رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني للكاتبة نسمة مالك هي حكاية تنبض بالمشاعر وتفيض بالصراعات الداخلية والخارجية، حيث تتقاطع الأقدار وتتشابك المصائر في قصة حب مختلفة لا تخضع للمنطق أو الزمن.في رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني، يعيش القارئ حالة من الانجذاب العاطفي والتوتر النفسي، وسط أحداث متسارعة تكشف أسرارًا مدفونة وقرارات مصيرية تغير كل شيء. الرواية لا تقدم حبًا مثاليًا، بل واقعيًا، مليئًا بالتحديات والتضحيات.
رواية جبر السلسبيل الجزء الثاني من الفصل الاول للاخير بقلم نسمة مالك
المقدمه والفصل الاول
تمهيد ..
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
دائمًا نجد الوجع أنيق لا يختار سوى القلوب الطيبة فيطعنها بسكين الفقدان حتى يُدميها، و لكن ليسَ كل مَا نفقده خسارة قد يُريد الله تَبديل النِّعمة بِخيرٍ مِنها، فأحسنوا دومًا الظن بالله و اطمئنوا..
بعد مرور ما يقرب من الشهر..
طرق على الباب برفق، ودلف لداخل الغرفه بخطوات ثابتة، و قلب يرتجف بقوة بين ضلوعه، قسمات و جهه تزينها فرحة غامرة لم يستطيع إخفاءها،
حامل بيده أشهى المأكولات و العصائر الطازجة ابتاعهم لها خصيصًا من أشهر المطاعم ، أقترب منها و وضع الطعام على الطاولة بجوارها،
استدار نحوها يتطلع لها بلهفة، كانت جالسة على أرجوحتها تنظر للفراغ بصمت، لم تنتبه حتى لوجوده على الإطلاق..
جلس على مقعد بالقرب منها و ظل يتأملها بأعين تفيض عشقًا، و بهمس متأوه خرج إسمها من بين شفتيه..
"سلسبيل... "..
دارت بعينيها ببطء، و نظرت تجاهه دون أن تتقابل أعينهما..
"يله عشان تاكلي.. أنا جبتلك أكل هيعجبك أوي"..
قالها بكل ما يملك من حنو، و مد يده لمس يدها الناعمة بأصابعه الخشنه، لتسحب هي يدها على الفور و هي تقول..
"متشكرة يا جابر"..
"دي أحلي و أطعم جابر سمعتها في عمري كله"..
أردف بها و هو يرفع يده و يحتضن ذقنها بين أصبعيه، أشاحت" سلسبيل " بوجهها عنه، و همت بالقيام إلا أنه منعها سريعًا بإشارة من يده مغمغمًا..
"رايحة فين.. خليكي زي ما انتي"..
جذب الطاولة الموضوع عليها الطعام و تابع بحماس..
" أنا هأكلك و أنتي بتتمرجحي كده"..
"أنا مش عايزه أكل.. مش عايزة غير أني أبقى لوحدي"..
قالتها بصعوبة و قد اختنق صوتها بالبكاء، هبت واقفه و سارت تجاه باب الغرفة وقفت عنده، و تابعت بنبرة راجية..
" أرجوك أخرج و سبيني دلوقتي"..
انصاع لرغبتها و ترك ما بيده بصدر رحب، انتصب واقفًا هو الأخر، و نظر لها بابتسامة دافئة و تحدث بتفهم و هو يرنو إليها ..
"أنا هخرج.. حاضر يا سلسبيل" ..
نظر لعينيها التي تتعمد عدم النظر لعينيه بنظره مُتيمة مكملاً بنبرة لا تحمل الجدال..
" بس لازم تعرفي إن عمري ما هسيبك تاني .. ده أنا ما صدقت أنك رجعتيلي.. هفضل معاكِ و جنبك لحد ما نعدي وجعك و حزنك ده سوا "..
انهي حديثه و غادر الغرفة، لتغلق هي الباب خلفه بالمفتاح، و استندت عليه تبكي دون صوت، و بضعف بعدت حجابها و سحبت أسدالها الذي يلزمها منذ قدومها على منزل جدها، لتظهر أسفله جلباب" عبد الجبار " التي ترتديها ، مسدت عليها بكف يدها، و أغلقت عينيها و هي تميل برأسها على ياقتها، أخذت نفس عميق تستنشق رائحته بها بقلب ملتاع، و بخطي واهنه اتجهت نحو الفراش ارتمت عليه بملامح انطفئت من جديد، رغم أن انطفئها هذا معتادة هي عليه، لكن هذه المرة تبدو حقًا كمن فقدت روحها،
رُزقت برجل أغرقها بعشقه، نجح في الحصول على قلبها، ذاقت معنى الحب و الإهتمام على يده بعد رحلة طويلة يملؤها الشقاء، و العناء، وجدت بأعمق نقطة بقلبه مِساحة خاصة صادقة تتسع لها وحدها،لتلعب معاها الدنيا لعبتها الدنيئة، و بين ليلة و ضحاها انقلبت حياتها رأسًا على عقب..
حاولت تهرب من واقعها الأليم بالنوم، ليتها حتى قادرة على إغلاق عينيها و لو دقائق قليلة، تصل الليل بالنهار عقلها لا يتوقف عن التفكير، عينيها لا تكف عن ذرف الدموع،
يومان فقط مروا على انفصالها هي و زوجها "عبد الجبار" الرجل الذي كانت تختبئ داخل ضلوعه حينما يرعبها الحزن ، قلبها لم و لن يهدأ ضجيجه أبدًا بعد الآن فقد عادت له تلك الوخزات المؤلمة..
"و أخرتها يا جابر!!!"..
كان هذا صوت "سعاد" التى كانت تشاهد كل ما حدث بأعين يتطاير منها الشرر..
"أول ما عدت سلسبيل تخلص هتجوزها طبعًا"..
هكذا اجابتها بمنتهي البساطة و هو يسير لخارج المنزل..
هرولت خلفه مسرعة و تحدثت و هي تصك على أسنانها بغيظ قائلة بصوتٍ خفيض...
" تتجوز مييين يا واد.. ده لو حصل يبقي على جثتي"..
"بعد الشر عنك يا أم جابر.. هروح أجيب هدية حلوة لعروسة إبنك أنا واثق أنها هتفرحها و أجيلك ".. قالها و هو يلقى لها قبلة بالهواء قبل أن يغلق باب المنزل خلفه، تركها تدور حول نفسها من شدة غضبها ..
"أنتي لسه هنا يا سعاد!!! "..
أردف بها" فؤاد " و هو يخرج من غرفته..
اندفعت تجاهه" سعاد" وقفت أمامه مباشرةً و تحدثت بحدة طفيفة قائلة..
" وهفضل هنا يا بابا.. ولا عايزني أمشي و أسيب ابني العاذب مع بنت بنتك لوحدهم "..
"فؤاد" بعتاب.. "أيه اللي بتقوليه ده..و أنا روحت فين،ولا أنا مليش قيمة عندك"..
" قيمتك كبيرة أوي يا حاج بس الشيطان شاطر و مش عايزين نرجع نندم و نقول ياريت اللي جري ما كان.. خصوصًا أن جابر مستحيل يتجوزها"..
نفخ" فؤاد" بضيق، و بأمر قال..
" تعرفي تحطي لسانك في بوقك و تنقطينا بسكاتك
و تبطلي تهلفطي بكلام مالوش لازمه"..
"يا بابا أنا كل ما أفتح بوقي تخرسني!!!"..
قالتها "سعاد" بغضب عارم، جملتها هذه وصلت لسمع "سلسبيل" زادت من أرتعاد قلبها أكثر، و شعرت أن الآتي لا يُبشر بالخير، لتتحقق أبشع كوابيسها حين تابعت خالتها بنفاذ صبر قائلة..
"أنا مش قادرة استحمل أشوف ابني موقف حياته و مستني واحدة كانت أرملة، و بعدين بقت مطلقة تخلص عدتها عشان يتجوزها!!!!!"..
تنهد "فؤاد " بتعب و هو يقول..
"الوحدة دي تبقي بنت أختك يا سعاد و لا نسيتي؟!" ..
"لا يا بابا منستش".. غمغمت بها بصوتٍ تحشرج بالبكاء..
" هي أه بنت أختي و أنا بحبها و الله.. بس مش هحبها أكتر من ابني.. وحيدي.. عشان كده بقولك أني هكلم أبوها يجي ياخدها عنده .. هو أولى بيها "..
جحظت أعين "سلسبيل " على أخرها، و ارتجف بدنها بأكمله بقوة، و أنفاسها تلاحقت حين سمعت ما تفوهت به خالتها..
انتفضت واقفة و ركضت تجاه هاتفها أمسكته بأصابع مرتعشة، و طلبت الرقم الوحيد المدون عليه، لحظات وأتاها الرد المتلهف..
" سلسبيل.. يا حبيبتي يا بنتي كنت لسه هكلمك والله "..
بكت "سلسبيل" بنحيب و هي تقول بصوت خفيض..
"دادة عفاف.. اللي كنت خايفة منه حصل يا دادة و هيودني لأبويا"..
"عفاف".. "أهدي يا بنتي و بطلي عياط و متخفيش من حاجة أبدًا.. أنا هاجي أخدك دلوقتي حالاً و مش هسيب حد يأذيكي"..
" لا متجيش أنتي يا دادة".. نطقت بها "سلسبيل" بهدوء مفاجئ .. "أنا ههرب و هجيلك "...........
الفصل الاول
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
بالإسكندرية داخل المقر الرئيسي لشركة المنياوي ،تسود حالة من الفزع، الخوف يملئ القلوب، الجميع يعمل على قدم و ساق ، خاصةً رؤساء الأقسام، يكثفون جُهدهم أضعاف مضاعفة حتى ينهو عملهم على أكمل وجه خوفًا من أن يطولهم غضب "عبد الجبار"،
بينما يقف هو بطوله الشامخ أمامهم موليهم ظهره، ينظر من نافذة مكتبه بأنفاس مهتاجة من شدة إنفعاله، يتناول سيجار تلو الأخر و ينفث دخانه كما لو كانت نيران متوهجه تخرج من فتحتي أنفه،
رغم جمود و صلابة ملامحه فهو كعادته بارع في إخفاء مشاعره، و ما يؤلم قلبه، إلا أن عينيه بدت مخيفه و قد اختفت منها بريق العشق الذي كان يُزينها مؤخرًا..
تبدل حاله للنقيض بعدما تعرض لصفعة خذلان من أحب و أقرب البشر لقلبه، زوجته و طفلته "سلسبيل" ارتكبت خطأ فادح بحقه جرحت به رجولته جرح مميت، ما يشعر به الآن إحساس لن تستطيع الكلمات وصفه، يشعر بخيبة الأمل و ما أصعب هذا الشعور، إعتذارات العالم أجمع لن تكفيه، لا شيء يستطيع تعويض قلبه الذي خُذل من شخصه المفضل..
قلبه!!! أسفًا عليه بعد فراقه عن نبع الحياة بالنسبة له، أخذت معاها روحه، مهجة فؤاده، ابتسامته، ذلك النابض بأسمها وحدها صدأ كالحديد لا يئن و لا يحن
، غلفته قسوة، و جبروت جديد كليًا عليه، بعدما كان يتميز بالرأفة في معاملته مع العاملين داخل و خارج شركاته،
"كده ملف القضية مبقاش ليه وجود زي ما سيادتك طلبت يا عبد الجبار باشا"..
قالها إحدي الجالسين بصوتٍ يملؤه الفخر، و كأنه حقق أعظم انتصاراته حين نفذ ما طلبه منه..
أطبق "عبد الجبار" جفنيه بقوة، و اصطك على أسنانه بعنف كاد أن يهشمهم حين تذكر تلك اللحظة التي تمزق بها قلبه لاشلاء..
.. فلاش باااااااااااك..
أرغم نفسه على الإبتسامة حين رأي "جابر" مقبلًا عليه ممسك بيد جده العجوز، ظن أنها إحدي زيارتهم لابنتهم التي تكررت أكثر من مرة منذ وصولهم إليها،
أصبح جدها يأتي لها باستمرار برفقة ابنته "سعاد، و إذا جاء برفقة" جابر "حفيده لابد أن يكون في وجوده..
" يا مُرحب يا عم الحاج.. نورت الدار"..
قالها "عبد الجبار "بترحاب و هو يأخذ بيده الأخرى و سار بجانبه نحو الداخل مكملاً..
" عفاف.. قولي ل سلسبيل هانم إن چدها وصل بالسلامة.. و چهزوا الوكل قوام"..
"أحنا هنمشي على طول.. مش جاين المرادي نضايف يا عبد الجبار بيه"..
قالها "فؤاد" بأسف و صوت بدي مرتبك للغاية، تملك القلق من قلب" عبد الجبار" خاصةً حين تنقل بنظره بينهم، ليجد نظرة "جابر" تتراقص فرحًا لأول مرة من وقت ما دلف لمنزله، كل مرة يأتي بها كانت نظرته يملؤها الحسرة، و الألم..
فتح" عبد الجبار " فمه و كاد أن يستفسر منه عن مقصده إلا أنه انتفض فجأة كمن لدغه عقرب حين رأي زوجته تهبط الدرج بعباءتها السوداء ساحبه خلفها حقيبة كبيرة و عينيه منتفخة أثر بكاءها الشديد،
سقط قلبه أرضًا و هو يهرول نحوها بخطوات راكضة..
وقف أمامها ينظر لها بتساؤل و أعين منذهلة بعدما رآها تتهرب بعينيها الدمعة منه، و ترسم الجمود على ملامحها التي كساها الحزن ثانيةً..
لم يسعفه لسانه بالنطق بحرف واحد، ظل يحملق فيها منتظر إجابة لهيئتها هذه..
ساد الصمت طويلاً إلى أن قطعه "فؤاد" قائلاً..
" إحنا جاين انهارده عشان ناخد بنتنا معانا من غير مشاكل.. سلسبيل قالتلي أنها مش قادرة تسامحك على لعبك عليها بخصوص مرضها و عايزه تطلق منك.. فياريت يا ابني زي ما دخلنا بالمعروف ننفصل بالمعروف"..
ربااااه!!!
ماذا يقول هذا الرجل على لسان زوجته؟!، هي بنفسها أخبرته من قبل عن عفوها عنه، و تناست هذا الأمر تمامًا، ضحك فجأة ملئ فمه أمام أعينهم المندهشة،فقد أقنع نفسه أنهم يمزحون معه، كان الموقف حقًا مُخيف خاصةً حين دلفت"بخيتة " التي كانت تتجسس على ما يُقال كعادتها، اقتربت من "فؤاد" مستندة على عكازها ، و تحدثت بغضب عارم قائلة..
"طلاق أيه اللي بتتحدت عنِه.. معندناش حريم تطلب الطلاق..ده راچلها يدفنها حية بيده في جبرها أهون ما تخرچ من داره مطلقة"..
أصبح الجميع على يقين أن ما يحدث الآن لا و لن يمر مرور الكرام بعد حديثها هذا الذي كان بمثابة سكب الزيت على النيران، جعل "جابر" كاد أن ينفجر بوجهها هي و ابنها إلا أنه لجم غضبه بشق الأنفس، و ظل ملتزم الصمت بأمر من جده..
بينما" عبد الجبار " كان في حالة من الذهول، و عدم الاستيعاب..
"سلسبيل رايده تطلق مني!!!!"..
أردف بها و هو يغمز لها في الخفاء، تفهمت هي أنه يذكرها أنهما منذ دقائق كانت تعترف له و هي بين حنايا صدره عن مدى عشقها له الذي فاق كل الحدود ،
أخبرته أنها يمثل لها الدنيا و ما عليها، و أن وجودها بجواره هو كل ما تتمناه..
ابتلعت غصة مريرة بحلقها قبل أن تطلع له بقوة زائفة..
"أيوه أنا عايزه أطلق منك يا عبد الجبار".. أردفت بها بصراخ مقهور، و هي تندفع من أمامه نحو جدها و تابعت بنبرة متوسلة..
"ياريت تسبني أمشي مع جدي وأنا هتنازل ليك عن كل حقوقي.. حتي شنطة هدومي مش عايزاها.. مش عايزة منك غير ورقة طلاقي و بس"..
أنهت جملتها، و مدت يدها أمسكت يد جدها، و تابعت بأنفاس متقطعة..
"يله بينا من هنا يا ج!!!"..
شهقت بقوة حين لف "عبد الجبار" ذراعه حول خصرها فجأة سحبها عليه بلهفة حتي أصبحت خلف ظهره، لا تعلم كيف و متى قطع المسافة بينه و بينها، وقف أمامها كالسد المنيع صائحًا بصوته الأجش..
"سلسبيل مَراتي.. مَرات عبد الچبار المنياوي، و مافيش قوة على وجه الكون ده كله تقدر تاخدها مني"..
" بنتنا هناخدها لو مش بمزاجك هيبقي غصب عنك"..
كان هذا صوت "جابر" الذي كسر كلمة جده، و خرج عن صمته، أشعل غضب "عبد الجبار" أكثر حتي وصل لزرواته، جعله يهجم عليه و يكيل له لكمات متتالية دون سابق إنذار..
كان" جابر " متوقع رد فعله هذا، و مستعد للدفاع عن نفسه باحترافية شديدة، بغمضة عين نشبت بينهما معركة دامية، لتصدح صرخات" سلسبيل" و عويل "بخيتة" و حتي "خضرا" التي أتت على الصراخ من داخل المطبخ ..
"كفايا يا عبد الجبار بالله عليك"..
نطقت بها "سلسبيل" و هي تحاول الوصول إليه، لكن يد "عفاف" التي جذبتها داخل حضنها أوقفتها..
تتبع "فؤاد" مصدر الصوت، و استطاع الوصول لهما، أمسك يد حفيده الذي تعرف عليه من رائحة عطره، و تحدث بأمر قائلاً ..
" بس يا جابر.. أبعد عنه بقولك!!!.. سيبه يا عبد الجبار بيه ميصحش كده إحنا في بيت ك"..
لم يُكمل جملته بسبب لكمة قوية لكمها له "عبد الجبار" دون قصد منه، سقط على أثارها أرضًا..
" جدددي"..
صرخت بها و هي تركض تجاهه، و جلست بجانبه على ركبتيها تتفحصه بلهفة، و أعين تفيض بالدموع..
ليزيد الأمر سوءٍ حين دوى صوت طلق ناري صم الأذان، رفعت رأسها و نظرت تجاه مصدر الصوت بأعين مذعورة، لتجد زوجها مصوب سلاحه الناري على موضع قلب "جابر"..
"بتضرب نار علينا و إحنا في بيتك.. دي مش أخلاق أهل الصعيد أبدًا"..
قالها "فؤاد" و هو يستند على حفيدته، و انتصب واقفًا بضعف..
" أنت اللي مخابرش أخلاق رچالة الصعيد زين".. صاح بها "عبد الجبار" بصوته القوي هز جدران المكان من حوله، و تابع بلهجة لا تحمل الجدال..
"أني بدافع عن سلسبيل.. مَراتي.. اللي حفيدك قال هياخدها غصب عني.. و ده لو حُصل و سلسبيل خرچت من داري الليلة هيبقي على جثة حد مِننا"..
" مش هخرج.. مش هخرج يا عبد الجبار بس نزل السلاح و سبهم هما يمشوا عشان خاطري"..
قالتها "سلسبيل" من بين شهقاتها الحادة..
حاولت السيطرة على بكاءها، و تابعت حديثها بقلة حيلة..
"خد جابر و امشي يا جدي.. أنا خلاص هفضل مع جوزي "..
" هتفضلي معاه غصب عنك!! .. هي دي الرجوله يا عبد الجبار بيه.. تجبر واحدة على العيشة معاك"..
قالها" جابر" بمشاعر مشحونه تعصف بقلبه المُعذب بحبها..
ليُصيح "عبد الجبار" فيه بلهجته الصلبة قائلاً..
"مش عبد الچبار المنياوي اللي يغصب حُرمة على العيشة وياه..أني رايد اتحدد مع مَراتي.. أفهم مِنها أيه السبب الحقيقي اللي زعلاها مني قوي أكده ، و لو لقيت عنِدها حق.. هرضيها و أحب على راسها و يدها كمان لحد ما ترضى و تصفي من چهتي"..
قال "فؤاد" بتعقل.. "ولو مرضيتش.. و فضلت مُصرة على طلاقها منك يا عبد الجبار بيه هتعمل أيه ساعتها؟! "..
نظر" عبد الجبار " لزوجته التي توقفت عن البكاء، و تنظر له نظرة متوسلة ترجوه بها أن يطلق سراحها، لكنه اشاح بعينيه عنها و نظر ل"خضرا" و تحدث بأمر..
"خدي سلسبيل على أوضتها"..
وجهه نظره ل" عفاف " مكملاً..
" طلعي شنطة الهانم و رچعي حاچتها كيف ما كانت"..
تنهد بارتياح حين رأي زوجته تصعد الدرج مرة أخرى، فتحدث بثقه قائلاً.. " متقلقش يا حاچ فؤاد.. أني خابر كيف هراضي مَراتي من غير ما حد يدخل بنَتنا"..
بعد حديثه هذا لم يجد" فؤاد" أمامه سوا أخذ حفيده بالقوة و عادوا حيث أتو ،عقب رحيلهم هرول" عبد الجبار " مسرعًا تجاه زوجته، دفع باب الغرفة و دلف للداخل، لتخرج "خضرا" التي كانت تقف بجوار الفراش الجالسه عليه" سلسبيل " تربت على ظهرها كمحاوله منها لتكف عن البكاء..
انتظرت "سلسبيل" حتى تأكدت من ذهاب "خضرا" و رفعت رأسها ببطء، ثم عينيها و نظرت لزوجها نظرة مشفقة على حالته المزرية، الدماء المتناثرة على وجهه و ثيابه، دماء مشتركه بينه و بين "جابر"..
اجهشت بالبكاء و هي تقول"بتضرب جدي.. الراجل العجوز العاجز في بيتك يا عبد الجبار!!.. أنا بعد عملتك دي بقيت مُصرة أكتر على طلاقي منك.. طلقني يا عبد الجبار أبوس رجلك.. لو مش هطلقني يبقي تدفني صاحية زي قالت أمه بخيتة و خليني أخلص من العذاب اللي مش عايز يسبني في حالي ده"..
شعر أنه أخطأ في حقها بفعلته المتهورة هذه، و لكن الأمر لا يستحق أنها تُصر على الطلاق هكذا، أسبابها ليست مقنعة على الإطلاق، تيقن أن هناك شيئًا ما يرغمها على طلب الطلاق منه..
كانت حالتها لا تحتمل أي جدال الآن، فضل عدم طرح اسأله عليها بالوقت الحالي، و قرر أن يحتويها حتى لا تتدهور حالتها أكثر..فتنهد بقوة مغمغمًا بخفوتٍ..
"خابر أن غلطي في حقك واعر "..
قالها بعدما قطع المسافة بينه و بينها، جثي على ركبتيه أرضًا أمامها،احتضن يدها الصغيرة بين كفيه ضاغطًا عليها برفق، و همس بصوتٍ جاهد على جعله طبيعيًا لكنه خرج مرتجف بعض الشيء..
"بس طلاق لا.. أحب على يدك طلاق لا يا سلسبيل"..
أغمضت عينيها ببطء لتنهمر عبراتها على وجنتيها بغزارة، تعالت شهقاتها و بصعوبة بالغة همست بغصة مريرة يملؤها الأسى..
"مش هينفع.. صدقني مش هينفع أفضل على ذمتك بعد انهاردة"..
فتحت عينيها و نظرت لعينيه نظرة أرتعد منها قلبه و تابعت بابتسامة حزينة..
" لو فضلت مراتك هموتلك نفسي يا عبد الجبار!!"..
"موتيني أنا فيكِ يا بت جلبي"..
قالها بصوته المزلزل قبل أن يخطفها ذراعه كالخطاف لداخل صدره، يضمها بلهفة، و يمطرها بقبلاته الدافئة التي تُذيب عظامها، هدأت نوبة غضبها، و بدأت تتجاوب معه قلبًا و قالبًا،هامسًا لها بأجمل كلمات الغزل..
قضوا ليلة غرام ملحمية لن تنمحي أبدًا من ذاكرتهما..
بعد وقت ليس بقليل، كانت" سلسبيل " تنعم بالدفء و نومًا هنئ فوق صدر زوجها الذي يداعب خصلات شعرها المشعثة بفيضوية مثيرة بفضل أصابعه..
صدح صوت رنين هاتفه ، فمد يده والتقطه بتكاسل..
عقد حاجبيه بتعجب حين لمح أسم "شهاب نور الدين" من أشهر المحامين..
تنحنح قبل أن يضغط زر الفتح، و تحدث بلهجته الصارمة قائلاً..
"خير يا متر.. متتصلش بيا غير في المصايب!!"..
"شهاب".. بأسف.. "المرادي مش أي نصيبة يا عبد الجبار باشا!!!.. أنا في ايدي توكيل لرفع قضية على جنابك "..
"قضية على أني؟!..قضية أيه، و مين اللي رفعها يا شهاب!!!"..
اجابه "شهاب بجمله أصابته بصدمة عمره..
" قضية خلع.. رفعها مراتك مدام سلسبيل هانم"..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاق من شروده على صوت المحامي يقول بعمليه..
"ورث الست سلسبيل هانم من المرحوم أخوك اتحول لحسابها، و ورق الطلاق المدام وقعت عليه، مش فاضل غير توقيع سيادتك بعدها نقدر نحول لها كل مستحقتها زي ما حضرتك أمرت"..
و
↚
بداخل كل أنثى جانب شرس، متوحش لا يظهر إلا إذا شعرت بالغيرة على زوجها، و صدق من قال أن الغيرة قاتلة، تستنزف الروح بلا رحمة، تُعمي القلب قبل العين، تُلغي العقل و تُجبرنا على أتخاذ قرارات مصيرية بلحظة اندافع تصل أحيانًا إلى فعل كوارث لعلها تطفئ تلك النيران المتآججة بقلبها غير عابئة بعواقبها الوخيمة..
.. بمنزل عبد الجبار..
كانت "بخيتة" تدور حول نفسها تاره، و حول "خضرا" زوجة ابنها تاره أخرى، مستندة على عكازها تلكم به الأرض كادت أن تهشمه من شدة غيظها..
"مافيش غيرك ورا شقلبة حال البنتة الصغيرة يا خضرا"..
صاحت بها "بخيتة" بغضب عارم و هي تنغزها بعكازها في كتفها بضربة قوية لم تتأثر بها "خضرا" على الإطلاق،بل أنها أثارت غضبها أكثر حين نظرت لها بملامح تُشع فرحة، و تحدث بحزن مصطنع قائلة..
"وه و أني مالي عاد.. هي اللى رفعت على ولدك قضية خلع.. يعني مريدهوش بعد كل الهنا و الدلع اللي شفته على يده رايده تخلعه بعد ما وصلت لأهل أمها.. كأنها كانت مغصوبة على العيشة وياه !!!"..
حركت "بخيتة" رأسها بالنفي، و رمقتها بنظرة سامة، و هي تقول بثقة ..
"سلسبيل عشجت عبد الچبار كيف ما هو عشجها و أنتي خابرة أكده زين، و متقدرش تعمل العملة العفشة دي إلا لو حد ابن مركوب لوي دراعها و هددها بحاچة واعرة لو مبعدتش عن چوزها اللي بتتكحل بتراب رچليه و بتخاف عليه أكتر من روحها !!!"..
كانت تستمع لها "خضرا" بملامح بدت جامدة عكس ما بداخلها من قلق تحول إلى خوف جعل الدماء تنسحب من وجهها حتى شحب لونه تمامًا حين تابعت" بخيتة " بابتسامة زائفة و نبرة شامته..
" يا ويلك من عبد الچبار يا خضرا لو طلعتي أنتي بت المركوب اللي وعت البنتة الصغيرة على قصة الخلع المقندلة ديِ... لأنك متوكدة أنه يستحيل كان هيطلق سلسبيل مهما حُصل"..
استطاعت "خضرا" السيطرة على خوفها، و ضحكت ضحكة ساخرة و هي تقول..
"مبقاش في حاچة مستحيل يا حماتي و أهي سلسبيل أطلقت من عبد الچبار "..
صمتت لبرهةً و تابعت محدثة نفسها..
" هي خابرة زين لو فضلت على ذمته أكتر من أكده.. كانت هتبجي أرملته"..
.. فلاش باااااااااااك..
كانت" خضرا" تحيا أبشع أيام حياتها بعد خروجها من المستشفى،بالتزامن مع نفسيتها السيئة، ترى زوجها يعيش قصة حب ملتهبة مع زوجته الثانية أمام عينيها المتحسرة على حالها و ما وصلت إليه ، كانت ستنهي حياتها من شدة حبها و غيرتها عليه لعله يتأثر بفعلتها هذه و يرأف بقلبها و يحقق لها امنياتها بابتعاده عن "سلسبيل"..
لكنه و للمرة الأولى خذلها حين تمسك بزواجه من غريمتها، رغم أنه لم يقصر بحقها، و يسعي جاهدًا لينال رضاها، إلا أنه كلما اختلي بالأخري يجن جنونها، كل لحظة يقضيها برفقة "سلسبيل" تكون بمثابة طعنات متفرقة تمزق قلبها حتى قتل كل الصفات الحسنة التي كانت تتمتع بها، تحولت شخصيتها تحويل جذري و عقدت عزمها على إسترجاع زوجها لها مهما كلف منها الأمر..
انتظرت حتى ذهب زوجها لعمله، و هرولت تجاه المطبخ صنعت أشهى الحلويات و وزعت منها على الجميع حتى العاملين بالمنزل، فور انتهاءهم من تناولها غرقوا بنومٍ عميق، لم يظل أحد مستيقظ سواها هي و سلسبيل فقط..
"أيه اللي بيحصل ده يا أبلة خضرا؟!!"..
قالتها "سلسبيل" و هي تتنقل بعينيها بين حماتها "بخيتة"، و "عفاف" و حتي ابنتي زوجها، جميعهم ناموا فجأة و هم جالسين بمقاعدهم..
"أني حطيت لهم منوم"..
هكذا اجابتها "خضرا" بهدوء دب الرعب بأوصال "سلسبيل" التي تطلعت لها بأعين متسعة على أخرها، و تحدثت بصوتٍ مرتجف يظهر مدى خوفها قائلة..
"ليه عملتي كده بس"..
ابتلعت لعابها بصعوبة و تابعت متعجبة..
"و ليه أنا منمتش زيهم!!..
" لأني رايده أتحدتت وياكِ بكلمتين و معوزاش مخلوق يسمعنا ".. أردفت بها و هي تقترب منها، و جلست بجوراها،
كان الذعر واضح على مرآي تعابير وجهه"سلسبيل"
من ملامح" خضرا " التي أصبحت متوحشة بعدما كانت تتميز بطيبتها و حنانها، هيئتها الآن توحي بأنها على وشك ارتكاب جريمة قتل..
" مقدراش.. و رب العباد مقدارش أتحمل شوفتك مع راچلي أكتر من أكده"..
أطلقت صرخة مقهورة انتفضت على آثارها "سلسبيل" وبدأت تبكي بنحيب حين تابعت "خضرا" بصوتٍ مخيف..
"نار.. نار واعرة بتحرق جلبي حرق معتش قادرة اتحملها خلتني قطعت شرايين يدي اللى چوزتك بيها لچوزي لاچل ما اخلص من الوچع اللي بينهش في روحي كل ما تبجي في حضنه"..
لم تجد "سلسبيل" شيئًا تقوله لها، و قد زاد و تضاعف بداخلها شعور الذنب تجاهها الذي يُلزمها، ظلت تستمع لها و تبكي بصمت..
" ببجي نفسي اقطعك باسناني تقطيع بس خابرة زين إني لو عملت فيكي أكده عبد الچبار مهيهملنش على ذمته دقيقة واحدة و أني عندي الموت أهون من بعادي عنِه"..
" يبقي هبعد أنا يا أبلة خضرا.. هطلب الطلاق و هبعد أنا لو ده هيريحك".. همست بها "سلسبيل" بتقطع من بين شهقاتها الحادة..
" اممم..إن چيتي للحق طلاقك هيريحني صُح.. بس
هو عبد الچبار هيسيبك تبعدي و لا هيطلقك بسهولة أكده إياك!! ".. دمدمت بها" خضرا " و رمقتها بنظرة تحمل حقد و كرهه عرفوا طريقهم لقلبها الملتاع، و تابعت بنبرة ساخرة..
"و لا أنتي يا كهينة هتقدري على بعاده؟! "..
اجهشت" سلسبيل " بالبكاء، و حركت رأسها بالنفي تخبرها أنها بالفعل أصبحت غير قادرة علي الإبتعاد عن زوجها مرددة بنبرة راجية..
" متزعليش مني يا أبلة خضرا أنا ما صدقت لقيت راجل بجد اتحامي فيه و يبقي ضهر وسند ليا في الدنيا القاسية دي.. أنا والله العظيم مش قصدي أضايقك و لا أخد جوزك منك.. بس جوزك ده بقي جوزي أنا كمان و برضاكي و أنتي اللي جوزتيني ليه بنفسك.. و أنا اه وعدتك أني مش هكون ليه زوجه بس مكنتش أتخيل أنه هيخليني أحبه بالشكل ده لدرجة أني هموت لو بعدت عنه"..
ساد الصمت طويلاً حتى قطعته" خضرا " التي ربتت على كتف" سلسبيل " بعنف، أبتسمت لها إبتسامة يملؤها الشرر، و تحدثت بجملة كاد قلب"سلسبيل " أن يتوقف بسببها..
"لع..مش أنتي اللي هتموتي لو مبعدتيش عنِه"..
تلاحقت أنفاس" سلسبيل " و هي تسألها عن مقصدها مستفسرة..
"قصدك أيه بكلامك ده؟!"..
"خضرا " بذهول مصطنع.. "وه.. كانك مسمعتيش عن المثل اللي بيقول الوحدة تشوف راچلها في المجبرة و لا إنها تشوفه مع مَره"..
توحشت نظرتها القاسية أكتر و تابعت بوعيد..
" لو فضلتي على ذمة عبد الچبار هنبجي أرامل أني و أنتي يا سلسبيل"..
" أنتي بتقولي أيه، و بتهدديني بأيه!!.. انتى عايزة تقتلي جوزك أبو بناتك؟! ".. قالتها" سلسبيل " بصدمة بصوتٍ أشبه بالصراخ..
أجابتها" خضرا" بلهجة حادة شديدة الجدية لا تحمل أي جدال قائلة..
"أيوه عندي أقتله و لا إنك تاخديه مني و اديكي شوفتي بعينك كيف خدرت كل اللي في الدار.. المرة الچاية مش هيبجي منوم.. لع.. هيبجي سم هاري بطيء المفعول.. يموته قصاد عنيكي بالبطئ"..
زاد ذعر" سلسبيل " جعل ارتجاف جسدها يتحول إلى تشنجات حين تخيلت مجرد تخيل أنها فقدت زوجها، خوفها عليه جعلها تقول بلا تردد..
" طيب خلاص أنا هبعد.. والله هبعد عنه يا أبلة خضرا.. بس قوليلي هبعد إزاي و أنتي لسه قايله أنه مش هيطلقني بسهولة؟! "..
" تخلعيه "..
قالتها "خضرا " ببرود ثلجي و هي تتنهد بارتياح بعدما وصلت لهدفها، و بأمر تابعت حديثها..
"توكلي چدك يرفع لك قضية خلع في أقرب وقت.. وقتها عبد الچبار هو اللي هيطلقك بالتلاتة.. "..
.. نهاية الفلاش بااااااااك..
.................................. صل على الحبيب.............
"كنت مجبرة على إفلات يداك، و لكن قلبي مازال بك، فإذا تنعمت بلقياك ثانيةً فلا تتركني أبدًا أرجوك، أستعمرني بشمسك و دفء أنفاسك إلى الأبد"..
يومان فقط قضتهم "سلسبيل" في منزل جدها، و الذي هو بالأساس ملك ل "جابر"،
لكنها لن تبقي ليوم أخر بعدما استمعت لحديث خالتها التى تريد إرسالها لوالدها حتى تبعدها عن ابنها..
دون ذرة تفكير منها قررت الفرار هاربة خوفًا من مجيء والدها أو عودة" جابر " بأي لحظة الذي بتأكيد لن يتركها تذهب، اندفعت فجأة دون سابق إنظار راكضة من غرفتها و من ثم لخارج الشقة بأكملها بأسدالها البيتي، أمام أعين خالتها و جدها اللذان لجمتهما الصدمة للحظات و حين استوعبت "سعاد" ما حدث هرولت خلفها صارخة بأسمها ..
"سلسبيل.. بتجري رايحة فين كده يا بنتى!!! "..
"أجرى وراها الحقيها يا سعاد.. البت أكيد سمعتك وأنتي بتقولي هتكلمي أبوها عشان يجي ياخدها "..
قالها "فؤاد" بغضب عارم، وهو يضرب كفيه ببعضها، تحرك تجاه شرفة المنزل، و نادي بصوتٍ عالِ للغاية لتتمكن من سماعه..
"يا سلسبيل.. أرجعي يا بنتي متخفيش.."..
صوته وصل لسمع" سلسبيل " لكنها لم تعد، كملت ركضها بلا توقف، تركض بالطرقات بلا هواده لم تستطيع" سعاد" اللحاق بها، كانت كالطائر الحبيس و طلقوا سراحه أخيرًا، تشعر بالحرية لأول مرة بعمرها،
ظلت تركض إلى أن شعرت بأنفاسها تتلاشى كأن روحها تنسحب منها، توقفت بجوار شجرة كبيرة تستظل بأوراقها من إشاعة الشمس الحارقة..
