أكثر وأكثر ليُذيبَ ما تبقَّى من حدود، لتلمس شفاههِ شفتيها في لحظةٍ خاطفة، لتشعر كمن أصابتها صاعقةً مفاجئة..
تراجعت فزعة، تختنقُ من خيانةِ جسدها له، بينما هو، طالعها بنظرةٍ متعاليةٍ ونبرةٍ وقحة، قال:
- بعرَّفك...أقدر أوصل لكلِّ حاجة، ومن غير تعب..بلاش غرورك الفاضي
دمعةٌ غادرة انبثقت من جفنيها وهي تتطلَّعُ إليه بخذلان، أزالتها سريعًا واتَّجهت للخارجِ بخطواتٍ تأكل الأرض وكأنَّ الأرضَ لا تسعُ لوجودها، دموعٍ خلف دموعٍ حتى فقدت الرؤية تمامًا، دلفت إلى الحمَّام، وأغلقت خلفها الباب حتى تقضي على ضعفها، على عجزها على كلِّ انهيارها..
دقائقَ طويلة مرَّت عليها وهي مازالت بمكانها لا تشعرُ بالوقتِ ولا تعي مايدورُ حولها، كلماتهِ تخرقُ أذنها كما خرقت قلبها وشطرتهُ لنصفين..
بينما عنده..توقَّف متيبِّسًا غير قادرًا على الحركة بعدما وجد نظرةَ الخذلانِ مع دموعها التي قضت على ماتبقَّى من قوَّة..اتَّجه سريعًا إلى الداخلِ وأكمل استحمامه، خرج بعد دقائقَ معدودة، بحث عنها بعينيهِ ورغم جمودهِ أو تصنُّعهِ عدم المبالاةِ إلَّا أنَّ قلبهِ انتفض خوفًا أن يصيبها أذى..
دلف إلى غرفةِ أولاده، وجد المربية تقوم بإطعامِ آسر، التفتَ إلى ابنتهِ التي مازالت غافية، ثمَّ أردفَ متسائلًا:
-الولاد محتاجين حاجة؟.
-معرفشِ ياباشمهندس المدام اللي تعرف، أنا فطَّرت آسر، ورولا فطرت ونامت لازم أخرج دلوقتي عندي شغل، أنا كنت متَّفقة مع المدام كلِّ يوم من الساعة تسعة لاتنين علشان لسة متعيِّنة جديد في مدرسة.
-تمام..روحي شغلك، حمحم ثمَّ تساءل:
-هيَّ مدام رحيل خرجت؟..تساءلَ بخروجها من الحمام، اقتربت منهما:
-روحي شغلك ومتتأخَّريش.
-تمام يامدام..أنا كنت بفهِّم الباشمهندش.
أومأت لها بصمتٍ ثمَّ تحرَّكت إلى خزانةِ ملابسها وأخرجت شيئًا مناسبًا للحركة، ظلَّ يتابعها بصمت، إلى أن قطعت الصمت بينهم:
-اطلع برَّة لو سمحت عايزة أغيَّر هدومي.
خرج دون حديث، اتَّجه إلى المطبخِ وقام بإعدادِ طعامِ الإفطار، وهو يزفرُ باختناق، حينما تذكَّر ماصار بينهما منذ دقائق...خرج يضعُ ماأعدَّهُ على طاولةِ الإفطار بخروجها تسحبُ كفَّ ابنها الذي يحاولُ الحركة بهدوء..
-يالَّه حبيبي روح عند بابا، لمَّا أجيب رولا..توقَّفت يداهُ عمَّا يفعلهُ بعدما استمعَ إلى حديثها، هل قالت له روح لبابا..رفع نظرهِ إليها سريعًا ولكنَّها ابتعدت وهي تصفِّقُ بيديها لطفلها:
-آسر شطور وبيسمع كلام مامي، برااافو..قالتها عندما تحرَّك الطفلُ باتِّجاههِ وهو يضحكُ بصوتهِ الناعمِ الصغير..رغم وصولِ أسر إليه وضحكاتهِ لأوَّلِ مرَّة وهو يهتفُ اسمه:
-بابا ..إلَّا أنَّ عينيهِ كانت تفترسُ ملامحها ليكتشفَ عمَّا يدورُ بداخلها، ولكنَّها ابتعدت مستديرة:
-خلِّي بالك من الولد، شقي وممكن يلعب في حاجة تضرُّه.
دلفت إلى الغرفة وأغلقت البابَ خلفها، وهنا انهارت على الأرضِ باكية، تضع كفَّيها على صدرها، علَّها تتنفسُ بهدوء..
ظلَّت لدقائقَ ثمَّ نهضت وتمدَّدت بجوارِ طفلتها وغفت بعد رحلةٍ من العذابِ المخزي لقلبها، بالخارجِ ظلَّ يلعبُ مع طفله وعيناهُ على الغرفةِ بانتظارِ أن تخرج، حمل الطفلُ وخرج خارج المنزلِ بعد علمهِ أنَّها ربما نامت..
بعد فترةٍ استيقظت على رنينِ هاتفها:
-رحيل فيه اجتماع مهم لازم تحضريه.
اعتدلت تجمعُ خصلاتها بعيدًا عن وجهها وأجابتهُ بصوتٍ متحشرجٍ بالنوم:
-الاجتماع الساعة كام؟.
نظر بساعتهِ وأجابها:
-بعد ساعة..تمام قالتها وأغلقت الهاتفَ باستيقاظِ ابنتها التي تضحكُ وهي تهتفُ اسمَ والدتها:
-ماما..انحنت تقبِّلها وارتفعت ضحكاتها، ثمَّ نهضت تساعدها على النزول وتحرَّكت للخارجِ تبحثُ عنهما ولكن المنزل كان فارغًا..نظرت إلى الطعامِ الموضوعِ ثمَّ اقتربت تُجلسُ ابنتها فوق ساقيها وبدأت تطعمها، وتناولت طعامها بدخولهِ من الخارج يحملُ طفله:
-حبيبي انزل عند مامي علشان نازل.
نهضت من مكانها وأزالت بقايا الطعام من على فمِ ابنتها، ثمَّ سحبت ألعابها وأشارت إليها:
-رولا حبيبتي تعالي العبي لمَّا ماما تروح مشوار وترجع، ثمَّ بسطت كفَّيها لطفلها:
-آسر حبيبي تعالَ علشان أقولَّك تعمل إيه..تحرَّك الطفلُ واتَّجه إليها..كلَّ هذا وهو يراقبها بصمت، دلفت للداخلِ دقائقَ معدودة وخرجت تحملُ حقيبتها..
ركض الطفلُ إليها:
-مامي مامي..كانت تجمعُ أشياءها، فقالت:
-نعم حبيبي.
همسَ بأذنها ببعضِ الكلماتِ وهو يختبئُ من نظراتِ والدهِ الصامت، اعتدلت بجسدها وخطر بذهنها شيئًا ما..فأشارت على يزن:
-روح لبابي ياحبيبي، قولُّه عايز إيه أنا عندي شغل.
نهض يزن من مكانهِ مقتربًا منها:
-رايحة فين، أنا نازل بعد شوية ضروري.
جمعت خصلاتها للأعلى وحملت حقيبتها قائلة:
-نازلة شغلي، ولادك عندك، المربية خرجت، وأنا عندي اجتماع مهم، يالَّه عيش دور الأبوَّة وورِّيني ابتكاراتك..
قالتها وتحرَّكت بعض الخطوات، ثمَّ توقَّفت مستديرةً تنظرُ إلى طفلها المنكمشِ بوقوفه، شعرت بالخزي من نفسها فهو طفل ليس له علاقة بما يحدث..
ألقت حقيبتها واتَّجهت إليه تحملهُ ثمَّ توجَّهت إلى الحمَّام..بينما هو توقَّف متخصِّرًا ينظر إلى حركاتها الباردة بكلِّ غضب، ظلَّ يجوبُ المكان إلى أن خرجت تضعُ ابنها بجوارِ أخته..
قبض على ذراعيها:
-يعني إيه نازلة الشغل، هوَّ أنا مش موجود، إيه الاستفزاز اللي بتحاولي تستعمليه معايا؟!.
أفلتت ذراعها بقوَّة وأشارت إليهِ صائحة:
-أنا هنا علشان الولاد، مالكشِ حكم عليَّا، اقتربت منه تلكزهُ بصدره، وغرزت عينيها بمقلتيه:
-يزن إنتَ هنا أب ولادي وبس، ماتدخَّلشِ في حياتي لو سمحت.
-ليه متجوزة سوسن، اقفي وكلِّميني
أنا هنا الراجل، ومفيش أيِّ حاجة هتتعمل من غير رأيي، اقتربَ خطوةً وأشار بسبَّباته:
-اسمعيني يابنتِ الناس، إنتي مراتي قدَّام الكل، لازم تحترمي إنِّك مرات يزن السوهاجي غير كدا صدَّقيني هكرَّهك نفسك.
-على أساس لسة مكرهتهاش ياحضرةِ المهندس..دفعتهُ من أمامها وتحرَّكت إلى الباب:
-أنا عندي اجتماع بملايين مش فاضية لكلامك دلوقتي، لمَّا أرجع يبقى قولِّي تعليماتك..
قالتها وأغلقت الباب خلفها..ظلَّ ينظرُ لسرابِ خروجها بتيهٍ وكلماتها التي أنزفت روحه "أنا كرهت نفسي"
شعر بيدٍ صغيرةٍ تجذبُ بنطاله:
-بابا..بابا..انحنى وجلس بمستواها يجمعُ خصلاتها من فوق وجهها:
-حبيبة بابا..قالها بقبلةٍ حنونةٍ توضعُ فوق جبينها، بينما جلسَ آسر على ألعابهِ وهو يتطلَّعُ إليه بصمت، وضعت رولا كفَّها الصغير على وجهه:
-عايز ألعب هنا..قالتها وهي تجذبهُ إلى الحديقة، ولكنَّه أوقفها حينما شعر ببرودةِ الجو:
-الجوِّ برد ياروحي..حملها واتَّجه وجلسَ بجوارِ آسر ..ثمَّ سحب جهازهِ المحمول "اللاب توب"
إيه رأيكم نلعب شوية على اللاب، ولَّا عايزين تتفرَّجوا على كارتون؟.
نظر آسر لأختهِ بجهل، لا يعلم عمَّا يتحدَّث..فهم يزن من خلال نظراتِ أطفالهِ أنَّهم لا يستعملون الأجهزة الهاتفية ..فتح اللاب وبدأ يوضِّح لهم بعض الألعابِ التي تتماشى مع عقولهم.
بمنزل أرسلان..
استيقظ على بكاءِ طفلتهِ بالخارج، رفع رأسَ زوجتهِ يضعها بهدوءٍ فوق الوسادة، وتسلَّل من جوارها متَّجهًا للخارج، وجد المربية تحاولُ أن تطعمها ولكنَّها رافضةً ببكاءٍ مستمِّر،
حملها وأشار إلى المربية:
-هاتي الببرونة وشوفي بلال صحي ولَّا إيه..
-بلال مع صفية هانم، جت من ساعة وأخدته ينام معاها.
أومأ متفهِّمًا وقال:
-مالها ضي بتعيَّط ليه كدا؟.
-بطلَّع سنان ودا طبيعي إنَّها تعيَّط، أخدت علاجها الطبيعي، وحاولت أكِّلها علشان تنام، هيَّ منمتشِ طول اليوم..
تمام..أشار إليها وهو يطعمُ ابنتهِ التي استكانت بأحضانه:
-روحي ارتاحي إنتي، وأنا هاخدها لمامتها..ظلَّ لبعضِ الوقت يحاولُ تهدئتها إلى أن غفت، فوضعها على صدرهِ وذهب بنومهِ على الأريكة..
عند غرام...فتحت عينيها تملِّسُ على الفراشِ بعدما شعرت ببرودته، اعتدلت تجمعُ خصلاتها ثمَّ سحبت روبها وتحرَّكت للخارج، ذهبت لغرفةِ أطفالها وجدتها فارغة، خرجت تبحثُ عن زوجها وجدتهُ غافيًا وهو يحملُ الطفلة..