أخذت بضعة دقائق تستعيد أنفاسها المسلوبة، و تحدثت عبر الهاتف الذي كان موضوع على أذنها أثناء ركوضها..
"هربت.. هربت يا دادة عفاف..قوليلي أجيلك إزاي"..
"عفاف" بلهفة.. "خدي نفسك الأول يا حبيبتي.. و بعدين شاوري ل تاكسي وقفيه قوليله وصلني إسكندرية و أنا هفضل معاكي على التليفون لحد ما أقابلك بعربيتي على الطريق"..
انصاعت لها "سلسبيل" على الفور،. قامت بالإشارة لأول سيارة أجرة ظهرت أمامها ..
" ممكن توديني إسكندرية من فضلك"..
" هاخد 500 جنيه و مقدم يا ست"..
أردف بها السائق قبل أن تصعد" سلسبيل " السيارة، هنا تذكرت أنها تركت كل شيء حتى حقيبة ملابسها و نقودها، لم تأخذ معاها إلا الهاتف، فشهقت بخفوت قائلة..
"أنا مجبتش معايا أي فلوس يا دادة!!"..
"عفاف".."اركبي يا سلسبيل و قوليله هحاسبك لما أوصل"..
انطلق السائق بسيارته من أمامها في الحال وهو يسب و يلعن بعدما استمع لجملتها هذه ، بدأ الخوف يداهمها من جديد و عادت تختبئ بظلال تلك الشجرة الكبيره، تجمعت العبرات بعينيها و بصوت ظهر به الخوف قالت..
"السوق مشي قبل ما أركب لما سمعني بقولك مش معايا فل؛؛؛ آآآآه "..
قطعت حديثها فجأة ، و صرخت صرخة مدوية حين مرت من جانبها دراجة بخارية و بلمح البصر خطف سائقها الهاتف من يدها بمنتهي القوة أفقدها توازنها فسقطت على وجهها مصطدمة بجبهتها بالأرض الصلبة بعنف ..
كل هذا حدث في غمضة عين و لسوء حظها المعتاد كان الطريق خالي من المارة بسبب أجواء الجو شديد الحرارة..
تحاملت على نفسها، و اعتدلت جالسة بوهن تتحسس جبهتها بأصابع مرتعشة، شعرت بسائل لازج يهبط على حاجبيها نزولاً بعينيها فعلمت أنها أصابت بجرح ليس بهين، كلما حاولت النهوض تشعر بدوار شديد بجتاحها بقوة،
زحفت بضعف متراجعة للخلف حتى وصلت لجذع الشجرة ارتمت عليه بظهرها مستسلمة لمصيرها مهما كان فهي على يقين أنّ الله لن يتركها..
بينما عفاف كادت أن تفقد عقلها، و سقط قلبها أرضًا حين سمعت صرخة "سلسبيل"..
"سلسبيل.. مالك يا بنتي.. ردي عليا ايه اللي حصل لك يا ضنايا "...
صرخت بها "عفاف"، لم يأتيها منها رد رغم أن الخط مازال مفتوح، ظلت تصرخ بأسمها لعلها تجد رد حتي انغلق الخط،حاولت إعادة الإتصال بها مرارًا و تكرارًا و لكن الهاتف تم غلقه..
لم تفكر مرتين و طلبت رقم الشخص الوحيد الذي بأمكانه هدم الدنيا لأجل" سلسبيل "..
............................ سبحان الله وبحمده......
"عبد الجبار"..
يجلس داخل سيارته بالمقعد الخلفي، ممسك بيده ورقة طلاق "سلسبيل" الواقفه على توقيعه، يتمنى لو يكن ما يعيشه الآن كابوس، و سيفوق منه يجدها نائمه على صدره، تختبئ بين ضلوعه، تبتسم له ابتسامتها التي تُنير حياته..
تنقل بعينيه على مكان توقيعها، حينها تأكد أن ما يعيشه الآن لم يكن كابوس، بل حقيقة.. أسوء حقيقة حدثت له،
فضل عدم أمضاء توقيعه إلا بعدما يذهب إليها خصيصًا من الإسكندرية إلى منزل جدها بالمنصورة ليسألها للمرة الأخيرة عن سبب مقنع لما فعلته، يحاول إيجاد مبرر واحد يدفعها للأبتعاد عنه بهذه الطريقة المهينة لرجولته..
صدح صوت رنين هاتفه جعل قلبه ينقبض دون معرفة السبب حين لمح أسم "عفاف"، ضغط رز الفتح و أجابها بلهفة ظهرت بنبرة صوته الأجش..
"خير يا عفاف!!"..
أتاه صوتها الباكي كاد أن يصيبه بسكته قلبيه من شدة فزعه على مُعذبته حين سمعها تقول بتقطع..
"ألحق سلسبيل يا عبد الجبار بيه....."...
↚
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
لعلّ في الخفايا أعذارًا لا تدري شيئًا عنها، گ لهفتي عليك، و إشتياقي لك، فأجعل لي دومًا نصيبًا من حُسن ظنك إن صادف يومًا لم تجد فيه عُذرًا يبرر لك أفعالي التي جرحت فؤادك، و تأكد أن روحي كانت ترتجف خوفًا من فقدانك يا عزيز قلبي فتركتك مجبرة غير مخيرة حتى لا أرى فيك سوءً يقتلني..
و بعد فراقنا أصبحت بين ليلة وضحاها إمرأة عجوز أهلكها الضعف ، دون أن تذبل بصيرتي، و لا شاب شعري لكنه قلبي تعلوُه التجاعيد بغيابك..
أصبحت في أشد لحظات ألمي و حزني لا أصرخ ، أفكر في أمرٍ واحد فقط ، هو كيف سأقضي ما تبقى من عمري و أنا سبب كل هذا الخراب في قلبك!
أعترف لك أنني آسفة على أعوام مضت ما كنت أعرفك فيها..
.................... صلِ على الحبيب....
كانت "سلسبيل" ممسكة بطرف حجابها تضغط به على جرح جبهتها الذي تدفق منه الدماء بسبب خوفها الشديد، كلما حاولت النهوض تسقط جالسة مكانها ثانيةً، قدميها ترتعش بقوة، و جسدها الضعيف يتهاوي يمينًا و يسارًا، لكنها تقاوم بأقصى ما لديها حتى لا تفقد وعيها،
جف حلقها تمامًا، و انسحبت روحها منها حين لمحت سيارة توقفت قريبًا منها بها مجموعة من الشباب وقعت عينيهم عليها أثناء سيرهم،
دب الرعب بأوصالها و إذداد إرتجاف جسدها أكثر حين رأتهم يهبطوا من سيارتهم، و يهرولوا نحوها..
أصبحت لا تعطي الأمان لأحد بعدما سُرق منها هاتفها، و قد ظنت أن هذه المرة سيسرقوها هي، فتراجعت للخلف زاحفة على كلتا يديها مرددة بصراخ مذعور..
"ابعدوا عني.. عايزين مني أيه.. سبوني في حالي حرام عليكم"..
"أهدي.. متخفيش.. إحنا هنساعدك محدش هيأذيكي".. نطق بها أحدهم و هو يمد يده لها بزجاجة من المياة، و جثي على ركبته أمامها أرضًا مكملاً برجاء..
"خدي نفسك بس و بلاش خوفك الزايد ده عشان جرحك مينزفش أكتر.. و لو تحبي نوديكي المستشفى!! "..
قطعت "سلسبيل" حديثه صائحة بصوتٍ متحشرج بالبكاء تقول بصعوبة..
" لا مش هروح معاكوا أي مكان.. سبوني في حالي و أمشوا في طريقكم.. أنا هفضل هنا"..
نظروا لبعضهم بأسف، و عادوا النظر لها بشفقة، مقدرين حالة الذعر التي تُسيطر عليها، و معاها كل الحق، بعد ما رأته في حياتها من ألم و قسوة من أقرب الأقربون لها، فماذا سيفعل بها الغريب؟!،
" طيب لو حافظة رقم تليفون حد من قرايبك قولي لنا عليه و إحنا نتصل بيه يجي لك هنا"..
قالها شاب منهم و هو يخرج هاتفه من جيب سرواله،
ظهر بريق أمل على وجهها، و أعتصرت عقلها المشوش لعلها تتذكر رقم "عفاف" لكنها لم تتذكر سوي رقم الرجل الذي لا تريد التحدث إليه حتى لا تفتح مجال للعودة بينهما ثانيةً ..
" عبد الجبار " رقمه الوحيد المحفور في ذاكرتها، بل هو نفسه موشوم بأعمق نقطة بقلبها..
أبتسمت إبتسامة يملؤها الوجع تزامنًا مع انهمار عبراتها على وجنتيها بغزارة دون بكاء، و مدت يدها الصغيرة التي تنتفض بوضوح تجاه الهاتف، فأعطاه الشاب لها على الفور بعدما قام بفتحه..
نظرت له بامتنان قبل أن تلتقطه منه، و أجهشت ببكاء مرير و هي تضغط على الأرقام مدونة رقم من كان و ما زال دومًا منقذها،
بكاءها و شهقاتها الحادة كانت تقطع نياط القلوب، جاهدت للسيطرة عليها بشق الأنفس حتى أنها كادت أن تموت خنقًا حتى لا يوصل له،
لا تريده أن يستمع لإنهيارها هذا بالوقت الحالي، أخذت نفس عميق قبل أن ترفع الهاتف على أذنها بعدما ضغطت على زر الإتصال، تنتظر بنفاذ صبر سماع صوته الذي اشتاقته حد الجنون..
......................... سبحان الله وبحمده.......
"عبد الجبار"..
عقب سماعه لصوت "عفاف" تصرخ بأسم "سلسبيل" قفز من مقعدة، و جلس مكان سائقه خلف المقود بطرفة عين، و قاد بأقصى ما لديه من سرعة قبل حتى أن يستمع لباقي حديثها..
"سلسبيل يا عبد الجبار بيه كانت بتكلمني في التليفون و هي ماشية في الطريق و فجأة صرخت و الخط فضل مفتوح لكن هي مبتردش .. فضلت أنا على التليفون عماله أصرخ عليها لحد ما الخط أتقفل.. حاولت اكلمها تاني بس التليفون أتقفل خالص بقاله أكتر من ساعة.. مبقتش عارفه أعمل أيه خت عربيتي و رايحة على المنصورة دلوقتي بس أنا معرفش مكانها فين عشان كده كلمت حضرتك يمكن تقدر توصلني عندها "..
كان يستمع لحديثها الذي أنتزع قلبه من مكانه نزعًا، لكم المقود بقبضة يده أكثر من مرة بكل ما أُتي من قوة، و صاح بصوته الأجش قائلاً..
" كيييف.. كيف چدها هملها تخرچ.. كييييف"..
" هي خرجت هربانة من جدها و كانت جيالي يا عبد الجبار بيه لأنها سمعتهم بيتكلموا أنهم عايزين يرجعوها لأبوها.. فخافت و كلمتني قالتلي ههرب و أجي أعيش معاكي يا دادة عفاف".. قالتها "عفاف" ببكاء من شدة تأثرها بما يحدث مع" سلسبيل "، ما قالته كان بمثابة سكب الزيت على النيران المتآججة بقلب ذلك العاشق،
ربااااه!!!!
كاد أن يُصاب قلبه بنوبة توقفه عن الخفقان و هو يتخيل مدى ذعرها من والدها عديم الرحمة الذي رأه هو بعينيه مرات متعددة..
"اقفلي.. هوصلها و هحددك أقولك على مكانها يا عفاف ".. قالها "عبد الجبار" بصوتٍ مخيف، و ثقة شديدة لا يعلم مصدرها، لكنه على يقين أن قلبه سيقوده إلى طريقها..
ليصدح صوت رنين هاتفه المخصص لها هي فقط، لا أحد يعلم هذا الرقم غيرها..
"سلسبيل!!!!".. نطق بها بقلب ملتاع، و أنفاس متهدجة كادت أن تنقطع من شدة رعبه عليها..
جاهدت هي حتى تحرك شفتيها و تتحدث إليه، لكن حدة بكاءها لم يسعفها، و أيضًا إذا نطقت إسمه سيشعر بلهفتها عليه، فرفعت عينيها الغارقة بالعبرات و مدت يدها لصاحب الهاتف الذي أخذه منها و تحدث هو بدلاً عنها قائلاً ..
"السلام عليكم.. حضرتك في بنت هنا تقريبًا عاملة حادثة و!!!"..
"مَراتي.. سلسبيل.. حُصلها ايييه".. صرخ بها "عبد الجبار" بهياج، و قد فقد عقله في تلك اللحظة حقًا..
"متخفش حضرتك.. أطمن هي كويسه الحمد لله.. و إحنا حاولنا نساعدها و نوديها المستشفى بس هي رافضة خالص.. فعرضنا عليها تتصل بحد من أهلها فتصلت بيك"..
أخيرًا ألتقط" عبد الجبار " أنفاسه المسلوبة حين أخبره من يحدثه أنها بخير، و برغم كل ما يحدث هذا إلا أن قلبه تراقص فرحًا بعدما تأكد أن" سلسبيل " مازالت تراه هو كل أهلها..
" قولي المكان فين بالظبط و إني هكون عندكم في دقايق"..
بالفعل أملاه الشاب العنوان بالتفصيل تحت أنظار"سلسبيل " التي تهللت أساريرها دون أدنى إرادة منها..
.......................... سبحان الله العظيم......
"جابر"..
كان بطريق العودة لمنزله بعدما أبتاع أغلى و أجمل اللوحات و الألوان المخصصة لمجال الرسم، هواية "سلسبيل " المفضلة،
رغم أنه على علم أن قلبها ملك غيره، و لن يستطيع أن يجبرها على تقبل عشقة لها، لكن كل ما يهمه الآن أن يسعدها، و يرى الإبتسامة على ملامحها الحزينة..
و قد عقد عزمه على البقاء بجوارها، لن يمل و لن يكل عن محاولة التقرب منها، سيضحي بالغالي و النفيس لأجلها..
فهي معه بعد كل تلك السنوات من الفراق، جمعهما القدر ثانيةً و هو لن يُضيع الفرصة هذه المرة..
انتبه لصوت رنين هاتفه، فأسرع بالرد و قد زحف القلق إلى قلبه دون معرفة السبب..
"أيوه يا جدي أنا جاي في الطريق.. في حاجة حصلت و لا أيه؟!"..
أتاه صوت "فؤاد" الباكي يتحدث بصعوبة و تعب ظاهر بوضوح بنبرة صوته..
"سلسبيل.. سلسبيل هربت يا جابر يا ابني"..
صرخ "جابر" بصدمة قائلاً..
"هربت!!!!! إزاي و لييييييه.. مين اللي خوفها خلاها تهرب يا جدي؟!! "..
قال " فؤاد" بغضب.. " مش وقت اسأله دلوقتي.. و ألحق بنت خالتك دي متعرفش حد في البلد هنا ولا معاها فلوس خالص "..
"طيب مشيت منين و لا راحت فين و معاها تليفون و!!".. كان يصيح بها "جابر" لكنه ابتلع باقي حديثه، و جحظت عينيه على أخرها حين لمح سيارة" عبد الجبار " التي مرت من أمامه بسرعة الرياح، و كأنه يعلم و جهته و مقصده، لم يفكر مرتين و إنطلق خلفه بنفس مستوى السرعة حتى أصبحوا بجانب بعضهما على الطريق..
بعد مرور دقائق قليلة لا تتخطى أصابع اليد الواحدة توقف "جابر" بسيارته أمام "سلسبيل" الجالسة أرضًا تُصارع دوارها، و في نفس اللحظة توقف "عبد الجبار" أيضًا بسيارته بعدما دفع سيارة "جابر" للخلف حطم وجهتها تمامًا حتى أصبح هو الواقف أمام زوجته مباشرةً يتطلع له من خلف المقود بأعين تقدح شررٍ..
قفزوا أثناتهما خارج سيارتهما بنفس اللحظة، يهرولان نحو "سلسبيل" التي زاد فزعها و شحوب وجهها من هيئتهم التي لا تُبشر بالخير أبدًا..
"بعد يدك عنِها!!".. كان هذا صوت "عبد الجبار" الذي قبض على ذراع "جابر" قبل أن يلمس "سلسبيل" و دفعه بلكمة قوية بعيدًا عنها بعنف، ليأخذ "جابر" وضع الإستعداد لرد الكمة له التي لن تتوقف إلى هذا الحد، بل سينتهي بهما الأمر إلى معركة دامية..
أدركت "سلسبيل" خطورة الوضع، أصبحت أمام خيارين أصعب من بعضهما، مع من سوف تذهب؟!..
هي واثقه أن "عبد الجبار " لن يتركها تذهب برفقة "جابر" هذه المرة إلا في حالة واحدة فقط، ألا و هو جثة هامدة..
تحاملت على نفسها و قررت إنهاء تلك المعركة قبل حتى أن تبدأ، انتصبت واقفة بجسد يترنجح بشدة بسبب ضعف بنيتها، أخذت نفس عميق، و سارت بخطوات متعثرة كادت أن تسقط أرضًا على وجهها، لكنها ألقت بثقل جسدها على ظهر "عبد الجبار" ملتفة بكلتا يديها حول خصره تقيد حركته و تمنعه من السير نحو غريمه الذي شلته الصدمة ، و بقي واقفًا مكانه يحملق بها بنظرات يملؤها الألم ..
بينما تسمر "عبد الجبار" من فعلتها هذه التي أثلجت قلبه المُتيم بها عشقًا..
↚
.. بسم الله الرحمن الرحيم.. لا حول ولا قوة إلا بالله..
أنهمرت عبرات "سلسبيل" على وجنتيها بغزارة حين رأت نظرة "جابر" المتألمة، دفنت وجهها بظهر "عبد الجبار" هروبًا من نظرته التي تشعرها بذنب لا دخل لها به، ف قلوبنا ليست عليها سلطان، لو كانت تستطيع التحكم فى زمام الأمور بعقلها بدلاً من ذلك النابض بعشق رجل تُشاركها فيه امرأة غيرها، لكانت إختارت إعطاء فرصة لبدأ حياة جديدة مع "جابر"..
لكن القدر لعب لعبته معها كعادته، و استمعت بأذنها رفض والدته على وجودها بحياته من الأساس ، و هي لن تخوض أي صراعات أخرى، يكفيها ما عشته من قسوة و عذاب لم ينتهي بعد..
تراخي جسدها الضعيف على جسد "عبد الجبار" و سقطت يديها من حول خصره، و أوشكت على السقوط بعدما أصبحت قدميها لم تعد تحملها،
ألتفت "عبد الجبار" لها على الفور، و ألتقطها بلهفة محاوطًا خصرها بذراعه القوي، و مال عليها قليلاً واضعًا ذراعه الأخر أسفل ركبتيها..
رفعها بمنتهي الخفة بين يديه فأراحت هي رأسها على كتفه غالقة عينيها براحة لم تنعم بها إلا بين حنايا صدره،
سار بها بخطوات مهرولة تجاه سيارته و أجلسها على المقعد الخلفي بتمهلٍ، و صعد بجوارها و هو يقول بأمر لسائقه الذي كان يجلس بالمقعد الأمامي..
"هم يا حسان على المستشفى قوام"..
كل هذا أمام "جابر" الذي لم يبتعد بعينيه عن "سلسبيل"، إنتبه على حالته و هرول مسرعًا نحو سيارته يستعد للسير خلفهم، لن يتركها إلا بعدما يطمئن عليها حتى لو كلفه الأمر حياته..
بينما إنتقل "حسان" من مقعده لمقعد السائق، انفجر صوت هدير محرك السيارة ليطير الغبار من الخلف بقوة لحظة إنطلاقها..
أغلق "عبد الجبار" زجاج النوافذ العاتم الذي لا يُتيح لمن بالخارج رؤية من بالداخل، و مد يده للفتحة التي بينهم و بين السائق أغلقها أيضًا..
و اعتدل بجزعه تجاه "سلسبيل" يتطلع بعينيها الباكية بإشتياق و عشق فاق كل الحدود، كتم أنفاسه و هو يقترب منها و يفك حجابها بكل ما يملك من رفق، شعر بقبضة حديديه تعتصر قلبه حين رأي مدى تطور حالتها للأعياء الشديد..
وجهها يزداد شحوبًا، و قد تناثرت حبيبات العرق على جبهتها، تلاحقت أنفاسها و هي تهمس بصعوبة بصوتٍ مجهد..
"عطشانة أوي يا عبد الجبار"..
مد يده لبراد صغير يحتوي على زجاجات مياه و عصائر باردة و تناول زجاجة من المياه، و أخرى من العصير و فتح أحدهما و بدأ يسقيها بتلهف مغمغمًا..
"أيه اللي حُصل يا سلسبيل.. مين عمل فيكِ أكده!!!"..
"وقعت.. وقعت على وشي"..
همست بها" سلسبيل " بأنفاس متهدجة،
أسقاها هو حتى أرتوت من المياه، و أسرع بأعطاءها العصير رغم أعتراضها، لكنه لم يتركها إلا بعدما أنهته و بدأت تستعيد قواها رويدًا رويدًا..
تناول زجاجة مياه ثانية و سكب القليل منها بكف يده، و سار بها على وجهها يزيل عنه آثار الدماء و يتفقد جرح جبهتها بملامح مرتعدة من شدة خوفه عليها..
كان يتحسس وجنتيها الباردة بأنامله الخشنة يستشعر ملمس بشرتها الناعمة بافتنان، لجم نفسه عنها بشق الأنفس حتى لا يلتهمها كلها دفعة واحدة لعل تلك النيران التي تتآجج بأعماقه تهدأ و لو قليلاً..
يرسم ملامحها بأبهامه، عيونها الحزينة التي تتحشي النظر له، نزولاً بوجنتيها التي أشتعلت بحمرة قانية بفضل قربه منها ، وصولاً بشفتيها المرتعشة أثر لمساته الخبيرة التي تداعب أنوثتها..
رفعت يدها ببطء و ضعف شديد، و أطبقت على معصمه بأصابعها الهشة، أزاحت يده عن وجهها ، و اعتدلت بجلستها بوهن مبتعده عنه حين رأته يميل عليها قاصدًا شفتيها و قد غلبه شوقه لها فقده كل ذرة تعقل يملكها..
"دادة عفاف.. اتصلي بيها.. زمانها قلقانة عليا أوي "..
قالتها "سلسبيل" بصوتٍ مبحوح أثر المشاعر المتضاربة التي تعيشها معه..
اجتهد "عبد الجبار" للسيطرة على نفسه معاها قد إستطاعته، لكنه فشل و بكل أسف فشل ذريع، لم يقدر على منع نفسه عنها خاصةً بعدما كاد أن يفقدها إلى الأبد..
لم يفكر مرتين و مد ذراعه طوه خصرها، و خطفها داخل حضنه، أجلسها على قدميه، و ضمها لصدره بعناق قوي، كتمت "سلسبيل" آهه خافته على أثره..
"أبعد يا عبد الجبار أنا مُحرمة عليك.. أنت رميت عليا يمين طلاق".. همست بها "سلسبيل" بصوتٍ اختنق بالبكاء و هي تكافح بضرواة للتخلص من حصار جسده حولها..
خرج صوته هو بحنينٍ مفعمًا بالشوق الجارف الدائم إليها وحدها..
"رديتك.. رديتك على ذمتي يا بنت جلبي"..
ابتعد عنها بضعة أنشات ليتمكن من النظر لعينيها،
أشرق وجهه في هذه اللحظة بإبتسامة محمّلة بمشاعره القوية التي يكنَّها لها، خاصةً حين لمح طرف ياقتة جلبابه التي ترتديها "سلسبيل" أسفل أسدالها و أستطرد ..
"لحظة غضب يا سلسبيل و لما فوقت منِها قولت إنك أكيد مهتعمليش فيا أكده إلا لو حد هددتك بحاچة واعرة قوي قوي لأچل ما يفرقونا.. مش أكده يا حبة جلب عبد الچبار.. أني متوكد إني مهونش عليكِ تشقي جلبي شق "..
أنهى جملته و نظر داخل عينيها بعمق بنظراته المُتيمة التي تخطف أنفاسها و تتغلغل بأعماقها تلمس شيئًا شديد الحساسية بداخلها..
إزدردت لعابها بتوتر و هي تمتثل رغمًا عنها للسحر الذي يبثه لها بنظراته، و كاد أن يطبق على ثغرها بشفتيه بقبلة جامحة، لكن صوت هاتفه الذي صدح تزامنًا مع صوت "حسان" يقول ..
"وصلنا المستشفى يا عبد الچبار بيه"..
كل ما يحدث لم يمنعه من مراده، تقبيلها هذا كل ما يريده في الوقت الحالي، فليقبلها الآن و يلقى حتفه بعدها..
شهقت "سلسبيل" بخفوت حين مال عليها و لثم ثغرها بلهفة قبلات عميقة متتالية شلت حركتها تمامًا و أبقتها ساكنة، مستسلمة لفيض غرامه الذي يغرقها دومًا به، و لكن أستسلامها له هذه المرة كان بمثابة الوادع بالنسبة لها..
بينما "جابر".. الذي صف سيارته أمام المستشفى الذي تقفت أمامها سيارة غريمة، رفع يده و مسح عبراته التي خانته لأول مرة، و هبطت على خديه دون بكاء، يرى أمام عينيه المرأة التي يذوب في حبها و قلبه معلق بها منذ نعومة أظافره تهيم عشقًا برجل غيره عشقًا، و ما أصعب الوقوع في الحب من طرف واحد،
شعور لا يتحمله أحد خاصةً إذا كان يمتلك بقلبه عشقًا صادق..
رغم علمه أنه يركض وراء سراب، يوهم نفسه أن القدر سوف يرأف بقلبه الملتاع و تعود له صغيرته "سلسبيل"، يحيا على أمل الفوز بحبها ذات يومًا..
↚
في كثير من الأحيان نتعرض لصدمات تقلب حياتنا رأسًا على عقب، خاصةً إن كانت صدمة قوية، حينها يصبح رد الفعل غير متوقع على الإطلاق، نكتشف جانب في شخصياتنا لم نكن نعلم أنه موجود بداخلنا مطلقًا..
و إذا أتت تلك الصدمة من مَن نعتبرهم أقرب لنا من أنفسنا، و قتها يصبح العقل غير قادر على الإستيعاب، أو ربما تمر تلك الصدمة مرور الكرام بعد أن تعطنا درسًا قاسيًا،
ف لكل منا قدرة على التحمل، تختلف قدراتنا بين كل شخص و آخر، و في حالة "خضرا" لم تستطيع تحمل وجود "سلسبيل" كزوجة في حياة زوجها، رغم أن الكثير من النساء يتقبلون وجود زوجة و اثنان و ثلاثة أيضًا بحياة أزواجهم، و يتعايشون مع الأمر بكل رضي..
بينما هي الآن في حالة نفسية أسوء ما يكون، خاصةً بعد محاولة الإنتحار التي أقدمت عليها توضح مدى تطور حالتها من سئ لأسواء، و كان يجب أن تخضع للعلاج النفسي فترة ليست بقليلة حتى تستعيد توازنها و أدراكها العقلي..
تتصرف بلا أدنى تفكير في أفعالها و ما ينتج عنها من عواقب واخيمة، وصل بها الأمر إلى مراقبة زوجها عن طريق "حسان" الرجل الذي يعتبره "عبد الجبار" ذراعه اليمين الذي أدهشها بموافقته السريعة على طلبها،حتى وصل بهما الأمر إلى تبادل أرقام هواتفهما سرًا، و بدأ بالفعل ينقل لها كل تحركات زوجها..
"اممم يعني قال إنه ردها لعصمته؟!"..
دمدمت بها "خضرا" بصوتٍ خفيض، و تابعت دون أن تعطيه فرصة للرد عليها..
" و هي قالت له أيه لما قالها أكده؟"..
جاوبها "حسان" الجالس داخل سيارة "عبد الجبار" الواقفه أمام إحدي المستشفيات الخاصة بالمنصورة..
"مرضياش ترچعله واصل.. سمعت صوت رفضها و بكاها يا ست الناس"..
انبلجت شبه إبتسامة علي ملامح "خضرا" التي تبدلت للنقيض بعدما كانت تُشع طيبة، تحولت لأخرى جامدة و قد انعكس على وجهها ما تحمله بقلبها من جروح نافذة غلفته بقسوة غريبة عليها كليًا..
"عينك متغفلش عنِهم واصل .. لو حُصل ووافجت المحروقة دي ترچع على ذمته!! "..
صمتت لبرهةً، و قد توحشت نظرة عينيها و تابعت بلهجة حادة لا تقبل الجدال..
"وقتها يچيني خبرهم الليلة..تخلص عليهم اتنين فاهمني زين؟ "..
قال "حسان" بطاعة.. "أمرك يا ست الناس"..
أغلقت الهاتف بوجهه ليبتسم هو إبتسامة يتطاير منها الشرر و الطمع في الحصول عليها بعدما يتخلص من الرجل الذي أستأمنه على نفسه، فعلته هذه تعلمنا أن لا أحد يؤمتن في زمننا المليء بالغدر هذا..
بينما هي تعمدت عدم نطق إسمه ليقينها بأن "بخيتة" تتجسس عليها كعادتها، تفوقت عليها في الجبروت، و أصبحت لا تخشى منها و لا حتى من غيرها..
اعتدلت بمقعدها بوضع أكثر راحة، تنظر للفراغ بشرود تتذكر حديث زوجها معاها بعد خروجها من المستشفى..
.. فلاش باااااااااااك..
جذب "عبد الجبار" مقعد و جلس عليه بجوار الفراش النائمة عليه "خضرا" تبكي و تأن بوهن ، مد يده و أمسك يدها بين كفيه يربت عليها برفق، و هو يتنهد بقوة مغمغمًا ..
"ليه كل ده عاد يا خضرا !!.. أيه اللي حُصل يا غالية وصلك للحالة العفشة دي.. معقول غيرتك عليا تخليكي تموتي نفسك و تحرقي جلب البنتة الصغار وجلب أبو البنتة عليكي!!"..
"مش الغيرة اللي خلتني أعمل أكده"..
همست بها بصعوبة بالغة من بين شهقاتها الحادة، و رفعت عينيها الغارقة بالعبرات، و نظرت له نظرة طويلة مكملة بابتسامة زائفه أثارت بقلبه الريبة..
" الخوف.. الخوف واعر قوي قوي و أني خوفت عبد الچبار"..
عقد حاجبيه و هو يقول بتساؤل مستفسرًا..
" خوفتي!!.. من أيه عاد؟"..
أجهشت بنوبة بكاء مرير دفعته لأحتوائها داخل صدره كمحاولة منه لتهدئتها، لتهمس هي بصوتٍ مرتجف قائلة..
"من حديت مَراتك سلسبيل.. قالتلي أنها هتخليك تطلقني و ترچعني على البلد بعد ما تاخد مني بناتي و محدش غيرها هيفضل على ذمتك.. حديتها مخلاش فيا عقل.. الموت عندي أهون من بعدي عنك أنت و بناتي"..
تطلع لها مدهوشًا من حديثها الذي لم يدخل عقله مطلقًا، و حرك رأسه بالنفي مغمغمًا بثقة..
"مستحيل.. مستحيل سلسبيل تقول أكده .. متقدرش تنطق بالحديت العفش ده يا خضرا لأنها خابرة زين إني هزعل منِها و هي متقدرش على زعلي واصل"..
زادت حدة بكائها.. بكاء يهدد بدخولها إحدي نوبات أنهيارها الذي تكرر في الفترة الأخيرة كثيرًا، و صاحت بجنون مرددة..
"كنت خابرة إنك مهتصدقنيش..كنت خابرة إنك هتكدبني لخاطرها.. كيف ما هطلقني برضوا لخاطرها يا عبد الچبار"..
" و بعدهالك عاد يا خضرا..بكفياك حديتك الماسخ ده".. أردف بها و هي يسيطر على حركاتها الهستيرية العنيفه، ملتف بذراعيه حولها جعل ظهرها مقابل صدره حتى أستكانت بين يديه، و تراخي جسدها على صدره..
" الأيام بنتنا يا عبد الچبار و هيچي اليوم اللي هتوقع فيه سلسبيل بيني و بينك و هتخليك تختار بيني و بينها و أني متوكدة إنك هترميني كيف ما قالتلي لأنك محبتنيش كيف معشقتها"..
رفع "عبد الجبار" يده وأمسك ذقنها جبرها على النظر له و تحدث بنفاذ صبر..
"بكفياكِ يا خضرا.. اللي بتقوليه ده مش هيحصل.. مهما حُصل هتفضل كفتك أنتي عندي هي اللي رابحة.. مهما حُصل و مهما اتقالي عنك أني مهستغناش عنك يا أم الغوالي"..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
تنهدت بارتياح حين شعرت أنها على وشك تحقيق مرادها و ما تسعي إليه جاهدة و هو استرجاع زوجها لها ثانيةً و إبعاد غريمتها عنهم للأبد..
...................................سبحان الله العظيم.......
" سلسبيل "..
تهللت أسريرها حين رأت باب الغرفة يُفتح و دلفت منه "عفاف" مقبلة عليها بخطي شبه راكضة و هي تقول بلهفة..
"سلسبيل.. يا حبيبتي يا بنتي"..
"دادة عفاف".. نطقت بها "سلسبيل" و هي ترتمي داخل حضنها و تبكي بضعف و عينيها عالقة على الباب الذي لم يقفل بعد..
كان بالخارج يقف "عبد الجبار" مقابل "جابر" بينهما جميع العاملين بأمن المستشفى الذين قاموا بأبعادهما عن بعض بشق الأنفس بعدما دارت بينهما معركة دامية كانت ستنتهي بموت واحد منهما لولا تدخل أفراد الأمن..
أغلقت المرافقة ل "سلسبيل" الباب على الفور و وقفت أمامه من الخارج تنجنبًا لدخول أحدًا منهما..
ضمتها" عفاف" بحب صادق، و ربتت على شعرها نزولاً لظهرها بحنان و هي تقول بتساؤل ..
" أيه اللي بيحصل برة ده؟!.. هو عبد الجبار بيه كان بيتخانق مع جابر أبن خالتك ولا أيه؟!"..
حركت "سلسبيل" رأسها بالايجاب و تحدث بأسف قائلة..
"كانوا هيموتوا بعض يا دادة عشان جابر عايز يدخل يطمن عليا و عبد الجبار منعه و مش راضي يدخله أبدًا"..
ضحكت "عفاف" و هي تحرك رأسها بياس مردفة..
"عبد الجبار بيه بيغير عليكي من ابن خالتك ده و ليه حق بصراحة.. الواد نظرته ليكي و لهفته عليكي كلها حب.. عايزة يكون رد فعله أيه و هو شايف واحد بياكل مراته أكل بعينيه قدامه؟! "..
" بس أنا خلاص مبقتش مراته يا دادة"..
همست بها "سلسبيل" بغصة يملؤها الآسي، و صمتت لوهلة ثت تابعت بحزن..
" رغم أنه قال لي أنه ردني على ذمته تاني.. لكن أنا مش موافقة و مش هوافق"..
جلست" عفاف " بجوارها على الفراش، و أخذت نفس عميق و تحدثت بتعقل قائلة..
"لو عايزه ناصحتي يا بنتي.. خليكي صريحة مع جوزك و قوليله على كل حاجة أنتي حكتهالي.. قوليله على تهديد ضرتك و عرفيه أنها السبب في القضية اللي وكلتي جدك يرفعها عليه.. عرفيه إن اللي عملتيه ده من خوفك عليه لتنفذ تهديدها و تأذيه زي ما قالتلك.. خليكي صريحة معاه و متخفيش من حاجة خصوصًا على عبد الجبار بيه لأنه ميتخفش عليه يا سلسبيل.. جمدي قلبك وصرحيه.. الصراحة راحة يابنتي"..
نظرت لها" سلسبيل " بحيرة ظاهرة في عينيها التي تغرقها الدموع، لترفع" عفاف" يدها و تزيل دموعها بحنو..
" يعني أنتي رأيك أني أقوله يا دادة"..
أجابتها "عفاف" قائلة.."ده مش رأيي.. ده العقل بيقول كده.. عشان لو لفت الأيام و عرف هو اللي حصل و اللي قالته ليكي خضرا في يوم ميعتبش عليكي و يغلطك و يقولك معرفتنيش ليه"..
ساد الصمت بينهما طويلاً قطعته "سلسبيل" قائلة..
" نادي عليه من فضلك يا دادة قوليله سلسبيل عايزاك و لما يدخل قولي ل جابر أني كويسة و هخرج له أنا "..
قبلتها "عفاف "من جبهتها قبل أن تنتصب واقفة، و أبتسمت لها ابتسامتها الدافئة مرددة..
" أنا هخرج و هبعتهولك و هفضل مستنياكي برة.. اطمني أنا معاكي"..
بادلتها "سلسبيل" ابتسامتها بأخرى باهتة، و تابعتها بنظرات زائغة أثناء مغادرتها الغرفة..
فور خروجها دلفت إحدي الطبيبات تطمئن على المحلول المعلق بيد "سلسبيل"، و تقوم بتعقيم جرح جبهتها بأدوات طبية مخصصة للجروح..
ظهرت علامات الاشمئزاز على ملامح" سلسبيل" و شحب لونها فجأة و بدت على وشك التقيأ..
"مالك يا مدام.. أنتي دايخة و لا حاسة بحاجة تعباكي؟"..
قالتها الطبيبة حين لاحظت شحوب وجهها، و تناثر حبيبات العرق على جبهتها..