ابتسمت واقتربت تجلسُ على ركبتيها تنظرُ إليهما، تسلَّلت بجواره، ثمَّ رفعت كفَّها على خصلاتهِ تمرِّرها بداخلها، وضعت رأسها بجوارِ رأسهِ على الوسادةِ وأغمضت عينيها مبتسمةً وهي تحاوطُ جسدهِ بذراعيها..شعر بها ففتح نصفَ عينيه:
-إيه اللي قوِّمك؟.
دفنت رأسها بعنقه، وهمست بصوتٍ حنون:
-معرفتش أنام من غيرك، ليه مصحتنيش، ضي تعبتكم؟.
-لا، مفيش حاجة نامت على طول، ماما هنا وأخدت بلال معاها في الأوضة..قالها ينظرُ اليها وجدها ذهبت بنومها كالأطفال..
بفيلا السيوفي وخاصَّةً بغرفةِ إسلام..
كان يجلسُ يتناولُ قهوتهِ ويتحدَّثُ معها عبر الهاتف:
-تمام حبيبتي، بكرة بعد الامتحان هعدِّي عليكي ونروح نشوف اللي محتاجاه.
-إسلام لو سمحت عايزة أخرج مع صحباتي، إحنا متَّفقين من أوَّل يوم، كلِّ أسبوع هخرج أعمل شوبينج مع صحباتي..
-وأنا قولت لا ياملك، اللي عايزة تشتريه أنا هجبهولك غير كدا مفيش خروج..
أغلقت الهاتف دون أن تنطقَ حرفًا واحدًا، نظر إلى الهاتف الذي أُغلقَ بذهول، ثمَّ نهض من مكانهِ ونيرانُ غضبه كادت تخرجَ من عينيه، استمع إلى طرقاتٍ على باب غرفته..
جلس وحاول أن يبدو طبيعيًّا وقال:
-ادخل..دخلت غادة بنصفِ جسدها:
-حبيبي فاضي أتكلِّم معاك شوية؟.
نظر للخارجِ فهو في حالةٍ لا يريد أن يتحدَّث مع أحد..اقتربت منه وتوقَّفت بجواره:
-إسلام عايزة آخد رأيك في حاجة، بقالي فترة مأجلاها.
-غادة ممكن نتكلِّم في وقت تاني أنا دلوقتي مش تمام لو ينفع تأجِّلي أيِّ حاجة ياريت..
-مالك ياإسلام إنتَ متخانق مع ملك؟.
-وأنا هتخانق مع ملك ليه، قومي شوفي مذاكرتك أنا مخنوق ومش طايق نفسي.
نهضت وتحرَّكت للخارجِ دون أن تنطقَ حرفًا آخر، ولكنَّها تحركت بقلبٍ ينتفضُ من الألم ..دلفت غرفتها مع انبثاقِ دموعها رغمًا عنها..ذهبت إلى فراشها وجلست فوقهِ بهدوء، رغم نيرانِ صدرها المشتعلةِ بالحزن..تذكَّرت منذ عدَّةِ سنواتٍ قبل زواج ميرال والياس، كانت تعيشُ في ظلِّ أسرةٍ سعيدةٍ وعدَّةِ أخوة، الآن لا تملكُ شيئًا، الأم أصبحت منشغلةً بأحفادها، وميرال التي اعتبرتها أختًا لها، قلَّ الحديثُ معها بسببِ ظروفِ انتقالها من الفيلا وانشغالها بزوجها وطفلها، بينما أخيها الأكبر الذي كانت تعتبرهُ روحها وسندها وقدوتها أصبح سرابًا لم يعد أخًا ولا سندًا، ابتعد دون سببٍ لا تراهُ سوى بالمناسبات، وأصبح مثلهِ مثل الغريب، تغيَّرت النظراتُ واللمسات، حتى أحضانهِ التي كانت تشعرُ بها بالأمانِ والحنانِ أصبحت هاوية لا تعلم لما كلِّ هذا حدث، هل ما تشعرُ به حقيقة أم تخيُّلها المنشغلِ بالفراغ..آاااه تفوَّهت بها مع حرقةِ قلبها وتمدَّدت على الفراشِ كالجنين تبكي بصمتٍ ولأوَّلِ مرَّةٍ تهمسُ بألمٍ يقطعُ نياطَ القلوب:
-محتاجة لحضنك ياماما، هوَّ صحيح محدش بيحسِّ بولاده غير الأم.....
استمعت إلى صوتِ إلياس بالهاتف بالخارج، اعتدلت وابتسمت ظنًّا أنَّه سيمرُّ على غرفتها كالماضي، أزالت دموعها وعيناها تعلَّقت بالباب، تنتظرُ طرقه..نظرت حولها تبحثُ عن روبها وتوقَّفت تجذبهُ منتظرةً طرقهِ على الباب، ولكن ابتعدت خطواته، فتوقَّفت تنظرُ حولها بالغرفةِ بتيهٍ وانسابت دموعها كزخَّاتِ المطر؛ لتتراجعَ بجسدٍ مترنِّحٍ إلى أن هوت على الفراش تسحبُ غطاءها وتذهب بنومها سريعًا رغم حزنها البادي على وجهها..
بجناحِ إلياس..
دلف للغرفةِ وجد طفلهِ يغفو بأحضانِ والدته، اقترب منهما مستغربًا وجودهِ بفراشه، نظر إلى الأدويةِ التي تُوضعُ على الكومودينو، وخافض الحرارة، يبدو أنَّ طفلهِ كان يعاني من نزلة برد.
انحنى يقيسُ حرارتهِ بمقياسِ الحرارة، لحظات ثمَّ انحنى يحملهُ واتَّجه به إلى غرفته، فتح الصغير عينيهِ يتمتم:
-بابا..عايز أنام مع ماما.
وصل إلى سريرهِ ووضعهُ عليه ثمَّ انحنى وطبعَ قبلةً فوق جبينه:
-حبيبي أنا معاك هنا أهو، إيه رأيك بابا ينام معاك؟.
-بس أنا عايز ماما.
خلع جاكيتهِ وقال:
-نام يايوسف، إنتَ مش صغير علشان تنام مع ماما..الراجل ينام مع الراجل،
مش إنتَ راجل وهتنام مع بابي.
-بس حضرتك بتنام مع مامي عادي..
نفخ بضجرٍ وقام بخلعِ حذائهِ وأشار إليه:
-يالَّه حبيبي أنا جاي تعبان، ورغم كدا مش هسيبك تنام لوحدك، مينفعشِ تنام مع مامي إنتَ كبرت خلاص.
-بس أنا عايز مامي.
-يوسف..صاح بها بصوتٍ مرتفعٍ مع دخولِ ميرال:
-إلياس..
استدار إليها وأردف:
-روحي نامي ياميرال..قالها وهو يرمقُ ثيابها بصمت، اقتربت منه وهي تحاوطُ قميصها بالروب:
-الولد سخن، كان تعبان.
رسم ابتسامةً أمام طفلهِ وهمس إليها:
-كلامي يتسمع ياروحي من غير نقاش.
-طيب رجلك عاملة إيه دلوقتي، لازم تحطّ كريم عليها.
-الصبح..قالها وهو يتمدَّدُ بجوار طفله، توقَّفت تنظرُ إليه بذهول:
-هتنام هنا؟!.
اتَّجه بنظرهِ إلى يوسف المنكمشِ بفراشهِ وقال:
-أه هنام في حضنِ ابني الليلة عندك مانع..مش إنتَ هتاخد بابا في حضنك يايوسف.
ابتسم الطفل وقال:
-أنا حضني صغير أوي يابابا، هياخدك إزاي؟..التفت إلى ميرال:
-خلاص نشوف حضن كبير..اقتربت وجلست بجوارهِ على الفراش:
-السرير صغير ومش هترتاح عليه، قوم نام هناك وأنا هفضل معاه.
-أنا كويس، وياريت اللي أقوله يتسمع، تعبان وعايز أنام ممكن حبيبتي؟.
انحنت لتقبِّلهُ على وجنتيهِ إلَّا أنَّه طالعها بنظرةٍ تحذيريةٍ أمام طفلها..توقَّفت بعدما فهمت مايريده..
بعد عدَّةِ ساعات نهض من مكانه، بعدما دثَّر طفلهِ جيدًا، واتَّجه نحو غرفته، وجدها غارقةً بنومها، دلف إلى الحمَّام دقائقَ معدودة وخرج، تململت بنومها تفتحُ عيناها ومازالت آثارُ النومِ تسيطرُ على جفونها، ألقى منشفتهِ واتَّجه إلى الفراش يتطلَّعُ إليها بابتسامة، حركاتها تشبهُ حركاتِ نجله..
انحنى وطبع قبلةً فوق جبينها، فتحت عينيها تهمسُ بصوتٍ ناعس:
-يوسف عامل إيه؟.
تمدَّد بجوارها وجذبها لأحضانه:
-كويس، نايم والنانا صحيت وهتاخد بالها منُّه، ممكن ننام بقى..
دفنت نفسها في أحضانه، واستسلمت لنومٍ عميق، فيما ظلَّ هو يمسِّدُ خصلاتِ شعرها، شارداً بحديثِ رؤى الذي ما زال يطنُّ في أذنه:
- بحاول أقرَّب منها ياإلياس، عارفة إنِّي غلطت في حقَّها، بس متنكرش إنَّك كمان اللي وصَّلتني لكده...إنتَ اللي خلتني أفكَّر فيك كزوج..
أشار لها بالصمت، ثمَّ قال ببرودٍ حاسم:
- خلِّي بالك من كلامك، وماتقوليش حاجة تتحاسبي عليها..آه، أنا غلطت... بس مش عشان اللي في دماغك.. غلطت لأنِّي ماحطِّتش حدود بينا، اتعاملت معاكي كأخت، ودا في حدِّ ذاته كان غلط.
ارتسم الامتعاضُ على وجهها، وقالت بنبرةٍ ممتعضة:
- إنتَ مقتنع بالكلام دا؟
- إلياس، إحنا كنَّا خلاص هنتجوز...لولا اللي حصل.
شعر وكأنَّ جمرةً استقرَّت في صدره.. يعلم أنَّها محقَّة، لكنَّها لا تعرفُ كلَّ الحكاية، سحب نفسًا من سيجارته، وقال دون أن ينظرَ لها:
- رؤى...متقنعيش نفسك بأوهام، إحنا كنَّا متفقين..كنت عايز أفوق ميرال، أخرَّجها من دور الطفلة اللي بتجري على فريدة كلِّ شوية وتلبس عباية الضحية، بس كجواز؟ مستحيل..
أنا عمري ما شفتك مراتي، وقلنا دا من الأوَّل..
ثمَّ التفت نحوها، يحدِّقُ في عينيها بصرامةٍ وقال:
- ميرال مكنتش نزوة..
مكنتشِ تجربة وخلصت..دي مراتي... حبِّ حياتي..وإنتي عارفة كدا..
آه، غلطت، بس غلطي مايدِّيش ليكي الحق تفكَّري في يوم إنِّك تاخدي مكانها.
صوتهِ انخفض وهو يكمل:
- اعتبريها أختك، واعتبريني جوز أختك..
الأوَّل كنت بتعامل معاكي زي ما بتعامل مع غادة...بس دلوقتي، لأ..
أوعي حتى تبصِّي لها بنظرة مش في محلَّها..
قال كلماتهِ الأخيرة، ثمَّ نهض من مكانه:
- هسيبك تفكَّري...علشان الإخوَّة اللي بينكم..
عايز بكرة أو بعده تروحي وتتأسِّفي،
أنا زَييِّ زي طارق ويزن...دا اللي هتقوليه، إزاي؟ مش فارقة،
دماغك ما شاء الله...هتلاقي الطريقة.
قالها وغادر دون أن يلتفت..
مرَّت عدَّةُ أيامٍ ليكتشفَ بعدها تواصلها مع ميرال، وتطوُّر علاقتهم، حتى علم مادار بينهما لتقولَ له ميرال:
-رؤى جت واتأسفت لي، ووضَّحت سوء الفهم اللي حصل بينها وبينك..