إزداردت "سلسبيل" لعابها بصعوبة، و همست بصوتٍ مُتعب قائلة..
"ريحة القطن اللي في إيدك ده مضيقاني أوي و حاسة إني عايزه أرجع بسببها"..
قالت الطبيبة بتعجب..
"القطن ملوش ريحة أصلاً !!! "..
صمتت للحظة و تابعت بتكهن..
"لتكوني حامل؟!!"..
يا الله!!
"حامل!!!".. همست بها" سلسبيل" بأنفاس متلاحقة، و قد تذكرت أن عادتها الشهرية تأخرت عن موعدها هذا الشهر بالفعل..
" تحبي أسحب منك عينة دم و نحللها؟"..
قالتها الطبيبة التي أنتهت للتو من تعقيم جرحها، لتحرك "سلسبيل" رأسها بالنفي سريعًا وهي تقول بتوتر..
"لا لا.. مش عايزه أعمل تحاليل.. أنا مش حامل و لا حاجة"..
قالت الطبيبة بعملية.. "تمام.. زي ما تحبي.. على العموم أنتي بقيتي كويسة و تقدري تروحي أول ما المحلول يخلص"..
......................................سبحان الله وبحمده.....
بالخارج..
كانت "عفاف" تتحدث مع" عبد الجبار " الذي رمق" جابر" الواقف بثبات بنظرة ساخرة، و أبتسم بأنتصار حين قالت له..
"عبد الجبار بيه.. مدام سلسبيل عايزه حضرتك "..
" هي كويسة يا مدام عفاف"..
أردف بها "جابر" بصوته المتلهف الذي يثير جنون "عبد الجبار"..
أجابته "عفاف" بقلق من نظرات "عبد الجبار " الحارقة..
"كويسة الحمد لله"..
وقف "عبد الجبار" أمامه مباشرةً و تحدث بلهجته الصارمة قائلاً.. "قالتلك أنها بقت زينة.. تقدر تغور بقي دلوجيت لاچل ما تطمن چدك القلقان عليها و كل هبابه يتصل عليك و عليا "..
تطلع له "جابر" بشجاعة دون أن يغمض له جفن، و تحدث بأسف قائلاً..
"هما اللي منعوني عنك"..
قالها و هو يتنقل بعينيه بينه و بين أفراد الأمن الواقفين على أبهى إستعداد لمنعهما إذا اشتبكا ثانيةً، و تابع بوعيد..
" أعمل حسابك أنا لو لمحتك على طريق قدامي تاني هسويك بالأسفلت"..
ضحك "عبد الجبار" ضحكة مدوية وصلت لسمع زوجته بالداخل خطفت أنفاسها و جعلت دقات قلبها تخفق كالطبول، رفع يده ربت على كتفه بعنف وهو يقول..
"اللي بيقول مبيعملش.. و بفضل الله لا أنت و لا بلد بحالها تقدر تعمل حاچة مع راچل صعيدي و خصوصًا لما يبجي الراچل ده عبد الچبار المنياوي يا ابن البندر"..
قالها و هو يسير من جانبه تجاه غرفة "سلسبيل" طرق على الباب، و فتحه دون إنتظار إذن ، و دلف للداخل غالقه خلفه، تاركًا" جابر" يستشيط غضبًا يكاد أن يدمر الأخضر و اليابس..
↚
كانت "سلسبيل" في حيرة شديدة من أمرها، لا تعلم من أين تبدأ الحديث، كل ما فكرت فيه و جهزته لتخبره به تبخر من عقلها فور رؤيته مقبلًا عليها بلهفة هكذا..
قطع "عبد الجبار" المسافة بينه و بينها بخطوتان لا ثالث لهما، و بلمح البصر وجدت نفسها مرفوعة بين ذراعيه بمنتهي الخفة كأنها لا تزن شيئًا ،جلس هو مكانها على الفراش و إحتوي جسدها الصغير بأكملها داخل حضنه..
"كيفك دلوجيت؟!"..
همس بها داخل أذنها بصوته المزلزل الذي يبعثر كيانها كله دفعة واحدة ، انكمشت على نفسها بين يديه، أراحت رأسها على موضع قلبه النابض بعشقها وحدها، تنهدت براحة و هي تقول بخفوت..
"أنا الحمد لله بقيت كويسة..أطمن"..
مسد على طول ظهرها بكف يده الضخمة يضمها له بقوة مرددًا بتساؤل ..
" هتعاوي معاي على الدار.. مش أكده يا سلسبيل؟"..
أطبقت جفنيها بعنف تكبح عبراتها التي تجمعت بعينيها، أخذت نفس عميق قبل أن ترفع وجهها ببطء و من ثم عينيها الحزينة، و تطلعت له بابتسامتها التي تُذيب قلبه المُتيم بها، تأملت ملامح وجهه الجذاب رغم صلبته و صرامته، و تحدثت بأسف قائلة..
" مش هينفع.. مش هينفع أرجع معاك و لا حتى أرجع على ذمتك تاني يا عبد الجبار"..
رأت عيناه تتسعان بغضب، و تبرز حولها الشعريات الدموية بخطورة..مع ذلك تحدثت بتأنٍ بالغ دون أن يخيفها الوضع أو تحذيره..
"جوازي منك كان بالنسبة ليا طوق النجاة اللي هينقذني من جبروت أبويا اللي مش عارفة أيه سبب قسوته عليا بالشكل ده لحد دلوقتي .. و جوازك أنت مني كان غلطة و لازم تصلحها و ترجع لمراتك اللي هتجنن من غيرتها عليك و لبناتك و تنساني خالص من حياتك"..
صمتت لبرهةً تحاول السيطرة على حشرجة صوتها الذي اختنق بالبكاء بسبب نظراته العاشقة لها ، و تابعت بألم نجحت في إخفاءه..
" ليها حق أبلة خضرا في غيرتها المجنونة عليك..و في تهديدها ليه لو مبعدتش عنك"..
عقد حاجبيه بدهشه مغمغمًا..
" تهديد أيه اللي بتتحدي عنه!!! "..
انسحبت الدماء من وجهها، و بدي الرعب و الفزع ظاهر على قسماتها و هي تجيبه بصوتٍ مرتجف..
"أبلة خضرا بتهددني بيك.. غيرتها عليك عمتها و قست قلبها و بتهددني أنها هتقتلك لو فضلت على ذمتك..و لما قولتلها إنك مش هطلقني بسهولة قالتلي أرفع خلع.. و خلتني عملت لجدي توكيل و طلبت منه يرفع لي قضية خلع عليك.. عشان خوفت منها.. خوفت تنفذ تهديدها و تعمل فيك حاجة يا عبد الجبار "..
أطبق السكون حولهما فور إنتهاء حديثها، بقي" عبد الجبار " يتطلع لها بصمت أثار بقلبها الريبة، كانت ملامحه المتلهفة تحولت لأخرى جامدة، شعرت بجسده يتخشب من حولها، حبست أنفاسها حين وجدته يبعدها عن حضنه، وضعها ثانيةً على الفراش، و انتصب واقفًا مبتعدًا عنها، حينها شعرت ببرودة لفحتها بفعل نهوضه و مفارقته إياها فجأة هكذا..
"اممم.. يعني أم فاطمة قالتلك إنها هتقتلني لو فضلتي على ذمتي!!!".. تمتم بإيجاز تغلفه قساوة غريبة، حركت "سلسبيل" رأسها له بالايجاب، و قد زحف القلق لقلبها من نظرات العتاب الذي يرمقها بها..
"حديتك ده يخليني أقل حاچة أعملها إني أرمي اليمين على أم بناتي اللي قوتك على عملتك السودة برفع قضية خلع على رچلك اللي بيتمني لك الرضا و شايلك چوه جلبه قبل عينيه!!"..
قالها باقتضاب لا يخلو من الجمود، و مال عليها بجزعه مستند بكفيه على الفراش من حولها، و تابع بألم حاد..
" وأنتي نايمة في حضني يچيني تليفون يبلغني بالقضية اللي رايده ترفعيها عليا خليتي عقلي يچن مني و أرمي عليكي اليمين من حرقة جلبي.. كنت فاكر إني بكده هطفي النار اللي چوايا من نحيتك .. بس النار دي زادت ببعدك عني و مقدرتش يا سلسبيل و رديتك على ذمتي في وقتها"..
بكت "سلسبيل " و هي تقول بندم.. "أنا آسفة على اللي عملته.. أنا غلطت في حقك وأنت متستهلش مني كده.. بس والله أنا عملت كده من خوفي عليك يا عبد الجبار "..
أخذ نفس عميق و زفره على مهلٍ مردفًا بنفاذ صبر..
" بكفياكِ بكى عاد.. و خلينا ننسى كل اللي حُصل و هاخدك من أهنه على بيت چديد هيبجي ليكِ لوحدك و ملكيش صالح بحديت خضرا واصل"..
من أجلها تنازل عن كبرياءه و كرمته لأول مرة بعمره، حتى لا يخسرها هي، لا يريد سوي أن تظل زوجته حتى لو كان ما تقوله عن تهديد "خضرا" حقيقة و كلفه الأمر حياته،
كانت تتمنى أن توافقه على حديثه هذا، لكن خوفها عليه كان أكبر من احتياجها له، خاصةً بعد علمها بأنها ربما تكون حاملة في احشائها منه طفلهم الأول، تمكن منها الذعر أكثر و هي تتخيل رد فعل ضرتها على خبر حملها، بالتأكيد ستقتلها هي و جنينها في الحال..
وجدت نفسها تحرك رأسها بالنفي مرددة ببكاء..
"لا.. لا.. أنا و هي مش هينفع نبقي على ذمتك..يا أنا يا هي يا عبد الجبار.. لكن إحنا الاتنين مع بعض مش هينفع.. لازم تختار بنا"..
ما تفوهت به الآن هي على دراية كاملة ما سيكون إختياره، تعلم أنها وضعت نفسها في مقارنة خاسرة، بالرغم من عشقه لها، لكن ابنتيه يفضلهما دائمًا عن نفسه، و هي على يقين أنه لا و لن يفرط بهما مهما فعلت أمهما..
" بتلوي دراعي يا سلسبيل!!! ".. نطق بها مذهولاً من حديثها الذي بدأ يفقده صوابه،و قبض على ذراعها بكف يده بقوة ألمتها مكملاً بغضب عارم تمكن منه..
"بتخيريني بينك و بين خضرا !!
مقدرش أصدق يعني هي كانت على حق و أني كدبتها و دفعت عنك لما قالتلي إنك هتخليني أطلقها بعد كل اللي عملته وياكِ.. أخرتها عايزه تخربي بيتها و توقعي بيني وبينها.. فاكراني شخشيخة في يدك عاد و هچري أنفذ حديتك الماسخ ده و أطلق مَراتي أم بناتي!!! "..
انفجرت" سلسبيل " في وجهه صارخة بعدما صدمها حديثه و نظرته لها التي تحولت للنقيض، يرمقها بنظرة خذلان، يخبرها أنها خذلته و سقطت من نظره بقولها المتهور هذا..
" و هي عملت ايييه معايا يا عبد الجبار و لا أنت نفسك عملت ايه معايا؟!.. أنا كنت لعبة في أيدك أنت و هي.. اختارتني ليك أنا بالذات عن كل حريم الدنيا لأنك اتفقت مع الدكتور يفهمها إني مريضة و مش هقدر أخلف و لا هعيش أساسًا!!!"..
استجمعت قوتها، و رفعت يدها دفعته بصدره بعيدًا عنها بكفها الصغير، و تابعت بغصة مريرة يملؤها الآسي..
" يا ريتني كنت مت و اترحمت من البهدلة دي كلها.. أنا خلاص جبت أخرى من أبويا و مراتك و أمك و منك أنت كمان يا عبد الجبار.. مش هشوف راحة طول ما أنا و أم بناتك على ذمتك"..
"و أني مش هطلق خضرا يا سلسبيل"..قالها "عبد الجبار" بنبرة جادة لا تحمل الجدال..
أبتسمت "سلسبيل " إبتسامة تخفي خلفها حزنها و كسرتها مرددة بأسف..
" يبقي أنت كده هطلقني أنا "..
.............................. سبحان الله العظيم...
كانت" سعاد" تبكي بنجيب و قد تمكن من قلبها الخوف و هي تتخيل رد فعل" جابر" إذا علم أنها وراء هروب "سلسبيل" بعدما استمعت لحديثها تقول أنها ستحدث والدها حتى يأتي ويأخذها..
و أيضًا لم تسلم من حديث" فؤاد" الذي صب جم غضبه عليها، و ظل يلقى على سمعاها كلمات دبت الرعب بأوصالها أكثر..
"أنتي السبب في اللي حصل لبنت أختك زي ما كنتي السبب في جوازة أمها عشان تسد ديون جوزك للمفتري قناوي اللي خد أختك الصغيرة تخليص حق.. خدها موتها بقسوته عليها، و دلوقتي مبتفكريش غير في إبنك و عايزة ترميله بنته عشان يموتها زي أمها.. أنتي قلبك ده أيه يا سعاد.. حجر.. مبتحسيش!!! "..
"كفاية يا بابا أبوس إيدك.. كفاية جلد فيا"..
همست بها" سعاد" بصعوبة من بين شهقاتها، و تابعت قائلة..
"أنا مكنتش أعرف أن قناوي ده هيعمل في أختي كده.. لو كنت أعرف أنه جبروت بالشكل ده مكنتش وافقت ولا أنا و لا أبو جابر الله يرحمه.. و لما قولت إني هكلمه يجي ياخد سلسبيل كنت بهوش بس لكن والله ما كنت هكلمه..و خوفي على ابني ده غصب عني.. مش بخاطري.. مش هقدر أشوفه الراجل التالت في حياة مراته و هو يا حبيبي مخطبش و لا حتى حب واحدة غيرها..معلق نفسه و قلبه بواحدة ياريتها حتى بتبادله مشاعره ناحيتها.. و كمان بتحب طليقها!! .. عايزني اعمل أيه و أنا شايفة ابني و حيدي واقع الواقعة السودة دي.. قولي يا بابا عايزني أقف أتفرج عليه؟!! "..
قطعت حديثها فجأة، و إرتفع صوت نشيجها و قد داهمها دوارًا عنيف أفقدها توازنها، و أصبحت تترنجح يمينًا و يسارًا، حاولت الاستناد على أي شيء حولها، لكنها سقطت أرضًا مستندة بظهرها على الحائط..
" سعاد.. مالك يا بنتي".. قالها" فؤاد "و هو يهرول مسرعًا تجاه مصدر الصوت، باحثًا عنها كالمجنون، و قد سقط قلبه بسقوطها، فبدأ يبكي و هو يتحسس بيده المكان من حوله حتى وصل إلي يدها الملقاه بجوارها، لينصدم من برودة بشرتها الشديدة،و همسها الضعيف تقول بوهن..
"دوا الضغط و السكر.. الحقني بدوا يا بابا"..
قال "فؤاد" بصوتٍ مرتجف، بل جسده كله أصبح ينتفض بذعر، و قد شعر بالندم لأنه قسي عليها..
"هو فين.. قوليلي حطاه فين و أنا اجبهولك"..
لم تستطيع "سعاد" الرد عليه، و قد بدأت تغيب عن الوعي بعدما داهمها دوارها بقوة أكبر..
شعر" فؤاد " أنه على حافة الجنون بعدم ردها عليه، مما يعني أن حالتها تدهور و هو عاجز عن إسعافها، ليرأف الله بحاله، و صدح صوت رنين هاتف ابنته، فهرول راكضًا تجاه الصوت، و أسرع بالضغط على زر الفتح مرددًا بلهفة ظنًا منه أن المتصل حفيده..
"جابر.. ألحق أمك يا ابني"..
"مالها ماما سعاد يا جدو".. صرخت بها "صفا" ابنة زوج "سعاد" ..
أجابها "فؤاد" بصوتٍ باكي يدل على شدة فزعه..
"وقعت من طولها يا بنتي و قالتلي الحقني بدوا الضغط بس أنا مش عارف مكانه.. مش عارف الحقها و جابر كمان مش هنا و أنا لوحدي مش عارف أتصرف "..
انتفضت "صفا" من مكانها، خطفت اسدالها ارتدته بلمح البصر، وركضت بأقصى سرعة تملكها مرددة بأنفاس لاهثة و قد بدأت تبكي هي الأخرى ..
"أنا هجيب العلاج و أجيلك حالاً.. بس أديها أي حاجة مسكرة على ما أوصل "..
.................................... سبحان الله العظيم..
"جابر "..
كانت تمنعه "عفاف" بشق الأنفس حتى لا يقتحم الغرفة على "سلسبيل" بعدما استمع لصوت صراخها الباكي..
"سيبهم يا ابني يتعاتبوا مع بعض.. متدخلش بينم عشان المشكلة متكبرش أكتر.. لأنهم في الأخر واحد ومراته و الداخل بينهم خارج"..
أردفت بها "عفاف" بتعقل و هي تقف أمامه تمنعه من الوصول لباب غرفة "سلسبيل" ..
اصطك "جابر" على أسنانه كاد أن يهشمها، و كور قبضة يده و لكم الحائط بجواره عدت مرات متتالية ينفس عن غضبه العارم..
ليتوقف بصدمة حين وصل لسمعه صوت" عبد الجبار " يقول بصوته الأجش..
"أنتي طالق يا سلسبيل!!!! "..
ساد الصمت لدقائق بعد جملته هذه التي أصابت الجميع بصدمة، فقدتهم النطق و حتي الحركة، لم يقطع هذا الصمت سوي صوت رنين هاتف "جابر" الذي صدح تزامنًا مع فتح باب الغرفة و خروج "عبد الجبار" كقذيفة نيران متوهجة، سار من جانبه دون النظر إليه بنظره عابرة حتى، كان سيره حثيثًا أقرب إلى الهرولة من شدة انفعالاته المتضاربه..
"أيوه يا جدي!!".. نطق بها "جابر" بصوتٍ يملؤها الفرحة، ليأتيه صوت" فؤاد" يقول ببكاء..
"جابر.. أنت فين يا ابني.. تعالي ألحق أمك وقعت من طولها"..
انقطعت أنفاسه حين استمع لصوت جده الباكي، و تباطأت دقات قلبه بعد ما تفوه به، و أصبح في حيرة من أمره، ايدلف ل "سلسبيل" التي بدأت تبكي بصوت أشبه بالصراخ، أم يذهب لوالدته؟!!..
وجهه نظره ل "عفاف" التي أسرعت بلهفة تجاه غرفة" سلسبيل " و همس بأسف..
" أمي وقعت و لازم أروح الحقها"..
"روح لها أنت يا ابني و أنا هفضل مع سلسبيل.. متقلقش عليها"..
قالتها "عفاف" قبل أن تدلف لداخل الغرفة، و تغلق الباب خلفها..
تحرك "جابر" على مضض راكضًا لخارج المستشفى، و من ثم نحو سيارته، قفز بداخلها و بدأ يقودها بأقصى سرعة ممكنة و هو يقول..
" أنا جاي حالاً يا جدي "..
غافلاً عن أعين" عبد الجبار " الذي كان مازال يجلس داخل سيارته يلكم المقود بقبضة يده، و يصرخ بهياج بصوتٍ مكتوم من شدة ألم قلبه الملتاع..
بينما بداخل غرفة "سلسبيل"..
"طلقني.. قولتله الحقيقة كدبني و صدق خضرا و أخترها هي و طلقني رسمي يا دادة"..
قالتها "سلسبيل" ببكاء يقطع نياط القلوب و هي تطلع بحسرة لورقة طلاقها الذي وقعها "عبد الجبار" و ألقاها بوجهها..
↚
في بعض الأحيان يأتي علينا وقت نكن فيه كالمغيبين ، نسير وراء ما نريد دون النظر في عواقبه، حتى تأتي ضربة قوية على حين غرة تعيد لنا وعينا، ضربة تكاد تكون قاتلة، ولكنها وبكل آسف تركنتا أحياء، لنقر و نعترف بأنها أعطتنا درسًا قاسيًا نخرج منه بقوة لم نكن نظن إننا نمتلكها ذات يوم..
"جابر"..
يقود سيارته بسرعة الرياح، و قد انقبض قلبه قبضة مخيفة، عينيه كانت على الطريق بتركيز شديد، و على المرآة أيضًا في آنٍ واحد، ينظر للهدايا القيمة الخاصة بالرسم و الكثير من الورود الرائعة التي أحضرها ل "سلسبيل" و لم يجد فرصة مناسبة لأعطائهم لها..
وبرغم تركيزه هذا إلا أنه لم ينتبه ل "حسان" الذي يتابعه منذ خروجه من المستشفى بأمر من "عبد الجبار"..
دقائق معدودة وكان يصف سيارته أمام منزله، تزامنًا مع وصول "صفا" التي قفزت راكضة من سيارة أجرة، متوجهه نحو المنزل التي كانت تأتي إليه دومًا برفقة زوجة والدها "سعاد" لزيارة "فؤاد" التي تعتبره في مقام جدها..
كانت تركض نحو الدرج بهرولة، ليلحق بها "جابر" بخطواته الواسعة، و قد زاد خوفه حين لمح ذعرها الظاهر على ملامحها ذات الجمال الهادئ..
تصعد الدرج كل درجتين معًا لتفلت إحدي قدميها و كادت أن تسقط على وجهها، إلا أن يده التي قبضت على ذراعها منعتها، استدارت وتطلعت له بلهفة فقد كانت على يقين أنه هو حين حاوطتها رائحة عطره المميز..
"جابر.. خد علاج ماما سعاد و أطلع أنت أديها حقنة الأنسولين بسرعة"..
قالتها بأنفاس مقطوعة و هي تمد يدها له بالحقيبة الخاصة بأدوية "سعاد"..
أخذهم منها "جابر" و ركض بهم من أمامها مسرعًا دون أن يرد عليها بحرف واحد، وصل لشقته في لمح البصر بسبب سرعته الشديدة، بينما هي كانت تجاهد بأنفاس متهدجة لتصعد الباقي من الدرج..
فتح الباب بأصابع مرتعشة، و أندفع للداخل يبحث عن والدته و جده و هو يصيح بصوتٍ يملؤه الخوف..
" يا أمه.. يا جدي!!"..
توقف عن الحديث، و حجظت عينيه بصدمة حين وجد "فؤاد" يجلس بجوار والدته الممدة أرضًا في حاله يرثي لها، فاق من صدمته على صوت جده الباكي يقول بتوسل..
"ألحق أمك يا جابر"..
جثي على ركبتيه بجوارها، و قام بغرز تلك الحقنة الرفيعة للغاية بفخذها مرددًا بابتسامة يخفي بها ارتعاد قلبه عليها..
"أيه يا أم جابر.. عايزة توقفي قلبي ولا أيه"..
قالها و هو يساعد جده على النهوض، و من ثم مال عليها و حملها على ذراعيه بمنتهي الخفة لضائلة و ضعف جسدها الهزيل للغاية..
كانت "سعاد" بين الوعي و اللاوعي، تجاهد لتفتح عينيها، تهمس له بجملة صغيرة بصعوبة بالغة قائلة..
"سامحني..سامحني يا ابني"..
كان يسير بها لخارج المنزل قاصدًا المستشفى بعدما رأي شحوب وجهها و عينيها الزائغة التي جعلت الرعب يدب بأوصاله..
"وبعدين معاكي يا أمه.. أنتي بتشوفي غلاوتك عندي بعاميلك دي!!!"..
ارتمت "سعاد" برأسها على صدره، و بكت بضعف و هي تقول"عطشانة..أسقيني يا جابر"..
جملتها هذه جعلت "جابر" في حيرة من أمره، يكمل سيره بها، أم يضعها على أقرب أريكة، و يجلب لها الماء؟!..
"الميه أهي يا ماما سعاد.. اشربي يا حبيبتي "..
صدح صوت" صفا" التي دلفت للتو من باب الشقة المفتوح، و ركضت تجاه كوب من المياه كان موضوع على الطاولة، أخذته، و اقتربت منها تساعدها على الشراب و هي على يد ابنها..
بللت "سعاد" شفتيها التي أزرقت لونهما، و تحدثت بصوتٍ بالكاد يُسمع قائلة..
" قعدني على كرسيي يا جابر.. أنا هبقي كويسة دلوقتي.. مش عايزه أروح مستشفيات.. عايزة اتكلم معاك يا ابني"..
حرك "جابر" رأسه لها بالنفي و تابع سيره بها مرددًا..
"هنروح المستشفى نطمن عليكي بس و نرجع على طول بمشيئة الله يا أم جابر"..
ربتت "سعاد" على صدره بكف يدها الباردة كالثلج وهي تقول بنبرة راجية.. "جابر أقف و اسمعيني الأول لو ليا خاطر عندك يا ضنايا"..
وقف "جابر" محله على مضض، و نظر لها بعينيه التي لمعت بالدموع، و قد تحولت نظرته الآن إلى نظرة طفل صغير لم يتم عامه الخامس مذعور من رؤية والدته تصارع الموت أمامه..
تأملت "سعاد" ملامح وجهه الجذابة بابتسامة دافئة و حب شديد، هبطت عبراتها على وجنتيها ببطء و هي تقول بندم..
" سامحني.. و قول ل سلسبيل هي كمان تسامحني يا جابر و عرفها إن اللي قولته كان كلام وقت غضب لكني والله ما كنت هتصل بأبوها "..
انفجرت "صفا" بنوبة بكاء حادة أشبه بالصراخ، ليصطك "جابر" على أسنانه بقوة كاد أن يهشمها، و تابع سيره من جديد بوالدته، و لكن هذه المرة كان يركض بها حتى وصل لسيارته، فتحت بابها "صفا" التي لحقت بهما، فوضع" جابر" والدته على المقعد الخلفي، و هم بالابتعاد عنها، لكن "سعاد" تمسكت بقميصه جذبته عليها حتى أصبحت أذنه مقابل فمها و همست بأنفاس تتلاشى..
"خلي بالك من بنت خالتك و حاول تصلح بينها وبين جوزها لأنه بيحبها و هي كمان بتحبه و مش هتحب غيره فمتعلقش قلبك بأمل كذاب يا حبيبي.. و بوصيك على صفا.. صفا يا جابر.. صفا يتيمة أم و!!"..
صمتت لبرهةً و شهقت بقوة مكملة بحرفين فقط قالتهما بتقطع..
"أب!!"..
كانت أخر كلمة نطقت بها، و سكت لسانها إلى الأبد بعدما فارقت روحها جسدها و هي داخل حضن وحيدها..
" لااااااا.. ماما سعاد"..
صرخت بها" صفا" و هي تدفع" جابر" بعيدًا عنها، و ترتمي فوق صدرها مرددة بصراخ يقطع نياط القلوب..
"متسبنيش بالله عليكِ.. متعمليش فيا كده.. أنا مليش غيرك.. متسبنيش أعيش في مرارة اليُتم تاني أبوس أيدك"..
الموت المفاجيء فاجعة حطت على رأس "جابر" دون سابق إنظار، فاللهم إنا نعوذ بك من فواجع الأقدار..
............................... سبحان الله العظيم......
" عبد الجبار "..
كان يستعد للذهاب، لكنه ظل مكانه حين رأي "جابر" غادر المكان مهرولاً تاركًا "سلسبيل " برفقة "عفاف" بمفردهما، زحف القلق لقلبه و شعر أن هناك شيئًا خطير أجبره على المغادرة فجأة هكذا..
جلس داخل سيارته ينتظر إتصال "حسان" الذي أرسله خلفه، ليصدح رنين هاتفه أخيرًا، و لكن برقم أخر كان ينتظره أيضًا على أحر من الجمر، فصغط زر الفتح بلهفة قائلاً..
"ها أيه الأخبار ؟!"..
"كان عندك حق يا عبد الجبار باشا.. الواد اللي سرق تليفون سلسبيل هانم كان مزقوق عليها فعلاً، و لما قرصنا عليه شوية قال إن في واحد كان متفق معاه يقتلها بس هو خاف و اكتفي بالسرقة لما سأل و عرف أنها مراتك يا باشا"..
"إسمه أيه اللي أتفق معاه؟! ".. قالها "عبد الجبار " مستفسرًا بصوته الأجش،ليأتيه الرد الذي كان أكبر صدمة بالنسبة له حين قال الأخر بأسف ..
" إسمه حسان.. دراع سيادتك اليمين "..
" حسان!!! ".. تمتم بها بعدم تصديق، و الكثير من الأمور بدأت توضح أمام عينيه، ساد الصمت طويلًا حتى قطعه" عبد الجبار" يقول بأمر..
" قدامك أقل من ساعة وتشيعلي طقم حرس على العنوان اللي هبعتهولك دلوجيت، و هاتلي الواد الحرامي و تليفون الهانم و أسبقني على فرع الشركة في المنصورة"..
أردف بها و هو يغادر سيارته متوجهًا لداخل المستشفى ..
أغلق الهاتف بوجهه دون إنتظار رده، و أرسل له عنوان المستشفى و رقم غرفة" سلسبيل "، سار بخطواته الواثقه حتى وصل لمكتب الطبيبة المشرفة على حالتها، طرق الباب و دلف للداخل دون إنتظار إذن..
" خير يا عبد الجبار بيه؟!.. المدام حصلها حاجة؟! "..
"أني اللي چاي أسألك عنِها.. كيفها دلوجيت يا دكتورة؟!"..
قالها بهدوء عكس ملامح وجهه الغاضب..
تنحنحت الطبيبة بخوف من قسماته العابسة بشدة قائلة بعملية..
"هي الحمد لله بقت كويسة و تقدر تروح مع حضرتك أول ما المحلول اللي في ايدها يخلص"..
رمقها" عبد الجبار" بنظرة جعلت قدميها ترتجف من الخوف، فهي تقف أمام رجل الأعمال " عبد الجبار المنياوي" أشهر من النار على علم، و تحدث بلهجة حادة لا تقبل الجدال..
"الهانم معوزهاش تخرج انهارده غير لما أبلغك بنفسي، و ممنوع يدخل عندها أي مخلوق غيرك أنتي "..
حركت رأسها له بالايجاب، ليصمت هو للحظة، و تابع بصوتٍ أكثر لينًا بعدما أبتلع لعابه بصعوبة، و قد تسارعت دقات قلبه بجنون و هو يقول..
"و رايدك كمان تعرفيلي إذا كانت الهانم حامل و لا لا و تبلغيني طوالي على الرقم ده "..
وضع يده بجيبه و أعطاها الكارت الخاص به، و سار من أمامها بخطواته الغاضبة عائدًا لسيارته، ينتظر قدوم طقم الحرس حتى يتمكن هو من الذهاب..
ليصدح رنين هاتفه مره أخرى، برزت عروقه و احمرت عينيه حين لمح اسم" حسان"، ضغط على الهاتف كاد أن يحطمه مغمغمًا بصوته الصلب..
" خير يا حسان؟!"..
جاوبه "حسان" و هو يلوك الطعام بفمه بصوتٍ مقزز..
"أم اللي إسمه چابر تعيش أنت يا كبير "..
يا الله !!!.. ما هذا اليوم العجيب الذي يمر على الجميع، أطبق "عبد الجبار" جفنيه بعنف و هو يتخيل رد فعل "سلسبيل" التي ستظل بنت قلبه حتى بعد طلاقها منه..
.......................................... لا إله إلا الله......
"لن يكسر الله بخاطرك إلا ليرضيك بخيرٍ لم تكن تراه"..
ألقتها"عفاف" مرارًا و تكرارًا على سمع "سلسبيل" الساكنة داخل حضنها تبكي و تأن بضعف، بقلبٍ منكسر و روحًا ممزقة..
رغم أنها كانت على يقين أنّ "عبد الجبار" لن يفضل أحدًا على ابنتيه، حتى لو كان قلبه العاشق لها، سينتزعه و بستأصلة من جذوره فداءًا لهما، و هذا كان غرضها بالأساس، ضغطت عليه بنقطة ضعفه حتى تجبره على طلاقها من شدة خوفها عليه و على جنينها الذي لم تتأكد من وجوده بعد..
حسمت أمرها بالابتعاد عنه، لأول مرة تتخذ قرار بحياتها و تنفذه، لكنه أصعب و أقسى قرار أصابها بضربة قوية كادت أن تصيبها بمقتل..
حاولت السيطرة على حدة بكائها و هي تقول..
"زعلانة منه أوي يا دادة .. و في نفس الوقت زعلانة عشانه و قلبي بيتقطع عليه"..
تنهدت "عفاف" بحزن على حال تلك الصغيرة، لكنها تحدثت بتعقل قائلة..
"أنتي كنتي عارفة أنه هيختار بناته يا سلسبيل..لو كان صدق كلامك اللي قولتيه على خضرا معنى كده إنه مش هخليها على ذمته بعد ما عرف أنها عايزه تقتله و أقل حاجة يعملها أنه هيطلقها.. بس هو كدب نفسه اللي هي أنتي نفسه دي لأن مهما أم بناته عملت مش هينفع يطلقها عشان خاطرهم و بصراحة أنا احترمته لأنه مطلعش أناني في حبه ليكي و أختارك على حساب بناته اللي هتبقي وصمة عار بالنسبالهم في الصعيد أن أمهم مطلقة من أبوهم"..
أبتسمت" سلسبيل " إبتسامة يملؤها الوجع و هي تقول..
" و هو مش أي أب يا دادة.. مافيش في حنيته و لا خوفه على بناته.. عبد الجبار أحسن أب شوفته في الدنيا كلها بعد ما كنت فاكرة أن كل الرجاله ملهاش قلب زي أبويا "..
احتضنت " عفاف " وجهها بين كفيها و هي تقول بثقة..
"ربنا هيعوضك خير يابنتي..مش عايزاكي تزعلي.. و اتأكدي أن اللي حصل ده خير ليكي لأن رب الخير لا يأتِ إلا بالخير "..
قالت " سلسبيل " و هي تحاول السيطرة على بكائها.. " ونعمة بالله.. الحمد لله.. أنا راضية والله يا دادة عفاف و بحمد ربنا إنك معايا و بتقويني بكلامك اللي بيطمن قلبي"..
ساد الصمت المُطعم بالتنهيد للحظات، قطعه صوت طرقات على باب الغرفة، يليه دخول الطبيبة التي تكلفت الإبتسامة و هي تقول..
"عاملة أيه دلوقتي يا مدام سلسبيل؟ "..
أجابتها " سلسبيل " قائلة.. " الحمد لله يا دكتورة أنا بقيت أحسن و المحلول خلص.. ممكن تشلي الحقنة دي من أيدي.. عايزة أخرج من هنا"..
تطلعت لها الطبيبة بأسف مصطنع قائلة..
"مش هينفع تخرجي دلوقتي.. لسه في محلول كمان غير اللي خلص ده تكملة للعلاج هركبهولك عشان ميحصلكيش أي إغماء "..
كانت تتحدث و هي تتخلص من المحلول الفارغ، و بخفة يد شديدة قامت بسحب عينة دماء من يد
" سلسبيل " المبتعدة بوجهها عنها بخوف تجنبًا من رؤية الحقنة المنغرسة بكفها..
.............................. سبحان الله وبحمده.....
" عبد الجبار "..
تحرك أخيرًا بسيارته تجاه فرع شركته بالمنصورة بعدما ترك طاقم من اكفاء الحراسات الخاصة داخل و خارج المستشفى المتواجدة بها طليقته،
تأهب جميع العاملين فور رؤية سيارته الفارهه، و هرول تجاهه حشد هائل لستقباله حتى وصل لمكتبه الفخم الذي كان ينتظره بداخله إحدي القيادات الهامة و معه سارق هاتف زوجته الواقف بين رجال الأمن مقيد بالأساور الحديديه ..
"نورت المنصورة يا عبد الجبار باشا"..
مد "عبد الجبار" يده له بالسلام الحار، وهو يقول..
"منورة بيكم يا سيادة العقيد"..
أنهى جملته، و توجهه بنظره تجاه ذلك السارق الذي انكمش على نفسه بخوف من نظرته المخيفة..
سار نحوه بخطوات هادئة عكس البركان الغاضب بداخله، وقف أمامه بطوله المُهيب، و تحدث بهدوء ما قبل العاصفة قائلاً..
"أتكلم.. أني سامعك"..
"ح ح حسان.. و الله العظيم حسان هو اللي طلب مني أعمل كده يا جناب البيه"..
فتح "عبد الجبار" فمه ليتحدث، لكنه أغلقه ثانيةً حين صدح رنين هاتفه برقم الطبيبة المشرفة على حالة "سلسبيل" فضغط رز الفتح بلهفة ليأتيه صوتها تقول..
"عبد الجبار بيه أنا عملت إختبار الحمل ل سلسبيل هانم "..
صمتت لوهلة كانت بمثابة أعوام لذلك العاشق الذي أوشك قلبه على مغادرة ضلوعه من عنف دقاته حين تابعت الطبيبة ..
"ألف مبروك المدام حامل!!!!!!"..
↚
انقضى النهار بما يحمله من ألم و صدمات طالت الجميع، لم يعود "جابر" ل "سلسبيل" مجبرًا، ظل يجهز كل الأشياء المتعلقة بوالدته حتى يصلها إلى مثواها الأخير،
كان يتحرك كالآلي بلا روح، الدموع تحجرت بعينيه، يحاول التماسك قدر استطاعته لأجل جده العجوز الذي تدهورت حالته هو الأخر من شدة حزنه على ابنته، و التزم الفراش غائب عن الوعي بجواره فريق طبي كامل يشرف على حالته ..