تنهَّدت بارتياحٍ قبل أن تتابع حديثها، ونظراتها معلَّقةً به:
- هي انبهرت بشخصيتك في وقت كانت فقدت فيه الثقة في حبيبها، وده طبيعي، أيِّ واحدة مكانها لمَّا تلاقي راجل بيحارب علشانها هتقع في غرامه، أنا لو كنت مكانها، ياإلياس، صدَّقني كنت عملت المستحيل، ماكنتش هفكَّر غير في إزاي أخلِّيك تحبِّني..
بلاش العقاب بينكم يطول أكتر من كده..
أنا واثقة فيك، وموقنة إنَّك مستحيل تشوفها غير أختك الصغيرة، نفسي أرجع أشوفكم زي زمان.
هزَّ رأسهِ بأسى:
- مبقاش ينفع، حبيبتي..
زمان كنت بتعامل معاها على إنَّها يتيمة ومحتاجة حد يسندها، ماكنتش عايزها تحسِّ إنَّها لوحدها وسط غابة.. بس دلوقتي عندها أخِّين، ماشاء الله...
يعني وجودي في حياتها مالوش لازمة بالشكلِ القديم.
- إلياس...
همست بها، فرفع عينيه إليها، ابتسمت بحنان، ولامست وجنتيهِ بكفِّها:
- رؤى قالتلي إنَّك روحت لها وطلبت منها تيجي لعندي...حكتلي كلِّ حاجة، بلاش تتخبَّى ورا الحاجات الحلوة اللي بتحاول تعملها علشان تسعدني..
أنا نسيت كلِّ الماضي، بحلوُّه ومرُّه..
دلوقتي، ما فيش حاجة شاغلة بالي غيرك إنتَ ويوسف وبس..
ومتأكدة إنَّك مستحيل تبعد عنِّي، حتى لو أنا طلبت منَّك كده.
مرَّرت أناملها على صدره، وعيناها متشبثتانِ بعينيه:
- أنا هنا، متربَّعة في مكان جوَّه قلبك، ومستحيل أتنازل عنُّه،
يمكن خدت وقت علشان أفهم ده... بس دلوقتي عرفت..
أنا محظوظة جدًا، مش بس علشان إنتَ جوزي، لا...
ده لأنَّك أحسن راجل ممكن أي ستِّ تتمناه..
مش هتكلِّم عن عمُّو مصطفى، ولا ماما فريدة، ولا غادة وإسلام، ولا يزن، ولا كلِّ العيلة الجميلة دي...
أنا بس هتكلِّم عنَّك..عنَّك إنت.
لم يجد مايفعلهُ سوى أن يجذبها إليه، يحتضنها كما لو كانت ملاذهِ الوحيد.. أسند جبينهِ إلى جبينها، وتمتم بصوتٍ خافت:
- أخيرًا..حمدَ الله على السلامة ياتاعبة قلبي.
أغمضت عينيها تحتَ همسه، واستقرَّت بين ذراعيهِ كأنَّها وُجدت نفسها هنا منذ الأزل:
-آسفة..عارفة تعبتك كتير معايا، بس برضو إنتَ كنت صعب.
تنهد وعيناه على نومها الهادئ، وتذكر حديثها منذ أيام بعد عودة علاقتها برؤى
-لو رجعنا بالزمن هافرق معاك زي دلوقتي
ابتسم ولامسَ وجنتها بطرفِ أنامله، كأنَّما يتحسَّسُ نعيمهِ الأخير،
ثمَّ همس:
-منكرش مكنتيش فارقة معايا في أوَّل جوازنا، وأكيد عرفتي الأسباب..
-الياس، إنتَ فعلًا كنت مغصوب على الجواز زي ماقولتلي في مرَّة من المرَّات؟.
ارتفعت ضحكاتهِ حتى أدمعت عيناه، يهزُّ رأسهِ بالإيجاب وهو يحاوطُ جسدها:
-إيه نسيتي الباير والبايرة؟.صمت ينظرُ إليها بحب:
-مكنشِ فارق معايا الجواز ياميرا، عادي ، أه مكنتش عايزك في الأوَّل بس دا مش علشان حاجة..دنا حتى لامس ثغرها بخاصَّتهِ وهمس بعيونٍ عاشقة:
-علشان خايف أأذيكي، وقولتها لك، حبِّك نار، أنا كنت بحبِّك بس مش الحبِّ اللي في دماغك أشعار وحاجات البنات دي، بحبِّ براءتك، جنانك لمَّا تتعصَّبي، عنادك لمَّا توقفي قدَّامي، بس مفكَّرتش أتجوزك خالص، أه معرفشِ ليه، يمكن سوء الفهم بيني وبين مدام فريدة؛ ولَّا يمكن علشان اللي شوفته بينك وبين زميلك ولَّا يمكن علشان كنتي عايشة دور البنت اللي شايفة نفسها عليَّا..
-يعني كنت ممكن تتجوز غيري ياإلياس؟.
-تؤ..نطقها من بين شفتيهِ وعينيهِ متعلِّقةً بسوداويتها:
-مكنتش هسمح إنِّك تبعدي عنِّي أصلًا، بدليل فيه كتير كلِّموني عليكي، وكنت بتعامل مع الموضوع..حقيقي عمري ماكنتش هسمح تكوني ملك لحد، حتى لو مش اتجوِّزنا..
ابتسمت بعينينِ دامعتين، وهمست:
- هوَّ إنتَ دايمًا كدا الكلمة وعكسها؟.
هزَّ رأسهِ ورفعها فوق ساقيه:
-أه علشان متعرفيش تطلعي منِّي بأيِّ حاجة، عجبك ولَّا لأ؟.
قبَّلته ونطقت بعينيها قبل شفتيها:
-هو َّفيه غيرك عجبني وموقَّعني على جدور رقبتي غير حضرة الطاووس المغرور..
قهقه بصوتٍ مرتفعٍ حتى هوى على الفراشِ وهي فوقه تلكمه:
-بطَّل ضحك بقى، اللي يشوفك دلوقتي مايقولشِ دا اللي لمَّا كان بيضحك الجو بيرعد..
دفعها ليحاصرها بذراعيه:
-بس كنت حلو ولَّااا..قالها غامزًا ممَّا جعلها ترفعُ ذراعيها تحاوطُ عنقه:
-أه حلو ومسكَّر، وتأكَّد إنِّ غيرتي نار وممكن أحرقك بيها قبل اللي يقرَّب منَّك، كفاية سنين العذاب اللي عشتها في حبَّك..هنا توقف كل شيئا ولم يتبقَ سوى نبضِ القلوب، لتتشابكَ الأرواحُ في صمت،حيث لا حاجةَ للكلمات...وحيث الحبَّ وحدهِ يتولَّى البوح.
صباح اليوم التالي، فتحت الجميلة عينيها، لتجدَ نفسها محاصرة بين جسده، تسلَّلت بهدوء إلى أن نزلت من فوقِ السرير، ثمَّ اتَّجهت إلى مرحاضها لفترةٍ ثمَّ خرجت تتسحَّبُ بهدوءٍ حتى لا توقظهُ متَّجهةً إلى غرفةِ طفلها، قابلت غادة بطريقها وهي تحملُ كوبًا من الحليب متَّجهةً إلى غرفة طفلها:
-غادة..توقَّفت مستديرةً إليها:
-صباح الخير ياميرو.
-صباح الورد ياقلبي، رايحة فين باللبن دا؟.
نظرت إلى كوبِ اللبن ثمَّ إليها وأخبرتها:
-يوسف عايز يشرب لبن، فطَّرته، وقالِّي عايز يشرب لبن.
-يوسف مين؟..تساءلت بها ميرال باستغراب..
-أجابتها بابتسامةٍ وهي تتحرَّكُ متَّجهةً إلى غرفةِ الصغير:
-عندنا كام يوسف بس ياميرو، توقَّفت تغمزُ لها:
-شكل يوسف الكبير واكل العقل والقلب..
تحرَّكت بجوارها وردَّت قائلة:
-لا ياقلبي، أنا عندي يوسف واحد بس، التاني إلياس، دا ومش هغيَّره..
-يا مسيطر إنتَ يامسيطر، قولتيلي إيه رفض يغيَّر الاسم؟. وأنا اللي مفكَّرة علشان بابا ميزعلش.
لكزتها ودلفت إلى صغيرها، توقَّفت الاثنتين تنظرانِ بذهولٍ للَّذي يفعله، اقتربت غادة منهُ كالمجنونة:
-أوعى تقولِّي دا تليفوني، واللهِ هضربك يابنِ إلياس..
هبَّ من مكانهِ يختبئُ خلف والدته..
ارتفعت ضحكاتُ ميرال وهي تحاوطُ طفلها حتى لا تصلَ يدها إليه:
-خلاص بقى ياغادة، مانتي عارفة أنُّه مهوس بفكِّ الحاجات دي، هبلة هو بيشرب اللبن اصلًا
-ابنك ضحك عليَّا ياميرال، قالِّي عايز أشرب لبن، علشان يستفرد بالتليفون.
-إيه يستفرد دي يابنتي، الملافظ سعد..
-دا أنا هخلِّي أبوك ينفخك، واللهِ لأروح له وأشكي له، ومش بس كدا يجبلي تليفون تاني..
قالتها وخرجت تأكلُ الأرضَ بخطواتها النارية، رفع رأسهِ إلى والدته:
-هيَّ زعلانة ليه، وبابا ممكن يضربني؟..أنا كنت عايز أشوف ليه الكاميرا دي مش زي دي..
ضمَّت طفلها تربتُ على ظهرهِ ثمَّ قالت:
-مش إحنا اتكلِّمنا كتير في الموضوع دا، طيِّب المرَّة اللي فاتت بابا سامحك ومتكلمش، ليه تبوَّظ فون عمِّتو كدا؟..
-واللهِ يامامي أنا كنت بكتشف اللي جوَّاه بس.
-يووووسف إحنا قولنا إيه، بلاش نلعب في حاجات غالية بالشكلِ دا.
سحبت كفَّيهِ وأجلستهُ ثمَّ جلست أمامه:
-ممكن توعد مامي متعملشِ حاجة من غير ماترجع لي.
-أوعدك يامامي..صمت ثمَّ تساءل:
-هوَّ كدا بابي ممكن يضربني؟.
قبَّلت وجنتيهِ ومسَّدت خصلاته:
-لا ياحبيبي، هوَّ ممكن يزعل، بس بابي ميضربش يوسف علشان هوَّ عارف نية يوسف كويس، المهم إنتَ لسة تعبان وفين النانا؟..
-النانا نزلت لنانا فريدة بعتت لها.
-طيب قوم غيَّر هدومك علشان ننزل الجنينة نلعب شوية، ونتمرَّن، إيه نسيت حفلة المدرسة.
-يااااس..قالها وركض إلى غرفةِ ملابسه..
بغرفةِ إلياس..
دفعت غادة الباب وصاحت بصوتٍ مرتفع:
-إلياس قوم شوف ابنك عمل إيه في تليفوني، عايزة تليفون حالًا.
تململَ بنومهِ على صوتِ غادة، وشعر أنَّه يحلم، فذهب بنومهِ مرَّةً أخرى ولكنَّها اقتربت من فراشه:
-إلياس..صرخت وهي تنظرُ إلى هاتفها بحسرة..
هبَّ من نومهِ فزعًا، ظنًّا أنَّ طفلهِ أصابه مكروه، خاصَّةً حينما لم يجد ميرال بجواره، ودخولِ غادة بتلك الطريقة:
-فيه إيه؟..تساءل بها بتقطُّع وقلبهِ ينبضُ بعنف..ألقت الهاتف ليسقطَ فوق الفراشِ أمامه ، تشير إليه قائلةً بغضبٍ وارتفاعِ أنفاسها:
- شوف ابنك اللي فاكر نفسه ماركوس برانولي..
توقَّف إلياس لحظة، يستمعُ إلى كلماتها، زفر ببطء، يحاولُ طرد اختناقه...لحظات من الصمت خيَّمت على المكان، زادت من غضبِ غادة التي صرخت داخليًا من هدوئهِ المستفز، فاقتربت منه مجدَّدًا:
- إلياس، بقولَّك يوسف بوَّظ الموبايل بتاعي، و...
رفع رأسهِ فجأة، يحدجها بنظراتٍ لو كانت تقتل، لما بقيَ منها أثر..ابتعد بنظرهِ ومرَّر كفِّهِ على وجهه، يحاولُ تهدئةَ غضبه الذي كاد أن ينفجرَ بها:
- اطلعي برَّة.
قالها بهدوءٍ متكلِّف، رغم النار المشتعلةِ في صدره..فيه بنت محترمة تدخل بالطريقة دي، وإيه الهبل اللي بتقوليه دا!!
- إلياس..!
صرخ بها لأوَّل مرَّة:
- اطلعي برَّة..واتعلِّمي الاحترام
يامحترمة، إزاي تدخلي عليَّا وأنا نايم بالشكلِ ده؟ شكلك نسيتي نفسك..
صاح بها بانفجار، ووجههِ تحوّل إلى كتلةِ لهب، تذكَّر دخولها عليه وهو لا يرتدي سوى "شورت" قصير، فهاج غضبهِ أكثر.
-برررررة..قالها يشير إلى الباب
تحجَّرت الدموعُ في عينيها، وركضت خارجةً بسرعةٍ نحو غرفتها..
أمَّا هو، فحاول ألَّا يضعفَ أمام دموعها، دفع الغطاءَ عن جسدهِ بقسوة، ونهض متوجِّهًا إلى الحمَّام..
توقَّف أمام المرآة، أنفاسهِ تتسارع، وقلبهِ يصفعهُ بقوَّة..كيف تعاملَ معها بتلك القسوة؟ لكن كلَّما تذكَّر دخولها عليه بتلك الطريقة، عاد صدرهِ يشتعلُ كأنَّ نيرانهِ ستحرقُ كلَّ ماأمامه..
بعد عدَّةِ أيام..
كانت تجلسُ بحديقةِ الفيلا، أسرع إليها يوسف وهو يحملُ هاتفًا من أحدثِ الماركات، اقترب وقبَّلها على وجنتيها:
-آسف عمِّتو، دا تليفون، بابي جابه لحضرتك.
استدارت تبحثُ عنه ولكن خيَّب آمالها، سحبت يوسف إلى أن جلس أمامها:
-مش زعلانة منَّك، المهم جهَّزت نفسك لحفلة بكرة؟.
رفع الطفلُ يدهِ بسعادة:
-أه..ادرَّبت كتير مع بابي، وكمان عمُّو أرسلان، عملنا Acting rehearsal
-rehearsal..رددتها
هزَّ رأسهِ وقال:
-أيوة عملنا بروفة وبابي كمان كان معانا..قبَّلت رأسه:
-أنا واثقة فيك ياحبيبي، وبدل بابي وعمُّو درَّبوك يبقى هتبقى أفضل actor في المسرحية، عايزة اشوف صلاح الدين
-لسة زعلانة؟.
ضمَّته لأحضانها، تهزُّ رأسها بالنفي، وترقرقت دموعها حزنًا من معاملةِ إلياس الجافَّة لها، فمنذ يومين لا تراهُ ولم يهاتفها، هل هي بالفعل أخطأت، كيف تخطئُ وهي التي اعتبرته أخًا..
-يوسف..نادت بها المربية، ليركضَ إليها بعدما قال:
-باي ياعمِّتو، هنخرج..
أومأت له دون حديث وأطلقت لدموعها العنان في صمت، شعرت بجلوسِ أحدهم بجوارها استدارت سريعا تنظرُ إليه..زفر باختناقٍ وقال:
-تعرفي مكنتش ناوي أكلِّمك، طول عمرك عاقلة، بس بقالك فترة مش عجباني، بقول يمكن الفراغ، بس إنتي آخر سنة يعني المفروض تكوني اعقل من كدا
دموع فقط كانت تنسابُ على وجنتيها، ورغم دموعها قال:
-غلِّطي ولَّا لأ ياغادة؟.
-معرفشِ ياإلياس ليه مكبَّر الموضوع، أنا كنت مضايقة على اللي حصل، إنتَ عارف التليفون دا هدية بابا وغالي عليَّا جدًا، بس إنتَ عملت إيه..طردتني من أوضتك، عمرك ماعملتها، اتغيَّرت أوي..
التفت اليها وتعمَّق بالنظرِ لعينيها الدامعة:
-غلطي ولَّا لأ يابنتِ اللواء مصطفى السيوفي؟.
شهقة أخرجتها تهزُّ رأسها بالإيجاب:
-أه غلطت، بس دا من ضيقي..
-حاجة تافهة زي دي تدخلي عليَّا بالشكلِ دا!!
-حاجة تافهة ياإلياس!..شايف دا تافه؟!..
-أه..مالوش غير كدا، اقعدي مع نفسك وشوفي غلطك وصل لحدِّ فين..
قالها ونهض من مكانهِ ثمَّ أشار إلى الهاتف:
-التليفون دا اعتبريه من يوسف، عوضًا على اللي بوَّظه، والتليفون التاني بعتُّه الشركة بتاعته وهيصلَّحوه وخلال أيام هيرجعلك، مش تليفون اللي ينسيكي الأدب والاحترام ياأستاذة غادة..
قالها وانسحب دون الالتفاتِ إليها.
بعد عدَّةِ ساعات دلفت إلى غرفةِ ميرال بعدما أرسلت الخادمة إليها:
-دودي إيه رأيك في الفستان دا؟..
تعالي شوفيه، جبته علشان أحضر بيه حفل افتتاح معرض يزن الجديد..
صمتت ولم ترد عليها، مازال الحزنُ مخيَّمًا على وجهها..اقتربت منها ورفعت ذقنها:
-إنتي معيطة؟!..هزَّت رأسها بالنفي:
-لا..مخنوقة شوية، حلو الفستان، وهيكون عليكي قمر.
مسحت دموعها وقبَّلتها:
-عارفة انشغلت عليكي، بس والله مانسيت موضوعك، وكلَّمت أرسلان وهوَّ قالي هيكلِّم رحيل، محبتش أدخَّل علشان يزن وكدا، أرسلان أحسن منِّي ومن إلياس، وكمان الشركة هتنفعك، ورحيل نشيطة جدًا.
-وافقت يعني؟.
أومأت لها وقالت:
-أه بكرة هتروحي تعملي مقابلة في الشغل، وتشوفي الدنيا خلال فترة الدراسة، عجبتك كان بها..معجبتش، شوفي غيرها..ارتفع رنينُ الهاتفِ فرفعته:
-أيوة ياأرسلان.
-اتكلِّمت مع طارق هوَّ اللي مستلم الشغل حاليًا، بكرة تروح وخلِّيها تتواصل معايا.
-أوكيه، شكرًا ياأرسو..قالتها ميرال وهي تنظرُ إلى غادة:
-كلَّمته قبل ماتيجي، علشان أتأكِّد منُّه برضو، رحيل الأيام دي مهتمة بولادها وطارق مستلم الشغل، بس هيَّ بتروح مش كتير..
-يعني المقابلة هتكون مع طارق؟.
-أيوة..رتِّبي نفسك وعرَّفي بابا مصطفى وأهو تدريب من جهة وخبرة، ومن جهة تانية تسلِّي نفسك.
-شكرًا ميرال.
- حبيبتي مفيش شكر بينا.
بشركةِ العامري كانت منشغلة بجهازها، دلف إليها، رفعت نظرها حينما شعرت بدخولِ أحدهم، تراجعت على المقعد تنتظرُ حديثه:
-طارق فين سألت عنُّه قالوا مش موجود.
-في شرم هيرجع بالليل
جلس بمقابلتها ونقر بأناملهِ على المكتب، ثمَّ رفع رأسه إليها و قال:
-هننقل بكرة أو بعده في بيت جديد، عايز ألم أخواتي فيه مع بعض، البيت دا هيكون قريب من الشركة، جيت لك علشان نعدِّي عليه وتشوفيه، لو محتاجة حاجة معينة تتعمل فيه قبل ماننقل.
-لا والله..دا بجد ولَّا إيه؟!.
-رحيل ممكن نهدى شوية، إيه رأيك نعمل هدنة بينا.
توقَّفت من مكانها واستدارت تجلسُ بمقابلته:
-هوَّ أنا عاملة حرب، غلطان ياسيادة المهندس، أنا في حالي، وزي ماإنتَ قولت مضطرِّين نقبل بعض علشان ولادنا.
-رحيل..نهضت من مكانها:
-عندي شغل ومش فاضية..ممكن تمشي دلوقتي وبعدين نتكلِّم، وبالنسبة للبيت مش فارق معايا أي مكان، المهم بيئة كويسة لولادي..
توقَّف واقترب يقبضُ على ذراعها وتحدَّث بنبرةٍ حادة:
-أنا خلقي ضيِّق وعلى أخري، اتعاملي معايا على إنِّي جوزك..
نفضت ذراعها بقوَّة وفتحت فاهها للتحدُّث إلَّا أن قاطعهم طرقًا على بابِ المكتب:
-أستاذة رحيل الاجتماع جاهز.
سحبت هاتفها وتحرَّكت دون أن تلتفتَ إليه..ظلَّ يراقبُ تحرُّكها إلى أن أغلقت الباب خلفها، اتَّجه إلى مقعدها وجلس على جهازها وبدأ يقلِّبُ به، مرَّت فترة وهو مازال بمكانهِ ثمَّ تحرَّك للخارج.
عند إسلام..
توقَّف أمام كليَّتها الخاصة، بعد انتهاء حفل يوسف، ظل بمكانه يراقب بوابة الكلية إلى أن خرجت وجدتهُ يقفُ مستندًا على سيارته، تحرَّكت إليه بهدوء رغم حزنها منه..وصلت إليه تتلفَّتُ حولها ثمَّ تساءلت:
-فين غادة..!!
فتح باب السيارة وأجابها:
-غادة معندهاش كلية النهاردة..اركبي أنا اتكلِّمت مع أرسلان وعرَّفته إنِّك هتخرجي معايا.
هزَّت كتفها للأعلى وردَّت:
-بس أنا مش عايزة أخرج، تعبانة وعايزة أرجع على البيت.
سحبها من كفَّها وساعدها على الصعود، ثمَّ استدار إلى القيادة، تحرَّك إلى وجهته، صمتًا دام بالسيارة وهي تنظرُ للخارج..توقَّف، وتنهَّد قائلًا:
-معرفش إنتي زعلانة ليه، طيب ممكن أعرف إيه فايدة خروجك مع صحابك؟.
-عايزة أروح ياإسلام، تعبانة كنت سهرانة طول الليل بذاكر وماليش مزاج..
-ملك متفكريش لمَّا تعملي كدا هغيَّر رأيي، أنا مش حابب موضوع خروجك مع صحباتك، طيب غادة مابتخرجش مع صحباتها، لمَّا تحب تخرج بتخرج هيَّ وميرال..
التفتت إليه وهتفت بنبرةٍ حادَّة:
-إسلام اسمعني، أنا لمَّا كلَّمتك علشان أستأذنك دا احترام للعلاقة اللي بينا، بس دا ميمنعش إنَّك متحكمش أعمل إيه، أنا لسة عند بابا، دي حاجة..الحاجة اللي المفروض تاخد بالك منها، أنا ملك الجارحي يعني محبش اللي يضغط عليَّا ويفرض رأيه..
-أفهم من كدا إيه؟..
-إسلام لو سمحت عايزة أروح.
أوكيه..قالها وشغَّل السيارة متَّجهًا إلى فيلا الجارحي..
بمنزلِ إسحاق..
كانوا يجلسون يتناولونَ الطعام بجوٍّ من الفرحة، وضحكاتِ الأطفال حولهم..
تحدَّث إسحاق:
-يعني عايز تقدِّم لبلال British International Modern
أومأ له بالموافقة ثمَّ قال:
-أه بحثت كويس والمدرسة تمام، وعجبني فيها كذا حاجة، بس غرام مش موافقة.
اتَّجه بنظرهِ إلى غرام متسائلًا:
-ليه، المدرسة حلوة على فكرة، وكمان منهج تعليمي ممتاز، أنا شايف حمزة استفاد منها في كذا حاجة.