بينما "صفا" وقفت على غُسل "سعاد" بقلبٍ مفتور أرهقه الحزن، لم تتوقف عبراتها المنهمرة على وجنتيها ولا لحظة واحدة، تبكي بصمت دون صوت و قلبها يصرخ صرخات تمزق روحها..
"سعااااد.. يا أم صفااااا "..
كان هذا "فايز" زوجها الذي وصل للتو من عمله بعدما هاتفه "جابر" حتى يأتي يودع زوجته و يحضر دفنتها، دلف لداخل المنزل الذي تجمع فيه حشد كبير من الأهل و الأقارب و الجيران بخطي متعثرة، عينيه غارقة بالدموع، يبكي بنحيب و ينادي عليها بقلب ملتاع متأملاً أنها ستجيبه..
هرول إليه "جابر" الذي كان يقف أمام الغرفة المتواجدة بها والدته، أمسك يديه و أجلسه على أقرب مقعد، قبض "فايز" على كفه بأنامله المرتجفه، تطلع له بأعين زائغة تفيض بالدمع، و تحدث بصعوبة بالغة بصوتٍ متقطع قائلا..
"أيه اللي حصل.. أيه اللي جرالها.. أنا سيبها زي الفل و كانت بتتصل بيا و تطمني.. أيه اللي حصل يا جابر يا ابني!!!"..
ربت "جابر" على كتفه، و أجابه بهدوء عكس الصخب بداخله..
"أمر ربنا و نفذ يا عم فايز و لا نقول إلا ما يرضي الله إنا لله وإنا إليه راجعون.. أجمد كده وشد حيلك عشان خاطر صفا بنتك"..
تعمد الضغط على كلمة ابنته، و قد تذكر حديث والدته قبل وفاتها بثواني قليلة، أن "صفا" يتيمة أم و أب!!، إذا من يكون هذا الرجل؟،دار هذا السؤال بعقله، و كاد فضوله أن يسأله مستفسرًا عن ما قالته" سعاد" خاصةً أنها أوصته عليها، لكنه ألتزم الصمت الآن لوجود الكثير من الناس حوله..
دار "فايز" بعينيه في المكان و هو يقول..
" بنتي!!.. صفا.. هي فين؟! و فين جدك.. فين الحج فؤاد "..
أخذ "جابر" نفس عميق و سار من جواره وقف مكانه أمام غرفة والدته ينتظر الإذن حتى يدخل يودعها الوداع الأخير..
"صفا واقفه على غُسل أمي"..
قالها بحسرة و بصوتٍ اختنق بالبكاء..
.............................................. سبحان الله العظيم.......
" سلسبيل"..
خرجت من المستشفى بعدما سمح "عبد الجبار" بذلك، تسير بضعف مستندة على "عفاف" التي تحاوطها بحنان، تلفتت حولها تبحث عن" جابر" فلم تجد له أثر، عقدت حاجبيها بتعجب مردفة..
"معقول جابر مشي يادادة؟!"..
حركت "عفاف" رأسها لها بالايجاب و هي تقول بأسف..
"جاله تليفون و أنا واقفه معاه بلغوه أن والدته تعبانه فقالي لازم أمشي"..
قالت "سلسبيل " بابتسامة " تخفي بها وجعها..
"خالتي خايفه عليه مني و عايزه تبعده عني بأي شكل و ده حقها أنا مش هلومها عليه ولا حتي زعلانه منها لأن محدش يقبل يشوف ابنه الوحيد بيجري ورا واحدة اتجوزت مرتين و قلبها مع واحد تاني ويوافق عليها.. مع إني خلاص بقيت رافضة الارتباط لا جابر ولا غيره "..
ترقرقت الدموع بعينيها لكنها كبحتها و منعتها من الهبوط على غير عادتها، و تابعت بقوة جديدة عليها كليًا..
" أنا استكفيت و جه الوقت اللي هختار فيه سلسبيل.. سلسبيل و بس"..
" الحقي يا سلسبيل..عبد الجبار بيه قاعد في عربيته هناك أهو "..
قالتها" عفاف " فور خروجهما من باب المستشفى، تطلعت "سلسبيل" حولها بلهفة تبحث عنه و قد تبخرت قوتها و أختفت نهائياً..
"عبد الجبار!!"..
همست بأسمه بنبرة يغلفها الحنين المتأوه، و هي تطلع نحوه باشتياق فاق كل الحدود ..
" الله !! أمال فين هختار سلسبيل وبس اللي لسه قايلها؟! "..
قالتها "عفاف" بجدية مصطنعة، و هي ترمقها بنظرة عابثة، عضت "سلسبيل" على شفتيها بخجل، و تنهدت بصوتٍ عال و هي تقول..
"أنا مديونة ل عبد الجبار بحاجات كتير أوي يا دادة.. و مدام هو طلقني و اختار أبلة خضرا فخليني أصلح اللي عملته في حقها لأني مديونة ليها هي كمان و حاسة إني غلطت لما قولتله على كلامها و تهددها ليا.. بصراحة كنت قاصدة أوقعها في شر أعمالها لأني غيرت عليه أنا كمان منها.. بس ربنا عاقبني و خلي عبد الجبار يطلقني أنا "..
أنهت حديثها، أخذت نفس عميق، و جذبت" عفاف" معاها تجاه طليقها، الذي قرر أن يوصلها بنفسه ليكون مطمئن عليها، كان يجلس داخل سيارته ممسك بيده هاتفها يتصفح فيه لحين خروجها، ليتفاجيء بكم هائل من الصور لهما سويًا كانت قد التقطتهم سلسبيل أثناء نومه وقتما كانوا بمنزلها الذي ابتاعه لها في الإسكندرية..
كانت الصور بأوضاع كثير مختلفة، تقبله، و تضمه بقوة، تختبيء داخل ضلوعه، تعالت وتيرة أنفاسه و خفق قلبه بجنون و هو يتأمل ملامحها بافتنان، و يستعيد لحظاتهما الحميمية معًا،
لينتبه على قدومها نحوه، فأسرع بإخفاء هاتفها بعدما قام بغلقه، و فتح باب سيارته، و نزل منها سار نحوها هو الأخر، رسمًا على وجهه الجمود قبل أن يصل إليها فهو بارع إلى حد كبير في إخفاء مشاعره،
رغم أن قلبه يتراقص فرحًا كلما تذكر بشارة الطبيبة له بحمل معشوقته، خبر حملها كان بريق النور الذي أضاء عتمة حياته و أعطاه القوة على تحمل كل ما يحدث معه..
و أخيرًا قطع المسافة التي تفصله عنها، يقف بطوله المُهيب أمامها مظهره ثابت و لكن كل ما بداخله يندفع إليها بشراهة،أما هي فقد فشلت فشل ذريع في إخفاء لهفتها، و شوقها إليه و نظرات العتاب التي ترمقه بها..
كور قبضة يده من نظرتها هذه التي تُزيد من لهيب قلبه المُتيم بها عشقًا،ساد الصمت بينهم طويلاً لم يستطيع أحدًا منهما قطعه، لتتنحنح "عفاف" و هي تبتعد بحذر عن "سلسبيل" مردفة بإحراج..
"اححم.. طيب يا سلسبيل يا بنتي أنا هروح أجيب عربيتي و أرجعلك"..
"هتروحي إسكندرية مع عفاف؟"..نطق بها "عبد الجبار"بصوته الأجش بعدما أبتعد بنظره عنها ليتمكن من إيجاد صوته..
أستجمعت "سلسبيل" قوتها، و هي تجيبه قائلة..
"أيوه هسافر معاها"..
سار من أمامها، و لف حول سيارته فتح باب المقعد المجاور له و هو يقول بلهجته الحادة..
" حصلينا بعربيتك يا عفاف.. أني رايد أتحدت مع سلسبيل هبابه"..
كان يتحدث و عينيه ثابته على "سلسبيل" يحثها على السير نحوه..
أنصاعت "عفاف" لحديثه على الفور خاصةً حين استمعت ل"سلسبيل" تقول..
"وأنا كمان عايزة أتكلم معاك يا عبد الجبار "..
قالتها و هي تخضع لرغبته، و تسير نحوه بخطي مُتعبة مستنده على سيارته بأناملها المرتعشة..
أصطك على أسنانه بقوة كاد أن يهشمها حين نطقت اسمه من بين شفتيها التي يدمنها، مرت من جواره قبل أن تميل قليلاً و تجلس على المقعد المجاور لمقعد السائق، كانت المسافة بينهما لا تُذكر لكنهما لا يتلامسان، أخذت "سلسبيل" نفس عميق تملأ رئتيها بأكبر قدر ممكن من رائحته التي تشعل جميع حواسها..
أستجمع شتات نفسه، تفنن في رسم الصلابه على قسمات وجهه بهيئة يُحسد عليها، و اتجه لمقعد السائق جلس عليه بجوارها مغمغمًا..
"ألبسي الحزام عشان هنخرج على الطريق السريع"..
سحبت "سلسبيل" الحزام حولها، لكنها لم تتمكن من أغلاقه لشدة توترها،بينما أشعل هو محرك السيارة و قاد بها متجه للطريق الحر مباشرةً خلفه سيارات الحراسة التي خصصها لها هي تحديدًا، و التي لم تنتبه لهم "سلسبيل" على الإطلاق، بل كانت منشغلة بأختلاس النظر إليه ..
"اتحددي أني سامعك".. أردف بها بهدوء دون النظر لها مما أحزنها كثيرًا، و جعل الدموع تلتمع بعينيها، لكنها سيطرت على مشاعرها سريعًا، و تحدثت بامتنان قائلة..
"عايزه أشكرك"..
جملتها هذه أجبارته على النظر لها، رمقها بنظرة متعجبة و هو يقول بتساؤل..
"تشكريني على أيه؟! "..
جاوبته بصوتها الناعم المبحوح قائلة..
"أشكرك على كل حاجة يا عبد الجبار.. على وقفتك جنبي و حمايتي من الكل و أولهم أبويا اللي لو كنت رفضت جوازك مني أنا متأكدة انه كان هيقتلني.. بشكرك على حنيتك عليا و على كل لحظة فرح عيشتها معاك.. بشكرك من جوه قلبي و بتمنالك كل خير وسعادة مع أبلة خضرا اللي عايزاك تبلغها إني بشكرها هي كمان و قولها سلسبيل بتتأسف لك على اللي عملته فيكي"..
كان يستمع لها باهتمام شديد رغم إظهاره عكس ذلك، رمقها بطرف عينيه مدمدمًا..
" اممم.. و ياترى أيه هو اللي عملتيه وياها؟! "..
صمتت للحظات قبل أن تجيبه بلهفة يملؤها العشق..
" طمعت فيك و في حبك و قلبك يا عبد الجبار "..
ما تفوهت به الآن جعلته يفقد السيطرة لوهلة على التركيز في الطريق أمامه، و كاد أن يصتطدم بسيارة تسير بجواره في حادث سير مروع لولا عناية الله و ستره عليهما..
أطلقت "سلسبيل" شهقة قوية و كادت أن ترتطم بالوجهة الأمامية للسيارة عندما فرمل "عبد الجبار" فجأة لولا أنه أمسك ذراعها بأحكام على أخر لحظة..
لم تكد تلتقط أنفاسها من أثر المفاجأة المفزعة، لتسمع صوته من جانبها ينطلق بلهجة خفيضة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..
"قولتلك ألبسي الحزام الطريق اهنة واعر"..
"معرفتش أقفله والله.. أنا أسفة"..همست بها بصوت مرتجف و هي تحاول غلق حزام الأمان بتوتر، و جسد ينتفض بوضوح..
نفخ"عبد الجبار" بضيق و أوقف سيارته بمكانٍ جانبي قليلًا على الطريق السريع خالٍ من الناس، و استدار نحوها أمسك هو الحزام يضعه حولها بنفسه فأصبح محاصرها بجزعه الضخم بين ذراعيه،
رغم حرصه الشديد حتي لا يلمسها إلا أن قربه منها إلى هذا الحد جعل أنفاسها علقت بصدرها، تطلع له بأعين هائمة، و كالمغيبة رفعت يدها و لمست بأصابعها ذقنه الكثيفه، هنا رفع وجهه لها بصدمة و تقابلت عينيهما حينها تزلزل كيانها كله دفعه واحده،
بينما هو يرمقها بنظرة جامدة و ملامح منذهلة من فعلتها الجريئة بالنسبة له، و هم بالابتعاد عنها لكنها أسرعت و أمسكت ياقة جلبابه، جذبته عليها أكثر حتي اختلطت أنفاسهما، و نظرت بعمق داخل عينيه و هي تقول بغصة مريرة يملؤها الأسى..
"أبلة خضرا بس اللي منعاني عنك"..
بكت بنحيب و تابعت بتقطع من بين شهقاتها..
"حاولت أدور على غلطة واحدة امسكها عليها تكون مبرر ليا أريح بيه ضميري لو ختك منها.. بس ملقتش.. معاملتها الطيبة معايا و حبها الصادق لكل اللي حواليها خلاني أدوس على قلبي اللي حبك و هبعد عنكم.. و بالذات عنك أنت يا عبد الجبار"..
لجم نفسه عنها بشق الأنفس حتى لا يضرب كل شيء عرض الحائط و ينهال عليها بقبلاته المتلهفة،لكن خوفه عليها أكبر من شوقه إليها..
" معاملتها الطيبة و حبها الصادق كيف و أنتي قولتيلي أنها رايده تقتلني!!"..
أردف بها بضحكة ساخرة و هو يبتعد عنها بالامبالاة مصطنعة..
قالت "سلسبيل" بتوتر بسبب قربها منه الذي بعثر مشاعرها.. "أكيد غيرتها عليك هي اللي خلتها توصل لكده و ليها حق في غيرتها دي الحقيقة.. و بما إننا بقي مستحيل نرجع لبعض وأنت أخترت مراتك و أم بناتك فحبيت أريح ضميري من ناحيتها عشان لما قولتلك على تهديدها كنت قاصدة اقلبك عليها و أبعدك عنها من غيرتي عليك أنا كمان"..
"مستحيل!! "..
الكلمة الوحيدة التي علق عليها في حديثها بأكمله، لتنظر هي له نظرة بدت جامدة مرددة بأسف..
" أيوه رجوعنا لبعض بقي مستحيل يا عبد الجبار و أنت أكيد عارف كده كويس أوي.. لأن وجودنا مع بعض مش هيبقي في راحة لحد أبدًا "..
" خلصتي حديتك!! "..
قالها بغضب من حديثها الذي يثير جنونه، فأجابته بتنهيدة وهي تعتدل بمقعدها بوضع أكثر راحة و تنظر إليه بشغف تحفر ملامحه بعقلها، و يدها تسللت ببطء نحو بطنها تمسد عليها بمنتهي الرفق و تدعو الله من صميم قلبها أن لا يخيب ظنها و تكون حامل في طفل منه يورث كل ملامحه بكل تفاصيلها..
"أسمعي بقي حديتي اللي هقوله ليكي دلوجيت و أفهميه زين"..
أردف بها بلهجة محذرة بثت الريبة بقلبها، و جعلتها تستمع له بكل آذانٍ صاغيه..
................................. سبحان الله وبحمده....
"خضرا"..
أستغلت غياب "بخيتة" التي ذهبت لتزور قبر إبنها المتوفي و أطلقت وابل من الزغاريط حين هاتفها "حسان" و أبلغها بالخبر الذي تتوق له منذ زمن، وهو طلاق سلسبيل من زوجها..
كانت الفرحة الحقيقية تغمرها و قد ظنت أن زوجها عاد لها من جديد، هدأت نيران قلبها المتآججة و انطفأت تمامًا..
"خلاص أكده مهمتك إنتهت و هبعتلك باقي أتعابك كيف ما أتفقنا"..
"أتعاب أيه اللي بتتحددي عنِها!! .. أني معوزش أتعاب"..
صاح "حسان" بغضب عارم أدهشها به فقالت مستفسرة..
"أمال رايد أيه؟!"..
أجابها بمنتهي الوقاحة و البجاحة معًا قائلاً بجراءة..
"رايدك أنتي تكوني ملكي بعد ما نخلص من راچلك و أبقى أني راچلك كيف ما اتمنيت يا خضرا"..
شهقت" خضرا" وجحظت عينيها بصدمة من تصريحه الغير متوقع مرددة..
" وه وه وه.. كانك اتچنيت إياك و نسيت بتتحدد ويا مين يا مخبل أنت!!"..
تحولت نبرة صوتها إلى أخرى غاضبة، و تحدثت بتهديد قائلة..
" فوق لنفسك و ألزم حدودك وياي أحسنلك.. أنت خابر زين إني أقدر أقطع لسانك و أخلص عليك كمان و اعمل حسابك تغور من أهنه و تعاود على البلد معوزاش أشوف خلقتك مرة تانية قبالي.. لو لمحت طيفك حتى هطوخك بالنار"..
أنهت حديثها و أغلقت الهاتف بوجهه دون عناء لإنتظار رده، و قامت بعدها بتحطيم الهاتف بأكمله و قامت بالتخلص منه بألقاءه في صندوق القمامة..
............................. لا إله إلا الله وحده لا شريك له..
" جابر"..
خانته دموعه و لم يتمكن من كبحها، و هو يميل على النعش الراقده بداخله والدته و هم بحمله على كتفه، ليتفاجيء بيد أخر شخص توقع وجوده الآن يميل معه و يمسك الجانب الأخر من النعش حملوه سويًا على أكتافهما، و سار برفقته بجانب بعضهما كلاً منهما ينظر للأخر نظرة اختفت منها الشررٍ المتطاير..
"البقاء لله وحده.. شد حيلك يا چاير"..
كان هذا صوت "عبد الجبار" الذي عاد له مسرعًا بعدما قام بتوصيل "سلسبيل" بنفسه لمنزلها بالإسكندرية...
↚
لا تخون أحدًا و لكن كن دومًا حريص، لا تعطي ثقتك العمياء لأي مخلوق حتى لا يأتي اليوم و يُصدمك بفعل كارثي يُندمك على ثقتك فيه..
مّرت ثلاثة أيام العزاء لم يترك "عبد الجبار" خلالهم "جابر" من كان يعتبره غريمه، ظل معه كتفًا بكتف في كل شيء، أظهر معدنه الأصيل له و شد من أزره خاصةً أنه كان في أشد لحظات ضعفه بعد موت والدته و مرض جده الشديد..
و أخيرًا عاد من المنصورة لمنزله بالقاهرة، عاد شخص آخر لم يتصور بيومٍ أن يكون هو بعدما علم بخيانة "حسان" من يعتبره ذراعه اليمين ملقي بإحدى مخازنه الآن يصارع الموت أثر الضرب المبرح الذي تلقاه منه كاد أن يزهق روحه لكنه تراجع بأخر لحظة ،
و الأدهي من ذلك ما راءه على هاتفه من رسائل و مكالمات بينه و بين زوجته "خضرا"، قام هذا الخائن بتسجيل كل اتفاقه معها، كان ينوي تهديدها و أجبارها على تنفيذ مطالبه فيما بعد، لكن "عبد الجبار" لم يترك له تلك الفرصة..
طيلة الأيام الماضية لم يتوقف عقله لحظة واحدة عن التفكير فيما فعلته "خضرا"، ببادئ الأمر كان غاضب منها لدرجة مخيفة، و أقسم لو رأها أمامه في تلك اللحظة لن يكتفي بطلاقها فقط بل سيصل به الأمر إلى قتلها!..
و لكن حين هدأت زروة غضبه، و فكر في الأمر من جميع الجوانب، تردد بعقله سؤال كانت إجابته هي التي أطفأت نيران غضبه المُدمرة..
من المخطيء الأساسي في كل ما حدث، و دفع خضرا إلى فعلتها الحمقاء هذه؟
الإجابة كانت هو! ، هو الذي سكب الزيت على النيران حين وضع زوجاته تحت سقف منزل واحد غير عابئ لغيرة أم ابنتيه التي كادت أن تحرق الأخضر واليابس و وصل بها الأمر إلى التفكير في قتله!
تزوج بها منذ أكثر من أثنى عشر عام، لم يرى منها إلا كل حُب و تقدير يعترف و يقر بذلك، تغيرها هذا وجد بعدما أمتلكت قلبه امراءة غيرها، رغم علمها أنه لم يكن قلبه لها من الأساس إلا أن اهتمامه و احتوائه كان لها وحدها قبل ظهور "سلسبيل" التي شقلبت حياته رأسًا على عقب،
لا أحد يستطيع أن يلومه على عشقه لها، فالقلوب ليس عليها سلطان، إذا هو أيضًا لن يستطيع لوم "خضرا" و معاتبتها على أفعالها المتهورة الناتجة عن غيرتها الحارقة عليه!
أسلم حل وصل إليه من وجهة نظره هو الصمت، إذا تحدث معاها فيما فعلته بكل تأكيد سينتهي بهما الأمر إلى الطلاق أقل شيء، و هو لا ولن يطلقها لخاطر ابنتيه، فضلهما على نفسه و عن رغبته و مراده، لأجلهما لن يبتعد عنها و سيظل محاوطهما بذراعيه مهما فعلت أمهما..
تنهد بصوتٍ يملؤه الوجع، و هو يتطلع لمنزله عبر زجاج سيارته، عاد بجسده فقط تاركًا قبله برفقة "سلسبيل" بالإسكندرية، يجاهد بشق الأنفس ليلجم شوقه لها الذي فاق الحدود، لو يتمنى شيئًا واحد في الوقت الحالي، بل في كل وقت هو ضمها بين ضلوعه، فاليعانقها الآن و يموت بعدها لن يمانع على الإطلاق..
استند برأسه على المقعد خلفه، و أطبق عينيه و عاد بذاكرته إلى أخر حديث بينه و بين "سلسبيل" التي أصبحت بكل أسف طليقته..
.. فلاش باااااااااااك...
تهللت أسارير "سلسبيل" حين صف "عبد الجبار" سيارته داخل حديقة المنزل الذي يطل على البحر مباشرةً، هذا المنزل الذي شهد على أول لحظاتها الزوجية معه، تطلعت له باهتمام تنتظر سماع ما سيقوله لها بلهفة، لعله يخبرها و لو بشيء واحد يثلج قلبها، و كم تتمنى لو يعرض عليها أن يردها لعصمته حتى لو بالسر، تستجديه بعينيها ليطلبها منها و هي على أتم الإستعداد بالموافقة، توافق على اي شيء يبقيها تحت جناحه، لن ترفض قربها منه مهما كلف منها الأمر..
انهارت كل أمالها حين استمعت لصوته الأجش يقول بهدوء رغم لهجته الحادة..
"مؤخرك و شبكتك و كل حقوقك موچودة في الخزنة اللي اهنه في بيتك و لو في أي حاچة تانيه أو أنتي رايدة أي شيء أني كفيل بيه"..
صمت لبرهة و تابع بفرحة غامرة أخفاها بمهارة..
"و الحاچة التانية دي أقصد بيها لو طلعتي حبلة مني.. معنى أكده إني هبجي متكفل بكل حاچة تخصك أنتي و اللي في بطنك"..
لم يريد أخبارها بخبر حملها حتى لا تظن بأنه ألقى عليها يمين طلاق و هي تحمل طفله أو طفلته و يزيد حزنها و وجعها منه أكثر، فضل الصمت كعادته و أيضًا يتشوق حتى يسمعها منها هي، سيكون لها فرحة خاصة حين تتفوه بها بشفتيها و تطرب بها أذنيه..
" أنت جايبني لحد بيتك هنا عشان تقولي الكلام ده؟! "..
غمغمت بها" سلسبيل " بغصة مريرة يملؤها الآسي، و تابعت بغضب دون أن تعطيه فرصة للرد عليها..
" متشكرة يا عبد الجبار بيه.. أنا هعيش مع دادة عفاف في بيتها و مش عايزة منك أي حاجة.. لا شبكة ولا مؤخر و لا أي فلوس و لا.. و لا حتي مكان يفكرني بيك و بذكريتنا سوا"..
همست بالاخيرة و هي تنتقل بنظرها تجاه المنزل و قد امتلئت عينيها بالدموع..
تحكم في غضبه الناتج عن حديثها المثير للأعصاب، و تحدث بنبرة أكثر لينًا قائلاً..
" كيف يا بت الناس يبجي عندِك بدل البيت أتنين في إسكندرية و مصر و تهمليهم و تروحي تعيشي مع واحده تعتبر غريبة عنك!!!"..
زمت "سلسبيل" شفتيها بطفولة خطفت أنفاس ذلك العاشق الذي يلجم نفسه عنها بصعوبة، و عقدت ذراعيها أمام صدرها و هي تقول..
"أنت عارف إن دادة عفاف بقت قريبة مني أوي و أنا مبعتبرهاش غريبة بالعكس بحس أنها أقرب ليا من أهلي كمان للأسف.. و البيت اللي بتتكلم عنه في مصر ده ميبقاش بيتي و لا عمره هيبقي بيتي لأنه بيت أبلة خضرا!"..
"وأني مقصدش بيت خضرا".. قالها و هو ينظر لها نظرته التي تُأثرها و تابع بابتسامة دافئة..
" أقصد بيتك أنتي.. اشتريته بأسمك يا سلسبيل "..
هبطت دمعة حارقة على وجنتيها مسحتها سريعًا و هي تهمس بخفوت..
" وليه كل ده يا عبد الجبار.. أنت خلاص طلقتني و أخترت أم بناتك.. ليه لسه بتعمل معايا كل ده؟!"..
كاد أن يفقد السيطرة على مشاعره المشحونة التي تعصف بداخله و تغير بصدره، و يخطفها بين ذراعيه بعناق متلهف يخبرها به مدى عشقه، و شوقه لها، و أنها هي وحدها ستظل دومًا بأعمق نقطه بقلبه، لكن خوفه عليها و على ابنتيه كان أكبر من كل شيء، بعاده عنها هذا لمصلحتها، لشعوره بأنها ممكن أن تُصاب بأذى إذا ظلت على ذمته..
تنهد تنهيدة حزينة و هو يجيبها دون النظر لعينيها قائلاً..
"ده حقك عليا.. و حد الله بيني و بين حقوق الولايه عشان أكده لازم تاخديه كامل"..
ساد الصمت بينهما طويلاً، كانت "سلسبيل" تطلع له بنظره لا ريب أصابته في صميم قلبه المُتيم بها عشقًا رغم أنه مصطنع اللامبالاة، و متعمد النظر بعيدًا عن عينيها..
"شكرًا.. شكرًا على كل حاجة يا عبد الجبار.. و ربنا يسعدك في حياتك "..
قالتها قبل أن تفتح باب السيارة و تغادرها على الفور بخطوات متعثرة متجهه داخل المنزل،
هرول هو خلفها مسرعًا حامل بيده حقيبة صغيرة،حتى توقف أمامها مباشرةً، أوقفها عن سيرها الشبيه بالركض، و جعلها تتوقف عن نوبة بكاءها الحاد، رسمت الجمود على ملامحها المتألمة ..
"ده تليفون بدل اللي اتسرق منِك في خط چديد عليه أرقامي كلها.. لو احتاچتي أيتها حاچة في أي وقت حدتيني طوالي هتلاقيني چارك"..
أنهى جملته و مد يده لها بالحقيبة وضعها بيدها دون أن يلمسها حتى بطرف أنامله، و رمقها بنظره وداع أخيرة قبل أن يسير على مضض من أمامها..
سار خطوة، أثنان، و في الثلاثة صدح صوتها تصرخ بأسمه صراخ مقهور يملؤه الحسرة و وجع الفراق الذي بدأ للتو يمزق قلبها مرددة بنبرة راحية..
"أستنى يا عبد الجبار.. متمشيش"..
كور قبضة يده بقوة حتى استمع لصوت أصابعه وكأنها تُكسر، بينما صوت كسر قلبه و قلبها كان أقوى، تسمر مكانه دون أن يستدير لها..
لحظات مرت كانت بالنسبة له كالأعوام، كانت تجاهد "سلسبيل" خلالهم لمنع نفسها عن ما تود فعله لكنها فشلت فشل ذريع،
و من دون تفكير كانت قطعت المسافة بينه وبينها و أرتمت بثقل جسدها علي ظهره ملتفه بكلتا ذراعيها حول خصره، و ضمته لها بكل ما أُتت من قوه و صوت بكاءها يقطع نياط القلوب، زلزلت كيانه كله دفعه واحده بفعلتها هذه رغم وقفته الثابتة ..
"هتوحشني.. هتوحشني أوي أوي "..
همست بها بتقطع من بين شهقاتها، كانت دافنه وجهها بظهره تقبله بحراره أذابت عظامه، أغرقت دموعها ثيابه، وقبل أن يستوعب ما تفعله كانت ابتعدت عنه و ركضت مسرعة أختفت داخل المنزل قبل حتى أن يلتفت..
شعر ببرودة تجتاح أوصاله فور ابتعادها عنه، و من ثم ألم حاد بصدره كاد أن يفتك به و كأنها خلعت قلبه من بين ضلوعه و أخذته معاها، تركته خاويًا جسد بلا قلب و روح..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاق من شروده على صوت والدته "بخيتة" تقف عند باب المنزل الداخلي مستندة على عكازها، و تنادي عليه بلهفة قائلة..
"عبد الچبار يا ولدي!!"..
أخذ نفس عميق قبل أن يغادر سيارته، و سار نحوها بخطواته الرزينه، و هيبته التي تُدخل على القلب السرور، ولكن قسمات و تعابير وجهه مختلفه، عينيه انطفأ رونقها و لم يبق بها سوي نظرة حزن ممزوجة بصلبته..
تأملته "بخيتة" بتفحص قليلاً، و من ثم قالت بعتاب لا يخلو من الغيظ و الغضب..
"طلقت سلسبيل.. طلقت البنتة الصغيرة مش أكده يا عبد الچبار ؟"..
"أيوه.. طلقت سلسبيل يا أمه.. هو ده الصُح.. چوازي على خضرا من لأول كان غلطة.. غلطة واعرة كانت هتحرم بناتي من أمهم.. و بناتي عندي أهم شيء بالدنيا كلها "..
قالها "عبد الجبار" بهدوء عكس ضجيج قلبه..
كانت "خضرا" مقبلة عليه تركض من الداخل فور سماع صوت حماتها تنطق بأسمه، فعلمت إنه عاد إليهم أخيرًا بعد فترة غياب لأول مرة يغيبها عليها هي و بناته..
تطلع نحوها بترقب، ملامحها عادت من جديد للطيبة و الحنو التي لطالما كانت تتحلى بهما، أختفت النظرة العدائية منها، و عادت زوجته كسابق عهدها قبل زواجه عليها، ملامحها مشرقة، و الفرحة تُشع من عينيها و هي تري زوجها فضلها هي و بناتها على غريمتها و عاد إليهم ثانيةً ..
"و أفرض سلسبيل طلعت حبله منِك!!"..
قالتها "بخيتة" بتمني شديد، و هي ترمق "خضرا" بنظرات نارية، سؤالها هذا جعل الدماء تنسحب من وجهه "خضرا" و بهتت ملامحها و هي تنتظر الإجابة يتفوه بها زوجها بنفاذ صبر..
"أطمني.. هي مش حبلة يا أم عبد الچبار"..
جملته هذه أكد بها ظن " بخيتة " و أصبحت على يقين الآن أن حفيدها في الطريق، و أن ولدها طلق "سلسبيل" خوفًا عليها هي و جنينها..
التقطت "خضرا" أنفاسها المقطوعة، و هرولت نحوه أرتمت داخل صدره تعانقه بلهفة و هي تقول..
"بركة إنك رچعت لنا يا خوي.. حمد لله على السلامة.. نورت دارك يا أبو فاطمة"..
سبتها " بخيتة" و لعنتها بأفظع الشتائم يسرها، و هي تسير بخطي غاضبة و قد استشاطت غيظًا منها،
لم يبادلها "عبد الجبار " عناقها هذا، و أكتفي برفع يده و ربت على كتفها بكفه ببعض القوة مرددًا بنبرة أثارت الريبه بقلبها..
" الله يسلمك يا غالية"..
ابتلعت" خضرا" لعابها بصعوبة، و ابتعدت عنه بتوتر، و نظرت تجاه سيارته، دارت بعينيها يمينًا و يسارًا وكأنها تبحث عن شيئًا ما، فضيق" عبد الجبار" عينيه و هو يسألها مستفسرًا..
"أيه.. مالك.. بدوري على حد و لا أيه؟!"..
زاد توترها و خوفها أكثر، و تأكدت أن" حسان" انكشف أمره، و ربما أمرها هي الأخرى، فستجمعت قوتها و جاوبته بشجاعة زائفة..
"أيوه.. الصراحة بدور على حسان.. لأچل ما أخليك تطرده.. معوزاش أشوف خلقته أهنه مرة تانية يا عبد الچبار "..
نظر لها نظره تحثها على استكمال حديثها، ففركت هي يديها ببعضهما و هي تقول بصوتٍ مرتجف يدل على مدى ذعرها..
"هقولك.. هحكيلك اللي حُصل"..
........................................ سبحان الله العظيم....
" سلسبيل "..
منذ أن جاءت إلى هذا المنزل، و هي لم تدلف لداخل الغرفة التي اختلي بها "عبد الجبار" فيها، لا تريد أن تدخلها بدونه، تقف أمام بابها و كلما مدت يدها تجاه المقبض تتراجع،
خلف هذا الباب هي عاشت معه أجمل و أروع مشاعر عشتها بعمرها بأكمله، لملمت شتات نفسها، و حبست أنفاسها قبل أن تفتح الباب ببطء و تدلف للداخل بخطي مرتعشة،
كل ركن في هذه الغرفة يشهد علي جنون من كان زوجها بها، تطلع للفراش الذي جمعهما سويًا بقلبٍ مقهور كلما تذكرت حنانه الذي كان يغرقها به، همساته، نظراته، عشقه لها..
أطلقت آهه نابعه من ألم قلبها و هي تهمس بإسمه..
"عبد الجبار فينك بس يا حبيبي"..
تقف شاردة بشرفتها التي تطل على البحر مباشرةً ، قادها قلبها وأجبرها إلى المكان الذي يحمل ذكرياتها الغالية برفقة من امتلكها قلبًا و قالبًا و وشم أسمه بأعمق نقطة بقلبها..
و رغم تلك الابتسامة التي تزين ملامحها الحزينة إلا أن عينيها تذرف الدموع بلا توقف،دموع حسرة، ألم، وحده ربما تكون كُتبت عليها بعدما ذاقت معني دفء العائلة و الأهل و الزوج الذي كان يغمرها دومًا بفيض من العشق و الغرام حتى لعب القدر لعبته معاها و خيرها بين خيارين أصعب من بعضهما، و كأن الحظ يُغار من الفتاة الجميلة فيتفق مع الدنيا عليها حتي يرهقها تمامًا،
"سلسبيل!!!!"..
نطقت بها "عفاف" التي دلفت للتو، و اقتربت منها تربت على ظهرها برفق، و ضمتها لصدرها بحنو و هي تقول بصرامة هادئة..
"أمسحي دموعك و كفايا حزن و بكى لحد كده.. أنتي دلوقتي سلسبيل القوية مش الضعيفة و أنا معاكي يا بنتي اطمني عمري ما هتخلي عنك أبدًا "..
ابعدتها عن حضنها قليلاً لتتمكن من احتضان وجهها بين كفيها، زالت عبراتها و تابعت بإصرار قائله..
"عايزاكي تفوقي و تركزي في مستقبلك.. أنتي هتكملي تعليمك يا سلسبيل في أحسن الجامعات و هتعملي بزنس و أنتي بتدرسي.. أنا عندي معارف كتير أوي و كلهم من الكبار في البلد و يتمنوا يخدموني.. هساعدك و هبقي في ضهرك لحد ما تقفي على رجلك و تبقي أكبر سيدة أعمال في مصر و برة مصر كمان"..
نظرت لها "سلسبيل" بصمت لدقيقة كاملة، و فجأة انفجرت في نوبة بكاء مرير، و بصعوبة بالغة همست من بين شهقاتها..
"داده عفاف هو أنا ممكن أقولك يا ماما !! "..
جذبتها" عفاف " لصدرها و عناقتها بلهفة متمتمة ببكاء هي الأخرى..
" من أول يوم شوفتك فيه وأنا حبيتك من جوه قلبي و الله و يعتبرك بنتي.. بنتي اللي مخلفتهاش يا سلسبيل و من انهارده أنا أمك يا ضنايا و أنتي بنتي و نور عيني و عوض ربنا ليا عن ولادي اللي ماتوا"..
"بس أنتي مش هتبقي ماما و بس"..قالتها "سلسبيل" بفرحة ظهرت بنبرة صوتها الباكي، و بخجل تابعت..
" شكلك كده هتبقي تيته كمان.. بس أنا لسه متأكدش"..
كادت أن تصرخ" عفاف" من شدة فرحتها بهذا الخبر، لكنها تمالكت نفسها بآخر لحظة، و تحدثت بحماس و فرحة حقيقية قائلة..
" خلينا نكلم أقرب صيدلية تبعتلنا إختبار حمل أعمليه و نتأكد يا حبيبتي.. بس تعالي الأول معايا عشان نستيني أقولك إن جابر إبن خالتك مستنياكي تحت و شكله حزين و مش طبيعي أبدًا عكس ما كنت متوقعة الصراحة!! "..
↚
إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم" وحين جاء الأعرابي يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وصية قال له " لا تغضب" وكررها ثلاث، تكرار من يشير إلى ضبط هذه الصفة، ضبطها فيما أحله الله،
فالكل شيء حد لا يجب أن يزيد أو يقل عنه حتى لا يتعدى الحد المطلوب ، و هو ألا يحملك غضبك على أن تكون ظالمًا، فتتبع السيئة بسيئة مثلها، و برغم أن "عبد الجبار" تمالك غضبه إلا أن حمية الرجل بداخله كانت تثور بغضب عارم وهو يستمع لإعتراف "خضرا" زوجته خاصةً حين قالت ..