-الاختلاف مش على المدرسة ياعمُّو، أنا عايزة ولادي يكونوا في جو متفاهم
غير طبعًا قواعد التربية الإسلامية، بقول نشوف مدرسة كويسة عربي أو لغات بس أهم حاجة الجانب الديني والثقافي يكون موجود، أنا عارفة مدرسة حمزة بيرفكت، بس برضو مفيهاش أي أنشطة دينية، يعني تقدر تقولِّي حضرتك ليه دايمًا بيهتمُّوا بالمناهج الحديثة، ونسيوا أصلًا أهمها القيم والأخلاق؟..
-غرام..أوقفها أرسلان وهو ينظر إلى إسحاق:
-هيَّ كل اللي تقصده عايزة بلال يدخل مدرسة عربي، رافضة أي مدرسة لغات..
-لا ياأرسلان، مش دا قصدي على فكرة..
أهم حاجة عندي مش عايزة ابني يفقد هوية اللغة العربية، وقبل دا كلُّه يعرف دينه..على فكرة السن الصغير تعرف تبني فيه قيم وأخلاق، وإنتَ كنت معارض إلياس على دخول يوسف مدرسة عربي، رغم أنُّه عجبني طريقته..
قال المدرسة يتعلِّم فيها الأساسيات وأنا هضفله اللغات..
ردَّ أرسلان معترضًا:
-بس يوسف دخل لغات حبيبتي، مش عربي.
تنهَّدت وقالت:
-دا لمَّا عمُّو مصطفى تدخَّل بنفسه، مع إن أنا شايفة فكرة إلياس كويسة، فكَّر معايا السن الصغير دا، إيه لازمة اللغات الكتيرة دي في بلد عربي، هتقولِّي أساسيات، سوري بقى هقولَّك عبث، إيه الأساسيات في سن من خمس سنين لتناشر أو تلاتشر سنة يعرف فرنسي وألماني وإيطالي، إيه الفايدة، علشان أفرح بابني أنُّه عارف لغات كتيرة، في وقت كان المفروض يعرف إن رمضان شهر الصوم، الصلاة في أوقاتها..
حقيقي أنا مش موافقة على المدارس اللي بالشكلِ دا...عندنا مدارس عربي كتيرة في منتهى الخبرة، وإزاي بيقدِّموا منهج تقييمي، عايزة أعلِّم ابني لغات في سن يكون محتاج أنُّه يضيف لغة يُستفاد بيها، مش أزخم عقله بأساسيات مالهاش لازمة..
توقَّفت قائلة:
-آسفة ممكن يكون انفعلت شوية، بس حقيقي الموضوع دا تعبني أوي، لأنُّه متوقِّف على حياة ولادي، آسفة حقيقي عمُّو إسحاق، أنا بقول مجرَّد رأي واللي عايزه أرسلان أكيد هوَّ اللي هيحصل..
أشارت إلى الطعام وقالت:
-كمِّلوا أكل، وأنا هعملُّكم القهوة، بعد إذنِ دينا طبعًا.
نهضت دينا وابتسمت:
-أنا شبعت، وهاجي معاكي.
صمتًا دام للحظاتٍ على طاولةِ الطعام إلى أن قطعهُ إسحاق:
-عجبني كلامها جدًا على فكرة، حاول تتفاهم معاها، هيَّ من حقَّها تشوف المناسب لأولادها.
-إن شاءالله..قالها ونهض قائلًا:
-شبعت الحمدُ لله هستناك في البلكون..
مرَّت فترة وهم يتحادثون في مختلفِ المواضيع إلى أن قاطعه:
-أنا اتكلِّمت مع إلياس علشان الكمبوند، هوَّ قال بابا هيرفض، مضحكش عليك، حسِّيت أنُّه هوَّ اللي رافض، بعد كام يوم كلِّمني وقال خلاص..
المشكلة هنا في فاروق مستحيل يوافق، روحه في القصر، مستحيل يبعد عنُّه..
-طيب ماحضرتك ياعمُّو، ليك حق في القصر، مش هيصعب عليك..
ابتسم وتذكَّر طفولتهِ ثمَّ أجابه:
-لا..أنا مش مرتبط بيه أوي، إنتَ عارف شغلنا كان معظم الوقت برَّة، وأنا مكنتش حابب القصر من وأنا صغير، صمت يتذكَّرُ حديثَ والدته، ومشاهدَ عابرة أمام عينيهِ ثمَّ أردف:
-مش فارق معايا القصر، المهم ححاول أتكلِّم مع فاروق.
عند غادة..
هرولت سريعًا لتلحقَ المصعدَ قبل صعوده، أوقفتها إحدى العاملات:
-الأسانسير دا خاص بالمدير وصاحب الشركة ياأستاذة.
قطبت جبينها وأشارت على نفسها بثقة:
-اعتبريني صاحبة الشركة، وسَّعي كدا خُلقي ضيَّق، متعرفيش أنا مين؟.
أوقفتها السكرتيرة:
-لو سمحتي ياأستاذة، شكلك لسة جديدة في الشغل..
جزَّت على أسنانها واستدارت ترفعُ هاتفها تتحدَّث مع أرسلان بصوتٍ مرتفع:
-دا الشغل اللي هشتغل فيه ملكة؟!.. طردوني من على الباب..
توقَّف معتذرًا من عمِّهِ محاولًا استيعاب مانطقته، ثمَّ سألها:
-إنتي فين دلوقتي؟!
نظرت حولها إلى أن وقعت عيناها على اسمِ الشركة وقالت :
-في الشركة اللي حضرتك قولت عليها..
قالتها واستدارت للمغادرة ومازالت تتحدَّث:
-خلاص قفلت من الشركة دي ومستحيل أشتغل فيها، قال المدير ليه أسانسير لوحده..
-طيب ياغادة فهِّميني إيه اللي حصل؟..
-أرسلان خلاص انسى، مش هشتغل.
-يابنتي اهدي، خلِّيكي زي ماإنتي، وأنا هتصرَّف..قالها وأغلقَ الهاتف وقام الاتصالَ بطارق:
-طارق إنتَ في الشركة؟.
كان متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات، فتوقَّف قائلًا:
-أيوة..عندي اجتماع بعد عشر دقايق، فيه حاجة؟.
-آسف ياطارق، غادة السيوفي تحت، وشكل حد من الموظفين ضايقها، وهيَّ بنت رقيقة، مالهاش في الكلام الناشف، لو هتعبك كلًِّم السكارترية يوصُّولوها لمكتبك، وزي ماقولت لك البنتِ شاطرة بس هيَّ كيوتي ومالهاش في المعاملة الجافة..
-تمام ياأرسلان، هتولَّى الأمر بنفسي، لو الأفضل كانت ميرال كلِّمتني، مالوش لازمة إنَّك تتوسَّط لها.
-لا يابني مش اللي في دماغك، إحنا مش عايزين ضغط على رحيل..علشان يزن بس، فهمت؟.
-تمام ...بالأسفل عند غادة توقَّفت للحظات مثلما قال أرسلان، استمعت إلى إحدى العاملات خلفها:
-إنتي غادة السيوفي؟.
استدارت ترمقها ببرود، إنَّها نفس الفتاة التي منعتها من الصعود.
-أيوة..أشارت الفتاة إليها:
-مستر طارق منتظرك في المكتب.
تحرَّكت بجوارها متَّجهةً إلى المصعد، فلوت شفتيها بابتسامةٍ ساخرة:
-مش دا بتاع المدير؟.
لم ترد عليها الفتاة وتحرَّكت دون حديث، دقيقة وكانت بداخلِ مكتب طارق، الذي يتحدَّثُ بهاتفه، أشار إليها بالجلوس وتابعَ حديثهِ إلى أن انتهى من المكالمة:
-أهلًا أستاذة غادة.
-أهلًا بحضرتك...استدعى السكرتارية الخاصَّة به وطلب منها:
-هتاخدي أستاذة غادة مكتب أستاذ علام، وهوَّ عارف هيعمل إيه.
-حاضر يافندم..أشارت إليها الفتاة:
-اتفضلي أستاذة غادة...اتَّجهت بنظرها إليه:
-هوَّ أنا هشتغل إيه؟.. أنا حاسبات ومعلومات..
نصب عودهِ وحمل هاتفهِ متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات وهو يتحدَّث إليها:
-هتشتغلي في الحسابات، أستاذ علام عارف هيعمل إيه..
-يعني أستاذ علام عارف وأنا اللي هشتغل معرفش؟!.
توقَّف فجأةً يرمقها بابتسامةٍ على طريقةِ ردِّها الغاضبة:
-لأنُّه هوَّ المسؤول على قسم الحسابات، أكيد مش هروح أجيب موظف الأمن يقولِّك هتعملي إيه، وهوَّ اللي حيعرَّفك هتشتغلي إيه..كدا كويس؟..بعد إذنِ الأستاذة تدخل لأستاذ علام وبعد كدا نشوف الشغل هيعجبها ولَّا لأ..
توسَّعت عيناها بغضبٍ من ردِّهِ الساخر، جزَّت على أسنانها وهي تراقبهُ بنظراتها الحادَّة وهو يتحرَّكُ متَّجهًا إلى غرفةِ الاجتماعات..
مرَّت عدَّةُ أيامٍ على عملها في الشركة، شعرت بالتوافق أحيانًا بينها وبين وظيفتها، ولكن أحيانًا كانت تشعرُ بالغضبِ من طريقةِ طارق الباردة وأسلوبهِ الفظ..
صباحَ يومٍ جديدٍ دلفت إلى مكتب رحيل التي استدعتها:
-مبروك الشغل ياغادة، سعيدة بوجودك، يالَّه خلَّصي السنة دي واعتبري نفسك صاحبة المكان.
ضحكت بصوتٍ مرتفعٍ تشير إلى مكتبِ رحيل:
-صاحبة المكان مرَّة واحدة، لا وحياتك بلاش أنا بزق نفسي بالعافية علشان الشغل..
أشارت إليها بالجلوس ثمَّ تساءلت:
-قوليلي مرتاحة ولَّا لأ..فيه حد مضايقك؟.
-أه..قالتها سريعًا، لتنظر إليها رحيل بجبينٍ مقطَّب:
-مين اللي مضايقك؟.
-أخو جوزك، هذا الكائن لوح تلج ماشي على الأرض.
قهقهت رحيل وتوقَّفت متَّجهةً تجلس بالمقعدِ الذي يقابلها:
-قصدك طارق؟.
هزَّت رأسها ومازالت ابتسامتها تنيرُ وجهها:
-بالعكس طارق شخص كويس جدًا.
-لا بس مش زي يزن خالص، أينعم يزن أوقات بحسُّه شخص جد، بس مش بارد زي الكائن دا.
هنا تذكَّرت قاهرَ قلبها، فتنهَّدت بألمٍ يحرقُ روحها وحاولت رسمَ ابتسامة، إلَّا أنَّ غادة التقطت حزنها:
-أنا عارفة المشاكل اللي بينك وبين يزن، ممكن أقول رأيي ولَّا حتزعلي؟.
صمتت رحيل تهزُّ رأسها بالموافقة:
-إنتي غلطانة أكيد، لازم الدنيا تهدى بينكم علشان يزن شخص يستاهل بجد، أنا طبعًا مش هقولِّك هوَّ قدِّ إيه شخص عصامي وراجل، أنا سمعت عنُّه كتير من ماما وميرال، غير طبعًا زيارته لينا وكلام إلياس وإسلام، وأنا واثقة في أخواتي، عمرهم ماهيقولوا على واحد راجل إلَّا هوَّ فعلًا راجل، الغلط حصل وخلاص، يبقى ليه نضيَّع أوقات حلوة نعاتب بعض على الغلط دا!!.
آسفة حقيقي يارحيل، بس أنا بعتبرك زي ميرال، يزن شخص كويس حاولي تصفُّوا اللي بينكم.
كان يقفُ لدى الباب فاستمعَ إلى حديثها مع رحيل، تراجعَ إلى مكتبه، وجلس يفكِّر بتلك الفتاة التي لم تتجاوز الخمسةَ وعشرين عامًا ولكن حديثها يسبقُ عمرها، هنا تذكَّر ميرال ورؤى، نعم نفس التفكير بالمنطق، هل هذا لأنَّهم تربُّوا داخل أسرة سوية، أم هناك عامل مشترك بينهم بقربهم لشخصٍ مثل إلياس..مسح على وجههِ بدخولِ السكرتيرة:
-مستر طارق، مواعيد النهاردة.
أشار إليها أن تضعهم على مكتبه، وضعتهم وخرجت مع ارتفاعِ رنينِ هاتفه:
-طارق هات رحيل على البيت الجديد، إحنا هناك، وهنبات فيه..
-تمام..عند رحيل ظلَّت تفكِّر بما ألقته عليها غادة إلى أن ارتفعَ رنينُ هاتفها:
-أيوة؟.
-رحيل يبقى شوفي الفينال بتاع مشروع العربيات اللي بعته يزن، وشيِّكي عليه، وخلِّي بالك المشروع دا مهم أوي، وأنا شايف فكرته حلوة مع المهندسة يارا.
-أه المهندسة يارا، هيَّ اللي عملت التصميم دا مش كدا؟.
-أكيد هي، ماهو جوزك مش مهندس الكترونيات، أنا شايف البنت شغلها حلو، وزي ماشوفتيها في الاجتماع لبقة وشاطرة جدًا، وأفكارها رائعة، يزن بيقولِّي المشروع دا أخد منها تصميم تلات شهور، تخيَّلي بقى يكون إزاي بالدقَّة والمهارة دي.
-تمام ياطارق، والاجتماع بتاع المهندسة العبقرية دي إمتى، وهل يزن باشا لازم يكون موجود؟.
-الاجتماع بالليل، أه يزن لازم يكون موجود، إنتي ناسية نسبته في الشركة؟.
-خلاص..قالتها وأغلقت الهاتف وهي تتآكلُ من الغضب ..نهضت من مكانها ودارت حول نفسها بغضب، بدخول غادة:
-أستاذ علام بعتلك الملف دا، وبيقولِّك شوفي أرقام آخر مشروع وقارنيه بالميزانية..
توقَّفت غادة عن الحديث بعدما وجدت حالتها المنهارة:
-في حاجة؟..هزَّت رأسها بالنفي وقالت:
-حطِّي الملف عندك..أومأت وهمَّت بالمغادرة إلَّا أن أوقفتها رحيل:
-غادة..
التفت اليها تنتظرُ حديثها، لتقتربَ منها رحيل:
-طالبة منِّك خدمة، بس ..توقَّفت ثمَّ قالت:
-هيَّ مش خدمة قد ماهوَّ وجع دماغ..
قطبت غادة جبينها لتقصَّ لها رحيل مايدورُ بذهنها..
-طيب أنا هاخده بصفتي إيه؟.. أنا هنا شغَّالة محاسبة، ودا ورق تصميم، وبعدين حسَّاه إهدار لتعب وجهد مهما اختلفنا..
-غادة البنتِ دي مش طيقاها، ولا عايزة تشتغل عندي، وإنتي فاهمة قصدي إيه..
-حاضر..اتصرَّفي وربِّنا يستر، بس عندي اقتراح اعمليه قبل ماتتصرَّفي..
بعد عدَّةِ ساعاتٍ على طاولةِ الاجتماعات:
-يعني إيه ياطارق مشروع زي دا يكون مع موظفة لسة مكملتش شهر؟..لا وكمان تحت التدريب.
-ممكن الباشهندس يهدى، إحنا في اجتماع، وزي ماحضرتك قولت، مكنتشِ تعرف، أنا بعت المشروع علشان تعمل دراسة مالية، مش دا تخصُّصها ياأستاذ علام؟.
-أيوة فعلا أستاذة رحيل بتقول اللي حصل، وهيَّ من الصبح شغالة عليه، وأنا أتحمِّل جزء من المسؤولية، مكنتش واخد بالي والقهوة وقعت منِّي أنا..
شعرت يارا بأنَّ أحدهم سكب فوق رأسها كوبًا من الماءِ المثلج، التفتت إلى يزن بعيونٍ دامعة:
-شغل تلات شهور ضاع، دي ثقتي فيك ياباشمهندس!!.
توقَّفت رحيل تجمعُ أشياءها قبل أن تطبقُ على عنقها وقالت:
-بدل المشروع اتحرق مع القهوة، يبقى الاجتماع مالوش لازمة..رمقت يزن بنظرةٍ ساخرة:
-إيه يازوجي الحنون مش هنمشي ولَّا هنقعد نبكي على الورق المدلوق عليه قهوة..قالتها وخطت للخارج بخطواتٍ أنثويةٍ سعيدة بما حقَّقته، ليهبَّ يزن خلفها يشيرُ إلى طارق:
-خلِّي حد يوصَّل الباشمهندسة يارا..
بينما عند رحيل صعدت إلى سيارتها متَّجهةً إلى منزلها وهي تدندنُ مع أغنيتها..
بسيارةِ يزن توقَّف على رنينِ هاتفه:
-يزن عدِّي عليَّا، محتاجاك في موضوع ضروري.
-حاضر ياميرال...
بغرفةِ ميرال قصَّت لها غادة ماصار، ظلَّت تضحكُ على مافعلته، واتَّجهت إلى الأسفل:
-طيب تعالي ماما فريدة مجمَّعة الكل، أرسلان تحت، وكمان يزن جاي في الطريق..
-رحيل جاية معاه؟..أنا خايفة يكون عرف وينفخني.
-لا متخافيش، إنتي هنا وسط أخواتك، الصراحة أنا مضمنشِ يزن هيعمل إيه، بحثت عن هاتفها فأشارت إلى الأعلى:
هطلع أشوف الفون فين، شكلي نسيته عند يوسف ودا كارثة متحرِّكة..
قالتها راكضةً إلى غرفةِ يوسف، بينما هبطت ميرال إلى التجمُّع بدخولِ يزن
ملقيًا السلام..
أشارت إليه فريدة:
-اإيه يابني متجيش غير لمَّا نبعت لك؟..
انحنى يقبِّلُ رأسها:
-آسف شغل والله، بنقل بيت جديد..جلس يبحثُ عن غادة بعينيهِ ثمَّ تساءل:
-هيَّ غادة فين؟.
رفع إلياس رأسهِ من فوق هاتفهِ وتساءل:
-بتسأل عن غادة ليه؟.
حمحم وقال:
-عايز أسألها عن حاجة في الشغل بس، مالك اتخضِّيت ليه، هوَّ عمُّو مصطفى مش موجود ولَّا إيه؟.
-لا بابا في اسكندرية، له صديق مريض.
-ألف سلامة..
-تعالَ يايزن جنبي عايزة أتكلِّم معاك شوية..
قالتها فريدة لينهضَ أرسلان قائلًا:
-هشوف الولاد فين..
بينما تحرَّكت ميرال وغرام إلى المسبح..
تابعتهُ فريدة ثمَّ قالت:
-مجبتش رحيل معاك ليه؟.
-ميرال قالتلي أعدِّي لأنَّها عايزاني في موضوع، مقلتش حاجة تانية..
-طيب حبيبي الدنيا هديت ولَّا لسة زي ماأنتوا؟..
رسم ابتسامةً وهزَّ رأسه:
-أه الحمدُ لله، كلِّنا بنمر بأوقات صعبة وبنعدِّيها، التفت إلى إلياس الذي يتابعُ الحديثَ بصمتٍ ثمَّ قال:
-منكرشِ الموضوع كان صعب في الأوَّل، لكن كلِّ حاجة ربِّنا مسيَّرها بقدره.
-ونعمَ بالله ياحبيبي..المهم حاول تجبها لو مرَّة واحدة في الأسبوع، خلِّيها تقرَّب من البنات، واعذرها حبيبي، أنا سبتها علشان تهدا، وزي ما إلياس أقنعني، حياتك الخاصَّة ومحدش له أنُّه يتدخَّل..
هزَّ رأسهِ دون تعليق، لمح بعينيهِ تحرُّك غادة إلى ميرال وغرام، ظلَّ يراقبُ تحرُّكها إلى أن قال إلياس:
-إيه رأيك تنضم للكمبوند اللي بيقول عليه إسحاق الجارحي، وأهو نكون قريبين من بعض..
ضيَّقت فريدة عيناها متسائلة:
-كمبوند إيه؟.
قصَّ لها إلياس مااقترحه إسحاق، بوصولِ إسلام وأرسلان..
-يعني إيه مش فاهمة..وباباك وافق يسيب الفيلا هنا؟..
-أه وافق..
-بابا قال بدل هنكون كلِّنا في مكان واحد، علشان شايف كلِّ واحد منِّنا في مكان يعني..
-معقول مصطفى وافق يسيب الفيلا دي ويروح مكان تاني؟!..
عند ميرال..
كانت غادة تتحدث معها بعدما تركتهم غرام متجهة نحو ابنائها
-دمُّه تقيل ياميرال وبارد، يخربيت تقلِ دمُّه..قاطعهم وصول يزن يحملُ كاسة من العصير، يتطلَّع إليهم بتساؤل:
-واقفين هنا ليه، ميرو جوزك كان بيسأل عليكي..
هزَّت رأسها ثمَّ همست لغادة:
-اهربي قبل مايزن ينفخك..
قطبت جبينها ترمقُ يزن بصمت، ثمَّ قالت:
-ليه وأنا مالي، يروح يحاسب مراته، عايز يتشطَّر عليَّا، لكزتها بخفَّة وهي تنظرُ إلى يزن الذي يراقبهم بصمت، ثمَّ تحرَّكت ميرال وهي تضحك، فتراجعت مستديرةً إلَّا أنَّه أوقفها:
-استني عندك..
أغمضت عينيها محاولةً الثبات، فاستدرات وهي ترسمُ ابتسامة:
-إلياس قالِّي أتعامل معاك زيَّك زي أرسلان، يعني هعتبرك ابنِ عمي..
إزيَّك يابنِ عمي؟..قالتها مع اقترابهِ منها وقال:
- وأنا برضو هتعامل معاكي على إنِّك أختي الصغيرة..
-إزيك ياأختي الصغيرة؟..
-إنتَ هتستهبل..وصل إليها بخطوةٍ واحدة:
-بت أنا على أخري منِّك.
-وأنا مالي، هيَّ لا هو ، لا هما الاتنين..
أطبق بعنفٍ على ذراعها فانبثقت دمعةً من جفنيها مع وصولِ إسلام يصرخُ به:
-يزن..ابتعد يزن عنها مستغفرًا ربَّه، باقترابِ إسلام من أخته..
دفنت نفسها بأحضانهِ تبكي بصمت،
ربتَ على ظهرها:
-إيه اللي حصل؟..حاول أن يسحبَ أنفاسهِ بهدوء، ولكن كلَّما تذكَّر ما فعلتهُ يشعر بأنَّه يريد أن ينقضَّ عليها،
اقترب من وقوفِ إسلام:
-إنتي مرتاحة يعني لمَّا تبوَّظي شغل لواحدة تلات شهور سهر وتعب وإرهاق، متأكد إنِّك عملتيها بقصد..
-أه عملتها بقصد، قالتها بصوتٍ مرتفع..
أزالت دموعها واقتربت منه:
-تصدَّق بالله أنا غلطانة علشان حاولت أساعدك، بس إنتَ فعلًا متستهلش..
غادة..صرخ بها إلياس الذي وصل على صوتِ صراخهم ثمَّ أشار إليها:
-اعتذري..
نظرت إليه بعيونٍ جاحظة، كيف يطلبُ منها ذلك وهو لا يعلم ماصار، اقترب وأمسكها من ذراعها بقوَّة:
-اعتذري بقولِّك..
رمقت إسلام الصامت بخزي، ثمَّ رفعت عينيها إلى يزن:
-أنا آسفة، يبقى عرَّف حضرة الظابط إنَّك حاولت تضرب أخته، دا لو كنت أخته..قالتها وصعدت سريعًا إلى الأعلى..بتوقُّفِ إلياس ينظرُ إلى يزن بصدمة:
-يعني إيه اللي بتقوله دا؟!..
همَّ بالمغادرة وهو يسبُّ رحيل بداخله، يريدُ أن يصل إليها ويعلِّمها درسًا لا يُنسى، بينما اقتربَ إسلام يربتُ على كتف إلياس:
-أنا عارف قصدك من اعتذار غادة، علشان تمادت مع اللي أكبر منها، بس كان لازم تسمعها الأوَّل، معرفش إيه اللي حصل بس متوقعشِ غادة غلطت ياإلياس..