"أني اتفاچأت ب حسان لما وافق ينقلي كل أخبارك مطلعش آمين يا عبد الچبار، و لو عليا أني معذورة الغيرة واعرة قوي ياخوي..و أنت لازم تغور حسان من أهنه.. ده خاين ملوش أمان أبدًا بعد اللي حُصل منه"..
كان سيرد عليها يخبرها أنها السبب فيما فعله، هي من فتحت باب لدخوله منه بينهما، هي من ساعدته على الخيانة بحديثها معه في السر، لكنه جاهد نفسه حتى لا يعميه غضبه ، و تحلي بالعقل والحكمة ، و الرشادة والفهم فكان مثال حي على العقل الناضج..
صامت لا يبدي أي رد فعل، يدرس ما كان وراء سلوك أنثاه حتى فعلت ما فعلت، عليه أن يستعمل الرحمة، عليه أن يراجع ذاكرته ليرى موازين أفعالها ، وأن لا يطيح بما فعلته تحت ضعف الذات، وضعف النفس، ووسوسة الشياطين، بيتا قائمًا، يُسمع فيه صوت ضحكات ابنتيه بفرحة غامرة فور علمهم بعودته، ركضوا تجاهه مسرعين ارتموا داخل حضنه !
هذا آكبر إنتصار للنفس بالنسبة له، إن أردت حياة سليمة عليك أن تحذف الغضب من قاموسك، و لكن العدل أن يأخذ كل إنسان حقه بلا جور ...
"اتوحشتك يا فاطمة أنتي وخيتك قوي"..
نطق بها و هو يضمهما لصدره بحنان العالم أجمع، تنعموا الفتاتان بحضن والدهما الدافيء الذي حاوطهما بحماية و أمان..
فالأنثى يجب أن تكون أميرة في بيت زوجها، ومهرها ليس هذا الذي يعطيه إياها من أموال، مهرها معاملتها !
فرمي و تجاوز ما مضى، واستبدل نبتة الغضب ، بنبتة تُسقى بالحب والرعاية والاهتمام والعدل !
العدل الذي يمنعه من الذهاب ل "سلسبيل" ليعتذر لها و يخبرها حقيقة شعوره فيما فعله معاها، يود أن يعترف لها بأن الغضب قد أعمى عينيه، و حمية النفس عن رؤية العدل و الإنصاف فاخطأ حين رأها مجبرة على الزواج منه في باديء الأمر و وافق هو على إتمام هذا الزواج !
أخطأ حين دفع زوجته "خضرا" لفعل ما فعلته بسبب عشقه الزائد لتلك الصغيرة، الضحية الوحيدة في لعبته على "خضرا" بشأن مرضها حتى يجبرها على الموافقة على زواجه منها، و لعبتة "خضرا" عليه فالزواج من إمرأة ظنت بأنها لن تقوى على الإنجاب!..
أعترف بخطأه هذا أخيرًا، و قرر عدم الإستمرار في ظلم" سلسبيل" آكثر من ذلك، فأعطاها حريتها خوفًا من أن يأتي يومًا تفوق فيه على حقيقة وضعها معه و تكتشف بأن ما تحمله له بقلبها لم يكن حُب على الإطلاق بل مجرد إحتياج، حينها ستكرهه و تكره حياتها معه و ستبتعد عنه للأبد بلا عودة، لذلك قام هو بإطلاق سراحها و أعطاها لأول مرة بعمرها حرية الأختيار،
فكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون و لكن هو لن ولم يستطيع أن يتوب عن عشقها..
"أني وأنتي أفضل عقاب لبعض يا خضرا"..
نطق بها بعدما تأكد من مغادرة ابنتيه الغرفة، وقف أمامها بطوله المهيب، ينظر لها نظرة جامدة خالية من المشاعر فبدت مخيفة للغاية بالنسبة لها، و تابع بابتسامة مصطنعة زادت من خوفها..
"الطعنة تچيني منك أنتي يا أم بناتي!..
كنتِ رايدة حسان يقتلني لو مطلقتش سلسبيل ؟! "..
بهتت ملامح " خضرا " و فتحت فمها لترد عليه لكنه لم يُتيح لها الفرصة، و تابع بلهجة لا تخفي غضبه المشحون أبدًا..
"و الخاين كان ناوي يقتلني حتى بعد ما طلقتها لولا أني سبقت و كشفت خيانته.. بس لازم تعرفي إن طلاقي لسلسبيل مش خوف منك لع.. ولا حتى خوف عليها.. أنتي خابرة زين إني أقدر احميها حتى بعد ما بقت مش على ذمتي.. أني طلقتها بس عشان مظلمهاش بنا أكتر من أكده.. لو في ضحية واحدة في كل اللي حُصل لغاية دلوجيت فهي سلسبيل.. ضحية لعبتنا القذرة أني و أنتي، و عشان أكده خرجتها من حياتي قبل ما يجي اليوم وأشوف في عنيها كرهها ليا و ندمها على چوازها مني.. ده اللي مهقدرش عليه واصل.. عندي ابعادها عن قلبي و هي عشقاني ولا تفضل چاري و هي كرهاني"..
صمت لبرهةً و تابع بأسف شديد..
" و هي لسه صغيرة و اللي عاشته في حياتها واعر قوي فقبلت بجوازها مني مغصوبة و اديني عطاتها حريتها لاچل ما تفكر زين هي رايدة أيه و رايدة مين يكون في حياتها اللي واثق أننا هنبقي براها أني و أنتي"..
قبض على عنقها فجأة بقبضة يده و دفعها بقوة حتى ألصقها بالحائط خلفها، كادت أن تلفظ أنفاسها من شدة خوفها و قوة ضغطه على عنقها، ليتحدث هو بغضب عارم قائلاً..
" أني أقدر اقتلك و ادفنك بيدي على عملتك المهببة دي يا خضرا و مافيش مخلوق هيلوم عليا.. لكن اللي منعني عنك بناتك.. بناتي بس اللي مربطين يدي و حيشني عنك"..
"حقك عليا يا خوي.. الغيرة مرارها واعر ونارها حرقت قلبي و عمت عنيا و خلتني اطلب من حسان الطلب العفش ده.. متزعلش مني يا عبد الچبار"..
قالتها بتقطع بنبرة متوسلة و هي تجاهد لتلتقط أنفاسها..
" اللي عملتيه يأكد إنك محبتنيش واصل ..أنتي بتحبي نفسك ياخضرا.. اللي بيحب حد يفديه بروحه مش يتفق على قتله!! "..
تركها على مضض بعدما رأي تدهور حالتها للاعياء الشديد و كادت أن تفقد وعيها أثر خنقه لها، لتشهق هي بقوة ساحبه أكبر قدر ممكن من الهواء تملأ به رئتيها، ليتابع هو بأمر..
" هتفضلي على ذمتي لخاطر بناتك.. لكن أنتي محرمة عليا و لو مش عچبك هطلقك دلوجيت بس لازم تعرفي زين إن طلاقك مش هيكون في مصلحة البنتة الصغار اللي كلها كام سنة و هيبقوا عرايس و يسألوكي عن سبب طلاقنا فكري هتقولي لهم كنتِ رايدة تقتلي أبوهم ليه.. و لو هما مسألوش الناس هتسأل و لو ملقوش إجابة هيخترعوا إجابة من عندهم و كلام الناس ياما و مهيخلصش.. القرار ليكِ و أي إن كان أني هنفذه"..
" طلاق لا.. أحب على يدك طلاق لا يا عبد الچبار.. هملني على ذمتك يا خوي و أني هعمل المستحيل لاچل ما ترضى عني و تسامحني على اللي عملته في حقك "..
لم ينظر لها،أكتفي بالصمت المُطعم بالتنهيد و هو ينظر للفراغ بشرود و حزن ظاهر بعينيه بعدما تأكد أنه كُتب عليه يعيش وجع الفراق عن معشوقة فؤاده..
................................ سبحان الله العظيم..
" سلسبيل "..
أجرت للتو اختبار حمل منزلي، و تأكدت أنها تحمل طفل "عبد الجبار" داخل أحشائها، ثمرة عشقها منه، فرحتها الحقيقية التي جعلتها تبكي و تذرف الدموع بغزارة، دموع الفرحة التي نادرًا ما تحياها..
"أنا حامل يا ماما عفاف؟ .. بالله أنتي متأكدة أن ده كده حمل؟! "..
همست بها بتقطع من بين شهقاتها الحادة، و هي تطلع لأختبار الحمل الصغير الذي يظهر به شرطتين دليل على وجود جنينها..
"اه والله حمل يا بنتي.. مبروك.. ألف مبروك يا حبيبتي"..
أردفت بها "عفاف" وهي تقبلها بحب من وجنتيها، و تضمها بلهفة لحضنها، ربتت على ظهرها بكف يدها كمحاولة منها لتهدئة حدة بكائها الذي كان يشق سكون المكان من حولها حتى أنه وصل لسمع "جابر" الذي كان ينتظرها في الخارج، مقدرًا حالتها و غيابها عليه كل تلك المدة..
" سلسبيل!! ".. نطق بها بصوته المتلهف قبل أن يدلف لداخل غرفة "عفاف" الخاصة عبر بابها المفتوح، ابتعدت "سلسبيل" عن حضن "عفاف" و تطلعت تجاه مصدر الصوت، لتشهق بخفوت من هيئة "جابر" التي بدت مزرية للغاية..
"أنتي كويسة؟!"..
قالها بأنفاس لاهثه أثر ركضه على الدرج و قطع المسافة بينه وبينها في خطوتين فقط حتى توقف أمامها مباشرةً، يتطلع لها بنظراته المُتيمة التي يملأها العشق و الإشتياق الأبدي لها ..
تأملت هيئته، لحيته الكثيفة الغير منمقة على غير عادته، عينيه الذابلة الحزينة، الإجهاد على ملامحه و كأنه لم يرى النوم منذ تركها لمنزله..
"أنا كويسة الحمد لله .. أنت اللي مالك يا جابر.. شكلك مش طبيعي.. في حاجة حصلت؟!"..
غمغمت بها "سلسبيل" بعدما سيطرت على حدة بكائها، رفعت يدها و زالت دموعها من علي وجنتيها..
حاول هو السيطرة على ضعفه أمامها إلا أن حزنه و ألمه لم يمهله، فتجمعت العبرات بعينيه أفزعتها و جعلتها تعاود البكاء من جديد متمتمة بصوتٍ مرتعش..
" جابر في أيه؟! "..
ابتلعت لعابها بصعوبة و تابعت بخوف..
"جدي جراله حاجة؟"..
حرك رأسه لها بالنفي، و همس بصوتٍ اختنق بالبكاء قائلاً..
"أمي.. أمي ماتت يا سلسبيل"..
شهقت بقوة و هي ترفع كفها تضعه على فمها، و تطلعت له بأعين جاحظة منذهلة غير مصدقة ما ألقاه على سمعها..
" أنت بتقول أيه.. خالتي ماتت!!.. إزاي و أمتي.. ده أنا سيبها كانت كويسة و مافيهاش أي حاجة!"..
لم يرد عليها، كان ينظر لها نظرة احتياج يملؤها الحزن، هو الآن في أصعب و أضعف حالته، أظهر ضعفه هذا لها هي وحدها، نظرته لها كانت تستجديها أن تتركه يضمها، و لو لمرة واحدة و يموت بعدها لن يمانع على الإطلاق، تفهمت هي نظرته جيدًا و ما يدور في خاطره، فتوترت و حاولت الفرار من أمامه إلا أنه لم يترك لها فرصة هذه المرة، و خطفها من خصرها دون سابق إنظار في عناق محموم دافنًا وجهه بعنقها، عينيه تذرف الدموع دون بكاء..
"سبيني أحضنك عشان خاطري يا سلسبيل ".. همس بها و هو يحتوي جسدها الصغير بين ذراعيه حتى رفعها عن الأرض تمامًا حين شعر بمحاولتها لأبعاده عنها..
"جابر!!"..
زاد من ضمها له، و أخذ نفس عميق يملأ رئتيه بعبقها قبل أن يجيبها بلهفة قائلاً..
"يا عيون و قلب جابر"..
" أنا حامل"..
شعرت بتصلب جسده حولها، ابتعد عنها ببطء حتى تقابلت أعينهما في نظرة طويلة كانت بالنسبة لها بمثابة نظرة النهاية، نهاية لقصة عشقهما التي لم تبدأ بعد..
↚
"بعد مرور 6 أشهر كاملة"..
وقت كان بالقدر الكافي لتغير كل شيء، هدنه للجميع ليتمكنوا من التفكير و إتخاذ القرار الصحيح..
داخل مبنى عملاق حديث الطراز يتكون من خمسة طوابق مصممة بعناية و دقة فائقة، بكل طابق مجموعة كبيرة من أكفأ العاملين و المتخصصين بمجال الدعاية و الإعلان، الكل يعمل على قدمًا و ساق ، خاصةً حين علموا بوصول مديرتهم شديدة الطباع ..
تأهب جميع العاملين، و انتصبوا واقفين في إنتظار دخولها من باب المبنى الرئيسي الذي توقف أمامه سرب من السيارات جميعهم من أحدث و أغلى الموديلات العالمية،
هبطوا طاقم الحراسة و حاوطوا السيارة بحماية، تلك السيارة التي تجلس بداخلها المدير العام لهذا المبنى الفخم، هرول قائد الحرس نحو الباب و فتحه لتهبط منه إمرأة في غاية الأناقة بثيابها التي تقوم بتصميمها هي بنفسها، كانت ترتدي فستان أسود طويل منقوش بفرشات من اللون الأبيض يظهر قوامها الممشوق و بروز بطنها التي بدأت في الظهور رغم أنها أوشكت على إنهاء شهرها السابع، چاكت قصير من نفس لو الفراشات و حجاب من اللون الأسود، زينتهم بحذاء رياضي و حقيبة يد صغيرة كلهما من اللون الأبيض، تخفي عينيها الجميلة بنظارة شمسية من أشهر الماركات..
أسرع إحدي أفراد الأمن بحمل حقيبة اللاب توب الخاص بها، بينما سارت هي بين طاقم الحرس بخطي واثقة، رافعة رأسها بشموخ يليق بها كثيرًا..
هذا المكان الذي زاع صيته خلال فترة قصيرة يقع تحت إدارة الديزينر المحترفة "سلسبيل القناوي" رغم حداثة سنها و خبرتها القليلة إلا أنها استطاعت أن تثبت براعتها و تفوقها في مجال الدعاية و الإعلان، فهي تقوم برسم جميع التصميمات بيدها مستغلة موهبتها الفريدة من نوعها..
"صباح الخير"..
قالتها "سلسبيل" و هي تمر من أمامهم متجهه نحو المصعد المؤدي لمكتبها..
"صباح الخير يا فندم"..
نطق بها جميع العاملين بنفس واحد..
خلعت نظارتها قبل أن تدلف لداخل المصعد لتتمكن من قراءة اليافتة المفضلة بالنسبة لها، و التي لا و لن تمل من قرائتها أبدًا..
شركة "السلسبيل" للدعاية و الإعلان..
" جابر وصل؟"..
أجابتها "صفا" سكرتيرتها الخاصة و التي أصبحت صديقتها المقربة أيضًا قائلة بعملية..
"جابر بيه بلغني أنه هيوصل على ميعاد الإجتماع يا سلسبيل هانم"..
جلست "سلسبيل" على مقعدها الجلدي بأريحية، و انتظرت حتى انصرف الجميع بعدما وضعوا الكثير من الملفات أمامها على المكتب يردون توقعيها عليهم، و ظلت هي و "صفا" بمفردهما..
لتهرول الأخيرة تجاه ثلاجة موضوعه بإحدى الجوانب، و فتحتها على عجل أخذت منها طبق من الفاكهة الطازجة و زجاجة من الماء و أخرى من العصير و ذهبت بهم نحو المكتب، أزاحت الملفات برفق و وضعتهم أمام "سلسبيل" التي تتابع ما تفعله بملامح جامدة، تغيرت شخصيتها تغير جذري، حتى أن ابتسامتها الرقيقة قد أختفت تمامًا و أصبحت شفتيها للحديث فقط..
"اممم.. أسيب ماما عفاف في البيت أجي هنا القيكي يا صفا؟!.. أنتي و هي مش وراكم أي حاجة غير أنكم تأكلوني ولا أيه!!"..
بدأت "صفا" في تقطيع ثمرة من التفاح ، و سكبت كوب كبير من عصير المانجو و أعطتهم لها و هي تقول..
"ماما عفاف قالتلي إنك مرضتيش تاكلي أي أكل في البيت عشان كده جبتلك شوية فاكهة و عصير فرش"..
ظهر التوتر على ملامح" سلسبيل "، و أبت أن تتذوق أي شيء مغمغمة بأسف..
" أنا مش هقدر أكل و لا أشرب أي حاجة طول ما أنا قلقانه .. فمتغصبيش عليا علشان متعبش و أنتي عارفة إن أجتماع انهاردة مهم أوي و مش هينفع أعتذر عنه خالص "..
تنهدت" صفا" بقلة حيلة فهي على يقين بأن "سلسبيل" لن تتراجع بكلمة تفوهت بها..
"يا سلسبيل أنا عارفة إن التيم اللي هيحضر إجتماع انهارده يبقوا أهم وكلاء لأكبر شركات في الشرق الأوسط و بدعيلك من قلبي والله ربنا يوفقك و شغلك يعجبهم عشان لو ده حصل هنبقي كسبنا أقوى صفقة في تاريخ الشركة خلال وقت قياسي بس كل ده مش هيبقي أغلى عندك من اللي في بطنك!! "..
مسدت" سلسبيل " على بطنها بكلتا يديها تتحسس حركة جنينها بلهفة و هي تقول ..
" مافيش في الدنيا كلها أغلى من اللي في بطني.. أنا كل اللي بعمله ده بعمله عشانه هو و بس"..
صوت طرقات على الباب جعلت" سلسبيل " تتأفف بضيق..
" صفا مش عايزة أشوف حد دلوقتي..مدخليش أي حد عندي لغاية معاد الإجتماع.. عايزة ألحق أراجع على التصميمات مراجعة أخيرة قبل وصول العملاء"..
غمغمت بها و هي ترتدي نظارتها الطبية التي زادتها وقار و هيبة، مدت يدها نحو حقيبة اللاب توب و تناولته و بدأت تتصفحه باهتمام و ملامح جادة، صارمة جديدة عليها كليًا..
انصرفت" صفا" من أمامها في الحال غالقة الباب خلفها، لتسند" سلسبيل " بظهرها على المقعد، و تطلعت حولها تتأمل مكانها المفضل، انتصبت واقفه و سارت تجاه النافذة الزجاجية الفاصلة بينها و بين العاملين تحت يدها، فور رؤيتهم لها، تأهب الجميع و ظهر الخوف عليهم و بدأو يعملون بجهد تجنبًا لنوبة غضبها المدمر..
كانت تطلع لهم بملامح خالية من المشاعر، فقط البرود، البرود التام أصبحت تتحلى به في الفترة الأخيرة، بينما بداخلها جمرات صغيرة من نيران حارقة خامدة أسفل الرماد..
كانت يدها تمسد بمنتهي الرفق على بطنها، و قلبها يتراقص فرحًا كلما شعرت بركلة من صغيرها،لفت زراعيها حول نفسها، و كأنها تحتضن طفلها بحنان العالم أجمع مرددة بفرحة غامرة..
"يا روح و قلب و حياة سلسبيل "..
............................... سبحان الله وبحمده......
.. بمنزل عبد الجبار..
الأجواء أسوء ما تكون، تبدل حال "عبد الجبار" للنقيض، كأن روحه تركت جسده بعد فراقه عن من ملكت قلبه، رغم أنه بارع في التحكم و السيطرة على مشاعره، إلا أن لسانه ينطق دائمًا بما يشغل عقله و قلبه دون أدنى إرادة منه، و هذا يثير جنون "خضرا" كثيرًا، خاصةً بعد هجره لها منذ ما يقارب السبعة أشهر..
اليوم قررت أن تكسر الحاجز الذي بناه بينه و بينها، و وقفت تنتظره على باب الحمام المواجهه للغرفة التي كانت تمكث بها غريمتها و التي أصبحت غرفة "عبد الجبار"..
فُتح باب الحمام و خرج هو بثيابه الداخليه، ممسكًا بيده منشفه قطنيه يجفف بها خصلات شعره الفاحم..
"خير؟واقفالي كيف الغفير ليه أكده عاد!!"..
قالها متعمد عدم نطق إسمها، فكلما نادي لأحد، لأي شخص كان لا ينطق لسانه سوي إسم ابنة قلبه "سلسبيل"..
مر من أمامها دلف لداخل غرفته، لتهرول "خضرا" خلفه مسرعة غالقة الباب خلفها، و دون سابق إنظار كانت ألقت نفسها داخل حضنه مرددة ببكاء..
"بكفياك.. بحلفك بالله بكفياك جفا و بعد لحد أكده يا عبد الچبار"..
قبلت كتفه مرات متتاليه صعودًا لعنقه مكملة بتوسل..
"كفاياك زعل مني يا خوي"..
كان "عبد الجبار" يقف كالصنم ، ينظر للفراغ بشرود،
فأنهت "خضرا" حديثها و أطبقت بشفتيها على شفتيه مستغله شروده هذا، في باديء الأمر كان لا يبادلها قبلتها هذه، و لكن بعد وقت ليس بقليل إنهال عليها فجأة بقبلة جامحة غالقًا عينيه، و يده تجذبها نحو الفراش، لحظات من الحميمية مّرت عليهما، كانت "خضرا" تظن أنها قد استرجعت رجلها أخيرًا..
لكن بكل آسف حتى بغيابها ستظل هي الحاضرة، رائحتها تملئ رئتيه، أنفاسها الساخنه تلفح بشرته تزيد لهيب عشقه و جنونه بها، خصلات شعرها الحريرية الطويلة تداعب وجهه تُرغم شفتيه على غمرها بسيل من القبلات المتلهفه، ملمس بشرتها الناعمة أسفل أنامله الخشنه تُطير اللُب من عقله تجعله يهمس أسمها بتنهيده حاره دون أدنى أراده منه، و كأنه فقد الكلام بأكمله و لا يتذكر منه سوي حروف اسم "سلسبيل!!!" فقط..
"أني خضرا جولتلك مليون مرة أني خضرا مش سلسبيل".. نطقت بها "خضرا" التي انتفضت مبتعده عنه بعنف ساحبه الغطاء عليها، تطلعت له لبرهةً بأعين جاحظة و ملامح يملؤها الوجع و الحسرة، بينما هو كانت ملامحه جامدة غير مبالي كعادته معاها مؤخرًا،
كان غضب "خضرا" آخذًا في التفاقم أساسًا منذ مدة، حتى فقدت السيطرة الآن فجأة فصرخت قائله بغصة يملؤها الأسى..
"طلقني.. طلقني يا عبد الچبار!!!!"..
و كأنه أستوعب للتو أن حبيبته ليست هنا، فنتفض هو الأخر كمن لدغه عقرب مبتعدًا عن الفراش بأكمله، لتطلع له "خضرا" بأعين تذرف الدمع مرددة بإصرار..
"طلقني يا عبد الچبار"..
نظر لها نظرة طويلة، و من ثم قال بهدوء يُحسد عليه..
"مصاريفك و مصاريف بناتي و كل حاچة تحتاچوها هتكون عنِدكم قبل حتى ما تطلبوها، و أنتي و البنته هتفضلوا أهنه في بيتكم ، و أني هاخد أمى و نمشي"..
صمت لبرهةً و تابع بصوته الأجش..
"أنتي طالق يا خضرا "..
↚
من هنا بداية كل شيء، داخل منزل "سلسبيل" الثاني بمحافظة القاهرة الذي أهداه إليها طليقها "عبد الجبار"، تقف "عفاف" المرأة التي أرسلها الله لتكون السند و الداعم القوي ل "سلسبيل"، ممسكة بيدها دفتر المواعيد الخاصة بمن أتخاذتها أبنه لها..
تنظم لها يومها بالدقيقة و الثانية بدقة متناهيه، تُدير لها مواعيدها كاملة داخل و خارج المنزل، جميع العاملين بالمنزل يأخذون الأوامر منها هي، بسبب انشغال "سلسبيل" الدائم بأخذ الكثير من الكورسات الخاصة باللغة العربية و الإنجليزية، كورس تصميم لتنمية مهاراتها في الرسم، و حتي أنها تتعلم أصول الاتيكيت أيضًا ..
"عايزه الكل يركز معايا لأن انهاردة يوم مهم بالنسبة ل سلسبيل هانم و إحتمال تتأخر في الشغل عشان كده كورس الانجليزي هيتأجل لبكرة و هيكون في نفس معاده الساعة 8 أصبح و هيخلص 9 و نص ، و طبعًا عارفين إن الهانم بتصحي 6 بالدقيقة بتخلص تمارينها 6 ونص، 7 إلا ربع يكون الفطار جاهز لأنها كده هتروح تطمن على الشغل بعد ما تخلص فطار و ترجع على معاد الكورس"..
صمتت لبرهةً و نظرت للدفتر بيدها مكملة ..
" متنسوش كمان انهارده معاد كورس الرسم هيكون الساعة 6 مساءً و هيخلص الساعة 8 يكون العشا جاهز لأن الهانم بتكون 8 ونص في السرير ده ميعاد نومها المعتاد"..
أبتسمت لهم وتابعت بود..
" أنا بفكركم كل يوم بمواعيد مدام سلسبيل عشان تثبت في دماغكم و محدش منكم ينساها.. و دلوقتي تقدروا تتفضلوا على شغلكم "..
أنهت حديثها، و أمسكت هاتفها طلبت إحدي الأرقام، و رفعت الهاتف على أذنها تنتظر الرد..
" صباح الخير يا دكتورة ..أنا عفاف والدة سلسبيل القناوي.. طمنيني يا دكتورة سلسبيل عاملة أيه معاكي؟ "..
" اهلاً وسهلاً يا مدام عفاف.. مش عارفه أقول لحضرتك أيه بس لازم أكون صريحة معاكي.. الحالة النفسية ل سلسبيل هانم سيئة جدًا بل من أسوء الحالات اللي مرت عليا، و برغم أنها دلوقتي بتمثل القوة لكنها أضعف مما هي نفسها تتخيل، عشان كده لازم يكون في رقابة عليها طول الوقت لأن جدار القوة المزيف اللي رسماه على شخصيتها ده ممكن ينهار في أي لحظة عشان كده أنا كنت برجح تفضل في المصحة على الأقل شهر تحت الملاحظة "..
ترقرقت العبرات بأعين" عفاف" و تحدثت بصوتٍ تحشرج بالبكاء قائلة..
" معقولة يا دكتورة حالتها متحسنتش خالص.. دي بقالها أكتر من 5 شهور متابعة معاكي و مفوتتش ولا جلسة واحدة! "..
" للأسف العلاج النفسي بياخد وقت و مجهود من المريض و من الطبيب المعالج كمان.. و حالة مدام سلسبيل عانت من الظلم و العنف لسنين طويلة مش هتتعافي من كل اللي عاشته ده في شهور قليلة"..
تنهدت" عفاف" بحزن و هي تقول..
" بس سلسبيل مستحيل توافق أنها تدخل مصحة نفسية خصوصًا بعد ارتباطها الشديد بشغلها "..
" يا مدام عفاف المصحة عندنا ليها فروع في كذا مكان جوه و برة مصر و مدام سلسبيل لو وافقت أنا هحجزلها في فرع المالديف أو في تايلند .. تعتبر نفسها في فترة استجمام، و هيكون عندها وقت كافي تستغل موهبتها في رسم المناظر الطبيعية الخلابة اللي هتكون حواليها و اللي هتساعدها كتير و تصفي ذهنها قبل ما تدخل في شهور الحمل الأخيرة "..
.............................. سبحان الله وبحمده...........
" عبد الجبار "..
ترك كل شيء حتى ثيابه تركها و أكتفي بأرتداء جلبابه، هذا الجلباب الذي كانت تختبئ بداخله" سلسبيل "من ينبض قلبه بأسمها، غادر الغرفة دون النظر ل" خضرا " التي لم تكف عينيها عن البكاء، تسيل عبراتها على وجنتيها بغزارة، و ما أصعب دموع الحسرة، تعرضت لأبشع موقف لا يمكن أن تتحمله أي أنثى..
"قومي معايا يا أمه خلينا نمشي من أهنه"..
قالها و هو يناولها عكازها يحثها على النهوض..
تطلعت له "بخيتة" بأعين متسعة على أخرها، لتنصدم بنظرة الضياع و الانكسار الطاهرين على وجهه الحزين..
"نمشي من أهنه نروح فين؟!.. أيه اللي حُصل.. مالك يا ولدي؟!"..
أطلق "عبد الجبار " زفرة نزقة من صدره و هو يقول "هقولك بعدين يا أمه.. بس أحب على يدك خلينا نمشي دلوجيت .. مطيقش أفضل أهنه"..
أطبق جفنيه و اصطك على أسنانه بقوة كاد أن يهشمها حين وصل لسمعه صوت ابنتيه الباكي..
"هتهملنا لحالنا و تمشي يا أبوي!!"..
جملتهما كانت كالسكين الحاد انغرس بمنتصف صدره، ركضا اثنانتهما نحوه و أرتموا داخل حضنه يبكيان بنجيب..
"أمي مهتزعلكش تاني واصل بس متهملناش يا بوي"..
"ما تفهمني أيه اللي حُصل يا عبد الچبار؟!"..
صاحت بها "بخيتة" و هي تضرب بعكازها على الأرض بغضب..
" أني هقولك يا أمه و متعشمة فيكِ تساعديني لخاطر البنته الصغيرين المعلقين بأبوهم و إني خابرة زين إنك تطيقي العما و لا تطقيني".. قالتها "خضرا" التي هبطت الدرج للتو، و وقفت أمامها تحاول السيطرة على حدة بكائها مكملة بغصة مريرة يملؤها الأسى..
" عبد الچبار طلقني"..
زادت حدة بكاء الصغيرتان، و تمسكوا بثياب والدهما بكل قوتهما، شعر" عبد الجبار " بالندم الشديد حين رأي مدى الخوف الظاهر بأعينهما..
"متهملناش يا عبد الچبار و إني أوعدك هنفذ اللي قولت لي عليه قبل سابق.. هعيش لبناتي بس سيبني على ذمتك عشان خاطرهم"..
أردفت بها "خضرا" بجمود مفاجيء ظهر على ملامحها المتألمة، بعدما توقفت عن البكاء بشق الأنفس..
"كلامها صُح ياولدي.. ردها على ذمتك لخاطر لحمنا يتربوا في حماك".. قالتها" بخيتة " رغم نظرات الغيظ و الكرهه التي ترمق بها" خضرا "..
رفع" عبد الجبار " يده و مسد على جبهته صعودًا لخصلات شعره الفاحم كاد أن يقتلعه من جذوره بسبب غضبه العارم ود لو أنفجر في "خضرا" و والدته بأنهما سبب أساسي لما وصل إليه الآن ، نظرته لهما كانت كفيله بأن يتفهموا ما يريد أخبارهما به، لكنه تمالك أعصابه لخاطر أبنتيه حتى لا يزيد خوفهما أكثر..
"بكفياكم بكى عاد.. أني عندي شغل مهم هخلصه و هعاود طوالي".. قالها و هو يزيح دموعهم بأنامله، و مال عليهما طبع قبله على وجنتهما مكملاً..
"أني مقدرش استغني عنك يا فاطمة و لا أقدر أعيش يوم واحد من غيرك يا حياة"..
ضمهما لصدره من جديد، لتهمس ابنته "فاطمة" داخل أذنه بتقطع من بين شهقاتها..
" يعني هتخلص شغل و تعاود طوالي صُح يا بوي؟ "..
ربت على ظهرهما بحنان و هو يقول..
"هعاود.. أطمني هعاود يا فاطمة"..
ظل محتويهما بين ذراعيه حتى هدأت نوبة بكائهما تمامًا، و من ثم بعدهما عنه برفق، و رمق" خضرا " و بخيتة" بنظرة أخيرة قبل أن يغادر المنزل بأكمله بخطي واسعة.
هرول إحدي حراسه بفتح باب السيارة الخلفي له، لكنه صعد بمقعد السائق مغمغمًا بأمر..
"معوزش حد معايا.. خليكم أهنه و فتحوا عنيكم زين، لو حُصل أي حاچة حدتني طوالي"..
لم ينتظر سماع رد على حديثه هذا، انفجر هدير محرك السيارة عاكسًا غضبه عليها، ليطير الغبار من الخلف بقوة لحظة إنطلاقها..
يسير بلا هوادة لا يعلم أين يذهب، يشعر لأول مرة بحياته بمعني كلمة الضياع، عاجز عن إتخاذ قرار صحيح منذ ابتعاد" سلسبيل " عنه، حياته بأكملها انقلبت رأسًا على عقب، لم و لن يستطع التأقلم مع غيابها..
يقر و يعترف أنه الآن أصبح ظالم، ظلم الجميع و أولهم نفسه..
و مع كل ما يمر به إلا أنه يشعر بالاشتياق الشديد لها، مهوس بها و بعشقها الذي استحوذ على قلبه، مال على ياقته و أخذ نفس عميق يمليء رئتيه بعبقها، فجلبابه مازالت معبأة بعطرها، المرأة الوحيدة التي حاكت من غضبه هدوء، ومن صخب شرقيته عزفت لحنًا حنون..
شوقه لها كالشمعة تذوب حتي تحولت لجمر شظاياه تجن كل مساء، بقي حديثها القليل معه عالقًا بروحه، أنفاسها تقيد نبضه، أما هو حزنه المهذب خلف ابتسامته يخجله، كم كان رجلًا يتباهى ولا يبالي، بذاك المساء الكئيب سكب الماء براحتيَّها، ضممته هي بقوة كي لا يضيع، و حين رفعت رأسها كانت كل أحلامها التي لم تقبض عليها يومًا ظنًا منها أنها لن تغيب ...تسربت، اختفت بعدما اتهامها بأن مشاعرها تجاهه لم تكن حُب من الأساس ، و أنه لن يردها لعصمته حتى بعد علمه بحملها، فعلته هذه كانت القشة التي قسمت ظهر البعير..
لن ينسى نظرتها له التي كانت تملؤها الخيبة، خيبة أملها فيه، تركته هذه المرة يواجه غروره بيدين خاويتين، يا متاهته لم تتركه هنا رجلًا يملك العالم كما كان معاها، بل تركته فأرًا يقضم الحيرة بمتاهة الشوق اللعين، يعاد بذهنه سؤال واحد يتردد بلا توقف، كيف يمضى الى حال سبيله و قدميه عالقة بأرضها؟..
فهو على يقين أنّ حتى لو اعتذرت الرياح، الغصن سيبقى مكسوراً..
أخرج هاتفها من جيبه، و ظل يتأمل صورتها به بأعين هائمة و قلبًا تحرقه نار الإشتياق ..
"اتوحشتك.. اتوحشتك قوي قوي يا سلسبيل يا بنت جلبي"..
صدح صوت رنين هاتفه، برقم شخص ينطبق عليه مثل ما محبه إلا بعد عداوة..
"أيوه يا چابر"..
أتاه صوت الأخر يقول بغيظ مصطنع..
"وآخرتها أيه يا عبد الجبار في عمايلك دي يعني؟!"..
"اممم.. أكده تبجي عرفت"..دمدم بها و هو يضحك باستفزاز مثير للأعصاب، استشاط" جابر"غيظًا و صاح به قائلاً..
"يعني فعلاً أنت شريك أساسي في كل الشركات اللي سلسبيل اتعاقدت معاهم من أول ما فتحنا الشركة؟!"..
أجابه" عبد الجبار "ببرود قائلاً..
"و الشركتين اللي هيحضروا الاچتماع معاكم انهاردة كمان"..
"كده بقى هتتكشف يا حلو لأن سلسبيل هتحضر إجتماع انهارده و مش هقولك هي بقت ذكية و لماحة إزاي الفترة اللي فاتت دي.. و مش بعيد أبدًا ترفض التعاقد مع العملاء بتوعك".. أردف بها" جابر " بثقة..
ضيق "عبد الجبار " عينيه و هو مازال يتطلع لصورتها عبر الهاتف، و تحدث بخبث قائلاً..
" حيث أكده يبجي اچي أحضر معاكم الاچتماع بنفسي لاچل ما أسمع وأشوف رفضها بعيني"..
....................................سبحان الله العظيم....
" سلسبيل"..
قضت وقتًا ليس بقليل منهمكة في مراجعة تصميماتها، طرقات على باب مكتبها يليها دخول "صفا" بخطي مهرولة، وقفت أمامها تفرك يديها ببعضهما..
" خير يا صفا.. و ايه الدوشة اللي بره دي؟! "..
قالتها "سلسبيل" دون النظر لها، ظلت تتابع شغلها بتركيز كبير ..
أجابتها "صفا" بأسف.. "في واحد برة مصمم يقابلك دلوقتي حالاً يا سلسبيل، و الإجتماع فاضل عليه ربع ساعة بس.. يعني العملاء على وصول"..
"اعتذريلوا و بلغيه ياخد معاد يجي فيه "..
قالتها" سلسبيل " و هي تعتدل بجلستها، و تخلع نظارتها الطبية، ليزداد صوت الشجار بالخارج أكثر، و بلحظة كان الباب انفتح عليهما و اقتحم المكتب أخر شخص تريد رؤيته الآن..