صعدت ميرال إلى غادة بعدما علمت ماصار، وجدتها شاردة بالشرفة، جلست بجوارها وجذبتها لأحضانها:
-متزعليش من إلياس ويزن حبيبتي، أنا عارفة الاتنين غلطانين، بس الغلط الأكبر عندك، من إمتى ياغادة وإحنا بنكلِّم اللي أكبر منِّنا كدا؟!..
مسحت دموعها وتراجعت بجسدها:
-أنا معترفة إنِّي غلطانة، انسي، أنا ممكن أكون الأيام دي مضغوطة من الكل والشغل علشان كدا بتأثَّر جدًا..
المهم سمعت من ماما فريدة أنكوا هتعيشوا في بيتكم على طول صحيح؟..
أنا مش عايزة تمشوا من هنا ياميرال..
احتضنت وجهها وأزالت دموعها:
-حبيبتي أنا هنا مش هنمشي، وكمان سمعت..قطع حديثهم دخول إسلام ينظر إلى توأمهِ بحزن، اقترب منهما فنهضت ميرال وقالت:
-هروح أشوف يوسف، أكيد بلال مش دلوقتي..
أومأت لها فتحرَّكت بينما جلس إسلام بجوارها:
-عاملة إيه دلوقتي؟..عارف مقصَّر معاكي، بس ضغط شغل وجامعة..
-وملك..قالتها وهي تنظرُ للخارج..
أدار وجهها ينظرُ لمقلتيها:
-مش ملك اللي بعداني عنِّك، وعلى فكرة بقى أنا وملك احتمال كبير نترك بعض.
تطلَّعت إليه بذهول وهتفت بغضب:
-إنتَ بتقول إيه؟!..اتجنِّنت، مش دي ملك اللي كنت هتموت عليها!!
جذبها من أكتافها وضمَّها تحت حنانِ ذراعيهِ وقال:
-مفيش بينا تفاهم ياغادة، أنا دلوقتي فهمت خناقات إلياس وميرال ليه، يمكن ميرال كانت بتحبِّ إلياس وحاولت تتغيَّر علشانه، إنَّما ملك مصرَّة تفضل ملك الجارحي.
-يعني إيه ياإسلام؟..
زفر باختناق وابتعد بنظرهِ عنها قائلًا:
-يعني لسة محتاج شوية وقت علشان أشوف حياتي صح، أنا مش عايز
أتسرَّع.
شهقت غادة تهزِّ رأسها بالرفضِ وقالت:
-بابا مستحيل يوافق، إنتَ كدا بتصغَّره..
توقَّف قائلًا:
-بعدين نتكلِّم في الموضوع دا..المهم اهتمِّي بدراستك علشان متقصريش في الكلية، وحاولي تبعدي عن الخلافات الشخصية، استمعوا الى طرقٍ على الباب، دلفت فريدة تنظرُ إليهما بحزنٍ وقالت:
-ينفع كدا ياغادة؟!! آخر من يعلم باللي بيحصل معاكي..
توقَّفت وتمتمت بنبرةٍ تصرخُ بالألم:
-ماهو حضرتك لو كنتي بتهتمِّي زي الأوَّل كنتي عرفتي..
ابتلعت فريدة ريقها بصعوبة وشعرت بالحزنِ وهي تنظرُ إلى إسلام الذي ابتعدَ قائلًا:
-أنا هنزل لإلياس تحت..
بالأسفل..
كان يجلسُ أمام المسبحِ ينظرُ إليه بحزن، وكلماتِ غادة ترن بأذنه، هل هو بالفعل تسرَّع، وصل إسلام يرمقُ أرسلان الذي يجلسُ يطالعهُ بصمت، فاقتربَ من أرسلان وجلس بجواره:
-إيه اللي حصل؟..
-معرفش، بس اتخانق مع ميرال علشان غادة..
أممم قالها إسلام وهو يهزُّ رأسهِ ثمَّ غمزَ إليه:
-سمعت آخر الأخبار ياأرسو؟.
-لا ماسمعتش..
مش إحنا هننقل في مكان اسمه كمبوند..
ضحك أرسلان وقال:
وهنكتب عليه لافتة:
(كمبوند المخطوفين)
لكزهُ بخفَّة وهو يضحكُ غامزًا:
-لا هنكتب عليه كمبوند اليأس وشركائه، هوَّ أنا ماقولتلكش
لا..ماقولتليش..يالَّه افضح
كان يامكان ياسادة ياكرام، فيه واحد غصبوه على الجواز، حتى العروسة كانت بتناديه اليأس، وكانت بتقول دا يكلبشوه، مش يجوزوه، جوم إيه بقى
ماتقول يابني بالصعيدي
ضحكَ الآخر وقال:
جوم إيه بقى..قالها بضحكاتٍ مرتفعة..إلَّا أنَّ إلياس رمقهم بنظرةٍ حادة وبحثَ عن شيء، ومازالت ضحكاتهم بالارتفاع فقام بخلعِ حذائه وألقاهُ عليهم:
-امشوا من هنا ياأوباش
قهقه إسلام واتَّجه إليه يعانقهُ من الخلف:
-واللهِ ماتتنرفز النرفزة غلط عليك..
دفعهُ إلياس وتوقَّف يشير إلى حذائه:
-هات الجزمة ياجزمة.
دفعها أرسلان بقدمه، ورفع هاتفه:
-ياله امشي حافي علشان أصوَّرك وأعمل ترند..ابتعد إسلام عنه يرفعُ يدهِ إلى أرسلان:
-شوط يابني أنا هنا وإنتَ صوَّر.
-هات الشوز يابغل بدل ماطلَّع غضبي عليك..
باليومِ التالي وصل مصطفى ودلفَ إلى الداخلِ ملقيًا السلام..
هبَّت غادة من مكانها متَّجهةً إليه كالطفلةِ تشعرُ بأنَّها يتيمة ولا أحد يشعرُ بها..كانت فريدة تراقبها بحزن، فمنذ حديثهما بالأمس وهي تشعر أنَّ هناك جدارًا وُضعُ بينهم يصعبُ هدمه..
بينما إلياس الذي شعر بالغضبِ من نفسه، هل تلك طفلتهِ البريئة التي كان يعتبرها ابنتهِ وليست أخته، هل ماحدث جعلَ بينهم محيطاتٍ وبحار؟..
أراد أن يلقِّنها درسًا بأن تفرِّقَ بين الصحِّ والخطأ ولكن استعمل طريقتهِ الخطأ.
ضمَّها مصطفى مع ارتفاعِ بكائها:
-حبيبتي اهدي مالك؟!..ابتعدت عن والدها وقالت:
-آسفة يمكن وحشتني.
توقَّف إلياس ينظرُ إلى ميرال:
-هبات في الشغل، خلِّي بالك من نفسك ومن يوسف، قالها مقتربًا منها، ثمَّ انحنى يهمسُ إليها:
-خلِّيكي مع غادة، واعرفي إيه اللي قلبها كدا؟.
-حاضر...ذهب إلياس وجلس مصطفى يوزِّعُ نظراتهِ على الجميعِ مبتسمًا:
-ليلة واحدة أرجع ألاقي الدنيا كدا!!
بسطت ميرال كفَّها إلى غادة:
-تعالي نتمشَّى شوية يادودي ، بينما التفتَ إسلام لوالدهِ وقال:
-بابا..لسة فيه أخبار جديدة.
التفت إليهِ متسائلًا:
-أخبار جديدة، إيه اللي حصل؟!..
ابتلع ريقهِ ونظر إلى فريدة التي تتطلَّعُ إليهِ بتساؤلٍ تنطقهُ عيناها:
-أنا وملك انفصلنا.
-نعم..صاح بها مصطفى وهبَّ من مكانهِ يشير إلى فريدة بغضب:
-إيه اللي بسمعه دا؟..ارتدى إسلام نظَّارتهِ وحمل حقيبتهِ قائلًا:
-أنا قرَّرت يابابا، مالوش داعي حضرتك تضايق..
توسَّعت عيناهُ ينظر إلى حركةِ ابنه بغضب، وتحدَّث بصوتٍ غاضب:
-بقى الراجل بيكلِّمني علشان نتجمَّع كلِّنا في كمبوند، ليرضي الكلِّ من غير زعل، أنا أكلِّمه وأقولُّه آسفين ابننا طلع عيل..
اقتربت فريدة منهُ وحاولت تهدئته:
-مصطفى ممكن تهدى.
-أهدى، إنتي شايفة بعد اللي ابنك عمله أهدى؟!..دار حول نفسهِ وبدأ يحدِّث نفسه:
-أرُّد على الراجل وأقولُّه آسفين، بدل ماأقولُّه موافقين إنِّنا ننقل الكمبوند..
وصلت ميرال وغادة على صوتِ مصطفى الغاضب:
-اسمعي يافريدة، الواد دا تعقَّليه، مستحيل أوقَّع علاقتي بالجارحي علشان ابني عيِّل؛ وفهِّميه بعد شهر كلِّنا هننقل الكمبوند خلاص مبقاش ينفع كلِّ واحد منِّنا في مكان..وأنا ضايع بينكم، إلياس في حتة، وأرسلان في حتة، والأستاذ إسلام اللي كبر على أبوه كمان، وإنتي وزعلك على أولادك رغم محاولاتك إنِّك مش مهتمَّة ببعدهم..
-يعني إيه يابابا..حضرتك عايزنا نسيب بيتنا اللي اتربِّينا وكبرنا فيه؟..
-غادة أنا مش فايق لك، كلِّنا هننقل من هنا.
-كلِّنا هننقل من هنا!! عايز تبعدنا عن ذكريات أمِّي، طيب أنا مش عارفة أحسِّ بيها غير هنا، يعني حضرتك مستخسر فيَّا ذكرياتها!!..
-غادة..اقتربت فريدة:
-مصطفى اهدى، اسمع لبنتك..
دنت غادة منهُ وهتفت بدموعها:
-برافوو ياحضرةِ اللوا، امسح كمان وكمان ذكريات أمِّي من كلِّ الجدران..ولَّا أقولَّك اهدم البيت دا كلُّه
قبل ماتنقل من هنا..
-ميرال..خُدي غادة على فوق..
سحبتها ميرال ولكنَّها توقَّفت تنظرُ لوالدها لأوَّلِ مرَّة بألمٍ حكتهُ عيناها قبل شفتيها، ثمَّ قالت:
-النهاردة بس اتأكِّدت إنِّي يتيمة..رمقت فريدة بنظرةٍ خاليةٍ من الحبِّ وصعدت إلى غرفتها، تحرَّكت ميرال خلفها سريعًا وهي تقول:
-مفيش حاجة إن شاءالله هتهدى..ثمَّ قامت بمهاتفةِ زوجها الذي أجابَ سريعًا:
-إلياس تعالَ على البيت، الدنيا شايطة..
توقَّف قبل صعودهِ إلى مكتبه:
-إيه اللي حصل؟..
قصَّت له ماصار، سحبَ نفسًا وزفرهُ ثمَّ قال:
-سيبي بابا يتعامل، مينفعشِ أدخل بينهم..إنتي خلِّي بالك منها وقرَّبي واعرفي إيه سرِّ التغيير..
مرَّت الأيامُ سريعًا إلى أن دلف مصطفى يحملُ تذاكرَ سفرٍ وقال:
-هنسافر كلِّنا بعد بكرة نحجّ، لازم نبعد شوية عن الخلافات، وإن شاءالله نرجع بأفضل حال..قالها وهو ينظرُ إلى ابنته التي تتلاعبُ بطعامها دون أن تتحدَّث، نهضَ إسلام قائلًا:
-إن شاءالله..قالها وغادر المكان..
بالأعلى بغرفةِ غادة..
جلست ميرال معها وبدأوا يتحدَّثون في كثيرٍ من المواضيع إلى أن ذكرت اسمَ إلياس بمنتصفِ الحديثِ حتى تعلم ماصارَ بينهما..
ردَّت عليها ساخرة:
"جايسون ستاثام"
إيه ياختي، إنتي بتشبَّهي جوزي بالعميل بتاعك دا!..
نفخت بخصلاتها التي تتطايرُ على وجهها وقالت:
هوَّ إنتي تطولي، إنتي عارفة أنا بتكلِّم عن مين؟..
آلة الأكشن التي لا تهدأ
الرجل الذي لا يبتسم كثيرًا...لأنَّه مشغولٌ دائمًا بكسرِ العظام أو قيادةِ سيارةٍ خارقةٍ وسطَ انفجارات..
-تصدَّقي بالله إنتي اللي عايزة آلة أكسَّرلك بيها عظامك..
-أنا..ليه قولت حاجة غلط، ولَّا أقولِّك هنتظر من واحدة متجوزة أفلام الرعب والأكشن، وأخت واحد عايز صاروخ أحول يدخل في دماغه، لا دا مش واحد دول اتنين..يالهوي على كمِّ الغتاتة اللي فيهم، الصراحة العيلة دي كلَّها مفيهاش غير أرسلان..ودا كمان ساعات بيبقى بارد ومستفز، حتى عدَّى أخويا الوحيد حبيبي..
-أخوكي الوحيد ياغادة؟!....يعني مالكيش أخوات غير إسلام دلوقتي!!..
اهتزَّ داخلها والتفتت سريعًا للذي توقَّف على الباب يشيرُ إلى ميرال:
-جهِّزي يوسف خارجين..قالها وتحرَّك سريعًا دون أن ينطقَ بحرف..
رمقتها ميرال وأردفت:
-أنا مش عارفة إيه اللي حصل بينكم من فترة، بس متأكدة أنُّه مش غلطان..
بعد مرورِ عدَّةِ أيامٍ بالحرمِ المكِّي..
خرجت من الحرمِ متَّجهةً إلى زوجها الذي ينتظرها بمكانٍ بالقربِ منها، ولكنَّه ابتعدَ حتى يدعَ لها الفرصة لكي تقل بما في مكنونها، بسطَ كفِّه لتعانقهُ وتحرَّكت بجوارهِ كفراشةٍ تتحرَّك بين الزهورِ الزاهية، توقَّف يتطلَّعُ إليها بحبور:
-ياااه اللي يشوفك كدا، يقول كنتي مسجونة وأخدتي حريِّتك، أوعي يكون السجن دا أنا؟..
تأمَّلته بعيونٍ تلتمعُ بلآلئها، ثمَّ أردفت:
-إنتَ زعلان علشان طلبت منَّك نعمل عمرة لجمال؟.
صدمهُ حديثها ورغم ذلك رسمَ ابتسامةً وقال:
-يبقى لسة متعرفيش مصطفى يافريدة، بعدِ العمر دا كلُّه وللأسف فشلتي...
هزَّت رأسها بالنفي وردَّت بنبرةٍ ممزوجةٍ بالألم والعتاب:
-فريدة عاشت مع مصطفى أكتر من جمال يامصطفى، إنتَ اللي لسة لحدِّ دلوقتي مش مقتنع بفكرة إنِّ جمال مات.
تنهَّد بتثاقلٍ ثمَّ أشار إلى أرسلان المتوقِّفِ بجوار زوجتهِ وأولاده:
-يالَّه ابنك بقاله فترة مستنِّينا، قالها وسحب كفَّها وتحرَّك إلى وقوفِ أرسلان..
مرَّت الأيامُ سريعًا وعاد الجميعُ بعد بعد انتهاءِ مناسكِ الحج..
باليومِ التالي دلفت إلى الشركة، لاتعلم لماذا اشتاقت إلى كلِّ ركنٍ بها، استمعت إلى صوتهِ الغاضبِ بسكرتيرتهِ الخاصَّة..
طرقت على بابِ مكتبهِ ولا تعلم لماذا ساقتها قدميها إليه..
كان منكبًّا على جهازه، فصاحَ غاضبًا:
-قولت مش فاضي، خلَّصي شغلك.
-آسفة انا كنت جايبة لك ميِّة زمزم..
رفع عينيهِ سريعًا ينظرُ لتلك التي خطفت لبَّ قلبهِ وعقله، فمنذ سفرها يشعرُ بأنَّ قلبهِ توقَّف عن النبض، نصب عودهِ وتوقَّف مقتربًا منها، حاول السيطرة على دقَّاتهِ العنيفة ولكنَّه فشل، ابتسمَ لا إردايًا ينظرُ للذي بيدها:
-دا بجد، جايبة ميِّة زمزم؟!..
دلفت للداخلِ ووضعتها بين يده:
-رغم شامَّة ريحة تريقة، بس جبتها يمكن تغيَّر لوح التزلج..
-لوح التزلج!!..مين دا؟.
-لا بكلِّم الكرسي اللي وراك..يالَّه سلام شكلك مشغول، حبِّيت أسلِّم عليك كمِّل شغلك..قالتها واستدارت إلَّا أنَّهُ أمسكها من كفَّها:
-استني..
ابتعدت سريعًا بعدما شعرت بانتفاضةٍ بداخلها..رفع كفَّيه معتذرًا ثمَّ قال:
-آسف، بس كنت عايز أتكلِّم معاكي..
تلجلجت بالحديثِ وقالت:
-هعدِّي على رحيل..قالتها وتحرَّكت سريعًا.
عند إسلام خرج من عملهِ واتَّجه إلى سيارتهِ وجدها تستندُ عليها، اقترب منها وتعمَّقَ بالنظرِ إليها، نعم لقد اشتاقَ إليها كثيرًا، ولكنَّه لم يتقبَّل ما تفعله:
-إزيك ياملك
قالها بهدوء..اقتربت منه وقالت:
-المفروض مين اللي يسأل على مين ياحضرة المهندس؟..أعرف بالصدفة سفرك من أرسلان وكمان رجوعك صدفة!!..
-ملك أنا سبتك تفكَّري براحتك، محبتش أضغط عليكي..اقتربت منه واحتضنت ذراعه:
-لازم نتكلِّم ياإسلام، لازم نعرف رايحين على فين.
بمنزلِ يزن..
كان يلهو مع أطفاله، اقتربت رؤى تحملُ بعضَ الحلويات ونادت عليه:
-يزن يالَّه الكيك سخن وحلو..
-كيك وسخن..يابنتي بطني، بطَّلي تجارب فيَّا..
قهقهت وقالت:
-أعمل إيه اعتبرني دكتورة وبتعمل تجارب على مرضاها.
-يخربيت ألفاظك ياشيخة..كانت تقفُ بشرفتها تنظرُ إليهم بابتسامة، استدارت وقامت بتغييرِ ثيابها..ارتدت فستانًا ناعمًا من اللونِ الأحمر، وقامت بوضعِ لمساتٍ تجميليةٍ خفيفة، ثمَّ نهضت وتحرَّكت للأسفل، كان ملقيًا بظهرهِ على العشبِ ينظرُ للسماءِ بصمت، بينما يلهو أطفالهِ مع رؤى وضحكاتهم ترنُّ بالمكان..شعر بخطواتها، فأدارَ رأسهِ ينظر لتلك التي توقَّفت على بُعدِ خطوةٍ منه ثمَّ قالت:
-النهاردة عيد ميلاد الأولاد، هيكمِّلوا سنتين..اعتدل يقيِّمها بنظراتهِ العاشقة، ثمَّ نهض من مكانهِ ودنا منها:
-بس اللي أعرفه عيد ميلاد الأولاد لسة بكرة، إنَّما النهاردة عيد ميلاد حدِّ تاني..
ابتعدت بنظراتها منه وأردفت بتقطُّع:
-معرفشِ تقصد إيه، اللي أعرفه النهاردة عيد ميلاد ولادي..
حاوطها بين ذراعهِ والجدار وسبحَ بنظراتهِ على ملامحها القريبة التي اشتاقها حدَّ الجنون قائلًا:
-الولاد يوم عشرة، النهاردة لسة تسعة، اللي فاكره عيد ميلادي أنا النهاردة، وشكل التجهيزات الحلوة دي علشاني مش كدا؟.
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت جسدها وهو يمرِّر أناملهِ على عنقها، ثمَّ دنا يهمسُ بجوارِ أذنها:
-مالوش داعي، تنسي عيد ميلاد أولادك، بكرة يبقى احتفلي بيه يامدام..
قالها وابتعدَ عنها يشيرُ إلى أطفالهِ وصعد إلى الأعلى...بينما هي ظلَّت كالذي أصابهُ سهمًا مسمومًا بنيرانِ الحبِّ اللاذع.
عدَّةُ أسابيعٍ أخرى..
خرجت من عند الطبيبة تحملُ صورةَ طفلها الذي يسكنُ أحشاءها سعيدة، تريدُ أن تطيرَ لتخبرَ زوجها بالخبرِ السعيد، بينما بغرفةِ مكتبه، ثار مصطفى يطرقُ على المكتبِ بغضب:
-وأنا مش موافق، مستحيل أجوِّز بنتي لابنِ مجرم..
-بابا اسمعني، الولد اتغيَّر، وماشاء الله هوَّ اللي ماسك دلوقتي كلِّ شركات العامري..
-إلياس مهما كانت ليك سلطة في البيت دا، بس مايدلكشِ الحق تقول قرارات مهمَّة بمستقبلِ ولادي، أنا عارف بعمل إيه، مستحيل أوافق على كدا..
لو كنت حاطط ميرال زيَّها زي أخوها تبقى غلطان، دي متربية على إيدينا، ورغم كدا لو كنت أعرف من الأوَّل إنَّها بنتِ راجح كنت مستحيل أوافق ترتبط بيها..
هزَّةٌ عنيفةٌ أصابت إلياس من حديثِ والده، ليقتربَ ينظرُ إليه بضياع:
-إيه اللي حضرتك بتقوله؟!..
-إلياس أنا مقدَّر اللي بتحاول تعمله، بس متنساش إنِّ دي بنتِ راجح، لو كنت متقبِّل دا مكنتش غيَّرت اسمها ياحضرةِ الظابط.
كانت تقفُ على باب المكتبِ تستمعُ إلى حديثهم الذي شعرت أنَّه أوقعها بهوَّةٍ ساحقة، لتدورَ بها الأرض، وتشعرُ بأنَّ روحها تُسحبُ لبارئها، استندت على الجدارِ تتحرَّكُ بخطا ثقيلة، تضعُ كفَّها حول أحشائها، ودموعها بالانهيار..
وصلت إلى سيارتها بأنفاسٍ ثقيلة، مع وصولِ إسلام ينظرُ لحالتها المزرية:
-ميرال إيه اللي حصل؟..ولكنَّها تحرَّكت بسرعةٍ جنونيةٍ بعد سقوطِ تحاليلها وصورةِ جنينها، انحنى إسلام يحملُ الورق الذي وجدهُ وتحرَّك للداخلِ مع ارتفاعِ صوتِ مصطفى الغاضب:
-إنتَ ليه بتحاول تثبتلي إنَّك مش ابني ياإلياس..قالها بوصولِ فريدة وإسلام بتلك اللحظة.
-إيه اللي بيحصل؟..تساءلت بها فريدة..
التفت إليها ينظرُ إليها ولأوَّلِ مرَّة تتساقطُ دموعهِ أمام الجميع ثمَّ قال:
-أنا فعلًا مش ابنك ياسيادةِ اللواء..
-ميرال مالها؟..شوفتها خارجة بتعيَّط وركبت عربيتها ومشيت بحالة مش كويسة..
هنا شعر بأنَّ أحدهم غرسهُ بخنجرٍ باردٍ بعدما تيقَّن من استماعها لحديثِ مصطفى..ركض كالمجنونِ خلفها يبحثُ عنها ولكن لا يوجد أثر..
رفع هاتفهِ سريعًا وقام بمهاتفةِ أرسلان:
-شوفلي بنتِ عمَّك فين..
هبَّ من مكانهِ منتفضًا بعدما استمع إلى صوتهِ الباكي:
-إيه اللي حصل؟.
-شوفلي ميرال فين..هذا مانطقه ثمَّ أغلقَ الهاتف مستندًا على القيادة لتنفجرَ بركَ عينيهِ بعدما شعر بسوادِ كلِّ شيءٍ حوله، اليوم أعلنها مصطفى مباشرةً أنَّه لم يكن ابنه.
انتظرو الجزء الثاني كامل
خلصتي؟ الرواية الجاية أقوى وأحلى… تعالي وعيشيها معانا👇