" مش هتحرك من أهنه المرادي قبل ما أشوف بنتي"..
كان هذا صوت" قناوي" الذي دب الرعب بأوصالها "سلسبيل "..
↚
"عبد الجبار"..
مّر بطريقه على متجر من أشهر المتاجر المخصصة ببيع جميع الأغراض الرجالي،خلال دقائق معدودة كان انتقي قميص أبيض اللون، سروال من الجينز الغامق، حذاء رياضي من اللون الأسود، نظارة شمسية سوداء من الماركة الشهيرة Tom Ford Ace ،ساعة حول معصمة من Tag Heuer،
ارتداهم على عجل، و من ثم نثر عطره المفضل Dior Sauvage بغزارة و غادر على الفور غير عابيء لدفع تمن ما أخذه، فهذا المكان من ضمن ممتلكاته الخاصة..
صدح صوت هاتفه برقم رئيس الحرس الخاص بمعذبة فؤاده "سلسبيل"، خفق قلبه بشدة و هو يضغط على زر الفتح قائلاً بلهفة..
"أيه الأخبار عندك؟!"..
أتاه صوت الأخر يتحدث بأسف..
"عبد الجبار باشا.. محمد القناوي والد سلسبيل هانم وصل هنا في الشركة و صمم يقابل الهانم و هو فوق عندها في المكتب دلوقتي"..
"چابر وصل عندك و لا لاء؟ ".. قالها و هو يقفز داخل سيارته، و قادها بأقصى سرعة ممكنة..
" لا يا باشا مش هنا و أنا لسه مبلغتهوش، بلغت سيادتك الأول "..
زمجر " عبد الجبار " بصوتٍ مخيف يدل على غضبه العارم، و قد شعر بالذعر على صغيرته و جنينه من بطش والدها الظالم..
" اسمعني زين..لو قناوي مَس شعره منِها طُخه بالنار.. و اللي خلق الخلق لو حاچة حُصلت للهانم مهيكفنيش رقباتكم كلكم"..
أنهى حديثه و ألقى الهاتف من يده، و ذاد من سرعته أكثر يتمني لو يستطيع التحليق و مسابقة الرياح حتى يصل إليها..
ليرن الهاتف من جديد هذه المرة برقم" جابر"..
" أنت فين يا بني آدم أنت؟! "..
قالها" عبد الجبار "بعدما لكم الهاتف بكف يده لكمه كادت أن تهشمه لاشلاء من قوتها..
أجابه "جابر" بأنفاس لاهثه.. "أنا داخل الشركة أهو"..
أردف "عبد الجبار" بلهجة جادة..
"بلغ قناوي أني چاي في الطريق، و لو لقيته عندك هضربه بالنار.. سامعني يا چابر.. هضربه بالنار"..
................................. سبحان الله العظيم.....
" سلسبيل "..
مع مرور الوقت كل شيء يتحول إلى ماضي إلا اللحظة التي ينكسر بها قلبك تبقى حاضرة إلى الأبد، و الآن يقف أمامها أول شخص كسرها و خذلها طيلة حياتها..
تلك المقابلة كانت تتهيأ لها منذ خمسة أشهر، وافقت "عفاف" حين اقترحت عليها الذهاب إلى دكتورة نفسية حتى تتمكن من التغلب على جميع مخاوفها، و أولهم خوفها الأكبر من المسمى بوالدها..
كان "قناوي" في قمة غضبه، مما جعله يهجم عليها دون سابق إنظار مغمغمًا بوحشية..
"أطلقتي يا هملة.. عملتي اللي على كيفك و أطلقتي من غير علمي يا واكله ناسك؟! "..
كاد أن يصفعها على وجنتيها بمنتهي القسوة ، لكنها كانت أسرع منه و قامت بنثر رزاز على وجهه عبر بخاخة صغيرة، شوشت رؤيته و سببت له دوار قوي للغاية كاد أن يسقط أرضًا بسببه، أجبره على الجلوس على أقرب مقعد ممسكًا رأسه بكف يده ..
"مرحب يا بوي!! "..
تفوهت بها" سلسبيل " ببرود ثلجي تُحسد عليه، لم تتحرك من مكانها ولو انش واحد، ظلت جالسة على مقعدها خلف مكتبها، و أشارت لجميع الواقفين من الحرس بالانصراف مرددة..
"أخرجوا و اقفلوا الباب وراكم و محدش يدخل عندي هنا دلوقتي خالص"..
نفذ الجميع أوامرها في الحال، و خرجوا واحد تلو الأخر حتى بقت هي ووالدها بمفردهما، تراخي جسد "قناوي" على المقعد، و شعر بالدنيا تومض من حوله، فرمقها بنظرة زائغة، و همس بصوتٍ مرتجف قائلاً..
"أنتي عملتي فيا أيه يا بت المركوب القديم؟! "..
أبتسمت له إبتسامة مصطنعه، بدت مخيفة أثارت الريبه بنفس "قناوي"، و تحدثت بهدوء ما قبل العاصفة قائلة..
"دفعت عن نفسي من ظلمك لأول مرة في عمري.. أصل اللي قعدة قدامك دي سلسبيل تانية غير اللي كنت أنت بتضربها بالكرباچ"..
" ااه مقدرش. مقدرش أقوم على حيلي واصل.. انطقي عملتي فيا أيه يا بت الك**"..
قالها بصعوبة وحين شعر بثقل لسانه الشديد..
"أنا معملتش فيك أي حاجة.. من يوم ما شوفتك و عرفت إنك أبويا وأنت اللي بتعمل فيا حاجات"..
رفعت يدها، و بدأت تعد على أصابع يدها..
" ذلتني.. كسرتني.. هنتني.. ضربتني.. غصبتني على الجواز.. ورتني العذاب على كل شكل و لون، و جاي دلوقتي فاكر إنك هتقدر تضربني تاني.. فاكرني هفضل ضعيفة و مدفعش عن نفسي؟! "..
نظر لها بأعين شبه مغلقة و قال بضعف..
" أنى عملت فيكِ أكده لاچل ما اربيكي زين.. كيف ما أهلنا علمونا و تقاليدنا بتقول أكسر للبنتة ضلع يطلع لها أربعة و عشرين"..
" و أنت مش بس كسرت ضلوعي كلهاااا.. لا أنت قتلتني بالحيا.. دمرتني و كرهتني في نفسي و في الدنيا كلهاااا "..
قالتها بصراخ مقهور دون بكاء، كانت متماسكة لأقصى درجة، أخذت نفس عميق زفرته على مهلٍ قبل أن تتابع..
"أرجع البلد يا بوي وقول للناس بنتي سلسبيل ماتت و خد عزايا لأني مش هعمل اللي في دماغك و أرجع ل عبد الجبار.. طلاقي منه اللي مزعلك أوي ده أحسن حاجة حصلت لي لحد دلوقتي.. هو السبب و صاحب الفضل أني أقوى بالشكل ده و أحقق هدفي و حلمي اللي عمري ما تخيلت إني أحققه"..
صمتت لبرهةً و أكملت بغصة يملؤها الأسى..
" و لازم تبقي عارف كمان أني عمري ما هسامحك على اللي عملته في أمي و فيا.. عمري ما هسامحك يا بوي"..
كانت أخر جملة وصلت لسمع" قناوي " زلزلت قلبه قبل أن يغلق عينيه و غرق في نومًا عميق..
تطلعت له قليلاً بأعين تحجرت بها العبرات، و من ثم ضغطت على زر بجواره، فهرولوا رجال الأمن إليها مسرعين..
" شيلوه من هنا و أخرجوا بيه من باب الشركة الخلفي و بلغوا حد من السواقين يوديه الصعيد ، و لما يفوق في أي وقت ابقوا طمنوني "..
حملوه في التو و اللحظة، و ساروا به لخارج المكتب تزامنًا مع دخول "جابر" مندفعًا، ليتسمر مكانه بصدمة حين وقعت عينيه على "قناوي" المحمول على أيدي أفراد الأمن، يبدو أنه فاقد الوعي تمامًا..
بقي مكانه للحظات، يقف بصمت يتنقل بعينيه بين"سلسبيل " و والدها حتى أختفي من أمامهم..
"اممم.. فاضل على الإجتماع 3 دقايق.. كويس إنك متأخرش يا جابر"..دمدمت بها "سلسبيل" و هي تنهض بتمهل من مقعدها و سارت بخطي جاهدت حتى تجعلها متزنة..
"أيه اللي حصل يا سلسبيل؟!"..تساءل "جابر" بقلقٍ جم..
تنهدت "سلسبيل" و هي تجيبه بجمود..
"مش وقته من فضلك يا جابر.. العملاء على وصول و لازم نكون في استقبالهم بنفس!.. "..
قطعت حديثها فجأة حين داعبت حواسها رائحة عطر تحفظها عن ظهر قلب..
رباه!!!.. من المؤكد أنه هنا، تشعر بأنفاسه تحاوطها، دقات قلبه يصل صدي صوتها إلى أذنها، تلاحقت أنفاسها، و انتفض بدنها كله دفعة واحدة حين سمعت صوته المُدمر ينطق إسمها بلهفة من بين أنفاسه المتقطعة..
"سلسبيل!!!"..
كتمت أنفاسها قبل أن تستدير ببطء، و تقابلت أعينهما بعد فراق دام لشهور، حينها شعرت بنصهارها كالشمعة من شدة إشتياقها له،يقف أمامها بطوله المُهيب، جذبيته الساحرة، هيبته، و وقاره كان مثالاً حي للأغواء و الفتنة..
"أهلاً مستر عبد الجبار"..
نطقت بها "سلسبيل" بعملية باحته، و ملامح نجحت في إخفاء مشاعرها تجاهه ببراعة، لكن قلبها خذلها و لم يتوقف عن الأرتجاف بين ضلوعها،
بينما وقف "عبد الجبار" مشدوهًا، يتطلع لها بصدمة من تغيرها الذي أذهله مرردًا بتعجب و هو يتنقل بعينيه بينها و بين" جابر "الذي لم يستطيع السيطرة على ضحكاته..
"مستر!! بجي أنا يتقالي مستر عبد الچبار؟! "..
"الصراحة مستر و عبد الچبار مش لايقين علي بعض خالص".. قالها "جابر " و هو يقهقه بصوتٍ عالِ، جعل "عبد الجبار" يرمقه بنظرة سامة..
"اتفضلوا على قاعة الاجتماعات".. قالتها" سلسبيل" مقاطعة إياهم بلهجة صارمة و هي تشير لهما على غرفة مقابل مكتبها..
كان" عبد الجبار " يتطلع لها بفم مفتوح على وسعه من شدة ذهوله من طريقتها الجديدة عليه و عليها كليًا، و تحدث مستفسرًا..
" وانتي عرفتي كيف أني چاي أحضر الاچتماع وياكم؟! "..
" و هو في شريك أساسي يملك أكتر من نص أسهم الشركة ميحضرش اجتماع مهم زي ده ؟! ".. قالتها دون النظر له، مثلت انشغالها بالنظر في ملف موضوع أمامها على المكتب، ومن ثم رفعت رأسها و أبتسمت له إبتسامة خبيثه مكملة..
"نورت شركتك يا عبد الجبار باشا!!! "..
↚
داخل غرفة الاجتماعات انقضي وقت طويل كان الجميع منهمكين بالعمل بكل ما يملكون من تركيز، لكنهم لم يستطيعوا الوصول لإحترافية "عبد الجبار" التي ادهشتهم و أبهارتهم في آنٍ واحد فتمكنه في مجال إدارة الأعمال فاق الحدود..
كل منهم يحاول إظهار أفضل ما عنده حتى ينال إعجابه، خاصةً "سلسبيل"، عرضت تصميمتها التي قامت برسمهم بدقة و إتقان شديد، و مع مرور الوقت بدأت تشعر بالإرهاق، و الجوع معًا، فمسدت على بروز بطنها بكف يدها بمنتهي الرفق، أطلقت آهه خافتة لم تصل لسمع أحدًا سواه فتفهم على الفور ما تشعر به رغم أنه لم ينظر لها و لو لمرة واحدة..
بينما هي استغلت انشغاله بفحص الملفات المقدمة له، و ظلت تتأمل كل أنش فيه بملامح جامدة عكس الإشتياق و اللهفة اللتان يملئان قلبها المُتيم به، تحفر بداخلها ملامحه و قسمات وجهه الوسيم بأعين يتطاير منها الفرحة الغامرة بوجوده هنا معاها،لتداهمها ذكرى يوم طلاقها منه، و حديثه معاها أثناء طريقهم نحو منزلها في الإسكندرية..
.. فلاش باااااااااااك..
"اسمعي حديتي و أفهميه زين يا سلسبيل"..
نظرت له باهتمام تنتظر سماع باقي حديثه بنفاذ صبر..
أخذ "عبد الجبار" نفس عميق زفره على مهلٍ مغمغمًا..
"أني طلقتك مش عشان قولتيلي يا أنا يا أم بناتك لع، أنا خابر زين إنك قولتي أكده و صممتي على الطلاق من خوفك عليا من تهديد خضرا اللي قالتلك هتقتلني لو فضلتي على ذمتي"..
رباه!!!
أنه على علم بكل شيء حدث بينها و بين ضرتها! ، كيف علم، من أخبره، و لما طلقها إذن؟!، دارت هذه الأسئلة برأسها لكنها لم تستطع النطق بحرف واحد، بقت تطلع له بأعين جاحظة، منذهلة..
تنحنحت كمحاولة منها لإيجاد صوتها الذي خرج مرتعش و هي تقول مستفسرة..
" أنت عرفت كل ده إزاي؟ و لما عرفت طلقتني أنا ليه و سبت على ذمتك اللي عايزة تقتلك؟!"..
أجابها "عبد الجبار" بملامح حزينة يملؤها الأسف الشديد..
"عرفت من بتي فاطمة.. شافت أمها و هي بتحط منوم ليكم في الوكل.. عملت أنها كلت و نامت زي أختها و أمي بس هي كانت صاحية و سمعت كل حديتها وياكِ و قالتلي على كل اللي حُصل بعد ما وعدتها مأذيش أمها "..
صمت لبرهةً يلتقط أنفاسه و نظر لها بعينيه التي تذوب بتفاصيلها مكملاً بصوته الأجش ..
" و سبت اللي عايزة تطلقني على ذمتي لخاطر بناتي، وطلقتك أنتي يا سلسبيل عشان ده الصُح اللي كان لازم أعمله من الأول.. أنتي ضحية لينا كلنا.. أبوكي، أمي، أخوي الله يرحمه و يسامحه، خضرا، و إني كمان صممت اتچوزك و أني خابر إنك مبتحبنيش و مچبورة على چوازك مني"..
"و مين بس قالك إني مبحبكش؟! ".. أردفت بها و هي ترفع يدها و تضم وجهه بين كفيها الصغيران، و أصابعها تتحسس لحيته بشغف مكملة بعشق..
" ده أنا اعترفلك إنك كنت حلم بالنسبالي، و أمنيتي اللي مكنتش أتوقع أنها تتحقق.. أنا مش بس بحبك.. أنا بعشقك يا عبد الجبار "..
ختمت حديثها و مالت برأسها على صدره بعدما توقت عنقه بذراعيها..
"عشقك ليا ده وهم و هيجي عليكي الوقت و توفقي منه، و وقتها هتكرهيني و تكرهي اليوم اللي شوفتيني فيه، و أني الموت أهون عندي من نظرة كرهه ألمحها في عيونك يا بت جلبي، عشان أكده بحرم روحي منك دلوقتي قبل ما يچي الوقت اللي تحرميني أنتي فيه منك للأبد، لأني واثق إنك لما تفكري في حديتي ده زين هتلاقي عندي حق، وقتها هتحترميني و مش هتقطعي الوصل بنتنا، لكن لو لقيتي قلبك و عقلك متعلقين بيا كيف ما أني متعلق بيكي، و رايداني أردك على ذمتي مرة تانية لازم تكون بأرادك الكاملة ، من غير ضغط و إچبار من أي مخلوق يا سلسبيل"..
ابتعدت عنه و تطلعت له بأعين دامعة، و بهمس عاتبته قائلة..
" بعد كل اللي عشناه سوا، بتشكك في حبي ليك يا عبد الجبار؟!"..
حرك رأسه لها بالنفي سريعًا، و جذبها من خصرها داخل حضنه بلهفة..
" أني واثق من حبي ليكي.. لكن اللي جواكي من ناحيتي مجرد احتياج و بس مش حب، و أنا وفرتلك كل سُبل الحماية و الأمان اللي أنتي محتاجهم، لما تتعودي عليهم هتقدري ساعتها تعرفي إحساسك من چهتي أيه بالظبط، و أي إن كان قرارك أني هحترمه و هقدر يا سلسبيل "..
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاقت من تلك الذكرى على صوته ينادي عليها بقلق حين لمح العبرات تترقرق بعينيها الفاتنة التي تسحره بجمالها..
" سلسبيل أنتي زينة؟! "..
" اه كويسة.. كملوا شغل".. قالتها بأقتضاب و هي تنظر لملف موضوع أمامها، فرحتها الغامرة بحضوره التي تزين ملامحها أصبحت ممزوجة بالغضب و الغيظ أخفي فرحتها هذه حين تذكرت رفضه القاطع بردها على ذمته بعد علمه بأنها حامل منه لا يريد أن يكون بينهما رابط يجبرهما على العودة لبعضهما، يريدها كما قال بكامل إرادتها، حتى وصل به الأمر يطلب منها تقولها له صريحة، تخبره بكل ما تملك من جرئة أنها تريده زوجًا لها و هذا لا و لن تسمح لها كرامتها و لا كبريائها بفعله..
كل هذا تحت نظرات "جابر" الذي يتابعها بصمتٍ، و إبتسامة دافئة..
لا يريد أي شيء أخر غير أن يراها قوية، و تحيا حياة سعيدة حتى لو كانت سعادتها هذه مع غيره، منذ اللحظة التي أخبرته فيها بحملها و هو أيقن أنهما لن يتقابلان على طريق الحب أبدًا، و رغم هذا تعهد بحمايتها و دعمها لأنها ستظل صغيرته "سلسبيل"..
"خلينا ناخد ساعة راحة، و نعاود للشغل مرة تانية"..
قالها "عبد الجبار" و هو يرفع رأسه أخيرًا و ينظر تجاه معذبته التي ابتعدت مسرعة بعينيها عنه و مثلت إنشغالها بالأوراق أمامها..
نهض جميع الحضور من بينهم "جابر" الذي تحدث بعملية و هو يتنقل بين "سلسبيل " و" عبد الجبار "قائلاً..
"مدام الشغل مطول كده يبقي نطلب غدا.. تحبوا تاكلوا حاجة معينة ؟ "..
" عايزة بيتزا ميكس جبن يا جابر لو سمحت"..
قالتها "سلسبيل" بصوتها الهامس الرقيق، و هي تعتدل على مقعدها بوضع أكثر راحة، و رمقة "عبد الجبار" بنظرة خاطفة مكملة بابتسامة مصطنعة..
" و وصل مستر عبد الجبار لمكتبه الجديد اللي صممت كل ديكوره بنفسي"..
ذادت ابتسامتها اتساع، و تطلعت له بنظرة بدت باردة و تابعت بثقة..
"تصميمه مش هيعجبك.. بس هو عاجبني أنا و ده المهم"..
كتم "جابر" ابتسامته على طريقتها التي تثير جنون ذلك العاشق الملتزم بالصمت ، لم يتفوه بكلمة واحدة، أكتفي بالنظر للعاملين المرافقين لهم نظرة يخبرهم بها أن يتركوهم بمفردهم، و بالفعل بدأ الجميع يغادرون المكان واحد تلو الأخر..
"طيب يلا بينا يا عبد الجبار أوصلك لمكتبك و بعدها هطلب الأكل.. أطلب لك بيتزا أنت كمان و لا تقضيها سندوتشات زيي؟ ".. قالها" جابر" الذي نهض من مكانه و سار تجاه الباب..
"أطلب أي وكل مش هيفرق"..
نطق بها "عبد الجبار" و هو ينهض أيضًا، سار خلفه بخطوات هادئة أثارت الريبة بقلب تلك الجالسة جعل قلبها ينتفض أكثر بين ضلوعها خاصةً حين وجدته يغلق الباب عليهما بعدما خرج"جابر" مباشرةً..
" و ده إسمه أيه ده إن شاء الله يا مستر؟!".
قالتها بثبات تُحسد عليه عكس انصهارها و ذوبان عظامها..
"أني طلقت خضرا يا سلسبيل"..
قالها بغصة مريرة يملؤها الوجع، جملته هذه هزت كيانها كله، و أصابتها بصدمة للحظات قليلة، رسمت بعدها الجمود على محياها و هي تقول بلامبالاة..
" طلاقك لأبلة خضرا ميخصنيش.. دي حياتك و أنت حر فيها"..
قطع المسافة بينه و بينها في خطوتان فقط، حتى توقف أمامها مباشرةً المسافة بينهما لا تُذكر لكنهما لا يتلامسان..
"اتوحشتك قوي قوي يا حبة القلب"..
قالها و هو يرمقها بنظراته التي يشتعل بها نيران شوقه إليها..
أنهارت كل قوتها المزيفة بلمح البصر، توردت وجنتيها بحمرة الخجل، و نظرت له نظره يملؤها الحب مرددة بتنهيدة كالمغيبة..
"و أنت؟!"..
لم تُكمل حديثها، و كأنها أستعادة وعيها سريعًا..
"وأنت لا.. موحشتنيش خالص يا عبد الجبار "..
رفع حاجبيه معًا و تطلع لها بابتسامة عابثة، و من ثم رفع أكمام قميصه عن معصميه، و فتح أول أزراره ليظهر بداية صدره العريض أمام عينيها المُتيمة به، حينها تردد بقلبها سؤال واحد فقط..
كيف حال الدفء على صدره؟!..
شهقت بصوتٍ خفيض حين جثي فجأة على ركبتيه أرضًا أمامها، و جذبها بمقعدها عليه حاصرها بجسده، شعرت بمدى ضئلتها بين ذراعيه الضخمه،
لم يعطيها الفرصة حتى للاعتراض و مد يده حاوط بطنها الصغيرة بكفيه يتحسس حركة طفله بلهفة شديدة..
"من حجي أطمن على ولدي اللي في بطنك"..
قالها بابتسامة لعوب و هو يتفرس ملامحها بافتنان لا يخلو من الإشتياق..
تنحنحت "سلسبيل" كمحاولة منها لإيجاد صوتها، و رفعت يدها دفعته بكتفه تبعده عنها بعنف لكنه كالصخر لم يتزحزح من مكانه و لو أنش واحد، بل ألتصق بها أكثر..
" و أنت مين قالك إن اللي في بطني ولد أصلًا؟!"..
تطلع لها بفرحة غامرة حقيقية و هو يقول بتساءل..
"بنت؟ حامل في بنت يا سلسبيل؟"..
رمقته بنظرة يتطاير منها الشرر و صاحت في وجهه بغضب قائلة..
"و لا بنت"..
نظر لها بحاجب مرفوع، و مال بوجهه على وجهها حتى تلامست أنفهما مغمغمًا بحرارة..
" يعني لا واد و لا بت!! أمال حامل في أيه عاد؟"..
خطف قبلة من أرنبة أنفها مكملاً ..
" نوع الكائن اللي عمال يخبط شمال و يمين و بيچري تحت يدي ده أيه؟!"..
"ملكش فيه.. لما أولد إن شاء الله أكيد هتعرف وقتها اللي بيجري ده نوعه أيه ".. أردفت بها و هي تكافح بضراوة لتتخلص من حصاره هذا..
كانت عينيه مثبته على شفتيها، و هم بغمرها بقبلة جامحة،
ضيقت عينيها و قد تفهمت ما يدور بذهنه، فضحكت بصوتها كله و هي تقول..
"أنت فاكر إني كنت رافضة أرجعلك بسبب أبلة خضرا ، و دلوقتي ممكن نرجع عشان طلاقتها؟!.. اللي بتفكر فيه ده مستحيل يحصل لأن أنت كنت على حق في كل كلمة قولتها ليا، و أنا اللي غلطانه.. شعوري نحيتك كان مجرد احتياج للحماية فعلاً..مش حب و لا عشق زي ما خيالي المريض صورلي"..
نظرت داخل عينيه بعمق و تابعت بقسوة نابعة من جروحها التي مازالت تنزف..
" يعني أنا مبحبكش ياريت تفهم ده كويس، و بما إني اتعلمت احمي نفسي بنفسي و الفضل في ده يرجع ليك الحقيقة فأنا بعترفلك أني مديونة ليك بالشكر لأنك صممت على انفصلنا يا عبد الجبار، و أنت كنت قولتلي إنك هتحترم قراري"..
كلماتها أصابته بمقتل، شعرت بتصلب جسده حولها، أيقنت الآن أنها خسرته للأبد من نظرته لها المملؤه بالحسرة و الوجع،طعنته في قلبه بسكينٍ بارد، أبتعد عنها ببطء و انتصب واقفًا بطوله المُهيب وتحدث بصلابة قائلاً ..
" و أني عند كلامي.. قرارك هنفذه و مش هردك لعصمتي و من انهاردة اللي بنا هيكون اللي في بطنك سواء بنت أو ولد، و الشغل و بس يا سلسبيل هانم"..
....................................... سبحان الله وبحمده......
بالخارج..
وقف "جابر" مستند بكفيه على مكتب" صفا" يتأملها بشغف،تلك الفتاة الخلوقة، وصية والدته التي أكتشف أنها يتيمة الأبوين و أن زوج والدته يكون صديق والدها الذي لم يُرزق بأطفال فتخذها ابنة له بعد وفاة والدها و والدتها في حادث أليم نجت هي منه بمعجزة إلهية،
ابتلعت لعابها بصعوبة من نظراته الجديدة كليًا عليها، يتطلع لها بابتسامة دافئة لا تخلو من الإعجاب مردفًا..
" أطلب لي بيتزا معاكِ "..
" بيتزا!!.. بس أنت قولت قبل كده إنك مبتحبهاش؟"..
همست بها "صفا" بستحياء متجنبة النظر له، ليميل هو برأسه قليلاً عليها، فنظرت له بأعين متسعة على أخرها من تغيره المفاجئ معاها، ليزيد هو من دهشتها حين قال..
"أصلي المرادي واثق إني هحبها زي ما هي بتحبني و أكتر كمان"..
رمشت بأهدابها مرات متتالية مدمدمة ببلاهة..
"هي مين دي اللي بتحبك؟!"..
نظر لها نظرة مصطنع البراءة و هو يجيبها..
"البيتزا يا صفا.. هيكون أنتي مثلاً اللي بتحبيني؟! و مش بس كده ده أنا كمان هطلب ايديها للجواز انهاردة..بس تفتكري هي هتوافق على طلبي ده؟ "..
تجمعت الدموع بعينيها جاهدت للسيطرة عليهم تمنعهم من الهبوط، و تحدثت بابتسامة متألمة قائلة..
"لو عليها هي أكيد هتوافق على طلبك يا جابر بس معتقدتش إن أنت اللي هتوافق عليها لو عرفت أن؟! "..
صمتت لوهلة، و اعتدلت بمقعدها أظهرت إحدي قدميها، رفعت ثوبها بضعة أنشات لتظهر أمام عينيه طرف صناعي ترتديه بقدمها اليمني..
"رجلها مبتورة"..
"بس أنا عارف يا صفا.. عرفت عنك كل حاجة و بتمني توافقي على طلبي"..
هنا انهمرت عبراتها على وجنتيها بغزارة، و حركت رأسها بالنفي مرددة بأسف..
"أنا سمعت الكلام ده قبل كده من خطيبي الأولاني، و في الأخر سبني قبل الفرح بأسبوع.. و أنا معنديش إستعداد يحصل فيا كده تاني يا جابر"..
مسحت دموعها بعنف، و نهضت من مكانها مكملة بأسف قبل أن تسير من أمامه بخطي شبة راكضة..
"طلبك مرفوض"..
................................. سبحان الله العظيم..........
" خضرا"..
بعد أن تأخر" عبد الجبار " للعودة إلى المنزل عدة ساعات طويلة، كانت تظن أنه لن يتردد في ردها كل هذا الوقت، لكن من الواضح أنه لن يتراجع عن يمينه، هداها تفكيرها إلى لملمت ما تبقى من كرامتها،قررت أن تعود للصعيد، بدأت تجمع ثيابها و ثياب ابنتيها..
" أنتي بتعملي أيه يا أماي ؟! "..
قالتها "فاطمة" بتساءل و هي تتنقل بنظرها لحقائب الثياب الكثيرة من حوالها..
"هنمشي من أهنة يا فاطمة.. خلاص لحد أكده.. أبوكي طلقني و مبقاش رايداني"..
بكت "فاطمة" و هي تقول..
"لا يا أماي أحب على يدك خلينا أهنة في دار أبوي و هو هيعاود.. مش هيعوق علينا هو واعدني أنه هيسامحك و مهيأذكيش واصل"..
نظرت لها "خضرا" بلهفة، و تحدثت مستفسرة..
"وعدك أمتي و وعدك ليه؟! "..
ظهر الخوف على ملامح الصغيرة، لتطمئنها" خضرا" و تربت على ظهرها بحنو قائلة..
" في أيه يا بتي.. في حاچة مخبيها عليا؟ "..
حركت" فاطمة" رأسها بالإيجاب، و تحدثت بصوتٍ مرتجف قائلة..
" أني شوفتك يا أماي.. شوفتك و أنتي بتحطي حاچة في الوكل لچدتي و خيتي وبعد ما أكلوا ناموا طوالي..عملت حالي نمت أني كمان و سمعت حديتك عن قتل أبوي اللي قولتيه لسلسبيل.. خوفت تعملي أكده في أبوي فقولتله لأچل ما يدافع عن نفسه و لما قولتله أكده قالي أمك عمرها ما هتعمل فيا أكده و طمني و وعدني أنه مش هيأذيكي و لا هيهملك تأذيه"..
أجهشت " خضرا " في نوبة بكاء مرير، تذرف دموع الندم، نادمة على ما أوصلت نفسها إليه، كانت حياتها مثالية قبل أن تُشجع زوجها على الزواج من امراءة غيرها، من المفترض كانت رفضت الفكرة من بادئ الأمر و أغلقت باب تلك الرياح القوية التي هدمت حياتها، بموافقتها على فكرة الزواج من الأساس شجعت زوجها على أتفاقه مع الطبيب ليتمكن من أقناعها أكثر..
"هنمشي يا أماي؟!"..
أطبقت "خضرا" جفنيها بعنف، و بتنهيدة متألمة قالت..
"أيوه يا فاطمة.. هنمشي! "..
قطعت حديثها و شهقت بذعر حين استمعت لصوت رجل يتحدث بفحيح كفحيح الأفاعي قائلاً..
"هتمشي يا خضرا بس هتمشي من الدنيا كلها يا وش الخراب"..
استدارت على الفور تنظر تجاه مصدر الصوت، لتجحظ عينيها بصدمة حين وجدت "حسان" يدلف داخل الغرفة ممسك بيده أبنتها" حياة" كاتم فمها بكف يده، و يده الأخرى واضعًا سلاحه الناري على رأسها..
انقطعت أنفاسها، و كاد أن يتوقف قلبها المرتعد من شدة الخوف، و هرولت بإخفاء ابنتها "فاطمة" خلف ظهرها، و تطلعت له بأعين زائغة مرددة بذهول..
"حسان!!.. أنت دخلت أهنه كيف؟!"..
"وه نسيتي إياك إني كنت حارس البيت أهنه و خابر زين كل شبر فيه قبل ما أطرد منه بسببك و اتشرد بالشوارع ملقيش شغل واصل بعد ما الكل خد صف الكبير و رفضوا يشغلوني عندهم، هملني و مقتلنيش عشان خابر أني هموت بالحيا من الجوع و قلة الفلوس"..
قالها" حسان"بغضب عارم، و حقد دفين ظاهر على قسماته المتوحشة..
بينما" فاطمة" استغلت اختفائها خلف والدتها، و أخرجت هاتفها من جيب منامتها، و طلبت رقم والدها الذي أجابها في الحال..
" فاطمة.. في حاچة يا بتي؟! "..
أتاه همسها الباكي تقول بصوتٍ مكتوم..
" إلحقنا يا بوي هيموتنا"..
برغم أن جملتها كانت غير واضحة، إلا أنه انتفض من مكانه فجأة و ركض بكل ما يملك من سرعة حين وصل لسمعه صوت "خضرا" تقول ببكاء و توسل..
"همل حياة يا حسان.. البنتة ملهاش صالح.. أقتلني أني و همل بناتي أحب على چزمتك..."..
↚
"سلسبيل"..
بعد حديثها الحاد المغلف بالقسوة مع "عبد الجبار" ظنت أنه سيغادر الشركة، لكنه أدهشها حين بقي و تابع عمله معاها ، كانت تتابعه طيلة الوقت بأعين متلهفة و قلب ينفطر من أجله، تشعر بمدى ألمه التي تسببت هي فيه،على علم بأن كلماتها كانت جارحة لأقصى حد، و هذا ما كانت تريده من الأساس، أرادت أن يشعر بوجعها منه حين تركها و هي في أشد الحاجة إليه..
أقسمت بداخلها لولا وجود العاملين من حولها، لكانت عانقته الآن و غمرته بقبلة عاشقة لن تنتهي إلا بعدما تعود بها زوجته على ذمته مرة أخرى..
هيئت نفسها لفعلها فور إنتهاء هذا الإجتماع اللعين، لن تدعه يذهب هذه المرة، نيران الفرق تحرق فؤادهما معًا، تعترف أن عشقها له انتصر على قوتها الزائفة التي تتحلى بها، تريده هو فقط و لا شيء أخر في هذه الحياة بأكملها غيره..
ليأتيه هذا الإتصال الذي جعله ينتفض من مقعده مسرعًا، و سار من أمام عينيها بخطوات راكضة.
"رايح فين يا عبد الجبار؟!"..
قالتها "سلسبيل" بقلق و هي تنهض و تُسرع خلفه، ليوقفها مكانها بنظره عاتبه من عينيه التي تتسع بخطورة حبست أنفاسها، جمدتها محلها تطلع له بأعين غامت بهما سحابة تهدد بتساقط دموعها على هيئة أمطار غزيرة..
ظلت عينيه عليها حتى أختفي من أمامها لتهرول هي نحو النافذة فرأته يقفز داخل سيارته و قادها بسرعة عالية، و خلفه "جابر" يلحق به بسيارته..
ظلت واقفة مكانها تتابع قلبها و هو يفارقها و يذهب معه، حاولت السيطرة على نفسها قدر أستطاعتها حتى لا تنفجر في نوبة بكاء مرير، أطلقت أنفاسها المحبوسة و رفعت يدها زالت تلك العبرات العالقة بأهدابها قبل أن تستدير متوجهه نحو مكتبها و هي تقول..
"تقدروا تتفضلوا على مكتبكم و الملفات اللي اختارها عبد الجبار باشا تكون جاهزة على مكتبي بكرة أصبح قبل الساعة تسعة"..
خطفت حقيبتها ، و ارتدت نظارتها الشمسية تخفي بها عينيها الحمراء، و غادرت الشركة بخطي غاضبة،مرت بضعة دقائق و صف السائق السيارة الخاصة بها داخل حديقة منزلها..
اندفعت هي منها لداخل المنزل راكضة بوهن، لتقابلها"عفاف" فاتحة ذراعيها لها بعدما هاتفتها" صفا" و اخبرتها بأن حالتها لا تُبشر بالخير أبدًا بسبب اليوم العصيب التي مرت به..
"سلسبيل.. يا حبيبتي يا بنتي تعالي في حضني"..
أردفت بها "عفاف" بصوتٍ تحشرج بالبكاء، لترتمي "سلسبيل" داخل حضنها، و أجهشت ببكاء حاد مرددة بتقطع من بين شهقاتها..
"جرحته زي ما جرحني يا ماما عفاف.. قولتله كل الكلام اللي فضلت شهور برتب فيه عشان لما اقابله أوجعه بيه يمكن يحس بيا ويعرف هو وجع قلبي إزاي.. حتي أبويا كمان وقفت قدامه و دافعت عن نفسي لأول مرة من ظلمه.. أنا انهاردة قولت كل حاجة جوايا كان نفسي أقولها ل عبد الجبار و ل أبويا.. كنت مفكرة هرتاح بعد ما أوجعهم زي ما وجعوني بس أنا مش مرتاحة.. مش مرتاحة خالص.. جرحت قلب عبد الجبار بكلامي اللي زي الخناجر بس قلبي أنا اللي بينزف يا ماما "..
ابتعدت عنها و ضربت بكف يدها على موضع قلبها بقوة، لتسرع"عفاف" بإيقافها، و وضعت كف يدها على قلبها و أردفت ببكاء على بكائها..
" بسم الله على قلبك يا بنتي"..
لتصرخ" سلسبيل " صراخ مقهور..
"ااااه قلبي أنا اللي ذاد وجع على وجعه.. و اللي قهرني أني بعدته عني لما حاول يحضني..مشي و سابني قبل ما ياخدني في حضنه.. كان جبرني على حضنه..كان جبرني على رجوعي ليه..أنا موافقة أنه يجبرني عليه.. إزاي بس مش فاهم أنه جبر السلسبيل.. إزاي مش فاهم أني عايزاه و محتجاله يا ماما.. إزاي صدقني لما قولتله إني مبحبوش و هو عارف إني بعشقه..إزاااااااي!!! "..
" أهدي يا بنتي.. بحلفك بالله العظيم تهدي عشان خاطر اللي في بطنك "..
جلست على الأرض محتضنة بطنها بلهفة، و ظلت تبكي و تأن بضعف و هي تقول ..
" اللي في بطني؟!.. حتى لما سألني عليه مرضتش أقوله ولد و لا بنت.. مرضتش أريحه و في الحقيقة محدش تعبان غيري أنا "..
جلست" عفاف" أرضًا بجانبها، تربت على ظهرها بحنان بالغ، لينتفض قلبها حين رأتها تتوقف فجأة عن البكاء، مسحت دموعها بعنف، و قد تحولت ملامحها لأخرى مخيفة، تحاملت على نفسها و انتصبت واقفة و هرولت لخارج المنزل مرددة بنفاذ صبر ..
" أنا هروحلوا.. هروحلوا و أقوله كفايا فراق لحد كده"..
................................ سبحان الله وبحمده.........
"عبد الجبار"..
كان يضع الهاتف على أذنه أثناء قيادته، يسابق الزمن و الرياح حتى يصل إلى ابنتيه اللتان يصرخان بأسمه صرخات تشق قلبه شقًا، و أخيرًا وصل أمام باب منزله المغلق، ليقتحمه على الفور كسر الباب بأكمله، ليتأهب جميع الحرس رافعين سلاحهم تجاهه، إلا أنهم اخفضوا سريعًا حين لمحوه هو..
اندفع خارج السيارة راكضًا لداخل المنزل بعدما خطف سلاح ناري من يد إحدي الواقفين..
"فااااطمة.. يا أمه.. يا حيااااة"..
صدح بها بصوتٍ جوهري، لينصدم بوالدته تجلس في ردهة المنزل تتناول كوب من الشاي بتلذذ، و تطلع له ببرود قائلة..
"خير يا ولدي.. مالك چاي على ملا وشك ليه أكده؟!"..
دار بعينيه المذعورة في المكان من حوله مغمغمًا..
"بناتي و أمهم فين يا أمه؟! "..
" كانوا أهنة من هبابه.. هتلاقيهم فوق في أواضهم"..
ركض هو بأنفاس متقطعة على الدرج المؤدي للطابق الثاني، لتبتسم "بخيتة" بخبث، فقد رأت" حسان" و هو يدلف لداخل المنزل، و تركته حين استمعت لحديثه و أيقنت أنه أتى لقتل "خضرا"..
"يله خلص يا حسان على بت المركوب القديم و خلصنا منها".. تمتمت بها بسرها، و ظلت مكانها تنتظر سماع الطلق الناري الذي بالتأكيد سيُصيب من تطيق العمى و لا تطيق وجودها..
"يا مُرحب بالكبير.. أني مستنيك من ياما"..
نطق بها "حسان" حين وقعت عينيه على "عبد الجبار" الذي صوب تجاهه السلاح، ليضغط" حسان" على رقبة أبنته" حياة"، و رمقه بنظرة محذرة أجبره على إلقاء سلاحه في الحال..
"همل حياة يا حسان.. البنتة الصغيرة ملهاش صالح بلي بيحصل بنتنا"..
تطلع له" حسان" بملامح كساها الحزن ، و تحدث بندم حقيقي قائلاً..
"أني عمري ما كنت هخونك يا كبير.. لولا الشيطانة اللي دخلت بنتنا. هي السبب يا كبير.. هي اللي فتحت باب الشر من الأول"..
كان يتحدث و عينيه مثبته على" خضرا " التي تحاوط أبنتها" فاطمة" بحماية، و تبكي بصمت، لقم سلاحه و وجهه نحوها و قد عماه غضبه و قرر ينهي حياتها، شعرت بالموت يحوم حولها فرفعت عينيها الغارقة بالدموع و نظرت ل" عبد الجبار" و همست بصعوبة بالغة..
" سامحني يا عبد الچبار.. سامحني يا خوي! آ ااه"..
قطعت حديثها و صرخت بعويل حين صدح صوت الطلق الناري..
.............................................سبحان الله العظيم......
"سلسبيل"..
وصلت للتو إلى منزل "عبد الجبار" لتجد بابه مفتوح على مصراعيه و لا يوجد أي أحد من الأمن، خطت للداخل بخطي مرتجفة و أعين مترقبة، و قلب تسارعت دقاته حين لمحت "خضرا" تسير بخطي مريبة كما لو كانت تحولت لإنسان ألي،حامله بيدها شيء تخفيه خلف ظهرها حتى توقفت أمام مكتب "عبد الجبار" الموضوع عليه كأس من العصير، تطلعت حولها تتأكد من عدم وجود أحدًا، و للعجب لم ترى "سلسبيل" التي تتابعها بأعين جاحظة، و قامت بإظهار زجاجة صغيرة، سكبت منها القليل على كأس العصير و اخفتها من جديد..
تفاجأت "سلسبيل" ب "عبد الجبار" حين لف بالمقعد الجلدي الموضوع خلف المكتب، مد يده و أخذ كأس العصير و تناوله دفعة واحدة بصمت..
رأت الكأس سقط أرضًا من بين أصابع يده، تهشم و تناثرت القطع الزجاجية بالمكان، تطلعت لزوجها بأعين متسعة، مذعورة لتجد وجهه شاحب للغاية يظهر عليه الألم الشديد،
ألم لم يستطيع تحمله، جعل عينيه زائغه، و جسده يترنجح بوضوح كلما حاول النهوض حتى أوشك على السقوط من فوق مقعده، هنا صرخت بأسمه صرخة مدوية هزت القلوب و جدران المنزل معًا، هرولت تجاهه راكضه بخطي مرتجفة متعثرة ..
"عبد الجباااااااار...."..
كان صراخها بإسمه أخر شيء استمع إليه من بين شفتيها قبل أن يغلق عينيه و يغيب عن الوعي أو ربما عن الحياة بأكملها..
"سلسبيل أصحى يا بنتي.. فوقي يا حبيبتي"..
هكذا أيقظتها "عفاف" بعدما غرقت في نومًا متعب بعد جملة "محدش تعبان غيري" أجهشت بعدها في وصلة بكاء دامت لوقتٍ طويل ، لتفتح "سلسبيل" عينيها بذعر و لم تتوقف عن الصراخ بأسم من ينبض قلبها بأسمه..
" عبد الجباااار.. عبد الجبار يا ماما عفاف.. حصله حاجة.. في حاجة.. وديني عنده يا ماما عفاف أبوس إيدك"..
كانت "عفاف" يظهر عليها الخوف و الحزن الشديد، و عينيها حمراء و منتفخة للغاية،لكنها تحدثت بهدوء عكس هيئتها..
"طيب بطلي صريخ يا سلسبيل و قومي غيري هدومك و أنا هوديكي عنده"..
نهضت" سلسبيل " من الفراش بجسد يرتعش بوضوح، و صرخاتها أصبحت غير إراديه لا تستطيع السيطرة عليها تصرخ بلا توقف مرددة بقلب ملتاع..
"عبد الجباااار فيك أيه يا قلب و روح سلسبيل"..
................................ لا إله إلا الله وحده لا شريك له...........
" جابر"..
وصل أمام منزل "عبد الجبار" تزامنًا مع صوت إطلاق النار، ترك سيارته بمنتصف الطريق غير عابئ بمصيرها و ركض بكل سرعته خلف أفراد الأمن لداخل المنزل، مروا من أمام "بخيتة" التي تجلس بأريحية و إبتسامة متسعة على وجهها، و قد ظنت أن مرادها تحقق، و تخلصت من طليقة إبنها للأبد، ليتخشب جسدها، و شعرت بالدنيا تومض من حولها حين وصل لسمعها صوت صرخات "خضرا" و أبنتيها معًا يرددون بنواح..
"عبد الچبااااااااار.. أبوااااااااي"..
حاولت النهوض بشق الأنفس و سارت بخطي بطيئة متثاقلة تدفع بعكازها كل من يعوق طريقها حتى وصلت إلى الغرفة الصادر منها صوت الصرخات المرعبة، ليسقط عكازها من يدها حين لمحت جسد وحيدها ممد على الأرض، قميصه الأبيض غارقًا بدمائه..
كانت" خضرا" و ابنتيه يجلسون حوله، و "جابر" أيضًا يجلس بجواره واضعًا رأسه على قدمه..
"جابر".. حرك "عبد الجبار" شفتيه بها دون إصدار صوت، ليلبي "جابر" ندائه، و مال عليه ليتمكن من سماعه، كان "عبد الجبار" يجاهد ليفتح عينيه، نظر له بأعين ألتمعت بها الدموع، و همس بصوتٍ لاهث قائلاً..
"أمي و بناتي و!! "..
صمت لوهلة لتهبط دمعة حارقة على خديه مكملاً بمنتهي الصعوبة..
"سلسبيل في أمانتك.. سلسبيل "..
كانت هذه أخر كلمة قالها قبل أن يغلق عينيه و يستسلم لقدره وسط صرخات أبنتيه التي تشق القلوب..
"مش هتموت يا عبد الجبار.. فااااهم مش هتموت"..
قالها" جابر " الذي استجمع شتات نفسه و نهض مسرعًا، حمله على كتفه و هرول به لأقرب مستشفى..
↚
"خبر عااااجل"..
إصابة رجل الأعمال "عبد الجبار المنياوي" بطلق ناري داخل منزله و تم نقله لإحدى المستشفيات الخاصة في حالة حرجة للغاية...
"عودة لتلك اللحظة الحاسمة"..
بعد كل ما فعلته" خضرا" بحق نفسها و بحق زوجها و أبنتيها من خطأ فادح حين لجأت لرجل غريب و فتحت له بنفسها باب حياتها دخل منه بكل جرائة حتى وصل به الأمر إلى وقوفه هنا بغرفة نومها ممسك سلاح ناري يهدد به حياتها و حياة عائلتها بأكملها، وقف" عبد الجبار " على أتم إستعداد ليضحي بنفسه و لا يرى مكروه في فلذات أكباده..
نظر ل "خضرا" نظرة مليئة بالحب و العرفان كم اشتاقت لها، يخبرها بعينيه أن كل ما فعلته ما هو إلا رد فعل ناتج عن أفعاله معاها..
كان "حسان" موجهه فواهة المسدس تجاه "خضرا" شد أجزاءه يستعد لاطلاق الرصاص عليها، و ضغط الزناد لتخرج منه طلقة كانت سرعتها أقل من "عبد الجبار " الذي تناول سلاحه الملقى بجوار قدمه ، و أطلاق النار على "حسان" أصابه بمنتصف رأسه فسقط قتيلاً في الحل، و وقف أمامها كالسد المنيع مستقبلاً الطلقة بصدره بدلاً عنها، كل هذا حدث في لمح البصر..
قوة الطلقة جعلته يتراجع بجزءه العلوي للخلف فلتقطته "خضرا" محاوطة خصره بذراعيه، وقف مكانه للحظات يتطلع لها من فوق كتفه مغمغمًا بأنفاس متهدجة..
"سامحيني أنتي يا خضرا.. أنا رديتك أنتي و سلسبيل لعصمتي وخابر زين إنك مش هتأذيها لا هي و لا اللي في بطنها"..
خارت قواه فهبط على ركبتيه، و عينيه تتنقل بين ابنتيه بابتسامة يحاول يدخل بها الطمأنينة على قلوبهما..
"ياااا أخوي.. لاااا يا عبد الچبار.. متسبناش يا أخوي.. أحب على يدك متعملش فيا أكده"..
صرخت بها" خضرا" بجنون و هي تراه يميل بجسده على الأرض و دمائه تدفق على صدره بغزاره..
حتى وصل "جابر" و من بعد "بخيته" التي سقط منها عكازها، و من ثم سقطت هي بجانبه داخل الحفرة التي ظنت بأنها حفرتها ل" خضرا" لتسقط هي فيها و تقع بشر أعمالها بعدما فقدت القدرة على تحريك جميع أطرافها، بطرفة عين أصبحت لا تقوى على شيء سوي النظر حاجظة العينين تردد بهذيان..
"عبد الچبار يا ولدي.. سندي.. ظهري.. راچلي"..
...................................لا إله إلا الله وحده لا شريك له.......
أنتشر خبر إصابة "عبد الجبار" بسرعة البرق بكل القنوات الإخبارية، و على صفحات الجرائد و المجلات، و حتي مواقع التواصل الإجتماعي، من هنا وصل الخبر ل "عفاف" التي صُعقت من قوة الصدمة، لم تستطيع إخبار" سلسبيل " بهذا الخبر الحزين، بل المميت، فضلت الصمت و منعت عنها أي وسيلة ممكن أن تنقل لها الخبر و أولهم هاتفها ..
أخذتها بسيارتها و قادت بنفسها قاصدة عنوان المستشفى الذي أرسله لها "جابر"، هناك ستكون تحت رعاية الأطباء إذا حدث لها أي شيء لقدر الله..
تطلعت" سلسبيل" للطريق من حولها، و أردفت بثبات مريب قائلة..
"إحنا رايحين المستشفى؟ يبقي أحساسي صح يا ماما عفاف و عبد الجبار جراله حاجة !"..
ظلت "عفاف" ملتزمة الصمت، تُمثل انشغالها بالقيادة، بينما "سلسبيل" رغم ثباتها إلا أنها تحولت للنقيض تمامًا، تملكت منها قوة غريبة أرغمتها على الهدوء، هدوء مخيف يُهدد بعاصفة شديدة ربما تدمر الأخضر و اليابس ، نظرت للسماء من نافذة السيارة بأعين مستجدية و ملامح شاحبة بعدما أنسحبت الدماء من عروقها، متمتمة بأنفاس منقطعة ..
" يارب.. أجبر قلبي و احفظهولي يارب "..
بقت على هذا الحال طول الطريق، لا تتفوه إلا بتلك الجملة مرارًا و تكرارًا بلا توقف..
حتى صفت "عفاف" سيارتها أمام باب المستشفى أخيرًا، هبطت "سلسبيل" تجر قدميها جرًا نحو الدخل، لا ترى أمامها من شدة أنفعالاتها المتضاربة، تترنجح يمينًا و شمالاً كالمخمورة،أنفاسها تتلاشى شيئًا فشيئًا، تشعر بجسدها ثقيل كما لو كانت تغرق بأعماق بحر مظلم، لوهلة ظنت أنها تحيا إحدي كوابيسها البشعة،تسير بجوارها "عفاف" ممسكة بيدها، لتشهق فجأة شهقة قوية حين استنشقت رائحة عبق حبيب روحها، استجمعت شتات نفسها و قادها قلبها نحو مكانه..
كان الجميع يقف أمام باب العمليات إلا "بخيتة" التي دخلت للعناية المركزة لصعوبة حالتها الصحية، لمحتها "خضرا" فهرولت نحوها بخطوات متعثرة حتى وقفت أمامها مباشرةً، تطلعت لها "سلسبيل" بملامح بدت جامدة، رغم أنها تأثرت و شعرت بالشفقة عليها بسبب حالتها المزرية، نظرت لها نظرة طويلة و دموعها تسيل على وجنتيها الملتهبة أثر لطم خديها و تحدثت بصوتٍ مبحوح للغاية بعد وصلة صراخ كادت أن يمزق أحبالها الصوتية..
"حقك عليا يا خيتي.. أني غلط في حقك.. سامحيني يا سلسبيل"..
ختمت حديثها و عانقتها و اجهشت بنوبة بكاء مرير مرددة بنواح..
. عبد الچبار فداني بعد كل اللي عملته و خد الطلقة مكاني.. اااه يا حرقة جلبي عليك يا راچلي"..
ابتعدت عنها قليلاً و نظرت لها بشبه إبتسامة مكملة..
"رچلنا يا سلسبيل.. عبد الچبار قالي أنه ردك يا خيتي "..
تسمرت "سلسبيل" محلها لبرهةً، و من ثم بادلتها عناقها هذا، يدها تربت على ظهرها و ها قد أجتمعوا أخيرًا على حب رجل واحد، مدمدمة بثقة عمياء..
"أهدي يا أبلة خضرا و بطلي عياط.. عبد الجبار هيقوم منها و هيبقي كويس"..
هدوئها الغير لائق بالمرة على هيئتها المتألمة جعل الجميع ينظرون لها بترقب ينتظرون إنهيارها بأي لحظة،
لكنها خلفت ظنونهم و بقت هادئة، مسالمة عكس ما بداخلها من صخب و ألالام تفوق التحمل تكاد أن تزهق روحها..
كانت هناك حالة من الهرج و المرج داخل المستشفى المتواجد بها "عبد الجبار" جميع العاملين بها بلا استثناء يعملون على قدم وساق ليتمكنوا من إنقاذه، لتلجمهم جميعًا الصدمة حين حددو مكان الرصاصة التي تقع بجوار القلب مباشرةً و إذا تحركت أنش واحد ستُسبب جرح بعضلة القلب نفسها..
"إحنا بنعتذر محدش هيقدر يجازف و يعمل العملية ل عبد الجبار باشا لأن فيها خطورة كبيرة على حياته"..
قالها مدير المستشفى بنفسه صدم بها "سلسبيل" التي سقطت على ركبتيها أرضًا، و إثار غضب "جابر" الذي قبض على عنقه بقبضته الفولاذية مغمغمًا.
"يعني ايييه محدش هيجازف.. يعني هتسبوه لغاية ما يموت يا ولاد ال***؟!"..
" مافيش غير جراح واحد في مصر هو اللي هيقدر يعمله العملية دي".. قالها المدير بأنفاس مقطوعة، ليخفف "جابر" قبضته قليلاً حول عنقه، و صرخ في وجهه بنفاذ صبر قائلاً..
"ميييين هو أنطق؟"..
"جراح القلب الدكتور أيوب زيدان...إحنا حاولنا نتصل بيه بس تليفونه مقفول، كلمنا المستشفى اللي هو مديرها بلغونا إن انهارده أجازته، هكتبلك عنوان بيته و روح هاته بنفسك لأن مافيش قدامنا وقت"..
بالفعل تركه "جابر" على مضض، فأخرج ورقة و قلم من جيب البالطو الخاص به و دون بها عناوين دكتور" أيوب " خطفها منه" جابر " و استدار يستعد للذهاب، ليجد"سلسبيل " جالسة أرضًا بجوارها" عفاف" و" خضرا" يحاولان مساعدتها على النهوض، لكنها أبت و ظلت على وضعها محتضنة بطنها بذراعيها في حالة ذعر شديد و مع ذلك لا تبكي متماسكة لأقصى حد،
هرول نحوها وجثي أمامها على ركبتيه، و جذبها بمنتهي الرفق من معصميها أرغمها على الوقوف، و دفعها بخفه لأقرب مقعد أجلسها عليه مغمغمًا..
"متخفيش يا سلسبيل إن شاء الله عبد الجبار هيقوم منها .. ادعيلوا أنتي بس و فوضي أمرك لله "..
أنهى جملته و أختفي من أمامها كالزئبق، ركض بكل ما يملك من سرعة حتى يحضر الطبيب لينقذ حياة الشخص الذي أصبح أعز صديق بالنسبة له..
................................... يا حي يا قيوم برحمتك استغيث....
حالة من الذهول أصابت" جابر " حين وصل بسيارته لعنوان الطبيب "أيوب"، تطلع حوله للمنطقة الشعبية شديدة البساطة التي لا تتماشى مع كونه مدير أشهر المستشفيات في مصر!!
صف سيارته و هبط منها يدور بعينيه يبحث عن منزله، ليلمح يافته كبيرة مدون عليها إسمه بالطابق الأخير لمنزل قديم تم ترميمه حديثًا، اندفع نحو الداخل راكضًا على الدرج حتى وصل لتلك الشقة التي يخرج منها صوت ضحكات لتجمع عائلي تسر القلوب..
أخذ نفس عميق يلتقط به أنفاسه اللاهثه، و ضغط على الجرس عدة مرات حتى فُتح الباب و خرجت منه امراءة بشوشة الوجهه، أبتسمت له بوداعة و هي تقول..
"خير يا ابني!" ..هم "جابر" بفتح فمه لتستطرد "زينب" بفخر و فرحة دون أن تمنحه فرصة للرد..
"عايز ابني الدكتور أيوب مش كده؟ "..
أجابها "جابر" بلهفة قائلاً..
"أيوه يا أمي.. عايزه ضروري جداً في مسألة حياة أو موت"..
تطلعت له "زينب" بشفقة و من ثم لفت وجهها و نادت بصوتها الحنون المليء بالحب..
"أيوب.. يا دكتور أيوب يا نن عين أمك.. تعالي يا ضنايا "..
"اؤمريني يا أمه "..
هكذا لبى ندائها على الفور كعادته معاها، و أتى إليها مهرولاً بهيبته و هيئته التي تخطف القلب،
وقف بجوارها و حاوط كتفيها بذراعه لتُشير له "زينب" على" جابر" الواقف بعيدًا عن وجهة الباب..
"وفي واحد عايزك ضروري يا حبيبي"..
نظر" أيوب " تجاهه و تحدث بترحاب قائلاً..
" أهلاً و سهلاً.. اتفضل"..
"دكتور أيوب أنا آسف إني جاي لحضرتك من غير ميعاد بس في واحد واخد رصاصة في صدره و حالته خطيرة أوي و كل الدكاترة اللي كشفوا عليه رافضين يجازفوا و يعملوه العملية و قالوا محدش غيرك بعد ربنا اللي يقدر ينقذه "..
أردف بها" جابر "مرة واحدة دون أن يدع فرصة ليلتقط بها نفسه..
" أنا جاي معاك".. قالها" أيوب " دون تفكير، فهو لن يغلق بابه أبدًا بوجهه أحد لجأ إليه، قبل يد و رأس" زينب" مغمغمًا ..
" ادعيلي يا أمي "..
ربتت" زينب" على صدره بكف يدها بحنان بالغ و هي تقول..
" دعيالك يا قلب أمك.. تربح و تكسب و يجعلك في كل خطوة خير وسلامة يا أيوب يا ابن زينب"..
كل ما يحدث كانت تتابعه "حبيبة" زوجته التي تحدثت بلهفة قائلة..
"هتنزل من غير ما تاكل و لا حتى تغير هدومك يا أيوب؟!"..
ارتدي "أيوب" حذاءه الرياضي على عجل، أقترب منها و نظر لها نظرته العاشقة التي يخصها هي وحدها بها مدمدمًا..
" لما الأكل يجهز كلميني هبعتلك عربية تجيبك عندي"..
طبع قبلة عميقة على رأسها، و هرول للخارج مسرعًا، انطلق برفقة" جابر" نحو المستشفى..
لم يمر سوي عدة دقائق حتى وصلوا إلى المستشفى بفضل سرعة "جابر" العالية، انقلبت المستشفى رأسًا على عقب فور علمهم بوصول الجراح الشهير" أيوب زيدان" تأهب الجميع لاستقباله، مجهزين له كافة شيء، ليتوجهه "أيوب" نحو غرفة التعقيم مباشرةً ..
كانوا الجميع بانتظاره أمام غرفة العمليات، خرج هو عليهم و تطلع حوله، ينظرون له و كأنه طوق النجاة الوحيد الذي سينقذهم بانقاذه لرجلهم، فابتسم لهم ابتسامته الجذابة التي تطمئن القلب و هو يقول بكل ما يملك من رحمة و رأفة بحالته..
" اطمنوا يا جماعة..خير بإذن الله"..
سارت نحوه "سلسبيل" بخطوات متعثرة، فحالتها إذدادت سوء بسبب ألالام مبرحة تدهمها تحاول هي قدر الإمكان تحملها، و قد بهت لونها و تناثرت حبيبات العرق على جبينها، و الهالات السوداء ظهرت فجأة أسفل عينيها التي يملؤها الحزن، و أردفت بنبرة جادة لا تقبل الجدال قائلة..
"همضي إقرار على نفسي أني هتبرعلوا بقلبي و تاخد قلبي تدهوله يا دكتور بس يعيش"..
رباااه.. جملتها هذه زلزلت قلوبهم جميعًا، تطلع لها "أيوب" بنظرة متفحصة، و من ثم وجه نظره لإحدى الأطباء المساعدين و تحدث بأمر قائلاً..
"ابعت لأخصائي نساء و توليد خليه يجي حالاً "..
سار نحو غرفة العمليات و أشار بعينه على" سلسبيل " قبل أن يدلف للداخل مكملاً ..
" المدام بتولد..."..
↚
اللهم يا سامع كل شكوى، يا شاهد كل نجوى، يا عالم كل خفية، يا كاشف كل كرب وبلية، يا منجي نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السلام نجي "سلسبيل" و ولادها بعينك التي لا تغفل و لا تنام، أجبر قلبها و أشفي "عبد الجبار" شفاءًا لا يغادر سقماً يارب العالمين..
تردد "عفاف" هذا الدعاء بلا توقف منذ دخول "سلسبيل" غرفة العمليات المجاورة لغرفة زوجها مباشرةً، بقي الجميع في حالة مزرية حقًا ينتظرون و لو بريق أمل يُزيح هذه الغمة عنهم..
"ماما عفاف.. سلسبيل بتولد إزاي و هي في السابع؟!"..
قالتها "صفا" التي وصلت للتو حاملة حقيبة كبيرة بها كل أغراض "سلسبيل" الخاصة بالولادة..
استقبالتها "عفاف" بضمة حنونة، و أخذت منها الحقيبة و بدأت تجهز ثياب الصغار و هي تقول بصوتٍ متحشرج بالبكاء..
"الحمد لله إني جهزت لها كل حاجة هتحتاجها بدري.. قلبي كان حاسس أنها ممكن تعملها و تولد في أي وقت بسبب الضغط الكبير اللي بتمر بيه.. أدعيلها يا صفا تقوم بالسلامة" ..
ربتت "صفا" على كتفها مغمغمة بيقين..
" إن شاء الله هتقوم بالسلامة هي و النونو يا ماما عفاف اطمني يا حبيبتي"..
" لا متخليهاش تولد يا دادة عفاف.. خليها حامل لو ولدت أمي هتموتها و تموت أخوي و لا أختي اللي هتيچي كيف ما عملت في أبوي ".. صرخت بها" فاطمة" الواقفة بإحدى الأركان محتضنة شقيقاتها و يبكيان بنحيب بصوتٍ مكتوم..
جملتها جعلت الجميع يتطلع ل" خضرا" بأسف ، لتهرول مسرعة تجاه البنتين فاتحة ذراعيها و قد تذكرت وجودهما الآن ..
" فاطمة.. حياة.. متخفوش يا ضناي.. تعالوا في حضني"..
ظهر الذعر على ملامحهما، و فروا مبتعدين عنها اختبؤا خلف ظهر "جابر"، فعلتهما هذه كانت أقسى عقاب بالنسبة لها، أبنتيها خائفتان منها ! تسمرت محلها تطلع لهما بأعين تنهمر منها العبرات حين قالت "حياة" أبنتها الصغيرة..
"عمو چابر متهملناش وياها.. أبوي وصاك على أني و خيتي قبل ما يموت "..
جثي "جابر" على ركبتيه أمامها، و رفع يديه زال دموعهم برفق مردفًا بابتسامة مطمئنة..
"أبوكم مماتش.. أبوكم بإذن الله هيعيش و أنا معاكم أهو مش عايزكم تخافوا و تبطلوا عياط و أدعوا ل بابا و ل سلسبيل كمان يقوموا بالسلامة "..
أتت إحدي الممرضات و تحدثت بعملية قائلة..
"جهزنا جناح لمدام سلسبيل تقدروا تنتظروها فيه على ما تولد"..
نهضت" صفاء" حاملة الحقيبة، اقتربت من الصغيرتان ضمتهما بحنو، و سارت بهما و هي تقول..
"أيه رأيكم تيجوا معايا نستنى النونو سوا في الأوضة "..
تابعتهم" خضرا" بحسرة شديدة على حالها، لتنتفض بهلع حين وجدت باب غرفة العمليات يُفتخ و خرج منه إحدي الأطباء يتحدث بأنفاس لاهثة قائلاً..
"المريض محتاج نقل دم فورًا"..
"أنا معاه قولي أتبرع فين".. قالها "جابر" بلهفة و هو يفك زرار القميص من حول معصمة، و يرفعه يظهر ذراعه له..
"اتفضل معايا هناخد منك عينة و نحللها الأول"..
أسرعت "صفا" خلفه و هي تقول بستحياء..
"أنا هاجي معاك يا جابر"..
نظر لها" جابر" نظرة جعلت وجنتيها تتورد بحمرة الخجل، ليزيد من خجلها أكثر حين مد يده أمسك كف يدها الصغير بين راحة يده الضخمة ضاغطًا عليها بخفة..
" تعالي "..
سارت بجواره تحاول سحب يدها من يده، لكنه رفض تركها هامسًا بأذنها..
" مش هسيبك.. فاهمة.. أنا مش هسيبك.. ده أنتي وصية أمي يا صفا"..
خفضت رأسها حتى لا يرى ابتسامتها و الدموع التي تجمعت بعينيها تدل على فرحتها بتمسكه بها..
......................لا إله إلا الله وحده لا شريك له......
"خضرا"..
لم يبق أحدًا غيرها أمام غرفة العمليات، عينيها تذرف الدمع بغزارة، دموع ندم، حسرة، خوف من القادم ..
ضربت بيدها على رأسها مرددة ببكاء كاد أن يقطع أنفاسها..
"اااه يا أخوي.. يارب لاچل حبيبك النبي تقلبه مقلب سلامة لخاطر البنته الصغار"..
كفت عن البكاء حين رأت الطبيب المشرف على حالة "بخيتة" يقترب منها بوجهه لا يُبشر بالخير..
"خير يا دكتور.. أمه حُصلها حاچة..
أجابها الطبيب بأسف قائلاً..
" واضح إن المريضة اتعرضت لصدمة شديدة جدًا أدت لشلل رباعي و حالتها للأسف مش مستقرة.. أدعيلها "..
لطمت" خضرا "وجنتيها بعنف مرددة بنواح..
" يا مرك يا خضرا.. يا وچع الجلب اللي ملوش علاچ و لا دوا"..
........................................ سبحان الله وبحمده ....
.. داخل غرفة العمليات..
صدمة شلت الجميع حين توقف قلب "عبد الجبار" عن النبض رغم النجاح الكبير للعملية التي قام بها "أيوب" ببراعة و إتقان شديد،
هرول مسرعًا نحو الجهاز الخاص بإنعاش القلب، و صعقه به مرات متتالية، يكرر المحاولة مرارًا و تكرارًا دون يأس و هو يقول بغضب عارم..
"رافض الحيااااة لييييييييييييه"..
على الجانب الأخر بالغرفة التي تلد بها "سلسبيل" كانت الفرحة تعم المكان حين قالت الطبيبة التي تولدها بسعادة بالغة..
"ولدين.. جالك ولدين زي القمر يا سلسبيل"..
كان صوت بكاء الصغيران يجعل القلوب تتراقص فرحًا، فرحة غامرة تدمع لها العين إلى أن توقف أحدهما فجأة عن البكاء، و تباطأت أنفاسه و حتي نبضات قلبه..
ظهر الذعر على وجهه الطبيب المشرف على حالة الصغيران، و أسرع بإنقاذ الصغير بشتى الطرق أمام نظرات"سلسبيل " الزائغة، لكن في خلال لحظات فقط قد نفذ أمر الله و توقف نبض الصغير تزامنًا مع عودة النبض لقلب والده،
حينها شعر قلبها بفقدان إحدي صغارها فهبطت عبراتها ببطء على وجنتيها، أبتسمت إبتسامة يملؤها الرضى مرددة بصوتٍ ضعيف مرتجف ..
"إبني فدى أبوه.. عبد الجبار هيعيش.. إبني فداه"..
حمل الطبيب الرضيع على يده ، و ركض به مهرولاً عبر الباب الداخلي المؤدي للغرفة المتواجد بها دكتور "أيوب"، و تحدث بأنفاس متلاحقة قائلاً..
"دكتور أيوب.. قلب الطفل وقف فجأة ".
كان "أيوب" أنتهي للتو من إنقاذ "عبد الجبار "، ليطلق صرخة مغتاظة، و هو يلتقط الرضيع و وضعه على كتف والده العاري مرددًا بغضب مصطنع و هو يقوم بإنعاش قلبه بمهارة و دقة عالية..
"الواد و أبوه دول حد مصلطهم عليا انهاردة و لا أيه؟!!!"..
ليصل إلى سمعه صوت بكاء شقيقه التوأم، فتابع بتساؤل مستفسرًا..
" هما توأم؟!"..
"أيوه يا دكتور توأم.. مولودين قيصري.. و الولادة تمت قبل معادها في الشهر السابع"..
لم يتوقف "أيوب" عن محاولة إنقاذ الرضيع و هو يقول..
" هات أخوه بسررررعة"..
ركض الطبيب و اندفع نحو الرضيع الباكي، حمله على الفور و هرول مسرعًا أمام أعين "سلسبيل " التي تتابع ما يحدث بقلبها قبل عينيها..
لحظات مرت من أصعب اللحظات، حبس الجميع أنفاسهم و هم يتابعون محاولات" أيوب" المستميته لإنقاذ الرضيع، قام بوضع شقيقه بجواره داخل حضن والدهما الذي بدأ في إستعادة وعيه رويدًا.. رويدًا..
هبطت دموع "سلسبيل" بغزارة على وجنتيها متمتمة بهمس ضعيف بنبرة متوسلة..
"يارب.. أجبر قلبي يا جبار.. يارب متوجعش قلبي على ضنايا و لا على أبوه.. يارب أنا ملحقتش أخده في حضني"..
و ها قد حان وقت الجبر.. جبر السلسبيل الذي أثلج قلبها حين وصل لسمعها صوت بكاء الصغيريان معًا من جديد، يليه صوت تكبير من جميع الحاضرين الذين بكوا من شدة تأثيرهم عندما خر" أيوب " أرضًا ساجدًا..
لتجهش" سلسبيل " في البكاء و الضحك في آنٍ واحد حين استمعت بقلبها أسمها من بين شفتي "عبد الجبار" يقول دون أن يفتح عينيه و هو يضم صغاره بجسده بحماية دون إرادة منه ..
"س سلسبيل.. "..
تأوهت "سلسبيل" بصوتها كله مرددة بفرحة غامرة..
"آآآآه يا عبد الجبار... يا جبر السلسبيل "..
↚
في أوقات غضبنا نجتهد حتى نجرح غيرنا، لكن بعد فوات الأوان ندرك أننا لم نجرح سوي أنفسنا، نحن مخلوقين من ماء و طين، لو زادت الماء نبقي نهر، و لو ذات الطين نبقي حجر، لا شيء يدوم للأبد في هذا العالم و لا حتى مشاكلنا،
الحياة مجرد رحلة تحتاج منا الكثير من الرفق، التسامح، تجاهل الأخطاء لذلك عش اليوم فالغد قد يكون أو لا يكون..
"صورة تاريخية"..
ألتقطها "جابر" بهاتفه لحظة خروج "عبد الجبار" برفقة صغاره من غرفة العمليات بعد مكوثه داخل غرفة الآفاقة حتى إستعداد وعيه، الصغيران نائمان فوق كتف والدهما الذي مازال بين الوعي و اللاوعي، لكنه يضمهما بذراعيه المعلقان بهما الكثير من الأسلاك الطبية بهيئة تخطف القلب و تدمع لها العين..
"حمد لله على السلامة يا أبو الجبابرة.. يتربوا في عزك يا غالي ".. قالها "جابر" بمزاح أثناء تصويره مقطع فيديو له معاهم، مال عليه أثناء سيره بجوار السرير النقال مكملاً..
"الحمد لله ربنا قومك بالسلامة كلنا نبارك ل عبد الجبار باشا المنياوي على الولادة و نقوله يتربوا في عزك و ربنا يتم نفاسك على خير إن شاء الله "..
" أفوقلك بس و هخبرك زين مين اللي بيولد"..
قالها "عبد الجبار" بوعيد بصوتٍ مُتعب للغاية و بلهفة تابع..
"سلسبيل.. بناتي.. أمي"..
"إحنا أهو يا أبوي"..نطقت بها" فاطمة" ابنته الباكية و هي تهرول بخطواتها نحوه و خلفها شقيقتها..
نظر لهما" عبد الجبار " بأعين شبه مغلقة، و أبتسم ابتسامته المطمئنة قبل أن يختفي لداخل غرفة العناية المركزة..
كانت "خضرا" تقف على مسافة منه، تتابعه بعينيها الغارقة بالدموع، غير قادرة على الأقتراب منه أو حتى من بناتها اللتان يصرخان بذعر حقيقي و يختبأن كلما وقعت عينيهم عليها..
فور دخول" عبد الجبار" العناية حملت إحدي الممرضات الصغيران مردفة بعملية..
" الأطفال لازم يدخلوا الحضانة عشان الدكتور يعملهم فحص شامل"..
همس "عبد الجبار" بقلق و عينيه تتابع صغاره قائلاً..
"أمهم.. طمنيني على أمهم؟ "..
أجابته الممرضة و هي تضع الصغيران على سرير نقال خاص بهما و تغادر الغرفة على الفور.. " أطمن الأم كويسة جدًا"..
"حمد لله على السلامة.. خضتنا عليك يا راجل"..
أردف بها" أيوب " الذي دلف للتو و بدأ يقراء نتائج الأجهزة التي تم توصيلها بصدر و يد "عبد الجبار "..
تنهد" عبد الجبار" تنهيده حزينة و هو يقول.. " الله يسلمك يا دكتور.. هخرج أمتي من أهنه؟ "..
رفع" أيوب " حاجبيه معًا، و تطلع له مشدوهًا مغمغمًا..
" تخرج أمتي أيه !!.. أنت ربنا نجاك من طلقة كان بينها و بين القلب واحد سم ، و خرجت برحمة ربنا و رأفته بمراتك اللي كانت عايزه تتبرع لك بقلبها و ولدت قبل معادها من خوفها و قلقها عليك"..
" عشانها و عشان ولادي لازم أخرج من أهنه"..
قالها "عبد الجبار" و هو يكافح بضراوة حتى ينهض من مضجعه، ليوقفه" أيوب " مسرعًا و هو يقول بتحذير..
" أهدي يا عبد الجبار.. أنت كده بتعرض نفسك للخطر"..
أنهى جملته و قام بإعطاءه حقنه مهدئه، أغمض" عبد الجبار" عينيه المجهدة، و بدأ يهذي بقلبٍ ملتاع..
"سلسبيل..مراتي .. لازم أكون چارها"..
ربت "أيوب" على كف يده المنغرس بها حقن معلق بها محاليل طبية و كيس من الدماء، و تحدث بهدوءه المعتاد قائلاً..
"مراتك كويسة و خرجت من العمليات متقلقش.. و أول ما مفعول البينج يروح هتجيلك هنا تطمنك عليها بنفسها"..
............................... سبحان الله وبحمده.............
مّرت عدة ساعات، هدأ روع الجميع قليلاً باستقرار الأوضاع في الوقت الحالي، ف غادر "جابر" المستشفى برفقة "صفا" و معاهم بنات "عبد الجبار"،و ظلت" خضرا "تجلس بمفردها أمام غرفة العناية المتواجد بها زوجها،رغم أن الطبيب المشرف سمح لها بدخول و الاطمئنان عليه لكنها لم تقوى على مواجهته، فضلت الإنتظار لعله يطلب رؤيتها هو..
بينما بقت "عفاف" مع "سلسبيل " التي فور شعورها بأطرافها قالت بفرحة غامرة ..
" أنا حاسة برجلي يا ماما عفاف.. ساعديني أقوم.. عايزة أروح أطمن على عبد الجبار و أشوف ولادي في الحضانة"..
هرولت "عفاف" نحوها مرددة بتعقل..
"أستنى لما أنادي الدكتورة تطمني عليكي الأول يا سلسبيل "..
تعلقت" سلسبيل" بذراعها و نهضت بصعوبة شديدة و هي تقول بأنفاس متهدجة..
"لا.. مش هقدر أستني أكتر من كده.. أنا هتجنن و أطمن عليهم يا ماما.. ولادي و أبوهم واخدين قلبي معاهم"..
ساعدتها "عفاف" بخلع رداء المستشفى، و البستها منامة وردية و من فوقها روب طويل من اللون الأسود أحكمت أغلاقه و رفعت الكاب الخاص به على شعرها، أخذت "سلسبيل "نفس عميق قبل أن تغادر الفراش بوهن و ضعف، تحملت على نفسها، و كتمت آهه متألمة حين أنتصبت واقفه..
استندت بيد على "عفاف" التي قالت بحنو..
"حاولي تفردي ضهرك يا بنتي"..
لم تنطق" سلسبيل" بحرف واحد، قطعت الحديث تمامًا من قوة الألم الذي يفتك بها، لكنها تحملته، و مدت يدها الأخرى استندت على المشجب المعلق به المحلول المتصل بكف يدها، و بدأت أول خطواتها تجر قدميها جرًا على الأرض لا تقوى حتى على رفعها..
" عايزين نروح الحضانة لو سمحتي"..
قالتها" عفاف" فور خروجهما من الجناح، لتقبض "سلسبيل" على يدها بأصابعها الباردة، و تحرك رأسها بالنفي مرددة بصوتٍ بالكاد يُسمع..
"عبد الجبار.. وديني عنده الأول"..
ظهر الضيق على وجهه "عفاف" و تحدثت بأسف قائلة..
"خضرا هتلاقيها عنده هناك يا سلسبيل و بصراحة أنا خايفة عليكي منها وأنتي لسه والدة و تعبانة كده لتعمل فيكي حاجة.. إحنا مش ناقصين يا بنتي"..
هبطت دموع"سلسبيل" على وجنتيها و هي تقول بنبرة راجية..
"عشان خاطري.. عشان خاطري يا ماما وديني عنده"..
حركت "عفاف" رأسها بيأس، و رفعت يدها مسحت دموعها..
" أمري لله.. حاضر هوديكي عنده تعالي نركب الاسانسير لأن هو في تاني دور و إحنا هنا في السابع"..
سارت بخطواتها البطيئة معاها حتى وقفت بها "عفاف" أمام باب الاسانسير ينتظران صعوده، فُتح الباب ليجدوا"جابر" امامهما يقول بقلق و هو يقترب من "سلسبيل" بلهفة ..
"أيه ده رايحين فين؟!"
أجابته" عفاف" قائلة..
" مصرة تطمن على عبد الجبار بيه "..
تطلع لها" جابر "بنظرة عاتبة، و فجأها بلف يده حول خصرها ضمها كلها داخل صدره و هو يقول بغضب ..
"مش أنا طمنتك عليه و وريتك الفيديو اللي صورته له عشان أزل أنفاسه بيه..عجبك يعني و أنتي مش قادرة تقفي كده يا سلسبيل!! "..
لم تستطيع الرد عليه، و لا حتى الإبتعاد عنه، بل أن تعبها الشديد أرغمها بألقاء جسدها عليه..
رمقته "عفاف" بنظرة ذات مخزي مدمدمة..
"امممم.. كويس إنك روحت صفا و جيت تاني عشان تقولها.. أصلي مش قادره امنعها لوحدي"..
تهرب" جابر " بعينيه من أعين" عفاف" التي ترمقة بنظرة يملؤها الأسف، ف عشقه ل "سلسبيل" مازال محفور بقلبه، و ظهر على قسماته حين ضمها لصدره بلهفة هكذا..
"لا.. وديني عنده عشان خاطري يا جابر"..
همست بها" سلسبيل " منعته بالعودة بها تجاه غرفتها مرة ثانية، نفذ طلبها على مضض، و دلف بها لداخل الاسانسير خلفهما "عفاف" و هو محاوطها بذراعها حتى أصبحت قدميها لا تلمس الأرض..
توقف بهما الاسانسير في الطابق المقصود، و فور فتح الباب وجدوا" خضرا " تنهض من علي مقعدها، و تطلع نحوهم بأعين متسعة، متعجبة من وضع "سلسبيل" المستندة على "جابر"، حاولت "سلسبيل" الإبتعاد عن "جابر" و قد شعرت بالإحراج، إلا أنه أبي أن يتركها..
"مش هسيبك يا سلسبيل.. أنا لو سبتك هتقعي و ده مش هيحصل.. مافيش أي حاجة و لا أي حد يقدر يوقعك تاني طول ما أنا في ضهرك"..
كان يتحدث بصوتٍ عالِ متعمد أن يصل لسمع "خضرا"، سارت" سلسبيل" برفقته حتى وصلت أمام باب العناية المغلق فطرق "جابر" عليه بقبضة يده..
بينما بقت" خضرا "واقفة مكانها، تتابعهم بصمت..
خرج إحدي الأطباء المشرفين على العناية، و تحدث بعملية قائلاً..
" خير يا فندم"..
"المدام عايزه تطمن على عبد الجبار بيه"..
قالها "جابر "بصوته الأجش، ليبتسم الطبيب و يشير على "سلسبيل" و هو يقول بثقة..
"أكيد حضرتك مدام سلسبيل؟ "..
حركت "سلسبيل" رأسها بالايجاب، ليتابع الطبيب بابتسامة أكثر اتساعًا..
"عبد الجبار بيه مبطلش سؤال عنك و لو كنتي اتأخرتي أكتر من كده كان هيجيلك هو"..
سار من أمامهم تجاه غرفة أخرى مغلقة و فتحها مكملاً..
"اتفضلي أدخلي هنا و هبعتلك ممرضة تعقمك الأول "..
نظرت "سلسبيل "تجاه" خضرا" و همست بابتسامة متألمة ..
"تعالي يا أبلة خضرا.. هندخله سوا "..
↚
مرحبًا..
أنا "سلسبيل" أتذكروني ؟! ..
تلك الأنثى الضعيفة، المنكسرة التي تزوجت بالإجبار لتنجو بحياتها من ظلم والدها ، لكن دعوني أعترف لكم بشيئًا سيبدو مريبًا لكم جميعًا، عفوًا لا يوجد أنثى ضعيفة على وجه الأرض! ، ضعفنا هذا ستار نخفي خلفه ما نريد الحصول عليه، لذلك ذُكر كيدنا بالقرآن الكريم.
أعترف الآن أن ضميري يأنبني منذ أن أصبحت زوجة ثانية لرجل كانت حياته هادئة مكتفي بزوجته و أبنتيه حتى ألتقي بعيناي التي تعمدت رمقه بنظرة ثاقبة أصابت قلبه في الحال، نظرة كنت أستجديه بها أن لا يتركني، أنا من سعيت لزواجي منه فور رؤيته،
لو كنت طلبت منه المساعدة فقط و أظهرت عدم تقبلي له من بادئ الأمر، كان ساعدني و أبعدني عن والدي و عنه هو أيضًا، لكن أنا من فتحت له طريقًا سهل نحو قلبي، طمعت في قلبه فأوقعته بشباكي و أغرقته في بحر عشقي بكامل أرادته،
فقد كنت على دراية كاملة بحسن أخلاقه و معاملته لزوجته التي جعلتها ملكة متوجة، لن أنكر إني تمنيته لنفسي، يكن رجلي أنا الذي طالما حلمت به ، و قد كان حصلت عليه و استحوذت على قلبه و نزعت عن زوجته تاجها و أخذته لنفسي، دمرت بوجودي قلبها و أظهرت أسوء ما فيها..
و ها أنا أقف على عتبة الغرفة التي يرقد بداخلها بعد أن نجي من الموت بأعجوبة ، يمزقني شعوري بالندم و الألم على ما فعلته به و بعائلته الصغيرة ، أنا الزوجة الثانية لكني الجانية الأولى فإذا كان هناك أحدًا مذنب في حكايتي هذه، فهي أنا تلك المذنبة التى أغرمت برجل رأت مدى عشق زوجته له و مع ذلك لم ترحم لوعة قلبها و سرقته منها..
تمنيت الجبر لقلبي لكني لم انتبه أن جبري هذا سيكون على حطام قلب زوجته الأولى، لوهلة تخيلت نفسي مكانها، أرى زوجي يذوب عشقًا بامرأة غيري أمام عيناي، لن أتردد لحظة و لن يقدر أحد على منعي من تمزيقها و تمزيقه معًا بأسناني أربًا..
كل ما فعلته "خضرا" لن يكن شيء أبدًا أمام ما أنوي على فعله إذا كنت أنا مكانها!!
مجرد التخيل فقط أن زوجي بحضن إمرأة غيري جعلني اتهيأ لأخذ عزاه بابتسامة واسعة بعدما أنهى حياته بيدي، صدق من قال هذا المثل المرأة ترى زوجها بقبره و لا تراه مع إمرأة غيرها حقًا صدق،
نصحيتي لكل من قرأ حكايتي إياكِ أن تقربي من رجل متزوج، إياكِ ثم إياكِ أن تدمري قلب إمرأة مثلك فسوف يأتيكِ عقاب قاسي من الممكن أن يمزق قلبك و روحك لأشلاء مثلي تمامًا الآن ..
"مش هتدخلي معايا ليه يا أبلة خضرا؟!"..
أردفت بها "سلسبيل" بتساؤل حين رأت "خضرا" توقفت قبل عتبة باب الغرفة و تراجعت للخلف خطوتين..
ابتلعت "خضرا" رمقها بصعوبة و هي تقول بصوتٍ متحشرج بالبكاء..
"خليني أنا أهنه..هو مطلبش شوفتي.. لو طلبني هدخله"..
أبتسمت لها"سلسبيل " إبتسامة باهتة،و أخذت نفس عميق قبل أن تسير بخطواتها البطيئة مستندة على إحدي الممرضات بيد، و يدها الأخرى تضعها أسفل بطنها مكان جرح ولادتها القيصرية..
خفق قلبها بشدة كلما اقتربت من الفراش الممد عليه زوجها، انهمرت دموعها على وجنتيها بغزارة ، تعالت وتيرة أنفاسها أصبحت على هيئة شهقات عالية متقطعة، فجرحها جعلها لا تقوى على البكاء إلا بتلك الطريقة، حتى وصلت لسمعه فنتفض متأوهًا في مضجعه مرددًا بلهفة..
"سلسبيل.. يا حبة جلبي"..
عاشق و مُغرم هو بها و ليس على العاشق لوم..
أخيرًا قطعت المسافة الفاصلة بينها و بينه، ساعدتها الممرضة على الجلوس على مقعد بجوار سريره، لترتمي عليه بحذر شديد تقبل وجهه قبلات حارة متفرقة، و دموعها تنهمر على بشرته حتى اختلطت بدموعه هو ..
"عبد الجبار.. يا حبيبي.. أنا السبب في كل اللي حصلك..ياريتك سبتني لأبويا يموتني.. يا ريتك ما اتجوزتني.. يا ريت قلبك ما حبني.. ياريتني مت قبل ما تشوفني مكنش كل ده حصلك"..
اسكتها هو بفمه الذي التقط شفتيها بين شفتيه يقبلها بلهفة قبله عميقة غير عابئ لوجود الممرضة التي انسحبت للخارج على الفور بحرج تترك لهما بعد الخصوصية ، ابتعد عنها على مضض، و تحدث بنبرة صوته الذي يدغدغ مشاعرها قائلاً بمنتهي العشق..
"بعيد الشر عنك يا حبة الجلب.. فداكي يا سلسبيل.. أني فداكي و لو رچع بيا الزمن من التاني مكنتش ههملك واصل"..
صمت لبرهةً يلتقط أنفاسه، و تابع بصوتٍ اختنق ببكاء مخيف جعل "سلسبيل" تبكي لبكاءه حين قال بقلبٍ ملتاع أرهقه الفراق..
"خوفت أموت وأنتى مش على ذمتي عشان أكده رديتك لعصمتي.. بس رايدك برضاكي.. برضاكي يا سلسبيل "...
قبلت عينيه ببطء كأنها تتذوق دموعه..
" بحبك.. بحبك يا أبو ولادى.. بحبك يا عبد الجبار و عارفة أني أنانية في حبك بس مش هقدر أبطل أحبك.. والله ما هقدر" ..
أبتسم لها ابتسامته التي تُذيب قلبها العاشق له مغمغمًا..
" قولتهالك قبل سابق و هقولهالك تاني "..
نظر لعينيها نظرته المُتيمة التي تأثرها مكملاً..
"كأنك مولودة في جلبي يا بت جلبي يا أم سند و جبر"..
ضحكت بفرحة غامرة وهي تقول..
" الله.. سند عبد الجبار و جبر عبد الجبار.. أيه الأسامي الحلوة.. عجبوني أوي يا أبو جبر "..
تأمل ملامحها بافتنان و بهمس قال..
" أنتي جبر جلب عبد الجبار يا سلسبيل..مع إنك كيف حب الرمان معرفش أتلم عليكي بتفرطي من يدي فرط.. بس خلاص من انهاردة مهتغبيش عن عيني واصل"..
ظهر الحزن على ملامح" سلسبيل " أخفي فرحتها و همست بتساؤل و خجل قائلة..
" طيب و أبلة خضرا يا عبد الجبار.. هتعمل معاها أيه؟! "..
↚
بعد وقت ليس بقليل، وقتٍ كان كافي ليتعافي فيه الجميع من جروح أجسادهم، بينما جروح قلوبهم لم تشفي بعد..
اليوم مّر أربعين يوم على ولادة "سلسبيل"، غادرت المستشفى بعد أسبوع برفقة صغارها، أنتقلت بهم إلى منزلها في الإسكندرية بأمر من زوجها "عبد الجبار" رغم أعتراضها و إصرارها الشديد على البقاء بجانبه، إلا أنها انصاعت لحديثه بالأخير.
بينما هو مكث شهر كاملاً بالمستشفى حتى استعاد صحته من جديد، خرج برفقة والدته التي فقدت قدرتها على الحركة و الحديث تمامًا، أصبحت لا تقوى على فعل أي شيء سوي تحريك أهدابها فقط.
خلال تلك المدة ظلت "عفاف" برفقة بنات "عبد الجبار" بمنزلهم الجديد بالإسكندرية المجاور لمنزل "سلسبيل" ، بينما عادت "خضرا" لأهلها في الصعيد بعد إدراكها أن وجودها غير مرغوب من الجميع .
فور خروج "عبد الجبار" أنتقلت "عفاف" على الفور عائدة إلى "سلسبيل"، و ظل هو برفقة ابنتيه و والدته يقوم بخدمتهم بنفسه يحاول قدر المستطاع إحتواء أبنتيه، و تفهم حالتهما النفسية السيئة للغاية بسبب ما مّروا به،
عشرة أيام منذ خروجه من المستشفى و "سلسبيل" تنتظر مجيئه إليها، يرى صغاره يوميًا و يطمئن عليهما ولكنه لم يخطو لمنزلها حتى الآن، و هي تحلت بالصبر تقديراً لحالة والدته و أبنتيه..
تقف كل ليلة في شرفة غرفتها تطلع على باب المنزل الخارجي تنتظر طلته على أحر من الجمر، على يقين أنه سيأتي إليها و هي ستظل دائمًا فى إنتظاره خاصةً الليلة سيأتي لا محالة فاليوم فرح "جابر" و بالتأكيد لن يتركها تذهب بمفردها ..
"سلسبيل أنتي لسه وقفة مكانك.. ملبستيش؟!"..
أردفت بها "عفاف" التي دخلت للتو حاملة الصغيران على كلتا يدها..
تنهدت "سلسبيل" بحزن و هي تقول..
"مستنية عبد الجبار يا ماما.. هو أكيد هيجي عشان نروح الفرح سوا"..
أشارت بعينيها على الفراش الموضوع عليه بدلة سوداء كاملة و فستان في غاية الجمال و الرقي من اللون الكاشمير بلون رابطة عنق البدلة..
"أنا جهزت له البدلة و مستنياه عشان ألبسه بأيدي"..
ظهر الأسف على وجهه" عفاف" و هي تقول..
" سلسبيل يا حبيبتي ألبسي يله على ما أبلغ السواق يجهز عشان يوصلك لأن عبد الجبار بيه مش هيجي"..
تطلعت لها "سلسبيل" بتساؤل تحثها على استكمال حديثها، فتابعت "عفاف" قائلة..
" لأنه راح الصعيد يجيب خضرا "..
انتفض قلب "سلسبيل" انتفاضة قوية، و تجمعت العبرات بعينيها و هي تقول بهمس متحشرج بالبكاء..
" هو قالك أنه رايح يجيبها يا ماما عفاف؟!"..
"اه يا حبيبتي قالى البنات محتاجين أمهم رغم زعلهم منها.. بالذات فاطمة بنته الكبيرة تعبت إمبارح و بقت تعيط من كتر التعب و هو بقي هيتجنن و يسألها أيه اللي تعبها تعيط و مش راضية ترد على سؤاله و كل اللي عليها تقول عايزة أمي..جبلها دكتورة و كشفت عليها لقيتها تعبانة من البيريوت.. اتريها بلغت و مكسوفة تقول لأبوها و حتي مكسوفة مني أنا كمان.. وقتها قرر أنه هيسافر يجيب أمهم و فعلاً مشي قبل ما الشمس تطلع"..
هبطت دموع" سلسبيل " على وجنتيها ببطء مرددة..
" و تفتكري هي هتوافق ترجع معاه بعد اللي حصلها؟! "..
أطبقت جفنيها وهي تتذكر أخر لقاء جمعها ب" خضرا"..
.. فلاش باااااااااااك..
تجلس على الفراش ضامة صغارها بين ذراعيها بحنان العالم أجمع،غالقة عينيها التي تنهمر منها العبرات بدون أدنى إرادة منها بسبب قوة المشاعر الجياشة التي تعيشها، تستنشق عبيرهما بلهفة و فرحة غامرة لم تشعر بها من قبل تغلف قلبها و روحها ..
بينما تقف "صفا" بجوارها "عفاف" محتضنة "فاطمة، حياة" يتابعونها بابتسامة و أعين دامعة من شدة تأثرهم..
كانت منفصلة عن الدنيا معاهما حتى أستمعت صوت طرقات ضعيفة على باب الغرفة، فتحت عينيها بصدمة حين قالت "فاطمة" بصوتٍ هامس مذعور..
"محدش يفتح دي أكيد أمه خضرا"..
نظرت "عفاف" ل "سلسبيل " نظرة أسف يملؤها الشفقة فتفهمت "سلسبيل" علي الفور ما يدور حولها، و سبب الذعر الظاهر على ملامح الفتاتين..
ربتت "عفاف" على ظهرهما مرددة بنبرتها الحنونة..
"متخفوش يا حبايبي" ..
فتحت "صفا" الباب، فدلفت منه" خضرا " بخطي بطيئة، تدور في المكان بعينيها الزائغة تبحث عن بناتها، لترمقها "عفاف" نظرة عاتبة مكملة بثقة..
"مامتكم عمرها ما هتأذيكم تاني أبدًا "..
ليجهشان بنوبة بكاء حاد و هما يدفنان وجهها داخل حضن "عفاف" و يرتجفان بقوة مما دفعها لسحبهما سريعًا تجاه غرفة أخرى داخل الجناح،تابعتهما "خضرا" بقلب ينفطر على حالتهما التي تشق القلوب،عقابها هذا أقوى و أقسى عقاب يمكن أن تتعرض له أي أم، توجهت بنظرها ل "سلسبيل" التي تبادلها النظرة بأخرى مترقبة..
ساد الصمت للحظات حتى قطعته "صفا" و سارت تجاه الغرفة المتواجدة بها "عفاف"..
"طيب أنا جنبك هنا يا سلسبيل..لو احتاجتي أي حاجة أهمسي بس هتلاقيني قدامك"..
"مبروك ما جالك يا خيتي.. يتربوا بحسك و في عز أبوهم إن شاء الله "..
أردفت بها "خضرا" بابتسامة باهتة، و هي تحاول السيطرة على عبراتها التي أغرقت وجنتيها، و استدارت على الفور تستعد للخروج..
" أستنى يا أبلة خضرا".. قالتها" سلسبيل " بصوتٍ مختنق بالبكاء، نظرت لها "خضرا " مرة ثانية، لتحسها" سلسبيل " على الأقتراب منها، و هي تمد لها الصغيران، تفاجأت من فعلتها هذه لكنها هرولت تجاهها بسعادة بالغة ظهرت على ملامحها الحزينة، و التقطت منها الصغيران معًا لصغر حجمهما تضمهما بلهفة لصدرها، و انفجرت بنوبة بكاء مرير حين قالت لها "سلسبيل" بابتسامة دافئة رغم الدموع العالقة بأهدابها..
"قولتيلي إن عبد الجبار فداكي بروحه و خد الرصاصة مكانك، و أنا واثقة إنك هتفدي ولاده بروحك و هيبقوا ولادك أنتي كمان زي ما فاطمة و حياة بعتبرهم بناتي"..
كانت "خضرا" تضم الصغيران و تقبلهما بحنان بالغ و هي تبكي بكاء يُبكي الحجر لعلمها أن صوتها سيصل لابنتيها، تعبر لهما ببكائها هذا عن مدى ندمها على خطأها في حقهما..
لتتوقف فجأة عن البكاء، و تنقلت بنظرها بين"سلسبيل " و الصغيران بأعين متسعة على آخرها و هي تقول..
" سلسبيل"..
بعدت الصغيران بضعة أنشات عن صدرها و تابعت بذهول..
"صدري حن.. صدري حن لهم يا خيتي"..
كانت تتابعهما "عفاف" بنظرات مشتعلة بالغضب، لكنها بقت صامتة إلى أن تفوهت "خضرا" بجملتها الأخيرة، فهرولت مسرعة تجاههم و قامت بأخذ الصغيران من "خضرا" مغمغمًا بلهجة حادة..
"مش هينفع يا مدام خضرا.. عبد الجبار بيه كان عارف إن ده هيحصل و ده اللي سلسبيل هتعمله و اللي انتي كمان هتعمليه عشان كده أكد عليا محدش ليه علاقة بالولاد غير أمهم و بس.. و قالي أبلغكم كل واحدة تخليها في نفسها و في عيالها و ملهاش دعوة بالتانية نهائي"..
"عيالي!! و هما فين عيالي؟! ".. غمغمت بها" خضرا " بغصة يملؤها الآسي، و هي تطلع نحو بناتها المختبئتان منها داخل حضن" صفا "، شعرت أنها منبوذة من الجميع، و أولهم أبو بناتها الذي لم يطلب رؤيتها حتى الآن..
" أنتي عملتي الواجب و باركتي لسلسبيل تقدري تتفضلي دلوقتي من غير مطرود"..
قالتها" عفاف" و هي تضع الصغيران من يدها داخل حضن والدتهما التي تطلع لها مشدوهة من طريقة حديثها الجديدة مع "خضرا"، لتزفر "عفاف" بضيق مرددة..
"دي أوامر عبد الجبار بيه مش كلامي أنا يا سلسبيل"..
تنقلت" خضرا "بعينيها بين الجميع، و من ثم غادرت بصمت دون التفوه بكلمة واحدة، لم تغادر الغرفة فقط، بل غادرت المستشفى بأكملها عائدة للصعيد مسقط رأسها.
.. نهاية الفلاش باااااااااااك..
فاقت "سلسبيل" من شرودها على صوت" عفاف" تتحدث بحنو قائلة..
" متشغليش بالك بغيرك يا سلسبيل.. اعملى زي ما جوزك قالك فكري في نفسك و في ولادك دول أهم حاجة عندك دلوقتي.. و يله يا بنتي البسي عشان الوقت بيجري و أنتي لسه هتروحي المنصورة و ترجعي"..
تحركت "سلسبيل" من مكانها على مضض، اقتربت من" عفاف" و قبلت صغارها مرات متتالية مدمدمة بحيرة..
" مش هاين عليا أسيبكم هنا.. عايزة اخدكم معايا و نرجع سوا"..
قالت" عفاف" بتعقل..
"المشوار هيبقي طويل على الولاد.. أنا هقعد بيهم هنا أفضل على ما تروحي أنتي و ترجعي"..
بدأت" سلسبيل" تبدل ثيابها خلف الزجاج العاتم لغرفة الملابس الخاصة بها مردفة بغصة مريرة..
" عارفة يا دادة أنا كنت بقول لنفسي لو رجع بيا الزمن مكنتش وافقت أبدًا أكون زوجة تانية.. و رغم أن جوازي من عبد الجبار كان هو الوسيلة الوحيدة اللي هتنجيني من أبويا إلا أني لو كنت استنيت شوية كنت قابلت جابر و ساعتها يمكن مكنتش اتجوزت عبد الجبار ولا كل اللي عشته ده حصل"..
ردت عليها " عفاف " بثقة قائلة.. " حتى لو كنتي قابلتي جابر قبل ما تتجوزي عبد الجبار مكنتيش هتتجوزيه يا سلسبيل "..
خرجت" سلسبيل " مرتدية فستانها الأكثر من رائع،و نظرت لها بابتسامة خجولة مردفة..
" ليه بتقولي كده؟ "..
" عشان أنتي وقعتي في حب عبد الجبار و قلبك اتعلق بيه و اختاره هو و الحب ملوش كبير و لا على القلب سلطان "..
" عندك حق يا ماما.. أنا مش بس حبيت عبد الجبار.. أنا عشقته و أختارته هو يبقي أبو ولادي لأنه في عيني أعظم أب و زوج في الدنيا"..
........................ لا إله إلا الله..........
"عبد الجبار "..
يقف أمام" خضرا " مصدومًا من هيئتها التي تغيرت للنقيض تمامًا، فقدت الكثير من الوزن في وقتٍ قياسي و هذا إن دل على شيء فيدل على شدة حزنها الذي يظهر بوضوح على ملامح وجهها المنطفئة،
تطلع له بأعين جاحظة، نظراتها زائغة وقد ظنت أنها تتوهم وجوده كعادتها، كانت ملامحه في بادئ الأمر جامدة، لكن داهمته ذكريات لن ينكر جمالها له معاها اهمهم بناته فلذات أكباده أجبرته على الإبتسامة وهو يقول..
"كيفك يا خضرا؟!"..
لم ترد عليه، بل قطعت المسافة بينه و بينها بخطوات متثاقلة حتى توقفت أمامه مباشرةً و رفعت يدها وضعت كفها على صدره بمكان تلك الطلقة التي أصابته تتأكد من وجوده..
تتحسس صدره بأصابعها، صعودًا للحيته، و وجهه مرددة بأنفاس متقطعة..
"عبد الچبار .. أنت أهنة صُح يا أخوي.. ولا أني بحلم بيك زي عوايدي"..
وضع راحة يده على يدها و هو يقول بصوته الأجش..
"لا يا خضرا.. مبتحلميش.. أني أهنة.. چاي لاچل ما أخدك و نعاود لدارنا "..
"يعني قلبك صفي من ناحيتي و سامحتني يا عبد الچبار".. قالتها ببكاء و هي تستجديه بعينيها أن يضمها لصدره..
تنهد" عبد الجبار " و هو يجيبها..
"لازم أسامحك يا أم فاطمة.. لأن الغلط طايل الكل و أني أولكم "..
حركت رأسها بالنفي و هي تقول..
" لا لا يا أخوي أنت مغلطش أنت عملت شرع ربنا.. اتچوزت على سنة الله ورسوله.. و كنت شاري خاطري و زعلي و بتعمل المستحيل لاچل ما ترضيني بس أني الغيرة عمتني عن كل ده و سودت قلبي..و بعد كل اللي حُصل مني چتلي لحد عندي اهنه لاچل ما تردني و تطيب خاطري اللي عمرك ما كسرته..
حقك عليا يا راچلي.. متزعلش مني أحب على يدك"..
قالتها و هي ترتمي على صدره و تجهش في نوبة بكاء حاد، ضمها هو له و ربت على ظهرها بكف يده مغمغمًا بفرحة ..
"متبكيش عاد أمُال.. و افرحي وياي ب فاطمة بنتنا اللي بقت عروسة "..
توقفت عن البكاء على الفور، و رفعت رأسها نظرت له بأعين يغرقها الدمع و ابتسامة تزين شفتيها المرتعشة مرددة بدهشة..
"وه.. فاطمة بتي بقت عروسة..قصدك أنها چاتها؟!"..
حرك رأسه لها بالإيجاب و هو يقول..
" و مريداش حد واصل غيرك أنتي.. مافيش على لسانها غير رايده أمي"..
"عشان أكده أنت چيت تاخدني؟!"..
مسح دموعها بأنامله و هو يقول..
"و ده سبب هين يا أم فاطمة.. بناتي أهم حاچة عندي.. أهم حتى من نفسي و من روحي و لخاطر هم و راحتهم أعمل كل حاچة و أي حاچة و لا أيه يا أم فاطمة"..
" عندك حق يا خوي.. قولك دايمًا بيبقي صُح يا عبد الچبار "..
أبتسم لها و هو يقول..
"طيب همي قوام خلينا نلحق معاد الطيارة "..
رفعت حاجبيها بتعجب مرددة بتساؤل..
" أول نوبة نسافر بالطيارة؟! "..
" عندي مشوار مهم مع سلسبيل مَراتي مينفعش اتأخر عنه"..
هكذا اجابها يؤكد لها أن" سلسبيل " مازالت زوجته مثلها و ستظل للأبد..
أبتسمت هي تلك المرة له و قد عادت ملامحها الحنونة لطبيعتها أخيرًا مردفة بتفهم..
"و ماله يا خوي..ربنا ميحرمناش منك واصل"..
.............................. سبحان الله وبحمده........
.. داخل إحدي أفخم قاعات الأفراح بمحافظة المنصورة، يُقام فرح أسطوري ل "صفا" صاحبة القدم الصناعية التي عاشت أصعب شعور ممكن أن تحياها فتاه في عمرها الذي لم يتجاوز العشرون عام،
ليحين وقت الجبر و يرزقها الله برجل بكل ما تحمل الكلمة من معنى يعوضها عن كل ما مرت به في حياتها، يحتويها بين ذراعيه و يرقص بها رقصتهم الأولى على أنغام موسيقى هادئة تعزف على أوتار قلوب جميع الحضور الذين يتابعونهما بأعين هائمة،
"مبروك يا صفا.. مبروك يا أحلى عروسة شافتها عنيا"..
همس بها "جابر" داخل أذنها و هو يميل على وجنتيها و يخطف قبلة عميقة أشعلت حمرة الخجل بوجهها..
"الله يبارك لي فيك يا جابر".. همست بها بستحياء و هي تطلع لعينيه بعينيها الفاتنة التي جعلت نبضات قلبه تتسارع تؤكد له أن ما كان يشعر به قبل سابق ما إلا وهم بأسم الحب، أما تلك الصفا قد علمته معنى الحب الحقيقي..
حملها "جابر" حتى لم تعد قدميها تلمس الأرض و بقي يرقص بها بفرحة غامرة تُشع من اعينهما، بينما "سلسبيل" الجالسة بجوار جدها شاردة الذهن لا تُفكر في أي شيء سوي زوجها،
رباه!!! لقد اشتاقت له حد الجنون، يرتجف قلبها بقوة كلما داهمتها إحدي لحظاتها الحميمية معه،
اغمضت عينيها ببطء محدثة نفسها بقلبٍ ملتاع ..
" واحشتني أوي يا عبد الجبار.. واحشتني يا أبو سند"..
داعبت رائحة عطره انفها، أرغمتها على فتح عينيها، و بدأت تبحث عنه بلهفة بين الحضور..
ظلت تدور بعينيها حتى أخيرًا لمحته يقترب نحوها،
و ها قد أشرقت شمس حياتي من جديد حين رأيته يقف هنا أمامي على قدميه بطوله المُهيب، و هيئته التي تخطف قلبي و أنفاسي، يتطلع إلى بنظراته المُتيمة التي تُذيب عظامي، هامسًا أسمى بنبرة صوته المُدمرة..
"سلسبيل.. أتوحشتك يا بت جلبي"..
الأمر تخطي كَونه حُب، أنا أصبحت أتنفسه لذا أنا على قيد الحياة.
كان يرتدي البدلة و ربطة العنق التي جهزتها له، مد يده لها، فوضعت يدها الصغيرة داخل راحة يده، فأغلق عليها كفه الضخم حينها تزلزل قلبهما معًا، سحبها عليه بمنتهي الرفق فنهضت من مقعدها و وقفت أمامه على قدميها المرتعشة، مال عليها و طبع قبلة مطّولة على جبهتها،و من ثم سحبها خلفه و سار تجاه العروسين..
"ألف مبروك يا اچدع عريس".. قالها "عبد الجبار" و هو يحتضن "جابر"، بينما "سلسبيل" احتضنت "صفا" مردفة بابتسامة دافئة..
"مبروك يا صفا.. ألف مبروك يا حبيبتي.. ربنا يسعدك أنتي وجابر في حياتكم"..
نظرت ل "جابر" و تابعت..
"مبروك يا جابر.. مبروك يا أخويا"..
أبتسم لها" جابر " و تحدث و هو يضم زوجته لحضنه مرة أخرى..
"الله يبارك فيكي يا حبيبة أخوكى"..
غمز ل" عبد الجبار" و همس بإذنه قائلاً..
" ما تشاركنا في الرقص يا أبو جبر و لا أنت متعرفش ترقص إلا بالنبوت"..
رمقه" عبد الجبار" بنظرة مصطنعة الغضب و جذب زوجته عليه حاوط خصرها و بدأ يرقص بها و هو يقول..
"إسمه الضرب بالنبوت، هعلمك أني كيف ضرب النبوت الصُح يا ابن البندر"..
كانت "سلسبيل" مذهولة من فعلته هذه، حقاً هو يرقص معاها تلك الرقصة التي كانت حلم من أحلامها ظنت أنه لن يتحقق!..
حاوطت عنقه بدلال، و عينيها تتأمل مظهره بإعجاب شديد مدمدمة بغنچ..
"مين اللي لبسك البدلة الحلوة بزيادة دي "..
عينيه كانت تتفرس ملامحها، نظرته لها تصرخ بمدى شوقه و عشقه لها، يتنقل بعينيه بين عينيها و شفتيها بمنتهي اللهفة هامسًا داخل أذنها بأنفاسه الحارة التي تُذيبها كليًا ..
"أني اللي لبستها لحالي.. بس أنتي اللي هتقلعهالي"..
قالها و هو يضغط على خصرها بأصابعه بعنف محبب جعل قلبها ينتفض بين ضلوعها بجنون، توهجت وجنتيها بحمرة قانية حين تفهمت مقصده و ما ينوي على فعله الليله معاها..
ليصدح صوت المزمار عاليًا جعله يبتعد عنها على مضض حين رأي "جابر" يقترب منه حامل بيديه نبوتين و ألقى له أحدهما فلتقطه بمهارة..
تراجع الجميع تاركين لهما مساحة كافيه ليتمكنا من الرقص على أنغام المزمار الصعيدي الشهير..
بينما وقفت "سلسبيل" بجوار العروسة "صفا" يصفقان بحرارة و تشجيع و فرحة غامرة تغلف قلوبهم..
وفي ظل كل ما يحدث كانت أعين "عبد الجبار" ترمق زوجته بنظراته العاشقة محدثًا نفسه بجمله استماعتها هي بقلبها..
"الآن أدركت أنني كنت دائمًا جبرًا لقلب خضرا بينما سلسبيل جاءت لتكون جبرًا لقلبي
تمت بحمد الله